فصل: تفسير الآية رقم (77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إِلى أهلها‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة، فذهب ليعطيه إِياه، فقال العباس‏:‏ بأبي أنت وأُمّي اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هات المفتاح» فأعاد العباس قوله، وكفّ عثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر» فقال‏:‏ هاكَه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ المفتاح، ففتح البيت، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا عثمان، فدفعه إِليه‏.‏ رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزهري، وابن جريج، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في الأمراء‏.‏ رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال زيد بن أسلم، وابنه، ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقال‏:‏ أُمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت عامة، وهو مروي عن أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى‏.‏ واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها، فإنها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ الأمانة في الوضوء، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي الحديث، وأشد ذلك في الودائِع‏.‏

قوله تعالى ‏{‏نعما يعظكم به‏}‏ يقول‏:‏ نعم الشيء يعظكم به، وقد ذكرناه في ‏(‏البقرة‏)‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي إِذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سريّة، أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن عمّار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سريّة، فهرب القوم، ودخل رجلٌ منهم على عمار، فقال‏:‏ إِني قد أسلمتُ، هل ينفعني، أو أذهب كما ذهب قومي‏؟‏ قال عمار‏:‏ أقم فأنت آمن، فرجع الرجل، وأقام فجاء خالد، فأخذ الرجل، فقال عمّار‏:‏ إِني قد أمنته، وإِنه قد أسلم، قال‏:‏ أتجير علي وأنا الأمير‏؟‏ فتنازعا، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ طاعة الرسول في حياته‏:‏ امتثال أمره، واجتناب نهيه، وبعد مماته، اتباع سُنّته‏.‏

وفي أولي الأمر أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم، والسدي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد الله، والحسن، وأبي العالية، وعطاء، والنخعي، والضحاك، ورواه خصيف، عن مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد الله المزني‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم أبو بكر، وعمر، وهذا قول عكرمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ اختلفتم‏.‏ وقال كل فريق‏:‏ القول قولي‏.‏ واشتقاق المنازعة‏:‏ أن كل واحد ينتزع الحجة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فردوه إلى الله والرسول‏}‏ في كيفيّة هذا الرد قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهذا الرّد يكون من وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه‏.‏ والثاني‏:‏ الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول‏:‏ من لا يعلم الشيء‏:‏ الله ورسوله أعلم، ذكره قومٌ، منهم الزجاج‏.‏

وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الجزاء، والثواب، وهو قول مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العاقبة، وهو قول السدي، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ أنه التصديق، مثل قوله ‏{‏هذا تأويل رؤياي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ قاله ابن زيد في رواية‏.‏ والرابع‏:‏ أن معناه‏:‏ ردّكم إِياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم، ذكره الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي‏:‏ انطلق بنا إِلى محمد، وقال المنافق‏:‏ بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق‏:‏ ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إِلَيه، فقصّا عليه القصّة، فقال‏:‏ رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق، حتى برد، وقال‏:‏ هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذُون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهناً، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي‏.‏

والرابع‏:‏ أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم‏:‏ انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين‏:‏ بل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى المنافقون، فانطلقوا إِلى الكاهن‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول السدي‏.‏

والزَّعم والزُّعم لغتان، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته، وفي ‏{‏الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبلك‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه المنافق‏.‏ والثاني‏:‏ أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إِليه المنافق، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي‏.‏ والطاغوت‏:‏ كعب بن الأشرف، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد أمروا أن يكفروا به‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أن يتبرؤوا من الكهنة و«الضلال البعيد»‏:‏ الطويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي، والمنافق، والهاء والميم في «لهم» إِشارة إِلى الذين يزعمون و«الذي أنزل الله»‏:‏ أحكام القرآن‏.‏ و«إلى الرسول»أي‏:‏ إلى حكمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة‏}‏ أي‏:‏ كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله‏؟‏ وفي المراد بالمصيبة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه تهديد ووعيد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه قتل المنافق الذي قتله عمر‏.‏ وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ نفاقهم واستهزاؤهم‏.‏ والثاني‏:‏ ردّهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثالث‏:‏ معاصيهم المتقدّمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِِن أردنا‏}‏ بمعنى‏:‏ ما أردنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا إِحساناً وتوفيقاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لما قتل عمر صاحبهم، جاؤوا يطلبون بدمه، ويحلفون ما أردنا بالمطالبة بدمه إِلا إِحساناً إِلينا، وما يوافق الحق في أمرنا‏.‏

والثاني‏:‏ ما أردنا بالترافع إلى عمر إِلا إِحساناً وتوفيقاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إِلى غيره، ويقولون‏:‏ ما أردنا في عدولنا عنك إِلا إحساناً بالتقريب في الحكم، وتوفيقاً بين الخصوم دون الحمل على مُرّ الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ من النفاق والزيغ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إِضمارهم خلاف ما يقولون ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ ولا تعاقبهم ‏{‏وعظهم‏}‏ بلسانك ‏{‏وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً‏}‏ أي‏:‏ تقدّم إِليهم‏:‏ إِن فعلتم الثانية، عاقبتكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ بَلُغ الرجل يبْلُغُ بلاغة فهو بليغ‏:‏ إِذا كان يبلغ بعبارة لسانه كُنه ما في قلبه‏.‏

وقد تكلم العلماء في حدّ «البلاغة» فقال بعضهم‏:‏ «البلاغة»‏:‏ إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وقيل‏:‏ «البلاغة» حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل‏:‏ البلاغة‏:‏ الإِيجاز مع الإِفهام، والتصرّف من غير إِضجار‏.‏ قال خالد بن صفوان‏:‏ أحسن الكلام ما قلت ألفاظه، وكثرت معانيه، وخيرُ الكلام ما شوّق أوّله إِلى سماع آخره، وقال غيره‏:‏ إِِنما يستحق الكلام اسم البلاغة إِذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إِلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك‏.‏

فصل

وقد ذهب قوم إلى أن «الإِعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسولٍ إِلا ليُطاع‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «من» دخلت للتوكيد‏.‏ والمعنى وما أرسلنا رسولاً إِلا ليطاع‏.‏ وفي قوله ‏{‏باذن الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ الأمر، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الاذن نفسه، قاله مجاهد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إِلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إِذ ظلموا أنفسهم‏}‏ يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول ‏{‏جاؤوك فاستغفروا الله‏}‏ من صنيعهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربِّك لا يؤمنون‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شِراج الحرّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير‏:‏ «اسق ثم أرسل إِلى جارك» فغضب الأنصاري، قال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أن كان ابن عمتك‏!‏ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير‏:‏ «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجَدْر» قال الزبير‏:‏ فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إِلاّ في ذلك ‏"‏ أخرجه البخاري، ومسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في المنافق، واليهودي اللذين تحاكما إِلى كعب بن الأشرف، وقد سبقت قصتهما، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربّك لا يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك، وقيل‏:‏ «لا» ردٌ لزعمهم أنهم مؤمنون، والمعنى‏:‏ فلا، أي‏:‏ ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك‏.‏ ثم استأنف، فقال‏:‏ وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، أي‏:‏ فيما اختلفوا فيه‏.‏

وفي «الحرج» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ الضيق، قاله أبو عبيدة، والزجاج‏.‏ وفي قوله ‏{‏ويسلموا تسليماً‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ يسلموا لما أمرتهم به فلا يعارضونك، هذا قول ابن عباس، والزجاج، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 68‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن رجلاً من اليهود قال‏:‏ والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها‏.‏ فقال ثابت بن قيس بن الشماس‏:‏ والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول السدي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول‏:‏ لو جاءني زيد لجئته‏.‏ والمعنى‏:‏ أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، و«كتبنا» بمعنى‏:‏ فرضنا‏.‏ والمعنى‏:‏ لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم‏.‏ قرأ أبو عمرو أن اقتلوا أنفسكم، بكسر النون، أو اخرجوا بضم الواو‏.‏ وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي‏:‏ أن اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما‏.‏ والمعنى‏:‏ لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إلا قليل منهم، هذه قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ إِلا قليلاً بالنصب‏.‏ ‏{‏ولو أنهم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك ‏{‏فعلوا ما يوعظون به‏}‏ أي‏:‏ ما يذكرون به من طاعة الله، والوقوف مع أمره، ‏{‏لكان خيرا لهم‏}‏ وأثبت لأمورهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وأشدّ تثبيتاً‏}‏ أي‏:‏ تصديقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يطع الله والرسول‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد المحبَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآهُ رسول الله يوماً فعرف الحزن في وجهه، فقال‏:‏ يا ثوبان ما غير وجهك‏؟‏ قال‏:‏ ما بي من وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له‏:‏ ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فانك إِذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول مسروق‏.‏

والثالث‏:‏ أن رجلاً من الأنصار جاء إِلى النبي وهو محزون، فقال‏:‏ مالي أراك محزوناً‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله غداً ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إِليك‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول سعيد بن جبير‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السُنن‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والصدّيق‏:‏ الكثير الصدق، كما يقال‏:‏ فسيق، وسكير، وشرّيب، وخمّير، وسكيت، وفجّير، وعشّيق، وضلّيل، وظلّيم‏:‏ إِذا كثر منه ذلك‏.‏ ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة‏.‏ فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله‏.‏

وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة، قاله ثعلب‏.‏ والثاني‏:‏ لأن ملائكة الرحمة تشهده‏.‏ والثالث‏:‏ لسقوطه بالأرض، والأرض‏:‏ هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي‏.‏ والرابع‏:‏ لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ والخامس‏:‏ لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد الله‏.‏

فأما الصالحون، فهم اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه‏.‏ والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، عام في جميع من هذه صفته‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحسن أولئك رفيقاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «رفيقاً» منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

بها جيف الحسرى فأمّا عظامُها *** فبيضٌ وأما جلدُها فصليب

وقال آخر‏:‏

في حلقكم عظم وقد شجينا *** يريد‏:‏ في حلوقكم عظام

‏{‏ذلك الفضل‏}‏ الذي أعطى المذكورين ‏{‏من الله وكفى بالله عليماً‏}‏ بالمقاصد والنيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوا حذركم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ احذروا عدوّكم‏.‏ والثاني‏:‏ خذوا سلاحكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانفروا ثبات‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ جماعات، واحدتها‏:‏ ثبة، يريد جماعة بعد جماعة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «الثباتُ»‏:‏ الجماعات المتفرّقة‏.‏ قال زهير‏:‏

وقد أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرامٍ *** نَشَاوى واجدين لما نشاء

قال ابن عباس‏:‏ فانفروا ثبات، أي‏:‏ عصباً، سرايا متفرِّقين، أو انفروا ‏[‏جميعاً يعنى‏]‏ كلكم‏.‏

فصل

وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 39‏]‏ منسوخات بقوله ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإِمام، وليس في هذا من المنسوخ شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن منكم لمن ليبطئن‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها في المنافقين، كعبد الله بن أُبيّ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فان لقيت السريّة نكبة، قال من أبطأ منهم‏:‏ لقد أنعم الله عليّ، وإِن لقوا غنيمةً، قال‏:‏ يا ليتني كنت معهم‏.‏ هذا قول ابن عباس، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في المسلمين الذين قلّت علومُهم بأحكام الدين، فتثبطوا لقلة العلم، لا لضعف الدين، ذكره الماوردي، وغيره‏.‏ فعلى الأول تكون إِضافتهم إِلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإِسلام، وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإِضافة حقيقة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ اللام في «لمن» لام تأكيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ واللام في «ليبطئن» لام القسم، كقولك‏:‏ إِن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن، يقال‏:‏ «أبطأ الرجل» و«بطؤ»‏.‏ فمعنى‏:‏ «أبطأ»‏:‏ تأخّر، ومعنى «بطؤ»‏:‏ ثقُل‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏ليبطئن‏}‏ بتخفيف الهمزة‏.‏ وفي معنى «ليبطئن» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ليبطئن هو بنفسه، وهو قول ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ليبطئن غيره، قاله ابن جريج‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ و«المصيبة»‏:‏ النكبة‏.‏ و«الفضل من الله»‏:‏ الفتح والغنيمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة‏}‏ قرأ ابن كثير، وحفص، والمفضّل، عن عاصم‏:‏ كأن لم تكن بالتاء، لأن الفاعل المسند إِليه مؤنّث في اللفظ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم‏:‏ يكن بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ ليقولن يا ليتني كنت معهم، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة، أي‏:‏ كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به، فيكون المعنى‏:‏ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة، قال‏:‏ قد أنعم الله علي، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة‏.‏ فيكون معنى «المودّة» أي‏:‏ كأنه لم يعاقدكم على الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يشرون الحياة الدنيا‏}‏ يشرون هاهنا‏:‏ بمعنى يبتغون في قول الجماعة‏.‏ وأنشدوا‏:‏

وشرَيْتُ‏.‏‏.‏‏.‏ بُرداً ليتني *** من بَعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامه

«وبرد»‏:‏ غلام له باعه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ليكن قتال المقاتِلينَ على وجه الإِخلاص، وطلب الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيقتل أو يغلب‏}‏ خرج مخرج الغالب، وقد يثاب من لم يَغلِب ولَم يُقتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الرجال‏}‏ قال الفراء‏:‏ تقديره‏:‏ وفي المستضعفين‏.‏ وكذلك روي عن ابن عباس‏.‏ وقال الزجاجِ‏:‏ المستضعفون في موضع خفض، والمعنى في سبيل الله، وسبيل المستضعفين، أي‏:‏ ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا‏.‏ و«القرية»‏:‏ مكة في قول الجماعة‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما خفض «الظالم» لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إِليها بمنزلة فعلها، تقول‏:‏ مررت بالرجل الواسعة داره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعل لنا من لدنك ولياً‏}‏ قال أبو سليمان‏:‏ سألوا الله ولياً من عنده يلي إِخراجهم منها، ونصيراً يمنعهم من المشركين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فلما فتح رسول الله مكة، جعل الله عز وجل النبي عليه السلام وليّهم، واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد، فكان نصيراً لهم، ينصف الضعيف من القوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقاتلون في سبيل الطاغوت‏}‏ الطاغوت هاهنا‏:‏ الشيطان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الطاغوت هاهنا في معنى جماعة، كقوله ‏{‏ولحم الخنزير‏}‏ معناه‏:‏ ولحم الخنازير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كيد الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ مكره وصنيعه ‏{‏كان ضعيفاً‏}‏ حيث خذل أصحابه يوم بدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إِلى الذين قيل لهم كُفّوا أيديَكم‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في نفر من المهاجرين، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكّة قبل أن يُفرَضَ القتال، فنُهوا عن ذلك، فلما أُذِنَ لهم فيه، كَرِههُ بعضُهُم‏.‏ روى هذا المعنى أبو صالح‏.‏ عن ابن عباس، وهو قول، قتادة، والسدي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت واصفةً أحوال قومٍ كانوا في الزمان المتقدّم، فحُذّرت هذه الأمّة من مثلِ حالهم، روى هذا المعنى عطية، عن ابن عباس‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ كأنه يومئ إِلى قصة الذين قالوا‏:‏ إِبعث لنا مَلِكاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي في اليهود‏.‏

فأما كفُّ اليد، فالمراد به‏:‏ الامتناع عن القتال، ذلك كان بمكة‏.‏ و«كُتب» بمعنى‏:‏ فُرض، وذلك بالمدينة، هذا على القول الأول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذا فريق منهم‏}‏ في هذا الفريق ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم المنافقون‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا مؤمنين، فلما فرض القتال، نافقوا جُبناً وخوفاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم، فنفرت نفوسُهم عن القتال‏.‏

قوله ‏{‏يخشون الناس‏}‏ في المراد بالناس قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كفار مكة‏.‏

والثاني‏:‏ جميع الكفار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو أشد خشية‏}‏ قيل‏:‏ إِن «أو» بمعنى الواو و«كتبت» بمعنى‏:‏ فرضت‏.‏ و«لولا» بمعنى «هلاّ»‏.‏ قال الفراء‏:‏ إِذا لم تر بعدها اسماً، فهي استفهامٌ، بمعنى هلاّ، وإِذا رأيت بعدها اسماً مرفوعاً، فهي التي جوابها اللام، تقول‏:‏ لولا عبد الله لضربتك‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ إِذا رأيتها بغير جواب، فهي بمعنى «هلاّ» تقول‏:‏ لولا فعلت كذا، ومثلها «لوما» فاذا رأيت ل «لولا» جواباً، فليست بمعنى «هلاّ» إِنما هي التي تكون لأمر يقعُ بوقوع غيره، كقوله ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143‏]‏ قلت‏:‏ فأما «لولا» التي لها جوابٌ فكثيرة في الكلام، وأنشدوا في ذلك‏:‏

لولا الحياءُ وأن رأسي قد عثا *** فيه المشيبُ لزُرتُ امَّ القاسم

وأما التي بمعنى «هلاّ» فأنشدوا منها‏:‏

تعدّون عقر النبيب أفضَلَ مجدِكُم *** بني ضَوْطَرى لولا الكَميَّ المقنَّعا

أراد فهلاّ تعدون الكمي، والكمي‏:‏ الداخل في السّلاح‏.‏

وفي الأجل القريب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الموت، فكأنهم قالوا‏:‏ هلاّ تركتنا نموت موتاً، وعافيتنا من القتل، هذا قول السدي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِمهال زمان، فكأنهم قالوا‏:‏ هلاّ أخرت فرض الجهاد عنّا قليلاً حتى نكثر ونقوى، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏ أي‏:‏ مدّة الحياة فيها قليلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ولا يظلمون بالياء‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ بالتاء، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت‏}‏ سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حقّ شهداء أُحُد‏:‏ لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، ومقاتل‏.‏ والبروج‏:‏ الحصون، قاله ابن عباس، وابن قتيبة‏.‏ وفي «المشيّدة» خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الحصينة، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ المطولة، قاله أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ المجصصة، قاله هلال بن خبّاب، واليزيدي‏.‏

والرابع‏:‏ أنها المبنيّة بالشيِّد، وهو الجص، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والخامس‏:‏ أنها بروج في السماء، قاله الربيع بن أنس، والثوري‏.‏ وقال السدّي‏:‏ هي قصور بيض في السماء مبنيّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تصبهم‏}‏ اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم المنافقون واليهود، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ المنافقون، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ اليهود، قاله ابن السري‏.‏

وفي الحسنة والسيئة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الحسنة‏:‏ الخصب، والمطر‏.‏ والسيئة‏:‏ الجدب، والغلاء، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحسنة‏:‏ الفتح والغنيمة، والسيئة‏:‏ الهزيمة والجراح، ونحو ذلك، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من عندك‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بشؤمِك، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بسوء تدبيرك، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كل من عند الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الحسنة والسيئة، أما الحسنة، فأنعم بها عليك، وأما السيئة، فابتلاك بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لهؤلاء القوم‏}‏ وقف أبو عمرو، والكسائي على الألف من «فما» في قوله‏:‏ ‏{‏فما لهؤلاء القوم‏}‏ و‏{‏ما لهذا الكتاب‏}‏ و‏{‏ما لهذا الرسول‏}‏ و‏{‏فما للذين كفروا‏}‏ والباقون وقفوا على اللام‏.‏ فأما «الحديث»، فقيل‏:‏ هو القرآن، فكأنّه قال‏:‏ لا يفقهون القرآن، فيؤمنون به، ويعلمون أن الكل من عند الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله‏}‏ في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه عامٌ، فتقديره‏:‏ ما أصابك أيها الإِنسان، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره، ذكره الماوردي‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ ما أصابك الله من حسنة، وما أصابك الله به من سيئة، فالفعلان يرجعان إلى الله عز وجل‏.‏ وفي «الحسنة» و«السيئة» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الحسنة ما فُتح عليه يوم بدر، والسيئة‏:‏ ما أصابه يوم أُحد، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الحسنة‏:‏ الطاعة، والسيئة‏:‏ المعصية، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ الحسنة‏:‏ النعمة، والسيئة‏:‏ البليّة، قاله ابن قتيبة، وعن أبي العالية نحوه، وهو أصح، لأن الآية عامة‏.‏ وروى كرداب، عن يعقوب‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله‏}‏ بتشديد النون، ورفعها، ونصب الميم، وخفض اسم «الله» ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نَفسُك‏}‏ بنصب الميم، ورفع السين‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ وما أصابك من سيئة، فمن نفسك، وأنا كتبتها عليك‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ وأنا عددتها عليك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن نفسك‏}‏ أي‏:‏ فبذنبك، قاله الحسن، وقتادة، والجماعة‏.‏ وذكر فيه ابن الأنباري وجهاً آخر، فقال‏:‏ المعنى‏:‏ أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام، كما أضمرت في قوله ‏{‏وتلك نعمة‏}‏ أي‏:‏ أوَ تلك نعمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناك للناس رسولاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ذكر الرسول مؤكّد لقوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناك‏}‏ والباء في «بالله» مؤكّدة‏.‏ والمعنى‏:‏ وكفى بالله شهيداً‏.‏ «وشهيداً» منصوب على التمييز، لأنك إذا قلت‏:‏ كفى بالله، ولم تبيّن في أي شيء الكفاية كنت مبهماً‏.‏

وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ شهيداً لك بأنك رسوله، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ على مقالتهم، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ لك بالبلاغ، وعليهم بالتكذيب والنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا‏:‏ إِن الحسنة من عند الله، والسيئة من عند النبي عليه السلام، وردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل كل من عند الله‏}‏ ثم عاد، فقال‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ فهل قال القوم إِلا هكذا‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أضافوا السيئة إِلى النبي صلى الله عليه وسلم تشاؤماً به، فردّ عليهم، فقال‏:‏ كلٌ بتقدير الله‏.‏ ثم قال‏:‏ ما أصابك من حسنة، فمن الله، أي‏:‏ من فضله، وما أصابك من سيئة، فبذنبك، وإِن كان الكل من الله تقديراً‏.‏

والثاني‏:‏ أن جماعة من أرباب المعاني قالوا‏:‏ في الكلام محذوف مقدّر، تقديره‏:‏ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، يقولون‏:‏ ما أصابك من حسنة، فمن الله، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك‏.‏ فيكون هذا من قولهم‏.‏ والمحذوف المقدّر في القرآن كثير، ومنه قوله‏:‏

‏{‏ربنا تقبل منا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏ أي‏:‏ يقولان‏:‏ ربنا‏.‏ ومثله ‏{‏أو به أذى من رأسه فَفِديَة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ أي‏:‏ فحلق، ففدية‏.‏ ومثله ‏{‏فأما الذين اسودت وجههم أكفرتم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏ أي‏:‏ فيقال لهم‏.‏ ومثله ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23، 24‏]‏ أي‏:‏ يقولون سلام‏.‏ ومثله ‏{‏أو كلّم به الموتى بل لله الأمر‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ أراد‏:‏ لكان هذا القرآنَ‏.‏ ومثله ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 20‏]‏ أراد‏:‏ لعذّبكم‏.‏ ومثله ‏{‏ربنا أبصرنا وسمعنا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ أي‏:‏ يقولون‏.‏ وقال النَّمِرُ بنُ تولب‏:‏

فإنَّ المنيَّة من يخشَها *** فَسَوْفَ تُصَادِفُه أينما

أراد‏:‏ أينما ذهب‏.‏ وقال غيره‏:‏

فأقسم لو شيءٌ أتانا رسولُه *** سواكَ ولكن لم نجد لَك مَدْفعا

أراد‏:‏ لرددناه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أحبني، فقد أحب الله ‏"‏ فقال المنافقون‏:‏ لقد قارب هذا الرجل الشرك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ من قَبِلَ ما أتى به الرسول، فانما قبل‏:‏ ما أمر الله به، ومن تولّى، أي‏:‏ أعرض عن طاعته‏.‏ وفي «الحفيظ» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الرّقيب، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ المحاسب، قاله السدي، وابن قتيبة‏.‏

فصل

قال المفسّرون‏:‏ وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نُسِخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون طاعة‏}‏ نزلت في المنافقين، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا، فاذا خرجوا، خالفوا، هذا قول ابن عباس‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ والرّفع في «طاعة» على معنى‏:‏ أمرُك طاعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بيّت طائفة‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة‏:‏ بيت بسكون «التاء»، وإدغامها في «الطاء» ونصب الباقون «التاء» قال أبو علي‏:‏ التاء والطاء والدال من حيز واحد، فحسن الإِدغام، ومَن بيّن، فلانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى ‏[‏فاذا برزوا من عندك، أي‏:‏ خرجوا، بيت طائفة منهم غير الذي تقول، أي‏]‏ قالوا‏:‏ وقدّروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أتوني فلم أرض ما بيَّتوا *** وكانوا أتَوْني بشيء نُكُرْ

والعرب تقول‏:‏ هذا أمر قد قُدِّر بليل ‏[‏وفرغ منه بليل، ومنه قول الحارث بن حِلِّزة‏:‏

أجمعوا أمرهم عشاءً فلما *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء‏]‏

وقال بعضهم‏:‏ بيّت، بمعنى‏:‏ بدّل، وأنشد‏:‏

وبيَّتَ قولِيَ عند المليك *** قاتلك الله عبداً كفوراً

وفي قوله‏:‏ ‏{‏غير الذي تقول‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ غير الذي تقول الطائفة عندك، وهو قول ابن عباس، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ غير الذي تقول أنت يا محمد، وهو قول قتادة، والسدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يكتب ما يبيّتون‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ ينزله إِليك في كتابه‏.‏

والثالث‏:‏ يحفظه عليهم ليجازوا به، ذكر القولين الزجاج، قال ابن عباس‏:‏ فأعرض عنهم‏:‏ فلا تعاقبهم، وثق بالله عز وجل، وكفى بالله ثقة لك‏.‏ قال‏:‏ ثم نسخ هذا الإِعراض، وأُمِر بقتالهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة، ثم قال‏:‏ ‏{‏بيت طائفة‏}‏ والكل منافقون‏؟‏ فالجواب من وجهين، ذكرهما أهل التفسير‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أخبر عمن سهر ليله، ودبَّر أمرهُ منهم دون غيره منهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنه يرجع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبّرون القرآن‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «التدبّر» النظر في عاقبة الشيء‏.‏ و«الدّبْر» النحل، سُمي دبراً، لأنه يُعْقِبُ ما يُنتفع به، و«الدّبْر»‏:‏ المال الكثير، سُمي دبراً لكثرته، لأنه يبقى للأعقاب، والأدبار‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أفلا يتدبّرون القرآن‏.‏ فيتفكّرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وأن أحداً من الخلائق لا يقدر عليه‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والقرآن من قولك‏:‏ ما قرأت الناقة سلى قط، أي‏:‏ ماضمَّت في رحمها ولداً، وأنشد أبو عبيدة‏:‏

هِجانُ اللّون لم تقرأ جنينا *** وإنما سُمي قرآنا، لأنه جمع السور، وضمها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ الكذب، قاله مقاتل، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إِذ لا بدّ للكلام إِذا طال من مرذول، وليس في القرآن إِلا بليغ، ذكره الماوردي في جماعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون‏:‏ طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطّلقت نساءك‏؟‏ قال‏:‏ «لا»‏.‏ فخرج فنادى‏:‏ ألا إِن رسول الله لم يطلّق نساءه‏.‏ فنزلت هذه الآية ‏"‏ فكان هو الذي استنبط الأمر‏.‏ انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر‏.‏

والثاني‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا بعث سريّة من السرايا فَغَلَبَتْ أو غُلِبَت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدِّث به‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

وفي المشار إِليهم بهذه الآية قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم المنافقون‏.‏ قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أهل النفاق، وضعفة المسلمين، ذكره الزجاج‏.‏

وفي المراد بالأمن أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فوز السريّة بالظفر والغنيمة، وهو قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الخبر يأتي إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما يعزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموادعة والأمان لقومٍ، ذكره الماوردي‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الأمن يأتي من المأمَن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدمشقي مُخرجاً من حديث عمر‏.‏

وفي «الخوف» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النكبة التي تُصيب السريّة، ذكره جماعة من المفسّرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الخبر يأتي أن قوماً يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم، فيخاف منهم، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذاعوا به‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أشاعوه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ والهاء عائدة على الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ردّوه‏}‏ يعني‏:‏ الأمر ‏{‏إِلى الرسول‏}‏ حتى يكون هو المخبر به ‏{‏وإِلى أُولي الأمر منهم‏}‏ وفيهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ العلماء، قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ أمراء السرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل‏.‏

وفي «الذين يستنبطونه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أُولو الأمر قاله ابن زيد‏.‏ و«الاستنباط» في اللغة‏:‏ الاستخراج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك‏:‏ قد أنبط فلان في غضراء، أي‏:‏ استنبط الماء من طين حُرّ‏.‏ والنبط‏:‏ سُموا نبطاً، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ وإِذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين بخير أو بشر أفشوه، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذو الأمر يتولون الخبر عن ذلك، فيصححوه إِن كان صحيحاً، أو يبطلوه إِن كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أُولى الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏‏.‏

في المراد بالفضل أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه رسول الله‏.‏

والثاني‏:‏ الإِسلام‏.‏

والثالث‏:‏ القرآن‏.‏

والرابع‏:‏ أُولو الأمر‏.‏

وفي الرحمة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الوحي‏.‏

والثاني‏:‏ اللّطف‏.‏

والثالث‏:‏ النعمة‏.‏

والرابع‏:‏ التوفيق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تبعتم الشيطان إِلا قليلاً‏}‏ في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه راجع إِلى الإِذاعة، فتقديره‏:‏ أذاعوا به إِلا قليلاً‏.‏ وهذا قول ابن عباس، وابن زيد، واختاره الفراء، وابن جرير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه راجع إِلى المستنبطين، فتقديره‏:‏ لَعلمه الذين يستنبطونه منهم إِلا قليلاً، وهذا قول الحسن، وقتادة، واختاره ابن قتيبة‏.‏ فعلى هذين القولين، في الآية تقديم وتأخير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه راجع إلى اتِّباع الشيطان، فتقديره‏:‏ لاتبعتم الشيطان إِلا قليلاً منكم، وهذا قول الضحاك، واختاره الزجاج‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ المعنى‏:‏ لولا فضل الله بإرسال النبي إِليكم، لضللتم إلا قليلاً منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله، ويعرفون ضلال من يَعبُد غيره، كقس بن ساعدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل الله‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصُغرى بعد أُحُد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏ وفي «فاء» «فقاتل» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه جوابُ قوله ‏{‏ومَن يُقاتِل في سبيل الله فيقتل أو يغلب‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها متصلة بقوله ‏{‏وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله‏}‏ ذكرهما ابن السريّ‏.‏ والمرادُ بسبيل الله‏:‏ الجهاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تكلف إِلا نفسك‏}‏ أي‏:‏ إِلا المجاهدة بنفسك‏.‏ و«حرّض» بمعنى حضّض‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى «عسى» في اللغة‏:‏ معنى الطمع والإِشفاق‏.‏ والإِطماع من الله واجب‏.‏ و«البأس»‏:‏ الشدّة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ والله أشدّ عذاباً‏.‏ قال قتادة‏:‏ و«التنكيل» العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يشفع شفاعة حسنة‏}‏ في المراد بالشفاعة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها شفاعة الإِنسان للانسان، ليجتلب له نفعاً، أو يُخلصه من بلاء، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الإِصلاح بين اثنين، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ذكره الماوردي‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ مَن يَصرْ شفعاً لوِترِ أصحابك يا محمد، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها السعي بالنميمة، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود تفعله، ذكره الماوردي‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ من يشفع وتر أهل الكفر، فيقاتل المؤمنين، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«الكفل» في اللغة‏:‏ النصيب، وأخذ من قولهم‏:‏ اكتفلت البعير‏:‏ إِذ أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كِساء، وركبتَ عليه‏.‏ وإِنما قيل له‏:‏ كِفل، لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإِنما استعمل نصيباً منه‏.‏ وفي «المقيت» سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المقتدر، قال أحيحة بن الجلاّح‏:‏

وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفس عنه *** وكنتُ على مساءته مُقيتاً

وإِلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسدي، وابن زيد، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والخطّابي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج‏.‏ وقال‏:‏ هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتقّ من القوت، يقال‏:‏ قُتُّ الرجل أقوته قوتاً‏:‏ إِذا حفظت عليه نفسه بما يقوته‏.‏ والقوت‏:‏ اسم الشيء الذي يحفظ نفسه ‏[‏ولا فضل فيه على قدر الحفظ‏]‏، فمعنى المقيت‏:‏ الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أليَ الفَضْلُ أمْ عليّ إِذا حُو *** سبْتُ إِنّي على الحساب مُقيتُ

والثالث‏:‏ أنه الشهيد، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ الرقيب، رواه أبو شيبة عن عطاء‏.‏

والسادس‏:‏ الدائم، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير‏.‏

والسابع‏:‏ أنه معطي القوت، قاله مقاتل بن سليمان‏.‏ وقال الخطّابي‏:‏ المقيت يكون بمعنى معطي القوت، قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ قاته وأقاته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا حييتم بتحية‏}‏ في التحيّة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها السلام، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ الدّعاء، ذكره ابن جرير، والماوردي‏.‏ فأما «أحسن منها» فهو الزيادة عليها، وردها‏:‏ قول مثلها‏.‏ قال الحسن‏:‏ إِذا قال أخوك المسلم‏:‏ السلام عليكم، فردَّ السلام، وزد‏:‏ ورحمة الله‏.‏ أو رُد ما قال ولا تزد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إِذا قال‏:‏ السلام عليك، قلت‏:‏ وعليكم السلام ورحمة الله‏.‏ وإِذا قال السلام عليكم ورحمة الله، قلتَ‏:‏ وعليكم السلام، ورحمة الله وبركاته، وهذا منتهى السلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بأحسن منها للمسلم، أو ردّوها على أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في الذين شكّوا في البعث‏.‏ قال الزجاج‏:‏ واللام في «لَيجمعنكم» لام القسم، كقولك‏:‏ واللهِ ليجمعنّكم، قال‏:‏ وجائِز أن تكون سُميت القيامة، لقيام الناس من قبورهم، وجائِز أن تكون، لقيامهم للحساب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من الله حديثاً‏}‏ إِنما وصف نفسه بهذا، لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب، ويستحيل في حقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ في سبب نزولها سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن قوماً أسلموا، فأصابهم وَبَاء بالمدينة وحِماها، فخرجوا فاستقبلهم نفرٌ من المسلمين، فقالوا‏:‏ ما لكم خرجتم‏؟‏ قالوا‏:‏ أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها، فقالوا‏:‏ أما لكم في رسول الله أسوةٌ‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ نافقوا، وقال بعضهم‏:‏ لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه‏.‏

والثاني‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إِلى أُحد، رجع ناسٌ ممن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول الله، ففرقة تقول‏:‏ نقتلهم، وفرقة تقول‏:‏ لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية، هذا في ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ من قول زيد بن ثابت‏.‏

والثالث‏:‏ أن قوماً كانوا بمكة تكلموا بالإِسلام وكانوا يعاونون المشركين، فخرجوا من مكة لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين‏:‏ اخرجوا إِليهم، فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوّكم‏.‏ وقال قوم‏:‏ كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به‏؟‏ فنزلت هذه الآية، رواه عطية، عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن قوماً قدموا المدينة فأظهروا الإِسلام، ثم رجعوا إلى مكة، فأظهروا الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، ومجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أن قوماً أعلنوا الإِيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول الضحاك‏.‏

والسادس‏:‏ أن قوماً من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة، فقالوا للمؤمنين‏:‏ إِنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة، فلعلنا نخرج فنتماثل، فإنا كنا أصحاب بادية، فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول السدي‏.‏

والسابع‏:‏ أنها نزلت في شأن ابن أُبيّ حين تكلّم، في عائشة بما تكلّم، وهذا قول ابن زيد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم‏}‏ خطاب للمؤمنين‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم‏؟‏ و«الفئة» الفرقة‏.‏ وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ردّهم، رواه عطاء، عن ابن عباس‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ركست الشيء، وأركسته‏:‏ لغتان، أي‏:‏ نكسهم وردهم في كفرهم، وهذا قول الفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أهلكهم، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أضلّهم، قاله السدّي‏.‏

فأما الذي كسبوا، فهو كفرهم، وارتدادهم‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ إِنما قال‏:‏ أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله، لأن قوماً من المؤمنين قالوا‏:‏ إِخواننا، وتكلموا بكلمتنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن تجدَ له سبيلاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِلى الحجة، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى الهدى، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودوا لو تكفرون كما كفروا‏}‏ أخبر الله عز وجل المؤمنين بما في ضمائِر تلك الطائِفة، لئلا يحسنوا الظن بهم، ولايجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء‏}‏ أي لا توالوهم فإنهم أعداء لكم ‏{‏حتى يهاجروا‏}‏ أي‏:‏ يرجعوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس‏:‏ فإن تولوا عن الهجرة والتوحيد، ‏{‏فخذوهم‏}‏ أي‏:‏ ائسروهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحِل والحرم‏.‏

فصل

قال القاضي أبو يعلى‏:‏ كانت الهجرة فرضاً إِلى أن فتحت مكة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ فرض الهجرة باق، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب‏:‏

من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إِظهار الإِسلام في دار الحرب، خوفاً على نفسه، وهو قادرٌ على الهجرة، فتجب عليه لقوله ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ من لا تجب عليه بل تستحب له، وهو من كان قادراً على إِظهار دينه في دار الحرب‏.‏

والثالث‏:‏ من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إِظهار دينه، ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزّمِن فلم تستحب له للحوق المشقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا الذين يصلون‏}‏ هذا الاستثناء راجع إِلى القتل، لا إِلى الموالاة‏.‏

وفي «يصلون» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى يتّصلون ويلجؤون‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان هلال بن عويمر الأسلمي وادَع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يُعينه ولا يُعين عليه‏.‏ فكان من وصل إِلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى ينتسبون قاله ابن قتيبة، وأنشد‏:‏

إِذا اتَّصلَتْ قالتْ أبكرَ بنَ وائلٍ *** وبكرٌ سَبَتْها والأنوفُ رواغمُ

يريد‏:‏ إِذا انتسبت قالت‏:‏ أبكراً، أي‏:‏ يا آل بكر‏.‏

وفي القوم المذكورين أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم بنو بكر بن زيد مناة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم بنو مدلج، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ خزاعة وبنو مدلج، قاله مقاتل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ و«الميثاق»‏:‏ العهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو جاؤوكم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ أو يصلون إِلى قوم جاؤوكم، قاله الزجاج في جماعة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يعود إِلى المطلوبين للقتل، فتقديره‏:‏ أو رجعوا فدخلوا فيكم، وهو بمعنى قول السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حصرت صدورُهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن فيه إِضمار «قد»‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خبرٌ بعد خبر، فقوله ‏{‏جاؤوكم‏}‏‏:‏ خبرٌ قد تم، وحصِرت‏:‏ خبرٌ مستأنف، حكاهما الزجاج‏.‏ وقرأ الحسن، ويعقوب، والمفضل، عن عاصم‏:‏ ‏{‏حَصِرةً صدورُهم‏}‏ على الحال‏.‏ و«حصرت»‏:‏ ضاقت، ومعنى الكلام‏:‏ ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم، أو يقاتلوا قومَهم، يعني قريشاً‏.‏

قال مجاهد‏:‏ هلال بن عويمر هو الذي حصِر صَدرُه أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لسلّطهم عليكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أخبر أنه إِنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم‏.‏ وفي «السلم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الإِسلام، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ الصُلح، قاله الربيع، ومقاتل‏.‏

فصل

قال جماعة من المفسّرين‏:‏ معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ لما أعزّ الله الإِسلام أُمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إِلاَّ الإِسلام أو السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ستجدون آخرين‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلموا بالإِسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم، ويأمنوا قومهم بكفرهم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في بني عبد الدار، رواه الضحاك، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان يأمن في المسلمين والمشركين، فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم، ثم أسلم نُعيم، هذا قول السدي‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ستجدون قوماً يظهرون الموافقة لكم ولقومهم، ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشرك، عادوا فيه، فان لم يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصلح، ويكفّوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم، أي‏:‏ ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بيّنة في قتلهم‏.‏

فصل

قال أهل التفسير‏:‏ والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إِلا خطأ‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول الله، ثم خاف أن يظهر إِسلامه لقومه، فخرج إِلى المدينة فقالت أُمُّه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني هشام، وهما أخواه لأمّه‏:‏ والله لا يُظلّني سقف، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتياني به‏.‏ فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن زيد، حتى أتوا عيّاشاً وهو مُتحَصّنٌ في أُطُم، فقالوا له‏:‏ انزل فإن أُمّك لم يُؤوها سقفٌ، ولم تذق طعاماً، ولا شراباً، ولك علينا أن لا نحول بينكَ وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كلُّ واحد منهم مائة جلدة، فقدموا به على أُمّه، فقالت‏:‏ والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر، فطُرِحَ موثقاً في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن زيد‏:‏ يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته، وإِن كان ضلالاً لقد ركبته‏.‏ فغضب، وقال‏:‏ والله لا ألقاك خالياً إلا قتلتك، ثم أفلت عياش بعد ذلك، وهاجر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده، وهاجر ولم يعلم عياش، فلقيه يوماً فقتله، فقيل له‏:‏ إِنه قد أسلم، فجاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، وقال‏:‏ لم أشعر باسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏ وهو قول سعيد بن جبير، والسدّي، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن أبا الدرداء قتل رجلاً قال لا إِله إِلا الله في بعض السّرايا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما صنع، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد‏.‏

قال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً البتّة‏.‏ والاستثناء ليس من الأول، وإِنمالمعنى‏:‏ إِلا أن يُخطيء المؤمن‏.‏ وروى أبو عبيدة، عن يونس‏:‏ أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال‏:‏ ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ، ولكنّه أقام «إِلا» مقام «الواو» قال الشاعر‏:‏

وكلُّ أخٍ مُفَارقُه أخوهُ *** لَعَمْرُ أبيكَ إِلاَّ الفَرقَدَانِ

أرَادَ‏:‏ والفَرْقَدَانِ‏.‏ وقال بعضُ أهل المعاني‏:‏ تقديرُ الآية‏:‏ لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإِباحة، ولا النهي‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم، وإِيجاب القتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنةٍ‏}‏ قال سعيدُ بنُ جبير‏:‏ عتق الرقبة واجبٌ على القاتِل في ماله، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام، فروي عن أحمد جوازه، وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء، ومجاهد‏.‏ وروي عن أحمد‏:‏ لا يجزئ إِلا من صام وصلى، وهو قول ابن عباس‏.‏

في رواية، والحسن، والشعبي، وإِبراهيم، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودية مسلمة إِلى أهله‏}‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين‏.‏ كل سنة ثلثها‏.‏ والعاقلة‏:‏ العصبات من ذوي الأنساب، ولا يلزم الجاني منها شيء، وقال أبو حنيفة‏:‏ هو كواحد من العاقلة‏.‏

وللنفس ستة أبدال‏:‏ من الذهب ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإِبل مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد‏.‏ إِحداهما‏:‏ أنها أصل، فتكون مائتا حلة، فهذه دية الذكر الحرّ المسلم، ودية الحُرّة المسلمة على النصف من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا أن يصّدقوا‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ إِلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدية على القاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدوٍ لكم وهو مؤمن‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ وإِن كان المقتول خطأ من قوم كفار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأن أهل ميراثه كفار‏.‏

والثاني‏:‏ وإِن كان مقيماً بين قومه، فقتله من لا يعلم بإيمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفار، والقولان مرويان عن ابن عباس، وبالأول قال النخعي، وبالثاني سعيد بن جبير، وعلى الأول تكون «مِن» للتبعيض، وعلى الثاني تكون بمعنى في‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الرجل من أهل الذّمة يُقتل خطأ، فيجب على قاتله الدية، والكفارة، هذا قول ابن عباس، والشعبي، وقتادة، والزهري، وأبي حنيفة، والشافعي‏.‏ ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه للمسلمين، هذا قول النخعي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏}‏ اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إِذا عدِمها أو بدل من الرقبة والدية‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ عن الرقبة وحدها، وقال مسروق، ومجاهد، وابن سيرين‏:‏ عنهما‏.‏ واتفق العلماء على أنه إِذا تخلّل صوم الشهرين إِفطار لغير عذر، فعليه الابتداء، فأما إِذا تخللها المرض، أو الحيض، فعندنا لا ينقطع التتابع، وبه قال مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ المرض يقطع، والحيض لا يقطع، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة في الموضعين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏توبة من الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه فعل الله ذلك توبة منه‏.‏

قوله ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ أي‏:‏ لم يزل عليماً بما يُصلح خلقه من التكليف ‏{‏حكيماً‏}‏ فيما يقضي بينهم، ويدبّره في أمورهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن مقيس بن صُبابة وجد أخاه هشام بنُ صبابة قتيلاً في بني النّجار، وكان مسلماً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله رسولاً من بني فهر، فقال له‏:‏ إِيت بني النجّار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم‏:‏ إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إِن علمتم قاتل هشام، فادفعوه إِلى مقيس بن صُبابة، وإِن لم تعلموا له قاتلاً، فادفعوا إِليه ديته، فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا‏:‏ والله ما نعلم له قاتلاً، ولكنّا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإِبل، ثم انصرفا راجعين إِلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة، فقال‏:‏ تقبل دية أخيك، فيكون عليك سبّة ما بقيت‏.‏ اقتل الذي معك مكان أخيك، وافضل بالدية، فرما الفهري بصخرةٍ فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً منها، وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة، وهو يقول‏:‏

قتلت به فهراً وحمَّلْتُ عقلهُ *** سُراةَ بني النّجار أرباب فارِع

وأدركت ثأري واضَّطجعْتُ موسداً *** وكنت إِلى الأصنام أول راجع

فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فقتل، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏ وفي قوله ‏{‏متعمداً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ متعمداً لأجل أنه مؤمن‏.‏ قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ متعمداً لقتله، ذكره بعض المفسرين‏.‏ وفي قوله ‏{‏فجزاؤه جهنم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها جزاؤه قطعاً‏.‏

والثاني‏:‏ أنها جزاؤه إِن جازاه‏.‏ واختلف العلماء هل للمؤمن إِذا قتل مؤمناً متعمداً توبة أم لا‏؟‏ فذهب الأكثرون إِلى أن له توبة، وذهب ابن عباس إِلى أنه لا توبة له‏.‏

فصل

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هي محكمة، واحتجّوا بأنها خبرٌ، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إِحداهما قالت‏:‏ هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار‏.‏ والفرقة الثانية قالت‏:‏ هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص، فأي دليل صلح للتخصيص، وجب العمل به‏.‏ ومن أسباب التخصيص أن يكون قَتله مستحلاً، فيستحق الخلود لاستحلاله‏.‏ وقال قومٌ‏:‏ هي مخصوصة في حقّ من لم يَتُب، واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان‏:‏ ‏{‏إِلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيمًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مالٌ كثير لم يبرح، فقال‏:‏ أشهد أن لا إِله إِلا الله، فأهوى إِليه المقداد فقتله‏.‏ فقال له رجل من أصحابه‏:‏ أقتلت رجلاً يشهد أن لا إِله إِلا الله‏؟‏‏!‏ لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا رسول الله إِن رجلاً شهد أن لا إِله إِلا الله، فقتله المقداد، فقال‏:‏ ادعوا لي المقداد فقال‏:‏ يا مقداد أقتلت رجلاً قال‏:‏ لا إِله إِلا الله، فكيف لك ب «لا إِله إِلا الله غداً»‏!‏ قال‏:‏ فأنزل الله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إِليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد‏:‏ كان رجل مؤمن يخفي إِيمانه مع قوم كفار، فأظهر إِيمانه فقتلته‏؟‏ وكذلك كنت تخفي إِيمانك بمكة قبل ‏"‏ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غنم، فسلم، فقالوا‏:‏ ما سلّم عليكم إِلا ليتعوّذ ‏[‏منا‏]‏، فعمدوا إِليه فقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية رواه عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن قوماً من أهل مكة سمعوا بسريّة لرسول الله أنها تُريدُهم فهربوا، وأقام رجل منهم كان قد أسلم، يقال له‏:‏ مرداس، وكان على السريّة رجل، يقال له‏:‏ غالب بن فضالة، فلما رأى مرداس الخيل، كبر، ونزل إِليهم، فسلم عليهم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، ورجعوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً، ونزلت هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان أسامة أمير السريّة‏.‏

والرابع‏:‏ أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي، وأبا قتادة، ومحلِّم بن جثامة في سريّة إِلى إِضم، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي، فحيّاهم بتحية الإِسلام، فحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله، وسلبه بعيراً وسقاء‏.‏ فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، أخبروه فقال‏:‏ أقتلته بعد ما قال آمنت‏؟‏‏!‏ ونزلت هذه الآية‏.‏ رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه‏.‏

فأما التفسير، فقوله ‏{‏إِذا ضربتم في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ سرتم وغزوتم‏.‏

وقوله ‏{‏فتبيّنوا‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ فتبيّنوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإِقدام عليه‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏فتثبّتوا‏}‏ بالثاء من الثبات وترك الاستعجال، وكذلك قرؤوا في ‏(‏الحجرات‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن ألقى إِليكم السلام‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن عاصم، والكسائي‏:‏ «السلام» بالألف مع فتح السين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف، وجبَلة عن المفضل عن عاصم‏:‏ ‏{‏السلم‏}‏ بفتح السين واللام من غير ألف، وهو من الاستسلام‏.‏ وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم‏:‏ بكسر السّين وإِسكان اللام من غير ألف‏.‏ و«السلم»‏:‏ الصُلح‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لست مؤمناً، بكسر الميم، وقرأ علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر، وأبو جعفر‏:‏ بفتح الميم من الأمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبتغون عرض الحياة الدنيا‏}‏ و«عرضها» ما فيها من مال، قلَّ أو كثر‏.‏ قال المفسّرون‏:‏ والمراد به‏:‏ ما غنموه من الرجل الذي قتلوه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعند الله مغانمُ كثيرة‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أبواب الرّزق في الدنيا، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تُخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كذلك كنتم تُخفون إِيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إِيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق، وقتادة، وابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الله عليكم‏}‏ في الذي مَنّ به أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الهجرة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إِعلان الإِيمان، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ الإِسلام، قاله قتادة، ومسروق‏.‏

والرابع‏:‏ التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتبينوا‏}‏ تأكيد للأول‏.‏