فصل: تفسير الآية رقم (71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إِن أولياء الله‏}‏ روى ابن عباس ‏"‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله، مَن أولياء الله‏؟‏ قال «الذين إِذا رُؤوا ذُكر الله» ‏"‏ وروى عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ «إِنَّ من عباد الله لأناساً ماهم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عز وجل» قالوا‏:‏ يا رسول الله، مَنْ هم، وما أعمالهم لعلنا نحبُّهم‏؟‏ قال «هم قوم تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطَونها، فوالله إِن وجوههم لنور، وإِنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إِذا خاف الناس»، ثم قرأ ‏{‏ألا إِن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏ فيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له، رواه عبادة ابن الصامت، وأبو الدرداء، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت، قاله الضحاك، وقتادة، والزهري‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ما بشر الله به في كتابه من جنته وثوابه، كقوله‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة 25‏]‏، ‏{‏وأبشروا بالجنة‏}‏ ‏[‏فصلت 30‏]‏، ‏{‏يبشِّرهم ربُّهم‏}‏ ‏[‏التوبة 21‏]‏، وهذا قول الحسن، واختاره الفراء، والزجاج، واستدلا بقوله‏:‏ ‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لا خُلف لمواعيده، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدَّل الكلمات، لم تبدَّل المواعيد‏.‏

فأما بشراهم في الآخرة، ففيها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الجنة، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختارة ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عند خروج الروح تبشَّر برضوان الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها عند الخروج من قبورهم، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تكذيبهم‏.‏ وقال غيره‏:‏ تظاهرهم عليك بالعداوة وإِنكارهم وأذاهم‏.‏ وتم الكلام هاهنا‏.‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ العزَّة لله جميعاً‏}‏ أي‏:‏ الغلبة له، فهو ناصرك وناصر دينك، ‏{‏هو السميع‏}‏ لقولهم ‏{‏العليم‏}‏ بإضمارهم، فيجازيهم على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «ألا» افتتاح كلام وتنبيه، أي‏:‏ فالذي هم له، يفعل فيهم وبهم ما يشاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ أي‏:‏ ما يتبعون شركاء على الحقيقة، لأنهم يعدُّونها شركاء لله شفعاء لهم، وليست على ما يظنون‏.‏ ‏{‏إِن يتبعون إِلا الظن‏}‏ في ذلك ‏{‏وإِن هم إِلا يخرصون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يكذبون‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يحدسون ويحزرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه‏}‏ المعنى‏:‏ إِن ربكم الذي يجب أن تعتقدوا ربوبيته، هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، فيزول تعب النهار وكلاله بالسكون في الليل، وجعل النهار مبصراً، أي‏:‏ مضيئاً تبصرون فيه‏.‏ وإِنما أضاف الإِبصار إِليه، لأنه قد فهم السامع المقصود، إِذ النهار لا يبصر، وإِنما هو ظرف يفعل فيه غيره، كقوله‏:‏ ‏{‏عيشة راضية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏، إِنما هي مرضية، وهذا كما يقال‏:‏ ليل نائم، قال جرير‏:‏

لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى *** ونمتِ وما ليلُ المطيِّ بنائم

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏ سماع اعتبار، فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك إِلا الإِله القادر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أهل مكة، جعلوا الملائكة بنات الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيه له عما قالوا‏.‏ ‏{‏هو الغني‏}‏ عن الزوجة والولد‏.‏ ‏{‏إِن عندكم‏}‏ أي‏:‏ ما عندكم ‏{‏من سلطان‏}‏ أي‏:‏ حجة بما تقولون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يفلحون‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لا يبقون في الدنيا‏.‏

والثاني‏:‏ لا يسعدون في العاقبة‏.‏

والثالث‏:‏ لا يفوزون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا وقف التمام، وقوله ‏{‏متاع في الدنيا‏}‏ مرفوع على معنى‏:‏ ذلك متاع في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ نوح‏}‏ فيه دليل على نبوَّته، حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم يكن يقرأ الكتب، وتحريضٌ على الصبر، وموعظة لِقومه بذكر قوم نوح وما حلَّ بهم من العقوبة بالتكذيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كان كَبُرَ‏}‏ أي‏:‏ عَظُم وشَقَّ ‏{‏عليكم مقامي‏}‏ أي‏:‏ طول مكثي‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء «مُقامي» برفع الميم‏.‏ ‏{‏وتذكيري‏}‏ وعظي‏.‏ ‏{‏فعلى الله توكلت‏}‏ في نصرتي ودفع شركم عني‏.‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ «فأجمعوا» بالهمز وكسر الميم، من «أجمعتُ»‏.‏ وروى الأصمعي عن نافع‏:‏ «فاجمعوا» بفتح الميم، مِن «جمعت»‏.‏ ومعنى «أجمعوا أمركم»‏:‏ أحكِموا أمركم واعزموا عليه‏.‏ قال المؤرِّج‏:‏ «أجمعت الأمر» أفصح من «أجمعت عليه»، وأنشد‏:‏

يا ليتَ شِعري والمنى لا تنفَعُ *** هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمري مُجْمَعُ

فأما رواية الأصمعي، فقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون معناها‏:‏ اجمعوا ذوي الأمر منكم، أي‏:‏ رؤساءكم‏.‏ ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدون به، فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 64‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشركاءكم‏}‏ قال الفراء وابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ وادعوا شركاءكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الواو هاهنا بمعنى «مع»، فالمعنى‏:‏ مع شركائكم‏.‏ تقول‏:‏ لو تُركت الناقة وفصيلها لرضعها، أي‏:‏ مع فصيلها وقرأ يعقوب «وشركاؤكم» بالرفع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يكن أمركم مكتوماً، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ غماً عليكم، كما تقول‏:‏ كرب وكربة، قاله ابن قتيبة‏.‏ وذكر الزجاج القولين‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ثم اقضوا إِليَّ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ثم أقضوا إِليَّ ما في أنفسكم، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ افعلوا ما تريدون، قاله الزجاج، وابن قتيبة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ اقضوا إِليَّ بمكروهكم وما توعدونني به، كما تقول العرب‏:‏ قد قضى فلان، يريدون‏:‏ مات ومضى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تولَّيتم‏}‏ أي‏:‏ أعرضتم عن الإِيمان‏.‏ ‏{‏فما سألتكم من أجر‏}‏ أي‏:‏ لم يكن دعائي إِياكم طمعاً في أموالكم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أجريَ‏}‏ حرَّك هذه الياء ابن عامر، وأبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم، وأسكنها الباقون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناهم خلائف‏}‏ أي‏:‏ جعلنا الذين نَجَواْ مع نوح خَلَفاً ممن هلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعده‏}‏ أي‏:‏ من بعد نوح ‏{‏رسلاً إِلى قومهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد إِبراهيم وهوداً وصالحاً ولوطاً وشعيباً‏.‏ ‏{‏فجاؤوهم بالبينات‏}‏ أي‏:‏ بان لهم أنهم رسل الله‏.‏ ‏{‏فما كانوا‏}‏ أي‏:‏ أولئك الأقوام ‏{‏ليؤمنوا بما كذَّبوا‏}‏ يعني الذين قبلهم‏.‏ والمراد‏:‏ أن المتأخرين مَضَواْ على سَنَن المتقدِّمين في التكذيب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا به من العذاب من قبل نزوله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نطبع‏}‏ أي‏:‏ كما طبعنا على قلوب أولئك، ‏{‏كذلك نطبع على قلوب المعتدين‏}‏ يعني المتجاوزين ما أُمروا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم‏}‏ يعني الرسل الذين أُرسلوا بعد نوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا‏}‏ وهو ما جاء به موسى من الآيات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أتقولون للحق لما جاءَكم هذا اللفظ، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لسحرٌ مبين‏}‏‏.‏ ثم قررهم فقال‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏‏؟‏‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما أدخلوا الألف على جهة تفظيع الأمر، كما يقول الرجل إِذا نظر إِلى الكسوة الفاخرة‏:‏ أكسوة هذه‏؟‏ يريد بالاستفهام تعظيمها، وتأتي الرجلَ جائزةٌ، فيقول‏:‏ أحقٌّ ما أرى‏؟‏ معظِّماً لما ورد عليه‏.‏ وقال غيره‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ أتقولون للحق لما جاءكم‏:‏ هو سحر‏؟‏ أسحر هذا‏؟‏ فحذف السحر الأولُ اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، كقوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8‏]‏ المعنى‏:‏ بعثناهم ليسوؤوا وجوهَكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجئتنا لتلفتنا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لتصرفنا‏.‏ يقال‏:‏ لفتُّ فلاناً عن كذا‏:‏ إِذا صرفته‏.‏ ومنه الالتفات، وهو الانصراف عما كنت مقبلاً عليه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتكونَ لكما الكبرياء في الأرض‏}‏ وروى أبان، وزيد عن يعقوب ‏{‏ويكون لكما‏}‏ بالياء‏.‏ وفي المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ الملك والشرف، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الطاعة، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ العلوّ، قاله ابن زيد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والأرض هاهنا، أرض مصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بكل ساحر‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف «بكل سحَّار» بتشديد الحاء وتأخير الألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما جئتم به السحرُ‏}‏ قرأ الأكثرون «السحرُ» بغير مدّ، على لفظ الخبر، والمعنى‏:‏ الذي جئتم به من الحبال والعصيّ، هو السحر، وهذا ردٌّّ لقولهم للحق‏:‏ هذا سحر، فتقديره‏:‏ الذي جئتم به السحر، فدخلت الألف واللام، لأن النكرة إِذا عادت، عادت معرفة، كما تقول‏:‏ رأيت رجلاً، فقال ليَ الرجل‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأبان عن عاصم، وأبو حاتم عن يعقوب «آلسحر» بمدِّ الألف، استفهاماً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ أي شيء جئتم به‏؟‏ أسحر هو‏؟‏ على جهة التوبيخ لهم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ هذا الاستفهام معناه التعظيم للسحر، لا على سبيل الاستفهام عن الشيء الذي يُجهل، وذلك مثل قول الإِنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إِنسان‏:‏ أَخَطَأٌ هذا‏؟‏ أي‏:‏ هو عظيم الشأن في الخطأ‏.‏ والعرب تستفهم عما هو معلوم عندها، قال امرؤ القيس‏:‏

أغرَّكِ مِنّي أنّ حُبَّكِ قاتلي *** وأنَّك مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ

وقال قيس بن ذريح‏:‏

أراجعةٌ يالُبنَ أيامُنا الأُلى *** بذي الطَّلح أم لا ما لَهُنَّ رجوعُ

فاستفهم وهو يعلم أنهن لا يرجعن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله سيبطله‏}‏ أي‏:‏ يهلكه، ويُظهر فضيحتكم، ‏{‏إِن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏ لا يجعل عملهم نافعاً لهم‏.‏ ‏{‏ويُحقُّ الله الحقَّ‏}‏ أي‏:‏ يظهره ويمكنِّه، ‏{‏بكلماته‏}‏ بما سبق من وعده بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 92‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما آمن لموسى إِلا ذرية‏}‏ في المراد بالذرّية هاهنا ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المراد بالذرّية‏:‏ القليل، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى، مات آباؤهم لطول الزمان، وآمنوا هم، قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هم الذين نشؤوا مع موسى حين كفَّ فرعون عن ذبح الغلمان‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما قيل لهؤلاء‏:‏ «ذرية» لأنهم أولاد الذين بُعث إِليهم موسى، وإِن كانوا بالغين‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قوم، أُمهاتهم من بني إِسرائيل، وآباؤهم من القبط، قاله مقاتل، واختاره الفراء‏.‏ قال‏:‏ وإِنما سُمُّوا ذريةً كما قيل لأولاد فارس‏:‏ الأبناء، لأن أُمهاتهم من غير جنس آبائهم‏.‏ وفي هاء «قومه» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها تعود إِلى موسى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى فرعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى القول الأول يكون قوله‏:‏ ‏{‏على خوفٍ من فرعونَ وملئهم‏}‏ أي‏:‏ وملأ فرعون‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «وملئهم» بالجمع، وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذُكر ذهب الوهم إِليه وإِلى من معه، تقول‏:‏ قدم الخليفة فكثر الناس، تريد‏:‏ بمن معه‏.‏ وقد يجوز أن يريد بفرعون‏:‏ آل فرعون، كقوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وعلى القول الثاني‏:‏ يرجع ذِكر الملأ إِلى الذرية‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وهذا أصح، لأنه كان في الذرِّيةَ من أبوه قبطي وأُمُّه إِسرائيلية، فهو مع فرعون على موسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يفتِنهم‏}‏ يعني فرعون، ولم يقل‏:‏ يفتنوهم، لأن قومه كانوا على مَن كان عليه‏.‏ وفي هذه الفتنة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها القتل، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ التعذيب، قاله ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن فرعون لعالٍ في الأرض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ متطاول في أرض مصر ‏{‏وإِنَّه لمن المسرفين‏}‏ حين كان عبداً فادّعى الربوبيَّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكَّلوا‏}‏ لما شكا بنوا إِسرائيل إِلى موسى ما يهددّهم به فرعون من ذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، قال لهم هذا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لا تجعلنا فتنة‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من قِبَلك، فيقول قوم فرعون‏:‏ لو كانوا على حق ما عُذّبِوا ولا سُلِّطْنا عليهم‏.‏

والثاني‏:‏ لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا، والقولان مرويان عن مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ لا تسلِّطهم علينا فيفتتنون بنا، لظنهم أنهم على حق، قاله أبو الضحى، وأبو مجلز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تبوَّآ لقومكما بمصر بيوتاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما أُرسل موسى، أَمر فرعونُ بمساجد بني إِسرائيل فخُرِّبت كلُّها، ومُنعوا من الصلاة، وكانوا لا يصلُّون إِلا في الكنائس؛ فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّون فيها خوفاً من فرعون‏.‏ و«تبوَّآ» معناه‏:‏ اتخِذا، وقد شرحناه في ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وفي المراد بمصر قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه البلد المعروف بمصر، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الاسكندرية، قاله مجاهد‏.‏ وفي البيوت قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها المساجد، قاله الضحاك،

والثاني‏:‏ القصور، قاله مجاهد‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏واجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ اجعلوها مساجد، رواه مجاهد، وعكرمة، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال النخعي، وابن زيد‏.‏ وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم، فقيل لهم‏:‏ اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد‏.‏

والثاني‏:‏ اجعلوها قِبَل القبلة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس، قال‏:‏ قِبَل مكة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أُمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة، وبه قال مقاتل، وقتادة، والفراء‏.‏

والثالث‏:‏ اجعلوها يقابل بعضها بعضاً، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سعيد بن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلةً لكم في الصلاة، فهي قبلة اليهود إِلى اليوم، قاله ابن بحر‏.‏

فإن قيل‏:‏ البيوت جمع، فكيف قال «قبلة» على التوحيد‏؟‏ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال‏:‏ من قال‏:‏ المراد بالقبلة الكعبة، قال‏:‏ وحِّدت القبلة لتوحيد الكعبة‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون أراد‏:‏ اجعلوا بيوتكم قِبَلاً، فاكتفى بالواحد عن الجمع، كما قال العباس بن مرداس‏:‏

فقلنا أسْلِمُوا إِنّا أخوكم *** فقد برئت من الإِحن الصُّدورُ

يريد‏:‏ إِنا إِخوتكم‏.‏ ويجوز أن يكون وحّد «قبلة» لانه أجراها مجرى المصدر، فيكون المعنى‏:‏ واجعلوا بيوتكم إِقبالاً على الله، وقصداً لما كنتم تستعملونه في المساجد‏.‏ ويجوز أن يكون وحَّدها، والمعنى‏:‏ واجعلوا بيوتكم شيئاً قبلة، ومكاناً قبلة، ومحلة قبلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أتموا الصلاة ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ أنت يا محمد‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ بشِّرهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إِنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان لهم من لدن فسطاط مصر إِلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليَضلُّوا عن سبيلك‏}‏ وفي لام «ليَضِلُّوا» أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها لام «كي» والمعنى‏:‏ آتيتهم ذلك كي يضلوا، وهذا قول الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها لام العاقبة، والمعنى إِنك آتيتهم ذلك فأصارهم إِلى الضلال، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏ليكون لهم عدوَّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ آل أمرهم إِلى أن صار لهم عدواً، لا أنهم قصدوا ذلك، وهذا كما تقول للذي كسب مالاً فأدَّاه إِلى الهلاك‏:‏ إِنما كسب فلان لحتفه، وهو لم يكسب المال طلباً للحتف، وأنشدوا‏:‏

وللمنايا تُربِّي كلُّ مُرْضِعَةٍ *** وللخراب يُجِدُّ الناسُ عمرانا

وقال آخر‏:‏

وللموتِ تغذُو الوالداتُ سِخالَها *** كما لخراب الدُّور تُبنى المساكِنُ

وقال آخر‏:‏

فإن يكُنِ الموتُ أفناهم *** فللموت ما تَلِدُ الوالده

أراد‏:‏ عاقبة الأمر ومصيره إِلى ذلك، هذا قول الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنها لام الدعاء، والمعنى‏:‏ ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أنها لام أجْل، فالمعنى‏:‏ آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبةً منك لهم، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏سيحلفون بالله لكم إِذا انقلبتم إِليهم لتُعرضوا عنهم‏}‏

‏[‏التوبة‏:‏ 95‏]‏ أي‏:‏ لأجل إِعراضكم، حكاه بعض المفسرين‏.‏ وقرأ أهل الكوفة إِلا المفضل، وزيد، وأبو حاتم عن يعقوب «ليُضِلُّوا» بضم الياء، أي ليُضلُّوا غيرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا اطمس‏}‏ روى الحلبي عن عبد الوارث‏:‏ «اطمُس» بضم الميم، ‏{‏على أموالهم‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها جُعلت حجارة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والفراء‏.‏ وقال القرظي‏:‏ جُعِل سُكَّرهُم حجارة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء لهم حجارة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة، فكانت إِحدى الآيات التسع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تطميس الشيء‏:‏ إِذهابه عن صورته والانتفاعِ به على الحال الأولى التي كان عليها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها هلكت، فالمعنى‏:‏ أهلكْ أموالهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، ومنه يقال‏:‏ طُمست عينه، أي‏:‏ ذهبتْ، وطُمس الطريق‏:‏ إِذا عفا ودرس‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏واشدد على قلوبهم‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ اطبع عليها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أهلكهم كفاراً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ اشدد عليها بالضلالة، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أن معناه قسِّ قلوبهم، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه دُعَاءٌ عليهم أيضاً، كأنه قال‏:‏ اللهم فلا يؤمنوا، قاله الفراء، وأبو عبيدة، والزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ فلا آمنوا، قال الأعشى‏:‏

فلا ينْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى *** ولا تَلْقني إِلاّ وأنفُكَ راغِمُ

معناه‏:‏ لا أنبسط، ولا لقيتني‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ليَضلُّوا عن سبيلك‏}‏، فالمعنى‏:‏ أنك آتيتهم ليَضلُّوا فلا يؤمنوا، حكاه الزجاج عن المبرِّد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الغرق، وكان موسى يدعو، وهارون يؤمِّن، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أُجيبتْ دعوتُكما‏}‏، وكان بين الدعاء والإِجابة أربعون سنة‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ ‏{‏دعوتكما‏}‏ وهما دعوتان‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دَعَواتٍ وكلامٍ يطول كما بيَّنَّا في ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ أن الكلمة تقع على كلمات، قال الشاعر‏:‏

وكان دعا دعوةً قومَه *** هلمَّ إِلى أمركم قد صُرِم

فأوقع «دعوة» على ألفاظ بيَّنها آخر بيته‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ قد أُجيبت دعواتكما، فاكتفى بالواحد من ذِكر الجميع، ذكر الجوابين ابن الأنباري‏.‏ وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ «دَعَواتُكما» بالألف وفتح العين‏.‏

والثالث‏:‏ أن موسى هو الذي دعا، فالدعوة له، غير أنه لما أمَّن هارون، أُشرك بينهما في الدعوة، لأن التأمين على الدعوة منها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاستقيما‏}‏ أَربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إِلى طاعة الله، قاله ابن جرير‏.‏

والثالث‏:‏ فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه‏.‏

والرابع‏:‏ فاستقيما على ديني، ذكرهما أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبعانِّ‏}‏ قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتَّبعانِّ»‏.‏ وقرأ ابن عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون «تَتَّبعانّ»، إِلا أن النون الشديدة دخلت للنهي مؤكِّدة، وكُسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف، فشُبهت بنون الاثنين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة، فإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى الأمر، كقوله‏:‏ ‏{‏يتربَّصْنَ بأنفسهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228 و234‏]‏ و‏{‏لاتضارَّ والدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ أي‏:‏ لا ينبغي ذلك، وإِن شئت جعلته حالاً من قوله‏:‏ ‏{‏فاستقيما‏}‏ تقديره‏:‏ استقيما غير متَّبِعَين‏.‏ وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم فرعون وقومه، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جاز أن يدعوَ موسى على قومه‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن بعضهم يقول‏:‏ كان ذلك بوحي، وهو قول صحيح، لأنه لا يُظن بنبيّ أن يُقدِم على مثل ذلك إِلا عن إِذن من الله عز وجل، لأن دعاءه سبب للانتقام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعهم فرعون وجنوده‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أتبعهم وتبعهم سواء‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أتبعهم‏:‏ لحقهم‏.‏ ‏{‏بغياً وعَدْواً‏}‏ أي‏:‏ ظلماً‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏فاتَّبعهم‏}‏ بالتشديد، وكذلك شددوا ‏{‏وعُدُوّاً‏}‏ مع ضم العين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنه‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «أنه» بفتح الألف، والمعنى‏:‏ آمنت بأنه، فلما حُذف حرف الجر، وصل الفعلُ إِلى «أنَّ» فنُصب‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «إِنه» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، كأنه قال‏:‏ آمنت، فقلت‏:‏ إِنه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يقبل الله إِيمانه عند رؤية العذاب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ جنح فرعون إِلى التوبة حين أُغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة، فقيل له‏:‏ ‏{‏آلآن‏}‏ أي‏:‏ الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها، وكنت من المفسدين بالدعاء إِلى عبادة غير الله عز وجل‏؟‏ والمخاطِب له بهذا كان جبريل‏.‏ وجاء في الحديث أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون خشية أن يُغفرَ له‏.‏ قال الضحاك ابن قيس‏:‏ اذكروا الله في الرَّخاء يذكرْكم في الشدة، إِن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً، وكان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله، فقال الله‏:‏ ‏{‏فلولا أنَّه كان من المسبِّحين للبث في بطنه إِلى يوم يبعثون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143‏]‏، وإِن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لذِكر الله تعالى، فلما أدركه الغرق قال‏:‏ آمنت، فقال الله‏:‏ ‏{‏آلآن وقد عصيت قبلُ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم ننجِّيك‏}‏ وقرأ يعقوب «نُنْجيك» مخففة‏.‏ قال اللغويون، منهم يونس وأبو عبيدة، نُلقيك على نجوة من الأرض، أي ارتفاع، ليصير عَلَماً أنه قد غرق‏.‏ وقرأ ابن السميفع «ننحِّيك» بحاء‏.‏ وفي سبب إِخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن موسى وأصحابه لما خرجوا، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون‏:‏ ما أُغرق فرعون، ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر، فأوحى الله إِلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً، فكانت نجاةَ عِبرةٍ، وأوحى الله تعالى إِلى البحر‏:‏ أن الفظ ما فيك، فلفظهم البحر بالساحل، ولم يكن يلفظ غريقاً، فصار لا يقبل غريقاً إِلى يوم القيامة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أصحاب موسى قالوا‏:‏ إِنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا موسى ربه، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإِلى نحوه ذهب قيس بن عُبَاد، وعبد الله بن شداد، والسدي، ومقاتل‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما قال بنو إِسرائيل‏:‏ لم يغرق فرعون، دعا موسى، فخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفاً عليهم الحديد، فأخذته بنو إِسرائيل يمثِّلون به‏.‏ وذكر غيره أنه إِنما أخرج من البحر وحده دون أصحابه‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ كذَّب بعض بني إِسرائيل بغرقه، فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إِسرائيل قُصَيِّراً أحمر كأنه ثور‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ عرفه بنو إِسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها‏.‏ فأما وجهه فقد غيَّره سخط الله تعالى‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ، وكان يعبده قوم، فبيَّن الله تعالى أمره، فأغرقه وأصحابه، ثم أخرجه من بينهم، قاله الزجاج‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ببدنك‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بجسدك من غير روح، قاله مجاهد‏.‏ وذِكر البدن دليل على عدم الروح‏.‏

والثاني‏:‏ بدرعك، قاله أبو صخر‏.‏ وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ، وقيل‏:‏ من ذهب، فعُرِف بدرعه‏.‏

والثالث‏:‏ نلقيك عرياناً، قاله الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ ننجِّيك وحدك، قاله ابن قتيبة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لتكون لمن خلفك آية‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لتكون لمن بعدك في النكال آية لئلا يقولوا مثل مقالتك، فإنك لو كنت إِلهاً ما غرقت، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «خلفك» بمعنى بعدك، والآية‏:‏ العلامة‏.‏

والثاني‏:‏ لتكون لبني إِسرائيل آية، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ لمن تخلّف من قومه، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أول الآية، فخرج في معنى الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عبرة للناس‏.‏

والثاني‏:‏ علامة تدل على غرقه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الآية أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ، فبان أمره، وأخرج من بين أصحابه لما غرقوا‏.‏ وقرأ ابن السميفع، وابو المتوكل، وأبو الجوزاء ‏{‏لمن خلقك‏}‏ بالقاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 97‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بوَّأنا بني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ أنزلناهم منزل صدق، أي منزلاً كريما‏.‏ وفي المراد ببني إِسرائيل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أصحاب موسى‏.‏

والثاني‏:‏ قريظة والنضير‏.‏ وفي المراد بالمنزل الذي أُنزلوه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الأردن، وفلسطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الشام، وبيت المقدس، قاله الضحاك وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ مصر، روي عن الضحاك أيضاً‏.‏

والرابع‏:‏ بيت المقدس، قاله مقاتل‏.‏

والخامس‏:‏ ما بين المدينة والشام من أرض يثرب، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏ والمراد بالطيبات‏:‏ ما أُحل لهم من الخيرات الطيبة‏.‏ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ يعني بني إسرائيل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما اختلفوا في محمد، لم يزالوا به مصدِّقين، ‏{‏حتى جاءهم العلم‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، وروي عنه‏:‏ حتى جاءهم العلم، يعني محمداً‏.‏ فعلى هذا يكون العلم هاهنا‏:‏ عبارة عن المعلوم‏.‏ وبيان هذا أنه لما جاءهم، اختلفوا في تصديقه، وكفر به أكثرهم بغياً وحسداً بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كنتَ في شك‏}‏ في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من الشاكّين، بدليل قوله في آخر السورة‏:‏ ‏{‏إِن كنتم في شكٍّ من ديني‏}‏ ‏[‏يونس 105‏]‏، ومثله قوله ‏{‏يا أيها النَّبيُّ اتَّق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب 2‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بما تعملون خبيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب 3‏]‏ ولم يقل‏:‏ بما تعمل، وهذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو المراد به‏.‏ ثم في المعنى قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شك، لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول الرجل لولده‏:‏ إن كنت ابني فبِرَّني، ولعبده‏:‏ إِن كنت عبدي فأطعني، وهذا اختيار الفراء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شك، ولا سأل‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون «إِن» بمعنى «ما» فالمعنى‏:‏ ما كنت في شك ‏{‏فاسأل‏}‏، المعنى‏:‏ لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاكّ، ولكن لتزداد بصيرة، ذكره الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن الخطاب للشاكّين، فالمعنى‏:‏ إِن كنت أيها الإِنسان في شك مما أُنزل إليك على لسان محمد، فَسَلْ، روي عن ابن قتيبة‏.‏

وفي الذي أنزل إِليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أُنزل إِليه أنه رسول الله‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مكتوب عندهم في التوراة والإِنجيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك‏}‏ وهم اليهود والنصارى‏.‏ وفي الذين أُمر بسؤالهم منهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من آمن، كعبد الله بن سلام، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أهل الصدق منهم، قاله الضحاك، وهو يرجع إِلى الأول، لأنه لا يَصْدق إلا من آمن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءك الحق من ربك‏}‏ هذا كلام مستأنف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين حقت‏}‏ أي‏:‏ وجبت ‏{‏عليهم كلمةُ ربِّك‏}‏ أي‏:‏ قوله‏.‏ وبماذا حقت الكلمة عليهم، فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ باللعنة‏.‏

والثاني‏:‏ بنزول العذاب‏.‏

والثالث‏:‏ بالسَّخط‏.‏

والرابع‏:‏ بالنقمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ قال الأخفش‏:‏ إِنما أنَّث فعل «كل» لأنه أضافه إلى «آية» وهي مؤنثة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ أي‏:‏ أهل قرية‏.‏ وفي «لولا» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ لم تكن قرية آمنت ‏{‏فنفعها إِيمانها‏}‏ أي‏:‏ قُبِلَ منها ‏{‏إلا قوم يونس‏}‏، قاله ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب، إِلا لقوم يونس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ فهلاّ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ فهلاّ كانت قرية آمنت في وقت نفعها إِيمانها، إِلا قوم يونس‏؟‏ و«إِلا» هاهنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال‏:‏ لكن قومُ يونس‏.‏ قال الفراء‏:‏ نُصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن «ما» بعد «إِلا» في الجحد يتبع ما قبلها‏؟‏ تقول‏:‏ ما قام أحد إِلا أخوك، فإذا قلت‏:‏ ما فيها أحد إِلا كلباً أو حماراً، نصبتَ، لانقطاعهم من الجنس، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعاً‏.‏ وذكر ابن الأنباري في قوله‏:‏ «إِلا» قولين آخرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى الواو، والمعنى‏:‏ وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا، وهذا مروي عن أبي عبيدة، والفراء ينكره‏.‏

والثاني‏:‏ أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه، تقديره‏:‏ حتى يروا العذاب الأليم إِلا قوم يونس، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كشفنا عنهم‏}‏ أي صرفنا عنهم ‏{‏عذاب الخزي‏}‏ أي‏:‏ عذاب الهوان والذل ‏{‏ومتعناهم إلى حين‏}‏ أي‏:‏ إِلى حين آجالهم‏.‏

الإِشارة إِلى شرح قصتهم‏.‏

ذكر أهل العلم بالسِّيَر والتفسير أن قوم يونس كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل، فأرسل الله عز وجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام، فأبوا، فأخبرهم أن العذاب مصبِّحهم بعد ثلاث، فلما تغشَّاهم العذاب، قال ابن عباس، وأنس‏:‏ لم يبق بين العذاب وبينهم إِلا قدر ثلثي ميل، وقال مقاتل‏:‏ قدر ميل، وقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ وجدوا حرَّ العذاب على أكتافهم، وقال سعيد بن جبير‏:‏ غشيهم العذاب كما يغشى الثوبُ القبرَ، وقال بعضهم‏:‏ غامت السماء غيماً أسود يُظهر دخانا شديداً، فغشي مدينتهم، واسودَّت سطوحهم، فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح، وحَثَوْا على رؤوسهم الرماد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، وعجُّوا إِلى الله بالتوبة الصادقة، وقالوا آمنا‏:‏ بما جاء به يونس، فاستجاب الله منهم‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ بلغ من توبتهم أن ترادَّوا المظالم بينهم، حتى ان كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقلعه، فيرده‏.‏ وقال أبو الجلْد‏:‏ لما غشيهم العذاب، مشَوا إِلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا‏:‏ ما ترى‏؟‏ قال‏:‏ قولوا‏:‏ يا حيُّ حين لا حيَّ، يا حيُّ مُحيي الموتى، يا حيُّ لا إِله إِلا أنت، فقالوها‏:‏ فكُشف العذاب عنهم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ عجّوا إِلى الله أربعين ليلة، فكُشف العذاب عنهم‏.‏ وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة‏.‏ قال‏:‏ وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم، فقيل له‏:‏ ارجع إِليهم، فقال‏:‏ كيف أرجع إِليهم فيجدوني كاذبا‏؟‏ وكان مَن يكذب بينهم ولا بيِّنة له يُقتَل، فانصرف مغاضباً، فالتقمه الحوت‏.‏ وقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أوحى الله إِلى نبي من أنبياء بني إِسرائيل يقال له‏:‏ شَعيا، فقيل له‏:‏ ائت فلاناً الملِك، فقل له يبعث إِلى بني إِسرائيل نبياً قوياً أميناً، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال الملك ليونس‏:‏ اذهب إِليهم، فقال‏:‏ ابعث غيري، فعزم عليه أن يذهب، فأتى بحر الروم، فركب سفينة، فالتقمه الحوت، فلما خرج من بطنها أُمر أن ينطلق إلى قومه، فانطلق نذيراً لهم، فأبَوْا عليه، فوعدهم بالعذاب، وخرج، فلما تابوا رُفع عنهم‏.‏ والقول الأول أثبت عند العلماء، وأنه إِنما التقمه الحوت بعد إِنذاره لهم وتوبتهم‏.‏ وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إِياه في مكانه إِن شاء الله تعالى ‏[‏الصافات‏:‏ 143‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف كُشف العذاب عن قوم يونس بعد إِتيانه إِليهم، ولم يُكشَف عن فرعون حين آمن‏؟‏

فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن ذلك كان خاصاً لهم كما ذكرنا في أول الآية‏.‏

والثاني‏:‏ أن فرعون باشره العذاب، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، فأما الذي يعاين، فلا توبة، له ذكره الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن الله تعالى علم منهم صدق النيات، بخلاف مَن تقدَّمهم من الهالكين، ذكره ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ جاء بقوله‏:‏ «جميعا» مع «كل» تأكيداً كقوله‏:‏ ‏{‏وقال الله لا تتخذوا إِلهين اثنين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تُكره الناس‏}‏ قال المفسرون، منهم مقاتل‏:‏ هذا منسوخ بآية السيف، والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ، لأن الإِكراه على الإِيمان لا يصح، لأنه عمل القلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إِلا بإذن الله‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بقضاء الله وقدره‏.‏

والثاني‏:‏ بأمر الله، رُويا عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ بمشيئة الله، قاله عطاء‏.‏

والرابع‏:‏ إِلا أن يأذن الله في ذلك، قاله مقاتل‏.‏

والخامس‏:‏ بعلم الله‏.‏

والسادس‏:‏ بتوفيق الله، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلُ الرجس‏}‏ أي‏:‏ ويجعل الله الرجسَ‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل الرجس» بالنون‏.‏ وفيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه السخط، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الإِثم والعدوان، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ العذاب، قاله الحسن، وأبو عبيدة، والزجاج‏.‏

والخامس‏:‏ العذاب والغضب، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على الذين لا يعقلون‏}‏ أي‏:‏ لا يعقلون عن الله أمره ونهيه‏.‏ وقيل‏:‏ لا يعقلون حججه ودلائل توحيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السموات والأرض‏}‏ قال المفسرون‏:‏ قل للمشركين الذي يسألونك الآيات على توحيد الله انظروا بالتفكر والاعتبار ماذا في السموات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانيته ونفاذ قدرته كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، وكلُّ هذا يقتضي خالقاً مدبراً‏.‏ ‏{‏وما تُغني الآيات والنُّذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ في علم الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني كفار قريش‏.‏ ‏{‏إِلا مثل ايام الذين خَلَوْا من قبلهم‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أي‏:‏ مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم، والعرب تكني بالأيام عن الشرور والحروب، وقد تقصد بها أيامَ السرور والأفراح إِذا قام دليل بذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فانتظروا‏}‏ هلاكي ‏{‏إِني معكم من المنتظرين‏}‏ لنزول العذاب بكم‏.‏ ‏{‏ثم نُنَجِّي رُسُلَنا والذين آمنوا‏}‏ من العذاب إِذا نزل، فلم يَهلك قوم قط إِلا نجا نبيهم والذين آمنوا معه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك حقاً علينا نُنْجي المؤمنين‏}‏ وقرأ يعقوب، وحفص، والكسائي في قراءته وروايته عن أبي بكر‏:‏ «ننجِ المؤمنين» بالتخفيف‏.‏ ثم في هذا الإِنجاء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ننجيهم من العذاب إِذا نزل بالمكذِّبين، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والثاني‏:‏ ننجيهم في الآخرة من النار، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 106‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أهل مكة ‏{‏إِن كنتم في شك من ديني‏}‏ الإِسلام ‏{‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏ وهي الأصنام ‏{‏ولكن أعبد الله الذي‏}‏ يقدر أن يميتكم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا ينبغي لكم أن تشكُّوا في ديني، لأني أعبد الله الذي يميت وينفع ويضر، ولا تُستَنكرُ عبادة مَنْ يفعل هذا، وإِنما ينبغي لكم أن تشكُّوا وتُنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفَعُ‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم قال‏:‏ ‏{‏الذي يتوفَّاكم‏}‏ ولم يقل‏:‏ «الذي خلقكم»‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن هذا يتضمن تهديدهم، لأن ميعاد عذابهم الوفاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن أقم وجهك‏}‏ المعنى‏:‏ وأُمرت أن أقم وجهك، وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أخلص عملك‏.‏

والثاني‏:‏ استقم باقبالك على ما أُمرت به بوجهك‏.‏

وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المتَّبِع، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ المُخلِص، قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ المستقيم، قاله القرظي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تدع من دون الله مالا ينفعك‏}‏ إِن دعوته ‏{‏ولا يضرك‏}‏ إِن تركتَ عبادته‏.‏ و«الظالم» الذي يضع الشيء في غير موضعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 109‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله بضر‏}‏ أي‏:‏ بشدة وبلاءٍ ‏{‏فلا كاشف‏}‏ لذلك ‏{‏إِلاّ هو‏}‏ دون ما يعبده المشركون من الأصنام‏.‏ وإِن يصبك بخير، أي‏:‏ برخاء ونعمة وعافية، فلا يقدر أحد أن يمنعك إِياه‏.‏ ‏{‏يصيب به‏}‏ أي‏:‏ بكل واحد من الضُّر والخير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد جاءكم الحق من ربكم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ضلَّ فإنما يَضِلَّ عليها‏}‏ أي‏:‏ فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ أي‏:‏ في منعكم من اعتقاد الباطل، والمعنى‏:‏ لست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وهذه منسوخة بآية القتال، والتي بعدها أيضاً، وهي قوله‏:‏ ‏{‏واصبر حتى يحكم الله‏}‏ لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين، والجزيةِ على أهل الكتاب، والصحيح‏:‏ أنه ليس هاهنا نسخ‏.‏ أما الآية الأولى، فقد ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏‏.‏ وأما الثانية، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره‏.‏‏}‏

سورة هود

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

فأما ‏{‏آلر‏}‏ فقد ذكرنا تفسيرها في سورة ‏(‏يونس‏)‏

قال الفراء‏:‏ و‏{‏كتاب‏}‏ مرفوع بالهجاء الذي قبله، كأنك قلت‏:‏ حروف الهجاء هذا القرآن، وإِن شئت رفعته باضمار «هذا كتاب»، والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أحكمت آياته‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أُحكمت فما تُنسخُ بكتاب كما نُسخت الكتب والشرائع، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أُحكمت بالأمر والنهي، قاله الحسن، وأبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ أُحكمت عن الباطل، أي‏:‏ مُنعت، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أُحكمت بمعنى جُمعت، قاله ابن زيد‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف عمَّ الآيات هاهنا بالإِحكام، وخص بعضها في قوله‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 8‏]‏‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الإِحكام الذي عمَّ به هاهنا، غير الذي خَصَّ به هناك‏.‏

وفي معنى الإِحكام العامّ خمسة أقوال، قد أسلفنا منها أربعة في قوله‏:‏ ‏{‏أُحكمت آياته‏}‏‏.‏

والخامس‏:‏ أنه إِعجاز النظم والبلاغة وتضمين الحِكَم المعجزة‏.‏

ومعنى الإِحكام الخاص‏:‏ زوال اللَّبْس، واستواء السامعين في معرفة معنى الآية‏.‏

والجواب الثاني‏:‏ أن الإِحكام في الموضعين بمعنى واحد‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أُحكمت آياته‏}‏‏:‏ أُحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس، فأُوقعَ العمومُ على معنى الخصوص، كما تقول العرب‏:‏ قد أكلتُ طعام زيد، يعنون‏:‏ بعضَ طعامه، ويقولون‏:‏ قُتلنا وربِّ الكعبة، يعنون‏:‏ قُتل بعضنا، ذكر ذلك ابن الأنباري‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ثم فصِّلت‏}‏ ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ فصِّلت بالحلال والحرام، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فصِّلت بالثواب والعقاب، رواه جسر بن فرقد عن الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ فصِّلت بالوعد والوعيد، رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن أيضاً‏.‏

والرابع‏:‏ فصِّلت بمعنى فسِّرت، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أُنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل جملة، ذكره ابن قتيبة‏.‏

والسادس‏:‏ فصِّلت بجميع ما يُحتاج إِليه من الدلالة على التوحيد، وتثبيت نبوَّة الأنبياء، وإِقامة الشرائع، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من لدن حكيم‏}‏ أي‏:‏ من عنده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألاّ تعبُدوا إِلا الله‏}‏ قال الفراء‏.‏ المعنى‏:‏ فصِّلت آياته بأن لا تعبدوا إِلا الله ‏{‏وأن استغفروا‏}‏‏.‏ و«أن» في موضع النصب بالقائك الخافض‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ آمركم أن لا تعبدوا ‏[‏إِلا الله‏]‏ وأن استغفروا‏.‏

قال مقاتل‏:‏ والمراد بهذه العبادة‏:‏ التوحيد‏.‏ والخطاب لكفار مكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إِليه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الاستغفار والتوبة هاهنا من الشرك، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ استغفروه من الذنوب السالفة، ثم توبوا إِليه من المستأنفة متى وقعت‏.‏ وذُكر عن الفراء أنه قال‏:‏ «ثم» هاهنا بمعنى الواو‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمتعكم متاعاً حسناً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يتفضل عليكم بالرزق والسَّعَة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يُعمِّركْم‏.‏ وأصل الإِمتاع‏:‏ الإِطالة، يقال‏:‏ أمتع الله بك، ومتَّع الله بك، إِمتاعاً ومتاعاً، والشيء الطويل‏:‏ ماتع، يقال‏:‏ جبل ماتع، وقد متع النهار‏:‏ إِذا تطاول‏.‏

وفي المراد بالأجل المسمى قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الموت، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يوم القيامة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤت كل ذي فضل فضله‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الله تعالى‏.‏ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ويؤت كل ذي فضل من حسنةٍ وخيرٍ فضله، وهو الجنة‏.‏

والثاني‏:‏ يؤتيه فضله من الهداية إِلى العمل الصالح‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى العبد، فيكون المعنى‏:‏ ويؤت كل من زاد في إِحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده، فيفضِّله في الدنيا بالمنزلة الرفيعة، وفي الآخرة بالثواب الجزيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تولَّوا‏}‏ أي‏:‏ تُعرضوا عما أُمرتم به‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو مجلز، وأبو رجاء‏:‏ «وإِن تُوَلُّوا» بضم التاء‏.‏ ‏{‏فإني أخاف عليكم‏}‏ فيه إِضمار «فقل»‏.‏ واليوم الكبير‏:‏ يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إِنهم يثنون صدورهم‏}‏ في سبب نزولها خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف إِنه ليحبّه، ويضمر خلاف ما يُظهر له، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء، فنزلت فيهم هذه الآية رواه محمد بن عباد عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في بعض المنافقين، كان إِذا مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه لئلا يراه رسول الله، قاله عبد الله بن شداد‏.‏

والرابع‏:‏ أن طائفة من المشركين قالوا‏:‏ إِذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، كيف يعلم بنا‏؟‏ فأخبر الله عما كتموا، ذكر زجاج‏.‏

والخامس‏:‏ أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذا سمعوا منه القرآن حنَوا صدورهم، ونكسوا رؤوسهم، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يثنون صدورهم‏}‏ يقال‏:‏ ثنيت الشيء‏:‏ إِذا عطفته وطويته‏.‏ وفي معنى الكلام خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يكتمون ما فيها من العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يثنون صدورهم على الكفر، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ يثنونها إِذا ناجى بعضهم بعضاً في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ يثنونها حياءً من الله تعالى، وهو يخرَّج على ما حكينا عن ابن عباس‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وكان ابن عباس يقرؤها «ألا إِنهم تَثْنَوْني صدورُهم» وفسرها أن ناساً كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء‏.‏ فَتَثْنَوْنِي‏:‏ تفْعَوْعِلُ، وهو فعل للصدور، معناه‏:‏ المبالغة في تثنّي الصدور، كما تقول العرب‏:‏ احلولى الشيء، يحلَولي‏:‏ إِذا بالغوا في وصفه بالحلاوة، قال عنترة‏:‏

ألا قَاتَلَ اللهُ الطُّلُولَ البَوَالِيَا *** وقَاتَلَ ذِكْرَاكَ السنينَ الخَوَالِيَا

وقَوْلَكَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لاَ تَنَالُهُ *** إِذا ما هُوَ احْلَوْلَى ألا لَيْتَ ذا ليا

فعلى هذا القول، هو في حق المؤمنين، وعلى بقية الأقوال، هو في حق المنافقين‏.‏ وقد خُرِّج من هذه الأقوال في معنى ‏{‏يثنون صدورهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه حقيقة في الصدور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كتمان ما فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليستخفوا منه‏}‏ في هاء «منه» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا حين يستغشون ثيابهم‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ العرب تدخل «ألا» توكيداً وإِيجاباً وتنبيهاً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ «يستغشون ثيابهم» أي‏:‏ يتغشَّونها ويستترون بها‏.‏ قال قتادة‏:‏ أخفى ما يكون ابن آدم، إِذا حنى ظهره، واستغشى ثيابه، وأضمر همَّه في نفسه‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه عليم بذات الصدور‏}‏ وقد شرحناه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «مِنْ» من حروف الزوائد، والمعنى‏:‏ وما دابة، والدابة‏:‏ اسم لكل حيوان يدب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا على الله رزقها‏}‏ قال العلماء‏:‏ فضلاً منه، لا وجوباً عليه‏.‏ و«على» هاهنا بمعنى «مِنْ» وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل في كتاب‏}‏ أي‏:‏ ذلك عند الله في اللوح المحفوظ، هذا قول المفسرين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ذلك ثابت في عِلم الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عرشه‏:‏ سريره، وكان الماء إِذْ كان العرش عليه على الريح‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذلك قبل أن يخلق السمواتِ والأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوَكم‏}‏ أي‏:‏ ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه، فيثيت المعتبر بما يرى من آيات السموات والأرض، ويعاقب أهل العناد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أيكم أحسن عقلاً، وأورع من محارم الله عز وجل، وأسرع في طاعة الله، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أيكم أعمل بطاعة الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أيكم أتم عقلاً، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أيكم أزهد في الدنيا، قاله الحسن وسفيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا إِلا سحر مبين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ السحر باطل عندهم، فكأنهم قالوا‏:‏ إِن هذا إِلا باطل بيِّن، فأعلمهم الله تعالى أن القدرة على خلق السموات والأرض تدل على بعث الموتى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أخَّرنا عنهم العذاب‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هؤلاء كفار مكة، والمراد بالأمَّة المعدودة‏:‏ الأجل المعلوم، والمعنى‏:‏ إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها‏.‏ ‏{‏ليقولن ما يحبسه‏}‏ وإِنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاءً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يوم يأتيهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ليس مصروفاً عنهم‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يُصرف عنهم العذاب إِذا أتاهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إِذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُغمد عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحاق بهم‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ نزل بهم وأصابهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما كانوا به يستهزؤن‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الرسول والكتاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس، فيكون المعنى‏:‏ حاق بهم جزاء استهزائهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العذاب، كانوا يستهزئون بقولهم‏:‏ ‏{‏ما يحسبه‏}‏، وهذا قول مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أذقنا الإِنسان منا رحمة‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ في عبد الله بن أبي أمية المخزومي، ذكره الواحدي‏.‏

والثالث‏:‏ أن الإِنسان هاهنا اسم جنس، والمعنى‏:‏ ولئن أذقنا الناس، قاله الزجاج‏.‏ والمراد بالرحمة‏:‏ النعمة، من العافية، والمال، والولد‏.‏ واليؤوس‏:‏ القنوط، قال أبو عبيدة‏:‏ هو فعول من يئستُ‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إِنه ليؤوس عند الشدة من الخير، كفور لله في نعمه في الرخاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أذقناه نَعماء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ صحة وسَعة في الرزق‏.‏ ‏{‏بعد ضراء مَسَّتْهُ‏}‏ بعد مرض وفقر‏.‏ ‏{‏ليقولَنَّ ذهب السيئات عني‏}‏ يريد الضر والفقر‏.‏ ‏{‏إِنه لَفَرِحٌ‏}‏ أي‏:‏ بَطِرٌ‏.‏ ‏{‏فخور‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه‏.‏

فان قيل‏:‏ ماوجه عيب الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏ذهب السيئات عني‏}‏، وما وجه ذمه على الفرح، وقد وصف الله الشهداء فقال‏:‏ ‏{‏فرحين‏}‏‏؟‏

فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال‏:‏ إِنما عابه بقوله‏:‏ ‏{‏ذهب السيئات عني‏}‏ لأنه لم يعترف بنعمة الله، ولم يحمَده على ما صُرف عنه‏.‏ وإِنما ذمه بهذا الفرح، لأنه يرجع إِلى معنى المرح والتكبُّر عن طاعة الله، قال الشاعر‏:‏

ولا يُنْسينيَ الحَدَثَانُ عِرْضِي *** ولا أُلقِي من الفَرَحِ الإِزارا

يعني من المرح‏.‏ وفرح الشهداءِ فرحٌ لا كِبْر فيه ولا خُيلاء، بل هو مقرون بالشكر فهو مستحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين صبروا‏}‏ قال الفراء‏:‏ هذا الاستثناء من الانسان، لأنه في معنى الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏إِن الإِنسان لفي خسر إِلا الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى‏:‏ لكنِ الذين صبروا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الوصف الأول للكافر، والذين صبروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إِليك‏}‏ سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أئت بقرآنٍ غيرِ هذا أو بدِّله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتَّبعوه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ وفي معنى الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فلعلك تارك تبليغ بعض ما يوحى إِليك من أمر الآلهة، وضائق بما كُلّفتَه من ذلك صدرُك، خشية أن يقولوا‏.‏ لولا أُنزل عليه كنز‏.‏

والثاني‏:‏ فلعلك لِعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهَّمُ أنهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك‏.‏ فأما الضائق، فهو بمعنى الضيِّق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى ‏{‏أن يقولوا‏}‏‏:‏ كراهية أن يقولوا‏.‏ وإِنما عليك أن تنذرهم بما يُوحى إِليك، وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء وكيل‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الحافظ‏.‏

والثاني‏:‏ الشهيد، وقد ذكرناه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ «أم» بمعنى «بل»، و«افتراه» أتى به من قِبَل نفسه‏.‏ ‏{‏قل فأتوا‏}‏ أنتم في معارضتي ‏{‏بعشر سُوَر مثله‏}‏ في البلاغة ‏{‏مفتريات‏}‏ بزعمكم ودعواكم ‏{‏وادعوا من استطعتم من دون الله‏}‏ إِلى المعاونة على المعارضة ‏{‏إِن كنتم صادقين‏}‏ في قولكم‏:‏ «افتراه»‏.‏

‏{‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏ أي‏:‏ يجيبوكم إِلى المعارضة‏.‏ فقد قامت الحجة عليهم لكم‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف وحَّد القول في قوله‏:‏ «قل فأتوا» ثم جمع في قوله «فإن لم يستجيبوا لكم»‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده في الموضعين، فيكون الخطاب له بقوله «لكم» تعظيماً، لأن خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم، هذا قول المفسرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وحَّد في الأول لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجمع في الثاني لمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنزله وهو عالم بانزاله، وعالم بأنه حق من عنده‏.‏

والثاني‏:‏ أنزله بما أخبر فيه من الغيب، ودلَّ على ما سيكون وما سلف، ذكرهما الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن لا إِله إِلا هو‏}‏ أي‏:‏ واعلموا ذلك‏.‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ استفهام بمعنى الأمر‏.‏ وفيمن خوطب به قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أهل مكة، ومعنى إِسلامهم‏:‏ إِخلاصهم لله العبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كان يريد الحياة الدنيا وزينتها‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها عامة في جميع الخلق، وهو قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في أهل القبلة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في اليهود والنصارى، قاله أنس‏.‏

والرابع، أنها في أهل الرياء، قاله مجاهد‏.‏

وروى عطاء عن ابن عباس‏:‏ من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن بالبعث والجزاء‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِنما هي في الكافر، لأن المؤمن يريد الدنيا والآخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏نوفّ إِليهم أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ أجور أعمالهم ‏{‏فيها‏}‏‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ أُعطوا ثواب ما عملوا من خير في الدنيا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مَنْ عمل عملاً من صِلة، أو صدقة، لا يريد به وجه الله، أعطاه الله ثواب ذلك في الدنيا، ويدرأ به عنه في الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم فيها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي في الدنيا‏.‏ ‏{‏لا يُبخسون‏}‏ أي‏:‏ لا يُنقصون من أعمالهم في الدنيا شيئاً‏.‏ ‏{‏أولئك الذين‏}‏ عملوا لغير الله ‏{‏ليس لهم في الآخرة إِلا النار وحبط ما صنعوا‏}‏ أي‏:‏ ما عملوا في الدنيا من حسنة ‏{‏وباطل ما كانوا‏}‏ لغير الله ‏{‏يعملون‏}‏‏.‏

فصل

وذكر قوم من المفسرين، منهم مقاتل، أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله، أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير، ثم نُسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 18‏]‏، وهذا لا يصح، لأنه لا يوفّي إِلا لمن يريد‏.‏

‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بيِّنة من ربه‏}‏ في المراد بالبينة أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الدين، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ البيان، قاله مقاتل‏.‏ وفي المشار إليه ب «مَنْ» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المسلمون، وهو يخرَّج على قول الضحاك‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويتلوه‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتبعه‏.‏

والثاني‏:‏ يقرؤه‏.‏ وفي هاء «يتلوه» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى القرآن، وقد سبق ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏فأْتوا بعشرِ سُوَرٍ مثلِهِ مفتريات‏}‏ ‏[‏هود 13‏]‏‏.‏

وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جبريل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وإِبراهيم في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلو القرآن، قاله علي بن أبي طالب، والحسن، وقتادة في آخرين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه علي بن أبي طالب‏.‏ و«يتلوه» بمعنى يتبعه، رواه جماعة عن علي بن أبي طالب، وبه قال محمد بن علي، وزيد بن علي‏.‏

والرابع‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاهد من الله تعالى، قاله الحسين بن علي عليه السلام‏.‏

والخامس‏:‏ أنه ملَك يحفظه ويسدده، قاله مجاهد‏.‏

والسادس‏:‏ أنه الإِنجيل يتلو القرآن بالتصديق، وإِن كان قد أُنزل قبله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّرت به التوراة، قاله الفراء‏.‏

والسابع‏:‏ أنه القرآن ونظمه وإِعجازه، قاله الحسين بن الفضل‏.‏

والثامن‏:‏ أنه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله، لأن كل عاقل نظر إِليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي هاء «منه» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى الله تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى البيِّنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِنْ قبله‏}‏ في هذه الهاء ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى الإِنجيل، أي‏:‏ ومن قبل الإِنجيل ‏{‏كتاب موسى‏}‏ يتبع محمداً بالتصديق له، ذكره ابن الأنباري‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلاً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون «كتاب موسى» عطفا على قوله‏:‏ ‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏ أي‏:‏ ويتلوه كتاب موسى، لأن موسى وعيسى بشَّرا بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإِنجيل‏.‏ ونصب «إِماما» على الحال‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف تتلوه التوراة، وهي قبله‏؟‏

قيل‏:‏ لما بشَّرت به، كانت كأنها تالية له، لأنها تبعته بالتصديق له‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ ‏{‏كتاب موسى‏}‏، مفعول في المعنى، لأن جبريل تلاه على موسى، فارتفع الكتاب، وهو مفعول بمضمر بعده، تأويله‏:‏ ومن قبله كتاب موسى كذاك، أي‏:‏ تلاه جبريل أيضاً، كما تقول العرب‏:‏ أكرمت أخاك وأبوك، فيرفعون الأب، وهو مكرَم على الاستئناف، بمعنى‏:‏ وأبوك مكرَم أيضاً‏.‏ قال‏:‏ وذهب قوم إِلى أن كتاب موسى فاعل، لأنه تلا محمداً بالتصديق كما تلاه الإِنجيل‏.‏

فصل

فتلخيص الآية‏:‏ أفمن كان على بيِّنة من ربه كمن لم يكن‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ ترك المضادَّ له، لأن في ما بعده دليلاً عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم‏}‏ ‏[‏هود 24‏]‏‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إِلى الدنيا، جاء بهذه الآية، وتقدير الكلام‏:‏ أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا‏؟‏ فاكتفى من الجواب بما تقدم، إِذ كان فيه دليل عليه‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ إِنما حُذف لانكشاف المعنى، والمحذوف المقدَّر كثير في القرآن والشعر، قال الشاعر‏:‏

فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رَسُولُه *** سِواكِ، وَلكِن لم نَجِدْ لكِ مَدْفعا

فإن قلنا‏:‏ إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعنى الآية‏:‏ ويتبع هذا النبيَّ شاهد، وهو جبريل عليه السلام‏.‏ «منه» أي‏:‏ من الله‏.‏ وقيل‏:‏ «شاهد» هو علي بن أبي طالب، «منه» أي‏:‏ من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ «يتلوه» يعني القرآن، يتلوه جبريل، وهو شاهد لمحمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى‏.‏

وقيل‏.‏ ويتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو شاهد من الله‏.‏ وقيل ويتلو لسانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فلسانه شاهد منه‏.‏ وقيل‏:‏ ويتبع محمداً شاهد له بالتصديق، وهو الإِنجيل من الله تعالى‏.‏ وقيل ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه، وهو سَمْتُه وهديه الدالُّ على صدقه‏.‏ وإِن قلنا‏:‏ إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه المسلمون، فالمعنى‏:‏ أنهم يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو البيِّنة، ويتبع هذا النبي شاهد له بصدقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِماماً ورحمة‏}‏ إِنما سماه إِماماً، لأنه كان يهتدى به، «ورحمة» أي‏:‏ وذا رحمة، وأراد بذلك التوراة، لأنها كانت إِماما وسبباً لرحمة من آمن بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إِشارة إِلى أصحاب موسى‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى أهل الحق من أُمة موسى وعيسى ومحمد‏.‏

وفي هاء «به» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى التوراة‏.‏ والثاني إِلى القرآن‏.‏ والثالث‏:‏ إِلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ جميع الملل، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ قريش، قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ بنو أُمية، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل أبي طلحة بن عبد العُزّى، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالنار موعده‏}‏ أي‏:‏ إِليها مصيره، قال حسان بن ثابت‏:‏

أَوْرَدْتُمُوها حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً *** فالنَّار مَوْعِدُها والمَوْتُ لاَ قيِهَا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تك في مرية منه‏}‏ قرأ الحسن، وقتادة‏:‏ «مُرية» بضم الميم أين وقع‏.‏ وفي المكني عنه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الإِخبار بمصير الكافر به، فالمعنى‏:‏ فلا تك في شك أن موعد المكذِّب به النار، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القرآن، فالمعنى‏:‏ فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى، قاله مقاتل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والمراد بالناس هاهنا‏:‏ أهل مكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يُعْرَضُونَ على ربهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ذكر عرضهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم، وإِن كان غيرهم يعرض أيضاً‏.‏

فأما «الأشهاد» ففيهم خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الرسل، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الخلائق، روي عن قتادة أيضاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ «الأشهاد» الناس، كما يقال‏:‏ على رؤوس الأشهاد، أي‏:‏ على رؤوس الناس‏.‏

والرابع‏:‏ الملائكة والنبيون وأُمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس، والجوارح تشهد على ابن آدم، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجاج‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وفائدة إِخبار الأشهاد بما يعلمه الله‏:‏ تعظيم بالأمر المشهود عليه، ودفع المجاحدة فيه‏.‏