فصل: سورة الشورى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويا قومِ مالي أدعُوكم‏}‏ أي‏:‏ مالَكم، كما تقول‏:‏ ما لي أراك حزيناً، معناه‏:‏ مالَك، ومعنى الآية‏:‏ أخبِروني كيف هذه الحال، أدعوكم ‏{‏إلى النجاة‏}‏ من النار بالإِيمان ‏{‏وتَدْعونني إلى النّار‏}‏ أي‏:‏ إلى الشِّرك الذي يوجب النّار‏؟‏‏!‏ ثم فسَّر الدَّعوتَين بما بعد هذا‏.‏

ومعنى ‏{‏ليس لي به عِلْم‏}‏ أي‏:‏ لا أعلم هذا الذي ادَّعَوْه شريكاً له‏.‏ وقد سبق بيان ما بعد هذا ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ليس له دعوة‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليس له استجابة دعوة، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ ليس له شفاعة، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنَّ مَرَدَّنا إلى الله‏}‏ أي‏:‏ مَرْجِعنا؛ والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا‏.‏ وفي المُسْرِفين قولان قد ذكرناهما عند قوله‏:‏ ‏{‏مُسْرِفٌ كَذَّابٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فستَذْكُرونَ ما أقول لكم‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني، وأبو رجاء‏:‏ ‏{‏فستَذَكَّرونَ‏}‏ بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها؛ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأيوب السختياني‏:‏ بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعاً‏.‏ أي‏:‏ إَذا نزل العذاب بكم، ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة‏؟‏‏!‏‏.‏

‏{‏وأُفَوِّضُ أمري إلى الله‏}‏ أي‏:‏ أَرُدُّه، وذلك أنهم تواعدوه لمخالَفَتِهِ دينَهم ‏{‏إنِّ الله بصير بالعباد‏}‏ أي‏:‏ بأوليائه وأعدائه‏.‏

ثم خرج المؤمن عنهم، فطلبوه فلم يَقْدِروا عليه، ونجا مع موسى لمَّا عبر البحر، فذلك قوله ‏{‏فوقاه اللهُ سيِّئاتِ ما مكَروا‏}‏ أي‏:‏ ما أرادوا به من الشَّرِّ ‏{‏وحاقَ بآل فرعونَ‏}‏ لما لجوا في البحر ‏{‏سوءُ العذاب‏}‏ قال المفسِّرون هو الغرق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوّاً وعَشِيّاً‏}‏ قال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يُعْرَضُونَ على النار كُلَّ يوم مرَّتين فيقال‏:‏ يا آل فرعون هذه داركم‏.‏ ورورى ابن جرير قال حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال‏:‏ حدثنا حماد بن محمد البلخي قال‏:‏ سمعت الأوزاعي، وسأله رجل فقال‏:‏ رأينا طيوراً تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بِيْضاً، فَوْجاً فَوْجاً، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشيّ رجع مثلها سُوداً، قال‏:‏ وفَطَنْتم إلى ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يُعْرَضُونَ على النار غدوّاً وعشيّاً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء، فينبُت عليها من الليل رياش بِيض، وتتناثر السود، ثم تغدو ويعرضون على النار غدوّاً أوعشياً، ‏[‏ثم ترجع إلى وكورها‏]‏، فذلك دأبها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزوجل ‏{‏أدْخِلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذاب‏}‏‏.‏ وقد روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ «إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغَداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة فمن ‏[‏أهل‏]‏ الجنة، وإن كان من أهل النار فمن ‏[‏أهل‏]‏ النار، يقال‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثك اللهُ إليه يوم القيامة»

وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بيَّن ما لهم في الآخرة فقال ‏{‏ويومَ تقومُ الساعةُ ادخِلوا‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، ‏[‏وأبو عمرو‏]‏، وأبو بكر وأبان عن عاصم‏:‏ ‏{‏الساعةُ ادْخُلوا‏}‏ بالضم وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول، والابتداءُ على قراءة هؤلاء بضم الألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 52‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يتحاجُّون في النار‏}‏ المعنى‏:‏ واذكر لقومك يا محمد إذ يختصمون، يعني أهل النار، والآية مفسَّرة في ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 21‏]‏، والذين استكبروا هم القادة‏.‏ ومعنى ‏{‏إنّا كُلٌّ فيها‏}‏ أي‏:‏ نحن وأنتم، ‏{‏إنّ الله قد حَكَم بين العباد‏}‏ أي‏:‏ قضى هذا علينا وعليكم‏.‏ ومعنى قول الخَزَنة لهم‏:‏ ‏{‏فادْعُوا‏}‏ أي‏:‏ نحن لا نَدْعو لكم ‏{‏وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال‏}‏ أي‏:‏ إن ذلك يَبْطُل ولا يَنْفَع‏.‏

‏{‏إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والذين آمَنوا في الحياة الدُّنيا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن ذلك بإثبات حُججهم‏.‏

والثاني‏:‏ بإهلاك عدوِّهم‏.‏

والثالث‏:‏ بأن العاقبة تكون لهم‏.‏ وفصلُ الخطاب‏:‏ أن نصرهم حاصل لابدَّ منه، فتارة يكون بإعلاءِ أمرهم كما أعطى داود وسليمان من المُلك ما قهرا به كل كافر، وأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم على مكذِّبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بانجاء الرسل وإهلاك أعدائهم كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بعد وفاة الرُّسل، كتسليطه بختنصر على قَتَلَة يحيى بن زكريا‏.‏ وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد فإن الله منجيهم من العذاب، وواحد الأشهاد شاهد، كما أن واحد الأصحاب صاحب‏.‏ وفي الأشهاد ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأُمم بالتكذيب، قاله مجاهد والسدي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وهم الحَفَظة من الملائكة‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة والأنبياء قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم أربعة‏:‏ الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومَ لا يَنْفَعُ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «تَنْفَعُ» بالتاء، والباقون بالياء؛ لأن المعذرة والاعتذار بمعنى ‏{‏الظالمين معذرتُهم‏}‏ أي‏:‏ لا يُقْبَلُ منهم إن اعتذروا ‏{‏ولهم اللعنةُ‏}‏ أي‏:‏ البُعد من الرَّحمة‏.‏ وقد بيَّنّا في ‏[‏الرعد‏:‏ 25‏]‏ أن «لهم» بمعنى «عليهم» و‏{‏وسوءُ الدار‏}‏‏:‏ النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 68‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الهُدى‏}‏ من الضلالة، يعني التوراة ‏{‏وأورَثْنا بني إسرائيل الكتابَ‏}‏ بعد موسى، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين؛ وقال ابن السائب‏:‏ التوراة والإنجيل والزَّبور‏.‏ والذِّكرى بمعنى التذكير‏.‏

‏{‏فاصْبِر‏}‏ على أذاهم ‏{‏إنّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ في نصرك، وهذه الآية في هذه السورة في موضعين ‏[‏غافر‏:‏ 5577‏]‏، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏سَبّح‏}‏ صَلِّ‏.‏

وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكارِ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ صلاة الغداة وصلاة العصر، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها صلاة كانت قبل أن تُفرض الصلوات، ركعتان غُدوةً وركعتان عشيَّةً، قاله الحسن‏.‏

وما بعد هذا قد تقدم آنفا ‏[‏المؤمن‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنْ في صُدورهم إلاّ كِبرٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية نزلت في قريش؛ والمعنى‏:‏ ما يَحْمِلُهم على تكذيبك إلاّ ما في صدورهم من التكبُّر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكِبْر؛ لأن الله تعالى مُذِلُّهم ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ من شرِّهم؛ ثم نبَّه على قدرته بقوله ‏{‏لَخَلْقُ السموات والأرض أكبرُ من خَلْقِ الناس‏}‏ أي‏:‏ من إعادتهم، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جِرْمها، فنبَّههم على قُدرته على إعادة الخَلْق ‏{‏ولكنَّ أكثر الناس لا يَعلمونَ‏}‏ يعني الكفار حين لا يستدلُّون بذلك على التوحيد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عظمَّت اليهودُ الدجّالَ وقالوا‏:‏ إن صاحبنا يُبعَث في آخر الزمان وله سلطان، فقال الله‏:‏ ‏{‏إن الذين يجادِلونَ في آيات الله‏}‏ لأن الدجّال من آياته، ‏{‏بغير سُلطان‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏بغير‏]‏ حجة، فاستعذ بالله من فتنة الدجّال‏.‏ قال‏:‏ والمراد ب ‏{‏خَلْق الناس‏}‏‏:‏ الدجّال؛ وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والأول أصح‏.‏

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ادْعُوني أَسْتَجِبْ لكم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وحِّدوني واعبُدوني أثِبْكم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ سلوني أُعْطِكم، قاله السدي‏.‏

‏{‏إن الذين يَستكبِرونَ عن عبادتي‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عن توحيد،‏.‏

والثاني‏:‏ عن دعائي ومسألتي ‏{‏سَيَدْخُلونَ جهنَّم‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو‏:‏ ‏{‏سيُدْخَلونَ‏}‏ ‏[‏بضم الياء‏]‏، والباقون بفتحها والدّاخر الصّاغر‏.‏

وما بعد هذا قد سبق في مواضع متقرفة ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ ‏[‏القصص‏:‏ 73‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 95‏]‏ ‏[‏النمل‏:‏ 61‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54 29‏]‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ إلى قوله ‏{‏ولِتبلُغوا أجلاً مسمىً‏}‏ وهو أجل الحياة إلى الموت ‏{‏ولعلَّكم تَعقِلونَ‏}‏ توحيدَ الله وقدرتَه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 85‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تَرَ إلى الذين يجادِلون في آيات الله‏}‏ يعني القرآن، يقولون‏:‏ ليس من عند الله، ‏{‏أنَّى يُصْرَفونَ‏}‏ أي‏:‏ كيف صُرِفوا عن الحق إلى الباطل‏؟‏‏!‏ وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المشركون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم القَدَريَّة، ذكره جماعة من المفسرين‏.‏ وكان ابن سيرين يقول‏:‏ إن لم تكن نزلت في القَدَريَّة فلا أدري فيمن نزلت‏.‏

وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏والسلاسلَ يَسحبونَ‏}‏ بفتح اللام والياء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا سحبوها كان أشدَّ عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسْجَرُونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ توقدَ بهم النار فصاروا وَقودَها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أين ما كنتم تشرِكونَ‏}‏ مفسَّر في ‏[‏الأعراف‏:‏ 190‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ نكن نَدْعو من قَبْلُ شيئاً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئاً، لأنها لم تكن تضُر ولا تنفع، وهو قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوه على وجه الجحود، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما أضلَّ اللهُ هؤلاء يُضِّلُّ الكافرين‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ العذاب الذي نزل بكم ‏{‏بما كنتم تَفرحونَ في الأرض بغير الحق‏}‏ أي‏:‏ بالباطل ‏{‏وبما كنتم تَمرحونَ‏}‏ وقد شرحنا المَرَح في ‏[‏بني إسرائيل‏:‏ 37‏]‏ وما بعد هذا قد تقدَّم بتمامه ‏[‏النحل‏:‏ 29‏]‏ ‏[‏يونس‏:‏ 109‏]‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لرسولٍ أن يأتيَ بآية إلاّ باذن الله‏}‏ وذلك لأنهم كانوا يقترِحون عليه الآيات ‏{‏فإذا جاء أمرُ الله‏}‏ وهو قضاؤه بين الأنبياء وأُممهم و‏{‏المبطلون‏}‏‏:‏ أصحاب الباطل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولِتبلُغوا عليها حاجةً في صُدوركم‏}‏ أي‏:‏ حوائجكم في البلاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأيَّ آيات الله تُنْكِرونَ‏}‏ استفهام توبيخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أغنى عنهم‏}‏ في «ما» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها للنفي‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ للاستفهام ذكرهما ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرٍحوا بما عندهم من العِلْم‏}‏ في المشار إليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنهم‏]‏ الأُمم المكذِّبة، قاله الجمهور؛ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ نحن أعلم منهم لن نُْعَثُ ولن نُحَاسَبَ، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ فرحوا بما كان عندهم أنه عِلْم، قاله السدي‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم الرُّسل؛ والمعنى‏:‏ فرح الرُّسل لمّا هلك المكذِّبون ونَجَوْا بما عندهم من العِلْم بالله إذ جاء تصديقُه، حكاه أبو سليمان وغيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحاق بهم‏}‏ يعني بالمكذِّبين العذاب الذي كانوا به يستهزؤون والبأس‏:‏ العذاب‏.‏ ومعنى ‏{‏سُنَّةَ الله‏}‏‏:‏ أنه سَنَّ هذه السُّنَّة في الأُمم، أي‏:‏ أن إيمانهم لا ينفعُهم إذا رأوا العذاب، ‏{‏وخسر هنالك الكافرون‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك‏؟‏

فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن «خسر» بمعنى «هلك» قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إنما بيَّن لهم خُسرانهم عند نزول العذاب، قاله الزجاج‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنزيلٌ‏}‏ قال الفراء‏:‏ يجوز أن يرتفع «تنزيلٌ» ب ‏{‏حم‏}‏، ويجوز أن يرتفع بإضمار «هذا»‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «تنزيلٌ» مبتدأ، وخبره ‏{‏كتابٌ فُصِّلَتْ آياتُه‏}‏، هذا مذهب البصريِّين و‏{‏قرآناً‏}‏ منصوب على الحال، المعنى‏:‏ بُيِّنَتْ آياتُه في حال جَمْعِه، ‏{‏لقومٍ يَعْلَمونَ‏}‏ أي‏:‏ لِمَن يَعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعْرَضَ أكثرُهم‏}‏ يعني أهل مكة ‏{‏فهم لا يَسمعونَ‏}‏ تكبُّراً عنه، ‏{‏وقالوا قلوبُنا في أكنَّة‏}‏ أي‏:‏ في أغطية فلا نفقه قولك‏.‏ وقد سبق بيان «الأكنَّة» و«الوَقْر» في ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ إنّا في تَرْكِ القبول منكَ بمنزلة من لا يَسمع ولا يَفهم، ‏{‏ومِن بينِنا وبينِكَ حِجابٌ‏}‏ أي‏:‏ حاجزٌ في النِّحلة والدِّين‏.‏ قال الأخفش‏:‏ و«من» هاهنا للتوكيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعْمَلْ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ اعمل في إبطال أمرنا إنا عاملون على إبطال أمرك‏.‏

والثاني‏:‏ اعْمَلْ على دِينكَ إنا عاملون على ديننا‏.‏

‏{‏قُلْ إنما أنا بَشَرٌ مثلُكم‏}‏ أي‏:‏ لولا الوحي لَمَا دعوتُكم‏.‏

‏{‏فاستقيموا إليه‏}‏ أي‏:‏ توجَّهوا إِليه بالطاعة، واستغفِروه من الشرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يشهدون أن «لا إله إلا الله» رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يطهِّرون أنفُسَهم من الشرك بالتوحيد‏.‏

والثاني‏:‏ لا يؤمِنون بالزكاة ولا يُقِرُّون بها، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ لا يزكُّون أعمالهم، قاله مجاهد، والربيع‏.‏

والرابع‏:‏ لا يتصدَّقون، ولا يُنفِقون في الطاعات، قاله الضحاك، ومقاتل‏.‏

والخامس‏:‏ لا يُعطُون زكاة أموالهم، قال ابن السائب‏:‏ كانوا يحُجُّون ويعتمرون ولا يزكُّون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غيرُ ممنون‏}‏ أي‏:‏ غير مقطوع ولا منقوص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَق الأرضَ في يومين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في يوم الأحد والاثنين، وبه قال عبد الله بن سلام، والسدي، والأكثرون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في يوم الثلاثاء والأربعاء‏.‏ وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال‏:‏ «خَلَقَ اللهُ عز وجل التربة يومَ السبت، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد، وخلق الشجر فيها يومَ الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النُّور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس»، وهذا الحديث يخالِف ما تقدَّم، وهو أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَجعلونَ له أنداداً‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ و‏(‏ذلك‏)‏ الذي فعل ما ذُكر ‏(‏ربُّ العالَمَين‏)‏‏.‏

‏{‏وجعل فيها رواسيَ‏}‏ أي‏:‏ جبالاً ثوابت من فوق الأرض، ‏{‏وبارك فيها‏}‏ بالأشجار والثمار والحبوب والأنهار، وقيل‏:‏ البَرَكة فيها‏:‏ أن ينميَ فيها الزرع، فتخرج الحبّة حبّات، والنواة نخلةً ‏{‏وقدَّر فيها أقواتَها‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هي جمعُ قوت، وهي الأرزاق وما يُحتاج إليه‏.‏

وللمفسرين في هذا التقدير خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه شقَّق الأنهار وغرس الأشجار، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قسم أرزاق العباد والبهائم، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أقواتها من المطر، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ قدَّر لكل بلدة ما لم يجعله في الأخرى كما أنَّ ثياب اليمن لا تصلح إلا ب «اليمن» والهرويَّة ب «هراة»، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، قاله عكرمة، والضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ قدَّر البُرَّ لأهل قُطْرٍ، والتَّمْر لأهل قُطْرٍ، والذُّرَة لأهل قُطْرٍ، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في أربعة أيّام‏}‏ أي‏:‏ في تتمة أربعة أيّام‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ومثله ‏[‏أن‏]‏ تقول‏:‏ تزوجت أمس امرأة، واليومَ ثنتين، وإحداهما التي تزوجتها أمس‏.‏

قال المفسرون‏:‏ يعني‏:‏ الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواءً‏}‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏سواءٌ‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ يعقوب، وعبد الوارث‏:‏ «سواءٍ» بالجر‏.‏ وقرأ الباقون من العشرة‏:‏ بالنصب قال الزجاج‏:‏ من قرأ بالخفض، جعل «سواءٍ» من صفة الأيّام فالمعنى‏:‏ في أربعة أيّامٍ مستوِياتٍ تامَّاتٍ؛ ومن نصب، فعلى المصدر؛ فالمعنى‏:‏ استوت سواءً واستواءً؛ ومن رفع، فعلى معنى‏:‏ هي سواءٌ‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏للسّائلِينَ‏}‏ وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ للسائلين القوت، لأن كلاًَ يطلُب القوت ويسألُه‏.‏

والثاني‏:‏ لمن يسأل‏:‏ في كم خُلقت الأرضُ‏؟‏ فيقال‏:‏ خُلقتْ في أربعة أيّام سواء، لا زيادة ولا نقصان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وهي دخان‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لمّا خلق ‏[‏الماء‏]‏ أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما، فسمّاه سماءً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لمّا خلق الأرض أرسل عليها ناراً، فارتفع منها دخان فسما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال لها وللأرض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قال للسماء‏:‏ أظْهِري شمسكِ وقمرك ونجومك، وقال للأرض‏:‏ شقِّقي أنهاركِ، وأخْرِجي ثمارك، ‏{‏طوعاً أو كَرْهاً قالتا أتينا طائعِين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على الحال، وإنما لم يقل‏:‏ طائعات، لأنهنَّ جَرَيْنَ مجرى ما يَعْقِل ويميِّز كما قال في النجوم‏:‏

‏{‏وكُلٌّ في فلك يسبحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏، قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ أتينا نحن ومَنْ فينا طائعين‏.‏

‏{‏فقضاهنّ‏}‏ أي‏:‏ خلقهنّ وصنعهنّ، قال أبو ذئيب الهذلي‏:‏

وعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا *** داوُدُ أَو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ

معناه‏:‏ عَمِلَهما وصَنَعهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في يومين‏}‏ قال ابن عباس وعبد الله بن سلام‏:‏ وهما يوم الخميس ويوم الجمعة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الأحد والإثنين، لأن مذهبه أنها خُلقتْ قبل الأرض‏.‏ وقد بيَّنّا مقدار هذه الأيام في ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

‏{‏وأوحى في كل سماءٍ أمرها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أوحى ما أراد، وأمر بما شاء، قاله مجاهد، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ خَلَقَ في كل سماءٍ خَلْقَها، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزيَّنّا السماءَ الدنيا‏}‏ أي‏:‏ القُرْبى إلى الأرض ‏{‏بمصابيحَ‏}‏ وهي النًّجوم، والمصابيح‏:‏ السُّرُج فسمِّي الكوكب مصباحاً لإضاءته ‏{‏وحِفْظاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حِفْظاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا‏}‏ عن الإيمان بعد هذا البيان ‏{‏فقُل أنذرتُكم صاعقةً‏}‏ الصاعقة‏:‏ المُهلِكُ من كل شيء؛ والمعنى‏:‏ أنذرتُكم عذاباً مثلَ عذابهم‏.‏ وإنما خَصَّ القبيلتين، لأن قريشاً يمُرُّون على قرى القوم في أسفارهم‏.‏

‏{‏إذ جاءتهم الرُّسُل من بين أيديهم‏}‏ أي‏:‏ أتت آباءهم ومَنْ كان قبلهم ‏{‏ومِنْ خَلْفهم‏}‏ أي‏:‏ من خلف الآباء، وهم الذين أُرسلوا إلى هؤلاء الُمهلَكين ‏{‏ألاّ تعبُدوا‏}‏ أي‏:‏ بأن لا تعبُدوا ‏{‏إلا اللهَ قالوا لو شاءَ ربُّنا‏}‏ أي‏:‏ لو أراد دعوة الخلْق ‏{‏لأنزل ملائكةً‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستكبَروا‏}‏ أي‏:‏ تكبَّروا عن الإِيمان وعَمِلوا بغير الحقِّ‏.‏ وكان هود قد تهدَّدهم بالعذاب فقالوا‏:‏ نحن نقدر على دفعه بفضل قوَّتنا‏.‏ والآيات هاهنا‏:‏ الحُجج‏.‏

وفي الرِّيح الصَّرصر أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الباردة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هي الرِّيح الباردة تحرق كالنار، وكذلك قال الزجاج‏:‏ هي الشديدة البرد جداً؛ فالصَّرصر متكرِّر فيها البرد، كما تقول‏:‏ أقللتُ الشيء وقلقلتُه، فأقللتُه بمعنى رفعتُه، وقلقلتُه‏:‏ كرَّرتُ رفعه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الشديدةُ السَّموم، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الشديدة الصَّوت، قاله السدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة‏.‏

والرابع‏:‏ الباردة الشديدة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في أيّامٍ نَحِساتٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏نَحْساتٍ‏}‏ بإسكان الحاء؛ وقرأ الباقون‏:‏ بكسرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من كسر الحاء، فواحدُهن «نَحِس»‏.‏ ومن أسكنها فواحدُهن «نَحْس»؛ والمعنى‏:‏ مشؤومات‏.‏

وفي أوَّل هذه الأيّام ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ غداة يوم الأحد، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والثالث‏:‏ يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام‏.‏ والخِزْي‏:‏ الهوان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمّا ثمودُ فهدَيناهم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بيَّنَّا لهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بَيَّنَّا لهم سبيل الخير والشر‏.‏

والثاني‏:‏ دَعَوْناهم، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ دَللْناهم على مذهب الخير، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستَحبُّوا العمى‏}‏ أي‏:‏ اختاروا الكفر على الإِيمان، ‏{‏فأخذتهم صاعقةُ العذاب الهُون‏}‏ أي‏:‏ ذي الهوان، وهو الذي يُهينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويومَ يُحْشَرُ أعداء الله‏}‏ وقرأ نافع‏:‏ «نَحْشُرُ» بالنون «أعداءً» بالنصب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم يُوزَعونَ‏}‏ أي‏:‏ يُحْبَس أوَّلهم على آخرِهم ليتلاحقوا‏.‏

‏{‏حتَّى إذا ما جاؤوها‏}‏ يعني النار التي حُشروا إليها ‏{‏شَهِدَ عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم‏}‏، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الأيدي والأرجل‏.‏

والثاني‏:‏ الفروج، رويا عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الجلود نفسها، حكاه الماوردي‏.‏ وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال‏:‏» هل تدرون مِمَّ أضحك‏؟‏ «قال‏:‏ قلنا‏:‏ اللهُ ورسولهُ أعلم‏.‏ قال‏:‏» من مخاطبة العبد ربَّه، يقول‏:‏ يارب ألم تُجِرْني من الظُّلْم‏؟‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ بلى، قال‏:‏ فيقول‏:‏ لا أُجيزُ عليَّ إلا شاهداً منِّي، قال‏:‏ فيقول‏:‏ كفى بنفْسك اليومَ عليكَ شهيداٍ، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال‏:‏ فيُخْتَمُ على فِيه، فيقال لأركانه‏:‏ انْطِقي، قال‏:‏ فتَنْطقُ بأعماله، قال‏:‏ ثُمَّ يُخَلَّى بينَه وبينَ الكلام، فيقول‏:‏ بُعْداً لَكُنَّ وسُحْقاً، فعنكُنَّ كنتُ أًناضِل «

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَق كُلَّ شيءٍ‏}‏ أي‏:‏ ممّا نطق‏.‏ وهاهنا تم الكلام‏.‏ وما بعده ليس من جواب الجلود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تَستترون أن يَشهد عليكم سمْعُكم ولا أبصارُكم‏}‏ روى البخاري ومسلم في» الصحيحين «من حديث ابن مسعود قال‏:‏ كنتُ مستتراً بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفرٍ، قرشيٌّ وخَتْناه ثقفيَّان، أو ثقفيٌّ وختَنْاه قرشيّان، كثيرٌ شّحْمُ بُطونهم، قليلٌ فِقْهُ قُلوبهم، فتكلَّموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم‏:‏ أتُرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ كلامَنا هذا‏؟‏ فقال الآخران‏:‏ إنّا إذا رفعنا أصواتنا سَمِعَه، وإن لم نَرفع لم يَسمع، وقال الآخر‏:‏ إن سمع منه شيئاً سمعه كُلَّه، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تَستترون أن يشهد عليكم سمعكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من الخاسرين‏}‏ ومعنى» تستترون «‏:‏ تَسْتَخْفون» أن يَشهد «أي‏:‏ من أن يشهد» عليكم سَمْعُكم «لأنكم لا تَقدرون على الاستخفاء من جوارحكم، ولا تظُنُّون أنها تَشهد ‏{‏ولكن ظَنَنْتم أنَّ الله لا يَعلم كثيراً مما تَعملون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان الكفار يقولون‏:‏ إن الله لا يَعلم ما في أنفُسنا، ولكنه يعلم ما يَظهر، ‏{‏وذلكم ظنُّكم‏}‏ أي‏:‏ أن الله لا يَعلم ما تعملون، ‏{‏أرداكم‏}‏ أهلككم‏.‏

‏{‏فإن يَصْبِروا‏}‏ أي‏:‏ على النّار، فهي مسكنهم، ‏{‏وإن يَسْتَعْتِبوا‏}‏ أي‏:‏ يَسألوا أن يُرجَع لهم إلى ما يحبُّون، لم يُرْجَع لهم، لأنهم لا يستحقُّون ذلك‏.‏ يقال‏:‏ أعتبني فلان، أي‏:‏ أرضاني بعد إسخاطه إيّاي‏.‏ واستعتبتُه، أي‏:‏ طلبتُ منه أن يُعْتِب، أي‏:‏ يَرضى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيَّضْنا لهم قُرنَاءَ‏}‏ أي‏:‏ سبَّبنا لهم قرناء من الشياطين ‏{‏فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خَلْفَهم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما بين أيديهم‏:‏ من أمر الآخرة أنه لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خَلْفَهم‏:‏ من أمر الدنيا، فزيَّنوا لهم اللذّات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير‏.‏

والثاني‏:‏ ما بين أيديهم‏:‏ من أمر الدنيا، وما خلفهم‏:‏ من أمر الآخرة، على عكس الأول‏.‏

والثالث‏:‏ ما بين أيديهم‏:‏ ما فعلوه، وما خلفهم‏:‏ ما عزموا على فعله‏.‏ وباقي الآية ‏[‏قد‏]‏ تقدم تفسيره ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ أي‏:‏ لا تسمعوه ‏{‏والْغَوْا فيه‏}‏ أي‏:‏ عارِضوه باللَّغو، وهو الكلام الخالي عن فائدة‏.‏ وكان الكفَّار يوصي بعضُهم بعضاً‏:‏ إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تُلبِّسوا عليهم قولهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ والغَوْا فيه بالمكاء والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ‏{‏لعلَّكم تَغْلِبون‏}‏ فيسكُتون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكَ جزاءُ أعداءِ الله‏}‏ يعني العذاب المذكور‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏النارُ‏}‏ بدل من الجزاء ‏{‏لهم فيها دارُ الخُلْد‏}‏ أي‏:‏ دار الإقامة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ النار هي الدّار، ولكنه كما تقول‏:‏ لك في هذه الدّار دار السُّرور، وأنت تعني الدّار بعينها، قال الشاعر‏:‏

أخور رغائبَ يُعطيها ويسألها *** يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ لمّا دخلوا النار ‏{‏ربَّنا أَرِنا اللَّذَينِ أضلاَّنا‏}‏ وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «أَرْنا» بسكون الراء‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يعنون إبليس وقابيل، لأنهما سنّا المعصية، ‏{‏نجعلْهما تحتَ أقدامنا ليكونا من الأسفلين‏}‏ أي‏:‏ في الدَّرْك الأسفل، وهو أشدُّ عذاباً من غيره‏.‏

ثم ذكر المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ وحَّدوه‏]‏ ‏{‏ثم استقاموا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ استقاموا على التوحيد، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ على طاعة الله وأداء فرائضه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ على الإِخلاص والعمل إِلى الموت، قاله أبو العالية، والسدي، وروى عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيق، وذلك أن المشركين قالوا‏:‏ ربُّنا الله، والملائكة بناتُه، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا، وقالت اليهود‏:‏ ربُّنا الله، وعزيرٌ ابنُه، ومحمد ليس بنبيّ، فلم يستقيموا، وقالت النصارى‏:‏ ربُّنا الله، والمسيح ابنه، ومحمد ليس بنبيّ، فلم يستقيموا، وقال أبو بكر‏:‏ ربنا الله وحده، ومحمدٌ عبدُه ورسولُه، فاستقام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتنزَّل عليهم الملائكةُ ألاّ تَخافوا‏}‏ أي‏:‏ بأن لا تخافوا‏.‏ وفي وقت نزولها عليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عند الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد؛ فعلى هذا في معنى ‏{‏لا تخافوا‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ لا تخافوا ما أمَامكم، ولا تحزنوا على ما خَلْفكم، قاله عكرمة، والسدي‏.‏

والقول الثاني‏:‏ تتنزَّل عليهم إذا قاموا من القبور، قاله قتادة؛ فيكون معنى «لا تخافوا»‏:‏ أنهم يبشِّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن أولياؤكم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا قول الملائكة لهم، والمعنى‏:‏ نحن ‏[‏الذين‏]‏ كنّا نتوّلاكم في الدُّنيا، لأن الملائكة تتولَّى المؤمنين وتحبُّهم لِما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء، ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ أي‏:‏ ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة‏.‏ وقال السدي‏:‏ هم الحَفظة على ابن آدم، فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏؛ وقيل‏:‏ هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها‏}‏ أي‏:‏ في الجنة‏.‏

‏{‏نُزُلاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ أبشروا بالجنة تنزلونها ‏[‏نُزُلاً‏]‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ لكم فيها ما تشتهي أنفسُكم أنزلناه نُزُلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إِلى الله‏}‏ فيمن أُريد بهذا ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم المؤذِّنون‏.‏ روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «نزلت في المؤذنين»، وهذا قول عائشة، ومجاهد، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المؤمن أجابَ اللهَ إلى ما دعاه، ودعا الناسَ إلى ذلك ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ في إجابته، قاله الحسن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وعَمِل صالحاً‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ صلّى ركعتين بعد الأذان، وهو قول عائشة، ومجاهد‏.‏ وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم‏:‏ ‏{‏ومن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله‏}‏ قال‏:‏ الأذان ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ قال‏:‏ الصلاة بين الأذان والإِقامة‏.‏

والثاني‏:‏ أدَّى الفرائض وقام لله بالحقوق، قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ صام وصلَّى، قاله عكرمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَستوي الحسنةُ ولا السَّيَّئةُ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «لا» زائدة مؤكِّدة؛ والمعنى‏:‏ ولا تستوي ‏[‏الحسنة‏]‏ والسَّيِّئة‏.‏ وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحسنة‏:‏ الإِيمان، والسَّيِّئة‏:‏ الشِّرك، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الحِلْم والفُحْش، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ النُّفور والصَّبر، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادفَعْ بالَّتي هي أحسنُ‏}‏ وذلك كدفع الغضب بالصبر، والإِساءة بالعفو، فإذا فعلتَ ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصَّديق القريب، وقال عطاء‏:‏ هو السَّلام على من تعاديه إذا لَقِيتَه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذه الآية منسوخة بآية السيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يُلَقَّاها‏}‏ أي‏:‏ ما يُعْطاها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ما يُلَقَّى هذه الفَعْلَة‏:‏ وهي دفع السَّيَّئة بالحسنة ‏{‏إلاّ الذين صبروا‏}‏ على كظم الغيظ ‏{‏وما يُلَقَّاها إلاّ ذو حَظٍّ عظيمٍ‏}‏ من الخير‏.‏ وقال السدي‏:‏ إلاّ ذو جَدٍّ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الحظُّ العظيم‏:‏ الجنة؛ فالمعنى‏:‏ ما يُلَقَّاها إلاّ مَنْ وجبت له الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطانِ نَزْغٌ‏}‏ قد فسَّرناه في ‏[‏الأعراف‏:‏ 200‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن استَكْبَروا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ تكبَّروا عن التوحيد والعبادة‏]‏ ‏{‏فالذين عند ربِّكَ‏}‏ يعني الملائكة ‏{‏يسبِّحون‏}‏ أي‏:‏ يصلُّون‏.‏ و«يَسأمون» بمعنى يَمَلُّون‏.‏

وفي موضع السجدة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عند قوله‏:‏ «يَسأمون»، قاله ابن عباس، ومسروق، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى، لأنه تمام الكلام‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم إيَّاه تعبُدون‏}‏، روي عن أصحاب عبد الله، والحسن، وأبي عبد الرحمن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أنَّكَ تَرى الأرضَ خاشعةً‏}‏ قال قتادة‏:‏ غبراء متهشّمة قال الأزهري‏:‏ إذا يَبِست الأرضُ ولم تُمْطَر، قيل‏:‏ خَشَعَتْ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهتزَّت‏}‏ أي‏:‏ تحرَّكَتْ بالنَّبات ‏{‏وَرَبتْ‏}‏ أي‏:‏ عَلَتْ، لأن النبت إذا أراد أن يَظْهَر ارتفعت له الأرضُ؛ وقد سبق بيان هذا ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدونَ في آياتنا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل‏.‏ وقد شرحنا معنى الإِلحاد في ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏؛ وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه وَضْع الكلام على غير موضعه، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المُكاء والصفير عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه التكذيب بالآيات، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه المُعانَدة، قاله السدي‏.‏

والخامس‏:‏ أنه المَيْل عن الإِيمان بالآيات، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَخْفَوْنَ علينا‏}‏ هذا وعيد بالجزاء ‏{‏أفمن يُلْقَى في النار خير أم مَنْ يأتي آمِناً يومَ القيامة‏}‏ وهذا عامّ، غير أن المفسرين ذكَروا فيمن أُريدَ به سبعةَ أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أبو جهل وأبو بكر الصِّدِّيق، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أبو جهل وعمّار بن ياسر، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أبو جهل ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أبو جهل وعثمان بن عفّان، حكاه الثعلبي‏.‏

والخامس‏:‏ أبوجهل وحمزة، حكاه الواحدي‏.‏

والسادس‏:‏ أبو جهل وعمر بن الخطاب‏.‏

والسابع‏:‏ الكافر والمؤمن، حكاهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعْمَلوا ما شئتم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد والتهديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين كَفَروا بالذِّكْر‏}‏ يعني القرآن؛ ثم أخذ في وصف الذِّكر؛ وتَرَكَ جواب «إِنَّ»، وفي جوابها هاهنا قولان‏:‏

‏[‏أحدهما‏]‏‏:‏ أنه «أولئك ينادَوْنَ من مكان بعيد»، ذكره الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه متروك، وفي تقديره قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ إن الذين كفروا بالذِّكْر لمّا جاءهم كفروا به‏.‏ والثاني‏:‏ إن الذين كفروا يجازَون بكفرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنَّه لَكِتابٌ عزيزٌ‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ مَنيعٌ من الشيطان لا يجد إِليه سبيلاً، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ كريمُ على الله، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ مَنيعٌ من الباطل، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ يمتنع على الناس أن يقولوا مِثْلَه، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ التكذيب، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ الشيطان‏.‏

والثالث‏:‏ التبديل، رويا عن مجاهد‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقاً، ولا يَزيد فيه باطلاً، وقال مجاهد‏:‏ لا يدخل فيه ماليس منه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ بينِ يَدَيْه ولا مِنْ خَلْفه‏}‏ ثلاثة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بين يَدَي تنزيله، وبعد نزوله‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ليس قَبْلَه كتاب يُبْطِله، ولا يأتي بعده كتاب يُبْطِله‏.‏

والثالث‏:‏ لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدَّم، ولا في إخباره عمّا تأخر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يُقالُ لكَ إلاّ ما قد قِيل للرُّسُل مِِنْ قَبْلِكَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قد قيل فيمن أًرْسِلَ قَبْلَكَ‏:‏ ساحر وكاهن ومجنون‏.‏ وكُذِّبوا كما كًذِّبتَ، هذا قول الحسن، وقتادة، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ ما تُخْبَر إلاّ بما أًخْبِر الأنبياءُ قَبْلَك من أن الله غفور، وأنه ذو عقاب، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جَعَلْناه‏}‏ يعني الكتاب الذي أُنزلَ عليه ‏{‏قرآناً أعجميّاً‏}‏ أي‏:‏ بغير لغة العرب ‏{‏لقالوا لولا فُصِّلت آياتُه‏}‏ أي‏:‏ هلاّ بيِّنت آياتُه بالعربية حتى نفهمه‏؟‏‏!‏ ‏{‏أأعجميٌ وعربيٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «آعجمي» ‏[‏بهمزة‏]‏ ممدودة، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏أأعجمي‏}‏ بهمزتين، والمعنى‏:‏ أكِتابٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي‏؟‏‏!‏ وهذا استفهام إنكار؛ أي‏:‏ لو كان كذلك لكان أشدَّ لتكذيبهم‏.‏

‏{‏قُلْ هو‏}‏ يعني القرآن ‏{‏للذين آمنوا هُدىً‏}‏ من الضلالة ‏{‏وشفاءٌ‏}‏ للشُّكوك والأوجاع‏.‏ و«الوَقْر»‏:‏ الصَّمم؛ فهُم في ترك القبول بمنزلة مَنْ في أُذنه صمم‏.‏

‏{‏وهو عليهم عمىً‏}‏ أي‏:‏ ذو عمىً‏.‏ قال قتادة‏:‏ صَمُّوا عن القرآن وعَمُوا عنه ‏{‏أولئك ينادَوْنَ من مكان بعيدٍ‏}‏ أي‏:‏ إِنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي يُنادي من بعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمعنى‏:‏ كما آمن بكتابك قومٌ وكذَّب به قومٌ‏.‏ فكذلك كتاب موسى، ‏{‏ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربِّكَ‏}‏ في تأخير العذاب إلى أجل مسمّىً وهو القيامة ‏{‏لقُضيَ بينَهم‏}‏ بالعذاب الواقع بالمكذِّبين ‏{‏وإِنَّهم لفي شَكٍّ‏}‏ مِنْ صِدقك وكتابك، ‏{‏مريبٍ‏}‏ أي‏:‏ مُوقع لهم الرِّيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِليه يُرَدُّ عِلْمُ السّاعة‏}‏ سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَخْبِرنا عن السّاعة إن كنتَ رسولاً كما تزعم، قاله مقاتل‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لا يَعْلَم قيامَها إلا هو، فإذا سُئل عنها فِعلْمُها مردودٌ إِليه‏.‏

‏{‏وما تَخْرُج من ثمرةٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «من ثمرةٍ»‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «من ثمراتٍ» على الجمع ‏{‏مِنْ أكمامها‏}‏ أي‏:‏ أوعيتها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ من المواضع التي كانت فيها مستترةً، وغلاف كل شيء‏:‏ كُمُّه، وإِنما قيل‏:‏ كُمُّ القميص، من هذا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأكمام‏:‏ ما غَطَّى، وكلُّ شجرة تُخْرِج ماهو مُكَمَّم فهي ذات أكمام، وأكمامُ النخلة‏:‏ ما غطَّى جُمَّارَها من السَّعَفِ والليف والجِذْع، وكلُّ ما أخرجتْه النخلة فهو ذو أكمام، فالطَّلْعة كُمُّها قشرها، ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة‏:‏ كُمَّة، لأنها تُغَطِّي الرأْس، ومن هذا كُمّا القميص، لأنهما يغطِّيان اليدين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويومَ يُناديهم‏}‏ أي‏:‏ ينادي اللهُ تعالى المشركين ‏{‏أين شركائِي‏}‏ الذين كنتم تزعُمون ‏{‏قالوا آذَنّاكَ‏}‏ قال الفراء، وابن قتيبة‏:‏ أعلمناكَ، وقال مقاتل‏:‏ أسمعناكَ ‏{‏ما مِنّا من شهيدٍ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه من قول المشركين؛ والمعنى‏:‏ ما مِنّا مِنْ شهيد بأنَّ لكَ شريكاً، فيتبرَّؤون يومئذ ممّا كانوا يقولون، هذا قول مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ من قول الآلهة التي كانت تُعبد؛ والمعنى‏:‏ ما مِنّا من شهيد لهم بما قالوا، قاله الفراء، وابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضَلَّ عنهم‏}‏ أي‏:‏ بََطَلَ عنهم في الآخرة ‏{‏ما كانوا يَدْعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعبُدون في الدنيا، ‏{‏وظنُّوا‏}‏ أي‏:‏ أيقنوا ‏{‏ما لهم مِنْ مَحيصٍ‏}‏ وقد شرحنا المحيص في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 121‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسأمُ الإِنسانُ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ المراد به الكافر؛ فالمعنى‏:‏ لا يَمَلُّ الكافرُ ‏{‏من دعاء الخير‏}‏ أي‏:‏ من دعائه بالخير، وهو المال والعافية‏.‏ ‏{‏وإِن مَسَّه الشَّرُّ‏}‏ وهو الفقر والشِّدة؛ والمعنى‏:‏ إذا اختُبر بذلك يئس من رَوْح ال، له وقَنْط من رحمته‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ اليؤوس، فَعُول من يأس، والقَنُوط، فَعُول من قَنَط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أَذَقْناه رَحْمَةً مِنَّا‏}‏ أي‏:‏ خيراً وعافية وغِنىً، ‏{‏لَيَقُولَنَّ هذا لِي‏}‏ أي‏:‏ هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به، ثم يشُكُّ في البعث فيقول ‏{‏وما أظُنُّ السّاعةَ قائمةً‏}‏ أي‏:‏ لست على يقين من البعث ‏{‏ولئن رُجِعْتُ إلى ربِّي إنَّ لي عندَه لَلْحُسنى‏}‏ يعني الجنة، أي‏:‏ كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كفَروا‏}‏ أي‏:‏ لَنُخْبِرَنَّهم بمساوئ أعمالهم‏.‏ وما بعده قد سبق ‏[‏إبراهيم‏:‏ 17‏]‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏ إلى قوله تعالى ‏{‏ونأى بجانبه‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏ونأى‏}‏ مثل «نعى»‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «وناء» مفتوحة النون ممدودة والهمزة بعد الألف‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «نئى» مكسورة النون والهمزة‏.‏

‏{‏فذو دُعاءٍ عريضٍ‏}‏ قال الفراء، وابن قتيبة‏:‏ معنى العريض‏:‏ الكثير، وإن وصفته بالطول أو بالعَرْض جاز في الكلام‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يامحمد لأهل مكة ‏{‏أرأيتم إِن كان‏}‏ القرآن ‏{‏مِنْ عند الله ثُمَّ كَفَرتُم به مَنْ أَضَلُّ مِمَّن هو في شِقاق‏}‏ أي‏:‏ خلاف للحق ‏(‏بعيدٍ‏)‏ عنه‏؟‏‏!‏ وهو اسم؛ والمعنى‏:‏ فلا أحدٌ أَضَلّ منكم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ معنى الآية‏:‏ ‏[‏ثُمَّ‏]‏ كفرتم به، ألستُم في شقاقٍ للحق وبُعد عن الصواب‏؟‏‏!‏ فجعل مكان هذا باقي الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنُريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسُهم‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في الآفاق‏:‏ فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم‏:‏ فتح مكة، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في الآفاق‏:‏ وقائع الله في الأمم الخالية، وفي أنفسهم‏:‏ يوم بدر، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في الآفاق‏:‏ إمساك القَطْر عن الأرض كلِّها، وفي أنفسهم‏:‏ البلايا التي تكون في أجسادهم، قاله ابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ أنها في الآفاق‏:‏ آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم، وفي أنفسهم‏:‏ حوادث الأرض، قاله ابن زيد‏.‏ وحكي عن ابن زيد؛ أن التي في أنفُسهم‏:‏ سبيل الغائط والبول، فإن الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين‏.‏

والخامس‏:‏ أنها في الآفاق‏:‏ آثار مَنْ مضى قَبْلَهم من المكذِّبين، وفي أنفسهم‏:‏ كونهم خُلِقوا نُطَفاً ثم عَلَقاَ ثم مُضَغاً ثم عظاماً إلى أن نُقِلوا إلى العقل والتمييز، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّن لهم أنَّه الحَقُّ‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ إلى جميع ما دعاهم إِليه الرسول‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ معنى الآية‏:‏ حتى يعلموا حقيقة ما أَنزلْنا على محمد وأوحينا إِليه من الوعد له بأنّا مُظْهِرو دينه على الأديان كلِّها‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بربِّكَ أنه على كُلِّ شيءٍ شهيدٌ‏}‏ أي‏:‏ أوَلَمْ يكفِ به أنه شاهدٌ على كل شيء‏؟‏‏!‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أو لم يكفِهم شهادةُ ربِّك‏؟‏‏!‏ ومعنى الكفاية هاهنا‏:‏ أنه قد بيَّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله‏.‏

سورة الشورى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ قد سبق تفسيره ‏[‏المؤمن‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسق‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قَسَمٌ أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حروف من أسماء؛ ثم فيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن العين عِلْم الله، والسين سناؤه، والقاف قُدرته، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن العين فيها عذاب، والسين فيها مسخ، والقاف فيها قذف، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن الحاء من حرب، والميم من تحويل مُلك، والعين من عدوّ مقهور، والسين استئصال بسِنين كسِنيّ يوسف، والقاف من قُدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء‏.‏

والرابع‏:‏ أن العين من عالم، والسين من قُدُّوس، والقاف من قاهر، قاله ‏[‏سعيد‏]‏ بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ أن العين من العزيز، والسين من السلام، والقاف من القادر، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلكَ يُوحِي إِليكَ‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كما أوحيتُ «حم عسق» إلى كلِّ نبيّ، كذلك نوحيها إليك، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى مَنْ قَبْلَكَ، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن «حم عسق» نزلت في أمر العذاب، فقيل‏:‏ كذلك نُوحِي إليكَ أن العذاب نازلٌ بمن كذَّبك كما أوحينا ذلك إلى مَنْ كان قَبْلَكَ، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ هكذا نوحي إليكَ، قاله ابن جرير‏.‏

وقرأ ابن كثير‏:‏ «يُوحَى» بضم الياء وفتح الحاء‏.‏ كأنه إذا قيل‏:‏ مَن يوحي‏؟‏ قيل‏:‏ الله‏.‏ وروى أبان عن عاصم‏:‏ «نوحي» بالنون وكسر الحاء‏.‏

‏{‏تَكادُ السَّماوات يَتَفَطَّرْنَ‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة‏:‏ ‏{‏تكاد‏}‏ بالتاء ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ‏}‏ بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها‏.‏ وقرأ نافع، والكسائي‏:‏ ‏{‏يكاد‏}‏ بالياء ‏{‏يَتَفَطِّرْنَ‏}‏ مثل قراءة ابن كثير‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏تكاد‏}‏ بالتاء ‏{‏يَنْفَطِرْنَ‏}‏ بالنون وكسر الطاء وتخفيفها، أي‏:‏ يَتَشَقَّقْنَ ‏{‏مِنْ فَوْقِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ من فوق الأَرضِين من عَظَمة الرحمن؛ وقيل‏:‏ من قول المشركين‏:‏ «اتخذ الله ولداً»‏.‏ ونظيرها ‏[‏التي‏]‏ في ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏‏.‏

‏{‏والملائكةُ يسبِّحونَ بحمد ربِّهم‏}‏ قال بعضهم‏:‏ يصلُّون بأمر ربِّهم؛ وقال بعضهم‏:‏ ينزِّهونه عمّا لا يجوز في صفته ‏{‏ويَستغفرون لِمَنْ في الأرض‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد المؤمنين، قاله قتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين، فلمّا ابتُليَ هاروت وماروت استغفروا لِمَن في الأرض‏.‏

ومعنى استغفارهم‏:‏ سؤالهم الرِّزق لهم، قاله ابن السائب‏.‏ وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏ويَستغفرون للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ وليس بشيءٍ، لأنهم إنَّما يَستغفرون للمؤمنين دون الكفار، فلفظ هذه الآية عامّ، ومعناها خاصّ، ويدل على التخصيص قوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ لأن الكافر لا يستحق أن يُستغفَر له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتَّخَذوا مَنْ دونه أولياءَ‏}‏ يعني كفار مكة اتَّخَذوا آلهة فعبدوها من دونه ‏{‏اللهُ حفيظٌ عليهم‏}‏ أي‏:‏ حافِظٌ لأعمالهم ليجازيَهم بها ‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ أي‏:‏ لم نوكِّلْكَ بهم فتؤخَذَ بهم‏.‏ وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا يصح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ ومثل ما ذكرنا ‏{‏أوحينا إِليك قرآنا عربيّاً‏}‏ ليفهموا مافيه ‏{‏لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى‏}‏ يعني مكة، والمراد‏:‏ أهلها، ‏{‏وتُنْذِرَ يومَ الجَمْعِ‏}‏ أي‏:‏ وتُنذِرهم يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يَجمع اللهُ فيه الأوَّلِين والآخرِين وأهل السموات والأرضِين ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أي‏:‏ لا شكَّ في هذا الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرَّقون، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير‏}‏‏.‏

ثم ذكر سبب افتراقهم فقال‏:‏ ‏{‏ولو شاءَ اللهُ لجعلهم أًمَّةً واحدةً‏}‏ أي‏:‏ على دين واحد، كقوله‏:‏ ‏{‏لَجَمَعَهُمْ على الهُدى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏ولكن يُدْخِلُ مَنْ يشاء في رحمته‏}‏ أي‏:‏ في دينه ‏{‏والظّالمون‏}‏ وهم الكافرون ‏{‏مالهم من ولِيّ‏}‏ يدفع عنهم العذاب ‏{‏ولا نصيرٍ‏}‏ يمنعهم منه‏.‏

‏{‏أمِ اتَّخَذوا مِنْ دُونِه‏}‏ أي‏:‏ بل اتخذ الكافرون من دون الله ‏{‏أولياءَ‏}‏ يعني آلهة يتولَّونهم ‏{‏فاللهُ هو الوليُّ‏}‏ أي‏:‏ وليُّ أوليائه، فليتَّخذوه وليّاً دون الآلهة؛ وقال ابن عباس‏:‏ وليُّك يا محمد ووليُّ من اتَّبعك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شيءٍ‏}‏ أي‏:‏ من أمر الدِّين؛ وقيل‏:‏ بل هو عامّ ‏{‏فحُكمه إِلى الله‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ علمه عند الله‏.‏

والثاني‏:‏ هو يحكُم فيه‏.‏ قال مقاتل‏.‏ وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم، فقال الله‏:‏ أنا الذي أحكُم فيه ‏{‏ذلكم اللهُ‏}‏ الذي يحكُم بين المختلفين هو ‏{‏ربِّي عليه توكلت‏}‏ في مهمّاتي ‏{‏وإِليه أُنيب‏}‏ أي‏:‏ أرجِع في المَعاد‏.‏

‏{‏فاطرُ السموات‏}‏ قد سبق بيانه ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏، ‏{‏جعل لكم من أنفُسكم‏}‏ أي‏:‏ من مِثل خَلْقكم ‏{‏أزواجاً‏}‏ نساءً ‏{‏ومن الأنعام أزواجاً‏}‏ أصنافاً ذكوراً وإناثاً، والمعنى أنه خلق لكم الذَّكر والأنثى من الحيوان كلِّه ‏{‏يذرؤكم‏}‏ فيها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يخلُقكم، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ يُعيِّشكم، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ يكثِّركم، قاله الفراء‏.‏ و‏[‏في قوله‏]‏ ‏(‏فيه‏)‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها على أصلها، قاله الأكثرون‏.‏ فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله زيد بن أسلم‏.‏ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ يخلُقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة، فقال‏:‏ يخلُقكم في الرَّحِم أو في الزَّوج، وقال ابن جرير‏:‏ يخلُقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيِّشكم فيما جعل لكم من الأنعام‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد؛ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إلى الجَعْل المذكور؛ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يعيِّشكم فيما جعل من الأنعام، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ يخلُقكم في هذا الوجه الذي ذكر مِنْ جَعْلِ الأزواج قاله الواحدي‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن «فيه» بمعنى «به»؛ والمعنى يكثرِّكم بما جعل لكم، قاله الفراء والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثِّله شيءٌ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي ليس كَهُوَ شيء، والعرب تُقيم المِثْلَ مُقام النَّفْس، فتقول‏:‏ مِثْلي لا يُقال له هذا، أي‏:‏ أنا لا يُقال لي هذا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الكاف مؤكِّدة، والمعنى‏:‏ ليس مِثْلَه شيءٌ، وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏الزمر‏:‏ 63‏]‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ إلى قوله ‏{‏شَرَعَ لكم‏}‏ أي‏:‏ بيَّن وأوضح ‏{‏من الدِّين ما وصَّى به نُوحاً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ تحريم الأخوات والأُمَّهات، قاله الحكم‏.‏

والثالث‏:‏ التوحيد وترك الشِّرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي أَوحينا إِليكَ‏}‏ أي‏:‏ من القرآن وشرائع الإِسلام قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى وقوله‏:‏ ‏{‏أَن أَقيموا الدِّين‏}‏ تفسير قوله‏:‏ ‏{‏ما وصَّينا به إِبراهيمَ وموسى وعيسى‏}‏، وجائز أن يكون تفسيراً ل «ما وصَّى به نوحاً» ولقوله‏:‏ ‏{‏والذي أَوحينا إِليك‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏وما وصَّينا به إِبراهيم وموسى وعيسى‏}‏، فيكون المعنى‏:‏ شرع لكم ولِمَن قبلكم إقامة الدِّين وترك الفُرقة، وشرع الاجتماع على اتِّباع الرُّسل وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏أن أَقيموا الدِّين‏}‏ يعني التوحيد ‏{‏ولا تتفرَّقوا فيه‏}‏ أي‏:‏ لا تختلفوا ‏{‏كَبُرَ على المشركين‏}‏ أي‏:‏ عَظُمَ على مشركي مكة ‏{‏ما تَدْعوهم إِليه‏}‏ يا محمد من التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ يَجتبي إِليه‏}‏ أي‏:‏ يَصطفي من عباده لِدِينه ‏{‏مَنْ يَشاءُ ويَهدي‏}‏ إِلى دِينه ‏{‏من يُنيبُ‏}‏ أي‏:‏ يَرجع إِلى طاعته‏.‏

ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفُرقة، فقال‏:‏ ‏{‏وما تفرَّقوا‏}‏ يعني أهل الكتاب ‏{‏إلاَّ مِنَ بَعْدِ ما جاءهم العِلْمُ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من بعد كثرة عِلْمهم للبغي‏.‏

والثاني‏:‏ من بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال‏.‏

والثالث‏:‏ من بعد ما جاءهم القرآن، بغياً منهم على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربِّك‏}‏ في تأخير المكذِّبين من هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة، ‏{‏لَقُضِيَ بينَهم‏}‏ بإنزال العذاب على المكذِّبين ‏{‏وإِنَّ الذين أًورثوا الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏مِنْ بعدِهم‏}‏ أي‏:‏ من بعد أنبيائهم ‏{‏لفي شكٍّ منه‏}‏ أي‏:‏ من محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلذلك فادْعُ‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فالى ذلك، تقول‏:‏ دعوتُ إلى فلان، ودعوت لفلان، و«ذلك» بمعنى «هذا»؛ وللمفسرين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التوحيد، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَتَّبِعْ أهواءَهم‏}‏ يعني‏:‏ أهل الكتاب، لأنهم دعَوه إلى دينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بينَكم‏}‏ قال بعض النحويِّين المعنى‏:‏ أًمِرْتُ كي أَعْدِلَ‏.‏ وقال غيره المعنى‏:‏ أُمِرْتُ بالعَدْل‏.‏ وتقع «أُمِرْتُ» على «أن»، وعلى «كي» وعلى «اللام» يقال أُمِرْتُ أن أعدل، وكي أعدل، ولأعدل‏.‏

ثم في ما أُمِرَ أن يَعْدِلَ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في الأحكام إذا ترافعوا إليه‏.‏

والثاني‏:‏ في تبليغ الرسالة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ ربُّنا وربُّكم‏}‏ أي‏:‏ هو آلهنا وإن اختلفنا، فهو يجازينا بأعمالنا، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لنا أعمالُنا‏}‏ أي‏:‏ جزاؤها‏.‏

‏{‏لا حُجَّةَ بينَنا وبينكم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا خصومة بينَنا وبينَكم‏.‏

فصل

وفي هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل القتال، ثم نزلت آية السيف فنسختْها، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناها‏:‏ إن الكلام بعد ظُهور الحُجج والبراهين قد سقط بيننا، فعلى هذا هي مُحْكَمة، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُحاجُّونَ في الله‏}‏ أي‏:‏ يُخاصِمون في دِينه‏.‏ قال قتادة‏:‏ هم اليهود، قالوا كتابُنا‏:‏ قَبْلَ كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، فنحن خيرٌ منكم‏.‏ وعلى قول مجاهد‏:‏ هم المشركون، طمعوا أن تعود الجاهلية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ ما استُجيب له‏}‏ أي‏:‏ من بعد إجابة الناس إلى الإسلام ‏{‏حُجَّتُهم داحضة‏}‏ أي‏:‏ خصومتهم باطلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ الذي أنزل الكتابَ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ لم ينزله لغير شيء ‏{‏والميزانَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي يوزَن به، حكي عن مجاهد‏.‏ ومعنى إِنزاله‏:‏ إلهامُ الخَلْق أن يَعملوا به، وأمرُ الله عز وجل إيّاهم بالإِنصاف‏.‏ وسمِّي العَدْلُ ميزاناً، لأن الميزان آلة الإِنصاف والتسوية بين الخَلْق‏.‏ وتمام الآية مشروح في ‏[‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمِنون بها‏}‏ لأنهم لا يخافون ما فيها، إذْ لم يؤمنوا بكونها، فهم يطلبُون قيامها استبعاداً واستهزاءً ‏{‏والذين آمنوا مشفِقون‏}‏ أي‏:‏ خائفون ‏{‏منها‏}‏ لأنهم يعلمون أنهم مُحاسَبون ومَجزيُّون، ولا يدرون ما يكون منهم ‏{‏ويَعلمون أنَّها الحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ أنها كائنة لا مَحالة ‏{‏ألا إِنَّ الذين يُمارونَ في السّاعة‏}‏ أي‏:‏ يخاصِمون في كونها ‏{‏لفي ضلال بعيدٍ‏}‏ حين لم يتفكَّروا، فيَعلموا قدرة الله على إقامتها‏.‏

‏{‏اللهُ لطيفٌ بعباده‏}‏ قد شرحنا معنى ‏[‏اسمه‏]‏ «اللطيف» في ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ وفي عباده هاهنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم المؤمنون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عامّ في الكُلّ ولطفُه بالفاجر‏:‏ أنه لا يُهلِكه‏.‏

‏{‏يرزُق من يشاء‏}‏ أي‏:‏ يوسِّع له الرِّزق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حَرْثَ الآخرة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ عَمَلَ الآخرة، يقال‏:‏ فلانُ يحرُث الدُّنيا، أي‏:‏ يعمل لها ويجمع المال؛ فالمعنى‏:‏ من أراد بعمله الآخرة ‏{‏نَزِدْ له في حَرْثه‏}‏ أي‏:‏ نُضاعِف له الحسنات‏.‏

قال المفسرون‏:‏ من أراد العمل لله بما يُرضيه، أعانه الله على عبادته، ومن أراد الدُّنيا مُؤْثِرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة، يؤته منها، وهو الذي قسم له، ‏{‏وما له في الآخرة مِنْ نصيبٍ‏}‏ لأنه كافر بها لم يعمل لها‏.‏

فصل

اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى «حرثه» مُحْكَم، واختلفوا في باقيها على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ منسوخ بقوله ‏{‏عجَّلْنا له فيها ما نشاء لِمَنْ نُريد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏، وهذا قول جماعة منهم مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن الآيتين مُحكَمتان متَّفقتان في المعنى، لأنه لم يقل في هذه الآية‏:‏ نؤته مُراده، فعُلِم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد وهذا موافق لقوله‏:‏ «لِمَنْ نُريد»، ويحقِّق هذا أن لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر، وذلك لا يدخُله النسخ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لهم شركاءُ‏}‏ يعني كفار مكة؛ والمعنى ألَهُمْ آلهةٌ ‏{‏شَرَعوا‏}‏ أي‏:‏ ابتدعوا ‏{‏لهم‏}‏ دِيناً لم يأذن به الله‏؟‏‏!‏ ‏{‏ولولا كلمة الفصل‏}‏ وهي‏:‏ القضاء السابق بأن الجزاء يكون في القيامة ‏{‏لقُضِيَ بينهم‏}‏ في الدنيا بنزول العذاب على المكذِّبين‏.‏ والظالمون في هذه الآية والتي تليها‏:‏ يراد بهم المشركون‏.‏ والإشفاق‏:‏ الخوف‏.‏ والذي كَسَبوا‏:‏ هو الكفر والتكذيب، ‏{‏وهو واقعٌ بهم‏}‏ يعني جزاؤه‏.‏ وما بعد هذا ظاهر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يعني‏:‏ ما تقدم ذِكْره من الجنّات ‏{‏الذي يُبَشِّر اللهُ عبادَه‏}‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ «ذلك» بمعنى‏:‏ هذا الذي أخبرتُكم به بشرى يبشِّر اللهُ بها عباده‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «يَبْشَرُ» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لا أسألُكم عليه أجْراً‏}‏ في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما قَدِم المدينةَ كانت تَنُوبه نوائبُ وليس في يده سَعَةٌ، فقال الأنصار‏:‏ إن هذا الرجُل قد هداكم اللهٌ به، وليس في يده سَعَةٌ، فاجْمَعوا له من أموالكم مالا يضرُّكم، ففعلوا ثم أتَوْه به، فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا‏.‏

والثالث‏:‏ أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتُرَون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

والهاء في «عليه» كناية عمّا جاء به من الهُدى‏.‏

وفي الاستثناء هاهنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلاً أجراً‏.‏ وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال‏:‏ نُسخت هذه بقوله ‏{‏قُلْ ما سألتُكم مِنْ أجر فهوُ لكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏سبأ‏:‏ 47‏]‏، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يَسألون على تبليغهم أجراً؛ وإنما المعنى‏:‏ لكنِّي أُذكّرُكم المَوَدَّةَ في القُرْبى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي، وهذا اختيار المحقِّقين، وهو الصحيح، فلا يتوجَّه النسخ أصلاً‏.‏

وفي المراد بالقُربى خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معنى الكلام‏:‏ إلاّ أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد في الأكثرين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ولم يكن بطنٌ من بطون قريش إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة‏.‏

والثاني‏:‏ إلاّ ‏[‏أن‏]‏ تَوَدُّوا قرابتي، قاله عليّ بن الحسين، وسعيد بن جبير، والسدي‏.‏ ثم في المراد بقرابته قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ عليّ وفاطمة وولدها، وقد رووه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الذين تَحْرُم عليهم الصدقة ويُقْسَم فيهم الخُمُس، وهم بنو هاشم وبنو المطَّلِب‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى إلاّ أن تَوَدَّدوا إلى الله تعالى فيما يقرِّبكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن وقتادة‏.‏

والرابع‏:‏ إلاّ أن تَوَدُّوني، كما تَوَدُّون قرابتَكم، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ إلاّ أن تَوَدُّوا قرابتَكم وتصِلوا أرحامَكم، حكاه الماوردي‏.‏ والأول‏:‏ أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَنْ يَقْتَرِفْ‏}‏ أي‏:‏ مَنْ يَكْتَسِبْ ‏{‏حَسَنَةً نَزِدْ له فيها حُسْناً‏}‏ أي‏:‏ نُضاعفْها بالواحدة عشراً فصاعداً‏.‏ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري‏:‏ «يَزِدْ له» له بالياء ‏{‏إِن الله غفورٌ‏}‏ للذُّنوب ‏{‏شَكورٌ‏}‏ للقليل حتى يضاعفَه‏.‏

‏{‏أم يقولون‏}‏ أي‏:‏ بل يقول كفار مكة ‏{‏افترى على الله كَذِباً‏}‏ حين زعم أن القرآن من عند الله‏!‏ ‏{‏فإن يشِأ اللهُ يَخْتِمْ على قلبك‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يَخْتِم على قلبك فيُنسيك القرآن، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ يَرْبِط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يَشُقّ عليك قولهم‏:‏ إنك مفترٍ، قاله مقاتل والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَمْحُ اللهُ الباطلَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ ليس بمردود على «يَخْتِمْ» فيكونَ جزماً، وإنما هو مستأنَف، ومثله ممّا حُذفتْ منه الواو ‏{‏ويَدْعُ الإِنسانُ بالشِّرِّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏ وقال الكسائي‏:‏ فيه تقديم وتأخير‏.‏ تقديره‏:‏ والله يمحو الباطل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الوقف عليها «ويمحوا» بواو وألف؛ والمعنى‏:‏ واللهُ يمحو الباطل على كل حالٍ، غير أنها كُتبتْ في المصاحف بغير واو، لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، فكُتبتْ على الوصل، ولفظ الواو ثابت؛ والمعنى‏:‏ ويمحو اللهُ الشِّرك ويُحِقُّ الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يَقْبَل التَّوبة عن عباده‏}‏ قد ذكرناه في ‏[‏براءة‏:‏ 104‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَعْلَمُ ما تَفعلون‏}‏ أي‏:‏ من خير وشرّ‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ بالتاء، وقرأ الباقون‏:‏ بالياء، على الإِخبار عن المشركين والتهديد لهم‏.‏

و «يستجيب» بمعنى يُجيب‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الفعل فيه لله، والمعنى‏:‏ يُجيبهم إذا سألوه؛ وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي ‏{‏ويستجيب الذين آمنوا‏}‏ قال‏:‏ يُشَفَّعون في إِخوانهم‏.‏ ‏{‏ويَزيدُهم مِنْ فَضْله‏}‏ قال‏:‏ يُشَفَّعون في إِخوان إِخوانهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه للمؤمنين؛ فالمعنى‏:‏ يجيبونه والأول أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو بَسَطَ اللهُ الرِّزق لعباده‏}‏ قال خَبَّاب ابن الأرتّ‏:‏ فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنّا نَظَرْنا إلى أموال بني قريظة والنَّضير فتمنَّيناها، فنزلت هذه الآية‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لو أوسَع اللهُ الرِّزق لعباده لبَطِروا وعَصَوْا وبغى بعضُهم على بعض، ‏{‏ولكن ينزِّل بقَدَرٍ ما يشاءُ‏}‏ أي‏:‏ ينزل أمره بتقدير ما يشاء مما يُصلح أمورَهم ولا يُطغيهم ‏{‏إِنه بعباده خبيرٌ بصيرٌ‏}‏ فمنهم من لا يُصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يُصلحه إلا الفقر‏.‏