فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرَّيةً بعضها من بعض‏}‏ قال الزجاج‏:‏ نصْبُها على البدل، والمعنى‏:‏ اصطفى ذرية بعضها من بعض‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإنما قال‏:‏ بعضها، لأن لفظ الذرية مؤنث، ولو قال‏:‏ بعضهم‏:‏ ذهب إلى معنى الذرية‏.‏ وفي معنى هذه البعضية قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن بعضهم من بعض في التناصُر والدين، لا في التناسل، وهو معنى قول ابن عباس، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه في التسلسل، لأن جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، ذكره بعض أهل التفسير‏.‏ قال أبو بكر النقاش‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ذرية بعضها من بعض‏}‏ أن الأبناء ذرية للآباء، والآباء ذرية للأبناء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حملنا ذريتهم في الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فجعل الآباء ذرية للأبناء، وإنما جاز ذلك، لأن الذرية مأخوذة من‏:‏ ذرأ الله الخلق، فسمي الولد للوالد ذرية، لأنه ذرئ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب‏:‏ ذرية للابن، لأن ابنه ذرئ منه، فالفعل يتصل به من الوجهين‏.‏ ومثله ‏{‏يحبونهم كحُب الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فأضاف الحب إلى الله، والمعنى‏:‏ كحب المؤمن لله، ومثله ‏{‏ويطعمون الطعام على حبّه‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ فأضاف الحب للطعام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قالت امرأة عمران‏}‏ في «إذ» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها زائدة، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها أصلٌ في الكلام، وفيها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ اذكر إذ قالت امرأة عمران، قاله المبرّد، والأخفش‏.‏ والثاني‏:‏ أن العامل في ‏{‏إذ قالت‏}‏ معنى الاصطفاء، فيكون المعنى‏:‏ اصطفى آل عمران، إذ قالت امرأة عمران، واصطفاهم إذ قالت الملائكة‏:‏ يا مريم، هذا اختيار الزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ أنها من صلة «سميعٌ» تقديره‏:‏ والله سميعٌ إذ قالت، وهذا اختيار ابن جرير الطبري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏، واسم امرأة عمران حنة، وهي أم مريم، وهذا عمران بن ماتان، وليس ب «عمران أبي موسى» وليست هذه مريم أخت موسى‏.‏ وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة‏.‏ والمحَرّر‏:‏ العتيق‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ أعتقت الغلام، وحررته‏:‏ سواء‏.‏ وأرادت‏:‏ أي نذرت أن أجعل ما في بطني محرراً من التعبيد للدنيا، ليعبدك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبدهم، وقال ابن اسحاق‏:‏ كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت‏:‏ اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلمه القرآن، والفقه، وعلوم الدين، صح النذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏ قرأ ابن عامر، وعاصم إلا حفصاً ويعقوب ‏{‏بما وضعْتُ‏}‏ بإسكان العين، وضم التاء‏.‏ وقرأ الباقون بفتح العين، وجزم التاء، قال ابن قتيبة‏:‏ من قرأ بجزم التاء، وفتح العين، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ إني وضعتها أُنثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت، ومن قرأ بضم التاء، فهو كلام متصل من كلام أمّ مريم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ من تمام اعتذارها، ومعناه‏:‏ لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر، من خدمته المسجد، والإقامة فيه، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس‏.‏ قال السدي‏:‏ ظنت أن ما في بطنها غلام، فلما وضعت جارية، اعتذرت‏.‏ ومريم‏:‏ اسم أعجمي‏.‏ وفي الرجيم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الملعون، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه المرجوم بالحجارة، كما تقول‏:‏ قتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة، فعلى هذا سُمي‏:‏ رجيماً، لأنه يرمى بالنجوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتقبلها ربُّها بقبول حسن‏}‏ قرأ مجاهد ‏{‏فتقبَّلْها‏}‏ بسكون اللام ‏{‏ربَّها‏}‏ بنصب الباء ‏{‏وأنبتها‏}‏ بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأصل في العربية‏:‏ فتقبَّلها بتقبُّل حسن، ولكن «قبول» محمول على قبلها قبولاً يقال‏:‏ قبلت الشيء‏:‏ قَبولاً، ويجوز قُبولا‏:‏ إذا رضيته‏.‏ ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏ أي‏:‏ جعل نشوءها نشوءاً حسناً، وجاء «نباتاً» على غير لفظ أنبت، على معنى‏:‏ نبتت نباتاً حسناً‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لما كان «أنبت» يدل على «نبت» حمل الفعل على المعنى، فكأنه قال‏:‏ وأنبتها، فنبتت هي نباتاً حسناً‏.‏

قال امرؤ القيس‏:‏

فصرنا إِلى الحسنى ورقَّ كلامنا *** ورضتُ فذلَّت صعبةٌ أيَّ إِذلال

أراد‏:‏ أي رياضة، فلما دل «رضت» على «أذللت» حمله على المعنى‏.‏ وللمفسرين في معنى النبات الحسن، قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كمال النشوء، قال ابن عباس‏:‏ كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام، والثاني‏:‏ أنه ترك الخطايا‏.‏ قال قتادة‏:‏ حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب، كما يصيب بنو آدم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفَّلها‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، «وكفلها» بفتح الفاء خفيفة، و«زكرياء» مرفوع ممدود‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم‏:‏ تشديد الفاء، ونصب «زكرياء»، وكان يمد «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر‏.‏ وروى حفص عن عاصم‏:‏ تشديد الفاء و«زكريا» مقصور في كل القرآن‏.‏ وكان حمزة والكسائي يشددان و«كفلها»، ويقصران «زكريا» في كل القرآن‏.‏ فأما «زكريا» فقال الفراء‏:‏ فيه ثلاث لغات‏.‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ هذا زكريا قد جاء، مقصور، وزكرياء، ممدود، وأهل نجد يقولون‏:‏ زكري، فيجرونه، ويلقون الألف‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، عن ابن دريد، قال‏:‏ زكريا اسم أعجمي، يقال‏:‏ زكريُّ، وزكرياء ممدود، وزكريا مقصور‏.‏ وقال غيره‏:‏ وزكري بتخفيف الياء، فمن قال‏:‏ زكرياء بالمد، قال في التثنيه‏:‏ زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون، ومن قال‏:‏ زكريا بالقصر، قال في التثنيه زكريان، كما تقول‏:‏ مدنيان‏:‏ ومن قال‏:‏ زكري بتخفيف الياء، قال في التثنية‏:‏ زكريان الياء خفيفة، وفي الجمع‏:‏ زكرون بطرح الياء‏.‏

الإشارة إلى كفالة زكريا مريم

قال السدي‏:‏ انطلقت بها أمها في خرقها، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ‏:‏ أنا أحقكم بها، عندي أختها، فأبوا، وخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، فجرت الأقلام، وثبت قلم زكريا، فكفلها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا سبعة وعشرين رجلا، فقالوا‏:‏ نطرح أقلامنا، فمن صعد قلمه مغالباً للجرية فهو أحق بها، فصعد قلم زكريا، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل‏:‏ كان يغلق عليها الباب، ومعه المفتاح، لا يأمن عليه أحداً، وكانت إذا حاضت، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى، فاذا طهرت، ردها إلى بيت المقدس‏.‏

والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة، لأجل أن أمها ماتت، وكانت خالتها عنده، فلما بلغت، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة، لأجل سنة أصابتهم‏.‏ فقال محمد بن إسحاق‏:‏ كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده، فقالوا‏:‏ ونحن أيضاً كذلك، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا، فخرج السهم على جريج النجار، وكان فقيراً، وكان يأتيها باليسير، فينمي، فدخل زكريا، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ على قدر نفقة جريج‏؟‏ فمن أين هذا‏؟‏ قالت هو من عند الله‏.‏ والصحيح ما عليه الأكثرون، وأن القوم تشاحوا على كفالتها، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران، كذلك قال قتادة في آخرين، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها‏.‏ فأما المحراب، فقال أبو عبيدة‏:‏ المحراب سيد المجالس‏.‏ ومقدمها، وأشرفها، وكذلك هو من المسجد‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ المحراب هاهنا‏:‏ الغرفة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المحراب في اللغة‏:‏ الموضع العالي الشريف‏.‏

قال الشاعر‏:‏

ربَّةُ محراب إِذا جئتها *** لم ألقها أو أرتقي سلماً

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وهذا قول الجماعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنى لكِ هذا‏}‏ أي‏:‏ من أين‏؟‏ قال الربيع بن أنس‏:‏ كان زكريا إذا خرج، أغلق عليها سبعة أبواب، فإذا دخل وجد عندها رزقاً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم ترتضع ثدياً قط، وكان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول زكريا‏:‏ أنى لك هذا‏؟‏ فتقول‏:‏ هو من عند الله، فتكلمت وهي صغيرة‏.‏ وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئراً، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها‏:‏ أنى لك هذا‏؟‏ لاستكثار ما يرى عندها‏.‏ وماعليه الجمهور أصح‏.‏ والحساب في اللغة‏:‏ التقتير والتضييق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك دعا زكريا ربه‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما عاين زكريا هذه الآية العجيبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها، طمع في الولد على الكبر‏.‏ و‏{‏من لدنك‏}‏ بمعنى‏:‏ من عندك‏.‏ والذرية، تقال للجمع، وتقال للواحد، والمراد بها هاهنا‏:‏ الواحد‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما قال طيبة، لتأنيث الذرية، والمراد بالطيبة‏:‏ النقيّة الصالحة‏.‏ والسميع‏:‏ بمعنى السامع‏.‏ وقيل‏:‏ أراد مجيب الدعاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ فنادته بالتاء، وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ فناداه بألف ممالة، قال أبو علي‏:‏ هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال نسوة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس، «فناداه» بألف‏.‏ وفي الملائكة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ جبريل وحده، قال السدي، ومقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع، تقول‏:‏ ركبت في السفن، وسمعت هذا من الناس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم جماعة من الملائكة، وهو مذهب قوم، منهم ابن جرير الطبري‏.‏ وفي المحراب قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه المسجد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه قبلة المسجد‏.‏ وفي تسمية محراب الصلاة محراباً، ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لانفراد الإمام فيه، وبُعده من الناس، ومنه قولهم‏:‏ فلان حرب لفلان‏:‏ إذا كان بينهما مباغضة، وتباعد، ذكره ابن الأنباري عن أبيه، عن أحمد بن عبيد‏.‏ والثاني‏:‏ أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن، وأشرف المسجد مقام الإمام‏.‏ والثالث‏:‏ أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنَّ الله يبشِّرك بغلام‏}‏ قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى‏:‏ فنادته الملائكة بأن الله، فلما حذف الجار منها، وصل الفعل إليها، فنصبها‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، بكسر «إنَّ» فأضمر القول‏.‏ والتقدير‏:‏ فنادته‏:‏ فقالت‏:‏ إن الله يبشرك‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ يبشرك بضم الياء‏:‏ وفتح الباء، والتشديد في جميع القرآن إلا في ‏{‏حم عسق‏}‏ ‏{‏يبشر الله عباده‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏ فإنهما فتحا الياء وضما الشين، وخففاها‏.‏ فأما نافع، وابن عامر، وعاصم، فشددا كل القرآن‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «يبشر» خفيفاً في كل القرآن، إلا قوله تعالى‏:‏

‏{‏فبم تبشرون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع، في ‏{‏آل عمران‏}‏ في قصة زكرياء، وقصة مريم، وفي بني ‏(‏إسرائيل‏)‏، وفي ‏(‏الكهف‏)‏ وفي ‏(‏حم عسق‏)‏ قال الزجاج‏:‏ وفي «يبشرك» ثلاث لغات‏.‏ أحدها‏:‏ يبشرك، بفتح الباء وتشديد الشين، والثانية‏:‏ «يبشرك» باسكان الباء، وضم الشين‏.‏ والثالثة‏:‏ «يبشرك» بضم الياء وإسكان الباء، فمعنى «يبشرك» بالتشديد و«يبشرك» بضم الياء‏:‏ البشارة‏.‏ ومعنى «يبشرك» بفتح الياء‏:‏ يَسُرّك ويفرحك، يقال‏:‏ بشَرت الرجل أبشُرُه،‏:‏ إذا أفرحته، وبشر الرجل يبشَر‏:‏ إذا فرح‏.‏

وأنشد الأخفش والكسائي‏:‏

وإِذا لقيت الباهشين الى العلى *** غُبْراً أكفُّهُم بقاعٍ مُمحِل

فأعنهمُ وابشَرْ بِما بَشِروا به *** واذا هُمُ نزلوا بضنك فانزل

فهذا على بشر يبشَر‏:‏ إذا فرح‏.‏ وأصل هذا كله أن بشَرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومنه قولهم‏:‏ يلقاني ببشر‏.‏ أي‏:‏ بوجهٍ منبسط، وفي معنى تسميته «يحيى» خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ لأنه أحياه بين شيخ وعجوز، قاله مقاتل‏.‏ والرابع‏:‏ لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، قاله الزجاج‏.‏ والخامس‏:‏ لأن الله أحياه بالطاعة، فلم يعص، ولم يَهمَّ، قاله الحسن بن الفضل‏.‏

وفي «الكلمة» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها عيسى، وسمي كلمة، لأنه بالكلمة كان، وهي «كن» وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدّي، ومقاتل‏.‏ وقيل‏:‏ إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل يحيى قبل رفع عيسى‏.‏ والثاني‏:‏ أن الكلمة كتاب الله وآياته، وهو قول أبي عبيدة في آخرين‏.‏ ووجهه أن العرب تقول‏:‏ أنشدني فلان كلمة، أي‏:‏ قصيدة‏.‏ وفي معنى السيد ثمانية أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الكريم على ربه، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الحليم التقي، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك‏.‏ والثالث‏:‏ أنه الحكيم، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، وأبو الشعثاء، والربيع، ومقاتل‏.‏ والرابع‏:‏ أنه الفقيه العالم، قاله سعيد بن المسيب‏.‏ والخامس‏:‏ أنه التقي، رواه سالم عن ابن جبير‏.‏ والسادس‏:‏ أنه الحَسَن الخلق، رواه أبو روق عن الضحاك‏.‏ والسابع‏:‏ أنه الشريف، قاله ابن زيد‏.‏ والثامن‏:‏ أنه الذي يفوق قومَه في الخير، قاله الزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ السيد هاهنا الرئيس، والإمام في الخير‏.‏ فأما «الحصور» فقال ابن قتيبة‏:‏ هو الذي لا يأتي النساء، وهو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي‏:‏ محبوس عنهن، وأصل الحصر‏:‏ الحبس‏.‏ ومما جاء على «فعول» بمعنى «مفعول»‏:‏ ركوب بمعنى مركوب، وحلوب بمعنى محلوب، وهيوب بمعنى مهيب‏.‏ واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء‏؟‏ على أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه لم يكن له ما يأتي به النساء، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال ‏"‏ كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إِلا ما كان من يحيى بن زكريا» قال‏:‏ ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً، ثم قال‏:‏ وذلك أنه لم يكن له ماللرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً ‏"‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كان له كالنواة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كان لا ينزل الماء، قاله ابن عباس، والضحاك‏.‏ والثالث‏:‏ أنه كان لا يشتهي النساء، قاله الحسن، وقتادة، والسدي، والرابع‏:‏ أنه كان يمنع نفسه من شهواتها، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونبياً من الصالحين‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ من الصالحي الحال عند الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب أنى يكون لي غلام‏}‏ أي‏:‏ كيف يكون‏؟‏‏!‏‏.‏

قال الكميت‏:‏

أنى ومن أينَ آبَكَ الطرب *** قال العلماء‏:‏ منهم الحسن، وابن الأنباري، وابن كيسان‏:‏ كأنه قال‏:‏ من أي وجه يكون لي الولد‏؟‏ أيكون بازالة العقر عن زوجتي، وردّ شبابي‏؟‏ أم يأتي ونحن على حالنا‏؟‏ فكان ذلك على سبيل الاستعلام، لا على وجه الشك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ غلام بيّن الغلوميَّة، وبين الغلاميَّة، وبين الغلومة‏.‏ قال شيخنا‏:‏ أبو منصور اللغوي‏:‏ الغلام‏:‏ فعال، من الغُلمة، وهي شدة شهوة النكاح‏.‏ ويقال للكهل‏:‏ غلام‏.‏

قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** غلام إِذا هزَّ القناة سقاها

وكأن قولهم للكهل‏:‏ غلام، أي‏:‏ قد كان مرة غلاماً‏.‏ وقولهم للطفل‏:‏ غلام على معنى التفاؤل، أي‏:‏ سيصير غلاماً‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ الغلام الطار الشارب، ويقال للجارية‏:‏ غلامة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** يهان لها الغلامة والغلام

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد بلغنيَ الكبر‏}‏ أي‏:‏ وقد بلغت الكبر، قال الزجاج‏:‏ كل شيء بلغته فقد بلغك‏.‏ وفي سنة يومئذ ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه كان ابن مائة وعشرين سنة، امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كان ابن بضع وسبعين سنة، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ ابن خمس وسبعين، قاله مقاتل‏.‏ والرابع‏:‏ ابن سبعين‏.‏ حكاه فضيل بن غزوان‏.‏ والخامس‏:‏ ابن خمس وستين‏.‏ والسادس‏:‏ ابن ستين، حكاهما الزجاج، قال اللغويون‏:‏ والعاقر من الرجال والنساء‏:‏ الذي لا يأتيه الولد، وإنما قال‏:‏ «عاقر»، ولم يقل‏:‏ عاقرة، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث، والمذكر فيه كالمستعار، فأجري مجرى «طالق» «حائض» هذا قول الفراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربِّ اجعل لي آية‏}‏ أي‏:‏ علامة على وجود الحمل‏.‏ وفي علة سؤاله «آية» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن الشيطان جاءه فقال‏:‏ هذا الذي سمعت من صوت الشيطان، ولو كان من وحي الله، لأوحاه إليك، كما يوحي إليك غيره، فسأل الآية، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر، وليتعجل السرور، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله، فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام‏.‏ فأما «الرَمز» فقال الفراء‏:‏ الرمز بالشفتين، والحاجبين، والعينين، وأكثره في الشفتين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جعل يكلم الناس بيده‏.‏ وإنما منع من مخاطبة الناس، ولم يحبس عن الذكر لله تعالى‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كان يذكر الله، ويشير إلى الناس‏.‏ وقال عطاء بن السائِب‏:‏ اعتُقِلَ لسانه من غير مرض‏.‏ وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آيةً على وجود الحمل‏.‏ وقال قتادة، والربيع بن أنس‏:‏ كان ذلك عقوبةً له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبِّح‏}‏ قال مقاتل‏:‏ صل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ فرغت من سُبحتي، أي‏:‏ من صلاتي‏.‏ وسمّيت الصلاة تسبيحاً، لأن التسبيح تعظيم الله، وتبرئته من السوء، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالعشي‏}‏ العشي‏:‏ من حين نزول الشمس إلى آخر النهار‏:‏ ‏{‏والإِبكار‏}‏ ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى‏:‏ قال الشاعر‏:‏

فلا الظلَّ في بَردِ الضّحى تستطيعه *** ولا الفيءَ من بردِ العشيّ يذوق

قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ أبكر الرجل يبكر إِبكاراً، وبكر يبكر تبكيراً، وبكر يبكر في كل شيء تقدم فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك‏}‏ قال جماعة من المفسرين‏:‏ المراد بالملائكة‏:‏ جبريل وحده‏.‏ وقد سبق معنى الاصطفاء‏.‏ وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه التطهير من الحيض، قاله ابن عباس‏.‏ وقال السدي‏:‏ كانت مريم لا تحيض‏.‏ وقال قوم‏:‏ من الحيض والنفاس‏.‏

والثاني‏:‏ من مس الرجال، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ من الكفر، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ من الفاحشة والإثم، قاله مقاتل‏.‏ وفي هذا الاصطفاء الثاني‏:‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه تأكيد للأول‏.‏ والثاني‏:‏ أن الأول للعبادة، والثاني‏:‏ لولادة عيسى عليه السلام‏.‏ والثالث‏:‏ أن الاصطفاء الأول اختيار مبهمَ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين‏.‏

والرابع‏:‏ أنه لما أطلق الاصطفاء الاول، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال‏.‏ قال ابن عباس، والحسن، وابن جريج‏:‏ اصطفاها على عالمي زمانها‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا قول الأكثرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا مريم اقنتي لربك‏}‏ قد سبق شرح القنوت في «البقرة» وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه العبادة، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الطاعة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ الإخلاص، قاله سعيد بن جبير‏.‏ وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تؤذن بالجمع، فالركوع مقدّم، قاله الزجاج في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى استعملي السجود في حال، والركوع في حال، لا أنهما يجتمعان في ركعة، فكأنه حثٌ لها على فعل الخير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مقدم ومؤخر، والمعنى‏:‏ اركعي واسجدي، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني متوفيكَ ورافعُكَ إِليَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ومعناه‏:‏ اركعي مع المصلين قُرَّاء بيت المقدس‏.‏ قال مجاهد سجدت حتى قرحت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب‏}‏ «ذلك» إِشارة إلى ما تقدم من قصة زكرياء، ويحيى، وعيسى، ومريم‏.‏ والأنباء‏:‏ الأخبار، والغيب‏:‏ ما غاب عنك‏.‏ والوحي‏:‏ كل شيء دللت به من كلام، أو كتاب، أو إشارة، أو رسالة، قاله ابن قتيبة‏.‏ والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونقة‏.‏ وفي الأقلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها التي يكتب بها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها العصيّ، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها القداح، وهو اختيار ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج‏:‏ هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة‏.‏ وإنما قيل للسهم‏:‏ القلم، لأنه يقلم، أي‏:‏ يبرى‏.‏ وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء، فقد قلمته، ومنه القلم الذي يكتب به، لأنه قُلم مرة بعد مرة، ومنه‏:‏ قلمت أظفاري‏.‏ قال‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏أيهم يكفل مريم‏}‏ لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم، وهو الضمان للقيام بأمرها‏.‏ ومعنى ‏{‏لديهم‏}‏ عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفاً‏.‏ وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قول الله له‏:‏ «كن» فكان، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى، حكاه أبو سليمان‏.‏

والثالث‏:‏ أن الكلمة اسم لعيسى، وسمي كلمة، لأنه كان عن الكلمة‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى‏.‏ وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لم يكن لقدمه أخمص، والأخمص‏:‏ ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد‏.‏

والرابع‏:‏ أن معنى‏:‏ المسيح‏:‏ الصديق، قاله مجاهد، وإبراهيم النخعي، وذكره اليزيدي‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ ومعنى هذا أن الله مسحه، فطهره من الذنوب‏.‏

والخامس‏:‏ أنه كان يمسح الأرض أي‏:‏ يقطعها، ذكره ثعلب، وبيانه‏:‏ أنه كان كثير السياحة‏.‏

والسادس‏:‏ أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم وقال أبو عبيد‏:‏ المسيح في كلام العرب على معنيين‏.‏ أحدهما‏:‏ المسيح الدجال، والأصل فيه‏:‏ الممسوح، لأنه ممسوح أحد العينين‏.‏ والمسيح عيسى، وأصله بالعبرانية «مشيحا»، بالشين، فلما عربته العرب، أبدلت من شينه سيناً، كما قالوا‏:‏ موسى، وأصله بالعبرانية موشى‏.‏ قاله ابن الأنباري، وإنما بدأ بلقبه، فقال‏:‏ المسيح عيسى بن مريم، لأن المسيح أشهر من عيسى، لأنه قل أن يقع على سميٍّ يشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم‏.‏ فأما قوله‏:‏ عيسى بن مريم، فإنما نسبه إلى أمه، لينفي ما قال عنه الملحدون من النصارى، إذ أضافوه إلى الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجيهاً‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ الوجيه في كلام العرب‏:‏ المحبب المقبول‏.‏ وقال ابن قتيبة‏.‏ الوجيه‏:‏ ذوالجاه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة، يقال قد وجُه الرجل يوْجُه، وجاهة، ولفلان جاه عند الناس، أي‏:‏ منزلة رفيعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن المقرّبين‏}‏ قال قتادة‏:‏ عند الله يوم القيامة‏.‏ والمهد‏:‏ مضجع الصبي في رضاعه، وهو مأخوذ من التمهيد، وهو التوطئة، وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ لتبرئة أمه مما قذفت به، والثاني‏:‏ لتحقيق معجزته الدالة على نبوته‏.‏، قال ابن عباس‏:‏ تكلم ساعة في مهده، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق‏.‏ ‏{‏وكهلاً‏}‏ قال‏:‏ ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة، فمكث في نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله‏.‏ قال ابن الأنباري كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين، ومن أربى عليها، فقد دخل في الكهولة، والكهل عند العرب‏:‏ الذي قد جاوز الثلاثين، وإنما سمي الكهل كهلاً، لاجتماع قوته، وكمال شبابه، وهو من قولهم‏:‏ قد اكتهل النبات‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ الكهل‏:‏ الرجل حين وخطه الشيب‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد علم أن الكهل يتكلم، فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره، أي‏:‏ أنه يبلغ الكهولة‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏وكهلاً‏}‏ قال‏:‏ ذلك بعد نزوله من السماء‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه هذا التغير، ذكره ابن جرير الطبري‏.‏ والثالث‏:‏ أن المراد بالكهل‏:‏ الحليم، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت رب أنّى يكون لي ولد‏}‏ في علة قولها هذا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً، لا شكاً وإنكاراً، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا، وعلى هذا الجمهور، والثاني‏:‏ أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدميا يريد بهاً سوءاً، ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله، لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي ولد‏}‏ قاله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يمسسني بشر‏}‏ أي‏:‏ ولم يقربني زوج‏.‏ والمس‏:‏ الجماع، قاله ابن فارس‏.‏ وسمي البشر بشراً، لظهورهم، والبشرة‏:‏ ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الأرض‏:‏ أخرجت نباتها، وبشرت الأديم‏:‏ إذا قشرت وجهه، وتباشير الصبح‏:‏ أوائله‏.‏ قال‏:‏ يعني جبريل‏:‏ ‏{‏كذلكِ الله يخلق ما يشاء‏}‏ أي‏:‏ بسبب، وبغير سبب‏.‏ وباقي الآية مفسر في «البقرة»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلمه الكتاب‏}‏ قرأ الأكثرون، «ونعلمه» بالنون‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم بالياء، فعطفاه على قوله «يبشرك»، وفي الكتاب قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كُتُبُ النبيين وعلمهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الكتابة‏:‏ قاله ابن جريج، ومقاتل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والحكمة‏:‏ الفقه، وقضاء النبيين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورسولاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ينتصب على وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ ونجعله رسولاً، والاختيار عندي‏:‏ ويكلم الناس رسولاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أني أخلق‏}‏ قرأ الأكثرون «أني» بالفتح، فجعلوها بدلاً من آية، فكأنه قال‏:‏ قد جئتكم بأني أخلق لكم، وقرأ نافع بالكسر، قال أبو علي‏:‏ يحتمل وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يكون مستأنفاً‏.‏ والثاني‏:‏ أنه فسر الآية بقوله‏:‏ إني أخلق، أي‏:‏ أصور وأقدر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أخذ طيناً، وصنع منه خفاشاً، ونفخ فيه، فاذا هو يطير، ويقال‏:‏ لم يصنع غير الخفاش، ويقال‏:‏ إن بني إسرائيل نعتوه بذلك، لأن الخفاش عجيب الخلق‏.‏ وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم‏:‏ ماذا تريدون‏؟‏ قالوا‏:‏ الخفاش‏:‏ فسألوه أشد الطير خلقاً؛ لأنه يطير بغير ريش‏.‏ وقال وهب‏:‏ كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه، فاذا غاب عن أعينهم، سقط ميتاً، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق، والأكثرون قرؤوا ‏{‏فيكونَ طيراً‏}‏ وقرأ نافع هاهنا وفي ‏(‏المائدة‏)‏ طائراً‏.‏ قال أبو علي‏:‏ حجة الجمهور قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كهيئة الطير‏}‏ ولم يقل كهيئة الطائر‏.‏ ووجهة قراءة نافع‏:‏ أنه أراد‏:‏ يكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه طائراً، وفي «الأكمه» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذي يولد أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وسعيد عن قتادة، وبه قال اليزيدي‏:‏ وابن قتيبة، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الأعمى، ذكره ابن جريج عن ابن عباس، ومعمر عن قتادة، وبه قال الحسن، والسدي‏.‏ وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه‏:‏ هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يعمى، وإن كان بصيراً‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الأعمش، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد والضحاك‏.‏ والأبرص‏:‏ الذي به وضح‏.‏ وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام، علم الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص، وكان ذلك دليلاً على صدقه‏.‏ قال وهب‏:‏ ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، وإنما كان يداويهم بالدعاء‏.‏ وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له، إلا سام بن نوح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنبئُكم بما تأكلون‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون، ويقول للغلام‏:‏ يا غلام إن أهلك قد هيؤوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه‏؟‏ وقال مجاهد‏:‏ بما أكلتم البارحة، وبما خبأتم منه‏.‏ وعلى هذا المفسرون، إلا أن قتادة كان يقول‏:‏ وأنبئُكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها، ولا يدَّخروا، فلما خانوا، مُسخوا خنازير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومصدقاً لما بين يدي‏}‏ قال الزجاج‏:‏ نصب «مصدقاً»على الحال، أي‏:‏ وجئتكم مصدقاً ‏{‏ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏ قال قتادة‏:‏ كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب وأشياء من الطير، فأحلها عيسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجئتكم بآية‏}‏ أي‏:‏ بآيات تعلمون بها صدقي، وإنما وحد، لأن الكل من جنس واحد ‏{‏من ربكم‏}‏ أي‏:‏ من عند ربكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أحس عيسى‏}‏ أي‏:‏ علم‏.‏ قال شيخنا أبو منصور اللغوي‏:‏ يقال‏:‏ أحسستُ بالشيء، وحسست به وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ، إنما الصواب «المحسات» فأما المحسوسات، فهي المقتولات، يقال حسه‏:‏ إذا قتله‏.‏ والأنصار‏:‏ الأعوان‏.‏ و«إِلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة، قال الزجاج‏:‏ وإنما حسنت في موضع «مع» لأن «إِلى» غاية و«مع» تضم الشيء بالشيء‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ من أنصاري إلى أن أبين أمر الله‏.‏ واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين، فقال مجاهد‏:‏ لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريين‏.‏ وقال غيره‏:‏ لما كفروا به، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريين‏.‏ وقيل‏:‏ استنصرهم، لإقامة الحق، وإظهار الحجة‏.‏ والجمهور على تشديد «ياء» الحواريين‏.‏ وقرأ الجوني، والجحدري، وأبو حيوة‏:‏ الحواريون بتخفيف الياء‏.‏ وفي معنى الحواريين ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم الخواص الأصفياء، قال ابن عباس‏:‏ الحواريون‏:‏ أصفياء عيسى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كانوا خاصة عيسى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحواريون في اللغة‏:‏ الذين أخلصوا، ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق‏:‏ الحوّاري، إنما سمي بذلك، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه‏.‏ قال حذاق اللغويين‏:‏ الحواريون‏:‏ صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم‏.‏ ويقال‏:‏ عين حوراء‏:‏ إذا اشتد بياضها، وخلص، واشتد سوادها، ولا يقال‏:‏ امرأة حوراء، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم البيض الثياب، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سموا بذلك، لبياض ثيابهم‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم القصارون، سموا بذلك، لأنهم كانوا يحورون الثياب، أي‏:‏ يبيضونها، قال الضحاك، ومقاتل، الحواريون‏:‏ هم القصارون‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ ويقال للقصارين‏:‏ الحواريون، لأنهم يبيضون الثياب، ومنه سمي الدقيق‏:‏ الحُوَّارى، والعين الحوراء‏:‏ النقية المحاجر‏.‏ والرابع‏:‏ الحواريون‏:‏ المجاهدون‏.‏

وأنشدوا‏:‏

ونحن أناسٌ يملأ البَيض هامنا *** ونحن حواريون حين نزاحف

جَماجِمُنا يوم اللقاء تراسُنا *** إِلى الموت نمشي ليس فينا تحانف

والخامس‏:‏ الحواريون‏:‏ الصيادون‏.‏ والسادس‏:‏ الحواريون الملوك، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وعدد الحواريين اثنا عشر رجلاً‏.‏ وفي صناعتهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يصطادون السمك، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم كانوا يغسلون الثياب، قاله الضحاك، وأبو أرطاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت‏}‏ هذا قول الحواريين‏.‏ والذي أنزل‏:‏ الإنجيل‏.‏ والرسول‏:‏ عيسى‏.‏ وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم الأنبياء، لأن كل نبي شاهد أمته، قاله عطاء‏.‏ والرابع‏:‏ أن الشاهدين‏:‏ الصادقون، قاله مقاتل‏.‏ والخامس‏:‏ أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق‏.‏ فمعنى الآية‏:‏ صدقنا، واعترفنا، فاكتبنا مع من فعل فعلنا، هذا قول الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المكر من الخلق‏:‏ خبث وخداع، ومن الله عز وجل‏:‏ المجازاة، فسمي باسم ذلك، لأنه مجازاة عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏ لأن مكره مجازاة، ونصر للمؤمنين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ومكرهم، أن اليهود أرادوا قتل عيسى، فدخل خوخة، فدخل رجل منهم، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم، ظنوه عيسى، فقتلوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قال الله يا عيسى إني متوفيك‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ التوفي، من استيفاء العدد، يقال‏:‏ توفيت، واستوفيت، كما يقال‏:‏ تيقنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت‏:‏ وفاة، وتوف‏.‏ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

إِنَّ بني الأدرد ليسوا من أحدٍ *** ليسوا إِلى قيس وليسوا من أسد

ولا توفاهم قريش في العدد *** أي‏:‏ لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء‏:‏ التمام‏.‏ وفي هذا التوفي قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الرفع إلى السماء‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الموت‏.‏ فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيماً من غير تقديم ولا تأخير، ويكون معنى «متوفيك» قابضك من الأرض وافياً تاماً من غير أن ينال منك اليهود شيئاً، هذا قول الحسن، وابن جريج، وابن قتيبة، واختاره الفراء‏.‏ ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ أي‏:‏ رفعتني إلى السماء من غير موت، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه، لا بعد موته‏.‏ وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ إني رافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، هذا قول الفراء، والزجاج في آخرين‏.‏ فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ رُفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقال مقاتل‏:‏ رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان‏.‏ وقيل عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين‏.‏ ويقال ماتت قبل رفعه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومطهرك من الذين كفروا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه رفعه من بين أظهرهم‏.‏

والثاني‏:‏ منعهم من قبله، وفي الذين اتبعوه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم صدقوا بنبوته، وأنه روح الله وكلمته، هذا قول قتادة، والربيع، وابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم النصارى، فهم فوق اليهود، واليهود مستذلون مقهورون، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏ يعني‏:‏ الدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين كفروا‏}‏ قيل‏:‏ هم اليهود والنصارى، وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية، وفي الآخرة بالنار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيوفيهم أجورهم‏}‏ قرأ الأكثرون بالنون، وقرأ الحسن، وقتادة، وحفص عن عاصم‏:‏ فيوفيهم بالياء معطوفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قال الله يا عيسى‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك نتلوه عليك‏}‏ يعني ما جرى من القصص‏.‏ ‏{‏من الآيات‏}‏ يعني الدلالات على صحة رسالتك، إذ كانت أخباراً لا يعلمها أميٌ ‏{‏والذكر الحكيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو القرآن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ ذو الحكمة في تأليفه ونظمه، وإبانة الفوائد منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏}‏ قال أهل التفسير‏:‏ سبب نزول هذه الآية، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، في أمر عيسى، وقد ذكرناه في أول السورة‏.‏ فأما تشبيه عيسى بآدم، فلأنهما جميعاً من غير أب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلقه من تراب‏}‏ يعني‏:‏ آدم‏.‏ قال ثعلب‏:‏ وهذا تفسير لأمر آدم وليس بحال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قال له‏}‏ يعني لآدم، وقيل لعيسى ‏{‏كن فيكون‏}‏ أي‏:‏ فكان‏:‏ فأريد بالمستقبل الماضي، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين‏}‏ أي‏:‏ ما تلت الشياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحق من ربك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف، المعنى‏:‏ الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك ‏{‏فلا تكن من الممترين‏}‏ أي‏:‏ الشاكين والخطاب للنبي خطابٌ للخلق، لأنه لم يشك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن حاجَّك فيه‏}‏ في هاء «فيه» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى عيسى‏.‏ والثاني‏:‏ إلى الحق‏.‏ والعلم‏:‏ البيان والإيضاح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل تعالَوا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ تعالى‏:‏ تفاعل، من علوت، ويقال للاثنين من الرجال والنساء‏:‏ تعاليا، وللنساء‏:‏ تعالين‏.‏ قال الفراء‏:‏ أصلها من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها، صارت عندهم بمنزلة «هلم» حتى استجازوا أن يقولوا للرجل، وهو فوق شرف‏:‏ تعال، أي‏:‏ اهبط‏.‏ وإنما أصلها‏:‏ الصعود‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أراد بأبنائنا‏:‏ فاطمة والحسن، والحسين‏.‏ وروى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم‏}‏ ‏"‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال‏:‏ «اللهم هؤلاء أهلي» ‏"‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفسنا‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أراد علي بن أبي طالب، قاله الشعبي‏.‏ والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه‏.‏

والثاني‏:‏ أراد الإخوان، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أراد أهل دينه، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والرابع‏:‏ أراد الأزواج‏.‏

والخامس‏:‏ أراد القرابة القريبة، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري، فأما الابتهال، فقال ابن قتيبة‏:‏ هو التداعي باللَّعن، يقال‏:‏ عليه بَهلةُ الله، وبُهلته، أي‏:‏ لعنته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الابتهال في اللغة‏:‏ المبالغة في الدعاء، وأصله‏:‏ الالتعان، يقال‏:‏ بهله الله، أي‏:‏ لعنه‏.‏ وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة‏.‏ قال جابر بن عبد الله‏:‏ قدم وفد نجران فيهم السيّد والعاقب، فذكر الحديث‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه أن يفادياه، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل اليهما، فأبيا أن يجيباه، فأقرا له بالخراج، فقال‏:‏ ‏"‏ والذي يعثني بالحق لو فعلا، لأمطر الوادي عليهم نارا ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما مِن إِله إِلا الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ دخلت «مِن» هاهنا توكيداً ودليلاً على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان تولوا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ عن الملاعنة، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ عن الإقرار بوحدانية الله، وتنزيهه عن الصاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدمشقي، وفي الفساد هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العمل بالمعاصي، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الكفر، ذكره الدمشقي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتابِ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله قتاده، وابن جريج، والربيع بن أنس‏.‏

والثاني‏:‏ وفد نجران الذين حاجوا في عيسى، قاله السدي ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أهل الكتابين جميعاً، قاله الحسن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في القسيسين والرهبان، فبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة، فقرأها جعفر، والنجاشي جالس، وأشراف الحبشة‏.‏ فأما «الكلمة» فقال المفسرون هي‏:‏ لا إله إلا الله فإن قيل‏:‏ فهذه كلمات، فلم قال كلمة‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات‏.‏ قال اللغويون‏:‏ ومعنى كلمة‏:‏ كلام فيه شرح قصة وإن طال، تقول العرب‏:‏ قال زهير في كلمته يراد في قصيدته‏.‏

قالت الخنساء‏:‏

وقافيةٍ مثلِ حدِّ السنا *** ن تبقى ويذهبُ من قالها

تقدُّ الذّؤابة مِن يَذْبلٍ *** أبت أن تُزايل أوعالَها

نطْقتَ ابنَ عمروٍ فسهَّلتها *** ولم ينطق الناس أمثالها

فأوقعت القافيه على القصيدة كلها، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة، من البيت، وإنما سميت قافية، لإن الكلمة تتبع البيت، وتقع آخره، فسُميت قافية من قول العرب‏:‏ قفوت فلاناً‏:‏ إذا اتبعته، وإلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره‏.‏ والثاني‏:‏ أن المراد بالكلمة‏:‏ كلمات، فاكتفى بالكلمة من كلمات، كما قال علقمة بن عبدة‏.‏

بِها جيفُ الحسرى فأمّا عظامُها *** فبيضٌ وأما جلدُها فصليب

أراد‏:‏ وأما جلودها، فاكتفى بالواحد من الجمع، ذكره والذي قبله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواء بيننا وبينكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يعني بالسواء العدل، وهو من استواء الشيء، ويقال للعدل سَواء وسِواء وسُواء‏.‏

قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

أروني خُطةً لا ضيمَ فيها *** يسوّي بيننا فيها السَّواء

فإن تدعوا السواء فليس بيني *** وبينكم بني حصن بقاء

قال‏:‏ وموضع «أن» في قوله تعالى ‏{‏ألا تعبدوا إلا الله‏}‏ خفض على البدل من «كلمة» المعنى‏:‏ تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله‏.‏ وجائز أن يكون «أن» في موضع رفع، كأن قائلاً قال‏:‏ ما الكلمة‏؟‏ فأجيب، فقيل‏:‏ هي ألاّ نعبد إلا الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يتخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه سجود بعضهم لبعض، قاله عكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، قاله ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ أن نجعل غير الله رباً، كما قالت النصارى في المسيح، قاله مقاتل والزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لِم تحاجون في إِبراهيم‏}‏ قال ابن عباس، والحسن، والسدي‏:‏ اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران، وأحبار اليهود، فقال هؤلاء‏:‏ ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقال هؤلاء‏:‏ ما كان إلا نصرانياً‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ها أنتم‏}‏ قرأ ابن كثير «هأنتم» مثل‏:‏ هعنتم، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد‏:‏ أأنتم‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» ممدوداً، استفهام بلا همزة، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏.‏ «ها أنتم» ممدوداً مهموزاً، ولم يختلفوا في مد «هؤلاء» و«أولاء»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما لكم به علم‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه ما رأوا وعاينوا، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ ما أُمروا به، ونهوا عنه، قاله السدي‏.‏ فأما الذي ليس لهم به علم، فهو شأن إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى، خمسمائة وخمس وسبعون سنة‏.‏ وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة‏.‏ وقد سبق في ‏(‏البقرة‏)‏ معنى الحنيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد علمت أنَّا أولى بدين إبراهيم منك، وأنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد، فنزلت هذه الآية‏.‏ ومعناها‏:‏ أحق الناس بدين إبراهيم، الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أن عمرو بن العاص أراد أن يُغضب النجاشي على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للنجاشي‏:‏ إنهم ليشتمون عيسى‏.‏ فقال النجاشي‏:‏ ما يقول صاحبكم في عيسى‏؟‏ فقالوا‏:‏ يقول‏:‏ إنه عبد الله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم‏.‏ فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، فقال‏:‏ والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يَزِن هذا القذى، ثم قال‏:‏ أبشروا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم‏.‏ قال عمرو بن العاص‏:‏ ومَن حزب إبراهيم‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الرهط وصاحبهم‏.‏ فأنزل الله يوم خصومتهم على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، هذا قول عبد الرحمن بن غنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يُضلُّونكم‏}‏ سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل، وعمَّار بن ياسر‏:‏ تركتما دينكما، واتبعتما دين محمد، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ والطائفة‏:‏ اسم لجماعة مجتمعين على ما اجتمعوا عليه من دين، ورأي، ومذهب، وغير ذلك‏.‏ وفي هذه الطائفة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ والضلال‏:‏ الحيرة‏.‏ وفيه هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الاستنزال عن الحق إلى الباطل، وهو قول ابن عباس، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ الإهلاك، ومنه ‏{‏أإِذا ضللنا في الأرض‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ قاله ابن جرير، والدمشقي‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ وما يشعرون أن الله يدل المؤمنين على حالهم، والثاني‏:‏ وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَ تكفرون بآيات الله‏؟‏‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ محمداً والإسلام ‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ أن بعث محمد في كتابكم، ثم تكفرون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تلبسون الحق بالباطل‏؟‏‏}‏ قال اليزيدي‏:‏ معناه‏:‏ لم تخلطون الحق بالباطل‏؟‏ قال ابن فارس‏:‏ واللبس‏:‏ اختلاط الأمر، وفي الأمر لبسة، أي‏:‏ ليس بواضح‏.‏ وفي الحق والباطل أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن الحق‏:‏ إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، والباطل‏:‏ كتمانهم بعض أمره‏.‏ والثاني‏:‏ الحق‏:‏ إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، والباطل‏:‏ كفرهم به عشية، رويا عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الحق‏:‏ التوراة، والباطل‏:‏ ما كتبوه فيها بأيديهم، قاله الحسن، وابن زيد‏.‏ والرابع‏:‏ الحق‏:‏ الإسلام، والباطل‏:‏ اليهودية والنصرانية، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتكتمون الحق‏}‏ قال قتادة‏:‏ كتموا الإسلام، وكتموا محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن طائفة من اليهود قالوا‏:‏ إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار، فآمنوا، وإذا كان آخره، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون‏:‏ هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فينقلبون عن دينهم، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏ وقال الحسن والسدي‏:‏ تواطأ اثنا عشر حبراً من اليهود، فقال بعضهم لبعض‏:‏ ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار، واكفروا آخره، وقولوا‏:‏ إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، فيشك أصحابه في دينهم، ويقولون‏:‏ هم أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون إلى دينكم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، فقال قوم من علماء اليهود‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار‏}‏ يقولون‏:‏ آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال مجاهد، وقتادة، والزجاج في آخرين‏:‏ وجه النهار‏:‏ أوله‏.‏

وأنشد الزجاج‏:‏

من كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يَنْدبنه *** قد قُمن قبل تبلُّج الأسحار

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إِلا لمن تبِع دينَكم‏}‏ اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مما أوتيتم من العلم، وفلق البحر، والمنِّ، والسلوى، وغير ذلك، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم، لأنكم أصح ديناً منهم، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم، وتكون اللام في «لمن» صلة، ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إِنَّ الهدى هدى الله‏}‏ كلاماً معترضاً بين كلامين، هذا معنى قول مجاهد، والأخفش‏.‏

والثاني‏:‏ أن كلام اليهود تام عند قوله‏:‏ ‏{‏لمن تبع دينكم‏}‏ والباقي من قول الله تعالى، لا يعترضه شيءٌ من قولهم، وتقديره‏:‏ قل يا محمد‏:‏ إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، إلاّ أن تجادلكم اليهود بالباطل، فيقولون‏:‏ نحن أفضل منكم، هذا معنى قول الحسن، وسعيد بن جبير‏.‏ قال الفراء‏:‏ معنى‏:‏ «أن يؤتى» أن لا يؤتى‏.‏

والثالث‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، إلا من تبع دينكم، فأخرت «أن»، وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير، ودخلت اللام على جهة التوكيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى أن يكون رَدِفَ لكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ أي ردفكم‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

ما كنتُ أخدعُ للخليل بخلَّة *** حتى يكون ليَ الخليلُ خَدوعا

أراد‏:‏ ما كنت أخدع الخليل‏.‏

وقال الآخر‏:‏

يذمّون للدنيا وهم يحلبونها *** أفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثُعْل

أراد‏:‏ يذمون الدنيا، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أن اللام غير زائدة، والمعنى‏:‏ لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين، كان عوناً لهم على تصديقه، قاله الزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لا تؤمنوا أن محمداً وأصحابه على حق، إلا لمن تبع دينكم، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق، ويحاجوكم به عند ربكم‏.‏ فعلى هذا يكون معنى الكلام‏:‏ لا تقروا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ أان يؤتى بهمزتين، الأولى مخفّفة، والثانية‏:‏ مليّنة على الاستفهام، مثل‏:‏ أانتم أعلم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ووجهها أن «أن» في موضع رفع بالابتداء، وخبره‏:‏ يصدقون به، أو يعترفون به، أو يذكرونه لغيركم، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصباً، فيكون المعنى‏:‏ أتشيعون، أو أتذكرون أن يؤتى أحدٌ، ومثله في المعنى‏:‏ ‏{‏أتحدِّثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏ وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرّف‏:‏ إن يؤتى، بكسر الهمزة، على معنى‏:‏ ما يؤتى‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم، لأنهم لا حجة لهم، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبّد، كما يقال‏:‏ لا يلقاه أو تقوم الساعة، قاله الكسائي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الفضل بيد الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني النبوة، والكتاب، والهدى ‏{‏يؤتيه من يشاء‏}‏ لا ما تمنَّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏ في الرحمة ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها الإسلام، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ النبوة، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ القرآن والإسلام، قاله ابن جريج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِنْ أهل الكتاب مَنْ إِن تأمنه بقنطار‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أودع رجل ألفاً ومئتي أوقيه من ذهب عبد الله بن سلام، فأداهما إليه، فمدحه الله بهذا الآية، وأودع رجل فنحاصَ بن عازوراء ديناراً، فخانه‏.‏ وأهل الكتاب‏:‏ اليهود‏.‏ وقد سبق الكلام في القنطار‏.‏ وقيل إِن «الباء» في قوله‏:‏ «بقنطارٍ» بمعنى «على» فأما الدينار، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ الدينار فارسي معرّب، وأصله‏:‏ دِنّار، وهو وإِن كان معرباً، فليس تعرف له العرب اسماً غير الدينار، فقد صار كالعربي، ولذلك ذكره الله تعالى في كتابه، لأنه خاطبهم بما عرفوا، واشتقوا منه فِعلاً، فقالوا‏:‏ رجل مُدَنَّر‏:‏ كثير الدنانير‏.‏ وبرذون مدنّر‏:‏ أشهب مستدير النقش ببياض وسواد‏.‏ فان قيل‏:‏ لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً والخلق على ذلك، فالجواب‏:‏ أنهم يخونون المسلمين استحلالاً لذلك، وقد بيَّنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأمِّيِّين سبيل‏}‏ فحذَّر منهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الأمانة ترجع إلى من أسلم منهم، والخيانة إلى من لم يسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذين يؤدون الأمانة‏:‏ النصارى، والذين لا يؤدونها‏:‏ اليهود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا مادمت عَليه قائماً‏}‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ دُمتَ ودُمتم، ومُت ومُتم‏.‏ وتميم يقولون‏:‏ مِت ودِمت بالكسر، ويجتمعون في «يفعل» يدوم ويموت‏.‏ وفي هذا القيام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التقاضي، قاله مجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى‏:‏ ما دمت مواظباً بالاقتضاء له والمطالبة‏.‏ وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه، ويتصرَّف‏.‏ والتارك له يقعد عنه‏.‏

‏[‏قال الأعشى‏:‏

يقوم على الرَّغم في قومه *** فيعفو إِذا شاء أو ينتقم

أي‏:‏ يطالب بالذخل ولا يقعد عنه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواءً‏}‏‏]‏ ‏{‏من أهل الكتاب أمةٌ قائمة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113‏]‏ أي‏:‏ عاملة غير تاركة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ أي‏:‏ آخذ لها بما كسبت‏.‏ والثاني‏:‏ أنه القيام حقيقة، فتقديره‏:‏ إلا ما دمت قائماً على رأسه، فإنه يعترف بأمانته، فاذا ذهبت، ثم جئت، جحدك، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يعني‏:‏ الخيانة‏.‏ والسبيل‏:‏ الإثم والحرج، ونظيره ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ قال قتادة‏:‏ إنما استحل اليهود أموال المسلمين، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون على الله الكذب‏}‏ قال السدي‏:‏ يقولون‏:‏ قد أحل الله لنا أموال العرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء، وأداء الأمانة‏.‏ والثاني‏:‏ يقولون الكذب، وهم يعلمون أنه كذب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ رد الله عز وجل عليهم قولهم‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ وهو عندي وقف التمام، ثم استأنف، فقال‏:‏ ‏{‏من أوفى بعهده‏}‏ ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏بلى من أوفى‏}‏‏.‏ والعهد‏:‏ ما عاهدهم الله عز وجل عليه في التوراة‏.‏ وفي «هاء» ‏{‏عهده‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الله تعالى‏.‏ والثاني‏:‏ إلى الموفي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض، فجحده اليهودي، فقدّمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ‏[‏له‏]‏‏:‏ «ألك بينة»‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال لليهودي‏:‏ «أتحلف»‏؟‏ فقال الأشعث‏:‏ إذاً يحلف فيذهب بمالي‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في اليهود، عهد الله إليهم في التوراة تبيين صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فجحدوا، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا، هذا قول عكرمة، ومقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أن رجلاً أقام سلعته في السوق أول النهار، فلما كان آخره، جاء رجل، يساومه، فحلف‏:‏ لقد منَعَها أول النهار من كذا، ولولا المساء لما باعها به، فنزلت هذا الآية، هذا قول الشعبي، ومجاهد‏.‏ فعلى القول الأول، والثالث، العهد‏:‏ لزوم الطاعة، وترك المعصية، وعلى الثاني‏:‏ ما عهده إلى اليهود في التوراة‏.‏ واليمين‏:‏ الحلف‏.‏ وإن قلنا‏:‏ إنها في اليهود، والكفار، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلاً‏.‏ وإن قلنا‏:‏ إنها في العصاة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا يكلمهم الله كلام خير‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏ولا ينظر إِليهم‏}‏، أي‏:‏ لا يعطف عليهم بخير مقتاً لهم، قال الزجاج‏:‏ تقول‏:‏ فلان لا ينظر إلى فلان، ولا يكلمه، معناه‏:‏ أنه غضبان عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ أي‏:‏ لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن منهم لفريقاً‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها نزلت في اليهود، رواه عطية، عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ في اليهود والنصارى، رواه الضحاك، عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّ‏}‏ هي كلمة مؤكدة، واللام في قوله‏:‏ «لَفريقاً» توكيد زائد على توكيد «إِنَّ» قال ابن قتيبه‏:‏ ومعنى ‏{‏يَلْوُون ألسنتهم‏}‏‏:‏ يقلبونها بالتحريف والزيادة‏.‏ والألسنة‏:‏ جمع لسان، قال أبو عمرو‏:‏ واللسان يذكر ويؤنَّث، فمن ذكره جمعه‏:‏ ألسنة، ومن أنَّثه، جمعه‏:‏ ألسناً‏.‏ وقال الفراء‏:‏ اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكراً‏.‏ وتقول العرب‏:‏ سبق من فلان لسان، يعنون به الكلام، فيذكِّرونه‏.‏

وأنشد ابن الأعرابي‏:‏

لسانك معسولٌ ونفسُك شحَّة *** وعند الثريا من صديقك مالُكا

وأنشد ثعلب‏:‏

ندِمت على لسانٍ كان مني *** فليت بأنَّه في جوفِ عِكْمِ

والعكم‏:‏ العدل‏.‏ ودل بقوله‏:‏ كان مني، على أن اللسان الكلام‏.‏

وأنشد ثعلب‏:‏

أتتني لسان بني عامر *** أحاديثها بعد قولٍ نكر

فأنث اللسان، لأنه عنى الكلمة والرسالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن قوماً من رؤساء اليهود والنصارى، قالوا‏:‏ يا محمد أتريد أن نتخذك رباً‏؟‏ فقال‏:‏ معاذالله، ما بذلك بعثني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا نسجد لك‏؟‏ قال‏:‏ «لا، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله» ‏"‏ فنزلت هذه الآية، قاله الحسن البصري‏.‏ والثالث‏:‏ أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى‏.‏ قاله الضحاك، ومقاتل‏.‏ وفيمن عنى ب «البشر» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والكتاب‏:‏ القرآن، قاله ابن عباس، وعطاء‏.‏ والثاني‏:‏ عيسى، والكتاب‏:‏ الإنجيل، قاله الضحاك، ومقاتل‏.‏ والحكم‏:‏ الفقه والعلم، قاله قتادة في آخرين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ لا يجتمع لرجل نبوَّة، والقول للناس‏:‏ كونوا عباداً لي من دون الله، لأن الله لا يصطفي الكذبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كونوا‏}‏ أي‏:‏ ولكن يقول لهم‏:‏ كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه‏.‏

فأما الربانيون، فروي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها‏.‏ وقال ابن عباس، وابن جبير‏:‏ هم الفقهاء المعلِّمون‏.‏ وقال قتادة، وعطاء‏:‏ هم الفقهاء العلماء الحكماء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ أحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية، أو سريانية، وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وإنما عرفها الفقهاء، وأهل العلم، قال‏:‏ وسمعت رجلاً عالماً بالكتب يقول‏:‏ هم العلماء بالحلال والحرام، والأمر والنهي‏.‏ وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين‏:‏ الرباني‏:‏ منسوب إلى الرب، لأن العلم‏:‏ مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا‏:‏ رجل لحياني‏:‏ إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كنتم تعلِّمون الكتاب‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو‏:‏ تعْلَمون، باسكان العين، ونصب اللام‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ تعلِّمون مثقلاً، وكلهم قرؤوا‏:‏ «تدرسون» خفيفة‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرِّف، وأبو حيوه‏:‏ تُدرِّسون، بضم التاء مع التشديد‏.‏ والدراسة‏:‏ القراءة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى الكلام‏:‏ ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدي العلماء والحكماء، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم أن‏}‏ قرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وعاصم في بعض الروايات عنه، وعبد الوارث، عن أبي عمرو، واليزيدي في اختياره، بنصب الراء‏.‏ وقرأ الباقون برفع الراء، فمن نصب كان المعنى‏:‏ وما كان لبشر أن يأمركم، ومن رفع قطعه مما قبله‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ ولا يأمركم محمد‏.‏