فصل: تفسير الآية رقم (29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلناه‏}‏ الهاء كناية عن القرآن، والمعنى‏:‏ أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدِّين المستقيم، فهو حَقٌّ، ونزوله حق، وما تضمنه حق‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ «وبالحق أنزلناه» أي‏:‏ بالتوحيد، «وبالحق نزل» يعني‏:‏ بالوعد والوعيد، والأمر والنهي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرآنا فَرَقناه‏}‏ قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن‏:‏ «فرَّقناه» بالتشديد‏.‏ وقرأ الجمهور بالتخفيف‏.‏

فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بيَّنَّا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فرقنا فيه بين الحق والباطل، ‏[‏قاله الحسن‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ أحكمناه وفصَّلناه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيها يُفرَق كُلُّ أمر حكيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏، قاله الفراء‏.‏ وأما المشددة، فمعناها‏:‏ أنه أُنزل متفرِّقاً، ولم ينزل جملة واحدة‏.‏ وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتقرَأَه على الناس على مُكْثٍ‏}‏ قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاءٍ، وأبان عن عاصم، وابن محيصن‏:‏ بفتح الميم؛ والمعنى‏:‏ على تُؤدة وترسُّل ليتدبَّروا معناه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل آمنوا به أو لا تؤمنوا‏}‏ هذا تهديد لكفار ‏[‏أهل‏]‏ مكة، والهاء كناية عن القرآن‏.‏ ‏{‏إِن الذين أوتوا العلم‏}‏ وفيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ طلاب الدِّين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد ابن عمرو، قاله الواحدي‏.‏

وفي هاء الكناية في قوله‏:‏ ‏{‏من قبله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى القرآن، والمعنى‏:‏ من قبل نزوله‏.‏

والثاني‏:‏ ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد‏.‏ فعلى الأول ‏{‏إِذا يتلى عليهم‏}‏ القرآن‏.‏ وعلى قول ابن زيد ‏{‏إِذا يتلى عليهم‏}‏ ما أُنزل إِليهم من عند الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخِرُّون للأذقان‏}‏ اللام هاهنا بمعنى «على»‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قوله «للأذقان» أي‏:‏ للوجوه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الذي يَخِرُّ وهو قائم، إِنما يَخِرُّ لوجهه، والذَّقْن‏:‏ مُجْتَمع الَّلحيَين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أول ما يلقى الأرضَ من الذي يَخِرُّ قبل أن يصوِّب جبتهه ذقنُه، فلذلك قال‏:‏ «للأذقان»‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ يَخِرُّون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يُكتفى بالبعض من الكُلِّ، وبالنوع من الجنس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون سبحان ربِّنا‏}‏ نزَّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذِّبين بالقرآن، وقالوا‏:‏ ‏{‏إِن كان وعد ربنا‏}‏ بإنزال القرآن وبعثِ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لمفعولاً‏}‏ واللام دخلت للتوكيد‏.‏ وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعثٌ نبيّاً من العرب، ومُنزِلٌ عليه كتاباً، فلما عاينوا ذلك، حمدوا الله تعالى على إِنجاز الوعد، ‏{‏ويَخِرُّون للأذقان‏}‏ كرَّر القول ليدل على تكرار الفعل منهم‏.‏ ‏{‏ويزيدهم خشوعاً‏}‏ أي‏:‏ يزيدهم القرآن تواضعاً‏.‏ وكان عبد الأعلى التيمي يقول‏:‏ من أوتي من العلم ما لا يُبكيه، لَخليق أن لا يكون أوتيَ علماً ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال‏:‏ ‏{‏إِن الذين أوتوا العلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى قوله‏:‏ «يبكون»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ هذه الآية نزلت على سببين‏.‏ ‏[‏نزل‏]‏ أولها إِلى قوله‏:‏ ‏{‏الحسنى‏}‏ على سبب، وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجَّد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده‏:‏ «يا رحمن، يا رحيم»‏:‏ فقال المشركون‏:‏ كان محمدٌ يدعو إِلهاً واحداً، فهو الآن يدعو إِلهين اثنين‏:‏ الله، والرحمن، ما نعرف الرحمن إِلا رحمن اليمامة، يعنون‏:‏ مسيلمة، فأنزل الله هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول ما أوحي إِليه‏:‏ باسمك اللهم، حتى نزل‏:‏ ‏{‏إِنه من سليمان وإِنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 30‏]‏، فكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب‏:‏ هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران‏.‏

والثالث‏:‏ أن أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنك لَتُقِلُّ ذِكْر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجهر بصلاتك‏}‏ فنزل على سبب، وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقرآن بمكة، فيسُبُّ المشركون القرآن ومَنْ أتى به، فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجهر بصلاتك‏}‏ أي‏:‏ بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبُّوا القرآن، ‏{‏ولا تخافت بها‏}‏ عن أصحابك، فلا يسمعون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأعرابيّ كان يجهر في التشهُّد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة‏.‏

والثالث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة، فقال أبو جهل‏:‏ لا تفترِ على الله، فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فقال أبو جهل للمشركين‏:‏ ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة‏؟‏‏!‏ رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

فأما التفسير، فقوله‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ المعنى‏:‏ إِن شئتم فقولوا‏:‏ يا ألله، وإِن شئتم فقولوا‏:‏ يا رحمن، فانهما يرجعان إِلى واحد، ‏{‏أيّاً ما تدعوا‏}‏ المعنى‏:‏ أيَّ أسماء الله تدعوا؛ قال الفراء‏:‏ و«ما» قد تكون صلة، كقوله‏:‏ ‏{‏عما قليلٍ ليُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏، وتكون في معنى‏:‏ «أيّ» معادَة لمَّا اختلف لفظهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجهر بِصَلاتك‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الصلاة الشرعية‏.‏ ثم في المراد بالكلام ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لاتجهر بقراءتك، ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة، وشدة المخافتة، قاله ابن عباس‏.‏ فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان ذكرهما ابن الأنباري‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ فلا تجهر بقراءة صلاتك‏.‏

والثاني‏:‏ أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى‏:‏ كلمة الله، لأنه بالكلمة كان‏.‏

والثاني‏:‏ لا تصلّ مراءاة للناس، ولا تَدَعْها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ لا تجهر بالتشهُّد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين‏.‏

والرابع‏:‏ لا تجهر بفعل صلاتك ظاهراً، ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة‏.‏

والخامس‏:‏ لا تُحسِنْ علانيتها، وتُسِيءْ سريرتها، قاله الحسن‏.‏

والسادس‏:‏ لا تجهر بصلاتك كلِّها، ولا تُخافت بجميعِها‏.‏ فاجهر في صلاة الليل، وخافِت في صلاة النهار، على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن المراد بالصلاة‏:‏ الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تخافت بها‏}‏ المخافتة‏:‏ الإِخفاء، يقال‏:‏ صوت خفيت‏.‏ ‏{‏وابتغ بين ذلك سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ اسلك بين الجهر والمخافتة طريقاً‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نُسخت هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏واذكر ربَّك في نفسك تضرعاً وخِيفة، ودون الجهر من القول‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏، وقال ابن السائب‏:‏ نُسخت بقوله‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏؛ وعلى التحقيق، وجود النسخ هاهنا بعيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يكن له شريك في المُلك‏}‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرِّف‏:‏ «في المِلك» بكسر الميم، ‏{‏ولم يكن له وليٌّ من الذُّلِّ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لم يحالف أحداً، ولم يبتغ نصر أحد؛ والمعنى‏:‏ أنه لا يحتاج إِلى موالاة أحد لِذُلٍّ يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير‏.‏ ‏{‏وكَبِّره تكبيراً‏}‏ أي‏:‏ عظِّمه تعظيماً تامّاً‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ قد شرحناه في أول «الفاتحة»‏.‏ والمراد بعبده هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب‏:‏ القرآن، تمدَّح بانزاله، لأنه إِنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامَّة‏.‏ قال العلماء باللغة والتفسير‏:‏ في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها‏:‏ أنزل على عبده الكتاب ‏{‏قيّماً‏}‏ أي‏:‏ مستقيماً عدلاً‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش‏:‏ «قِيَماً» بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يجعل له عوجا‏}‏ أي‏:‏ لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العِوَج في ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لينذر بأساً شديداً‏}‏ أي‏:‏ عذاباً شديداً، ‏{‏من لدنه‏}‏ أي‏:‏ من عنده، ومن قِبَلِه، والمعنى‏:‏ لينذر الكافرين ‏{‏ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم‏}‏ أي‏:‏ بأن لهم ‏{‏أجراً حسناً‏}‏ وهو الجنة‏.‏ ‏{‏ماكثين‏}‏ أي‏:‏ مقيمين، وهو منصوب على الحال‏.‏ ‏{‏وينذر‏}‏ بعذاب الله ‏{‏الذين قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ وهم اليهود حين قالوا‏:‏ عزيرٌ ابن الله، والنصارى حين قالوا‏:‏ المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، ‏{‏ما لهم به‏}‏ أي‏:‏ بذلك القول ‏{‏من عِلْم‏}‏ لأنهم قالوا‏:‏ أفْتَرَى على الله، ‏{‏ولا لآبائهم‏}‏ الذين قالوا ذلك، ‏{‏كَبُرَتْ‏}‏ أي‏:‏ عَظُمَتْ ‏{‏كلمةً‏}‏ الجمهور على النصب‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة‏:‏ «كلمةٌ» بالرفع‏.‏ قال الفراء‏:‏ من نصب، أضمر‏:‏ كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً، ومن رفع، لم يضمر شيئاً، كما تقول‏:‏ عَظُم قولك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من نصب، فالمعنى‏:‏ كبرت مقالتهم‏:‏ اتخذ الله ولداً كلمة، و«كلمةً» منصوب على التمييز‏.‏ ومن رفع، فالمعنى‏:‏ عظمت كلمة هي قولهم‏:‏ اتخذ الله ولداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تخرج من أفواههم‏}‏ أي‏:‏ إِنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، ‏{‏إِن يقولون‏}‏ أي‏:‏ ما يقولون ‏{‏إِلا كذبا‏}‏‏.‏ ثم عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم، فقال‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك‏}‏ وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة‏:‏ «باخعُ نفسِك» بكسر السين، على الإِضافة‏.‏ قال المفسرون واللغويون‏:‏ فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة‏:‏

ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ *** لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُ

أي‏:‏ نحَّتْه‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ ‏{‏فلعلك‏}‏ والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنها ليست بشكّ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى‏:‏ هل أنت قاتل نفسك‏؟‏‏!‏ لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على آثارهم‏}‏ أي‏:‏ من بعد تولِّيهم عنك ‏{‏إِن لم يؤمنوا بهذا الحديث‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏أسفا‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ حَزَناً، قاله ابن عباس، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ جَزَعاً، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ غَضَباً، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ نَدَماً، قاله السدي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ نَدَماً وتَلهُّفاً وأَسىً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأسف‏:‏ المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال‏:‏ قد أسف الرجل، فهو أَسيف، قال الشاعر‏:‏

أَرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أَسِيفاً كَأَنَّما *** يَضُمُّ إِلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبا

وهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إِلى هلاك نفسه بالأسف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الرجال‏.‏ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ العلماء، رواه مجاهد عن ابن عباس فعلى هذين القولين تكون «ما» في موضع «مَنْ» لأنها في موضع إِبهام، قاله ابن الانباري‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّه ما عليها من شيء، قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ النبات والشجر، قاله مقاتل‏.‏ وقول مجاهد أعمُّ، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد نرى بعض ما على الأرض سَمِجاً وليس بزينة‏.‏

فالجواب‏:‏ أنا إِن قلنا‏:‏ إِن المراد ‏[‏به‏]‏ شيء مخصوص، فالمعنى‏:‏ إِنا جعلنا بعض ما على الأرض زينةً لها، فخرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص‏.‏ وإِن قلنا‏:‏ هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم‏.‏ وإِن قلنا‏:‏ النبات والشجر، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية‏.‏ وإِن قلنا‏:‏ إِنه عامّ في كل ما عليها، فلكونه دالاًّ على خالقه، فكأنَّه زينة الأرض من هذه الجهة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبلوهم‏}‏ أي‏:‏ لنختبر الخلق، والمعنى‏:‏ لنعاملهم معاملة المبتلى‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ من قال‏:‏ إِن «ما على الأرض» يعني به النبات، قال‏:‏ الهاء والميم ترجع إِلى سكان الأرض المشاهِدين للزينة، ومن قال‏:‏ «ما على الأرض» الرجال، ردَّ الهاء والميم على «ما» لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية‏:‏ لنبلوهم فنرى أيُّهم أحسن عملاً، هذا، أم هذا‏.‏ قال الحسن‏:‏ أيُّهم أزهد في الدنيا‏.‏ وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ثم أعلم الخلقَ أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنا لجاعلون ما عليها صعيداً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الصعيد‏:‏ الطريق الذي لا نبات فيه‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ الصعيد‏:‏ التراب، ووجه الأرض‏.‏ فأما الجُرُز، فقال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ أرض جُرُزٌ، وجَرْزٌ‏.‏ وأسد تقول‏:‏ جَرَز، وجُرُز، وتميم تقول‏:‏ أرض جُرْز، وجَرْز، بالتخفيف، وقال أبو عبيدة‏:‏ الصعيد الجُرُز‏:‏ الغليظ الذي لا يُنْبِتُ شيئاً‏.‏ ويقال للسَّنَةِ المُجْدِبة‏:‏ جُرُز، وسِنُون أجراز، لجدوبتها، وقلَّة مطرها، وأنشد‏:‏

قَدْ جَرّفَتْهُنَّ السِّنُون الأجْرَازْ *** وقال الزجاج‏:‏ الجرز‏:‏ الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلاً‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ الجرز‏:‏ ‏[‏الأرض‏]‏ التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستويةً لا نبات فيها ولا ماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرَّقيم‏}‏ نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى «أم حسبت»‏:‏ أحسبت‏.‏ فأما «الكهف» فقال المفسرون‏:‏ هو المغارة في الجبل، إِلا أنه واسع، فاذا صغر، فهو غار‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ الكهف بمنزلة الغار في الجبل‏.‏

فأما الرقيم، ففيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطّلَع عليهم يوماً من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبِّه، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية‏.‏ وقال السدي‏:‏ الرقيم‏:‏ صخرة كُتب فيها أسماء الفتية، وجُعلت في سُور المدينة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الرقيم‏:‏ كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إِيمانَهما من الملك الذي فرَّ منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سَدُّوا به باب الكهف، فقالا‏:‏ لعل الله أن يُطْلِعَ على هؤلاء الفتية أحداً، فيعلمون أمرهم إِذا قرؤوا الكتاب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كُتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وابن قتيبة‏:‏ الرقيم‏:‏ الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه‏:‏ كتاب مرقوم، أي‏:‏ مكتوب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب‏.‏

والثالث‏:‏ اسم الجبل، قاله الحسن، وعطية‏.‏

والرابع‏:‏ أن الرقيم‏:‏ الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية‏.‏ والخامس‏:‏ اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والسادس‏:‏ اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة، والضحاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانوا من آياتنا عجباً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معنى الكلام‏:‏ أحسبتَ أنهم كانوا أعجبَ آياتنا‏؟‏‏!‏ قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم‏.‏ وقال ابن عباس الذي آتيتك من الكتاب والسنَّة والعلم، أفضل من شأنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ أوى الفتية‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معنى‏:‏ أوَوْا إِليه، صاروا إِليه، وجعلوه مأواهم‏.‏ والفتية‏:‏ جمع فتى، مثل غُلام وغِلمة، وصبي وصبية‏.‏ و«فِعلة» من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه؛ لا يجوز غُراب وَغِرْبة، ولا غنيٌّ وغِنية‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ الفتية‏:‏ بمعنى الشبان‏.‏ وقد ذكرنا عن القتيبي أن الفتى‏:‏ بمعنى الكامل من الرجال، وبيَّنَّاه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من فتياتكم المؤمنات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقالوا ربنا آتنا من لدنك‏}‏ أي‏:‏ من عندك ‏{‏رحمة‏}‏ أي‏:‏ رزقاً ‏{‏وهيِّئ لنا‏}‏ أي‏:‏ أصلح لنا ‏{‏من أمرنا رشداً‏}‏ أي‏:‏ أرشدنا إِلى ما يقرِّبنا منك‏.‏ والمعنى‏:‏ هيِّئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد‏.‏ والرُّشد والرَّشد، والرشاد‏:‏ نقيض الضلال‏.‏

تلخيص قصة أصحاب الكهف

اختلف العلماء في بُدُوِّ أمرهم، وسبب مصيرهم إِلى الكهف، على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم هربوا ليلاً من ملكهم حين دعاهم إِلى عبادة الأصنام، فمروا براعٍ له كلب، فتبعهم على دينهم، فأوَوا إِلى الكهف يتعبَّدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إِلى أن جاءهم يوماً فأخبرهم أنهم قد ذُكِروا، فبَكوا وتعَّوذوا بالله من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسدَّ عليهم الكهف، وهو يظنهم أيقاظاً، وقد توفَّى الله أرواحهم وفاة النَّوم، وكلبُهم قد غشيه ما غشيهم‏.‏ ثم إِن رجلين مؤمنَيْن يكتمان إِيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا‏:‏ لعل الله يُطْلع عليهم قوماً مؤمنين، فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ فَقَدهم قومهم فطلبوهم، فعمَّى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح‏:‏ فلان وفلان أبناء ملوكنا فَقَدْنَاهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا‏:‏ لَيَكُونَنَّ لهذا شأن‏.‏ والثاني‏:‏ أن أحد الحواريِّين جاء إِلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له‏:‏ إِن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إِلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حمَّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجْر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدَّقوه، حتى جاء ابن الملك يوماً بامرأة، فدخل معها الحمَّام، فأنكر عليه الحواريُّ ذلك، فسبَّه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له‏:‏ إِن صاحب الحمام قتل ابنك، فالْتُمِس فهرب، فقال‏:‏ من كان يصحبه‏؟‏ فسُمي له الفتيةُ، فالْتُمِسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إِلى الكهف، فدخلوه فقالوا‏:‏ نبيت هاهنا، ثم نصبح إِن شاء الله فتَرَون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا؛ وخرج الملك، وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل ‏[‏الكهف‏]‏ أُرعب، فقال قائل للملك‏:‏ أليس قلتَ‏:‏ إِن قدرتُ عليهم قتلتُهم‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، هذا قول وهب بن منبِّه‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم، هو أسنهم‏:‏ إِني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده، فقالوا‏:‏ ما تجد‏؟‏ قال‏:‏ أجد في نفسي أن ربي ربُّ السموات والأرض، فقاموا جميعاً فقالوا‏:‏ ربُّنا ربُّ السموات والأرض، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا، فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانوا أبناء ملوك الروم، فتفرَّدوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم‏.‏

فصل

فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة‏:‏ جاءت أمّةٌ مسلمةٌ، وكان ملكهم مسلماً، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل‏:‏ يُبعث الروح والجسد‏.‏

وقال قائل‏:‏ يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئاً، فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوح، وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ جاء راعٍ قد أدركه المطر إِلى الكهف، فقال‏:‏ لو فتحت هذا الكهف، وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إِليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السدَّ، فبنى به، فانفتح باب الكهف‏.‏ وقال ابن إِسحاق‏:‏ ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها، وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلَّم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئاً يكرهونه، إِنما هم على هيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلّوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم‏:‏ انطلق فاستمع، ما نُذكَر به، وابتغ لنا طعاماً، فوضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف، فعجب، ثم مَرَّ مستخفياً متخوِّفاً أن يراه أحد فيذهب به إِلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإِيمان، فعجب، وخُيِّل إِليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف، ورأى ناساً لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول‏:‏ لعلِّي نائم؛ فلما دخلها رأى قوماً يحلفون باسم عيسى، فقام مسنداً ظهره إِلى جدار، وقال في نفسه‏:‏ والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على ‏[‏وجه‏]‏ الأرض من يذكر عيسى إِلا قُتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا، فقام كالحيران، وأخرج وَرِقاً فأعطاه رجلاً وقال‏:‏ بعني طعاماً، فنظر الرجل إِلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إِلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم، ويتعجبون، ويتشاورون، وقالوا‏:‏ إِن هذا قد أصاب كنزاً، فَفَرق منهم، وظنَّهم قد عرفوه، فقال‏:‏ أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إِليه، فقالوا له‏:‏ من أنت يا فتى‏؟‏ والله لقد وجدتَ كنزاً وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإِلا أتينا بك إِلى السلطان فيقتلك، فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول‏:‏ فُرِّقَ بيني وبين إِخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيتُ، فأتَوا به إِلى رجلين كانا يدبِّران أمر المدينة، فقالا‏:‏ أين الكنز الذي وجدتَ‏؟‏ قال‏:‏ ما وجدتُ كنزاً، ولكن هذه وَرِق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم، قال مجاهد‏:‏ وكان وَرِق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإِبل، فقالوا‏:‏ من أنت، وما اسم أبيك‏؟‏ فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما‏:‏ أتظن أنك تسخر مِنّا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار‏؟‏‏!‏ إني سآمر بك فتعذَّب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا‏:‏ أنبؤني عن شيء أسالكم عنه، فإن فعلتم صَدَقتكم، قالوا‏:‏ سل، قال‏:‏ ما فعل الملك دقيانوس‏؟‏ قالوا‏:‏ لا نعرف اليوم على وجه الأرض مَلِكاً يسمى دقيانوس، وإِنما هذا ملك كان منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال‏:‏ والله ما يصدِّقني أحد بما أقوله، لقد كُنّا فتيةً، وأكرهنا الملكُ على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمسِ فنمنا، فلما انتبهنا خرجتُ أشتري لأصحابي طعاماً، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إِلى الكهف أُريكم أصحابي، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإِبطائه عليهم أنه قد أُخذ، فبينما هم يتخوّفون ذلك، إِذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رُسُل دقيانوس، فقاموا إِلى الصلاة، وسلَّم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إِليهم وهو يبكي، فبكَوا معه، وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره، وقصّ عليهم النبأَ كلَّه، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقاً للبعث؛ ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم، فعجبوا، وأرسلوا إِلى ملكهم، فجاء، واعتنق القومَ، وبكى، فقالوا له‏:‏ نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك، فبينا الملك قائم، رجعوا إِلى مضاجعهم، وتوفَّى الله عزَّ وجلَّ أنفسهم، فأمر الملك أن يُجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب، فلما أَمْسَواْ رآهم في المنام، فقالوا‏:‏ إِنا لم نُخلَق من ذهب وفضة، ولكن خُلقنا من تراب، فاتركنا كما كُنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرُّعْب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر المَلِك فجُعِل على باب الكهف مسجدٌ يصلَّى فيه، وجعل لهم عيداً عظيماً يؤتَى كلَّ سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إِنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال‏:‏ دعوني أدخل إِلى أصحابي فأبشِّرهم، فانهم إِن رأَوْكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك‏:‏ هذه آيةٌ بعثها الله لكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضربنا على آذانهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أنمناهم ومنعناهم السمع، لأن النائم إِذا سمع انتبه‏.‏ و‏{‏عدداً‏}‏ منصوب على ضربين‏.‏

أحدهما‏:‏ على المصدر، المعنى‏:‏ تُعَدُّ عدداً‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون نعتاً للسنين، المعنى‏:‏ سنين ذات عدد، والفائدة في ذِكْر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء، لأنه إِذا قَلَّ فُهِم مقداره، وإِذا كَثُر احتيج إِلى أن يُعَدَّ العدد الكثير‏.‏ ‏{‏ثم بعثناهم‏}‏ من نومهم، يقال لكُلِّ مَنْ خرج من الموت إِلى الحياة، أو من النوم إِلى الانتباه‏:‏ مبعوث، لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرِّف والانبعاث‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏سنين عدداً‏}‏‏:‏ أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إِنما هي كاملة، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنعلم أيُّ الحزبين‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أي‏:‏ لنرى‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المعنى‏:‏ لتعلموا أنتم‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي‏:‏ «ليُعلَم» بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله «أيُّ الحزبين»، ويعني بالحزبين‏:‏ المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف‏.‏ ‏{‏أحصى لما لبثوا‏}‏ أي‏:‏ لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم يكن للفريقين عِلم بلبثهم، لا لمؤمنيهم، ولا لكافريهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لما بُعثوا زال الشك وعُرفت حقيقة اللبث‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ معنى الكلام‏:‏ بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن نَقُصُّ عليك نبأهم‏}‏ أي‏:‏ خبر الفتية ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالصدق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزدناهم هدى‏}‏ أي‏:‏ ثبَّتناهم على الإِيمان، ‏{‏وربطنا على قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ ألهمناها الصبر ‏{‏إِذ قاموا‏}‏ بين يدي ملكهم دقيانوس ‏{‏فقالوا ربُّنا ربُّ السموات والأرض‏}‏ وذلك أنه كان يدعو الناس إِلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصَواْ ملِكهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ قاموا في قومهم فدعَوْهم إِلى التوحيد‏.‏ وقيل‏:‏ هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة‏.‏ فأما الشطط، فهو الجَوْر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ شَطَّ الرجل، وأَشَطَّ‏:‏ إِذا جار‏.‏ ثم قال الفتية‏:‏ ‏{‏هؤلاء قومُنا‏}‏ يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس ‏{‏اتخذوا من دونه آلهة‏}‏ أي‏:‏ عبدوا الأصنام ‏{‏لولا‏}‏ أي‏:‏ هلاّ ‏{‏يأتون عليهم‏}‏ أي‏:‏ على عبادة الأصنام ‏{‏بسُلطان بَيِّن‏}‏ أي‏:‏ بِحُجَّةٍ‏.‏ وإِنما قال‏:‏ «عليهم» والأصنام مؤنَّثة، لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكَّرين من الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ فزعم أن له شريكاً‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ اعزلتموهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا ‏[‏قول‏]‏ يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم‏:‏ وإِذ اعتزلتموهم، أي‏:‏ فارقتموهم، يريد‏:‏ عبدة الأصنام، ‏{‏وما يعبدون إِلا الله‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ واعتزلتم ما يعبدون، إِلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة، ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاءٍ الخراساني، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ وما يعبدون غير الله؛ قال قتادة‏:‏ هي في مصحف عبد الله‏:‏ «وما يعبدون من دون الله»، وهذا تفسيرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأووا إِلى الكهف‏}‏ أي‏:‏ اجعلوه مأواكم، ‏{‏ينشرْ لكم ربكم من رحمته‏}‏ أي‏:‏ يبسطْ عليكم من رزقه، ‏{‏ويهيِّءْ لكم من أمركم مرفقا‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «مِرفَقا» بكسر الميم، وفتح الفاء‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ «مَرفِقا» بفتح الميم، وكسرالفاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ «مَرفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مِرفق الإِنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ معنى الآية‏:‏ ويهيِّئ لكم بَدَلاً من أمركم الصَّعب مرفقاً، قال الشاعر‏:‏

فليتَ لنا من ماءِ زمزمَ شَربَةً *** مُبرّدةً باتت على طَهَيانِ

معناه‏:‏ فلَيت لنا بدلاً من ماء زمزم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «ويهيِّئ لكم»‏:‏ يسهِّلْ عليكم ما تخافون من الملِك وظلمه ويأتِكم باليُسر والرِّفق واللُّطف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترى الشمس إِذا طلعت‏}‏ المعنى‏:‏ لو رأيتَها لرأيتَ ما وصفنا‏.‏ ‏{‏تزاور‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «تَزَّاوَرُ» بتشديد الزاي‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «تَزَاور» خفيفة‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «تَزْوَرُّ» مثل‏:‏ «تَحْمَرُّ»‏.‏ وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري‏:‏ «تَزْوَارُّ» باسكان الزاي، وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة، مشددة الراء‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع‏:‏ «تَزْوَئِرُّ» بهمزة قبل الراء، مثل‏:‏ «تَزْوَعِرُّ»‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو السماك‏:‏ «تَزَوَّرُ» بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء، مثل‏:‏ «تَكَوَّرُ»، أي‏:‏ تميل وتعدل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أصل «تزاور»‏:‏ تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي، و‏{‏تقرضهم‏}‏ أي‏:‏ تعدل عنهم وتتركهم، وقال‏:‏ ذو الرمة‏:‏

إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍ *** شِمالاً وعَنْ أيْمانِهِنَّ الفَوَارِسُ

يقرضن‏:‏ يتركن‏.‏ وأصل القرض‏:‏ القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه قولك‏:‏ أقرِضني درهماً، أي‏:‏ اقطع لي من مالك درهماً‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان كهفهم بازاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربةً لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرِّها وتغير ألوانهم‏.‏ ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح، ونسيم الهواء، فقال‏:‏ ‏{‏وهم في فجوة منه‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ ‏[‏في‏]‏ مُتَّسَع، والجمع‏:‏ فَجَوات، وفِجاء بكسر الفاء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إِنما صَرْفُ الشمس عنهم آيةٌ من الآيات، ولم يرض قول من قال‏:‏ كان كهفهم بازاء بنات نعش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من آيات الله‏}‏ يشير إِلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم‏.‏ «من آيات الله» أي‏:‏ من دلائله على قدرته ولطفه‏.‏ ‏{‏من يهد اللهُ فهو المهتد‏}‏ هذا بيان أنه هو الذي تولَّى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحسَبُهم أيقاظاً‏}‏ أي‏:‏ لو رأيتَهم لحسِبتَهم أيقاظاً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأيقاظ‏:‏ المنتبهون، واحدهم‏:‏ يَقِظ، ويَقْظان، والجميع‏:‏ أيقاظ؛ والرقود‏:‏ النيام‏.‏ قال الفراء‏:‏ واحد الأيقاظ‏:‏ يَقُظ، ويَقِظ‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ وإِنما يُحسَبون أيقاظاً، لأن أعينهم مفتَّحة وهم نيام‏.‏ وقيل‏:‏ لتقلُّبهم يميناً وشمالاً‏.‏ وذكر بعض أهل العلم‏:‏ أن وجه الحكمة في فتح أعينهم، أنه لو دام طَبْقها لذابت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُقَلِّبهم‏}‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ «وتَقْلِبُهم» بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة‏:‏ «ونَقْلِبُهم» مثلها، إِلا أنه بالنون‏.‏ ‏{‏ذاتَ اليمين‏}‏ أي‏:‏ على أيْمانهم وعلى شمائلهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا يُقلَّبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب، لئلا تأكل الأرض لحومهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانوا ثلاثمائة عام على شِقّ واحد، ثم قُلِّبوا تسع سنين‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد‏}‏ أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم، وهو في رأي العين منتبه‏.‏ وفي الوصيد أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الفِناء فِناء الكهف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ الوَصِيد والأَصِيد لغتان، مثل الإكفاف والوكاف‏.‏ وأرَّخت الكتاب وورَّخت، ووكدت الأمر وأكَّدت؛ وأهل الحجاز يقولون‏:‏ الوَصيد، وأهل نجد يقولون‏:‏ الأَصِيد، وهو‏:‏ الحظيرة والفِناء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ فيكون المعنى‏:‏ وكلبهم باسط ذراعيه بالباب، قال الشاعر‏:‏

بِأرْضِ فَضَاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيدُها *** عليَّ ومَعْرُوفي بها غيرُ مُنْكَرِ

والثالث‏:‏ أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية عنهما‏.‏

والرابع‏:‏ أنه عتبة الباب، قاله عطاء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهذا أعجب إليَّ، لأنهم يقولون‏:‏ أَوصِد بابك، أي‏:‏ أَغلِقه، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏إِنها عليهم مؤصَدة‏}‏ ‏[‏الهُمَزة‏:‏ 8‏]‏، أي‏:‏ مُطْبَقة مُغْلَقة، وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إِذا أغلقته، ومما يوضح هذا أنك إِذا جعلت الكلب بالفِناء، كان خارجاً من الكهف، وإِن جعلته بعتبة الباب، أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهفُ وإِن لم يكن له باب وعتبة، فانما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت، فاستُعير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو اطَّلعتَ عليهم‏}‏ ‏[‏وقرأ الأعمش، وأبو حصين‏:‏ «لوُ اطلعت» بضم الواو‏]‏ ‏{‏لوليَّتَ منهم فراراً‏}‏ رهبة لهم ‏{‏ولملئت‏}‏ قرأ عاصم، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «ولَمُلِئْتَ» خفيفة مهموزة‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع‏:‏ «ولَمُلِّئْتَ» مشددة مهموزة، ‏{‏رُعْباً‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ فزعاً وخوفاً، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل إِليهم أحد‏.‏ وقيل‏:‏ إِنهم طالت شعورهم وأظفارهم جداً، فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوباً، حكاه الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ أي‏:‏ وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة ‏{‏ليتساءلوا‏}‏ أي‏:‏ ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبِرين بحالهم‏.‏ ‏{‏قال قائل منهم كم لبثتم‏}‏ أي‏:‏ كم مَرَّ علينا منذ دخلنا هذا الكهف‏؟‏ ‏{‏قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ وذلك أنهم دخلوا غُدوةً، وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏يوماً‏}‏، فلما رأوا الشمس قالوا‏:‏ «أو بعض يوم» ‏{‏قالوا ربُّكم أعلم بما لبثتم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ القائل لهذا يمليخا رئيسهم، ردَّ عِلْم ذلك إِلى الله تعالى‏.‏ وقال في رواية أخرى‏:‏ إِنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدَّثتْهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما قالوا ذلك، لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما قال‏:‏ «أحدَكم»، ولم يقل‏:‏ واحدَكم، لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظَّم، فان العرب تقول‏:‏ رأيت أحد القوم، ولا يقولون‏:‏ رأيت واحد القوم، إِلا إِذا أرادوا المعظَّم، فأراد بأحدهم‏:‏ بعضَهم، ولم يُرِد شريفهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِوَرِقِكُمْ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «بِوَرِقِكُم» الراء مكسورة خفيفة‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء‏.‏ وعن أبي عمرو‏:‏ «بورقكم» مدغمة يُشِمُّها شيئاً من التثقيل؛ قال الزجاج‏:‏ تصير كافاً خالصة‏.‏ قال الفراء‏:‏ الوَرِق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون‏:‏ الوَرْق، وبعض العرب يكسرون الواو، فيقولون‏:‏ الوِرْق‏.‏ قال ابن قتيبة‏.‏ الوَرِق‏:‏ الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عَرْفَجَة أنه اتخذ أنفاً من وَرِق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلى المدينة‏}‏ يعنون التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال‏:‏ هي اليوم طرسوس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليَنْظُر أيُّها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أيُّ أهلها ‏{‏أزكى طعاماً‏}‏ وللمفسرين في معناه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أَحَلُّ ذبيحة؛ قاله ابن عباس، وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفاراً، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يُخفون إِيمانهم‏.‏

والثاني‏:‏ أَحَلُّ طعاماً، قاله سعيد بن جبير؛ قال الضحاك‏:‏ وكانت أكثر أموالهم غصوباً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قالوا لصاحبهم لا تبتعْ طعاماً فيه ظلم ولا غصب‏.‏

والثالث‏:‏ أكثر، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ خير، أي‏:‏ أجود، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أطيب، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ أرخص، قاله يمان بن رياب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصل الزكاء‏:‏ النماء والزيادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليأتكم برزق منه‏}‏ أي‏:‏ بما تأكلونه‏.‏ ‏{‏ولْيتلطف‏}‏ أي‏:‏ ليدقِّق النظر فيه، وليحتلْ لئلا يُطَّلَع عليه‏.‏ ‏{‏ولا يُشْعِرَنَّ بِكُم‏}‏ أي‏:‏ ولا يُخْبِرَنَّ أحداً بمكانكم‏.‏ ‏{‏إِنهم إِن يظهروا‏}‏ أي‏:‏ يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم، ‏{‏يرجموكم‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يقتلوكم، قاله ابن عباس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقتلوكم بالرجم‏.‏

والثاني‏:‏ يرجموكم بأيديهم، استنكاراً لكم، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ بألسنتهم شتماً لكم، قاله مجاهد، وابن جريج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يُعيدوكم في مِلَّتهم‏}‏ أي‏:‏ يردُّوكم في دينهم، ‏{‏ولن تُفلحوا إِذاً أبداً‏}‏ أي‏:‏ إِن رجعتم في دينهم، لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أعثرنا عليهم‏}‏ أي‏:‏ وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا عليهم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصل هذا أن من عَثَر بشيء وهو غافل، نظر إِليه حتى يعرفه، فاستعير العِثار مكان التبيين والظهور، ومنه قول الناس‏:‏ ما عثرت على فلان بسوءٍ قط، أي‏:‏ ما ظهرت على ذلك منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليعلموا‏}‏ في المشار إِليهم بهذا العلم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث، فبعث الله أهل الكهف ليعلموا ‏{‏أن وعد الله‏}‏ بالبعث والجزاء ‏{‏حَقٌّ‏}‏ وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليرَوْا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ يتنازعون‏}‏ يعني‏:‏ أهل ذلك الزمان‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ إِذ كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ إِذ تنازعوا‏.‏

وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم تنازعوا في البنيان، والمسجد‏.‏ فقال المسلمون‏:‏ نبني عليهم مسجداً، لأنهم على ديننا؛ وقال المشركون‏:‏ نبني عليهم بنياناً، لأنهم من أهل سُنَّتنا، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون‏:‏ تُبعث الأجساد والأرواح، وقال بعضهم‏:‏ تُبعث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم تنازعوا في قدْر مكثهم‏.‏

والخامس‏:‏ تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ابنوا عليهم بنياناً‏}‏ أي‏:‏ استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان‏.‏ وفي القائلين لَهذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الذين غَلَبوا على أمرهم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يعني المُطاعين والرؤساء، قال المفسرون‏:‏ وهم الملك وأصحابه المؤمنون اتخذوا عليهم مسجداً‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ بنى عليهم الملك بِيعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثةُ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «ثلاثة» مرفوع بخبر الابتداء، المعنى‏:‏ سيقول الذين تنازعوا في أمرهم ‏[‏هم‏]‏ ثلاثةٌ‏.‏ وفي هؤلاء القائلين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِدَّة أهل الكهف، فقالت الملكيَّة‏:‏ هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية‏:‏ هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية‏:‏ هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجماً بالغيب‏}‏ أي‏:‏ ظنّاً غير يقين، قال زهير‏:‏

ومَا الحَرْبُ إِلاَّ ما علمْتُمْ وَذُقْتُمُ *** ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ

فأما دخول الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وثامنهم كلبهم‏}‏ ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل، وإِنما حذفت تخفيفاً، ذكره أبو نصر في شرح «اللمع»‏.‏

والثالث‏:‏ أن دخولها يدل على انقطاع القصة، وأن الكلام قد تمَّ، ذكره الزجاج أيضاً، وهو قول مقاتل بن سليمان، فإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها، واستئناف ما بعدها؛ قال الثعلبي‏:‏ فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون سبعة‏}‏، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم‏.‏ وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى‏:‏ هم سبعة، فحقَّق الله قول المسلمين‏.‏

والرابع‏:‏ أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون‏:‏ ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد عندهم سبعة، كقوله‏:‏ ‏{‏التائبون العابدون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى أن قال في الصفة الثامنة‏:‏ ‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏، وقوله في صفة الجنة‏:‏ ‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وفي صفة النار‏:‏ ‏{‏فتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إِسحاق الثعلبي‏.‏

وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ثمانية، قاله ابن جريج، وابن إِسحاق‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ وقيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏وثامنهم كلبهم‏}‏‏:‏ صاحب كلبهم، كما يقال‏:‏ السخاء حاتم، والشِّعر زهير، أي‏:‏ السخاء سخاء حاتم، والشِّعر شِعر زهير‏.‏ وأما أسماؤهم، فقال هُشَيْم‏:‏ مكسلمينا، ويمليخا، وطَرينوس، وسَدينوس، وسَرينوس، ونَواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أُطل به‏.‏

واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان لراع مَرّوا به فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم مَرّوا بكلب فتبعهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مراراً، فقال لهم الكلب‏:‏ ما تريدون مني‏؟‏‏!‏ لا تخشوا جانبي أنا أُحِبُّ أَحِبَّاءَ الله، فناموا حتى أحرسَكم، قاله كعب الأحبار‏.‏

وفي اسم كلبهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ قطمور، قاله عبد الله بن كثير‏.‏

والرابع‏:‏ حُمران، قاله شعيب الجبائي‏.‏ وفي صفته ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أحمر، حكاه الثوري‏.‏

والثاني‏:‏ أصفر، حكاه ابن إِسحاق‏.‏

والثالث‏:‏ أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ربّي أعلمُ بعدَّتهم‏}‏ حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأسكنها الباقون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يعلمهم إِلا قليل‏}‏ أي‏:‏ ما يعلم عددهم إِلا قليل من الناس‏.‏ قال عطاء‏:‏ يعني بالقليل‏:‏ أهل الكتاب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أنا من ذلك القليل، هم سبعة، إِن الله عدَّهم حتى انتهى إِلى السبعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تُمارِ فيهم إِلا مراءً ظاهراً‏}‏ قال ابن عباس، وقتادة‏:‏ لا تُمارِ أحداً، حسبك ما قصصتُ عليكَ من أمرهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لا تُمارِ في عِدَّتهم إِلا مراءً ظاهراً أن تقول لهم‏:‏ ليس كما تقولون، ليس كما تعلمون‏.‏ وقيل‏:‏ «إِلا مراءً ظاهراً» بحجة واضحة، حكاه الماوردي‏.‏ والمراء في اللغة‏:‏ الجدال؛ يقال‏:‏ مارى يُماري مُماراة ومِراءً، أي‏:‏ جادَل‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا تجادل إِلا جدال متيقِّنٍ عالِم بحقيقة الخبر، إِذ الله تعالى ألقى إِليك مالا يشوبه باطل‏.‏ وتفسير المراء في اللغة‏:‏ استخراج غضب المجادل، من قولهم‏:‏ مَرَيْتُ الشاة‏:‏ إِذا استخرجت لبنها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تستفت فيهم‏}‏ أي‏:‏ في أصحاب الكهف، ‏{‏منهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ من أهل الكتاب‏.‏ قال الفراء‏:‏ أتاه فريقان من النصارى، نسطوري، ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم، فنُهي عن ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولَنَّ لشيء إِني فاعل ذلك غداً إِلا أن يشاء الله‏}‏ سبب نزولها أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الرُّوح، وعن أصحاب الكهف، فقال‏:‏ غداً أخبركم بذلك، ولم يقل‏:‏ إِن شاء الله، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لتركه الاستثناء، فشقَّ ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ ولا تقولن لشيء‏:‏ إِني فاعل ذلك غداً، إِلا أن تقول‏:‏ إِن شاء الله، فحذف القول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر ربَّكَ إِذا نسيتَ‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ واذكر ربَّكَ بعد تقضِّي النسيان، كما تقول‏:‏ اذكر لعبد الله إِذا صلّى حاجتك، أي‏:‏ بعد انقضاء الصلاة‏.‏

وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ إِذا نسيتَ الاستثناء ثم ذكرتَ، فقل‏:‏ إِن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى «إِذا نسيتَ»‏:‏ إِذا غضبتَ، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري‏:‏ وليس ببعيد، لأن الغضب يُنتج النسيان‏.‏

والثالث‏:‏ إِذا نسيتَ الشيء فاذكر الله ليذكِّرك إِياه، حكاه الماوردي‏.‏

فصل

وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى‏:‏ ‏{‏ستجدني إِن شاء الله صابراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 70‏]‏، ولم يصبر، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه‏.‏ ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إِذا قال‏:‏ أنتِ طالق إِن شاء الله، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا يقع شيء من ذلك‏.‏ وأما اليمين بالله تعالى؛ فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع، وإِذا علَّق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة‏.‏

وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولاً بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد ابن جبير، وأبو العالية‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول‏:‏ إِن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال، إِلا أن يكون الاستثناء موصولاً بيمينه، ومن قال‏:‏ له ثُنْياه ولو بعد سنة، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاسثتناء دون الكفَّارة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل عسى أن يهديَني ربِّي‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو‏:‏ «يهديَني ربِّي» بياء في الوصل ‏[‏دون‏]‏ الوقف‏.‏ وقرأ ابن كثير بياء في الحالين‏.‏ وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين‏.‏

وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عسى أن يعطيني ربِّي من الآيات والدلالات على النبوَّه ما يكون أقرب في الرّشد وأدلَّ من قصّة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من عِلْم غيوب المرسَلين ما هو أوضح في الحُجَّة وأقرب إِلى الرَّشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن قريشاً لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال‏:‏ «غداً أُخبركم» كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏وقل عسى أن يهديني ربي‏}‏ أي‏:‏ عسى أن يعرِّفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حدَّدتُه لكم، ويعجِّل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ سنين‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ «ثلاثمائةٍ سنين» منوَّناً‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «ثلاثمائةِ سنين» مضافاً غير منوَّن‏.‏ قال أبو علي‏:‏ العدد المضاف إِلى الآحاد قد جاء مضافاً إِلى الجميع، قال الشاعر‏:‏

ومَا زَوَّدُوني غير سَحْقِ عِمامةٍ *** وَخَمْسِمِئ منها قَسِيٌّ وزائفُ

وفي هذا الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم، قاله ابن عباس، واستدل عليه فقال‏:‏ لو كانوا لبثوا ذلك، لما قال‏:‏ ‏{‏الله أعلم بما لبثوا‏}‏، وكذلك قال قتادة، وهذا قول أهل الكتاب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد؛ والمعنى‏:‏ لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إِلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنين‏}‏ قال الفراء، وأبو عبيدة، والكسائي، والزجاج‏:‏ التقدير‏:‏ سنين ثلاثمائة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ أنها لم تكن شهوراً ولا أيّاماً، وإِنما كانت سنين‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ «سنين» بدل من قوله‏:‏ «ثلاثمائة»‏.‏ قال الضحاك‏:‏ نزلت‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ‏}‏ فقالوا‏:‏ أياماً، أو شهوراً، أو سنين‏؟‏ فنزلت‏:‏ «سنين» فلذلك قال‏:‏ «سنين»، ولم يقل‏:‏ سنة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وازدادوا تسعاً‏}‏ يعني‏:‏ تسع سنين، فاستغنى عن ذِكْر السنين بما تقدَّم من ذِكْرها‏.‏ ثم أعلمَ أنه أعلمُ بقدْر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ قالت نصارى نجران‏:‏ أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا عِلْم لنا بها، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ وقيل‏:‏ إِن أهل الكتاب قالوا‏:‏ إِن للفتية منذ دخلوا الكهف إِلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك، وقال‏:‏ «قل الله أعلم بما لبثوا» بعد أن قبض أرواحهم إِلى يومكم هذا، لا يعلم ذلك غيرُ الله‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما زاد التسع، لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَبصِرْ به وأَسمِعْ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه على مذهب التعجب، فالمعنى‏:‏ ما أسمع الله به وأبصر، أي‏:‏ هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إِجماع العلماء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه في معنى الأمر، فالمعنى‏:‏ أَبصِر بِدِين الله وأَسمِع، أي‏:‏ بصّر بهدى الله وسمِّع، فترجع الهاء إِما على الهدى، وإِما على الله عز وجل، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم من دونه‏}‏ أي‏:‏ ليس لأهل السموات والأرض من دون الله من ناصر، ‏{‏ولا يُشرِك في حكمه أحداً‏}‏ ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون شريكاً لله عز وجل في حكمه‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «ولا تُشرِكْ» جزماً بالتاء، والمعنى‏:‏ لا تشرك أيها الإِنسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل ما أُوحي إِليك‏}‏ في هذه التلاوة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى القراءة‏.‏

والثاني‏:‏ بمعنى الاتِّباع‏.‏ فيكون المعنى على الأول‏:‏ اقرأ القرآن، وعلى الثاني‏:‏ اتَّبِعْه واعمل به‏.‏ وقد شرحنا في ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ معنى ‏{‏لا مبدِّل لكلماته‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تجد من دونه ملتحداً‏}‏ قال مجاهد، والفراء‏:‏ مَلجَأً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مَعْدِلاً عن أمره ونهيه‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ موضعاً تميل إِليه في الالتجاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نفسك‏}‏ سبب نزولها ‏"‏ أن المؤلَّفة قلوبُهم جاؤوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ لو أنك جلست في صدر المجلس، ونحَّيت هؤلاء عنّا، يعنون سلمانَ وأبا ذَرٍّ وفقراءَ المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف جلسنا إِليك، وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إِلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنا أعتدنا للظالمين ناراً‏}‏، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم، حتى إِذا أصابهم في مؤخَّر المسجد يذكرون الله، قال‏:‏ «الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمَّتي، معكم المحيا ومعكم الممات» ‏"‏ هذا قول سلمان الفارسي‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم‏}‏ أي‏:‏ احبسها معهم على أداء الصلوات ‏{‏بالغداة والعشي‏}‏‏.‏ وقد فسرنا هذه الآية في ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعد عيناك عنهم‏}‏ أي‏:‏ لا تصرف بصرك إِلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف؛ وكان عليه السلام حريصاً على إِيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قطُّ، فأُمر أن يجعل إِقباله على فقراء المؤمنين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُطِع من أغفلنا قلبه عن ذِكْرنا‏}‏ سبب نزولها أن أُمية بن خلف الجمحي، دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِلى طرد الفقراء عنه، وتقريبِ صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏:‏ هو عيينة وأشباهه‏.‏ ومعنى «أغفلنا قلبه»‏:‏ جعلناه غافلاً‏.‏ وقرأ أبو مجلز‏:‏ «من أغفلَنا» بفتح اللام، ورفع باء القلب‏.‏ «عن ذِكْرنا»‏:‏ عن التوحيد والقرآن والإِسلام، ‏{‏واتبع هواه‏}‏ في الشّرك‏.‏ ‏{‏وكان أمره فُرُطاً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أفرط في قوله، لأنه قال‏:‏ إِنّا رؤوس مضر، وإِن نُسلِم يُسلم الناس بعدنا، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ضيَاعاً، قاله مجاهد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ سَرَفاً وتضييعاً‏.‏

والثالث‏:‏ نَدَماً، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة‏.‏

والرابع‏:‏ كان أمره التفريط، والتفريط‏:‏ تقديم العجز، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل الحقِ مِنْ ربِّكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وقل الذي أتيتكم به، الحقُّ من ربِّكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وعيد وإِنذار، وليس بأمر، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن معناه‏:‏ لا تنفعون الله بإيمانكم، ولا تضرُونه بكفركم، قاله الماوردي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا إِظهار للغنى، لا إِطلاق في الكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا أعتدنا‏}‏ أي‏:‏ هيَّأنا، وأعددنا، وقد شرحناه في قوله‏:‏ ‏{‏وأعتدتْ لهن متَّكأً‏}‏ ‏[‏يوسف 31‏]‏‏.‏ فأما الظالمون، فقال المفسرون‏:‏ هم الكافرون‏.‏ وأما السُّرادِق، فقال الزجاج‏:‏ السُّرادِق‏:‏ كلُّ ما أحاط بشيء، نحو الشُّقَّة في المِضْرَب، أو الحائط المشتمل على الشيء‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ السُّرادِق‏:‏ الحُجرة التي تكون حول الفسطاط‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ السُّرادق فارسي معرَّب، وأصله بالفارسية سَرَادَارْ، وهو الدِّهليز، قال الفرزدق‏:‏

تَمَنَّيْتَهُمْ حتى إِذا ما لَقِيتَهم *** تَركتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرَادِقا

وفي المراد بهذا السُّرادق قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه سُرادق من نار، قاله ابن عباس‏.‏ روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لِسُرادِق النار أربعةُ جُدُرٍ كُثُفٌ، كلُّ جدار منها مسيرة أربعين سنة ‏"‏ وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال‏:‏ السرادق‏:‏ لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظِّل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في ‏[‏المرسلات‏:‏ 30‏]‏، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن يستغيثوا‏}‏ أي‏:‏ مما هم فيه من العذاب وشدة العطش ‏{‏يُغاثوا بماءٍ كالمُهل‏}‏ وفيه سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ماءٌ غليظٌ كدُرْدِيِّ الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود‏.‏ وقال أبو عبيدة، والزجّاج‏:‏ كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهول مُهل‏.‏

والثالث‏:‏ قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضاً‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الذي انتهى حَرُّه، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والسادس‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ الصَّديد، ذكره ابن الأنباري‏.‏ قال مُغيث بن سُمي‏:‏ هذا الماء هو ما يسيل من عَرَق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إِلى وادٍ في جهنم، فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يُغاث به أهل النار‏.‏

والسابع‏:‏ أنه الرماد الذي يُنفض عن الخُبزة إِذا خرجت من التَّنُّور، حكاه ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشوي الوجوه‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إِذا قرَّبه إِليه سقطت فروة وجهه فيه‏.‏ ثم ذمَّه، فقال‏:‏ ‏{‏بئس الشراب وساءت‏}‏ النار ‏{‏مُرْتَفَقاً‏}‏ وفيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ منزلاً، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ مجتمعاً، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ متَّكأً، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب‏:‏

إِني أرِقْت فبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقاً *** كأنَّ عَيْنِيَ فِيها الصَّابُ مَذْبُوحُ

وذبحه‏:‏ انفجاره؛ قال الزجاج‏:‏ «مرتفقاً» منصوب على التمييز؛ ومعنى مرتفقاً‏:‏ متَّكأً على المِرفق‏.‏

والرابع‏:‏ ساءت مجلساً؛ قاله ابن قتيبة‏.‏

والخامس‏:‏ ساءت مطلباً للرفق، لأن من طلب رِفقاً من جهتها، عَدِمه، ذكره ابن الأنباري‏.‏ ومعاني هذه الأقوال تتقارب‏.‏ وأصل المِرفق في اللغة‏:‏ ما يُرتَفق به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ قال الزجاج‏:‏ خبر «إِن» هاهنا على ثلاثة أوجه‏.‏ أحدها‏:‏ أن يكون على إِضمار‏:‏ ‏{‏إِنا لا نُضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ منهم، ولم يحتج إِلى ذكر «منهم» لأن الله تعالى قد أعلَمنا أنه محبطٌ عملَ غير المؤمنين‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون خبر «إِن»‏:‏ ‏{‏أولئك لهم جنات عدن‏}‏، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏إِنا لا نُضيع‏}‏ قد فصل به بين الاسم وخبره، لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول، لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون الخبر‏:‏ ‏{‏إِنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏، بمعنى‏:‏ إِنّا لا نُضيع أجرهم‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى ‏{‏لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ أي‏:‏ لا نترك أعماله تذهب ضَياعاً، بل نُجازيه عليها بالثواب‏.‏

فأما الأَساور، فقال الفراء‏:‏ في الواحد منها ثلاث لغات‏:‏ إِسوار، وسِوار، وسُوار؛ فمن قال‏:‏ إِسوار، جمعَه أساور، ومن قال‏:‏ سِوار أو سُوار، جمعَه أسْوِرة، وقد يجوز أن يكون واحد أَساورة وأَساور‏:‏ سِوار؛ وقال الزجاج‏:‏ الأَساور جمع أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع سِوَار، يقال‏:‏ سِوار اليد، بالكسر، وقد حكي‏:‏ سُوار‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما كانت الملوك تلبَس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس، جعل الله ذلك لأهل الجنة‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ يُحلَّى كلُّ واحد منهم بثلاثة من الأساور، واحدٍ من فضة، وواحدٍ من ذهب، وواحدٍ من لؤلؤ ويواقيت‏.‏

فأما «السُّنْدُسُ» و«الإِستبرق»، فقال ابن قتيبة‏:‏ السُّندس‏:‏ رقيق الديباج، والإِستبرق ثخينه‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ السندس‏:‏ رقيق الديباج، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرَّب، قال الراجز‏:‏

وليلة من الليالي حِندِسِ *** لون حواشيها كلون السندس

والاستبرق‏:‏ غليظ الديباج، فارسي معرَّب، وأصله إِسْتفْرَهْ‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ إِستَرْوَهْ، ونقل من العجمية إِلى العربية، فلوا حُقِّر «إِستبرق»، أو كُسِّر، لكان في التحقير «أُبَيْرِق»، وفي التكسير «أبارق» بحذف السين، والتاء جميعاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏متكئين فيها‏}‏ الاتّكاء‏:‏ التحامل على الشيء‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ والأرائك‏:‏ الفُرُش في الحِجَال، ولا تكون الأريكة إِلا بحَجَلة وسرير، وقال ابن قتيبة‏:‏ الأرائك‏:‏ السُّرُر في الحِجال، واحدها‏:‏ أريكة‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ لا تكون الأريكة إِلا سريراً في قُبَّة عليه شَواره ومتاعه؛ قال ابن قتيبة‏:‏ الشَّوار، مفتوح الشين، وهو متاع البيت‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأرائك‏:‏ الفُرُش في الحِجال‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ إِنها الفُرُش، وقيل‏:‏ الأسِرَّة، وهي على الحقيقة‏:‏ الفُرُش كانت في حِجال لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 36‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مَثَلاً رجلين‏}‏ روى عطاء عن ابن عباس، قال‏:‏ هما ابنا ملك كان في بني إِسرائيل توفِّي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجِنان والقصور، وكان الآخر زاهداً في الدنيا، فكان إِذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدَّمه لآخرته، حتى نَفِد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن المسلم لما احتاج، تعرَّض لأخيه الكافر، فقال الكافر‏:‏ أين ما ورثتَ عن أبيك‏؟‏ فقال‏:‏ أنفقتُه في سبيل الله، فقال الكافر‏:‏ لكني ابتَعت به جِناناً وغنماً وبقراً، والله لا أعطيتك شيئاً أبداً حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلِم فأدخله جِنانه يطوف به فيها، ويرغِّبه في دينه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ اسم المؤمن يمليخا، واسم الكافر قرطس، وقيل‏:‏ قطرس، وقيل‏:‏ هذا المَثَل ‏[‏ضُرِبَ‏]‏ لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحففناهما بنخل‏}‏ الحَفّ‏:‏ الإِحاطة بالشيء، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏حافِّين من حول العرش‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ جعلنا النخل مُطِيفاً بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا بينهما زرعاً‏}‏ إِعلام أن عمارتهما كاملة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كِلتا الجنتين آتت أُكُلَها‏}‏ قال الفراء‏:‏ لم يقل‏:‏ آتتا، لأن «كلتا» ثنتان لا تُفرد واحدتُهما، وأصله‏:‏ «كُلٌّ»، كما تقول للثلاثة‏:‏ «كُلٌّ»، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب «كُلّ»، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في «كلتا»، وكذلك فافعل ب «كلا» و«كلتا» و«كُلّ»، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن، فوحِّد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكُلُّهم آتيه يوم القيامة فرداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 96‏]‏، ومن الجمع‏:‏ ‏{‏وكُلٌّ أَتَوه داخرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏، والعرب قد تفعل ذلك أيضاً في «أي» فيؤنّثون ويذكِّرون، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏، ويجوز في الكلام «بأيت أرض»، وكذلك ‏{‏في أيِّ صورة ما شاء ركبَّك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 8‏]‏، ويجوز في الكلام «في أيَّت»، قال الشاعر‏:‏

بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ *** تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب

قال ابن الأنباري‏:‏ «كلتا» وإِن كان واقعاً في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به؛ ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول‏:‏ «كلتا الجنتين آتت أُكُلَها»، ويقول آخرون‏:‏ «كلتا الجنتين آتى أُكُلَه»، لأن «كلتا» تفيد معنى «كُلّ»، قال الشاعر‏:‏

وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي *** فلا الموت أهواه ولا العيش أروح

يعني‏:‏ وكلُّهما قد خط لي، وقد قالت العرب‏:‏ كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون‏.‏ فوحَّدوا لِلَفظ «كُلّ» وجمعوا لتأويلها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لم يقل «آتتا»، لأن لفظ «كلتا» لفظ واحدة، والمعنى‏:‏ كل واحدة منهما آتت أكلها ‏{‏ولم تظلم‏}‏ أي‏:‏ لم تنقص ‏{‏منه شيئاً وفجرنا خلالهما نَهَراً‏}‏ فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب‏.‏

وقال الفراء‏:‏ إِنما قال‏:‏ «فجَّرنا» بالتشديد، وهو نَهَر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجُّر فيه كلِّه‏.‏ قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ «وفَجَرْنا» بالتخفيف‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل‏:‏ «خلِلهما»‏.‏ وقرأ أبو العالية، وأبو عمران‏:‏ «نهْراً» بسكون الهاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان له‏}‏ يعني‏:‏ للأخ الكافر ‏{‏ثَمَر‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «وكان له ثُمُر»، «وأُحيط بثُمُره» بضمتين‏.‏ وقرأ عاصم‏:‏ «وكان له ثَمَر»، «وأُحيط بثَمَره» بفتح التاء والميم فيهما‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «ثُمْر» و«بثُمْره» بضمة واحدة وسكون الميم‏.‏ قال الفراء‏:‏ الثَّمَر، بفتح الثاء والميم‏:‏ المأكول، وبضمها‏:‏ المال‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الثَّمر، بالفتح‏:‏ الجمع الأول، والثُّمُر، بالضم‏:‏ جمع الثَّمَر، يقال‏:‏ ثَمَر، وثُمُر، كما يقال‏:‏ أسَد، وأُسُد، ويصلح أن يكون الثُّمُر جمع الثِّمار، كما يقال‏:‏ حِمار وحُمُر، وكِتاب وكُتُب؛ فمن ضَمَّ، قال‏:‏ الثُّمُر أعم، لأنها تحتمل الثمار المأكولة، والأموال المجموعة‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ وقراءة أبي عمرو‏:‏ «ثُمُر» يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب، وكُتُب، فتخفف، فيقال‏:‏ كُتْب، ويجوز أن يكون «ثُمْر» جمع ثَمَرة، كبَدَنة وبُدْن، وخَشَبة، وخُشْب‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ثُمُر‏}‏ واحداً، كعُنُق، وطُنُب‏.‏

وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذهب، والفضة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه جمع ثمرة، قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ ثَمَرة، وثِمار، وثمر‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الفائدة في ذِكْر الثّمر بعد ذِكْر الجنَّتين، وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لم يكن أصل الأرض ملكاً له، وإِنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن ذِكْر الثّمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنّتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والثالث‏:‏ إِنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع، وذكرنا أنها الذهب، والفضّة، وذلك يخالف الثمر المأكول؛ قال أبو علي الفارسي‏:‏ من قال‏:‏ هو الذهب، والوَرِق، فإنما قيل لذلك‏:‏ ثُمُر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجَنى أشبه من الذهب والفضة‏.‏ ويقوي ذلك‏:‏ ‏{‏وأحيط بثمره فأصبح يقلِّب كفَّيه على ما أنفق فيها‏}‏، والإِنفاق من الوَرِق، لا من الشجر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال‏}‏ يعني الكافر ‏{‏لصاحبه‏}‏ المؤمن ‏{‏وهو يحاوره‏}‏ أي‏:‏ يراجعه الكلام ويجاوبه‏.‏

وفيما تحاورا فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الإِيمان والكفر‏.‏

والثاني‏:‏ طلب الدنيا، وطلب الآخرة‏.‏ فأما «النفر» فهم الجماعة، ومثلهم‏:‏ القوم والرهط، ‏[‏ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها‏.‏ وقال ابن فارس اللغوي‏]‏‏:‏ النفر‏:‏ عدة رجال من ثلاثة إِلى العشرة‏.‏

وفيمن أراد بنَفَره ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ عبيده، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ولده، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودخل جنَّته‏}‏ يعني‏:‏ الكافر ‏{‏وهو ظالم لنفسه‏}‏ بالكفر؛ وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، ‏{‏قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً‏}‏ أنكر فَناء الدنيا، وفَناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله‏:‏ ‏{‏وما أظن الساعة قائمةً‏}‏ وهذا شك ‏[‏منه‏]‏ في البعث، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولئن رُدِدْتُ إِلى ربِّي‏}‏ أي‏:‏ كما تزعُم أنت‏.‏ قال ‏[‏ابن عباس‏]‏‏:‏ يقول‏:‏ إِن كان البعث حقاً ‏{‏لأجدنَّ خيراً منها‏}‏ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «خيراً منها»، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر‏:‏ «خيراً منهما» بزيادة ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام‏.‏ قال أبو علي‏:‏ الإِفراد أولى، لأنه أقرب إِلى الجَنَّة المفردة في قوله‏:‏ ‏{‏ودخل جنته‏}‏، والتثنية لا تمتنع، لتقدم ذِكْر الجَنَّتين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُنْقَلَباً‏}‏ أي‏:‏ كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه‏.‏