فصل: سورة مريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 98‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أتبع سبباً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً ثالثاً بين المَشْرِق والمَغْرِب ‏{‏حتى إِذا بلغ بين السدين‏}‏ قال وهب بن منبه‏:‏ هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر، ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطَع أرض التُّرك مما يلي بلاد أرمينية‏.‏ وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال‏:‏ الجبلان من قِبَل أرمينية وأذربيجان‏.‏ واختلف القراء في «السدّين» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم بفتح السين‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي بضمها‏.‏

وهل المعنى واحد، أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدها‏:‏ أنه واحد‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ كل ما قابلك فسَدَّ ما وراءه، فهو سَدٌّ، وسُدٌّ، نحو‏:‏ الضَّعف والضُّعف، والفَقر والفُقر‏.‏ قال الكسائي، وثعلب‏:‏ السَّد والسُّد لغتان بمعنى واحد، وهذا مذهب الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما يختلفان‏.‏

وفي الفرق بينهما قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو من فعل الآدميين فهو مفتوح، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة‏.‏ قال الفراء‏:‏ وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين‏.‏

والثاني‏:‏ أن السَّد، بفتح السين‏:‏ الحاجز بين الشيئين، والسُدُّ، بضمها‏:‏ الغشاوة في العَيْن، قاله أبو عمرو بن العلاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَد من دونهما‏}‏ يعني‏:‏ أمام السدين ‏{‏قوماً لا يكادون يفقهون قولاً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ «يَفْقَهُون قولاً» بفتح الياء، أي‏:‏ لا يكادون يفهمونه‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ معناه أنهم يفهمون بعد إِبطاءٍ، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وإِنما كانوا كذلك لأنهم لا يعرفون غير لغتهم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «يُفْقِهُون» بضم الياء، أراد‏:‏ يُفْهِمُون غيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ كلَّم ذا القرنين عنهم مترجِمون ترجموا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يأجوج ومأجوج‏}‏ هما‏:‏ اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم‏.‏ قال الليث‏:‏ الهمز لغة رديئة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يأجوج رجل، ومأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء، وولد آدم كلُّهم جزء، وهم شِبْر وشِبْران وثلاثة أشبار‏.‏ وقال عليّ عليه السلام‏:‏ منهم مَنْ طوله شِبْر، ومنهم من هو مُفْرِط في الطُّول، ولهم من الشَّعر ما يواريهم من الحَرِّ والبَرْد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هم جيل من التُّرك‏.‏ وقال السدي‏:‏ التُرك سريّة من يأجوج ومأجوج خرجت تُغِير، فجاء ذو القرنين فضرب السَّد، فبقيت خارجه‏.‏ وروى شقيق عن حذيفة، قال‏:‏ ‏"‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال‏:‏ «يأجوج أُمَّة، ومأجوج أُمَّة، كل أُمَّة أربعمائة ‏[‏ألف‏]‏ أُمَّة، لا يموت الرجُل منهم حتى ينظر إِلى ألف ذَكَر بين يديه من صُلْبه كُلٌّ قد حمل السلاح؛ قلت‏:‏ يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال‏:‏ «هم ثلاثة أصناف، صنف منهم أمثال الأرز»؛ قلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ وما الأرز‏؟‏ قال‏:‏ «شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء؛ وصنف منهم عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه، ويلتحف بالأخرى ولا يمرُّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إِلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدِّمتهم بالشام، وساقّهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية» ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُفْسِدون في الأرض‏}‏ في هذا الفساد أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا يفعلون فِعْل قوم لوط، قاله وهب بن منبِّه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز‏.‏

والثالث‏:‏ يُخرِجون إِلى الأرض الذين شَكَوْا منهم أيام الربيع، فلا يَدَعون شيئاً أخضر إِلا أكلوه، ولا يابساً إِلا احتملوه إِلى أرضهم، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم‏:‏ «خَرجاً» بغير ألف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «خراجاً» بألف‏.‏ وهل بينهما فرق‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة، والليث‏.‏

والثاني‏:‏ أن الخَرْجَ‏:‏ ما تبرعت به، والخراج‏:‏ ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء‏.‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ هل نُخرج إِليك من أموالنا شيئاً كالجُعل لك‏؟‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما مكَّنّي‏}‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «مكَّنَني» بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ‏:‏ «مكَّنِّي» بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونين‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «مكَّنني» أظهر النونين، لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر‏.‏

وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العِلْم بالله؛ وطلب ثوابه‏.‏

والثاني‏:‏ ما ملك من الدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعينوني بِقُوَّة‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الرجال، قاله مجاهد، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الآلة، قاله ابن السائب‏.‏ فأما الرَّدْم، فهو‏:‏ الحاجز؛ قال الزجاج‏:‏ والرَّدْم في اللغة أكبر من السدِّ، لأن الرَّدْم‏:‏ ما جُعل بعضه على بعض، يقال‏:‏ ثوب مُرَدَّم‏:‏ إِذا كان قد رقِّع رقعة فوق رقعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آتوني زُبَرَ الحديد‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ «ردماً آتوني» أي‏:‏ أعطوني‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم‏:‏ «ردمٍ ايتوني» بكسر التنوين، أي‏:‏ جيئوني بها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ احملوها إِليَّ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أعطوني‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ إِيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف‏.‏ فأما الزُّبُر، فهي‏:‏ القِطَع، واحدتها‏:‏ زُبْرَة؛ والمعنى‏:‏ فأَتَوه بها فبناه، ‏{‏حتى إِذا ساوى‏}‏ وروى أبان «إِذا سوَّى» بتشديد الواو من غير ألف‏.‏ قال الفراء‏:‏ ساوى وسوَّى سواء‏.‏ واختلف القراء في ‏{‏الصَّدَفَين‏}‏ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «الصُّدُفَين» بضم الصاد والدال، وهي‏:‏ لغة حِمْيَر‏.‏ وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم‏:‏ «الصُّدْفين» بضم الصاد وتسكين الدال‏.‏

وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، بفتح الصاد والدال جميعاً، وهي لغة تميم، واختارها ثعلب‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر‏:‏ «الصَّدُفين» بفتح الصاد ورفع الدال‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويقال‏:‏ صُدَف، على مثال نُغَر، وكل هذه لغات في الكلمة‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الصَّدَفان‏:‏ جَنْبا الجبل‏.‏ قال الأزهري‏:‏ يقال لجانبي الجبل‏:‏ صَدَفان، إِذا تحاذيا، لتصادفهما، أي‏:‏ لتلاقيهما‏.‏ قال المفسرون‏:‏ حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ، ثم ‏{‏قال انفخوا‏}‏ فنفخوا ‏{‏حتى إِذا جعله‏}‏ يعني‏:‏ الحديد، وقيل‏:‏ الهاء ترجع إِلى ما بين الصدفين ‏{‏ناراً‏}‏ أي‏:‏ كالنار، لأن الحديد إِذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار، ‏{‏قال آتوني‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي‏:‏ «آتوني» ممدودة؛ والمعنى‏:‏ أعطوني‏.‏ وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «إِيتوني» مقصورة؛ والمعنى‏:‏ جيئوني به أُفرغه عليه‏.‏

وفي القِطْر أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ الصُّفْر المُذاب، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ الرصاص، حكاه ابن الأنباري‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أذاب القِطْر ثم صبَّه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلاً صلداً من حديد وقِطْر‏.‏ قال قتادة‏:‏ فهو كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما اسطاعوا‏}‏ أصله‏:‏ فما «استطاعوا» فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبُّوا التخفيف فحذفوا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما تقول العرب‏:‏ اسطاع، تخفيفاً، كما قالوا‏:‏ سوف يقوم، وسيقوم، فأسقطوا الفاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يَظْهَروه‏}‏ أي‏:‏ يعلوه؛ يقال‏:‏ ظهر فلان فوق البيت‏:‏ إِذا علاه، والمعنى‏:‏ ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وامِّلاسه ‏{‏وما استطاعوا له نقباً‏}‏ من أسفله، لشدته وصلابته‏.‏ وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إِن يأجوج ومأجوج ليَحفرون السدَّ كل يوم، حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا، فستحفرونه غداً، فيعودون إِليه، فيرونه كأشد ما كان، حتى إِذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس، حفروا، حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا، فستحفرونه غداً إِن شاء الله، ويستثني، فيعودون إِليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس ‏"‏ وذكر باقي الحديث؛ وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب «الحدائق» فكرهت التطويل هاهنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هذا رحمة من ربِّي‏}‏ لمّا فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا‏.‏ وفيما أشار إِليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الرَّدم، قاله مقاتل؛ قال‏:‏ فالمعنى‏:‏ هذا نِعْمة من ربِّي على المسلمين لئلا يخرجوا إِليهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد ربِّي‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ القيامة‏.‏ والثاني‏:‏ وعده لخروج يأجوج ومأجوج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعله دكّاً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «دكّاً» منوناً غير مهموز ولا ممدود‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «دكّاء» ممدودة مهموزة بلا تنوين‏.‏ وقد شرحنا معنى الكلمة في ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وعد ربي حقاً‏}‏ أي‏:‏ بالثواب والعقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 101‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ و‏{‏تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‏}‏ في المشار إِليهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم يأجوج ومأجوج‏.‏ ثم في المراد ب «يومئذ» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يوم انقضى أمر السدِّ، تُركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم؛ وقيل‏:‏ ماجوا متعجبين من السدِّ‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يوم يخرجون من السدِّ تُركوا يموج بعضهم في بعض‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الكفار‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم جميع الخلائق‏.‏ الجن والإِنس يموجون حيارى‏.‏ فعلى هذين القولين، المراد باليوم المذكور يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُفخ في الصُّور‏}‏ هذه نفخة البعث‏.‏ وقد شرحنا معنى «الصُّور» في ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعرضنا جهنم‏}‏ أي‏:‏ أظهرناها لهم حتى شاهدوها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كانت أعينهم‏}‏ يعني‏:‏ أعين قلوبهم ‏{‏في غِطاءٍ‏}‏ أي‏:‏ في غفلةٍ ‏{‏عن ذِكْري‏}‏ أي‏:‏ عن توحيدي والإِيمان بي وبكتابي ‏{‏وكانوا لا يستطيعون سمعاً‏}‏ هذا لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما يُنْذَرون به، كما تقول لمن يكره قولك‏:‏ ما تقدر أن تسمع كلامي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسب الذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ أفَظَنَّ المشركون ‏{‏أن يتخذوا عبادي‏}‏ في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الشياطين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الأصنام، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دوني‏}‏ فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو‏.‏ وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف، وفي تقديره قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء، كلا بل هم أعداءٌ لهم يتبرؤون منهم‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتخذوهم أولياء ولا أغضبُ ولا أعاقُبهم‏.‏ وروى أبان عن عاصم، وزيد عن يعقوب‏:‏ «أَفَحَسْبُ» بتسكين السين وضم الباء، وهي قراءة علي عليه السلام، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن يعمر، وابن محيصن؛ ومعناها‏:‏ أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء‏؟‏‏.‏

فأما النُّزُل ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ما يُهيَّأَ للضيف والعسكر، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المنزل، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 106‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل نُنَبِّئكم بالأخسرين أعمالاً‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم القسِّيسون والرهبان، قاله علي عليه السلام، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعمالاً‏}‏ منصوب على التمييز، لأنه لما قال‏:‏ «بالأخسرين» كان ذلك مبهماً لا يدل على ما خسروه، فبيَّن ذلك في أي نوع وقع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ضل سعيهم‏}‏ أي‏:‏ بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم، فرؤساؤهم يعلمون الصحيح، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعُهم مقلِّدون بغير دليل‏.‏ ‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربِّهم‏}‏ جحدوا دلائل توحيده، وكفروا بالبعث والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء ‏{‏فحبطت أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ بطل اجتهادهم، لأنه خلا عن الإِيمان ‏{‏فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ وقرأ ابن مسعود، والجحدري‏:‏ «فلا يُقيم» بالياء‏.‏

وفي معناه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إِنما يثقل الميزان بالطاعة، وإِنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا نُقيم لهم قَدْراً‏.‏ قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية‏:‏ يقال‏:‏ ما لفلان عندنا وزن، أي‏:‏ قَدْر، لخسَّته‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنهم لا يُعتدُّ بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة‏.‏ وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة، اقرؤوا إِن شئتم‏:‏ ‏{‏فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنا‏}‏ ‏"‏‏.‏ والثالث‏:‏ أنه قال‏:‏ «فلا نقيم لهم» لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك جزاؤهم‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخِسَّة قدرهم، ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏جزاؤهم جهنم‏}‏، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كفروا‏}‏ أي‏:‏ بكفرهم واتخاذهم ‏{‏آياتي‏}‏ التي أنزلتها ‏{‏ورُسُلي هزواً‏}‏ أي‏:‏ مهزوءاً به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانت لهم جنات الفردوس‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ كانت لهم في علم الله قبل أن يُخلَقوا‏.‏ وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ جِنانُ الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ‏"‏ وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجَّر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ‏"‏ قال أبو أمامة‏:‏ الفردوس سرّة الجنة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الفردوس‏:‏ البستان بالرومية‏.‏ وقال كعب، والضحاك‏:‏ «جنات الفردوس»‏:‏ جنات الأعناب‏.‏ قال الكلبي، والفراء‏:‏ الفردوس‏:‏ البستان الذي فيه الكرم‏.‏ وقال المبرد‏:‏ الفردوس فيما سمعت من كلام العرب‏:‏ الشجر المتلف، والأغلب عليه العنب‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس، قال عبد الله بن رواحة‏:‏

في جنانِ الفردوسِ ليسَ يخافو *** ن خروجاً عنها ولا تحويلا

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ قال الزجاج‏:‏ الفردوس أصله رومي أعرب، وهو البستان، كذلك جاء في التفسير، وقد قيل‏:‏ الفردوس تعرفه العرب، وتسمي الموضع الذي فيه كرم‏:‏ فردوساً‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ الفردوس مذكَّر، وإِنما أنث في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرِثون الفردوس هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 11‏]‏ لأنه عنى به الجنة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وقيل‏:‏ الفردوس‏:‏ الأودية التي تنبت ضروباً من النبت، وقيل‏:‏ هو بالرومية منقول إِلى لفظ العربية، قال‏:‏ والفردوس أيضاً بالسريانية كذا لفظه‏:‏ فردوس، قال‏:‏ ولم نجده في أشعار العرب إِلا في شعر حسان، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين، لأنه عند أهل كل لغة كذلك، وبيت حسان‏:‏

فَإِنِّ ثَوَابَ اللهِ كلَّ مُوَحِّدٍ *** جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ فيهَا يُخَلَّدِ

وقال ابن الكلبي باسناده‏:‏ الفردوس‏:‏ البستان بلغة الروم، وقال الفراء‏:‏ وهو عربي أيضاً، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوساً‏.‏ وقال السدي‏:‏ الفردوس أصله بالنبطية «فرداسَا»‏.‏ وقال عبد الله بن الحارث‏:‏ الفردوس‏:‏ الأعناب‏.‏ وقد شرحنا معنى قوله‏:‏ «نُزُلاً» آنفاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يبغون عنها حِوَلاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا يريدون عنها تحوُّلاً، يقال‏:‏ قد حال من مكانه حِوَلاً، كما قالوا في المصادر‏:‏ صَغُر صِغرَاً، وعَظُم عِظَماً، وعادَني حُبُّها عِوَداً؛ قال‏:‏ وقد قيل أيضاً‏:‏ إِن الحِوَل‏:‏ الحِيلة، فيكون المعنى‏:‏ لا يحتالون مَنْزِلاً غيرها‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد عُلم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم لايبغون عنها حِوَلاً‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الإِنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إِلى دار أخرى، وقد يملّ، والجنة على خلاف ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي‏}‏ سببب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إِلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ قالت اليهود‏:‏ كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لو كان ماء البحر مداداً يُكتَب به‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏[‏والمعنى‏]‏‏:‏ لو كان البحر مداداً للقلم، والقلم يكتب‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ سمي المداد مداداً لإِمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء‏.‏ وقرأ الحسن، والأعمش‏:‏ «مدداً لكلمات ربِّي» بغير ألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قبل أن تنفدَ كلمات ربي‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ «تنفد» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «ينفد» بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ التأنيث أحسن، لأن المُسنَد إِليه الفعلُ مؤنث، والتذكير حسن، لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإِنما لم تنفد كلمات الله، لأن كلامه صفة من صفات ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد، ‏{‏ولو جئنا بمثله‏}‏ أي‏:‏ بمثل البحر ‏{‏مدداً‏}‏ أي‏:‏ زيادة؛ والمدد‏:‏ كل شيء زاد في شيء‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم قال في أول الآية‏:‏ «مداداً» وفي آخرها‏:‏ «مدداً» وكلاهما بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف‏؟‏

فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال‏:‏ لما كان الثاني آخر آية، وأواخر الآيات هاهنا أتت على الفُعُل، والفِعَل، كقوله‏:‏ «نُزُلاً» «هُزُواً» «حِوَلاً» كان قوله‏:‏ «مَدَداً» أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد، واتفاقُ المقاطع عند أواخر الآي، وانقضاء الأبيات، وتمام السجع والنثر، أخف على الألسن، وأحلى موقعاً في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه ‏[‏العلة‏]‏‏.‏ وقد قرأ ابن عباس، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن‏:‏ «ولو جئنا بمثله مداداً» فحملوها على الأولى، ولم ينظروا إِلى المقاطع‏.‏ وقراءة الأوَّلِين أَبْيَن حُجَّة، وأوضح منهاجاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إِنما أنا بَشَر مِثْلُكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ علَّم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يُقِرَّ على نفسه بأنه آدمي كغيره، إِلا أنه أُكرم بالوحي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربِّه‏}‏ سبب نزولها ‏"‏ أن جندب بن زهير الغامدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِني أعمل العمل ‏[‏لله تعالى‏]‏ فاذا اطُّلع عليه سرَّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِن الله طَيِّب لا يقبل إِلا الطيِّب، ولا يقبل ماروئي فيه» ‏"‏ فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ وقال طاووس‏:‏ جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إِني أُحب الجهاد ‏[‏في سبيل الله‏]‏ وأُحب أن يُرى مكاني، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إِني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلا لله تعالى، فيُذكَر ذلك مِنِّي وأُحمَد عليه فيسرُّني ذلك وأُعجَب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فمن كان يرجو‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يخاف، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ يأمل، وهو اختيار الزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ فمن كان يرجو لقاء ثواب ربِّه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وذلك يوم البعث والجزاء‏.‏ ‏{‏فَلْيعمل عملاً صالحاً‏}‏ لا يرائي به ‏{‏ولا يشركْ بعبادة ربه أحداً‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ لا يرائي‏.‏ قال معاوية بن أبي سفيان‏:‏ هذه آخر آية نزلت من القرآن‏.‏

سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ «كهيعص ذِكْر» بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي في هجاء «صاد»‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «كهيعص» بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال التي في هجاء «صاد» في الذال من «ذِكْر»‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي، بكسر الهاء والياء، إِلا أن الكسائي لا يبيِّن الدال، وعاصم يُبيِّنها‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان‏.‏ وقرأ أُبيّ بن كعب‏:‏ «كهيعص» برفع الهاء وفتح الياء‏.‏ وقد ذكرنا في أول «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس‏.‏ وقد خصَّ المفسرون هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها حروف من أسماء الله تعالى، قاله الأكثرون‏.‏ ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أي اسم هو، على أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه من اسم الله الكبير‏.‏

والثاني‏:‏ من الكريم‏.‏

والثالث‏:‏ من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه من الملك، قاله محمد بن كعب‏.‏ فأما الهاء، فكلُّهم قالوا‏:‏ هي من اسمه الهادي، إِلا القرظي فإنه قال‏:‏ من اسمه الله‏.‏ وأما الياء، ففيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها من حكيم‏.‏

والثاني‏:‏ من رحيم‏.‏

والثالث‏:‏ من أمين، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ فأما العين، ففيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها من عليم‏.‏

والثاني‏:‏ من عالم‏.‏

والثالث‏:‏ من عزيز، رواها أيضاً سعيد ‏[‏بن جبير‏]‏ عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنها من عدل، قاله الضحاك‏.‏ وأما الصاد، ففيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها من صادق‏.‏

والثاني‏:‏ من صدوق، رواهما سعيد ‏[‏بن جبير‏]‏ أيضاً عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ من الصمد، قاله محمد بن كعب‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن «كهيعص» قَسَم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وروي عن عليّ عليه السلام أنه قال‏:‏ هو اسم من اسماء الله تعالى‏.‏ وروي عنه أنه كان يقول ‏[‏يا‏]‏ كهيعص اغفر لي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والقَسَم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد، لأن الداعي إِذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله فدعا بها، فكأنه قال‏:‏ يا كافي، يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإِذا أقسم بها، فكأنه قال‏:‏ والكافي الهادي العالم الصادق، وأُسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ، النيَّة فيها الوقف‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اسم للسورة، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم قالوا‏:‏ ها يا، ولم يقولوا في الكاف‏:‏ كا، وفي العين‏:‏ عا، وفي الصاد‏:‏ ص، لتتفق المباني كما اتفقت العلل‏؟‏

فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال‏:‏ حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكِلَم ليختلف الوزن وتتغيَّر المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذِكْر رحمة ربك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الذِّكر مرفوع بالمُضمَر، المعنى‏:‏ هذا الذي نتلو عليك ذِكْر رحمة ربِّك عبدَه‏.‏ قال الفراء‏:‏ وفي الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى‏:‏ ذِكْر ربِّك عبده بالرحمة، و«زكريا» في موضع نصب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ نادى ربَّه‏}‏ النداء هاهنا بمعنى الدعاء‏.‏

وفي علة إِخفائه لذلك ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ لئلا يقول الناس‏:‏ انظروا إِلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكِبَر، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وهذه القصة تدل على أن المستحب إِسرار الدعاء، ومنه الحديث‏:‏ ‏"‏ إِنكم لا تدعون أصمّ ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ربِّ إِني وهن العظم منِّي‏}‏ وقرأ معاذ القارئ، والضحاك‏:‏ «وَهُن» بضم الهاء، أي‏:‏ ضَعُف‏.‏ قال الفراء‏:‏ وغيره‏:‏ وَهَن العظم، ووَهِن، بفتح الهاء وكسرها؛ والمستقبل على الحالين كليهما‏:‏ يَهِن‏.‏ وأراد أن قوَّة عظامه قد ذهبت لِكبَره؛ وإِنما خصّ العظم، لأنه الأصل في التركيب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ شكا ذهاب أضراسه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ يعني‏:‏ انتشر الشيب فيه، كما ينتشر شعاع النار في الحطب، وهذا من أحسن الاستعارات‏.‏ ‏{‏ولم أكن بدعائك‏}‏ أي‏:‏ بدعائي إِياكَ ‏{‏ربِّ شقياً‏}‏ أي‏:‏ لم أكن أتعب بالدعاء ثم أُخيَّب، لأنك قد عودتَني الإِجابة؛ يقال‏:‏ شقي فلان بكذا‏:‏ إِذا تعب بسببه، ولم ينل مراده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِني خِفتُ الموالي‏}‏ يعني‏:‏ الذين يلونه في النسب، وهم بنو العم والعَصبة ‏{‏من ورائي‏}‏ أي‏:‏ من بعد موتي‏.‏

وفي ما خافهم عليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خاف أن يَرِثوه، قاله ابن عباس‏.‏ فإن اعترض عليه معترض، فقال‏:‏ كيف يجوز لنبيّ أن يَنْفَس على قراباته بالحقوق المفروضة لهم بعد موته‏؟‏

فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما كان نبيّاً، والنبيّ لا يورث، خاف أن يرِثوا ماله فيأخذوا ما لا يجوز لهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه غلب عليه طبع البشر، فأحبَّ أن يتولَّى مالَه ولدُه، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

قلت‏:‏ وبيان هذا أنه لا بد أن يتولَّى ماله وإِن ولم يكن ميراثاً، فأحبَّ أن يتولاه ولده‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه خاف تضييعهم للدِّين ونبذهم إِيّاه، ذكره جماعة من المفسرين‏.‏

وقرأ عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وابن جبير، ومجاهد، وابن أبي شريح عن الكسائي‏:‏ «خَفَّت» بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى «قلَّت»؛ فعلى هذا يكون إِنما خاف على عِلْمه ونبوَّته ألاَّ يُورَثا فيموت العِلْم‏.‏ وأسكن ابن شهاب الزهري ياء «المواليْ»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ورائي‏}‏ أسكن الجمهور هذه الياء، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل‏.‏

وروى عنه شبل‏:‏ «ورايْ» مثل «عصايْ»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَبْ لي من لدنك‏}‏ أي‏:‏ من عندك ‏{‏وليّاً‏}‏ أي‏:‏ ولداً صالحاً يتولاَّني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرِثني ويرث من آل يعقوب‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة‏:‏ «يَرِثُني ويَرِثُ» برفعهما‏.‏ وقرا أبو عمرو، والكسائي‏:‏ «يَرِثْني ويَرِثْ» بالجزم فيهما‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ من قرأ بالرفع، فهو على الصفة للوليّ؛ فالمعنى‏:‏ هب لي وليّاً وارثاً، ومن جزم، فعلى الشرط والجزاء، كقولك‏:‏ إِن وهبتَه لي ورثني‏.‏

وفي المراد بهذا الميرث أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يَرِثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال أبو صالح‏.‏

والثاني‏:‏ يَرِثني العِلْم، ويَرِث من آل يعقوب المُلْكَ، فأجابه الله تعالى إِلى وراثة العِلْم دون المُلْك، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ يَرِثني نبوَّتي وعِلْمي، ويَرِث من آل يعقوب النبوَّة أيضاً، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ يَرِثني النبوَّة، ويرث من آل يعقوب الأخلاق، قاله عطاء‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان زكريا من ذرية يعقوب، وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو يعقوب بن ماثان، وكان يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوين‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه لم يُرِد ميراثَ المال لوجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ نحن معاشر الأنبياء لا نورَث، ما تركناه صدقة ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ لا يجوز أن يتأسَّف نبيّ الله على مصير ماله بعد موته إِذا وصل إِلى وارثه المستحق له شرعاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لم يكن ذا مال‏.‏ وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زكريا كان نجاراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعله ربّ رضيّاً‏}‏ قال اللغويون‏:‏ أي‏:‏ مرضيّاً، فصُرِف عن مفعول إِلى فَعيل، كما قالوا‏:‏ مقتول وقتيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا زكريا إِنا نبشرك‏}‏ في الكلام إِضمار، تقديره‏:‏ فاستجاب الله له فقال‏:‏ «يا زكريّا إِنا نبشِّرك»‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «نَبْشُرك» بالتخفيف‏.‏ وقد شرحنا هذا في ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم نجعل له من قبلُ سَمِيّاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لم يُسمَّ يحيى قبله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، وابن زيد، والأكثرون‏.‏

فإن اعترض معترض، فقال‏:‏ ما وجه المِدْحَة باسم لم يُسمَّ به أحد قبله، ونرى كثيراً من الأسماء لم يُسبَق إِليها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولَّى تسميته، ولم يَكِل ذلك إِلى أبويه، فسماه باسم لم يُسبَق إِليه‏.‏

والثاني‏:‏ لم تلد العواقر مثله ولداً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ لم نجعل له نظيراً‏.‏

والثالث‏:‏ لم نجعل له من قبل مِثْلاً وشِبْهاً، قاله مجاهد‏.‏ فعلى هذا يكون عدم الشَّبَه من حيث أنه لم يعص ولم يهمَّ بمعصية‏.‏ وما بعد هذا مفسر في ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وكانت امرأتي عاقراً‏}‏‏.‏

وفي معنى «كانت» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ انه توكيد للكلام، فالمعنى‏:‏ وهي عاقر، كقوله‏:‏ ‏{‏كنتم خير أُمَّة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ أي‏:‏ أنتم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت منذ كانت عاقراً، لم يحدُث ذلك بها، ذكرهما ابن الأنباري، واختار الأول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد بلغتُ من الكِبَر عتياً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «عُتيّاً» و«بُكيّاً» ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏ و«صُليّا» ‏[‏مريم‏:‏ 70‏]‏ بضم أوائلها‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، بكسر أوائلها، وافقهما حفص عن عاصم، إِلا في قوله‏:‏ «بُكيّاً» فإنه ضم أوله‏.‏ وقرأ ابن عباس، ومجاهد‏:‏ «عُسِيّاً» بالسين قال مجاهد‏:‏ «عتيّاً» هو قُحُول العظم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أي يُبْساً؛ يقال‏:‏ عَتَا وعَسَا بمعنى واحد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كل شيء انتهى، فقد عَتَا يَعْتُو عِتِيّاً، وعُتُوّاً، وعُسُوّاً، وعُسِيّاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال كذلكَ‏}‏ أي‏:‏ الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكِبَر ‏{‏قال ربُّكَ هو عليَّ هيِّن‏}‏ أي‏:‏ خَلْقُ يحيى عليَّ سَهْل‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري‏:‏ «هَيْن» باسكان الياء‏.‏ ‏{‏وقد خلقتُك مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ أوجدتُك‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ «خَلَقْتُكَ»‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائيُّ‏:‏ «خَلَقْنَاكَ» بالنون والألف‏.‏ ‏{‏ولم تك شيئاً‏}‏ المعنى‏:‏ فخلْقُ الولد، كخلقك‏.‏ وما بعد هذا مفسر في ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ثلاثَ ليال سويّاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «سَوِيّاً» منصوب على الحال، والمعنى‏:‏ تُمْنَع عن الكلام وأنت سَوِيّ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ سليماً غير أخرس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج على قومه‏}‏ وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها أمرأته ‏{‏من المحراب‏}‏ أي‏:‏ من مصلاَّه وقد ذكرناه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحى إِليهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كتب إِليهم في كتاب، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أومأَ برأسه ويديه، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن سَبِّحوا‏}‏ أي‏:‏ صلُّوا ‏{‏بُكْرة وعَشِيّاً‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، والمعنى‏:‏ أنه كان يخرج إِلى قومه فيأمرهم بالصلاة بُكْرة وعَشِيّاً، فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة إِشارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا يحيى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ فوهبنا له يحيى، وقلنا له‏:‏ يا يحيى ‏{‏خذ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ التوراة، وكان مأموراً بالتمسك بها‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ اقبل كُتُبَ الله كلَّها إِيماناً بها واستعمالاً لأحكامها‏.‏ وقد شرحنا في ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏بقوّة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه الحُكْم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الفهم، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ اللُّب، قاله الحسن، وعكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ العِلْم، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ حفظ التوراة وعلْمها، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقد زدنا هذا شرحاً في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ من قرأ القرآن ‏[‏من‏]‏ قبل أن يحتلم، فهو ممن أُوتيَ الحُكم صبيّاً‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏صبيّاً‏}‏ ففي سنِّه يوم أُوتيَ الحُكم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه سبع سنين، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ ثلاث سنين، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحناناً من لَدُنّا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ وآتيناه حناناً‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ وجعلناه حناناً لأهل زمانه‏.‏

وفي الحنان ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الرحمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء، وأبو عبيدة، وأنشد‏:‏

تَحَنَّنْ عليَّ هَدَاكَ الملِيك *** فإنّ لكلِّ مقامٍ مَقَالاَ

قال‏:‏ وعامة ما يُستعمَل في المنطق على لفظ الاثنين، قال طرفة‏:‏

أبا مُنْذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بَعضَنَا *** حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْضِ

قال ابن قتيبة‏:‏ ومنه يقال‏:‏ تحنَّن عليَّ، وأصله من حنين الناقة على ولدها‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لم يختلف اللغويون أن الحنان‏:‏ الرحمة، والمعنى‏:‏ فعلنا ذلك رحمةً لأبويه، وتزكيةً له‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التعطف من ربِّه عليه، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ أنه اللِّين، قاله سعيد بن جبير‏.‏ والرابع‏:‏ البَرَكة، وروي عن ابن جبير أيضاً‏.‏ والخامس‏:‏ المَحبَّة، قاله عكرمة، وابن زيد‏.‏ والسادس‏:‏ التعظيم، قاله عطاء بن أبي رباح‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وزكاة‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها العمل الصالح، قاله الضحاك، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى الزكاة‏:‏ الصدقة، فالتقدير‏:‏ إِن الله تعالى جعله صدقة تصدّق بها على أبويه، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أن الزكاة‏:‏ التطهير، قاله الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ أن الزكاة‏:‏ الزيادة، فالمعنى‏:‏ وآتيناه زيادة في الخير على ما وُصف وذُكِر، قاله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان تقيّاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ جعلته يتَّقيني، ولا يعدل بي غيري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبَرّاً بوالديه‏}‏ أي‏:‏ وجعلناه بَرّاً بوالديه، والبَرُّ بمعنى‏:‏ البارّ؛ والمعنى‏:‏ لطيفاً بهما، محسناً إِليهما‏.‏ والعَصِيَّ بمعنى‏:‏ العاصي‏.‏ وقد شرحنا معنى الجبّار في ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسلام عليه‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه السلام المعروف من الله تعالى‏.‏ قال عطاء‏:‏ سلام عليه مِنِّي في هذه الأيام؛ وهذا اختيار أبي سليمان‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ السلامة، قاله ابن السائب‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف خَصَّ التسليم عليه بالأيام، وقد يجوز أن يولد ليلاً ويموت ليلاً‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المراد باليوم الحِين والوقت، على ما بيّنا في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم أكملتُ لكم دينَكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وسلام عليه حين وُلد‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ التقى يحيى وعيسى، فقال يحيى لعيسى‏:‏ أنتَ خير مني، فقال عيسى ليحيى‏:‏ بل أنت خير مني، سلَّم الله عليك، وأنا سلَّمتُ على نفسي‏.‏ وقال سعيد بن جبير مثله‏:‏ إِلا أنه قال أثنى الله عليك، وأنا أثنيت على نفسي‏.‏ وقال سفيان بن عيينه‏:‏ أوحش ما يكون الإِنسان في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 21‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏مريمَ إِذ انتبذت‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ تنحَّت واعتزلت ‏{‏مكاناً شرقيّاً‏}‏ مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربيّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتّخذتْ من دونهم‏}‏ يعني‏:‏ أهلها ‏{‏حجاباً‏}‏ أي‏:‏ ستراً وحاجزاً، وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ضربت ستراً، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الشمس أظلَّتْها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، ‏[‏روي‏]‏ هذا المعنى عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنها اتخذت حجاباً من الجدران، قاله السدي عن أشياخه‏.‏

وفي سبب انفرادها عنهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لتفلّي رأسها، قاله عطاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسلنا إِليها روحنا‏}‏ وهو جبريل في قول الجمهور‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ صاحب روحنا، وهو جبريل‏.‏ والرُّوح بمعنى‏:‏ الرَّوْح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإِبطال طريق المصدر، ويجوز أن يُراد بالرُّوح هاهنا‏:‏ الوحي وجبريل صاحب الوحي‏.‏

وفي وقت مجيئه إِليها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ وهي تغتسل‏.‏

والثاني‏:‏ بعد فراغها، ولبسها الثياب‏.‏

والثالث‏:‏ بعد دخولها بيتها‏.‏ وقد قيل‏:‏ المراد بالروح هاهنا‏:‏ ‏[‏الروح‏]‏ الذي خُلق منه عيسى، حكاه الزجاج، والماوردي، وهو مضمون كلام أُبيّ بن كعب فيما سنذكره عند قوله‏:‏ ‏{‏فحملتْه‏}‏‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وفيه بُعد، لقوله‏:‏ ‏{‏فتمثَّل لها بَشَراً سويّاً‏}‏، والمعنى‏:‏ تصوَّر لها في صورة البَشَر التامّ الخِلْقة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد قطط حين طرَّ شاربه‏.‏ وقرأ أبو نهيك‏:‏ «فأرسلنا إِليها رَوحنا» بفتح الراء، من الرَّوْح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت إِني أعوذ بالرحمن منكَ إِن كنتَ تقيّاً‏}‏ المعنى‏:‏ إِن كنتَ تتَّقي الله، فستنتهي بتعوُّذي منك، هذا هو القول عند المحققين‏.‏ وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجراً، فظنتْه إِياه، ذكره ابن الأنباري، والماوردي‏.‏ وفي قراءة عليّ عليه السلام، وابن مسعود، وأبي رجاء‏:‏ «إِلا أن تكون تقيّاً»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إِنما أنا رسول ربِّك‏}‏ أي‏:‏ فلا تخافي ‏{‏لِيَهَبَ لك‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «لأهب لك» بالهمز‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع‏:‏ «ليهب لك» بغير همز‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «ليهب» فالمعنى‏:‏ أرسَلني ليهب، ومن قرأ «لأهب» فالمعنى‏:‏ أُرسلتُ إِليكِ لأهب لكِ‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ أرسلني يقول لك‏:‏ أرسلتُ رسولي إِليكِ لأهبَ لكِ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غلاماً زكيّاً‏}‏ أي‏:‏ طاهراً من الذنوب‏.‏ والبغيّ‏:‏ الفاجرة الزانية‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما لم يقل‏:‏ «بغيَّة» لأنه وصف يغلب على النساء، فقلَّما تقول العرب‏:‏ رجل بغيّ، فيجري مجرى حائض، وعاقر‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِنما لم يقل‏:‏ «بغيَّة» لأنه مصروف عن وجهه، فهو «فعيل» بمعنى‏:‏ «فاعل»‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ ليس لي زوج، ولستُ بزانية، وإِنما يكون الولد من هاتين الجهتين‏.‏ ‏{‏قال كذلِكِ قال ربُّكِ‏}‏ قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى‏:‏ أنه يسيرٌ عليّ أن أهب لكِ غلاماً من غير أب‏.‏ ‏{‏ولنجعله آية للناس‏}‏ أي‏:‏ دلالة على قدرتنا كونه من غير أب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما دخلت الواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولنجعلَه‏}‏ لأنها عاطفة لِما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره‏:‏ قال ربُّكِ خَلْقُه عليّ هيِّن لننفعكِ به، ولنجعلَه عبرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورحمةً مِنّا‏}‏ أي‏:‏ لمن تبعه وآمن به ‏{‏وكان أمراً مقضيّاً‏}‏ أي‏:‏ وكان خَلْقُه أمراً محكوماً به، مفروغاً عنه، سابقاً في عِلْم الله تعالى كونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فحملته‏}‏ يعني‏:‏ عيسى‏.‏

وفي كيفية حملها له قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن جبريل نفخ في جيب دِرعها، فاستمرَّ بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ قال السدي‏:‏ نفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قُدَّامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها‏.‏

والثاني‏:‏ الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل مِنْ فيها، قاله أُبيّ بن كعب‏.‏

وفي مقدار حَمْلها سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى‏:‏ أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال، لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فحملته فانتبذت به‏}‏، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتاً يحتمل الانتباذ به‏.‏

والثاني‏:‏ أنها حملته تسع ساعات، ووضعت من يومها، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ تسعة أشهر، قاله سعيد بن جبير، وابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان‏.‏

والخامس‏:‏ ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج‏.‏

والسادس‏:‏ في ستة أشهر، حكاه الماوردي‏.‏

والسابع‏:‏ في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتبذت به‏}‏ يعني بالحَمْل ‏{‏مكاناً قصيّاً‏}‏ أي‏:‏ بعيداً‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏قاصياً‏}‏‏.‏ قال ابن إِسحاق‏:‏ مشت ستة أميال‏.‏ قال الفراء‏:‏ القصيّ والقاصي بمعنى واحد‏.‏ وقال غير الفراء‏:‏ القصيّ والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد‏.‏ وإِنما بَعُدت، فراراً من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأجاءها المَخاض‏}‏ وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري‏:‏ «المِخاض» بكسر الميم‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فجاء بها المخاض، فلما أُلقيت الباء، جُعلت في الفعل ألفاً، ومثله‏:‏ ‏{‏آتنا غداءنا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏ أي‏:‏ بغدائنا، ومثله‏:‏ ‏{‏آتوني زُبَر الحديد‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ أي‏:‏ بزبر الحديد‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أفعلها من جاءت هي، وأجاءها غيرها‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ جاء بها، وألجأها، وهو من حيث يقال‏:‏ جاءت بي الحاجة إِليك، وأجاءَتني الحاجة إِليك، والمَخاض‏:‏ الحمل‏.‏ وقال غيره‏:‏ المخاض‏:‏ وجع الولادة‏.‏ ‏{‏إِلى جِذع النخلة‏}‏ وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف‏.‏ ‏{‏قالت يا ليتني مُتُّ قبل هذا‏}‏ اليوم، أو هذا الأمر‏.‏ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص‏:‏ «مِتُّ» بكسر الميم‏.‏

وفي سبب قولها هذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها قالته حياءً من الناس‏.‏

والثاني‏:‏ لئلا يأثموا بقذفها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتُ نسياً منسيّاً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، بكسر النون، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ «نَسياً» بفتح النون‏.‏ قال الفراء‏:‏ وأصحاب عبد الله يقرؤون‏:‏ «نَسياً» بفتح النون، وسائرالعرب بكسرها، وهما لغتان، مثل الجَسر والجِسر، والوَتر والوِتر، والفتح أحب إِليَّ‏.‏

قال أبو علي الفارسي‏:‏ الكسر على اللغتين‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ من كسر النون قال‏:‏ النِسي‏:‏ اسم لما يُنسى، بمنزلة البِغض اسم لما يُبْغَض، والسِّب اسم لما يُسَب‏.‏ والنَسي بفتح النون‏:‏ اسم لما يُنسى أيضاً على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال‏:‏ الرجل دَنِف ودَنَف‏.‏ فالمكسور‏:‏ هو الوصف الصحيح، والمفتوح‏:‏ مصدر سدَّ مسدَّ الوصف‏.‏ ويمكن أن يكون النِسي والنَسي اسمين لمعنىً، كما يقال‏:‏ الرِّطل والرَّطل‏.‏

وللمفسرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نسياً منسيّاً‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يا ليتني لما أكن شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ «وكنت نسياً منسيّاً» أي‏:‏ دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة‏.‏ قال الفراء‏:‏ النّسي‏:‏ ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ هي خرق الحيض تلقيها المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها‏.‏

والثالث‏:‏ ‏[‏أنه من‏]‏ السقط، قاله أبو العالية، والربيع‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ يا ليتني لا يُدرى من أنا، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إِليه، قاله ابن السائب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ النِسي، والمنسي‏:‏ ما ينسى من إِداوة وعصا‏.‏ يعني أنه ينسى في المنزل، فلا يرجع إِليه لاحتقار صاحبه إِياه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ معنى الآية‏:‏ ليتني كنت ما إِذا ذُكر لم يُطلب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فناداها من تحتها‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «مَن تحتها» بفتح الميم، والتاء‏.‏ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «مِن تحتها» بكسر الميم، والتاء‏.‏ فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ ناداها الملك من تحت النخلة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت على نَشَز، فناداها الملك أسفل منها‏.‏

والثاني‏:‏ ناداها عيسى لما خرج من بطنها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كلُّ ما رفعت إِليه طرفك، فهو فوقك، وكلُّ ما خفضت إِليه طرفك، فهو تحتك‏.‏ ومن قرأ بفتح الميم، ففيه الوجهان المذكوران‏.‏ وكان الفراء يقول‏:‏ ما خاطبها إِلا الملك على القراءتين جميعاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد جعل ربُّكِ تحتكِ سريّاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين، واللغويون، قال أبو صالح، وابن جريج‏:‏ هو الجدول بالسريانية‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عيسى كان سرياً من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، ‏[‏وابن زيد‏]‏‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وقد رجع الحسن عن هذا القول إِلى القول الأول، ولو كان وصفاً لعيسى، كان غلاماً سرياً أو سوياً من الغلمان، وقلَّما تقول العرب‏:‏ رأيت عندك نبيلاً، حتى يقولوا‏:‏ رجلاً نبيلاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف ناسب تسليتها أن قيل‏:‏ لا تحزني، فهذا نهر يجري‏؟‏

فالجواب‏:‏ من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدمِ الطعام والشراب والماء الذي تتطهر به، فقيل‏:‏ لا تحزني قد أجرينا لك نهراً، وأطلعنا لك رطباً، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها حزنت لِما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهراً، فجاءها من الأردنِّ، وأخرج لها الرَّطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إِيجاد عيسى، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهزِّي إِليك‏}‏ الهزُّ‏:‏ التحريك‏.‏

والباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بجذع النخلة‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها زائدة مؤكدة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إِلى السماء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏ قال الفراء‏:‏ معناه‏:‏ فليمدد سبباً‏.‏ والعرب تقول‏:‏ هزَّه، وهزَّ به، وخذ الخطام، وخذ بالخطام، وتعلَّق زيداً، وتعلَّق به‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هي مؤكدة، كقول الشاعر‏:‏

نَضْرِبُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرَج *** والثاني‏:‏ أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهزِّ، فهي مفيدة للالصاق، قاله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تساقط‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «تَسَّاقط» بالتاء مشددة السين‏.‏ وقرأ حمزة، وعبد الوارث‏:‏ «تَسَاقط» بالتاء مفتوحة مخففة السين‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «تُساقِط» بضم التاء وكسر القاف مخففة السين‏.‏ وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضل‏:‏ «يَسَّاقَط» بالياء مفتوجة وتشديد السين وفتح القاف‏.‏ فهذه القراآت المشاهير‏.‏ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو حيوة‏:‏ «تَسْقُط» بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف‏.‏ وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن‏:‏ «يُساقِط» بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف‏.‏ وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار‏:‏ «يُسْقِط» برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني مثله، إِلا أنه بالتاء‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر مثله، إِلا أنه بالنون‏.‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة‏:‏ «يَسْقُط» بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف‏.‏ وقرأ أبو السماك العدوي، وابن حزام‏:‏ «تتساقط» بتاءين مفتوحين وبألف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من قرأ «يسَّاقط» فالمعنى‏:‏ يتساقط، فأدغمت التاء في السين‏.‏ ومن قرأ «تسَّاقط»، فكذلك أيضاً، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث‏.‏ ومن قرأ «تساقط» بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من «تتساقط» اجتماع التاءين‏.‏ ومن قرأ «يُساقط» ذهب إِلى معنى‏:‏ يُساقط الجذع عليك‏.‏ ومن قرأ «نُساقط» بالنون، فالمعنى‏:‏ نحن نُساقط عليك، فنجعله لك آية، والنحويون يقولون‏:‏ إِن «رطباً» منصوب على التمييز إِذا قلت‏:‏ يسَّاقط أو يتساقط، المعنى‏:‏ يتساقط الجزع رطباً‏.‏ وإِذا قلت‏:‏ تسَّاقط بالتاء، فالمعنى‏:‏ تتساقط النخلة رطباً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَنِيّاً‏}‏ قال الفراء‏:‏ الجَنِيّ‏:‏ المجتنى، وقال ابن الأنباري‏:‏ هو الطريُّ، والأصل‏:‏ مجنوٌّ، صُرف من مفعول إِلى فعيل، كما يقال‏:‏ قديد، وطبيخ‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو الطريّ بغباره‏:‏ ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليها، سقط الرطب رَطْباً‏.‏ وكان السلف يستحبُّون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلي‏}‏ أي‏:‏ من الرطب ‏{‏واشربي‏}‏ من النهر ‏{‏وقَرِّي عينا‏}‏ بولادة عيسى عليه السلام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ قَرِرت به عيناً أقَر، بفتح القاف في المستقبل، وقَرِرت في المكان أقر، بكسر القاف، و«عيناً»‏:‏ منصوب على التمييز‏.‏

وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال‏:‏ معنى «وقرِّي عيناً»، ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارَّة‏.‏ واشتقاق «قرِّي» من القَرور، وهو الماء البارد‏.‏ وقال لنا أحمد بن يحيى‏:‏ تفسير «قرِّي عيناً» بلغتِ غاية أملك حتى تقرَّ عينك من الاستشراف إِلى غيره، واحتج بقول عمرو ابن كلثوم‏:‏

بيوم كريهةٍ ضرباً وطعناً *** أقرَّ به مواليك العيونا

أي‏:‏ ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرَّت عينهم من تطلّع إِلى غيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما تَرَيِنّ‏}‏ وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري‏:‏ «ترئِنَّ» بهمزة مكسورة من غير ياء‏.‏ أي‏:‏ إِن رأيتِ من البشر أحداً فقولي؛ وفيه إِضمار تقديره‏:‏ فسألك عن أمر ولدك‏.‏ ‏{‏فقولي إِنِّي نذرتُ للرحمن صوماً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ صمتاً، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك؛ وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي‏:‏ «صمتاً» مكان قوله‏:‏ «صوماً»‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ صياماً‏.‏

والثاني‏:‏ صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إِلا من ذِكْر الله عز وجل‏.‏ قال السدي‏:‏ فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ أُمِرتْ بالصمت، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها مما يُبرِّئ به ساحتها‏.‏ وقيل‏:‏ كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ، يقال‏:‏ صوم لترك الطعام والشراب، وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذَرْق النعام‏.‏

واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبِّه‏.‏

والثاني‏:‏ بنت اثنتي عشرة سنة، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والثالث‏:‏ بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتت به قومها تحمله‏}‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ أتتهم به بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها‏.‏ وقال في رواية الضحاك‏:‏ انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتتْ به قومها تحمله‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ «أتت به» يغني عن «تحمله» فلا فائدة للتكرير‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهَّم السامع «فأتت به» أن يكون ساعياً على قدميه، فيكون سعية آيةً كنطقه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مِثْل قول العرب‏:‏ نظرت إِلى فلان بعيني، فنفَوْا بذلك نظر العطف؛ والرحمة، وأثبتوا ‏[‏أنه‏]‏ نظرُ عَيْنٍ‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ لما دخلت على قومها بَكَوْا، وكانوا قوماً صالحين؛ و‏{‏قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ شيئاً عظيماً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏ قال الفراء‏:‏ الفريُّ‏:‏ العظيم، والعرب تقول‏:‏ تركته يفري الفريَّ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس، قيل هذا فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فما رأيت عبقرياً يفري فَرْيَ عمر ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ عَجباً فائقاً، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ شيئاً مصنوعاً، ومنه يقال‏:‏ فريت الكذب، وافتريته، قاله اليزيدي‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أخت هارون‏}‏ في المراد بهارون هذا خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أخ لها من أُمِّها، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كان من أبيها وأُمِّها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وقال السدي‏:‏ كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنُسبت إِليه، لأنها من ولده‏.‏

والثالث‏:‏ أنه رجل صالح كان في بني إِسرائيل، فشبَّهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏"‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أهل نجران، فقالوا‏:‏ ألستم تقرؤون‏:‏ «يا أخت هارون» وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى‏؟‏ فلم أدرِ ما أُجيبهم، فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فقال‏:‏ «ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم» ‏"‏‏.‏ والرابع‏:‏ أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به، قاله وهب بن منبِّه‏.‏ فعلى هذا يخرج في معنى «الأخت» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الأخت حقيقة‏.‏

والثاني‏:‏ المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نريهم من آية إِلا هي أكبر من أختها‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 48‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان أبوكِ‏}‏ يعنون‏:‏ عِمران ‏{‏امرأَ سَوْءٍ‏}‏ أي‏:‏ زانياً ‏{‏وما كانت أُمُّكِ‏}‏ حنَّة ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ أي‏:‏ زانية، فمن أين لكِ هذا الولد‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأشارت‏}‏ أي‏:‏ أومأت ‏{‏إِليه‏}‏ أي‏:‏ إِلى عيسى فتكلَّم‏.‏

وقيل المعنى‏:‏ أشارت إِليه أنْ كلِّموه‏.‏ وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت قومها، وقال‏:‏ يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلِّموه، تعجَّبوا من ذلك، و‏{‏قالوا كيف نكلِّم من كان‏}‏ وفيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها زائدة، فالمعنى كيف نكلِّم صبياً في المهد‏؟‏‏!‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في معنى‏:‏ وقع، وحدث‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى‏:‏ من يكن في المهد صبياً، فكيف نكلِّمه‏؟‏‏!‏ حكاها الزجاج، واختار الأخير منها؛ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا كما تقول‏:‏ كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء‏.‏

والرابع‏:‏ أن «كان» بمعنى‏:‏ صار، قاله قطرب‏.‏

وفي المراد بالمهد قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ حِجْرُها، قاله نوفٌ، وقتادة، والكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ سرير الصبي المعروف، حكاه الكلبي أيضاً‏.‏

قال السدي‏:‏ فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، فقال‏:‏ إِني عبد الله‏.‏ قال المفسرون‏:‏ إِنما قدَّم ذِكر العبودية، ليُبطلَ قول من ادَّعى فيه الربوبية‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏آتانيَ الكتاب‏}‏ أسكن هذه الياء حمزة‏.‏ وفي معنى الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أُمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ علم التوراة والإِنجيل وهو في بطن أُمه‏.‏

والثاني‏:‏ قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة‏.‏

وفي «الكتاب» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه التوراة‏.‏

والثاني‏:‏ الإِنجيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلني نبيّاً‏}‏ هذا وما بعده إِخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إِيَّاه مما سيظهر ويكون‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيّاً إِذا بلغتُ؛ فحلَّ الماضي محلَّ المستقبل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قال الله يا عيسى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وفي وقت تكليمه لهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كلَّمهم بعد أربعين يوماً‏.‏

والثاني‏:‏ في يومه‏.‏ وهو مبنيٌّ على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلني مبارَكاً أينما كنتُ‏}‏ روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال‏:‏ ‏"‏ نفّاعاً حيثما توجهت ‏"‏ وقال مجاهد‏:‏ معلِّماً للخير‏.‏

وفي المراد «بالزكاة» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ زكاة الأموال، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ الطهارة، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبَرّاً بوالدتي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لمَّا قال هذا، ولم يقل‏:‏ «بوالديّ» علموا أنه وُلد من غير بَشَر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يجعلني جباراً‏}‏ أي‏:‏ متعظِّماً ‏{‏شقيّاً‏}‏ عاصياً لربه ‏{‏والسَّلام عليَّ يومَ وُلدتُ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ السلامة عليَّ من الله يوم وُلدتُ حتى لم يضرَّني شيطان‏.‏ وقد سبق تفسير الآية ‏[‏مريم‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم ذكر هاهنا «السلام» بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لمّا جرى ذِكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يَرِد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج‏.‏

وقد اعتُرِض على هذا القول، فقيل‏:‏ كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأول وهو قول الله عز وجل‏؟‏‏!‏

وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال‏:‏ عيسى إِنما يتعلَّم من ربِّه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرَّف السلام الثاني لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصدٍ به إِتباع اللفظ المحكيّ، لأن المتكلِّم، له أن يغيِّر بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول‏:‏ قال عبد الله‏:‏ أنا رَجُل منصف، يريد‏:‏ قال لي عبد الله‏:‏ أنتَ رَجُل منصِف‏.‏

والجواب الثاني‏:‏ أن سلاماً والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك عيسى ابن مريم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي، ذلك الذي قال‏:‏ إِني عبد الله، هو ابن مريم، لا ما تقول النصارى‏:‏ إِنه ابن الله، وإِنه إِله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قولَ الحق‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي‏:‏ «قولُ الحق» برفع اللام‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب‏:‏ بنصب اللام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من رفع «قولُ الحق» فالمعنى‏:‏ هو قولُ الحق، يعني هذا الكلام؛ ومن نصب، فالمعنى‏:‏ أقول قول الحقّ‏.‏ وذكر ابن الأنباري في الآية وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما وُصف بالكلمة جاز أن يُنعت بالقول‏.‏

والثاني‏:‏ أن في الكلام إِضماراً، تقديره‏:‏ ذلك نبأُ عيسى، ذلك النبأ قول الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي فيه يمترون‏}‏ أي‏:‏ يشكُّون‏.‏ قال قتادة‏:‏ امترت اليهود فيه والنصارى، فزعم اليهود أنه ساحر، وزعم النصارى أنه ابن الله وثالث ثلاثة‏.‏ قرأ أبو مجلز، ومعاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء‏:‏ «تمترون» بالتاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لِلهِ أن يتَّخِذ مِن ولد‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أن يتخذ ولداً‏.‏ و«مِنْ» مؤكِّدة تدل على نفي الواحد والجماعة، لأن للقائل أن يقول‏:‏ ما اتخذت فرساً، يريد‏:‏ اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول‏:‏ ما اتخذت فرسين ولا أكثر، يريد‏:‏ اتخذت فرساً واحداً؛ فإذا قال‏:‏ ما اتخذت من فرس، فقد دلَّ على نفي الواحد والجميع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة‏:‏ «فيكونَ» بالنصب، وقد ذكرنا وجهه في ‏[‏البقرة 117‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنّ الله ربِّي وربُّكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «وأنّ الله» بنصب الألف‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «وإِن الله» بكسر الألف‏.‏ وهذا من قول عيسى؛ فمن فتح، عطفه على قوله‏:‏ ‏{‏وأوصاني بالصَّلاة والزَّكاة‏}‏ وبأن الله ربّي؛ ومن كسر، ففيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون معطوفاً على قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي عبد الله‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون مستأنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاختلف الأحزاب مِنْ بينهم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ «مِنْ» زائدة، والمعنى‏:‏ اختلفوا بينهم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لما تمسَّك المؤمنون بالحق، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصوراً عليهم‏.‏

وفي الأحزاب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود والنصارى، فكانت اليهود تقول‏:‏ إِنه لغير رِشْدَةٍ، والنصارى تدَّعي فيه ما لا يليق به‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم فِرَق النصارى، قال بعضهم‏:‏ هو الله، وقال بعضهم‏:‏ ابن الله، وقال بعضهم‏:‏ ثالث ثلاثة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين كفروا‏}‏ بقولهم في المسيح ‏{‏مِنْ مَشْهَدِ يومٍ عظيمٍ‏}‏ أي‏:‏ من حضورهم ذلك اليوم للجزاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْمِع بهم وَأَبْصِرْ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر؛ فالمعنى‏:‏ ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إِلى نظر وفِكر فعلموا الهدى وأطاعوا، هذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أَسْمِع بحديثهم اليوم، وأبصِرْ كيف يُصنَع بهم ‏{‏يوم يَأتوننا‏}‏، قاله أبو العالية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الظالمون‏}‏ يعني‏:‏ المشركين والكفار ‏{‏اليومَ‏}‏ يعني‏:‏ في الدنيا ‏{‏في ضلال مبين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْذِرهم‏}‏ أي‏:‏ خوِّف كفَّار مكة ‏{‏يومَ الحسرة‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة يتحسَّر المسيء إِذ لم يُحْسِن، والمقصِّر إِذ لم يَزْدَدْ من الخير‏.‏

وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرةٌ، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل‏:‏ يا أهل الجنة، فيشرئِبُّون وينظرون، وقيل‏:‏ يا أهل النار فيشرئبُّون وينظرون، فيُجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ هذا الموت، فيُذبَح، ثم يقال‏:‏ يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت؛ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وأَنذِرهم يومَ الحسرة إِذْ قُضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون‏}‏ ‏"‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فهذه هي الحسرة إِذا ذُبِح الموت، فلو مات أحد فرحاً مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزناً مات أهل النار‏.‏

ومن موجبات الحسرة، ما روى عديُّ بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ «يؤتى يوم القيامة بناسٍ إِلى الجنة، حتى إِذا دَنَوْا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إِلى قصورها، نودوا‏:‏ أن اصرفوهم عنها، لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرةٍ مَا رَجَعَ الأوَّلُون بمثلها، فيقولون‏:‏ يا ربنا لو أدخلْتَنا النار قبل أن تُرِيَنا ما أريتَنا كان أهون علينا؛ قال‏:‏ ذلك أردتُ بكم، كنتم إِذا خَلَوْتُمْ بارزتموني بالعظائم، وإِذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هِبْتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تُجِلُّوني، تركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أُذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب ‏"‏‏.‏

ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال‏:‏ ليس من نفس يوم القيامة إِلا وهي تنظر إِلى بيت في الجنة، وبيت في النار، ثم يقال‏:‏ يعني لهؤلاء‏:‏ لو عملتم، ولأهل الجنة‏:‏ لولا أن منَّ الله عليكم‏.‏ ومن موجبات الحسرة‏:‏ قطع الرجاءِ عند إِطباق النار على أهلها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قُضي الأمر‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ «قُضي» في اللغة بمعنى‏:‏ أُتقن وأُحكم، وإِنما سمِّي الحاكم قاضياً، لإِتقانه وإِحكامه ما ينفِّذ‏.‏ وفي الآية اختصار، والمعنى‏:‏ إِذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم‏.‏

وللمفسرين في الأمر قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ذبح الموت، قاله ابن جريج، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ قُضي العذاب لهم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم في غفلة‏}‏ أي‏:‏ هم في الدنيا في غفلة عما يُصنَع بهم ذلك اليوم ‏{‏وهم لا يؤمنون‏}‏ بما يكون في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّا نحن نرث الأرض‏}‏ أي‏:‏ نُميت سكَّانها فنرثها ‏{‏ومَنْ عليها وإِلينا يُرْجَعون‏}‏ بعد الموت‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الفائدة في «نحن» وقد كفت عنها «إنّا»‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه لما جاز في قول المعظَّم‏:‏ «إِنّا نفعل» أن يوهم أن أتباعه قعلوا، أبانت «نحن» بأن الفعل مضاف إِليه حقيقة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم قال‏:‏ «ومَنْ عليها» وهو يرث الآدميين وغيرهم‏؟‏‏!‏

فالجواب‏:‏ أن «مَنْ» تختص أهل التمييز، وغيرُ المميِّزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري‏.‏