فصل: تفسير الآية رقم (95)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تصلِّ على أحد منهم‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أنه «لما توفي عبد الله ابن أُبيّ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له‏.‏ فأعطاه قميصه؛ فقال‏:‏ آذِنِّي أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر بن الخطاب، وقال‏:‏ أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين‏؟‏ فقال‏:‏ أنا بين خيرتين‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏ فصلى عليه، فنزلت هذه الآية، رواه نافع عن ابن عمر‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ما يُغْني عنه قميصي من عذاب الله تعالى، والله إني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه» قال الزجاج‏:‏ فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لمَّا رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد الصلاة عليه‏.‏ فأما قوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ فانه يعني المنافقين‏.‏ وقوله ‏{‏ولا تقم على قبره‏}‏ قال المفسرون‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دُفن الميت، وقف على قبره ودعا له؛ فنهي عن ذلك في حق المنافقين‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ معناه‏:‏ لا تتولَّ دفنه؛ وهو من قولك‏:‏ قام فلان بأمر فلان، وقد تقدم تفسيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 89‏]‏

‏{‏وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعجبك أموالهم‏}‏ سبق تفسيره ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة‏}‏ هذا عامّ في كل سورة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ المراد بها‏:‏ سورة ‏(‏براءة‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن آمنوا‏}‏ أي‏:‏ بأن آمنوا‏.‏ وفيه ثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ استديموا الإيمان‏.‏ والثاني‏:‏ افعلوا فعل من آمن‏.‏ والثالث‏:‏ آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم‏.‏ فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استأذنك‏}‏ أي‏:‏ في التخلف ‏{‏أولو الطَّول‏}‏ يعني‏:‏ الغنى، وهم الذين لا عذر لهم في التخلُّف، وفي «الخوالف» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم النساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد، والفراء‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ يجوز أن تكون الخوالف هاهنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على تقدير فواعل، غير أنهم قد قالوا‏:‏ فارس، والجميع‏:‏ فوارس، وهالك ‏[‏في قوم‏]‏ هوالك‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الخوالف لا يقع إلا على النساء، إذ العرب تجمع فاعلة‏:‏ فواعل، فيقولون‏:‏ ضاربة، وضوارب، وشاتمة، وشواتم؛ ولا يجمعون فاعلاً‏:‏ فواعل، إلا في حرفين‏:‏ فوارس، وهوالك؛ فيجوز أن يكون مع الخوالف‏:‏ المتخلفات في المنازل‏.‏ ويجوز أن يكون‏:‏ مع المخالفات العاصيات‏.‏ ويجوز أن يكون‏:‏ مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الخوالف خساس الناس وأدنياؤهم، يقال‏:‏ فلان خالفة أهله‏:‏ إذا كان دونهم، ذكره ابن قتيبة؛ فأما «طَبَع» فقال أبو عبيدة‏:‏ معناه‏:‏ ختم‏.‏ و‏{‏الخيرات‏}‏ جمع خَيْرة‏.‏ وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الفاضلات من كل شيء، قاله أبو عبيدة‏.‏ والثاني‏:‏ الجواري الفاضلات، قاله المبرِّد‏.‏ والثالث‏:‏ غنائم الدنيا، ومنافع الجهاد، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء المعذِّرون‏}‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «المعتذرون»‏.‏ وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب‏:‏ «المُعْذِرون» بسكون العين وتخفيف الذال‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ «المعاذرون» بألف‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعذِّرون من يعذِّر، وليس بجادّ، وإنما يعرِّض بما لا يفعله، أو يُظهر غير ما في نفسه‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ عذَّرتُ في الأمر‏:‏ إذا قصَّرتَ، وأعذرتُ‏:‏ جَدَدْتَ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من قرأ «المعذِّرون» بتشديد الذال، فتأويله‏:‏ المعتذرون الذين يعتذرون، كان لهم عذر، أو لم يكن، وهو هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر، وأنشدوا‏:‏

إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما *** ومن يَبْكِ حوْلاً كاملاً فَقَدِ اعْتَذَرْ

أي‏:‏ فقد جاء بعذر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏المعذِّرون‏}‏ الذين يعذِّرون، يوهمون أن لهم عذراً، ولا عذر لهم‏.‏ ويجوز في النحو‏:‏ المعِذِّرون، بكسر العين، والمعُذِّرون، بضم العين، غير أنه لم يُقرأ بهما، لأن اللفظ بهما يثقل‏.‏ ومن قرأ «المعْذرون»‏:‏ بتسكين العين، فتأويله‏:‏ الذين أُعذروا وجاؤوا بعذر‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعذِّرون هاهنا‏:‏ المعتذرون بالعذر الصحيح‏.‏ وأصل الكلمة عند أهل النحو‏:‏ المعتذرون، فحوِّلت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في الذال التي بعدها، فصارتا ذالاً مشددة‏.‏ ويقال في كلام العرب‏:‏ اعتذر‏:‏ إذا جاء بعذر صحيح، وإذا لم يأت بعذر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا تعتذروا‏}‏ فدل على فساد العذر، وقال لبيد‏:‏

وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَاملاً فَقَد اعْتَذَر *** أي‏:‏ فقد جاء بعذر صحيح‏.‏ وكان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏{‏المعذِّرون‏}‏ ويقول‏:‏ لعن الله المعذِّرين‏.‏ يريد‏:‏ لعن الله المقصِّرين من المنافقين وغيرهم‏.‏ والمعْذرون‏:‏ الذين يأتون بالعذر الصحيح، فبان من هذا الكلام أن لهم عذراً على قراءة من خفف‏.‏ وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد‏؟‏ فيه قولان‏.‏

قال المفسرون‏:‏ جاء هؤلاء ليؤذَن لهم في التخلُّف عن تبوك، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علَّة، جرأةً على الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ في ابن مكتوم، قاله الضحاك‏.‏

وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الزمنى والمشايخ الكبار، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الصغار‏.‏

والثالث‏:‏ المجانين؛ سموا ضعافاً لضعف عقولهم، ذكر القولين الماوردي‏.‏ والصحيح انهم الذين يضعفون لزَمانةٍ، أو عَمىً، أو سِنٍّ، أو ضَعف في الجسم‏.‏ والمرضى‏:‏ الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال، و‏{‏الذين لا يجدون‏}‏ هم المُقِلُّون، والحرج‏:‏ الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح لله ولرسوله، وفيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ إذا برئوا من النفاق‏.‏

والثاني‏:‏ إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل‏.‏

فان قيل‏:‏ بالوجه الأول، فهو يعم جميع المذكورين‏.‏ وإن قيل بالثاني، فهو يخص المقلِّين‏.‏ وإنما شُرط النصح، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد، فهو مذموم؛ ومن النصح لله‏:‏ حث المسلمين على الجهاد، والسعي في إصلاح ذات بينهم، وسائر ما يعود باستقامة الدين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ أي‏:‏ من طريق بالعقوبة، لأن المحسن قد سد باحسانه باب العقاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ نزلت في البكَّائين، واختُلف في عددهم وأسمائهم، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ هم ستة‏:‏ عبد الله بن مغفَّل، وصخر بن سلمان، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعُلَيَّة بن زيد الانصاري، وسالم بن عُمير، وثعلبة بن عنمة، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم، فقال‏:‏ «لا أجد ما أحملكم عليه» فانصرفوا باكين‏.‏ وقد ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان‏:‏ سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن عنمة‏:‏ عمرو بن عنمة‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ منهم معقل بن يسار‏.‏ وروى أبو إسحاق عن أشياخ له‏:‏ أن البكَّائين سبعة من الأنصار‏:‏ سالم بن عُمير، وعُلَية بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحُمام بن الجموح، وعبد الله بن مغفَّل، وبعض الناس يقول‏:‏ بل، عبد الله بن عمرو المزني، وعِرباض بن سارية، وهرميّ ابن عبد الله أخو بني واقف‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في بني مقرّن، وهم سبعة؛ وقد ذكرهم محمد بن سعد فقال‏:‏ النعمان بن عمرو بن مقرن، وقال أبو خيثمة‏:‏ هو النعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعقل بن مقرّن، وسنان بن مقرّن، وعقيل بن مقرّن، وعبد الرحمن بن مقرن، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن، وقال الحسن البصري‏:‏ نزلت في أبي موسى وأصحابه‏.‏

وفي الذي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الدواب، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الزاد، قاله أنس بن مالك‏.‏ والثالث‏:‏ النعال قاله الحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعتذرون إليكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في المنافقين، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك، فلا تعذروهم فليس لهم عذر‏.‏ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا تعتذروا‏}‏ لن نصدقكم، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر ‏{‏وسيرى الله عملكم ورسوله‏}‏ إن عملتم خيراً وتبتم من تخلُّفكم ‏{‏ثم تُردُّون‏}‏ بعد الموت ‏{‏إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيحلفون بالله لكم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ حلف منهم بضعة وثمانون رجلاً، منهم جَدّ بن قيس، ومُعتِّب بن قشير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتعرضوا عنهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لتصفحوا عن ذنبهم‏.‏

والثاني‏:‏ لأجل إعراضكم وقد شرحنا في ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ معنى الرجس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحلفون لكم لتَرْضَوْا عنهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ حلف عبد الله بن أُبيّ للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أتخلف عنك، ولأكونَنَّ معك على عدوِّك، وطلب منه أن يرضى عنه، وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطاب، وجعلوا يترضَّون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قدم المدينة‏:‏ «لا تجالسوهم ولا تكلِّموهم»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأعراب أشد كفراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة، أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة، لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأجدر ألا يعلموا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «أن» في موضع نصب، لأن الباء محذوفة من «أن» المعنى‏:‏ أجدر بترك العلم‏.‏ تقول‏:‏ جدير أن تفعل، وجدير بأن تفعل، كما تقول‏:‏ أنت خليق بأن تفعل، أي‏:‏ هذا الفعل ميسَّر فيك، فاذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب «أن»، وإن أتيت بالباء صلح ب «أن» وغيرها، فنقول‏:‏ أنت جدير بأن تقوم، وجدير بالقيام‏.‏ فاذا قلت‏:‏ أنت جديرٌ القيامَ، كان خطأً، وإنما صلح مع «أن» لأن «أن» تدل على الاستقبال، فكأنها عوض من المحذوف‏.‏ فأما قوله‏:‏ ‏{‏حدودَ ما أنزل الله‏}‏ فيعني به‏:‏ الحلال والحرام والفرائض‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية‏:‏ أن الأعم في العرب هذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق‏}‏ إذا خرج في الغزو، وقيل‏:‏ ما يدفعه من الصدقة ‏{‏مَغْرماً‏}‏ لأنه لا يرجو له ثواباً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المغرم‏:‏ هو الغُرم والخُسر‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ الغُرم‏:‏ ما يلزم أداؤه، والغرام‏:‏ اللازم، وسمي الغريم لإلحاحه‏.‏ وقال غيره‏:‏ الغرم‏:‏ التزام مالا يلزم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتربَّص‏}‏ أي‏:‏ وينتظر ‏{‏بكم الدوائر‏}‏ أي‏:‏ دوائر الزمان بالمكروه، بالموت، أو القتل، أو الهزيمة‏.‏ وقيل‏:‏ ينتظر موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهور المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم السين‏.‏

وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «السَّوء» بفتح السين؛ وكذلك قرؤوا في ‏[‏سورة الفتح‏:‏ 6‏]‏، والمعنى‏:‏ عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ وفتح السين من السَّوء هو وجه الكلام‏.‏ فمن فتح، أراد المصدر‏:‏ من سُؤْتُه سَوْءاً ومَساءَةً‏.‏ ومن رفع السين، جعله اسماً‏:‏ كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب‏.‏ ولا يجوز ضم السين في قوله‏:‏ ‏{‏ما كان أبوكِ امرأ سوءٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 28‏]‏ ولا في قوله ‏{‏وظننتم ظن السَّوء‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏ لأنه ضدٌّ لقولك‏:‏ رجُلُ صِدْق‏.‏ وليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء، فيضم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وهم من أسلم من الأعراب، مثل جُهينة، وأسلم، وغِفار‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويتخذ ما ينفق‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في الجهاد‏.‏ والثاني‏:‏ في الصدقة‏.‏ فأما القربات، فجمع قُربة، وهي‏:‏ ما يقرِّب العبدَ من رضى الله ومحبته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وفي القربات ثلاثة أوجه‏:‏ ضم الراء، وفتحها، وإسكانها‏.‏ وفي المراد بصلوات الرسول قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ استغفاره، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ دعاؤه، قاله قتادة، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ وأنشد الزجاج‏:‏

عليكِ مثلُ الذي صَلَّيتِ فاغْتَمِضِي *** نَوْماً، فانَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مضطَجَعا

قال‏:‏ إن شئتَ قلتَ‏:‏ مثلَ الذي، ومثلُ الذي؛ فالأول أَمْرٌ لها بالدعاء، كأنه قال‏:‏ ادعي لي مثل الذي دعوتِ‏.‏ والثاني‏:‏ بمعنى‏:‏ عليكِ مثلُ هذا الدعاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنها قُرْبَةٌ لهم‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «قربةٌ لهم» خفيفة‏.‏ وروى ورش، وإسماعيل ابن جعفر عن نافع، وأبان، والمفضل عن عاصم «قُرُبةٌ» لهم بضم الراء‏.‏ وفي المشار إليها وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم‏.‏ والثاني‏:‏ إلى صلوات الرسول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيدخلهم الله في رحمته‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في جنته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون الأوَّلون‏}‏ فيهم ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وهي الحديبية، قاله الشعبي‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم أهل بدر، قاله عطاء بن أبي رباح‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حصل لهم السبق بصحبته‏.‏

قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة محسنِهم ومسيئهم في قوله‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون‏}‏‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى، وذكره الماوردي‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من المهاجرين والأنصار‏}‏ قرأ يعقوب «والأنصارُ» برفع الراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتَّبعوهم باحسان‏}‏ من قال‏:‏ إن السابقين جميع الصحابة، جعل هؤلاء تابعي الصحابة، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ والذين اتَّبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة‏.‏ ومن قال‏:‏ هم المتقدمون من الصحابة، قال‏:‏ هؤلاء تبعوهم في طريقهم، واقتدَوْا بهم في أفعالهم، ففضِّل أولئك بالسبق، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل‏.‏ وقال عطاء‏:‏ اتباعهم إياهم باحسان‏:‏ أنهم يذكرون محاسنهم ويترحَّمون عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تجري تحتَها الأنهار‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ «من تحتها» فزاد «من» وكسر التاء الثانية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم‏}‏ يعم الكل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مُزَينة، وجُهيَنة، وأسلَم، وغِفار، وأشجع، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وكانت منازلهم حول المدينة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أهل المدينة مَرَدُوا على النفاق‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مرنوا عليه وثبتوا، منهم عبد الله بن أُبَيّ، وجَدّ بن قيس، والجلاس، ومعتِّب، ووَحْوَح، وأبو عامر الراهب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ عَتَوْا ومَرَنُوا عليه، وهو من قولهم‏:‏ تمرَّد فلان، ومنه‏:‏ شيطان مريد‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف قال ‏{‏ومن أهل المدينة مردوا‏}‏، وليس يجوز في الكلام‏:‏ مِن القوم قعدوا‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدهن‏:‏ أن تكون ‏{‏من‏}‏ الثانية مردودة على الأولى؛ والتقدير‏:‏ وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، ثم استأنف ‏{‏مردوا‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون في الكلام «مَنْ» مضمر تقديره‏:‏ ومن أهل المدينة مَنْ مردوا؛ فأُضمرت «مَنْ» لدلالة ‏{‏مِنْ‏}‏ عليها كقوله‏:‏ ‏{‏وما منَّا إلا له مقام معلوم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ يريد‏:‏ إلا مَنْ له مقام معلوم؛ وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏منافقون‏}‏‏.‏

والثالث‏:‏ أن ‏{‏مَرَدُوا‏}‏ متعلق بمنافقين تقديره‏:‏ ومِنْ أهل المدينة منافقون مَرَدُوا، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعلمهم‏}‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تعلمهم أنت حتى نُعْلِمَكَ بهم‏.‏ والثاني‏:‏ لا تعلم عواقبهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنعذِّبهم مرتين‏}‏ فيه عشرة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن العذاب الأول في الدنيا، وهو فضيحتهم بالنفاق، والعذاب الثاني‏:‏ عذاب القبر، قاله ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً، فقال‏:‏ يا فلان اخرج فانك منافق، ويا فلان اخرج ‏"‏ ففضحهم‏.‏

والثاني‏:‏ أن العذاب الأول‏:‏ إقامة الحدود عليهم‏.‏ والثاني‏:‏ عذاب القبر، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أن أحد العذابين‏:‏ الزكاة التي تؤخذ منهم، والآخر‏:‏ الجهاد الذي يُّؤْمَرون به، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ الجوع، وعذاب القبر، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال أبو مالك‏.‏

والخامس‏:‏ الجوع والقتل، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والسادس‏:‏ القتل والسبي، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ القتل والأسر‏.‏

والسابع‏:‏ أنهم عُذِّبِوا بالجوع مرتين، رواه خُصَيف عن مجاهد‏.‏

والثامن‏:‏ أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار، قاله ابن زيد‏.‏

والتاسع‏:‏ أن الأول‏:‏ عند الموت تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، والثاني‏:‏ في القبر بمنكر ونكير، قاله مقاتل بن سليمان‏.‏

والعاشر‏:‏ أن الأول‏:‏ بالسيف، والثاني‏:‏ عند الموت، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يُردُّون إلى عذاب عظيم‏}‏ يعني‏:‏ عذاب جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أنهم عشرة رهط تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما دنا رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسَهم بسواري المسجد‏.‏ فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلَّفوا عنك، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم، فقال‏:‏ وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلَّفوا عن الغزو مع المسلمين فنزلت هذه الآية، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم ‏"‏، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس‏:‏ أن الذين تخلفوا كانوا ستة، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان معه، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية، أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أنهم كانوا ثلاثة‏:‏ أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس ابن ثعلبة، ووديعة بن خِذام الأنصاري‏.‏ وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وزيد ابن أسلم‏:‏ كانوا ثمانية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في أبي لبابة وحده‏.‏ واختلفوا في ذنبه على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خان الله ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح، وهذا قول مجاهد، وقد شرحناه في ‏[‏الأنفال‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه تخلُّفه عن تبوك، قاله الزهري‏.‏ فأما الاعتراف، فهو الاقرار بالشيء عن معرفة‏.‏ والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ وُضع الواوُ مكان الباء، والمعنى‏:‏ بآخر سيء، كما تقول‏:‏ خلطت الماءَ واللبن‏.‏

وفي ذلك العمل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن العمل الصالح‏:‏ ما سبق من جهادهم، والسيء‏:‏ التأخر عن الجهاد، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن العمل الصالح‏:‏ توبتهم، والسيء‏:‏ تخلُّفهم، ذكره الفراء‏.‏ وفي قوله «عسى» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه واجب من الله تعالى، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق، وذلك يصد عن اللهو والإهمال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ ‏"‏ لما تاب الله عز وجل على أبي لبابة وأصحابه قالوا‏:‏ يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، فقال‏:‏ «ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وفي هذه الصدقة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الصدقة التي بذلوها تطوعاً، قاله ابن زيد، والجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ الزكاة، قاله عكرمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تطهرهم‏}‏ وقرأ الحسن «تطهرْهم بها» بجزم الراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يصلح أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏تطهرهم‏}‏ نعتاً للصدقة، كأنه قال‏:‏ خذ من أموالهم صدقة مطهِّرة‏.‏ والأجود أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، المعنى‏:‏ فانك تطهرهم بها‏.‏ ف «تطهرْهم» بالجزم، على جواب الأمر، المعنى‏:‏ إن تأخذ من أموالهم، تطهرْهم‏.‏ ولا يجوز في‏:‏ ‏{‏تُزكِّيهم‏}‏ إلا إثبات الياء، اتّباعاً للمصحف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏تطهرهم‏}‏ من الذنوب، ‏{‏وتزكيهم‏}‏‏:‏ تصلحهم‏.‏ وفي قوله ‏{‏وصلّ عليهم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ استغفر لهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ادع لهم، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن صلواتِك‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «إن صلواتك» على الجمع‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، «إن صلاتك» على التوحيد‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏سكنٌ لهم‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ طمأنينة لهم أن الله قد قَبِلَ منهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تثبيت وسكون‏.‏ والثاني‏:‏ رحمة لهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ قُرْبَةٌ لهم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ وَقَارٌ لهم، قاله قتادة‏.‏ والخامس‏:‏ تزكية لهم‏.‏ حكاه الثعلبي‏.‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خُلِّفوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة‏}‏ قرأ الجمهور «يعلموا» بالياء‏.‏ وروى عبد الوارث‏:‏ ‏{‏تعلموا‏}‏ بالتاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يقبل التوبة عن عباده‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ من عَبيده‏.‏ تقول‏:‏ أخذته منك، وأخذته عنك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ يقبلها‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ أي اقبله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل اعملوا‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ هذا خطاب للذين تابوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون مرجَؤُن‏}‏ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي‏:‏ «مرجَوْن» بغير همز‏.‏ والآية نزلت في كعب بن مالك، ومُرارةَ بن الربيع، وهلال بن أمية، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري؛ فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏وآخرون‏}‏ عطف على قوله‏:‏ «ومن أهل المدينة» فالمعنى‏:‏ منهم منافقون، ومنهم ‏{‏آخرون مرجَوْن‏}‏ أي‏:‏ مؤخَّرون؛ و‏{‏إما‏}‏ لوقوع أحد الشيئين، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، لكنه خاطب العباد بما يعلمون، فالمعنى‏:‏ ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ أي‏:‏ عليم بما يؤول إليه حالهم، حكيم بما يفعله بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا مسجداً‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «والذين» بواو‏.‏ وكذلك هي في مصاحفهم‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ «الذين» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ بالواو، فهو معطوف على ما قبله نحو قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75‏]‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏ ‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ والمعنى‏:‏ ومنهم الذين اتخذوا مسجداً‏.‏ ومن حذف الواو فعلى وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يضمر ومنهم الذين اتخذوا كقوله‏:‏ أكفرتم، المعنى‏:‏ فيقال لهم‏:‏ أكفرتم‏.‏

والثاني‏:‏ أن يضمر الخبر بعدُ، كما أُضمر في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏، المعنى‏:‏ يُنتقم منهم ويعذَّبون‏.‏ قال أهل التفسير‏:‏ لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قُباء، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فصلى فيه، حسدهم إخوتهم بنو غَنْم بن عَوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا‏:‏ نبني مسجداً، ونرسل إلى رسول الله فيصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام؛ وكان أبو عامر قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، عاداه، فخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن أعدُّوا من استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجداً، فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا هذا المسجد، إلى جنب مسجد قباء، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً‏:‏ خِذام بن خالد ومِن داره أُخرج المسجد، ونَبْتَل بن الحارث، وبِجِاد بن عثمان، وثعلبة بن حاطب، ومُعتِّب بن قُشير، وعبَّاد بن حُنَيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه يزيد ومُجمِّع، وكان مُجمِّع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد الله بن حنيف، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أردتَ بما أرى ‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الذي حلف مُجمِّع‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا سبعة عشر، فلما فرغوا منه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا قد ابتنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصليَ فيه، فدعى بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا معن بن عدي، ومالك بن الدُّخشُم في آخرين، وقال‏:‏ ‏"‏ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرِقوه، ‏"‏ وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتُخذ كُناسة تُلقى فيها الجيف‏.‏ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً‏.‏

فأما التفسير‏:‏ فقال الزجاج‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ في موضع رفع، المعنى‏:‏ ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً‏.‏ و‏{‏ضراراً‏}‏ انتصب مفعولاً له، المعنى‏:‏ اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد‏.‏ فلما حذفت اللام، أفضى الفعل، فنَصب‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والضرار‏:‏ بمعنى المُضارّة لمسجد قباء، ‏{‏وكفراً‏}‏ بالله ورسوله ‏{‏وتفريقاً بين المؤمنين‏}‏ لأنهم كانوا يصلُّون في مسجد قباء جميعاً، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد‏:‏ الانتظار، فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار‏.‏ ‏{‏وليحلفُنَّ إن أردنا‏}‏ أي‏:‏ ما أردنا ‏{‏إلا الحسنى‏}‏ أي‏:‏ ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى؛ وفيها ثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ طاعة الله‏.‏ والثاني‏:‏ الجنة‏.‏ والثالث‏:‏ فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة‏.‏ وقد ذكرنا اسم الحالف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه‏}‏ أي‏:‏ لا تصلِّ فيه أبداً‏.‏ ‏{‏لمسجد أُسِّس على التقوى‏}‏ أي بني على الطاعة، وبناه المتقون ‏{‏من أول يوم‏}‏ أي‏:‏ منذ أول يوم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ في الزمان، والأصل‏:‏ منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال‏.‏ وجائز دخول ‏{‏من‏}‏ لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير‏:‏

لِمَنِ الديارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ *** أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ

وقيل‏:‏ معناه مِن مَرِّ حِجج ومِن مَرِّ شهر‏.‏ وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره‏.‏ روى سهل بن سعد‏:‏ أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما‏:‏ هو مسجد الرسول، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد قباء، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «هو مسجدي هذا» وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏}‏ سبب نزولها أن رجالاً من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي قال ابن عباس‏:‏ «لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالما الذي أثنى الله به عليكمفقالوا‏:‏ إنا نستنجي بالماء» فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ أن يتطهروا من الذنوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن أسس بنيانه‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «أَسس» بفتح الألف في الحرفين جميعاً وفتح النون فيهما‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر «أُسس» بضم الألف «بنيانُه» برفع النون‏.‏ والبنيان مصدر يراد به المبني‏.‏ والتأسيس‏:‏ إحكام أس البناء، وهو أصله، والمعنى‏:‏ المؤسِّس بنيانه متقياً يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ وشفا الشيء‏:‏ حرفُه وحدُّه‏.‏ والشفا مقصور، يكتب بالألف، ويثنى شفوان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جرف‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي «جُرُف» مثقَّلاً‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «جُرْف» ساكنة الراء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله‏:‏ الشُّغُل والشُّغْل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ على حرف جرف هائر‏.‏ والجرف‏:‏ ما يتجرف بالسيول من الأودية‏.‏ والهائر‏:‏ الساقط‏.‏ ومنه‏:‏ تهوَّر البناء وانهار‏:‏ إذا سقط‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحمزة «هار» بفتح الهاء‏.‏ وأمال الهاء نافع، وأبو عمرو‏.‏ وعن عاصم كالقراءتين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانهار به‏}‏ أي‏:‏ بالباني ‏{‏في نار جهنم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا مثل، والمعنى‏:‏ أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهوَّر بأهله فيها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة، فرؤي فيها الدخان‏.‏ قال جابر‏:‏ رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدخان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يزال بنيانهم‏}‏ يعني مسجد الضرار ‏{‏الذي بَنَوْا ريبة في قلوبهم‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ شكّاً ونفاقاً، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم، قاله السدي، والمبرِّد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تقطَّع قلوبهم‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ «إلا» وهو حرف استثناء‏.‏ وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جر‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «تُقَطَّع» بضم التاء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ «تَقَطَّع» بفتح التاء‏.‏ ثم في المعنى‏.‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، ذكره الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ سبب نزولها ‏"‏ أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلاً، قال عبد الله بن رواحة‏:‏ يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك، ما شئت، فقال‏:‏ أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا فاذا فعلنا ذلك، فما لنا‏؟‏ قال‏:‏ «الجنة» قالوا‏:‏ ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت ‏{‏إن الله اشترى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏"‏، قاله محمد بن كعب القرظي فأما اشتراء النفس، فبالجهاد‏.‏

وفي اشتراء الأموال وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ بالإِنفاق في الجهاد‏.‏ والثاني‏:‏ بالصدقات‏.‏ وذِكْرُ الشراء هاهنا مجاز، لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يُقرض الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة، فعبَّر عنه بالشراء لِما تضمن من عوض ومعوض‏.‏ وكان الحسن يقول‏:‏ لا والله، إنْ في الدنيا مؤمن إلا وقد أُخذت بيعته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ثامَنَهم والله فأغلى لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيَقتُلون ويُقتَلون‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم «فيَقتلون ويُقتَلون» فاعل ومفعول‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي «فيُقتلون ويَقتُلون» مفعول وفاعل‏.‏ قال أبو علي‏:‏ القراءة الأولى بمعنى أنهم يَقتُلون أولاً ويُقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم؛ فان لم يقدَّر فيه التقديم، فالمعنى‏:‏ يقتُل من بقي منهم بعد قتل من قُتل، كما أن قوله‏:‏ ‏{‏فما وهنوا لما أصابهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ ما وهن من بقي بِقَتْلِ من قُتل‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ إن الجنة عوض عن جهادهم، قَتَلوا أو قُتلوا‏.‏ ‏{‏وعداً عليه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ نصب «وعداً» بالمعنى، لأن معنى قوله ‏{‏بأن لهم الجنة‏}‏‏:‏ ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏، قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في التوراة والإِنجيل‏}‏ يدل على أن أهل كل ملة أُمروا بالقتال ووُعدوا عليه الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أوفى‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أوفى بما وعد ‏{‏من الله‏}‏ ‏{‏فاستبشروا‏}‏ أي‏:‏ فافرحوا بهذا البيع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التائبون‏}‏ سبب نزولها‏.‏ أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل‏:‏ يا رسول الله، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏؟‏ قاله ابن عباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يصلح الرفع هاهنا على وجوه‏.‏ أحدها‏:‏ المدح، كأنه قال‏:‏ هؤلاء التائبون، أو هم التائبون‏.‏ ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى‏:‏ يقاتل التائبون؛ فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفعٌ بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى‏:‏ التائبون ومن ذُكر معهم لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد‏.‏

وللمفسرين في قوله‏:‏ «التائبون» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي‏.‏ والثاني‏:‏ الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏العابدون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ الموحِّدون، قاله سعيد بن جبير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحامدون‏}‏ قال قتادة‏:‏ يحمدون الله على كل حال‏.‏

وفي السائحين أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحاً تشبيهاً بالسائح، لأن السائح لا زاد معه؛ والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه‏:‏ صائم، وذلك أن له قُوتين، غدوة وعشية، فشُبه به صيام الآدمي لتسحُّره وإفطاره‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الغزاة، قاله عطاء‏.‏ والثالث‏:‏ طلاب العلم، قاله عكرمة‏.‏ والرابع‏:‏ المهاجرون، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏ يعني في الصلاة‏.‏ ‏{‏الآمرون بالمعروف‏}‏ وهو طاعة الله‏.‏ ‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ وهو معصية الله‏.‏

فان قيل‏:‏ ما وجه دخول الواو في قوله‏:‏ «والناهون»‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السبعة، كقوله‏:‏ ‏{‏وثامنهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ وقوِله في صفة الجنة‏:‏ ‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ ذكره جماعة من المفسرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والحافظون لحدود الله‏}‏ قال الحسن‏:‏ القائمون بأمر الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ‏"‏ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقالأي عم، قل معي‏:‏ لا إله إلا الله، أحاجُّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وابن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏‏!‏ فلم يزالا يكلِّمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به‏:‏ أنا على ملَّة عبد المطلب‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لأستغفرن لك مالم أُنه عنك» فنزلت ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ونزلت ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ ‏"‏ أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن المسيب‏.‏ عن أبيه وقيل‏:‏ إنه لما مات أبو طالب، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فقال المسلمون‏:‏ ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا، وقد استغفر ابراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه‏؟‏ فاستغفروا للمشركين، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال أبو الحسين بن المنادي‏:‏ هذا لا يصح، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لعمه ‏"‏ لأستغفرن لك مالم أُنه عنك ‏"‏ قبل أن يموت، وهو في السياق فأما أن يكون استغفر له بعد الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه‏.‏

والثاني‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم بكى، فبكى الناس لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا‏:‏ ما الذي أبكاك‏؟‏ فقال«مررت بقبر أمي فصليت ركعتين، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنُهيت، فبكيت، ثم عدت فصليت ركعتين، فاستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزُجرت زجراً، فأبكاني،»ثم دعا براحلته فركبها؛ فما سار إلا هُنَيأة، حتى قامت الناقة لثقل الوحي؛ فنزلت ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا‏}‏ والأية التي بعدها ‏"‏، رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثالث‏:‏ أن رجلاً استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب‏:‏ أتستغفر لهما وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ أولم يستغفر إبراهيم لأبيه‏؟‏ فذكر ذلك عليّ للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام‏.‏

والرابع‏:‏ ‏"‏ أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم‏؟‏ فقال‏:‏ «بلى، والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» ‏"‏ فنزلت هذه الآية، وبيَّن عذر إبراهيم، قاله قتادة‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما بان أنهم ماتوا كفاراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏ وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله بذلك‏.‏

والثاني‏:‏ أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن؛ فلما تبيَّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على الكفر، ترك الدعاء له‏.‏ فعلى الأول، تكون هاء الكناية في «إيَّاه» عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم‏.‏ وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك‏:‏ «وعدها أباه» بالباء‏.‏

وفي الأوَّاه ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الخاشع الدَّعَّاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الدَّعَّاء، رواه زِرٌّ عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير‏.‏

والثالث‏:‏ الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد، وابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والسادس‏:‏ أنه المسبِّح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد ابن المسيب، وابن جبير‏.‏

والسابع‏:‏ أنه المتأوِّه لذِكر عذاب الله، قاله الشعبي‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ مجاز أواه مجاز فَعّال من التأوّه، ومعناه‏:‏ متضرِّع شَفَقَاً وفَرَقاً ولزوماً لطاعة ربه، قال المُثَقَّب‏:‏

إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل *** تأَوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ

والثامن‏:‏ أنه الفقيه، رواه ابن جريج عن مجاهد‏.‏ فأما الحليم، فهو الصفوح عن الذنوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 116‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضل قوماً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، سبب نزولها‏:‏ أنه لما نزلت آية الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال قوم‏:‏ المعنى أنه بيَّن أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فاذا حرَّمه ولم يمتنعوا عنه، فقد ضلوا‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ في الآية حذف واختصار، والتأويل‏:‏ حتى يتبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضلال؛ فحذف ما حذف البيان معناه، كما تقول العرب‏:‏ أمرتك بالتجارة فكسبتَ الأموال؛ يريدون‏:‏ فتجرت فكسبت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله على النبي‏}‏ قال المفسرون‏:‏ تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلُّف‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سببَ توبة التائبين، ذُكر معهم، كقوله‏:‏ ‏{‏فإنَّ لله خُمُسَهُ وللرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين اتبعوه في ساعة العسرة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة‏:‏ وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حرٌّ شديدٌ، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر‏.‏ ‏"‏ وقيل لعمر بن الخطاب‏:‏ حدثنا عن ساعة العسرة، فقال‏:‏ خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيراً، فادع لنا، قال‏:‏ «تحب ذلك»‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏ قرأ حمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ «كاد يزيغ» بالياء‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء‏.‏ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هَمُّوا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تَزِغ عن الإيمان، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن القلوب كادت تزيغ تلفاً بالجهد والشدة، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذِكر التوبة فضلاً منه، ثم ذكر ذنبه، ثم أعاد ذِكر التوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الثلاثة الذين خُلِّفُوا‏}‏ وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر‏:‏ «خالفوا» بألف‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وحميد‏:‏ «خَلَفُوا» بفتح الخاء واللام المخففة‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية‏:‏ «خَلَّفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها‏.‏ وهؤلاء هم المرادون بقوله‏:‏ ‏{‏وآخرون مُرجَوْنَ‏}‏ وقد تقدَّمت أسماؤهم ‏[‏التوبة‏:‏ 106‏]‏ وفي معنى «خُلّفوا» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ خُلِّفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، فيكون المعنى‏:‏ خُلِّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك‏.‏

والثاني‏:‏ خُلِّفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة‏.‏ وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك، وقد رويتها في كتاب «الحدائق»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت‏}‏ أي‏:‏ ضاقت مع سَعَتها، وذلك أن المسلمين مُنعوا من معاملتهم وكلامهم، وأُمروا باعتزال أزواجهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مُعرِضاً عنهم‏.‏ ‏{‏وضاقت عليهم أنفسهم‏}‏ بالهمِّ والغمِ‏.‏ ‏{‏وظنوا‏}‏ أي‏:‏ أيقنوا ‏{‏أن لا ملجأ‏}‏ أي‏:‏ لا معتصَم من الله ومن عذابه إلا هو‏.‏ ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ أعاد التوبة تأكيداً، ‏{‏ليتوبوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ليستقيموا وقال غيره‏:‏ وفَّقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها‏.‏ وسئل بعضهم عن التوبة النصوح، فقال‏:‏ أن تضيق على التائب الارضُ، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتَّقوا الله وكونوا مع الصَّادقين‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلِّفين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في أهل الكتاب‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكونوا مع الصادقين‏.‏

وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عمر‏.‏

والثاني‏:‏ أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك‏.‏ وقد قرأ ابن السميفع‏.‏ وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ‏:‏ «مع الصَّادِقَيْنِ» بفتح القاف وكسر النون على التثنية‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الثلاثة الذين خُلِّفوا، صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخُّرهم، قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، قاله ابن جريج‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وقيل‏:‏ إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال‏:‏ يا معشر الأنصار، إن الله يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين الذين أُخِرجوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الصادقون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏ من هم‏؟‏ قالت الأنصار‏:‏ أنتم هم‏.‏ قال‏:‏ فان الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء‏.‏

والخامس‏:‏ أنه عامّ، قاله قتادة و«مع» بمعنى «مِنْ»، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود‏:‏ «وكونوا من الصادقين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 121‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، ‏{‏أن يتخلَّفوا عن رسول الله‏}‏ في غزوة غزاها، ‏{‏ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه‏}‏ لا يرضَوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة ورسول الله في الحرِّ والمشقة‏.‏ يقال‏:‏ رغبت بنفسي عن الشيء‏:‏ إذا ترفعت عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ذلك النهي عن التخلُّف ‏{‏بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ‏}‏ وهو العطش ‏{‏ولا نصب‏}‏ وهو التعب ‏{‏ولا مخمصة‏}‏ وهو المجاعة ‏{‏ولا ينالون من عدو نيلاً‏}‏ أسراً أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم الله أن يجازيهم على جميع ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ينفقون نفقة صغيرة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تمرة فما فوقها‏.‏ ‏{‏ولا يقطعون وادياً‏}‏ مقبلين أو مدبرين ‏{‏إلا كُتب لهم‏}‏ أي‏:‏ أُثبت لهم أجر ذلك‏.‏ ‏{‏ليجزيَهم الله أحسن‏}‏ أي‏:‏ بأحسن ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

فصل

قال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة‏:‏ كان في أول الأمر لا يجوز التخلُّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الجهاد يلزم الكل؛ ثم نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 22‏]‏؛ وقالت طائفة‏:‏ فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه من الواجب عليهم أن يَقُوه بأنفسهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدِّين كلُّه، فأُمروا بالتظاهر لئلا يقلَّ العدد، وهذا الحكم باقٍ إلى وقتنا؛ فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا‏.‏ فعلى هذا، الآية محكمة‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ لكل آية وجهها‏.‏ وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون‏:‏ والله‏.‏ لا نتخلَّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سريَّة أبداً‏.‏ فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون جميعاً، وتركوا رسول الله وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم؛ فكانت القبيلة منهم تُقْبِلُ بأسرها إلى المدينة من الجُهد، ويظهرون الإسلام وهم كاذبون؛ فضيَّقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن ناساً أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلِّمون قومهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏إلا تنفروا يعذبكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 39‏]‏ فقال ناس من المنافقين‏:‏ هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ أن ناساً خرجوا إلى البوادي يعلِّمون الناس ويَهدونهم، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به؛ فقال لهم الناس ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا؛ فأقبلوا من البادية كلهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏، والمعنى‏:‏ ينبغي أن ينفر بعضهم، ويبقى البعض‏.‏ قال الفراء‏:‏ ينفِر وينفُر، بكسر الفاء وضمها، لغتان‏.‏ واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه النفير إلى العدو، فالمعنى‏:‏ ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة، وتبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة‏.‏ ‏{‏ليتفقَّهوا في الدين‏}‏ يعني الفرقةَ القاعدين‏.‏ فاذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدَّد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلِّفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية‏.‏ فعلى القول الأول، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه‏.‏ وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 126‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ قد أُمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يُبتدَأ بالأقرب فالأقرب‏.‏ وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الروم، قاله ابن عمر‏.‏ والثاني‏:‏ قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك، قاله ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الديلم، قاله الحسن‏.‏ والرابع‏:‏ العرب، قاله ابن زيد‏.‏ والخامس‏:‏ أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب، قاله قتادة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم‏.‏ قال‏:‏ وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما تخطَّى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهْيَبَ له، فأُمر بقتال من يليه ليُستَنَّ بذلك‏.‏ وفي الغلظة ثلاث لغات‏:‏ غِلظة، بكسر الغين؛ وبها قرأ الأكثرون‏.‏ وغَلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن عاصم‏.‏ وغُلظة بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم‏.‏ ومثلها‏:‏ جِذوة وجَذوة وجُذوة، ووِجنة ووَجنة ووُجنة، ورِغوة ورَغوة ورُغوة، ورِبوة ورَبوة ورُبوة، وقِسوة وقَسوة وقُسوة، وإِلوة وأَلوة وأُلوة، في اليمين‏.‏ وشاة لِجْبة ولَجْبة ولُجْبة‏:‏ قد ولىَّ لبنها‏.‏ قال ابن عباس في قوله «غلظة»‏.‏ شجاعة وقال مجاهد‏:‏ شدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إِيماناً‏}‏ هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاءً بقول الله تعالى‏.‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً‏}‏ لأنهم إذا صدَّقوا بها وعملوا بما فيها‏.‏ زادتهم إيماناً‏.‏ ‏{‏وهم يستبشرون‏}‏ أي‏:‏ يفرحون بنزولها‏.‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي‏:‏ شك ونفاق‏.‏

وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الشك، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الإثم، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولا يرون‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «أولا ترون» بالتاء على الخطاب للمؤمنين‏.‏ وفي معنى ‏{‏يُفتَنُون‏}‏ ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يكذبون كذبة أو كذبتين يُضلِّون بها، قاله حذيفة بن اليمان‏.‏

والثاني‏:‏ ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ يُبْتَلَوْنَ بالغزو في سبيل الله، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والرابع‏:‏ يُفْتَنون بالسَّنَة والجوع، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ بالأوجاع والأمراض، قاله عطية‏.‏

والسادس‏:‏ يَنقضُون عهدهم مرة أو مرتين، قاله يمان‏.‏

والسابع‏:‏ يكفرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تكلَّموا به إذ خَلَوْا، علموا أنه نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول‏:‏ إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان‏.‏

والثامن‏:‏ يُفضَحون باظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يتوبون‏}‏ أي‏:‏ من نفاقهم‏.‏ ‏{‏ولا هُمْ يذَّكَّرونَ‏}‏ أي‏:‏ يعتبرون ويتَّعظون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت إذا أُنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم، ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، يقولون‏:‏ ‏{‏هل يراكم من أحد‏}‏ من المؤمنين إن قمتم‏؟‏ فان لم يرهم أحد، خرجوا من المسجد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كأنهم يقولون ذلك إيماءً لئلا يعلم بهم أحد، ‏{‏ثم انصرفوا‏}‏ عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ثم انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صرف الله قلوبهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عن الإيمان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أضَلَّهم مجازاة على فعلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ قرأ الجمهور بضم الفاء‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو‏:‏ بفتحها وفي المضمونة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من جميع العرب، قاله ابن عباس؛ وقال‏:‏ ليس في العرب قبيلة إلا وقد وَلدت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ ممن تعرفون، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ من نكاحٍ لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصادق‏.‏

الرابع‏:‏ بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمَّن هو مثلكم، قاله الزجاج‏.‏ وفي المفتوحة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أفضلكم خُلُقاً‏.‏ والثاني‏:‏ أشرفكم نسباً‏.‏ والثالث‏:‏ أكثركم طاعة لله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عزيز عليه ما عنِتُّم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ شديد عليه ما شقَّ عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ شديد عليه عنتكم‏.‏ والعنت‏:‏ لقاء الشدة‏.‏

والثاني‏:‏ شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حريص عليكم‏}‏ قال الحسن‏:‏ حريص عليكم أن تؤمنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سماه باسمين من أسمائه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ «رؤوف» فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة؛ ويقال‏:‏ «رؤف» وأنشد‏:‏

ترى للمؤمنين عليك حقاً *** كفعل الوالد الرؤف الرحيم

وقيل‏:‏ رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان تولَّوا‏}‏ أي‏:‏ أعرضوا عن الإيمان ‏{‏فقل حسبيَ الله‏}‏ أي‏:‏ يكفيني ‏{‏رب العرش العظيم‏}‏‏.‏ وقرأ ابن محيصن «العظيمُ» برفع الميم‏.‏ وإنما خص العرش بالذِّكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر‏.‏ قال أُبيّ بن كعب‏:‏ آخر آية أُنزلت‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر السُّورة‏.‏