فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي‏.‏ والرابع‏:‏ أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل‏:‏ و«الناس» اسم للحيوان الآدمي‏.‏ وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم‏.‏ والنوس‏:‏ الحركة‏.‏ وقيل‏:‏ سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان‏.‏

وفي المراد بالعبادة هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ التوحيد، والثاني‏:‏ الطاعة، رويا عن ابن عباس‏.‏ والخلق‏:‏ الإيجاد‏.‏ وإنما ذكر من قبلهم، لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة‏.‏ وقيل إنما ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع، ومعاقبة عاص‏.‏

وفي«لعل» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى كي، وأنشدوا في ذلك‏:‏

وقلتم لنا كفُّوا الحروب لعلنا *** نكفُّ ووثّقتم لنا كل مَوثِق

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الملا متألق

يريد‏:‏ لكي نكف، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى الترجي، ومعناها‏:‏ اعبدوا الله راجين للتقوى، ولأن تقوا أنفسكم بالعبادة-عذاب ربكم‏.‏ وهذا قول سيبويه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لعلكم تتقون الشرك، وقال الضحاك‏:‏ لعلكم تتقون النار‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لعلكم تطيعون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جعلَِ لكُم الأرْضَ فراشاً‏}‏‏.‏

إنما سميت الأرض أرضاً لسعتها، من قولهم‏:‏ أرِضت القرحة‏:‏ إذا اتسعت‏.‏ وقيل‏:‏ لانحطاطها عن السماء، وكل ما سفل‏:‏ أرض، وقيل‏:‏ لأن الناس يرضونها بأقدامهم، وسميت السماء سماء لعلوها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء، وقال ابن عباس‏:‏ البناء هاهنا بمعنى السقف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل من السماء‏}‏ يعني‏:‏ من السحاب‏.‏

‏{‏ماءً‏}‏ يعني‏:‏ المطر‏.‏

‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ يعني‏:‏ شركاء، أمثالا‏.‏ يقال‏:‏ هذا ند هذا، ونديده‏.‏ وفيما أريد بالأنداد هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الأصنام، قاله ابن زيد، والثاني‏:‏ رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏‏.‏

فيه ستة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو يخرج على قول من قال‏:‏ الخطاب لأهل الكتاب‏.‏

والثالث‏:‏ وأنتم تعلمون أنه لا ند له، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أن العلم هاهنا بمعنى العقل، قاله ابن قتبية‏.‏

والخامس‏:‏ وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه‏.‏ ذكره شيخنا علي بن عبيد الله‏.‏

والسادس‏:‏ وأنتم تعلمون أنها حجارة، سمعته من الشيخ أبي محمد بن الخشاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كنتم في ريب‏}‏

سبب نزولها أن اليهود قالوا‏:‏ هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه، فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل‏.‏ و«إن» هاهنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب، يقول الرجل لابنه‏:‏ إن كنت ابني فأطعني‏.‏ وقيل إنها هاهنا بمعنى إِذ، قال أبو زيد‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذروا ما بقي من الربى إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ السورة تهمز ولا تهمز، فمن همزها جعلها من أسأرت، يعني أفضلت لأنها قطعة من القرآن، ومن لم يهمزها جَعلها من سُورةَ البناء، أي منزلة بعد منزلة‏.‏ قال النابغة في النعمان‏:‏

أَلم تر أن الله أعطاك سُورة *** ترى كل مَلْك دونها يتذبذب

والسورة في هذا البيت‏:‏ سورة المجد، وهي مستعارة من سورة البناء‏.‏ وقال ابن الأنباريّ‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ إِنما سُميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة إِلى منزلة، مثل سورة البناء‏.‏ ومعنى‏:‏ أَعطاك سورة، أَي‏:‏ منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ويجوز أَن تكون سميت سورة لشرفها، تقول العرب‏:‏ له سورة في المجد، أي‏:‏ شرف وارتفاع، أو لأنها قطعة من القرآن من قولك‏:‏ أسأرت سُؤراً، أَي‏:‏ أبقيت بقية، وفي هاء «مثله» قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود على القرآن المنزل، قاله قتادة، والفراء ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها تعود على النبي، صلى الله عليه وسلم، فيكون التقدير‏:‏ فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي، ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم‏.‏ فعلى هذا القول‏:‏ تكون «من» لابتداء الغاية، وعلى الأول‏:‏ تكون زائدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوا شهداءكم من دون الله‏}‏

فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ استعينوا من المعونة، قاله السدي والفراء‏.‏ والثاني‏:‏ استغيثوا من الاستغاثة، وأنشدوا‏:‏

فلما التقت فرساننا ورجالهم *** دعوا يال كعب واعتزينا لعامر

وهذا قول ابن قتيبة‏:‏

وفي شهدائهم ثلاثة أقوال‏.‏

أَحدهما‏:‏ أنهم آلهتهم، قاله ابن عباس والسديّ ومقاتل والفراء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وسموا شهداء، لأنهم يشهدونهم، ويحضرونهم‏.‏ وقال غيره‏:‏ لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أعوانهم، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أَن معناه قأتوا بناس يشهدون ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ كُنتم صادقين‏}‏ أي‏:‏ في قولكم‏:‏ إِن هذا القرآن ليس من عند الله، قاله ابن عباس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان لم تفعلوا‏}‏ في هذه الآية مضمر مقدّر، يقتضي الكلام تقديمه، وهو أَنه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي، فسكتوا عن الاجابة؛ قال‏:‏ ‏{‏فان لم تفعلوا‏}‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلن تَفْعلوا‏}‏ أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون، ولم يفعلوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتّقوا النّارَ التي وقُودُها النّاسُ والحِجَارةُ أُعِدَّت للكافِرين‏}‏

والوقود‏:‏ بفتح الواو‏:‏ الحطب، وبضمها‏:‏ التوقد، كالوضوء بالفتح‏:‏ الماء، وبالضم‏:‏ المصدر، وهو‏:‏ اسم حركات المتوضئ‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة‏:‏ وُقودها، بضم الواو، والاختيار الفتح‏.‏ والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب، والحجارة، لبيان قوتها وشدتها، إِذ هي محرقة للحجارة‏.‏ وفي هذه الحجارة قولان‏.‏ أَحدهما‏:‏ أنها أصنامهم التي عبدوها، قاله الربيع بن أنس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً، إذا أحميت يعذبون بها‏.‏ ومعنى «أُعدت»‏:‏ هيئت‏.‏ وإِنما خوَّفهم بالنار إِذا لم يأتوا بمثل القرآن، لأنهم إذا كذبوه‏.‏ وعجزوا عن الإتيان بمثله‏.‏ ثبتت عليهم الحجة، وصار الخلاف عناداً، وجزاء المعاندين النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا‏}‏

البشارة‏:‏ أول خبر يرد على الإنسان، وسمي بشارة، لأنه يؤثر في بشرته، فان كان خيراً، أثر المسرة والانبساط، وإن شراً، أثر الانجماع والغم، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، وقد تستعمل في الشر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 138‏]‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعملوا الصّالحات‏}‏

يشمل كل عمل صالح، وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال‏:‏ أخلصوا الأعمال‏.‏ وعن على رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أقاموا الصلوات المفروضات‏.‏ فأما الجنات، فجمع جنَّة‏.‏ وسميت الجنة جنة، لاستتار أرضها بأشجارها، وسمي الجن جناً، لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدّرع جنة، وجن الليل‏:‏ إذا ستر، وذكر عن المفضل أن الجنة‏:‏ كل بستان فيه نخل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضاً، فهو جنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها‏}‏ أي‏:‏ من تحت شجرها لا من تحت أرضها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا الذي رُزِقْنا من قبل‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ هذا الذي طعمنا من قبل، فرزق الغداة كرزق العشيّ، روي عن ابن عباس والضحاك ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ أن ثمر الجنة إذا جُنيَ خلفه مثله، فاذا رأوا ما خلف الجنى، اشتبه عليهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏هذا الذي رزقنا من قبل‏}‏ قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُتوا به متشابهاً‏}‏

فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه متشابه في المنظر واللون، مختلف في الطعم، قاله مجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه متشابه في جودته، لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطعم، قاله قتادة وابن زيد‏.‏ فان قال قائل‏:‏ ما وجه الامتنان بمتشابهه، وكلّما تنوعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن‏؟‏‏!‏ فالجواب‏:‏ أنا إن قلنا‏:‏ إنه متشابه المنظر مختلف الطعم، كان أغرب عند الخلق وأحسن، فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة، كان نهاية في العجب‏.‏ وإن قلنا‏:‏ إنه متشابه في الجودة؛ جاز اختلافه في الألوان والطعوم‏.‏ وإن قلنا‏:‏ إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني؛ كان أطرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم فيها أزواجٌ مُطهَّرة‏}‏ أي‏:‏ في الخَلْق، فانهن لا يحضن ولا يبلن، ولا يأتين الخلاء‏.‏ وفي الخُلُق، فانهن لا يحسدن، ولايغرن، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نقية عن القذى والأذى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«مطهَّرة» أبلغ من طاهرة، لأنه للتكثير‏.‏ والخلود‏:‏ البقاء الدائم الذي لا انقطاع له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لا يَسْتَحيْي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً‏}‏

في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب مثل فاستمعوا له إِن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ ونزل قوله‏:‏ ‏{‏كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏ قالت اليهود‏:‏ وما هذا من الأمثال‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما ضرب الله المثلين المتقدمين، وهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ وقوله ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ قال المنافقون‏:‏ الله أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت هذه الآية، رواه السدي عن أشياخه‏.‏ وروي عن الحسن ومجاهد نحوه‏.‏

والحياء بالمد‏:‏ الانقباض والاحتشام، غير أن صفات الحق عز وجل لا يطلع لها على ماهية، وإنما تمر كما جاءت‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن ربكم حييّ كريم ‏"‏ وقيل‏:‏ معنى لا يستحيي‏:‏ لا يترك‏.‏ وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي‏:‏ لا يخشى‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ أي‏:‏ تستحيي منه‏.‏ فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن‏:‏ لا يستحي بياء واحدة، وهي لغة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ أن يذكر شبهاً، واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله، فينجلي غامضه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما بَعوضَة‏}‏

ما زائدة، وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين‏.‏ وأنشدوا للنابغة‏:‏

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا *** إلى حمامتنا أو نصفه فقد

وذكر أَبو جعفر الطبري أن المعنى‏:‏ ما بين بعوضة إِلى ما فوقها، ثم حذف ذكر‏:‏ «بين» و«إِلى» إِذ كان في نصب البعوضة، ودخول الفاء في «ما» الثانية؛ دلالة عليهما، كما قالت العرب‏:‏ مطرنا مازبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً يعنون‏:‏ ما بين قرنها إلى قدمها‏.‏ وقال غيره‏:‏ نصب البعوضة على البدل من المثل‏.‏

وروى الأصمعي عن نافع‏:‏ «بعوضةٌ» بالرفع، على إِضمار هو‏.‏ والبعوضة‏:‏ صفيرة البق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما فوقها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ فما فوقها في الكبر، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ فما فوقها في الصغر، فيكون معناه‏:‏ فما دونها، قاله أبو عبيدة‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وقد يكون الفوق بمعنى‏:‏ دون، وهو من الأضداد، ومثله‏:‏ الجون؛ يقال للأسود والأبيض‏.‏ والصريم‏:‏ الصبح، والليل‏.‏ والسَّدفة‏:‏ الظلمة، والضوء، والحلل‏:‏ الصغير، والكبير‏.‏ والناهل‏:‏ العطشان، والريان‏.‏ والمائل‏:‏ القائم، واللاطئ بالأرض‏.‏ والصارخ‏:‏ المغيث، والمستغيث‏.‏ والهاجد‏:‏ المصلي بالليل، والنائم‏.‏ والرهوة‏:‏ الارتفاع، والانحدار‏.‏ والتلعة‏:‏ ما ارتفع من الارض، وما انهبط من الارض‏.‏ والظن‏:‏ يقين، وشك‏.‏

والاقراء‏:‏ الحيض، والاطهار‏.‏ والمفرع في الجبل‏:‏ المصعد، والمنحدر‏.‏ والوراء‏:‏ خلفاً وقدّاماً‏.‏ وأسررت الشيء‏:‏ أخفيته، وأعلنته‏.‏ وأخفيت الشئ‏:‏ أظهرته وكتمته‏.‏ ورتوت الشيء‏:‏ شددته، وأرخيته‏.‏ وشعبت الشيء‏:‏ جمعته، وفرقته‏.‏ وبُعت الشيء بمعنى‏:‏ بعته، واشتريته‏.‏ وشريت الشيء اشتريته‏.‏ وبعته‏.‏ والحي خلوف‏:‏ غيب ومتخلفون‏.‏

واختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً‏}‏ هل هو من تمام قول الذين قالوا‏:‏ ‏{‏ماذا أراد الله بهذا مثلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ أو هو مبتدأ من كلام الله عز وجل‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه تمام الكلام الذي قبله، قاله الفراء، وابن قتيبة‏.‏ قال الفراء‏:‏ كأنهم قالوا‏:‏ ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا، ويهدي به هذا‏؟‏‏!‏ ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله‏:‏ ‏{‏وما يضل به إِلا الفاسقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏

والثاني‏:‏ أنه مبتدأ من قول الله تعالى، قاله السدي ومقاتل‏.‏

فأما الفسق؛ فهو في اللغة‏:‏ الخروج، يقال‏:‏ فسقت الرطبة‏:‏ إذا خرجت من قشرها‏.‏ فالفاسق‏:‏ الخارج عن طاعة الله إِلى معصيته‏.‏

وفي المراد بالفاسقين هاهنا، ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ المنافقون، قاله أبو العالية والسدي‏.‏ والثالث‏:‏ جميع الكفار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الّذِينَ يَنقضُون عَهْدَ الله‏}‏

هذه صفة للفاسقين، وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة‏.‏ والنقض‏:‏ ضد الإِبرام، ومعناه حل الشئ بعد عقده‏.‏ وينصرف النقض إِلى كل شئ بحسبه، فنقض البناء‏:‏ تفريق جمعه بعد إحكامه‏.‏ ونقض العهد‏:‏ الإعراض عن المقام على أحكامه‏.‏

وفي هذا العهد ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ما عهد إِلى أهل الكتاب من صفة محمد صلى الله عليه وسلم والوصية باتباعه، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما عُهد اليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره، قاله الزجاج‏.‏ ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد، فقد ثبت بخبر الصادق، فيجب الايمان به‏.‏

وفي «من» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها زائدة، والثاني‏:‏ أنها لابتداء الغاية، كأنه قال‏:‏ ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه‏.‏ وفي هاء «ميثاقه» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها ترجع الى إِلله تعالى، والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى العهد، فتقديره‏:‏ بعد إحكام التوفيق فيه‏.‏

وفي‏:‏ الذي أمر الله أن يوصل‏:‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ الرحم والقرابة، قاله ابن عباس وقتادة والسّدّي‏.‏ والثاني‏:‏ أنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قطعوه بالتكذيب، قاله الحسن‏.‏ والثالث‏:‏ الإيمان بالله، وأن لا يفرق بين أحد من رسله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، قاله مقاتل‏.‏

وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال‏.‏ أحدُها‏:‏ أنه استدعاؤهم الناس إلى الكفر، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه العمل بالمعاصي، قاله السدي، ومقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجراً إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- ليمنعوا الناس من الإسلام‏.‏

والخسران في اللغة‏:‏ النقصان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيفَ تكفُرون بالله‏}‏ في كيف قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب للمؤمنين، أي‏:‏ اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم، قاله ابن قتيبة والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ‏.‏ تقديره‏:‏ ويحكم‏:‏ كيف تكفرون بالله‏؟‏‏!‏ قال العجاج‏:‏

أطرباً وأَنت قنسريّ *** والدهر بالانسان دواريُّ

أراد‏:‏ أتطرب وأنت شيخ كبير‏؟‏‏!‏ قاله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكنتم أَمواتاً‏}‏‏.‏

قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ وقد كنتم أمواتاً‏.‏ ومثله ‏{‏أو جاؤوكم حصرت صدورهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 90‏]‏ أي‏:‏ قد حصرت‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏إِن كان قميصه قدَّ من دبر فكذبت‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏ أي‏:‏ فقد كذبت، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام‏.‏

وفي الحياتين، والموتتين أقوال‏.‏ أصحها‏:‏ أن الموتة الأولى، كونهم نطفاً وعلقاً ومضغاً، فأحياهم في الأرحام، ثم يميتهم بعد خروجهم إِلى الدنيا، ثم يُحييهم للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والفراء وثعلب، والزجاج، وابن قتيبة، وابن الأنباري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مافي الأرض جميعاً‏}‏ أي‏:‏ لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للاعتبار‏.‏

‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏، أي‏:‏ عمد إلى خلقها، والسماء‏:‏ لفظها لفظ الواحد، ومعناها، معنى الجمع، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فسواهنَّ‏}‏‏.‏

وأيهما أسبق في الخلق‏:‏ الأرض، أم السماء‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الأرض، قاله مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ السماء، قاله مقاتل‏.‏

واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها، فقال ابن عبَّاس‏:‏ بدأ بخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، وقدر فيها أقواتها في يومين‏.‏ وقال الحسن ومجاهد‏:‏ جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية، ثم خلق السماء في يومين‏.‏

والعليم‏:‏ جاء على بناء‏:‏ فعيل، للمبالغة في وصفه بكمال العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قالَ ربُّكَ للملائِكَةِ‏}‏‏.‏

كان أبو عبيدة يقول‏:‏ «إذ» ملغاة، وتقدير الكلام‏:‏ وقال ربك، وتابعه ابن قتيبة، وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إذ‏:‏ معناها‏:‏ الوقت، فكأنه قال‏:‏ ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة‏.‏

والملائكة‏:‏ من الألوك، وهي الرسالة، قال لبيد‏:‏

وغلام أرسلتْه أمه *** بألوك فبذلنا ما سأل

وواحد الملائكة‏:‏ ملك، والأصل فيه‏:‏ ملأك‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

فلست لإِنسي ولكن لملأكٍ *** تنزل من جوِّ السماء يصوب

قال أبو إِسحاق‏:‏ ومعنى ملأك‏:‏ صاحب رسالة، يقال‏:‏ مألَكة ومألُكة وملأكة، ومآلك‏:‏ جمع مألكة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أبلغ النعمان عني مألكاً *** أنه قد طال حبسي وانتظاري

وفي هؤلاء الملائكة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أُهبط إلى الأرض، ذكره أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

ونقل أنه كان في الأرض قبل آدم خلق، فأفسدوا، فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم‏.‏

واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عز وجل الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبراً، فأحب أن يطلع الملائكة عليه، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه، رواه الضحاك عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لما خلق النار خافت الملائكة، فقالوا‏:‏ ربنا لمن خلقت هذه‏؟‏ قال‏:‏ لمن عصاني، فخافوا وجود المعصية منهم، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم، فقال لهم‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه، فأخبرهم حتى قالوا‏:‏ أتجعل فيها من يفسد فيها‏؟‏ فأجابهم‏:‏ إني أعلم ما لا تعلمون‏.‏

والخامس‏:‏ أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده، ليكونوا معظمين له إن أوجده‏.‏

والسادس‏:‏ أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض، وإن كان ابتداء خلقه في السماء‏.‏

والخليفة‏:‏ هو القائم مقام غيره، يقال‏:‏ هذا خلف فلان وخليفته‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والأصل في الخليفة خليف، بغير هاء، فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف، كما قالوا‏:‏ علاَّمة ونسّابة وراوية‏.‏ وفي معنى خلافة آدم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خلف من سلف في الأرض قبله، وهذا قول ابن عباس والحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها‏}‏

فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن ظاهر الألف الاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق‏.‏ قال جرير‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح

معناه‏:‏ أنتم خير من ركب المطايا‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض‏.‏ ذكره الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم سألوا عن حال أنفسهم، فتقديره‏:‏ أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك أم لا‏؟‏

وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى، أم قاسوا على حال من قبلهم‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بتوقيف من الله تعالى، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد وابن قتيبة‏.‏ وروى السدي عن أشياخه‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ ربنا وما يكون ذلك الخليفة‏؟‏ قال‏:‏ يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْفك الدِّماءَ‏}‏

قرأ الجمهور بكسر الفاء، وضمها ابن مصرف وإبراهيم بن أبي عبلة، وهما لغتان، وروي عن طلحة وابن مقسم‏:‏ ويُسَفِّك‏:‏ بضم الياء، وفتح السين، وتشديد الفاء مع كسرها، وهي لتكثير الفعل وتكريره‏.‏ وسفكُ الدم‏:‏ صبُّه وإراقته وسفحه، وذلك مستعمل في كل مضيّع، إلا أن السفك يختص الدم، والصب والسفح والإِراقة يقال في الدم وفي غيره‏.‏

وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الصلاة، قاله ابن مسعود وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه قول‏:‏ سبحان الله، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ أنه التعظيم والحمد، قاله أبو صالح‏.‏ والرابع‏:‏ أنه الخضوع والذل، قاله محمد بن القاسم الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقدِّسُ لك‏}‏

القدس‏:‏ الطهارة، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ نتطهر لك من أعمالهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ نعظمك ونكبرك، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ نصلي لك، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏

فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أعلم عواقب الأمور، فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع، فيؤديه الابتلاء إلى المعصية كإبليس، ومن تظنون به المعصية فيطيع، قاله الزجاج‏.‏

الإشارة إلى خلق آدم عليه السلام

روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِن الله، عز وجل، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر ‏[‏والأبيض‏]‏ والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب ‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏ وقد أخرج البخاري ومسلم في»الصحيحين«من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ أنه قال‏:‏ ‏"‏ خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعاً ‏"‏ وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏ خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، ما بين العصر إلى الليل ‏"‏ قال ابن عباس‏:‏ لما نفخ فيه الروح، أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري منه في شيء إلا صار لحماً ودماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلَّم آدم الأسماء كلَّها‏}‏‏.‏

في تسمية آدم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ لأنه خلق من أديم الأرض، قاله ابن عباس وابن جبير والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه من الأدمة في اللون، قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب‏.‏

وفي الأسماء التي علَّمه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه علمه كل الأسماء، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة‏.‏ ثم فيها أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه علمه أسماء الملائكة، قاله أبو العالية‏.‏ والثاني‏:‏ أنه علَّمه أسماء الأجناس دون أنواعها، كقولك‏:‏ إِنسان وملك وجني وطائر، قاله عكرمة‏.‏ والثالث‏:‏ أنه علمه أسماء ما خلق من الأرض من الدواب والهوام والطير، قاله الكلبي ومقاتل وابن قتيبة‏.‏ والرابع‏:‏ أنه علمه أسماء ذريته، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمَّ عَرَضَهم‏}‏

يريد‏:‏ أعيان الخلق على الملائكة، قال ابن عباس‏:‏ الملائكة هاهنا‏:‏ هم الذين كانوا مع إبليس خاصة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنبئوني‏}‏‏:‏ أخبروني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كنتم صادقين‏}‏

فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ أني أجعل فيها من يفسد فيها، قاله السدي عن أشياخه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك‏}‏‏.‏

قال الزجاج‏:‏ لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو‏:‏ التنزيه لله تعالى عن كل سوء‏.‏ والعليم بمعنى‏:‏ العالم، جاء على بناء «فعيل» للمبالغة‏.‏ وفي الحكيم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى الحاكم، قاله ابن قتيبة‏.‏ والثاني‏:‏ المحكم للأشياء، قاله الخطابي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال يا آدم أنبئهم‏}‏ أي‏:‏ أخبرهم، وروي عن ابن عباس‏:‏ أنبئهم بكسر الهاء، قال أبو علي‏:‏ قراءة الجمهور على الأصل لأن أصل، هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول‏:‏ ضربهم وأبناءهم، وهذا لهم‏.‏ ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء‏.‏ والهاء والميم تعود على الملائكة‏.‏ وفي الهاء والميم من «أسمائهم» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود على المخلوقات التي عرضها، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تعود على الملائكة، قاله الربيع بن أنس‏.‏

وفي الذي أبدوه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه قولهم‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏، ذكره السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حيث مروا على جسد آدم، فقال إبليس‏:‏ إن فضل هذا عليكم ما تصنعون‏؟‏ فقالوا‏:‏ نطيع ربنا، فقال إبليس في نفسه‏:‏ لئن فضّلت عليه لأهلكنه، ولئن فضل عليَّ لأعصينه، قاله مقاتل‏.‏

وفي الذي كتموه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقاً أكرم منهم، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما أسره إبليس من الكبر والعصيان، وراه السدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد وابن جبير ومقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا‏}‏

عامة القراء على كسر التاء من الملائكة، وقرأَ أبو جعفر والأعمش بضمها في الوصل، قال الكسائي‏:‏ هي لغة أزدشنوءة‏.‏

وفي هؤلاء الملائكة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم طائفة من الملائكة، روي عن ابن عباس، والأول أصح‏.‏

والسجود في اللغة‏:‏ التواضع والخضوع، وأنشدوا‏:‏

ساجد المنخر ما يرفعه *** خاشع الطرف أصم المستمع

وفي صفة سجودهم لآدم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه على صفة سجود الصلاة، وهو الأظهر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الانحناء والميل المساوي للركوع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا إِبليس‏}‏

في هذا الاستثناء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه استثناء من الجنس، فهو على هذا القول من الملائكة، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة، ثم مسخه الله تعالى شيطاناً‏.‏ والثاني‏:‏ أنه من غير الجنس، فهو من الجن، قاله الحسن والزهري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر السماء الدنيا‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف استثني وليس من الجنس‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه أمر بالسجود معهم، فاستثني منهم، لأنه لم يسجد، وهذا كما تقول‏:‏ أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي، هذا قول الزجاج‏.‏

وفي إبليس قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ اسم أعجمي ليس بمشتق، ولذلك لا يصرف، هذا قول أبي عبيدة، والزجاج وابن الأنباري‏.‏ والثاني‏:‏ أنه مشتق من الإِبلاس، وهو‏:‏ اليأس، روي عن أبي صالح، وذكره ابن قتيبة وقال‏:‏ إِنه لم يصرف، لانه لا سمي له، فاستثقل‏.‏ قال شيخنا أبو منصور اللغوي‏:‏ والأول أصح، لأنه لو كان من الإِبلاس لصرف، أَلا ترى أنك لو سميت رجلاً‏:‏ بإِخريط وإِجفيل؛ لصرف في المعرفة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أبى‏}‏ معناه‏:‏ امتنع، ‏{‏واستكبر‏}‏ استفعل من‏:‏ الكبر، وفي ‏{‏وكان‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ صار، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها بمعنى الماضي، فمعناه‏:‏ كان في علم الله كافراً، قاله مقاتل وابن الأنباري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ زوجه‏:‏ حواء، قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل‏:‏ زوج، ويجمعونها‏:‏ الأزواج‏.‏ وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون‏:‏ زوجة، ويجمعونها‏:‏ زوجات‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فان الذي يسعى يحرّش زوجتي *** كماشٍ إِلى أسد الشرى يستبيلها

وأنشدني أبو الجراح‏:‏

يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم *** أن ليس وصل اذا انحلت عرى الذنب

وفي الجنة التي أسكنها آدم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ جنة عدن‏.‏ والثاني‏:‏ جنة الخلد‏.‏

والرغد‏:‏ الرزق الواسع الكثير، يقال‏:‏ أرغد فلان، إذا صار في خصب وسعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏

أي‏:‏ بالأكل، لا بالدُّنو منها‏.‏

وفي الشجرة ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها السنبلة، وهو قول ابن عباس، وعبد الله ابن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وقتادة، وعطية العوفي، ومحارب بن دثار، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الكرم، روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وجعدة بن هبيرة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها التين، روي عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ أنها شجرة يقال لها‏:‏ شجرة العلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أنها شجرة الكافور، نقل عن علي بن أبي طالب‏.‏

والسادس‏:‏ أنها النخلة، روي عن أبي مالك‏.‏

وقد ذكروا وجهاً سابعاً عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ هي شجرة الخلد، وإِنما الكلام على جنسها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏

قال ابن الأنباري‏:‏ الظلم‏:‏ وضع الشيء في غير موضعه، ويقال‏:‏ ظلم الرجل سقاءه اذا سقاه قبل أن يخرج زبده‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وصاحب صدق لم تربني شكاته *** ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجرُ

أراد بالصاحب‏:‏ وطب اللبن، وظلمه إِياه‏:‏ أن يسقيه قبل أن يخرج زبده‏.‏

والعرب تقول‏:‏ هو أظلم من حية، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه، ويقال‏:‏ قد ظلم الماء الوادي‏:‏ إذا وصل منه إِلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى‏.‏ فان قيل‏:‏ ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ كان لها ثقل من بين أشجار الجنة، فلما أكل منها‏:‏ قيل اخرج إلى الدار التي تصلح لما يكون منك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشَّيْطانُ عنها فأخْرَجَهُما مما كانا فيه‏}‏

أزلهما بمعنى‏:‏ استزلهما، وقرأ حمزة‏:‏ ‏{‏فأزالهما‏}‏ أراد‏:‏ نحاهما‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ لما كان معنى ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ اثبتا فيها، فثبتا؛ قابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه، ويقوي قراءته‏:‏ ‏{‏فأخرجهما‏}‏‏.‏

والشيطان‏:‏ إبليس، وأضيف الفعل اليه، لأنه السبب‏.‏ وفي هاء ‏{‏عنها‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنها تعود إلى الجنة‏.‏

والثاني‏:‏ ترجع إلى الطاعة‏.‏

والثالث‏:‏ ترجع إلى الشجرة‏.‏ فمعناه‏:‏ فأزلهما بزلة صدرت عن الشجرة‏.‏

وفي كيفية إزلاله لهما، ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه احتال حتى دخل اليهما الجنة، وكان الذي أدخله الحية، قاله ابن عباس والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وقف على باب الجنة، وناداهما، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه وسوس اليهما، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة، قاله ابن إسحاق، وفيه بعد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأجود‏:‏ أن يكون خاطبهما، لقوله‏:‏ ‏{‏وقاسمهما‏}‏‏.‏

واختلف العلماء في معصية آدم بالأكل، فقال قوم‏:‏ إنه نهي عن شجرة بعينها، فأكل من جنسها‏.‏ وقال آخرون‏:‏ تأول الكراهة في النهي دون التحريم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا اهبِطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌ ولكم في الارض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين‏}‏ الهبوط بضم الهاء‏:‏ الانحدار من علوّ، وبفتح الهاء‏:‏ المكان الذي يهبط فيه، وإلى من انصرف هذا الخطاب‏؟‏ فيه ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه انصرف إلى آدم وحواء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ إلى آدم وحواء وإبليس والحية، حكاه السدي عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ إلى آدم وإبليس، قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ إلى آدم وحواء وإبليس، قاله مقاتل‏.‏ والخامس‏:‏ إلى آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء‏.‏ والسادس‏:‏ إلى آدم وحواء فحسب، ويكون لفظ الجمع واقعاً على التثنية، كقوله ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ ذكره ابن الأنباري، وهو العلة في قول مجاهد أيضاً‏.‏

واختلف العلماء هل أهبطوا جملة أو متفرقين‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهبطوا جملة، لكنهم نزلوا في بلاد متفرقة، قاله كعب، ووهب‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس قبل آدم، وهبط آدم بالهند، وحواء بجُدَّة، وإِبليس بالأبلَّة قاله مقاتل‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أهبطت الحية بنصيبين، قال‏:‏ وأمر الله تعالى جبريل بإخراج آدم، فقبض على ناصيته وخلصه من الشجرة التي قبضت عليه، فقال‏:‏ أيها الملك ارفق بي‏.‏ قال جبريل‏:‏ إني لا أرفق بمن عصى الله، فارتعد آدم واضطرب، وذهب كلامه، وجبريل يعاتبه في معصيته، ويعدّد نعم الله عليه، قال‏:‏ وأُدخل الجنة ضحوة، وأُخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، خمسمائة عام مما يعد أهل الدنيا‏.‏

وفي العداوة المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن ذرية بعضهم أعداء لبعض، قاله مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أن إبليس عدو لآدم وحواء، وهما له عدو، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أن إبليس عدو للمؤمنين، وهم أعداؤه، قاله الزجاج‏.‏

وفي المستقر قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن المراد به القبور، حكاه السدي عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ موضع الاسقرار، قاله أبو العالية، وابن زيد، والزجاج، وابن قتيبة، وهو أصح‏.‏

والمتاع‏:‏ المنفعة‏.‏ والحين‏:‏ الزمان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِلى حين‏}‏، أي‏:‏ إلى فناء الأجل بالموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

تلقى‏:‏ بمعنى أخذ، وقبل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كأن الله تعالى أوحى إليه أن يستغفره ‏[‏ويستقبله‏]‏ بكلام من عنده، ففعل ‏[‏ذلك آدم‏]‏ فتاب عليه‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏فتلقى آدمَ‏}‏ بالنصب، ‏{‏كلماتٌ‏}‏‏:‏ بالرفع؛ على أن الكلمات هي الفاعلة‏.‏

وفي الكلمات أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا، وإِن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وعبيد بن عمير، وأبيّ بن كعب، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قال‏:‏ أي رب؛ ألم تخلقني بيدك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ألم تنفخ فيّ من روحك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ألم تسبق رحمتك إِليّ قبل غضبك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ألم تسجد لي ملائكتك، وتسكني جنتك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أي رب ‏[‏أرأيت‏]‏ إِن تبت وأصلحت، أراجعي أنت إِلى الجنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ حكاه السدي عن ابن عباس‏:‏

والثالث‏:‏ أنه قال‏:‏ اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، فأنت خير الراحمين، ‏[‏اللهم‏]‏ لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم‏.‏ رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتاب عليه‏}‏‏.‏

أصل التوبة‏:‏ الرجوع، فالتوبة من آدم‏:‏ رجوعه عن المعصية، وهي من الله تعالى‏:‏ رجوعه عليه بالرحمة، والثواب الذي كلما تكررت توبة العبد تكرر قبوله، وإنما لم تذكر حواء في التوبة، لأنه لم يجر لها ذكر، لا أن توبتها لم تقبل، وقال قوم‏:‏ إذا كان معنى فعل الاثنين واحداً؛ جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 63‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 117‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

في إعادة ذكر الهبوط وقد تقدم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أعيد لأن آدم أهبط إِهباطين، أحدهما من الجنة إلى السماء، والثاني‏:‏ من السماء إلى الأرض‏.‏ وأيهما الاهباط المذكور في هذه الآية‏؟‏ فيه قولان‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِنما كرر الهبوط توكيداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذه «إِن» التي للجزاء، ضمت إليها «ما» والأصل في اللفظ «إِن ما» مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبت على الإدغام، فاذا ضمت «ما» إلى «إِن» لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة‏.‏ وإنما تلزمه النون لأن «ما» تدخل مؤكدة، ودخلت النون مؤكدة أيضاً، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك‏:‏ والله لتفعلن، وجواب الجزاء الفاء‏.‏

وفي المراد «بالهدى» هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الرسول، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ الكتاب، حكاه بعض المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏

وقرأ يعقوب‏:‏ فلا خوفَ‏:‏ بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين‏.‏ والمعنى‏:‏ فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب، ولا هم يحزنون عند الموت‏.‏ والخوف لأمر مستقبل، والحزن لأمر ماضٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

في معنى الآية‏:‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها العلامة، فمعنى آية‏:‏ علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها، والذي بعدها، قال الشاعر‏:‏

ألا أبلغ لديك بني تميم *** بآية ما يحبون الطعاما

وقال النابغة‏:‏

توهمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع

وهذا اختيار أبي عبيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها سميت آية، لأنها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه‏.‏ قال أبو عمرو الشيباني‏:‏ يقال‏:‏ خرج القوم بآيتهم، أي‏:‏ بجماعتهم‏.‏ وأنشدوا‏:‏

خرجنا من النقبين لا حي مثلنا *** بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا

والثالث‏:‏ أنها سميت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين، وهذا كما تقول‏:‏ فلان آية من الآيات؛ أي‏:‏ عجب من العجائب‏.‏ ذكره ابن الأنباري‏.‏

وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ آيات الكتب التي تتلى‏.‏ والثاني‏:‏ معجزات الأنبياء، والثالث‏:‏ القرآن‏.‏ والرابع‏:‏ دلائل الله في مصنوعاته‏.‏ وأصحاب النار‏:‏ سكانها، سموا أصحاباً، لصحبتهم إياها بالملازمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

اسرائيل‏:‏ هو يعقوب، وهو اسم أعجمي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ومعناه‏:‏ عبد الله‏.‏ وقد لفظت به العرب على أوجه، فقالت‏:‏ إسرائل، وإسرال، وإسرائيل، وإسرائين‏.‏

قال أمية‏:‏

إنني زارد الحديد على النا *** س دروعاً سوابغ الأذيال

لا أرى من يعينني في حياتي *** غير نفسي إِلا بني إسرال

وقال أعرابي صاد ضبّاً، فأتى به أهله‏:‏

يقول أهل السوق لما جينا‏:‏ *** هذا ورب البيت إسرائينا

أراد‏:‏ هذا مما مسخ من بني إسرائيل‏.‏

والنعمة‏:‏ المنة، ومثلها؛ النعماء‏.‏ والنعمة، بفتح النون‏:‏ التنعم، وأراد بالنعمة‏:‏ النعم، فوحدها، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة بعد ذلك ظهير‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 40‏]‏ أي‏:‏ ظهراء‏.‏

وفي المراد بهذه النعمة ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ما أنعم به على آبائهم وأجدادهم إِذ أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، وأعطاهم التوراة، ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج‏.‏

وإنما منّ عليهم بما أَعطى آباءهم، لأن فخر الآباء فخر للأبناء، وعار الآباء عار على الأبناء‏.‏ والثالث‏:‏ أنها جمع نعمة على تصريف الأحوال‏.‏

والمراد من ذكرها‏:‏ شكرها، إذ من لم يشكر فما ذكر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا‏}‏

قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ أوفيت، وأهل نجد يقولون‏:‏ وفيت، بغير ألف‏.‏

قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ وفى بالعهد، وأوفى به، وأنشد‏:‏

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها

وقال ابن قتيبة‏.‏ يقال‏:‏ وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل لا غير‏.‏

وفي المراد بعهده‏:‏ أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه ما عهده إليهم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنه الإسلام، قاله أبو العالية‏.‏ والرابع‏:‏ أنه العهد المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوفِ بعهدكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أدخلكم الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإيّاي فارهبون‏}‏‏:‏ أي‏:‏ خافون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت‏}‏ يعني القرآن ‏{‏مصدقاً لما معكم‏}‏ يعني التوراة او الإنجيل، فإن القرآن يصدقهما أنهما من عند الله، ويوافقهما في صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏ولا تكونوا أول كافر به‏}‏

إنما قال‏:‏ أول كافر، لأن المتقدم الى الكفر أعظمَ من الكفر بعد ذلك، إذ المبادر لم يتأمل الحجة، وإنما بادر بالعناد، فحاله أشد‏.‏ وقيل‏:‏ ولا تكونوا أول كافر به بعد أن آمن، والخطاب لرؤساء اليهود‏.‏

وفي هائه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود إلى المنزّل، قاله ابن مسعود وابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تعود على ما معهم، لأنهم إذا كتموا وصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو معهم، فقد كفروا به، ذكره الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإِياي فاتقون‏}‏

أي‏:‏ لا تستبدلوا ‏[‏بآياتي‏]‏ ثمناً قليلاً‏.‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا‏.‏ والثاني‏:‏ بقاء رئاستهم عليهم‏.‏ والثالث‏:‏ أخذ الأجرة على تعليم الدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

تلبسوا‏:‏ بمعنى تخلطوا‏.‏ يقال‏:‏ لبست الأمر عليهم، ألبسه‏:‏ إذا عميته عليهم، وتخليطهم‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي، ولم يذكر أنه من العرب‏.‏

وفي المراد بالحق قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والسدي ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الإسلام، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏

يريد‏:‏ الصلوات الخمس، وهي هاهنا اسم جنس، والزكاة‏:‏ مأخوذة من الزكاء، وهو النماء، والزيادة‏.‏ يقال‏:‏ زكا الزرع يزكو زكاء‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معنى الزكاة في كلام العرب‏:‏ الزيادة والنماء، فسميت زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه، وتوفره، وتقيه من الآفات‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أزكى من ذاك، أي‏:‏ أزيد فضلاً منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏

أي‏:‏ صلوا مع المصلين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد محمداً صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما ذكر الركوع، لأنه ليس في صلاتهم ركوع، والخطاب لليهود‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في اليهود، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر‏:‏ اثبت على ما أنت عليه فإنه حق‏.‏ والألف في «أتأمرون» ألف الاستفهام، ومعناه التوبيخ‏.‏

وفي «البر» هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه التمسك بكتابهم، كانوا يأمرون باتباعه ولا يقومون به‏.‏ والثاني‏:‏ اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، روي القولان عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الصدقة، كانوا يأمرون بها، ويبخلون‏.‏ ذكره الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنسون‏}‏ أي تتركون‏.‏ وفي «الكتاب» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التوراة، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه القرآن، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

الأصل في الصبر‏:‏ الحبس، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع‏.‏ وسمي الصائم صابراً لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع، والمصبورة‏:‏ البهيمة تتخذ غرضاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الصبر هاهنا‏:‏ الصوم‏.‏

وفيما أمروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه أداء الفرائض، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ترك المعاصي، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ عدم الرئاسة، وهو خطاب لأهل الكتابين، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة، ويزهد في الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنها‏}‏ في المكنى عنها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الصلاة، قاله ابن عباس والحسن، ومجاهد والجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنها الكعبة والقبلة، لأنه لما ذكر الصلاة، دلت على القبلة، ذكره الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنها الاستعانة، لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏واستعينوا‏}‏ دل على الاستعانة، ذكره محمد بن القاسم النحوي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكبيرة‏}‏ قال الحسن والضحاك‏:‏ الكبيرة‏:‏ الثقيلة، مثل قوله تعالى ‏{‏كبر على المشركين ما تدعوهم اليه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ ثقل، والخشوع في اللغة‏:‏ التطامن والتواضع، وقيل‏:‏ السكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

الظن هاهنا‏:‏ بمعنى اليقين، وله وجوه قد ذكرناها في كتاب «الوجوه والنظائر»

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

يعني‏:‏ على عالمي زمانهم، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن زيد‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهو من العام الذي أريد به الخاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قال الزجاج‏:‏ كانت اليهود تزعم أَن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة، فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ ‏[‏فيه‏]‏ إضمار، تقديره‏:‏ اتقوا عذاب يوم، أو‏:‏ ما في يوم‏.‏ والمراد باليوم يوم القيامة و«تجزي» بمعنى تقضي‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ جزى الأمر عني يجزي، بغير همز، أي‏:‏ قضى عني، وأجزأني بجزئني، مهموز، أي‏:‏ كفاني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نفسٌ عن نفسٍ‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ المراد بالنفس هاهنا‏:‏ النفس الكافرة، فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُقْبَل منها شفاعة‏}‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، إلا أن قتادة فتح الياء، ونصب الشفاعة، ليكون الفعل لله تعالى‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ بالتاء، فلأنَّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث، فيلزم أن يلحق المسند أيضاً علامة التأنيث، ومن قرأ بالياء، فلأنَّ التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي، فحمل على المعنى، كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد‏.‏ وفي الآية إضمار، تقديره‏:‏ لا يقبل منها فيه شفاعة‏.‏ والشفاعة مأخوذة من الشفع الذي يخالف الوتر، وذلك أن سؤال الشفيع يشفع سؤال المشفوع له‏.‏

فأما «العدل» فهو الفداء، وسمي عدلاً، لأنه يعادل المفدى‏.‏ واختلف اللغويون‏:‏ هل «العَدل» و«العدل» بفتح العين وكسرها، يختلفان، أم لا‏؟‏ فقال الفراء‏:‏ العدل بفتح العين‏:‏ ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل بكسرها‏:‏ ما عادل الشيء من جنسه، فهو المثل، تقول‏:‏ عندي عدل غلامك، بفتح العين‏:‏ إذا أردت قيمته من غير جنسه، وعندي عدل غلامك، بكسر العين‏:‏ إذا كان غلام يعدل غلاماً‏.‏ وحكى الزجاج عن البُصريين أن العَدل والعِدل في معنى المثل، وأن المعنى واحد، سواء كان المثل من الجنس أو من غير الجنس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا هُمْ يُنْصَرون‏}‏ أي‏:‏ يمنعون من عذاب الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

تقديره‏:‏ واذكروا إذ نجيناكم، وهذه النعم على آبائهم كانت‏.‏ وفي آل فرعون ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم أهل مصر، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيدة‏.‏ والثالث‏:‏ أتباعه على دينه، قاله الزجاج‏.‏ وهل الآل والأهل بمعنى، أو يختلفان‏؟‏ فيه قولان‏:‏ وقد شرحت معنى الآل في كتاب «النظائر» وفرعون‏:‏ اسم أعجمي، وقيل‏:‏ هو لقبه‏.‏ وفي اسمه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الوليد بن مصعب، قاله الأكثرون‏.‏ والثاني‏:‏ فيطوس، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير الطبري‏.‏ والرابع‏:‏ مغيث، ذكره بعض المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسومونكم‏}‏ أي‏:‏ يولونكم‏.‏ يقال‏:‏ فلان يسومك خسفاً، أي‏:‏ يوليك ذلاً واستخفافاً‏.‏ وسوء العذاب‏:‏ شديده‏.‏ وكان الزجاج يرى أن قوله‏:‏ ‏{‏يذبحون أبناءكم‏}‏ تفسير لقوله ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏}‏، وأبى هذا بعض أهل العلم فقال‏:‏ قد فرق الله بينهما في موضع آخر، فقال‏:‏ ‏{‏يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 6‏]‏ وإنما سوء العذاب‏:‏ استخدامهم في أصعب الأعمال، وقال‏:‏ الفراء‏:‏ الموضع الذي طرحت فيه الواو، تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو، يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح، فكأنه قال‏:‏ يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستحيون نساءكم‏}‏ أي‏:‏ يستبقون نساءكم، أي‏:‏ بناتكم‏.‏ وإنما استبقوا نساءهم للاستذلال والخدمة‏.‏

وفي البلاء هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى النعمة، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو مالك، وابن قتيبة والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه النقمة، رواه السدي عن أشياخه‏.‏ فعلى هذا القول يكون «ذا» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ عائداً على سومهم سوء العذاب، وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم، وعلى القول الأول يعود على النجاة من آل فرعون‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ وكان السبب في ذبح الأبناء، أن الكهنة قالت لفرعون‏:‏ سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فقتل الأبناء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فالعجب من حمق فرعون، إن كان الكاهن عنده صادقا، فما ينفع القتل‏؟‏‏!‏ وإن كان كاذباً؛ فما معنى القتل‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

الفرق‏:‏ الفصل بين الشيئين و«بكم» بمعنى «لكم»‏.‏ وإِنما ذكر آل فرعون دونه، لأنه قد علم كونه فيهم‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏‏:‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه من نظر العين، معناه‏:‏ وأنتم ترونهم يغرقون‏.‏ والثاني‏:‏ أَنه بمعنى‏:‏ العلم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إِلى ربك كيف مد الظل‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 45‏]‏‏.‏ قاله الفراء‏.‏

الاشارة إِلى قصتهم

روى السدي عن أشياخه‏:‏ أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، وألقى على القبط الموت، فمات بكر كل رجل منهم، فأصبحوا يدفنونه، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، قال عمرو بن ميمون‏:‏ فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون، فقال‏:‏ لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، فما صاح ديك ليلتئذ‏.‏ قال أبو السليل‏:‏ لما انتهى موسى إِلى البحر قال‏:‏ هيه أبا خالد، فأخذه أفكل، يعني‏:‏ رعدة، قال مقاتل‏:‏ تفرق الماء يميناً وشمالاً كالجبلين المتقابلين، وفيهما كوىً ينظر كل سبط إلى الآخر‏.‏ قال السدي‏:‏ فلما رآه فرعون متفرقاً قال‏:‏ ألا ترون البحر فرق مني، فانفتح لي‏؟‏‏!‏ فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانة، فتشامت الحصن ريح الماذيانة، فاقتحمت في إثرها، حتى إِذا همَّ أولهم أن يخرج، ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ واعدنا موسى أربعين ليلة‏}‏‏.‏

قرأَ أبو جعفر وأبو عمرو‏:‏ «وعدنا» بغير ألف هاهنا، وفي ‏(‏الأعراف‏)‏ و‏(‏طه‏)‏ ووافقهما أبان عن عاصم في ‏(‏البقرة‏)‏ خاصة‏.‏ وقرأ الباقون «واعدنا» بألف‏.‏ ووجه القراءة الأولى‏:‏ إفراد الوعد من الله تعالى، ووجه الثانية‏:‏ أنه لما قبل موسى وعد الله عز وجل، صار ذلك مواعدة بين الله تعالى وبين موسى‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏لا تواعدوهن سراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ وعدنا موسى تتمة أربعين ليلة، أو انقضاء أربعين ليلة‏.‏ وموسى‏:‏ اسم أعجمي، أصله بالعبرانية‏:‏ موشا، فمو‏:‏ هو الماء، وشا‏:‏ هو الشجر، لأنه وجد عند الماء والشجر، فعرب بالسين‏.‏ ولماذا كان هذا الوعد‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ لأخذ التوراة‏.‏ والثاني‏:‏ للتكليم‏.‏ وفي هذه المدة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهذا قول من قال‏:‏ كان الوعد لإعطاء التوراة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ذو الحجة وعشر من المحرم، وهو قول من قال‏:‏ كان الوعد للتكليم، وإنما ذكرت الليالي دون الأيام، لأن عادة العرب التأريخ بالليالي، لأن أول الشهر ليله، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعا لليالي‏.‏ وقال أبو بكر النقاش‏:‏ إنما ذكر الليالي، لأنه أمره أن يصوم هذا الأيام ويواصلها بالليالي، فلذلك ذكر الليالي وليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون‏.‏ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون‏}‏ من بعده، أي‏:‏ من بعد انطلاقه إلى الجبل‏.‏

الإشارة إِلى اتخاذهم العجل

روى السدي عن أشياخه أنه لما انطلق موسى، واستخلف هارون، قال هارون‏:‏ يا بني إسرائيل‏!‏ إِن الغنيمة لا تحل لكم، وإِن حليّ القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة، فادفنوه، فان أحله موسى فخذوه، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه، ففعلوا‏.‏ قال السدي‏:‏ وكان جبريل قد أتى إلى موسى ليذهب به إلى ربه، فرآه السامريّ، فأنكره وقال‏:‏ إن لهذا شأناً، فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس، فقذفها في الحفيرة، فظهر العجل‏.‏ وقيل‏:‏ إِن السامريّ أمرهم بالقاء ذلك الحليّ، وقال‏:‏ إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحلي، فاحفروا لها حفيرة وقربوه إلى الله، يبعث لكم نبيكم، فإنه كان عارية، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي سبب اتخاذ السامري عجلاً قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، فكان ذلك في قلبه، قاله ابن عباس، والثاني‏:‏ أن بني إسرائيل لما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، أعجبهم ذلك، فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً وأنكر عليهم؛ أخرج السامريّ لهم في غيبته عجلاً لما رأى من استحسانهم ذلك، قاله ابن زيد‏.‏

وفي كيفية اتخاذ العجل قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن السامري كان صوّاغاً، فصاغه وألقى فيه القبضة، قاله علي وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم حفروا حفيرة، وألقوا فيها حلي قوم فرعون وعواريهم تنزهاً عنها، فألقى السامريّ القبضة من التراب، فصار عجلاً‏.‏ روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ صار لحماً ودماً وجسداً، فقال لهم السامري‏:‏ هذا إلهكم وإله موسى قد جاء، وأخطأ موسى الطريق، فعبدوه وزفنوا حوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الكتاب‏:‏ التوراة‏.‏ وفي الفرقان خمسة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه النصر، قاله ابن عباس وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل، فيكون الفرقان نعتاً للتوراة، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الكتاب، فكرره بغير اللفظ‏.‏ قال عدي بن زيد‏:‏

فألفى قولها كذباً ومينا *** وقال عنترة‏:‏

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم *** هذا قول مجاهد، واختيار الفراء والزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ أنه فرق البحر لهم، ذكره الفراء والزجاج وابن القاسم‏.‏

والخامس‏:‏ أنه القرآن ومعنى الكلام‏:‏ لقد آتينا موسى الكتاب، ومحمداً الفرقان، ذكره الفراء، وهو قول قطرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

القوم‏:‏ اسم للرجال دون النساء، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسخر قوم من قوم عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ولا نساء من نساء‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ وقال زهير‏:‏

وما أدري وسوف إِخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء‏؟‏‏!‏

وإنما سموا قوماً، لأنهم يقومون بالأمور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتوبوا إِلى بارئكم‏}‏ قال أبو علي‏:‏ كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف‏.‏ وروى اليزيدي وعبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ ‏{‏بارئْكم‏}‏ بجزم الهمزة‏.‏ روى عنه العباس بن الفضل‏:‏ «بارئكم» مهموزة غير مثقلة‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ كان أبو عمر يختلس الحركة في‏:‏ «بارئكم» و‏:‏ «يأمركم» وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات، فيرى من سمعه أنه قد أسكن ولم يسكن‏.‏

والبارئ‏:‏ الخالق ومعنى ‏{‏فاقتلوا أنفسكم‏}‏‏:‏ ليقتل بعضكم بعضاً، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه خطاب للكل، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنه خطاب للعابدين فحسب، أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وفي الإشارة بقوله‏:‏ «ذا» في‏:‏ «ذلكم» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يعود إِلى القتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يعود إِلى التوبة‏.‏

الإِشارة إِلى قصتهم في ذلك

قال ابن عباس‏:‏ قالوا لموسى‏:‏ كيف يقتل الآباء الأبناء، والإخوة الإخوة‏؟‏ فأنزل الله عليهم ظلمة لا يرى بعضهم بعضاً، فقالوا‏:‏ فما آية توبتنا‏؟‏ قال‏:‏ أن يقوم السلاح فلا يقتل، وترفع الظلمة‏.‏ فقتلوا حتى خاضوا في الدماء، وصاح الصبيان‏:‏ يا موسى‏:‏ العفو العفو‏.‏ فبكى موسى، فنزلت التوبة، وقام السلاح، وارتفعت الظلمة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ بلغ القتلى سبعين ألفاً‏.‏ قال قتادة‏:‏ جعل القتل للقتيل شهادة، وللحي توبة‏.‏