فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً‏}‏ قال الشعبي‏:‏ كُلُّ مافي الأرض فمن السَّماء ينزل ‏{‏فسَلَكَه يَنابيعَ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ أدَخَلَه فجعله ينابيعَ، أي‏:‏ عُيوناً تَنْبُعُ، ‏{‏ثًمَّ يَهيجُ‏}‏ أي‏:‏ يَيْبَسُ‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ يقال للنَّبت إِذا تَمَّ جَفافُه‏:‏ قد هاجَ يَهِيجُ هَيْجاً‏.‏

فأمّا الحُطام، فقال أبو عبيدة‏:‏ هو ما يَبِسَ فتَحاتَّ من النَّبات، ومثله الرُّفات‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هذا مَثَلَ ضُرب الدُّنيا، بينا ترى النبت أخضر، إذ تغيَّر فَيبِسَ ثُمَّ هَلَكَ، وكذلك الدُّنيا وزينتُها‏.‏ وقال غيره‏:‏ هذا البيان للدّلالة على قدرة الله عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمَنْ شَرَحَ اللهُ صدره‏}‏ قال الزجاج‏:‏ جوابه متروك، لأنَّ الكلام دالٌّ عليه، تقديره‏:‏ أفمن شَرَحَ اللهُ صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يَهْتَد‏؟‏ ويُدلُّ على هذا قوله ‏{‏فوَيْلٌ للْقاسية قلوبُهم‏}‏؛ وقد روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقلنا‏:‏ يا رسول الله وما هذا الشَّرْحُ‏؟‏ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله ‏{‏فمَنْ يُرِدِ الهُ أن يُهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للاسلامِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهُوَ على نُورٍ‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ اليقين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ البيان، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ الهُدى، قاله مقاتل‏.‏

وفيمن نزلت هذه الآية‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق وأًبيّ بن خَلَف‏.‏ رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ في عليّ وحمزة وأبي لهب ووولده قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوَيْلٌ للقاسية قُلوبُهم من ذِكْر الله‏}‏ قد بيَّنّا معنى القساوة في ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يقسو القلب من ذِكْر الله عز وجل‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه كُلَّما تُلِيَ عليهم ذِكْرُ الله الذي يكذِّبونَ به، قَسَت قلوبُهم عن الإيمان به‏.‏ وذهب مقاتل في آخَرِين إِلى أنَّ ‏{‏مِنْ‏}‏ هاهنا بمعنى «عَنْ»، قال الفراء‏:‏ كما تقول‏:‏ أُتْخِمْتُ عن طعام أكلتُه، ومِنْ طعام أكلتُه؛ وإِنما قَسَت قلوبُهم مِنْ ذِكْر الله، لأنهم جعلوه كذباً فأقسى قلوبَهم؛ ومن قال‏:‏ قَسَت قلوبُهم عنه، أراد‏:‏ أَعرضتْ عنه‏.‏ و‏[‏قد‏]‏ قرأ أُبيُّ ابن كعب، وابن أبي عبلة، وأبو عمران‏:‏ ‏{‏قُلوبُهم عن ذِكْر الله‏}‏ مكان قوله ‏{‏منْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحديث‏}‏ يعني القرآن، وقد ذكرنا سبب نزولها في أول ‏(‏يوسف‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاباً متشابهاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن بَعْضهُ يشْبِه بَعْضاً في الآي والحروف، فالآية تُشْبِه الآية، والكَلِمَة تُشْبِه الكَلِمة، والحَرْفُ يُشْبِه الحَرْفَ‏.‏

والثاني‏:‏ أن بَعْضَه يصدِّق بَعْضاً، فليس فيه اختلاف ولا تناقض‏.‏

وإنما قيل له‏:‏ ‏{‏مَثانيَ‏}‏ لأنه كُرِّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثَّواب والعقاب‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن وفود العرب كانت تَرِدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن، فيكون ذلك كافياً لهم، وكان يَبْعَثُ إلى القبائل المتفرِّقة بالسُّوَر المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرَّرة، لوقعتْ قصةُ موسى إِلى قوم، وقصةُ عيسى إِلى قوم، وقصةُ نوح إِلى قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويُلْقِيَها إِلى كل سَمْع، فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله ‏{‏فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لا أعبدُ ما تعبُدونَ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏]‏ وقوله ‏{‏أَوْلَى لَكَ فأَوْلًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 34 35‏]‏ ‏{‏وما أدراك ما يومُ الدّينِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17 18‏]‏ فسنذكرها في سورة ‏{‏الرحمن‏}‏ عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ منهُ جلودُ الذين يَخْشَوْنَ ربِّهم‏}‏ أي‏:‏ تأخذُهم قشعريرة، وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل‏.‏ وروى العباس ابن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من خَشْية الله، تَحاتَّتْ ذُنوبُه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقُها»

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تَقْشَعِرُّ من وَعيده، وتَلين عندَ وعْده، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ تَقْشَعِرُّ من الخَوْف، وتَلِينُ من الرَّجاء‏.‏

والثالث‏:‏ تَقْشَعِرُّ الجُلود لإِعظامه، وتَلِينُ عند تلاوته، ذكرهما الماوردي‏.‏

وقال بعض أهل المعاني‏:‏ مفعول الذِّكْر في قوله ‏{‏إِلى ذِكْر اللهِ‏}‏ محذوف، لأنه معلوم؛ والمعنى‏:‏ تَطْمَئنُّ قلوبُهم إِلى ذِكْر اللهِ الجنةَ والثوابَ‏.‏ قال قتادة‏:‏ هذا نَعْتُ أولياء الله، تقشَعِرُّ جلودُهم ‏[‏وتَلِينُ قلوبُهم‏]‏، ولم يَنْعَتْهم بذَهاب عُقولهم والغِشْيان عليهم، إنَّما هذا في أهل البِدَع‏.‏ وهذا من الشَّيطان‏.‏ وقد روى أبو حازم، قال‏:‏ مَرَّ ابنُ عمر برجُل ساقط من أهل العراق، فقال‏:‏ ما شأنُه‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنه إذا قرئ عليه القرآن يُصيبه هذا‏.‏ قال‏:‏ إِنّا لنَخشى اللهَ عزّ وجلّ، وما نَسْقُط‏.‏ وقال عامر بن عبد الله بن الزبير‏:‏ جئتُ أبي، فقال لي‏:‏ أين كنتَ‏؟‏ فقلت‏:‏ وجدتُ قوماً، ما رأيت خيراً منهم قَطٌّ، يذكُرون الله عز وجل فيُرعَد واحدهم حتى يُغْشَى عليه من خَشْية الله عز وجلّ، فقعدتُ معهم، فقال‏:‏ لا تقعُد معهم بعدها ‏[‏أبداً‏]‏‏.‏ قال‏:‏ فرآني كأني لم يأخذ ذلك فيَّ فقال‏:‏ رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، ورأيتُ أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يُصيبُهم هذا من خَشْية الله تعالى، أفتَرَى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر، قال‏:‏ فرأيت ذلك كذلك‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ سُئلتْ أسماءُ بنت أبي بكر‏:‏ هل كان أحد من السَّلَف يُغشى عليه من الخوف‏؟‏ قالت‏:‏ لا، ولكنهم كانوا يبكون‏.‏ وقال عبد الله بن عروة بن الزبير‏:‏ قلت لجَدَّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر‏:‏ كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن‏؟‏ قالت‏:‏ كانوا كما نعتهم اللهُ تعالى، تَدْمَعْ أعيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جلودهم‏.‏ فقلت لها‏:‏ إِنَّ ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خَرَّ أحدُهم مَغْشِيّاً عليه‏؟‏ فقالت‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏.‏ وكان جَوّاب يُرْعَدُ عند الذِّكْر، فقال له إبراهيم النخعي‏:‏ إن كنت تملكه، فما أُبالي أن لا أعتدَّ بك، وإن كنتَ لا تملكه، فقد خالفتَ من كان قبلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هُدى الله‏}‏ في المشار إِليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما يَنْزِلُ بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد، ولينها عند الوعد، قاله ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 28‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بوجهه سُوءَ العذاب‏}‏ أي‏:‏ شِدَّتَه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ جوابه محذوف، تقديره‏:‏ كَمَنْ يدخُل الجنة‏؟‏ وجاء في التفسير أن الكافر يُلقى في النار مغلولاً، ولا يتهيَّأ له أن يتَّقيَها إلاّ بوجه‏.‏

ثم أخبر عمّا يقول الخَزَنة للكفار بقوله ‏{‏وقيل للظالِمِين‏}‏ يعني الكافرين ‏{‏ذُوقوا ما كنتم تَكْسِبونَ‏}‏ أي‏:‏ جزاء كَسْبِكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذَّب الذين مِنْ قَبْلهم‏}‏ أي‏:‏ من قبْل كفار مكة ‏{‏فأتاهم العذاب من حيث لا يَشْعُرون‏}‏ أي‏:‏ وهم آمنون غافلون عن العذاب، ‏{‏فأذاقهم اللهُ الخِزْيَ‏}‏ يعني الهوان والعذاب، ‏{‏ولَعذابُ الآخرة أكبرُ‏}‏ ممّا أصابهم في الدنيا ‏{‏لو كانوا يَعْلَمونَ‏}‏، ولكنهم لا يعلمون ذلك‏.‏

‏{‏ولقد ضَرَبْنا للناس في هذا القرآن‏}‏ أي‏:‏ وَصَفْنا لهم ‏{‏مِنْ كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ أي‏:‏ من كل شبه يشبه أحوالهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُرآناً عربياً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «عربياً» منصوب على الحال، المعنى‏:‏ ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه، فذكر ‏{‏قرآنا‏}‏ توكيداً، كما تقول جاءني زيد رجلاً صالحاً‏.‏ وجاءني عمرو إِنساناً عاقلاً، فذكر رجلاً وإنساناً توكيداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرَ ذي عِوَجٍ‏}‏ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ غير مخلوق‏.‏ وقال غيره‏:‏ مستقيم غير مختلف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً‏}‏ ثم بيَّنه فقال‏:‏ ‏{‏رجُلاً فيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ مختلِفون، يَتَنازعُون ويَتَشاحُّون فيه، يقال‏:‏ رجُلٌ شَكِسٌ‏.‏ وقال اليزيدي‏:‏ الشَّكسِ من الرجال‏:‏ الضَّيِّق الخُلُق‏.‏

قال المفسِّرون‏:‏ وهذا مَثَل ضربه اللهُ للمؤمِن والكافر، فإن الكافر يعبُد آلهةً شتَّى فمثَّله بعبدٍ يملكه جماعة يتافسون في خدمته، ولا يقدرون أن يبلُغ رضاهم أجمعين؛ والمؤمن يعبُد اللهَ وحده، فمثَّله بعبدٍ لرجل واحد، قد عَلِم مقاصدَه وعَرَفَ الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاكس الخُلَطاء فيه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏سالِماً لرجُل‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إٍِلاّ عبد الوارث في غير رواية القزَّاز، وأبان عن عاصم ‏{‏ورجُلا سالِماً‏}‏ بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما؛ والمعنى‏:‏ ورجُلاً خالصاً لرجُل قد سَلِم له من غير مُنازِع‏.‏ ورواه عبد الوارث إلاّ القزاز كذلك، إلاّ أنه رفع الاسمين، فقال‏:‏ «ورجُلٌ سالِمٌ لرجُلٍ‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏سِلْمُ لِرَجُلٍ‏}‏ بكسر السين ورفع الميم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏ورجُلاً سَلَماً‏}‏ بفتح السين واللام ‏[‏وبالنصب‏]‏ فيهما والتنوين‏.‏ والسَّلَم، بفتح السين واللام، معناه الصُّلح، والسِّلم، بكسرِ السين مثله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ‏:‏» سِلْماً «و» سَلْماً «فهما مصدران وُصِفَ بهما، فالمعنى‏:‏ ورجُلاً ذا سِلْمٍ لرجُل وذا سَلْمٍ لرجُل؛ فالمعنى‏:‏ ذا سِلْم؛ والسَّلْم‏:‏ الصُّلح، والسِّلْم، بكسر السين مِثْلُه‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏[‏من قرأ‏]‏ ‏{‏سَلَماً لِرَجُلٍ‏}‏ أراد‏:‏ سلَّم إليه فهو سِلْمٌ له‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ السِّلْم والسَّلم الصُّلح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً‏}‏ هذا استفهام معناه الإِنكار، أي‏:‏ لا يستويان، لأن الخالص لمالك واحدٍ يَستحقُّ من معونته وإِحسانه ما لا يستحقُّه صاحب الشُّركاء المتشاكسين‏.‏ وقيل‏:‏ لا يستويان في باب الرّاحة، لأنه هذا قد عرف الطريق إِلى رضى مالكه، وذاك متحيّر بين الشُّركاء‏.‏ قال ثعلب‏:‏ وإِنما قال ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً‏}‏ ولم َيُقْل‏:‏ مَثَلَيْنِ، لأنهما جميعاً ضُرِبا مَثَلاً واحداً، ومِثْلُه‏:‏ ‏{‏وجَعَلْنا ابْن مَريمَ وأُمَّه آيةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 50‏]‏، ولم يَقُلْ‏:‏ آيتين، لأن شأنهما واحد، وتم الكلام هاهنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله‏}‏ أي‏:‏ له الحمد دون غيره من المعبودِين ‏{‏بَلْ أكثرُهم لا يَعْلَمونَ‏}‏ والمراد بالأكثر الكُلّ‏.‏

ثم أخبر نبيَّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت، وأن الذين يكذِّبونه يموتون، وأنهم يجتمعون للخُصومة عند الله عز وجل، المُحِقُّ والمُبطلُ، والمظلومُ والظالمُ‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ نزلتْ هذه الآية وما ندري ما تفسيرها، وما نرى أنها نزلتْ إلاّ فينا وفي أهل الكتابين، حتى قُتِل عثمان، فعرفتُ أنها فينا نزلتْ وفي لفظ آخر‏:‏ حتى وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ على اللهِ‏}‏ بأن دعا له ولداً وشريكاً ‏{‏وكذَّبَ بالصِّدْق إِذْ جاءَهُ‏}‏ وهو التوحيد والقرآن ‏{‏ألَيْسَ في جهنَّمَ مَثْوىً للكافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ مَقَامٌ للجاحِدِين‏؟‏‏!‏ وهذا استفهام بمعنى التقرير، يعني‏:‏ إِنه كذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والَّذي جاءَ بالصِّدْقِ‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد‏.‏ ثم في الصِّدق الذي جاء به قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه «لا إله إلا الله»، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ‏[‏سعيد‏]‏ بن جبير‏.‏ والثاني‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ القرآن، قاله قتادة‏.‏ ‏[‏وفي الذي صدَّق به ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، هو جاء بالصِّدق، وهو صدَّق به، قاله ابن عباس، والشعبي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم المؤمنون، قاله قتادة‏]‏، والضحاك، وابن زيد‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ الذي جاء بالصِّدق‏:‏ أهل القرآن، وهو الصِّدق الذي يُجيبونَ به يوم القيامة، وقد أدّوا حَقّه، فَهُم الذين صدَّقوا به، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن الذي جاء بالصِّدق الأنبياء، قاله الربيع، فعلى هذا، يكون الذي صدَّق به‏:‏ المؤمِنون‏.‏

والرابع‏:‏ أن الذي جاء بالصِّدق‏:‏ جبريل، وصدَّق به‏:‏ محمد، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ المُتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ الذين اتَّقّوْا الشرك؛ وإِنما قيل‏:‏ «هُم»، لأن معنى «الذي» معنى الجمع، كذلك قال اللغويون، وأنشد أبو عبيدة، والزجاج‏:‏

فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ *** هُمُ القَوْمُ، كُلُّ القَوْمِ، يا أُمَّ خالِدِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُكَفِّرَ اللهُ عنهم‏}‏ المعنى‏:‏ أعطاهم ماشاؤوا ليكفِّر عنهم ‏{‏أَسوأَ الذي عَملوا‏}‏، أي‏:‏ لِيَسْتُر ذلك بالمغفرة ‏{‏وَيجْزِيَهم أَجرهم‏}‏ بمحاسن أعمالهم لا بمساوئها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْس اللهُ بكافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ذكر المفسِّرون أن مشركي مكة قالوا‏:‏ يا محمد، ما تزال تذكرُ آلهتنا وتَعِيبُها، فاتَّق أن تصيبك بسوءٍ، فنزلت هذه الآية‏.‏ والمراد بعبده هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏عِبَادَهُ‏}‏ على الجمع، وهم الأنبياء، لأن الأمم قصدتْهم بالسُّوء؛ فالمعنى‏:‏ أنه كما كفى الأنبياءَ قَبْلَكَ، يكفيك‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏بِكافي‏}‏ مثبتة الياء «عَبْدِهِ» بكسر الدال والهاء من غير ألف‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، والشعبي مِثْلَه، إِلاّ أنهم أثبتوا الألف في ‏{‏عِبادِهِ‏}‏‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش‏:‏ ‏{‏بِكافٍ‏}‏ بالتنوين، ‏{‏عِبادَهُ‏}‏ على الجمع‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء العطاردي‏:‏ ‏{‏يُكافِيْ‏}‏ بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء ‏{‏عِبادَهُ‏}‏ على الجمع‏.‏

‏{‏وُخَوِّفونَكَ بالذين مِنْ دونِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالذين يَعْبُدون مِن دونِهِ، وهم الأصنام‏.‏

ثُمَّ أَعْلَمَ بما بعد هذا أن الإِضلال والهداية إليه تعالى، وأنه منتقم ممن عصاه، ثم أخبر أنهم مع عبادتهم، يُقِرُّونَ أنه الخالق‏.‏ ثم أمر أن يُحْتَج عليهم بأن ما يعبُدون لا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ ولا جَلْبَ خَيْرِ‏.‏

وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏كاشفاتٌ ضُرَّه‏}‏ و‏{‏ممسكاتٌ رحمته‏}‏ منوَّناً‏.‏ والباقون‏:‏ ‏{‏كاشفاتُ ضُرِّه‏}‏ و‏{‏ممسكاتُ رحمتِه‏}‏ على الإِضافة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا قوم اعملوا‏}‏ ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليها نُسخت بآية السيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّا أَنْزَلْنا عليكَ الكتابَ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏للناس‏}‏ أي‏:‏ لجميع الخَلْقِ ‏{‏بالحَقِّ‏}‏ ليس فيه باطل‏.‏ وتمام الآية مفسَّر في آخر ‏[‏يونس‏:‏ 108‏]‏، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتها‏}‏ أي‏:‏ يَقْبِضُ الأرواحَ حين موت أجسادها ‏{‏والَّتي لَمْ تَمُتْ‏}‏ أي‏:‏ ويتوفَّى التي لَمْ تَمُتْ ‏{‏في منامها‏}‏‏.‏

‏{‏فيُمْسِكُ‏}‏ أي‏:‏ عن الجسد ‏[‏والنفس‏]‏ ‏{‏التي قضى عليها الموت‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏قُضِيَ‏}‏ بضم القاف وفتح الياء، ‏{‏الموتُ‏}‏ بالرفع‏.‏

‏{‏ويُرْسِلُ الأُخرى‏}‏ إِلى الجسد ‏{‏إٍلى أَجَلٍ مُسَمّىً‏}‏ وهو انقضاءُ العُمُر ‏{‏إنَّ في ذلك لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ‏}‏ في أمر البعث، وروى ‏[‏سعيد‏]‏ بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ تلتقي أرواح الأحياء وأرواحُ الأموات في المنام، فيتعارفون ويتساءلون، ثم تُرَدُّ أرواحُ الأَحياءِ إلى أجسادها، فلا يُخطأُ بشيء منها، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏ وقال ابن عباس في رواية أخرى‏:‏ في ابنِ آدم نَفْسٌ وروحٌ، فبالنَّفس العقلُ والتمييزُ، وبالرُّوح النَّفَس والتحريك، فإذا نام العبدُ، قَبَضَ اللهُ نَفْسَه ولم يَقْبِض روحه وقال ابن جريج‏:‏ في الإِنسان روح ونَفْسٌ، بينهما حاجز، فهو تعالى يَقْبِضُ النَّفْسَ عند النَّوم يَرُدُّها إِلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إِماتةَ العبد في نومه، لم يَرُدَّ النَّفْسَ وقَبَض الرُّوح‏.‏

وقد اختلف العلماء، هل بين النَّفْس والرُّوح فَرْقٌ‏؟‏ على قولين قد ذكرتُهما في «الوجوه والنظائر»، وزدتُ هذه الآية شرحاً في باب التوفّي في كتاب «النظائر»، وذهب بعض العلماء إِلى أَن التوفيّ المذكور في حق النّائم هو نَوْمُه، وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري؛ فعلى هذا، يكون معنى توفّي النائم‏:‏ قبضُ نَفْسِه عن التصرُّف، وإِرسالُها‏:‏ إِطلاقُها باليَقَظَة للتصرُّف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذوا‏}‏ يعني كُفَّارَ مكَّةَ‏.‏

وفي المراد بالشُّفعاءِ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنَّها الأصنام، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏قُلْ أولَو كانوا لا يَمْلِكونَ شيئاً‏}‏ من الشفاعة ‏{‏ولا يَعْقِلونَ‏}‏ أنَّكم تعبُدونهم‏؟‏‏!‏ وجواب هذا الاستفهام محذوف، تقديره‏:‏ أوَلَو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم‏.‏

‏{‏قُلْ لله الشَّفاعةُ جميعاً‏}‏ أي‏:‏ لا يَمْلِكُها أَحَدٌ إِلاّ بتمليكه، ولا يشفع عنده أَحَدٌ إلاّ بإذنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشمأزَّتْ قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ انقبضتْ عن التوحيد، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ استكبرتْ، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ نَفَرتْ، قاله أبو عبيدة، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا ذُكِرَ الذين مِنْ دُونِه‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏إذا هُمْ يَسْتَبْشِرونَ‏}‏ يفرحون‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم تفسيره ‏[‏الأنعام‏:‏ 14 73‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 18‏]‏ إِلى قوله ‏{‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يَحْتَسِبون‏}‏‏.‏ قال السدي‏:‏ ظَنَّوا أنّ أعمالَهم حسناتٍ، فبدت لهم سيئات‏.‏ وقال غيره‏:‏ عَمِلوا أعمالاً ظنُّوا أنَّها تنفعُهم، فلم تنفع مع شِركهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ظهر لهم حين بُعثوا مالم يحتَسِبوا أنَّه نازلٌ بهم؛ فهذا القول يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنَّهم كانوا يرجون القُرْبَ من الله بعبادة الأصنام، فلمّا عُوقِبوا عليها، بدا لهم ما لم يكونوا يحتَسِبون‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ البعثَ والجزاءَ لم يكن في حسابهم، وروي عن محمد بن المنكدر أنه جَزِع عند الموت وقال‏:‏ أخشى هذه الآية أن يبدو لي مالا أحتَسِب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحاقَ بهم‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم ‏{‏ما كانوا به يستهزؤنَ‏}‏ أي‏:‏ ما كانوا يُنْكِرونه ويكذِّبون به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا مَسَّ الإِنسانَ ضُرٌ دعانا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ هو أبو حذيفة ابن المغيرة، وقد سبق في هذه السورة نظيرها ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ وإنما كنّى عن النِّعمة بقوله ‏{‏أُوتيتُه‏}‏، لأن المراد بالنِّعمة‏:‏ الإنعام‏.‏

‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ عندي، أي‏:‏ على خيرٍ عَلِمَهُ اللهُ عندي‏.‏ وقيل‏:‏ على عِلْمٍ مِنَ الله بأنِّي له أهلٌ، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هي‏}‏ يعني النِّعمة التي أنعم ‏[‏اللهُ‏]‏ عليه بها ‏{‏فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ بلوى يُبْتَلى بها العبدُ لِيَشْكُرَ أو يكفُر، ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لا يَعْلَمونَ‏}‏ أن ذلك استدراج لهم وامتحان‏.‏ وقيل‏:‏ «بل هي» أي‏:‏ المقالة التي قالها فتنةٌ‏.‏

‏{‏قد قالها‏}‏ يعني تلك الكلمة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنما أُوتيتُة على عِلْمٍ‏}‏ ‏{‏الذين مِنَ قَبْلِهم‏}‏ وفيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنَّهم الأًمم الماضية، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ قارون، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أغنى عنهم‏}‏ أي‏:‏ ما دفع عنهم العذاب ‏{‏ما كانوا يَكْسِبونَ‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ من الكفر‏.‏

والثاني‏:‏ من عبادة الأصنام‏.‏

والثالث‏:‏ من الأموال‏.‏

‏{‏فأصابهم سيِّئاتُ ما كسَبوا‏}‏ أي‏:‏ جزاءُ سيِّئاتهم، وهو العذاب‏.‏

ثم أوعد كُفَّار مكَّة، فقال‏:‏ ‏{‏والذين ظَلَموا مِنْ هؤلاء سيُصيبُهم سيِّئاتُ ما كسَبوا وما هم بمُعْجِزينَ‏}‏ أي‏:‏ إِنهم لا يُعْجِزونَ الله ولا يَفوتونه‏.‏

قال مقاتل‏:‏ ثم وعظهم لِيَعْلَموا وحدانيتَّه حين مُطِروا بعد سبع سنين، فقال‏:‏ ‏{‏أوَلَم يَعْلَموا أنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزق لِمَنْ يشاءُ ويَقْدِرُ إن في ذلك‏}‏ أي‏:‏ في بَسْطِ الرِّزق وتقتيره ‏{‏لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياعباديَ الذين أَسْرَفوا على أنفُسهم‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن ناساً من المشركين كانوا قد قَتَلُوا فأكثَروا، وزَنَوْا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إِنّ الذي تدعو إِليه لَحَسَنٌ، لو تُخْبِرُنا أنّ لِما عَمِلْنا كفّارةً، فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في عَيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونَفَرٍ من المسلمين كانوا قد أسلموا، ثم عُذِّبوا فافتُتِنوا، فكان أصحاب رسول الله يقولون‏:‏ لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ هؤلاء صَرْفاً ولا عَدْلاً، قومُ تركوا دينهم بعذاب عُذِّبوه‏!‏ فنزلت هذه الآية، فكتبها عمر إلى عَيّاش والوليد وأولئك النَّفَر، فأسلموا وهاجروا؛ وهذا قول ابن عمر‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلتْ في وحشي، وهذا القول ذكرناه مشروحاٍ في آخر ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنَّ أهل مكَّةَ قالوا‏:‏ يزعُم محمدٌ أنَّ مَنْ عَبَدَ الأوثانَ وقَتَلَ النَّفْسَ التي حرَّم اللهُ لم يُغْفَر له، فكيف نُهاجِر ونُسْلِم وقد فَعَلْنا ذلك‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية؛ وهذا مرويُّ عن ابن عباس أيضاً‏.‏

ومعنى ‏{‏أَسْرَفوا على أنفسهم‏}‏ ارتكَبوا الكبائر، والقنوط بمعنى اليأس‏.‏ ‏{‏وأَنيبوا‏}‏ بمعنى ارجِعوا إِلى الله من الشِّرك والذًّنوب، ‏{‏وأسلِموا له‏}‏ أي‏:‏ أخِلصوا له التوحيد‏.‏ و‏{‏تُنْصَرون‏}‏ بمعنى تُمْنَعون‏.‏

‏{‏واتَّبِعوا أحسن ما أُنزل إِليكم‏}‏ قد بيَّنّاه في قوله ‏{‏يأخُذوا بأحسنها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ‏}‏ قال المبرِّد‏:‏ المعنى‏:‏ بادِروا قَبْلَ أن تقول نَفْسٌ، وحَذَراً من أن تقول نَفْسٌ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول‏.‏ ومعنى ‏{‏يا حسرتا‏}‏ يا ندامتا ويا حزنا‏.‏ والتحسُّر‏:‏ الاغتمام على ما فات‏.‏ والألِف في ‏{‏يا حسرتا‏}‏ هي ياء المتكلم، والمعنى‏:‏ يا حسرتي على الإِضافة‏.‏ قال الفراء‏:‏ والعرب تحوِّل الياء إلى الألِف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدُّعاء، وربما أدخلت العربُ الهاء بعد هذه الألف، فيَخْفِضونها مَرَّةً، ويرفعونها أخرى‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمران، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏يا حسرتي‏}‏ بكسر التاء، على الإِضافة إِلى النَّفْس‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏يا حسرتايَ‏}‏ بألف بعد التاء وياء مفتوحة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وزعم الفراء أنه يجوز «يا حسرتاهَ على كذا» بفتح الهاء، و«يا حسرتاهُِ» بالضم والكسر، والنحويّون أجمعون لا يُجيزون أن تُثْبَتَ هذه الهاءُ مع الوصل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في جَنْبِ الله‏}‏ فيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ في طاعة الله تعالى، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ في حق الله، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ في أمْر الله، قاله مجاهد، والزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ في ذِكْر الله، قاله عكرمة، والضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ في قٌرْب الله؛ روي عن الفراء أنه قال‏:‏ الجَنْب‏:‏ القُرْب، أي‏:‏ في قُرْب الله وجِواره؛ يقال‏:‏ فلان يعيش في جَنْبِ فلان، أي‏:‏ في قُرْبه وجواره؛ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ ‏[‏على‏]‏ ما فرَّطْتُ في طلب قُرْب الله تعالى، وهو الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنْ كنتُ لَمِن السّاخِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ وما كنتُ إِلاّ من المستهزِئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدُّنيا‏.‏

‏{‏أوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني‏}‏ أي‏:‏ أرشَدني إِلى دينه ‏{‏لكنتُ من المُتَّقِينَ‏}‏ الشِّرك؛ فيقال لهذا القائل‏:‏ ‏{‏بلى قد جاءتك آياتي‏}‏ قال الزجاج‏:‏ و«بلى» جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي، غير أن معنى ‏{‏لو أن الله هداني‏}‏ ما هُديتُ، فقيل‏:‏ «بلى قد جاءتك آياتي»‏.‏ وروى ابن أبي سريج ‏[‏عن الكسائي‏]‏ ‏{‏جاءتكِ‏}‏ ‏{‏فكذَّبْتِ‏}‏، ‏{‏واسْتَكْبَرْتِ‏}‏ ‏{‏وكُنْتِ‏}‏، بكسر التاء فيهنّ، مخاطَبة للنفْس ومعنى «اسْتَكْبَرْتَ»‏:‏ تكبَّرتَ عن الإِيمان بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويومَ القيامة تَرَى الذين كَذَبوا على الله‏}‏ فزعموا أن له ولداً وشريكاً ‏{‏وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هم الذين يقولون‏:‏ إن شئنا فَعَلْنا، وإِن شئنا لم نَفْعَل، وباقي الآية قد ذكرناه آنفا ‏[‏الزمر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُنَجِّي اللهُ الذين اتَّقَوا بمفازتهم‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏بمفازاتهم‏}‏ قال الفراء‏:‏ وهو كما قد تقول‏:‏ قد تبيَّن أمرُ القوم وأمورهم، وارتفع الصوت والأصوات، والمعنى واحد‏.‏ وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بفضائلهم، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ بأعمالهم، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ بفوزهم من النار‏.‏

قال المبرِّد‏:‏ المَفازة‏:‏ مَفْعَلة من الفوز، وإن جُمع فحسن، كقولك‏:‏ السعادة والسعادات، والمعنى‏:‏ ينجيهم الله بفوزهم أي‏:‏ بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له مَقاليدُ السموات والأرض‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ مفاتيحُها وخزائنُها، لأن مالِكَ المفاتيح مالِك الخزائن، واحدها إِقليد، وجُمع على غير واحد، كما قالوا‏:‏ مَذاكير جمع ذَكَر، ويقال‏:‏ هو فارسيّ معرَّب‏.‏ ‏[‏وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي‏:‏ الإِقليد‏:‏ المفتاح، فارسي معرَّب‏]‏، قال الراجز‏:‏

لَمْ يُؤْذِها الدِّيكُ بصوتِ تَغْرِيدْ *** ولَمْ تُعالِجْ غَلَقاً باقْليدْ

والمِقْلِيدُ‏:‏ لغةٌ في الإِقْلِيدِ، والجمع‏:‏ مَقَالِيد‏.‏

وللمفسرين في المقاليد قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المفاتيح، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الخزائن، قاله الضحاك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تفسيره‏:‏ أن كل شيء في السموات والأرض، فهو خالقه وفاتح بابه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ مفاتيح السموات‏:‏ المطر، ومفاتيح الأرض‏:‏ النبات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللهِ تأمُرونِّي أَعْبُدُ‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏تأمُرُونِي أعْبُدُ‏}‏ مخفَّفةً، غير أن نافعاً فتح الياء، ولم يفتحها ابن عامر‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏تأمرونّيَ‏}‏ بتشديد النون وفتح الياء‏.‏ وقرأ الباقون بسكون الياء‏.‏ وذلك حين دعَوْه إلى دين آبائه ‏{‏أيُّها الجاهلونَ‏}‏ أي‏:‏ فيما تأمُرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أُوحِيَ إِليكَ وإِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ ولقد أُوحِيَ إِليكَ لئن أشركتَ لَيَحْبَطَنَّ عملُكَ وكذلك أُوحيَ إِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ومجازها مجاز الأمرين اللَّذَين يُخْبَرُ عن أحدهما ويُكَفُّ عن الآخر، قال ابن عباس‏:‏ هذا أدبٌ من الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لغيره، لأن الله عز وجل قد عصمه من الشِّرك‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِنما خاطبه بذلك، لِيَعْرِفَ مَنْ دونَه أن الشِّرك يُحبِطُ الأعمال المتقدِّمة كلَّها، ولو وقع من نبيٍّ‏.‏ وقرأ أبو عمران، وابن السميفع، ويعقوب‏:‏ ‏{‏لَنُحْبِطَنَّ‏}‏ بالنون، «عَمَلَكَ» بالنصب‏.‏ ‏{‏بَلِ اللهَ فاعْبُدْ‏}‏ أي‏:‏ وَحِّدْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ سبب نزولها «أن رجلاً من أهل الكتاب أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أبا القاسم، بلغك أن الله تعالى يَحْمِلُ الخلائقَ على إِصْبع والأَرَضِينَ على إِصْبَع والشَّجَر على إِصْبَع والثَّرى على إِصْبع‏؟‏‏!‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذُه»، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، قاله ابن مسعود‏.‏ ‏[‏وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» نحوه عن ابن مسعود‏]‏‏.‏ وقد فسَّرنا أول هذه الآية في ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ هذه الآية في الكفار، فأمّا مَنْ آمن بأنه على كل شيء قدير، فقد قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏.‏

ثم ذكر عَظَمته بقوله ‏{‏والأرضُ جميعاً قَبْضَتُه يومَ القيامة والسمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه‏}‏ وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملِك، أين ملوكُ الأرض‏؟‏» وأخرجا من حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَطْوي الله عز وجل السموات يومَ القيامة، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى، ثم يقول‏:‏ أنا الملِك، أين الجبّارون، أين المتكبِّرون‏؟‏» قال ابن عباس‏:‏ الأرضُ والسموات كلُّها بيمينه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ السموات قَبْضَةٌ والأَرَضُونَ قَبْضَةٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُفِخَ في الصُّور فصَعِقَ‏}‏ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري‏:‏ ‏{‏فصُعِقَ‏}‏ بضم الصاد ‏{‏مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ ماتوا من الفزع وشِدَّة الصَّوت‏.‏ وقد بيَّنّا هذه الآية والخلاف في الذين استُثنوا في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فيه أُخْرى‏}‏ وهي نفخة البعث ‏{‏فإذا هُمْ‏}‏ يعني الخلائق ‏{‏قيامٌ يَنْظُرونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَشْرَقَتِ الأرضُ بنُور ربِّها‏}‏ أي‏:‏ أضاءت‏.‏ والمراد بالأرض‏:‏ عَرَصات القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووُضِعَ الكتابُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ كتاب الأعمال، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الحساب، قاله السدي‏.‏ وفي الشهداء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين يَشْهَدونَ على الناس بأعمالهم، قاله الجمهور، ثم فيهم أربعة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنهم المُرْسَلون من الأنبياء‏.‏ والثاني‏:‏ أمَّة محمد يَشهدونَ للرُّسل بتبليغ الرِّسالة وتكذيبِ الأُمم إِيّاهم، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه‏.‏ والثالث‏:‏ الحَفَظَه، قاله عطاء‏.‏ والرابع‏:‏ النَّبيُّون والملائكةُ وأُمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم والجوارح، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، قاله قتادة، والأول أصح‏.‏

‏{‏وُوفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ‏}‏ أي‏:‏ جزاء عملها ‏{‏وهُوَ أَعْلَمُ بما يَفْعَلونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يَحتاجُ إلى كاتب ولا شاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيِقَ الذين كَفَروا إِلى جهنَّمَ زُمَراً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الزُّمَر‏:‏ جماعاتٌ في تفرقة بعضُهم على إِثر بعض، واحدها‏:‏ زُمْرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رُسُلٌ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من أنفُسكم‏.‏ و‏{‏كلمةُ العذاب‏}‏ هي قوله ‏{‏لأَملأَنَّ جهنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فُتِحَتْ أبوابُها‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏فُتِّحَتْ‏}‏ و‏{‏فُتِّحَتْ‏}‏ مشدَّدتين؛ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ بالتخفيف‏.‏

وفي هذه الواو ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها زائدة، روي عن جماعة من اللُّغويين منهم الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها واو الحال؛ فالمعنى‏:‏ جاؤوها وقد فُتحتْ أبوابُها، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنَّ أهل الجنة جاؤوها وقد فُتحت أبوابُها ليستعجلوا السُّرور والفرح إِذا رأَوا الأبواب مفتَّحةً، وأهل النار يأتونها وأبوابُها مُغلَقة ليكون أشدَّ لحرِّها، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقْلا من أصحابنا‏.‏

والثاني‏:‏ أن الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذُلٍّ، فصِينَ أهلُ الجنة عنه، وجعل في حق أهل النار، ذكره لي بعض مشايخنا‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لو وَجَدَ أهلُ الجنة بابها مُغلَقاً لأثَّر انتظارُ فَتْحه في كمال الكَرَم، ومن كمال الكَرَم غَلْقُ باب النّار إِلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجِّل المثوبة، ويؤخِّر العقوبة، وقد قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ما يَفْعَلُ اللهُ بِعذابكم إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 147‏]‏ قال المصنف‏:‏ هذا وجهٌ خطر لي‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن الواو زِيدتْ لأنَّ أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النار سبعةٌ، والعرب تَعْطِفُ في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله‏:‏ ‏{‏ويَقُولونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كلَبْهُم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي‏.‏

واختلف العلماء‏:‏ أين جوابُ هذه الآية‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرِّد، والزجّاج في آخرين‏.‏ وفي تقدير هذا المحذوف قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تقديره‏:‏ ‏{‏حتى إِذا جاؤوها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الآية سُعِدوا، قاله المبرِّد‏.‏

والثاني‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏فادخُلوها خالدين‏}‏‏.‏‏.‏ دخلوها، وإِنما حُذف، لأن في الكلام دليلاًَ عليه، وهذا اختيار الزجاج‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الجواب‏:‏ قال لهم خزنتُها، والواو زائدة، ذكره الأخفش‏.‏ قال‏:‏ ومثله في الشِّعر‏.‏

فإذا وذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ *** إِلاَ كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ

أي‏:‏ فإذا ذلك‏.‏

والثالث‏:‏ الجواب‏:‏ ‏{‏حتى إِذا جاؤوها فُتحتْ أبوابُها‏}‏ والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏طِبْتُمْ‏}‏ خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم إذا انْتَهَوا إِلى باب الجنة وَجدوا عند بابها شجرةً يَخرج من تحت ساقها عينان، فيَشربون من إِحداهما فلا يبقى في بطونهم أذىً ولا قذىً إِلاّ خرج، ويغتَسلون من الأُخرى، فلا تَغْبَرُّ جلودُهم ولا تَشَعَّثُ أشعارُهم أبداً، حتى إِذا انتَهَوْا إِلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها‏:‏ ‏{‏سلامٌ عليكم طِبْتُم‏}‏ رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه، وقد ذكرنا في ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ نحوه عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ طاب لكم المقام، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ طِبْتُم بطاعة الله، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم طُيِّبوا قَبْلَ دخول الجنة بالمغفرة، واقتُصَّ من بَعْضِهم لِبَعْض، فلمّا هُذِّبوا قالت لهم الخََزَنَةُ‏:‏ طِبْتُم، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ كنتم طِّبِينَ في الدُّنيا، قاله الزجاج‏.‏

فلمّا دخَلوها قالوا‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَهُ‏}‏ بالجنة ‏{‏وأَوْرَثَنا الأرضَ‏}‏ أي أرض الجنة ‏{‏نتبوَّأ منها حيثُ نشاء‏}‏ أي‏:‏ نَتَّخِذُ فيها من المنازل ما نشاء‏.‏ وحكى أبو سليمان الدمشقي‏:‏ أن أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأُمم بعدهم فيها، فلذلك قالوا‏:‏ «نتبوَّأ من الجنة حيثُ نشاءُ»؛ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فنِعْمَ أَجْرُ العامِلينَ‏}‏ أي‏:‏ نِعْمَ ثوابُ المُطِيعِينَ في الدُّنيا الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَرَى الملائكةَ حافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ‏}‏‏:‏ أي مُحْدِقِينَ به، يُقال‏:‏ حَفَّ القومُ بفلانٍ‏:‏ إِذا أَحْدَقوا به؛ ودخلتْ «مِنْ» للتوكيد، كقولك‏:‏ ما جاءني من أحدٍ‏.‏

‏{‏يُسَبِّحونَ بِحَمْدِ ربِّهم‏}‏ قال السدي، ومقاتل‏:‏ بأَمْرِ ربِّهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يُسَبِّحونَ بالحمد له حيث دخل الموحِّدون الجنة‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ التَّسبيح هاهنا بمعنى الصَّلاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقُضِيَ بينَهم‏}‏ أي‏:‏ بينَ الخلائق ‏{‏بالحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ بالعَدْلِ ‏{‏وقِيل الحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ‏}‏ هذا قول أهل الجنة شُكْراً لله تعالى على إِنعامه‏.‏

قال المفسِّرون‏:‏ ابتدأ اللهُ ذِكْرَ الخَلْق بالحَمْدِ فقال‏:‏ ‏{‏الحَمْدُ لله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ وختم غاية الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم بالحمد لله بهذه الآية، فنبَّه على تحميده في بداية كُلِّ أمْرٍ وخاتِمته‏.‏

سورة غافر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

وفي ‏{‏حم‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ قَسَم أَقْسَمَ اللهُ به وهو من أسمائه عز وجل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ وقد قيل‏:‏ إن جواب القَسَم قولُه ‏{‏إِنَّ الذين كفَروا يُنادَوْنَ‏}‏ ‏[‏المؤمن‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها حروف من أسماء الله عز وجل، ثم فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن ‏{‏آلر‏}‏ و‏{‏حم‏}‏ و‏{‏نون‏}‏ حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحاء مفتاح اسمه «حميد»، والميم مفتاح اسمه «مجيد»، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء، مثل‏:‏ «حكيم» و«حليم» و«حيّ»، والميم مفتاح كلِّ اسمٍ له، ابتداؤه ميم مثل «ملك» و«متكبِّر» و«مَجيد»، حكاه أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وروي نحوه عن عطاء الخراساني‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى ‏{‏حم‏}‏‏:‏ قُضِيَ ما هو كائن، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ ورُوي عن الضحاك والكسائي مثل هذا كأنهما أرادا الإِشارة إلى حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقد قيل في ‏{‏حم‏}‏‏:‏ حُمَّ الأمر‏.‏

والرابع‏:‏ أن ‏{‏حم‏}‏ اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ بفتح الحاء؛ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ بكسرها، واختلف عن الباقين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أمّا الميم، فساكنة في قراءة القُرّاء كلِّهم إلاّ عيسى ابن عمر، فإنه فتحها؛ وفتحها على ضربين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يجعل ‏{‏حم‏}‏ اسماً للسُّورة، فينصبه ولا ينوِّنه، لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل‏.‏ والثاني‏:‏ على معنى‏:‏ اتْلُ حم، والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسماً للسُّورة، ويكون حكاية حروف الهجاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنْزيلُ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ هذا تنزيلُ الكتاب‏.‏ والتَّوْبُ‏:‏ جمع تَوْبَة، وجائز أن يكون مصدراً من تاب يَتُوب تَوْبا، والطوَّل‏:‏ الفَضْل‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال‏:‏ فلان ذو طَوْل على قومه، أي‏:‏ ذو فَضْل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ طُلْ عليَّ يرحمك الله، أي‏:‏ تَفَضَّلْ‏.‏ قال الخطابي‏:‏ ذو حرف النِّسبة، والنّسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه‏:‏ بالياء كقولهم‏:‏ أسديّ، وبكريّ، والثاني‏:‏ على الجمع كقولهم‏:‏ المَهالبة، والمسامعة، والأزارقة، والثالث‏:‏ ب ‏{‏ذي‏}‏ و‏{‏ذات‏}‏، كقولهم‏:‏ رجُل مال، أي‏:‏ ذو مال، وكبش صاف، أي‏:‏ ذو صوف، وناقة ضامر، أي ذات ضُمر فقوله‏:‏ ذو الطَّوْل، معناه‏:‏ أهْل الطَّول والفَضْل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يُجادِلُ في آيات الله‏}‏ أي‏:‏ ما يُخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل ‏{‏إلا الذين كَفَروا‏}‏ وباقي الآية في ‏[‏آل عمران‏:‏ 196‏]‏؛ والمعنى‏:‏ إنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة مَنْ قَبْلَهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة برسولهم لِيَأخُدوه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليقتُلوه، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ ليحبِسوه ويعذِّبوه، ويقال للأسير‏:‏ أخيذٌ، حكاه ابن قتيبة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «ليأخُذوه» فجمع على الكلِّ، لأن الكلَّ مذكَّر ومعناه معنى الجماعة‏.‏ وما بعد هذا مفسَّر في ‏[‏الكهف‏:‏ 56‏]‏ إلى قوله ‏{‏فأَخَذْتُهم‏}‏ أي‏:‏ عاقَبْتُهم وأهلكتُهم ‏{‏فكيف كان عِقابِ‏}‏ استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ مِثْل الذي حَقَّ على الأُمم المكذِّبة ‏{‏حَقَّتْ كَلِمةُ ربِّكَ‏}‏ بالعذاب، وهي قوله ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ على الذين كفروا من قومك‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏حَقَّتْ كَلِماتُ ربِّكَ‏}‏، ‏{‏أنهم‏}‏ قال الأخفش‏:‏ لأنهم أو بأنهم ‏{‏أصحابُ النَّارِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏الذين يَحْمِلونَ العَرْشَ‏}‏ وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم القيامة جُعلوا ثمانيةً ‏{‏ومَنْ حَوْلَه‏}‏ قال وهب بن منبِّه‏:‏ حَوْلَ العرش سبعون ألف صفٍّ من الملائكة يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفٍّ من الملائكة ليس فيِهم أحد إلاّ وهو يسبِّح بما لا يسبِّحه الآخر، وقال غيره‏:‏ الذين حول العرش هم الكروبيّون وهم سادة الملائكة‏.‏ وقد ذكرنا في السُّورة المتقدِّمة معنى قوله‏:‏ ‏{‏يسبِّحون بحمد ربِّهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربَّنا‏}‏ أي‏:‏ يقولون ربَّنا ‏{‏وَسِعَتَ كُلَّ شيءٍ رَحْمَةً وعِلْماً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على التمييز‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى‏:‏ وَسِعَتْ رحمتُك وعِلْمُك كلَّ شيء ‏{‏فَاْغْفِرْ للذين تابوا‏}‏ من الشِّرك ‏{‏واتَّبَعوا سبيلَكَ‏}‏ وهو دين الإِسلام‏.‏ وما بعد هذا ظاهر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقِهِمُ السَّيِّئاتِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَروا ينادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ‏}‏ قال المفسِّرون‏:‏ لمّا رأوْا أعمالَهم وأُدخِلوا النّارِ مَقَتُوا أنفُسَهم لِسُوءِ فِعْلِهم، فناداهم مُنادٍ‏:‏ لَمَقْتُ الله إيّاكم في الدُّنيا ‏{‏إِذ تُدْعَوْنَ إِلى الإِيمان فتكفُرونَ‏}‏ أكبرُ مِنْ مقتكم أنفُسكم‏.‏

ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله ‏{‏ربَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ‏}‏ وهذا مثل قوله ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم ثُمَّ يميتُكم ثُمَّ يُحْييكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏ وقد فسَّرناه هنالك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل إِلى خُروج‏}‏ أي‏:‏ من النار إِلى الدنيا لنعملَ بالطاعة ‏{‏مِنْ سَبيلٍ‏}‏‏؟‏ وفي الكلام اختصار، تقديره‏:‏ فَأُجيبوا أن لا سبيل إِلى ذلك؛ وقيل لهم ‏{‏ذلكم‏}‏ يعني العذاب الذي نزل بهم ‏{‏بأنَّه إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَه كَفَرتم‏}‏ أي‏:‏ إِذا قيل «لا إله إلا الله» أنكرَتم، وإن جُعل له شريكٌ آمنتم، ‏{‏فالحُكم لله‏}‏ فهو الذي حكم على المشركين بالنار‏.‏ وقد بيَّنَّا في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ معنى العليّ وفي ‏[‏الرعد‏:‏ 9‏]‏ معنى الكبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذي يُريكم آياتِه‏}‏ أي‏:‏ مصنوعاته التي تَدُلُّ على وَحدانيَّته وقُدرته‏.‏ والرِّزق هاهنا المطر، سمِّي رزقاً، لأنه سبب الأرزاق‏.‏ و«يتذكَّر» بمعنى يَتَّعظ، و«يُنيب» بمعنى يَرْجِع إِلى الطاعة‏.‏

ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال‏:‏ ‏{‏فادْعُوا اللهَ مُْلِصينَ له الدِّينَ‏}‏ أي‏:‏ موحِّدين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رفيعُ الدَّرَجاتِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني رافع السموات‏.‏ وحكى الماوردي عن بعض المفسِّرين قال‏:‏ معناه عظيم الصِّفات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذو العَرْشَ‏}‏ أي‏:‏ خالِقُه ومالِكُه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُلْقي الرُّوحَ‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ النُّبوّة‏.‏ والقولان‏:‏ مرويّان عن ابن عباس وبالأول قال ابن زيد، وبالثاني قال السدي‏.‏

والثالث‏:‏ الوحي، قاله قتادة‏.‏ وإِنما ُسمِّي القرآن والوحي روحاً، لأن قِوام الدِّين به، كما أن قِوام البدن بالرُّوح‏.‏

والرابع‏:‏ جبريل، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ الرَّحمة، حكاه إبراهيم الحربي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أمْرِِهِ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ مِنْ قضائه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بأمره، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ من قوله، ذكره الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على مَن يشاءُ مِنْ عِبادِه‏}‏ يعني الأنبياء‏.‏

‏{‏لِيُنْذِرَ‏}‏ في المشار إِليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الله عز وجل‏.‏

والثاني‏:‏ النَّبيُّ الذي يوحى إليه

والمراد ب ‏{‏يومَ التَّلاق‏}‏‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وأثبت ياء ‏{‏التلاقي‏}‏ في الحالين ابن كثير ويعقوب، وأبو جعفر‏.‏ وافقهما في الوصل؛ والباقون بغير ياءٍ في الحالَيْن، وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يلتقي فيه الأوَّلون والآخِرون روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ ‏[‏يلتقي‏]‏ فيه الخلق والخالق، قاله قتادة ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ يلتقي المظلوم والظالم، قاله ميمون بن مهران‏.‏

والخامس‏:‏ يلتقي المرءُ بعمله، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُم بارِزونَ‏}‏ أي ظاهِرون من قُبورهم ‏{‏لا يَخْفَى على الله منهم شيء‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل يَخْفَى عليه منهم اليوم شيء‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنْ لا، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء؛ وللمفسِّرين فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لا يَخْفَى عليه ممّا عَمِلوا شيءٌ، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا يَستترونَ منه بجبل ولا مَدَر، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ أَبْرَزهم جميعاً، لأنه لا يَخْفَى عليه منهم شيء، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمِن المُلْكُ الْيَوْمَ‏}‏ اتفقوا على أن هذا يقوله الله عز وجل بعد فَناء الخلائق‏.‏ واختلفوا في وقت قوله له على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب، فيَرُدّ هو على نفسه فيقول‏:‏ ‏{‏للهِ الواحدِ القَهّارِ‏}‏، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يقوله يوم القيامة‏.‏

وفيمن يُجيبه حينئذ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يُجيب نَفْسَه، وقد سَكَتَ الخلائقُ لقوله، قاله عطاء‏.‏

والثاني‏:‏ أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولون ‏{‏للهِ الواحدِ القهارِ‏}‏ قاله ابن جريج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْذِرهم يومَ الآزفة‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يومُ القيامة، قاله الجمهور‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وسميت القيامة بذلك لقُربها‏.‏ يقال‏:‏ أَزِفَ شُخوص فلان، أي‏:‏ قَرُبَ‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يومُ حُضور المنيَّة، قاله قطرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذِ القُلوبُ لدى الحناجر‏}‏ وذلك أنها ترتقي إِلى الحناجر فلا تخرُج ولا تعود، هذا على القول الأول‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ القلوب هي النُّفوس تبلغ الحناجرَ عند حضور المنيَّة؛ قال الزجاج‏:‏ و‏{‏كاظمينَ‏}‏ منصوب على الحال، والحال محمولة على المعنى؛ لأن القلوب لا يقال لها‏:‏ كاظمين، وإِنما الكاظمون أصحاب القلوب؛ فالمعنى‏:‏ إِذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كَظْمهم‏.‏ قال المفسِّرون‏:‏ «كاظِمِين» أي‏:‏ مغمومين ممتلئين خوفاً وحزناً، والكاظم‏:‏ المُمْسِك للشيء على ما فيه؛ وقد أشرنا إِلى هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏‏.‏

‏{‏ما لِلظّالِمِينَ‏}‏ يعني الكافرين ‏{‏مِنْ حَميمٍ‏}‏ أي‏:‏ قريب ينفعُهم ‏{‏ولا شفيعٍ يُطَاعُ‏}‏ فيهم فتُقْبَل شفاعتُه‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ خائنةَ الأعيُن‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الخائنة والخيانة واحد‏.‏ وللمفسرين فيها أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الرجُل يكون في القوم فتمرُّ به المرأة فيُريهم أنه يغُضُّ بصره، فإذا رأى منهم غفلةً لَحَظَ إِليها، فإن خاف أن يَفْطنُوا له غَضَّ بصره، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه نظر العين إِلى ما نُهي عنه، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الغمز بالعين، قاله الضحاك والسدي‏.‏ قال قتادة‏:‏ هو الغمز بالعين فيما لا يُحِبُّه الله ولا يرضاه‏.‏

والرابع‏:‏ النظرة بعد النظرة قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تُخْفي الصُّدورُ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما تُضْمِره من الفعل أن لو قَدَرْتَ على ما نَظَرْتَ إِليه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الوسوسة، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ ما يُسِرُّه القلب من أمانة أو خيانة حكاه المارودي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 25‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللهُ يَقْضي بالحق‏}‏ أي‏:‏ يحكمُ به فيَجزي بالحسنة والسَّيِّئة ‏{‏والذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِه‏}‏ من الآلهة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ بالتاء، على معنى‏:‏ قُلْ لهم‏:‏ ‏{‏لا يَقْضُونَ بشيء‏}‏ أي‏:‏ لا يَحْكُمونَ بشيء ولا يُجازُون به؛ وقد نبَّه اللهُ عز وجل بهذا على أنه حَيٌّ، لأنه إِنما يأمُر ويَقضي من كان حيّاً، وأيَّد ذلك بذِكْر السَّمع والبصر، لأنهما إنما يثبُتان لحيٍّ، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم بعضه ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ وبعضه ظاهر إِلى قوله‏:‏ ‏{‏كانوا هُمْ أشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏أشَدَّ مِنْكُمْ‏}‏ بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، وهو على الانصراف من الغَيْبَة إلى الخطاب، ‏{‏وما كان لهم مِنَ الله‏}‏ أي‏:‏ من عذاب الله ‏{‏مِنْ واقٍ‏}‏ يقي العذاب عنهم‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ذلك العذاب الذي نزل بهم ‏{‏بأنَّهم كانت تأتيهم رسُلُهم بالبيِّنات‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليَعتبروا‏.‏ وأراد بقوله ‏{‏اقتُلوا أبناءَ الذين آمنوا معه‏}‏ أعيدوا القتل عليهم كما كان أوّلاً، قاله ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان فرعون قَدْ كف َّعن قتل الوِلْدانِ، فلمّا بَعَثَ اللهُ موسى، أعاد عليهم القتل لِيصُدَّهم بذلك عن متابعة موسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كَيْدُ الكافرين إلاّ في ضلال‏}‏ أي إنه يَذْهَب باطلاً ويَحيق بهم ما يريده اللهُ عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وقال فرعونُ ذَرُوني أقْتُلْ موسى‏}‏ وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصَّة فرعونَ مَنْ يَمْنَعُه مِنْ قَتْله خوفاً من الهلاك ‏{‏وَلْيَدْعُ ربَّه‏}‏ الذي يزعُم أنه أرسله فلْيمنعه من القتل ‏{‏إِنِّي أَخافُ أن يبدِّل دينَكم‏}‏ أي‏:‏ عبادتكم إيّاي ‏{‏وأن يُظْهِرَ في الأرض الفسادَ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ بغير ألف‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏أو أن‏}‏ بألف قبل الواو على معنى‏:‏ إن لم يبدِّل دِينَكم أوْقَعَ الفسادَ، إلاّ أن نافعاً وأبا عمرو قرآ‏:‏ ‏{‏يُظْهِرَ‏}‏ بضم الياء ‏{‏الفسادَ‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يَظْهَرَ‏}‏ بفتح الياء «الفسادُ» بالرفع، والمعنى‏:‏ يظهر الفساد بتغيير أحكامنا فجعل ذلك فساداً بزعمه؛ وقيل‏:‏ يقتل أبناءَكم كما تفعلون بهم‏.‏

فلمّا قال فرعونُ هذا، استعاذ موسى بربّه فقال‏:‏ ‏{‏إنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر‏:‏ ‏{‏عُذْتُ‏}‏ مبيَّنة الذّال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ‏{‏مِنْ كُلٍّ متكبِّرٍ‏}‏ أي‏:‏ متعظّم عن الإِيمان فقصد فرعونُ قتل موسى، فقال حينئذ ‏{‏رجُلٌ مؤمِنُ من آل فرعون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وفي الآل هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ بمعنى الأهل والنَّسب؛ قال السدي ومقاتل‏:‏ كان ابنَ عمٍّ فرعون، وهو المراد بقوله ‏{‏وجاء رجُلٌ مِنْ أقصى المدينة يَسعى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى القبيلة والعشيرة؛ قال قتادة ومقاتل‏:‏ كان قبطيّاً‏.‏ وقال قوم‏:‏ كان إسرائيليّاً، وإنما المعنى‏:‏ قال رجل مؤمن يكتُم إيمانَه من آل فرعون؛ وفي اسمه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ حبيب‏:‏ قاله كعب‏.‏

والثالث‏:‏ سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبَّائي‏.‏

والرابع‏:‏ جبريل‏.‏

والخامس‏:‏ شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى الزجاج «شمعان» بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضاً‏.‏ والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان مؤمناً قبل مجيء موسى، وكذلك امرأة فرعون‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كتم إيمانه من فرعون مائة سنة‏.‏

قوله تعالى ‏{‏أتقتُلون رجُلاً أن يقولَ‏}‏ أي‏:‏ لأن يقولَ ‏{‏ربِّيَ اللهُ‏}‏ وهذا استفهام إنكار ‏{‏وقد جاؤكم بالبيِّنات‏}‏ أي‏:‏ بما يدُلُّ على صِدقه ‏{‏وإِن يَكُ كاذباً فعليه كَذِبُه‏}‏ أي‏:‏ لا يضرُّكم ذلك ‏{‏وإن يَكُ صادقاً يُصِبْكم بَعْضُ الذي يَعِدُكم‏}‏ من العذاب‏.‏ وفي «بَعْض» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها بمعنى «كُلّ»، قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد‏:‏

تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها *** أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها

أراد‏:‏ كُلَّ النفُّوس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها صِلَة؛ والمعنى‏:‏ يُصِبْكم الذي يَعِدُكم، حُكي عن الليث‏.‏

والثالث‏:‏ أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه وعدهم النجاةَ إن آمنوا، والهلاكَ إن كفروا، فدخل ذِكْر البعض لأنهم على أحد الحالين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكُهم في الدنيا بعضَ الوَعْد، ذكرهما الماوردي‏.‏

قال الزجاج‏:‏ هذا باب من النظر يذهب فيه المُناظِر إلى إلزام الحُجَّة بأيسر ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكلِّ، ومثله قول الشاعر‏:‏

قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ *** وَقَدْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

وإنما ذكر البعض ليوجبَ الكلَّ، لأن البعض من الكلّ، ولكن القائل إذا قال‏:‏ أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزَّلل، فقد أبان فَضْلَ المتأنِّي على المستعجِل بما لا يَقْدِر الخصم أن يدفعه، فكأنَّ المؤمن قال لهم‏:‏ أَقَلْ ما يكون في صِدقه أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم، وفي بعض ذلك هلاككم؛ قال‏:‏ وأما بيت لبيد، فإنه أراد ببعض النفوس‏:‏ نَفْسَه وحدها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الله لا يَهْدي‏}‏ أي‏:‏ لا يوفِّق للصَّواب ‏{‏من هو مُسْرِفٌ‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه المشرك، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه السَّفَّاك للدَّم، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظاهرِين في الأرض‏}‏ أي‏:‏ عالِين في أرض مصر ‏{‏فمن يَنْصُرنا‏}‏ أي‏:‏ من يَمْنَعُنا ‏{‏من بأس الله‏}‏ أي‏:‏ من عذابه؛ والمعنى‏:‏ لا تتعرَّضوا للعذاب بالتكذيب وقَتْل النَّبيِّ، فقال فرعونُ عند ذلك‏:‏ ‏{‏ما أُرِيكم‏}‏ من الرّأي والنّصيحة ‏{‏إلاّ ما أَرى‏}‏ لنفسي ‏{‏وما أهْدِيكم‏}‏ أي‏:‏ أدعوكم إلاّ إلى طريق الهُدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يَدُلُّ على أنه انقطع عن جواب المؤمِن‏.‏

‏{‏وقال الذي آمن يا قومِ إِنِّي أخافُ عليكم مِثْلَ يَوْمِ الأحزابِ‏}‏ قال الزجّاج‏:‏ أي مِثْلَ يَوْمِ حزب حزب؛ والمعنى‏:‏ أخاف أن تُقيموا على كفركم فينزلَ بكم من العذاب مِثْلُ ما نزل بالأُمم المكذِّبة رسلهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومَ التَّنادِ‏}‏ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏التَّنادِ‏}‏ بغير ياءٍ‏.‏ وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل‏.‏ وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية/ والضحاك‏:‏ ‏{‏التَّنادِّ‏}‏ بتشديد الدال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أمّا إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدَّال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم‏:‏ نَدَّ فلان، ونَدَّ البعير‏:‏ إِذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله ‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏}‏ وقوله ‏{‏يومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أخيه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34‏]‏ قال أبو علي‏:‏ معنى الكلام إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة، فيرجعون من حيث جاؤوا‏.‏ وقال غيره‏:‏ يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم‏.‏ فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضاً‏.‏ روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«يأمرُ اللهُ عز وجل إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول‏:‏ انفُخْ نفخةَ الفزع، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، فتُسيَّر الجبالُ، وتُرَجُّ الأرض‏.‏ وتَذْهَلُ المراضعُ، وتضع الحواملُ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً وهو قوله‏:‏ ‏{‏يوم التناد‏}‏»

والثاني‏:‏ أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في ‏[‏الأعراف‏:‏ 4450‏]‏، وهذا قول قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قولهم‏:‏ يا حسرتنا يا ويلتنا قاله ابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومَ تُوَلَّونَ مُدْبِرِينَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ هرباً من النار‏.‏

والثاني‏:‏ أنه انصرافهم إلى النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالكم مِنَ الله مِنْ عاصم‏}‏ أي‏:‏ من مانع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم يوسف‏}‏ وهو يوسف بن يعقوب، ويقال‏:‏ إنه ليس به، وليس بشيء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ مِنْ قَبْلِ موسى ‏{‏بالبيِّناتِ‏}‏ وهي الدّلالات على التوحيد، كقوله ‏{‏أأربابٌ متفرِّقون خيرٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏، وقال ابن السائب‏:‏ البيِّنات‏:‏ تعبير الرُّؤيا وشَقُّ القميص، وقيل‏:‏ بل بعثه الله تعالى بعد موت ملِك مصر إلى القبط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما زِلتم في شَكّ ممّا جاءكم به‏}‏ أي‏:‏ من عبادة الله وحده ‏{‏حتى إذا هَلَكَ‏}‏ أي‏:‏ مات ‏{‏قُلْتُم لن يَبعث اللهُ مِنْ بعده رسولاً‏}‏ أي‏:‏ إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدِّد إِيجابَ الحجة عليكم ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مِثْل هذا الضَّلال ‏{‏يُضِلُّ اللهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ‏}‏ أي‏:‏ مُشْرِكٌ ‏{‏مُرتابٌ‏}‏ أي‏:‏ شاكٌّ في التوحيد وصِدق الرُّسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يجادِلونَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذا تفسير المسرف المرتاب، والمعنى‏:‏ هُمْ الذين يجادِلونَ في آيات الله‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يجادِلونَ في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي‏:‏ بغير حُجَّة أتتهم من الله‏.‏

‏{‏كَبُرَ مَقْتاً‏}‏ أي‏:‏ كَبُرَ جدالُهم مَقْتاً عند الله وعند الذين آمنوا، والمعنى‏:‏ يَمْقُتهم الله ويَمْقُتهم المؤمنون بذلك الجدال‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما طَبَع اللهُ على قلوبهم حتى كذَّبوا وجادلوا بالباطل، يَطْبع ‏{‏على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ‏}‏ عن عبادة الله وتوحيده‏.‏ وقد سبق بيان معنى الجبّار في ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏على كلِّ قلبٍ‏}‏ بالتنوين، وغيرُه من القرّاء السبعة يُضيفه‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ المعنى‏:‏ يطبع على جملة القلب من المتكبِّر‏.‏ واختار قراءة الإِضافة الزجاج‏:‏ قال‏:‏ لأن المتكبِّر هو الإِنسان، لا القلب‏.‏

فإن قيل‏:‏ لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدَّم القلبُ على الكُلِّ‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن هذا جائز عند العرب، قال الفراء‏:‏ تقدُّم هذا وتأخُّره واحد، سمعتُ بعض العرب يقول‏:‏ هو يرجِل شعره يومَ كل جمعة، يريد‏:‏ كلَّ يوم جمعة، والمعنى واحد‏.‏ وقد قرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏على قلبِ كلِّ متكبِّر‏}‏ بتقديم القلب‏.‏

قال المفسرون‏:‏ فلمّا وعظ المؤمنُ فرعونَ وزجره عن قتل موسى، قال فرعونُ لوزيره‏:‏ ‏{‏يا هامانُ ابنِ لي صَرْحاً‏}‏ وقد ذكرناه في ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلِّي أبلُغ الأسبابَ، أسبابَ السموات‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وقتادة‏:‏ يعني أبوابها‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ طرقها‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى‏:‏ لعلِّي أبلُغُ الطُّرق من سماءٍ الى سماءٍ‏.‏ وقال الزجاج لعلِّي أبلُغ ما يؤدِّيني إلى السموات‏.‏ وما بعد هذا مفسَّر في ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ ومِثْلُ ما وصفْنا ‏{‏زُيِّنَ لفرعونَ سُوءُ عمله وَصُدَّ‏}‏ عن سبيل الهدى قرأ عاصم، وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وصُدَّ‏}‏ بضم الصاد، والباقون بفتحها، ‏{‏وما كَيْدُ فرعونَ‏}‏ في إبطال آيات موسى ‏{‏إلاَّ في تبابٍ‏}‏ أي‏:‏ في بطلان وخسران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ثم عاد الكلامُ إلى نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعونِ أهْدِكم سبيل الرَّشادِ‏}‏ أي‏:‏ طريق الهدى، ‏{‏يا قومِ إِنما هذه الحياةُ الدُّنيا متاعٌ‏}‏ يعني الحياة في هذه الدار متاع يُتمتَّع بها أياماً ثم تنقطع ‏{‏وإنَّ الآخرة هي دار القرار‏}‏ التي لازوال لها‏.‏

‏{‏من عَمِلَ سيِّئةً‏}‏ فيها قولان‏.‏‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الشِّرك، ومثلها جهنم، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ المعاصي، ومثلُها‏:‏ العقوبةُ بمقدارها، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ فعلى الأول، العمل الصالح‏:‏ التوحيد، وعلى الثاني، هو ‏[‏علىٍ‏]‏ الإطلاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك يدخُلون الجنة‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «يُدخَلونَ» بضم الياء‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ بالفتح، وعن عاصم كالقراءتين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بغير حساب‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم لا تَبِعَةَ عليهم فيما يُعْطَون في الجنة، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يُصَبُّ عليهم الرِّزق صَبّاً بغير تقتير، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏