فصل: فصل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل

عدنا إلى سياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم

فلما كان بِسَرِف ، قال لأصحابه ‏:‏ ‏(‏ مَنْ لَمْ يكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً ، فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدىٌ فَلاَ ‏)‏ ‏.‏ وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات ‏.‏

فلما كان بمكة ، أمر أمراً حتماً ‏:‏ مَنْ لا هَدْى معه أن يجعلها عُمْرة ، ويَحِلَّ من إحرامه ، ومَن معه هَدْى ، أن يُقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شئ البتة ، بل سأله سُراقة بنُ مالك عن هذه العُمرة التي أمرهم بالفسخ إليها ، هل هي لِعَامِهِمْ ذَلِكَ ، أَمْ لِلأبَدِ ‏:‏ قال ‏:‏ ‏(‏ بَلْ لِلأبَد ، وإن العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ في الحجِّ إلَى يَوْمِ القِيامَة ‏)‏ ‏.‏

وقد روى عنه صلى اللَّه عليه وسلم الأمرَ بفسخِ الحَجِّ إلى العُمْرة أربعةَ عشرَ مِن أصحابه ، وأحاديثُهم كلُّها صحاح ، وهم ‏:‏ عائشةُ ، وحفصة أُمَّا المؤمنين ، وعلىُّ بن أبى طالب ، وفاطمةُ بنتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأسماءُ بنت أبى بكر الصِّدِّيق ، وجابرُ بن عبد اللَّه ، وأبو سعيد الخُدرى ، والبراءُ بن عازب ، وعبدُ اللَّه بن عمر ، وأنسُ بن مالك ، وأبو موسى الأشعرى ، وعبدُ اللَّه ابن عباس ، وسَبْرَةُ بنُ معبَدٍ الجُهنى ، وسُرَاقةُ بن مَالِكٍ المُدْلِجِىُّ رضى اللَّه عنهمْ ‏.‏‏.‏ ونحن نشير إلى هذه الأحاديث ‏.‏

ففى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ‏:‏ عن ابن عباس ، قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صَبِيحَةَ رابعةٍ مُهلِّين بالحَجِّ ، فأمرهم أن يجعلُوها عُمْرة ، فتعاظَم ذلك عندهم ، فقالوا ‏:‏ يا رسول اللَّه ؛ أىُّ الحلِّ ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ الحِلُّ كُلُّه ‏)‏ ‏.‏

وفى لفظ لمسلم ‏:‏ قدِم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابُه لأربع خَلَوْنَ من العشر إلى مكة ، وهم يُلبُّون بالحج ، فأمرهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عُمرةً ، وفى لفظ ‏:‏ وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعُمْرة إلا مَن كان معه الهَدْى ‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن جابر بنِ عبد اللَّه ‏:‏ أهلَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجِّ ، وليس مع أحد منهم هَدْى غير النبى صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقَدِمَ على رضى اللَّه عنه من اليمن ومعه هَدْى ، فقال ‏:‏ أهللتُ بما أهلَّ به النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عُمْرة ، ويطوفوا ، ويقصروا ، ويَحِلُّوا إلا مَن كان معه الهَدْىُ ، قالوا‏:‏ ننطلِقُ إلى مِنَى وَذَكَرُ أحدنا يقطُرُ ‏؟‏ فبلغ ذلك النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ ، ولَوْلا أنَّ معىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ ‏)‏ ‏.‏ وفى لفظ ‏:‏ فقام فينا فقال ‏:‏ ‏(‏ لَقَدْ عَلِمْتُم أنِّى أَتْقاكُم للّه ، وأَصْدَقُكُم ، وأَبَرُّكُمْ ، وَلَوْلاَ أنَّ معىَ الهَدْى لحَلَلْت كَما تَحِلُّون ، ولَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ، لم أَسُق الهَدْىَ ، فحُلُّوا ‏)‏ فَحَلَلْنا ، وسَمعنا وأطعَنا ، وفى لفظ ‏:‏ أمرنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أحللْنا ، أن نُحْرِمَ إذا تَوجَّهْنَا إلى مِنَى ‏.‏ قال ‏:‏ فأَهْلَلْنا من الأَبْطَح ، فَقَالَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِك بْنِ جُعْشُم ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ للأَبَدِ ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ لِلأبَدِ ‏)‏ ‏.‏ وهذه الألفاظُ كلُّها في الصحيح وهذا اللفظُ الأخير صريح في إبطال قولِ مَنْ قال ‏:‏ إن ذلك كان خاصاً بهم ، فإنه حينئذ يكون لِعامهم ذلك وحده لا للأبد ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ إنَّهُ لِلأبَدِ ‏.‏

وفى ‏(‏ المسند ‏)‏ ‏:‏ عن ابن عمر ، قَدِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابُه مُهلِّينَ بالحجِّ ، فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ شَاءَ أنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَه الهَدْىُ ‏)‏ ‏.‏ قالُوا ‏:‏ يا رسولَ اللَّه ؛ أيروحُ أحدُنا إلى مِنَى وَذَكَرُه يَقطُرُ مَنيَّاً ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ نَعَمْ ‏)‏ وسَطَعتِ المَجامِرُ ‏.‏

وفى السنن ‏:‏ عن الرَّبيع بن سَبْرَة ، عَنْ أَبِيه ‏:‏خرجْنَا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كُنَّا بعُسفان ، قال سُراقة بن مَالك المُدْلجىُّ ‏:‏ يا رسول اللَّه ؛ اقْضِ لنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأنَّما وُلِدُوا اليَوْمَ ، فَقَال ‏:‏ ‏(‏ إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُم في حَجَّة عُمْرَةً ، فإذا قَدِمْتم ، فَمن تَطَوَّفَ بالبَيْتِ وسَعَى بيْن الصَّفَا والمَرْوَة ، فَقدْ حَلَّ إلاَّ مَنْ مَعَهُ هَدْى ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن عائشة ‏:‏ خرجْنَا معَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ ‏.‏‏.‏‏.‏ فذكرتِ الحديثَ ، وفيه ‏:‏ فلما قَدِمْنَا مكة ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ‏:‏ ‏(‏ اجْعَلوهَا عُمْرَةً ‏)‏ فأحلَّ الناسُ إلا مَنْ كان معه الهَدْى ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكَرَتْ باقى الحديث ‏.‏

وفى لفظ للبخارى ‏:‏ خرجْنَا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَرى إلا الحَجَّ ، فلما قَدِمْنَا تطوَّفْنَا بالبيت ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْى أن يَحِلَّ ، فحلَّ مَن لم يكن ساقَ الهَدْى ونساؤه لم يَسُقْن ، فأحللن ‏.‏

وفى لفظ لمسلم ‏:‏ ‏(‏دخل علىَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غضبانُ ، فقلتُ ‏:‏ مَنْ أغضَبكَ يا رسولَ اللَّهِ أدخله اللَّه النار ‏.‏ قال ‏:‏ أوَ ما شَعَرْتِ أنِّى أمَرْتُ النَّاسَ بأَمْرٍ ، فإذا هُم يَتَرَدَّدُون ، ولو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ ‏.‏ ما سُقْتُ الهَدْىَ معى حَتَّى أَشْتَرِيَهُ ، ثُمَّ أحِلَّ كما حَلُّوا ‏)‏ ‏.‏ وقال مالك ‏:‏ عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرة ، قالت ‏:‏ سمعتُ عائشة تقولُ ‏:‏ خرجْنَا معَ رسولِ صلى الله عليه وسلم لخمس ليالٍ بَقِينَ مِن ذى القِعْدة ، ولا نَرى إلا أنه الحَجُّ ، فلما دَنَونا مِن مكة ، أمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن معه هَدْى إذا طافَ بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يَحِلَّ ، قال يحيى بن سعيد ‏:‏ فذكرتُ هذا الحديثَ للقاسم بن محمد ، فقال ‏:‏ أتتك واللَّهِ بالحديثِ على وجهه ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ عن ابن عمر ، قال ‏:‏ حدَّثتنى حفصةُ ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَداعِ ، فَقُلْتُ ‏:‏ ما مَنَعَكَ أَنْ تَحِلَّ ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى ، وقَلَّدْتُ هَدْيى ، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الهَدْىَ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ عن أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه عنهما ، خرجنا مُحرِمِينَ ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرامِه ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَحْلِلْ ‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكرتِ الحديث ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ أيضاً ‏:‏ عن أبى سعيد الخُدرى ، قال ‏:‏ خرجْنَا مَعَ رَسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، نَصْرُخُ بالحجِّ صُراخاً ، فلما قَدِمْنَا مكَّة أمَرنا أن نَجْعَلَها عُمْرةً إلا مَنْ سَاقَ الهَدْىَ ، فلما كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، وَرُحْنَا إلى مِنَى ، أهللنَا بالحَجِّ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ ‏:‏ عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما ، قال ‏:‏ أهَلَّ المُهاجرُونَ والأَنْصارُ ، وأزواجُ النبى صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاع ، وأهللنَا فلما قَدِمْنَا مَكَّة ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ اجْعَلُوا إهْلاَلَكُم بالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث ‏.‏

وفى ‏(‏ السنن ‏)‏ عن البرَّاء بن عازب ‏:‏ خرجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه ، فأحرمْنَا بالحجِّ ، فلما قَدِمنَا مكة ، قال ‏:‏ ‏(‏ اجْعَلوا حَجَّكُم عُمْرَة ‏)‏ ‏.‏ فقال الناسُ‏:‏ يا رسول اللَّهِ ؛ قد أحرمنا بالحَجِّ ، فكيف نجعلُها عُمْرَةً ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلوهُ ‏)‏ فردَّدُوا عليه القولَ ، فَغَضِبَ ، ثم انطلق حتَّى دخل على عائشة وهو غَضْبانُ ، فرأتِ الغضَب في وجهه فقَالت ‏:‏ مَنْ أَغْضَبَكَ أغضبه اللَّهُ ، فَقَالَ ‏:‏ ‏(‏ وَمَا لِىَ لا أَغْضَبُ وأَنَا آمُرُ أَمْراً فَلا يُتَّبَعُ ‏)‏ ‏.‏

ونحن ، نُشهِدُ اللَّه علينا أنَّا لو أحرمنا بحَجٍّ ، لرأينا فرضاً علينا فسخهُ إلى عُمْرة تفادياً مِن غضبِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، واتباعاً لأمره ‏.‏ فواللَّهِ ما نُسِخَ هذا في حَياتِهِ ولا بَعْدَهُ ، ولا صحَّ حَرْفٌ واحِد يُعارضه ، ولا خصَّ به أصحابَه دُونَ مَنْ بعدهم ، بل أجرى اللَّه سبحانه على لِسان سُراقة أن يسأله ‏:‏ هل ذلك مختصٌ بهم ‏؟‏ فأجاب بأنَّ ذلك كائن لأبد الأبد ، فما ندرى ما نُقدِّم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكَّد الذي غضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مَن خالفه ‏.‏

وللّه دَرُّ الإمام أحمد رحمه اللَّه إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له ‏:‏ يا أبا عبد الله ؛ كُلُّ أمرِك عِندى حَسن إلا خَلَّةً واحِدةً ‏:‏ قال ‏:‏ وما هي ‏؟‏ قال ‏:‏ تقولُ بفسخ الحَجِّ إلى العُمْرة ‏.‏ فقال ‏:‏ يا سلمة ؛ كنتُ أرى لكَ عقلاً ، عندى في ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أأتركُها لِقَوْلكَ ‏؟‏،

وفى ‏(‏ السنن ‏)‏ عن البرَّاء بن عازب ، أن علياً رضى اللَّه عنه لما قَدِمَ على رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من اليمن ، أدرك فاطمةَ وقد لبست ثياباً صَبِيغاً ، ونَضَحَتِ البَيْتَ بِنَضُوحٍ ، فَقَالَ ‏:‏ مَا بَالُكِ ‏؟‏ فَقالَت ‏:‏ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَر أصْحَابَه فَحَلُّوا ‏.‏

وقال ابنُ أبى شيبة ‏:‏ حدَّثنا ابنُ فضيل ، عن يزيد ، عن مجاهد ، قال ‏:‏ قال عبدُ اللَّهِ بنُ الزبير ‏:‏ أفرِدُوا الحَجَّ ، ودَعُوا قولَ أعماكُم هَذَا ‏.‏ فقال عبدُ اللَّهِ ابنُ عباس ‏:‏ إن الذي أعمى اللَّه قلبَه لأنتَ ، ألا تسألُ أُمَّك عَنْ هذا ‏؟‏ فأرسلَ إليها، فقالَتْ ‏:‏ صَدَقَ ابْنُ عَبَّاس ، جِئنا مَعَ رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم حُجَّاجاً ، فجعلناها عُمْرَةً ، فحللنا الإحلالَ كُلَّه ، حتَّى سَطَعَتِ المَجَامِرُ بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّساء ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ عن ابن شِهاب ، قال ‏:‏ دخلتُ على عطاء أستفتِيه ، فقال ‏:‏ حدّثنى جابرُ بنُ عبد اللَّه ‏:‏ أنه حجَّ مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم ساق البُدن معه ، وقد أهلُّوا بالحجِّ مفرداً ، فقال لهم ‏:‏ ‏(‏ أَحِلُّوا مِنْ إحْرامِكُم بِطَوَافٍ بالبَيْتِ ، وبَيْنَ الصَّفَا والْمروَة ، وقَصِّرُوا ، ثُمَّ أقِيمُوا حَلالاً ، حَتَّى إذَا كَانَ يَومُ التَّرْوِيَةِ ، فأهِلُّوا بالحَجِّ واجْعَلُوا التي قَدِمْتُم بها مُتْعَةٌ ‏)‏ ‏.‏ فقالُوا ‏:‏ كَيْفَ نَجْعَلُها مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ افْعَلُوا مَا آمُرُكُم به ، فَلَوْلا أنى سُقْتُ الهَدْى ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذي أَمَرْتُكُم بِهِ ، وَلَكِنْ لا يحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ ، حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّه ‏)‏ ، ففعلُوا ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيحه ‏)‏ أيضاً عنه ‏:‏ أهلَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحَجِّ ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث ‏.‏ وفيه ‏:‏ فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عُمرةً ، ويطوفوا ، ثم يقصِّروا إلا مَن ساق الهَدْى ‏:‏ فقالوا ‏:‏ أننطلق إلى مِنَى وذَكَرُ أحَدنا يقطُر ‏؟‏ فبلَغ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ما أَهْدَيْتُ ولوْلا أنَّ معى الهَدْى ، لأَحْلَلْتُ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ عنه في حَجة الوداع ‏:‏ حتى إذا قَدِمنا مكَّة ، طُفنا بالكعبة وبالصَّفا والمروة ، فأمرنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أن يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لم يكُن معه هَدْى ، قال ‏:‏ فقُلنا ‏:‏ حِلُّ ماذا ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ الحِلُّ كُلُّه ‏)‏ ، فواقعنا النِّسَاءَ ، وتَطيَّبنَا بالطِّيب ، ولَبِسْنَا ثيابَنا ، ولَيْس بيننا وبَيْنَ عَرفة إلا أربعُ ليال ، ثم أهللنا يَوْمَ التروية ‏.‏

وفى لفظ آخَر لمسلم ‏:‏ ‏(‏ فمَنْ كَانَ منْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً ، فحلَّ الناسُ كُلُّهُم وقصَّروا إلا النبىَّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ كَان مَعَهُ هَدْى ، فلما كان يَوْمُ التروية ،توجَّهُوا إلى مِنَى ، فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ

وفى ‏(‏ مسند البزار ‏)‏ بإسناد صحيح ‏:‏ عن أنس رضىَ اللَّه عنه ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، أهلَّ هُوَ وأصحابُه بالحَجِّ والعُمْرة ، فلما قدموا مكة ، طافوا بالبيت والصفا والمروة ، وأمرهم رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يَحِلُّوا ، فهابوا ذلك ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏(‏ أَحِلُّوا فَلَوْلاَ أَنَّ مَعى الهَدْىَ ، لأَحْلَلْتُ ‏)‏ ، فأحلُّوا حَتَّى حَلُّوا إلى النِّسَاءِ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ ‏:‏ عن أنس ، قال ‏:‏ ‏(‏ صلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً ، والعصر بذى الحُليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به راحلتُه على البيداءِ ، حَمِدَ اللَّه ، وسبَّح ، ثم أهلَّ بحَجٍّ وعُمرة ، وأهلَّ الناسُ بهما ، فلما قَدِمْنَا أمر الناس فحلُّوا ، حتى إذا كان يومُ التَّروية ، أهلُّوا بالحَجِّ ‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر باقى الحديث ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيحه ‏)‏ أيضاً ‏:‏ عن أبى موسى الأشعرى ، قال ‏:‏ بعثنى رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى قومى باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فَقَالَ ‏:‏ ‏(‏ بِمَ أَهْلَلْتَ ‏)‏ ‏؟‏ فَقُلْتُ ‏:‏ أَهْلَلْتُ بإِهَلالِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فَقَالَ ‏:‏ ‏(‏ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْى ‏)‏ ‏؟‏ قلتُ ‏:‏ لا ، فأَمَرَنى ، فطُفْتُ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ، ثمَّ أَمرَنى فَأَحْلَلْتُ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ أن رجلاً من بنى الهُجَيْمِ قال لابن عبَّاس ‏:‏ ما هَذِه الفُتيا التي قَدْ تشغَّبَت بالنَّاس ، أنَّ مَنْ طَافَ بالبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ ‏؟‏ فَقَالَ ‏:‏ سُّـنَّة نَبِيِّكُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسَلَّم وإنْ رَغِمْتُم ‏.‏

وصدق ابنُ عباس ، كُلُّ مَن طاف بالبيت ممن لا هَدْى معه مِن مفرِد ، أو قارِن ، أو متمتِّع ، فقد حلَّ إما وجوباً ، وإما حكماً ، هذه هي السُّـنَّة التي لا رادَّ لها ولا مدفع ، وهذا كقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏(‏ إذَا أدْبَرَ النَّهارُ مِنْ هاهنا ، وأقْبَلَ الليل مِنْ هاهنا ، فقد أفْطَرَ الصَّائِم ‏)‏ ، إما أن يكون المعنى ‏:‏ أفطر حكماً ، أو دخل وقت إفطاره ، وصار الوقتُ في حقه وقتَ إفطار ‏.‏ فهكذا هذا الذي قد طاف بالبيت ، إما أن يكون قد حلَّ حُكماً ، وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقتَ إحرام ، بل هو وقتُ حِلٍّ ليس إلا ، ما لم يكن معه هَدْى ، وهذا صريحُ السُّـنَّة ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ أيضاً عن عطاء قال ‏:‏ كان ابنُ عباس يقولُ ‏:‏ لا يطوف بالبيتِ حَاج ولا غيرُ حاجٍّ إلا حَلَّ ‏.‏ وكانَ يقولُ ‏:‏ هُوَ بَعْدَ المُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ ، وكان يأخذُ ذلك مِن أمر النبىَّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، حين أمرهم أن يَحِلَّوا في حَجَّةِ الوَدَاع ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ عن ابن عباس ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏(‏ هذه عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بها ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الهَدْىُ ، فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ فَقَدْ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةَ ‏)‏ ‏.‏

وقال عبد الرزاق ‏:‏ حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أبى الشَّعثاء ، عنِ ابن عباس قال ‏:‏ مَنْ جَاءَ مُهِلاً بالحَجِّ ، فإنَّ الطَّوافَ باليَيْتِ يُصَيِّرُه إلى عُمْرَةٍ شَاءَ أوْ أَبَى ، قُلْتُ ‏:‏ إن النَّاسَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْكَ ، قَالَ ‏:‏ هِيَ سُّـنَّة نَبِّيهِمْ وإنْ رَغِمُوا‏.‏

وقد روى هذا عنِ النبى صلى الله عليه وسلم مَنْ سمَّيْنا وغيرهم ، وروى ذلك عنهم طوائفُ مِن كبار التابعين ، حتى صار منقولاً نقلاً يرفع الشكَّ ، ويُوجب اليقينَ ، ولا يُمكن أحداً أن ينكره ، أو يقول ‏:‏ لم يقع ، وهو مذهبُ أهل بيت رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ومذهبُ حَبْر الأُمة وبحرها ابنِ عباس وأصحابهِ ، ومذهبُ أبى موسى الأشعرى ، ومذهبُ إمام أهل السُّـنَّة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه ، وأهل الحديث معه ، ومذهب عبد اللَّه بن الحسن العنبرى قاضى البصرة ، ومذهب أهل الظاهر ‏.‏

والذين خالفوا هذه الأحاديث ، لهم أعذار ‏.‏

العذر الأول ‏:‏ أنها منسوخة ‏.‏

العذر الثانى ‏:‏ أنها مخصوصة بالصحابة ، لا يجوزُ لِغيرهم مشاركُتهم في حكمها ‏.‏

العذر الثالث ‏:‏ معارضُتها بما يَدُلُّ على خلاف حُكمها ، وهذا مجموعُ ما اعتذروا به عنها ‏.‏

ونحن نذكر هذه الأعذار عُذْراً عُذْراً ، ونبيِّنُ ما فيها بمعونة اللَّه وتوفيقه ‏.‏

أما العذر الأول ، وهو النسخ ، فيحتاج إلى أربعة أُمور ، لم يأتوا منها بشئ يحتاج إلى نصوص أُخر ، تكون تِلك النصوصُ معارضة لهذه ، ثم تكونُ مع هذه المعارضة مقاومة لها ، ثم يُثبت تأخرُّها عنها ‏.‏ قال المدَّعون للنسخ ‏:‏ قال عمر بن الخطاب السِّجستانى ‏:‏ حدثنا الفريابى ، حدثنا أبان بن أبى حازم ، قال‏:‏ حدثنى أبو بكر بن حفص ، عن ابن عُمر ، عن عُمَرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه أنه قال لما ولى ‏:‏ ‏(‏ يا أيُّها الناس ؛ إن رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أحلَّ لنا المتُعة ثم حرَّمها علينا ‏)‏ رواه البزار في ‏(‏ مسنده ‏)‏ عنه

قال المبيحون للفسخ ‏:‏ عجباً لكم في مُقاومة الجبال الرَّواسى التي لا تُزعزِعُها الرِّياحُ بِكَثِيبٍ مَهيلِ ، تسفيه الرَّياحُ يميناً وشمالاً ، فهذا الحديثُ ، لا سند ولا متن ، أما سندُه ، فإنه لا تقومُ به حُجة علينا عند أهلِ الحديث ، وأما متنُه ، فإن المراد بالمتعة فيه مُتعة النساء التي أحلَّها رسولُ الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ثم حرَّمها ، لا يجوز فيها غيرُ ذلك البتة ، لوجوه ‏.‏

أحدها ‏:‏ إجماعُ الأُمة على أنَّ مُتعة الحَجِّ غيرُ محرَّمة ، بل إما واجبة ، أو أفضلُ الأنساك على الإطلاق ، أو مستحبة ، أو جائزة ، ولا نعلم للأُمة قولاً خامساً فيها بالتحريم ‏.‏

الثانى ‏:‏ أن عُمَرَ بنَ الخطاب رضى اللَّه عنه ، صحَّ عنه مِن غير وجه ، أنه قال‏:‏ لو حججتُ لتمتعتُ ، ثم لو حججتُ لتمتعتُ ‏.‏ ذكره الأثرم في ‏(‏سننه ‏)‏ وغيره

وذكر عبد الرزاق في ‏(‏ مصنفه ‏)‏ ‏:‏ عن سالم بن عبد اللَّه ، أنه سئل ‏:‏ أنهى عمر عن مُتعة الحَجّ ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، أَبَعْدَ كِتابِ اللَّه تعالى ‏؟‏ وذكر عن نافع ، أن رجلاً قال له ‏:‏ أنهى عمر عن مُتعة الحج ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ‏.‏ وذكر أيضاً عن ابن عباس ، أنه قال ‏:‏ هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المُتعة يعنى عمَر سمعتُه يقول ‏:‏ لو اعتمرتُ ، ثم حججتُ ، لتمتَّعتُ ‏.‏

قال أبو محمد بن حزم ‏:‏ صحَّ عن عمر الرجوعُ إلى القول بالتمتع بعد النهى عنه ، وهذا محال أن يرجعَ إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ ‏.‏

الثالث ‏:‏ أنه من المحال أن ينهى عنها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله ‏:‏ هل هي لِعامِهم ذلك أم للأبد ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ بل للأبد ‏)‏ ، وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها ، وهذا أحدُ الأحكام التي يستحيل ورود النسخ عليها ، وهو الحكمُ الذي أخبر الصادق المصدوق باستمراره ودوامه ، فإنه لا خلف لِخبره ‏.‏

فصل‏:‏ في دعوى اختصاص ذلك بالصحابة

العذر الثانى ‏:‏ دعوى اختصاصِ ذلك بالصحابة ، واحتجوا بوجوه ‏:‏

أحدها ‏:‏ ما رواه عبدُ اللَّهِ بنُ الزبير الحُميدى ، حدثنا سُفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن المُرَقِّعِ ، عن أبى ذر أنه قال ‏:‏ كان فسخُ الحجِّ مِن رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لنَا خاصة ‏.‏

وقال وكيع ‏:‏ حدثنا موسى بن عُبيدة ، حدثنا يعقوب بنُ زيد ، عن أبى ذر قال ‏:‏ لم يَكُنْ لأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً ، إنَّها كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مَحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم ‏.‏

وقال البزار ‏:‏ حدّثنا يوسف بن موسى ، حدثنا سلمةُ بنُ الفضل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن الأسدى ، عن يزيد بن شريك ، قُلنا لأبى ذر ‏:‏ كيف تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنتُم معه ‏؟‏ فقال ‏:‏ ما أَنْتُمْ وَذَاكَ ، إنَّما ذَاكَ شَئٌ رُخِّصَ لَنَا فيه ، يعنى المتعة ‏.‏

وقال البزار ‏:‏ حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عُبيد اللَّه بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن أبى بكر التيمى ، عن أبيه والحارث بن سويد قالا ‏:‏ قال أبو ذر في الحجِّ والمتعةِ ‏:‏ رخصةٌ أعطاناها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وقال أبو داود ‏:‏ حدثنا هنّاد بن السِّرِى ، عن ابن أبى زائدة ، أخبرنا محمد ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقولُ فيمن حَجَّ ثُمَّ فَسَخَها إلى عُمْرَةٍ ، لم يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ عن أبى ذر ‏.‏ قال ‏:‏ كانَتِ المُتْعَةُ في الحَجِّ لأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم خَاصَّةً ‏.‏ وفى لفظ ‏:‏ ‏(‏ كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً ‏)‏ ، يَعْنى المُتْعَةَ في الحَجِّ ، وفى لفظ آخر ‏:‏ ‏(‏ لا تَصِحُّ المُتْعَتَانِ إلاَّ لَنَا خَاصةً ‏)‏ ، يَعنِى مُتْعَةَ النِّسَاءِ ومُتْعَةَ الحَجِّ ‏.‏ وفى لفظ آخر ‏:‏ ‏(‏ إنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصّةً دُونَكُم ‏)‏ ، يَعْنِى مُتْعَةَ الحَجِّ ‏.‏

وفى ‏(‏ سنن النسائى ‏)‏ بإسناد صحيح ‏:‏ عن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، عن أبى ذر ، في مُتعِة الحجِّ ‏:‏ لَيْسَتْ لَكُمْ ، ولَسْتُم مِنْهَا في شَئٍ ، إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أصحابَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏.‏

وفى ‏(‏ سنن أبى داود والنسائى ‏)‏ ، من حديث بلال بن الحارث قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول اللَّه ؛ أرأيتَ فسخَ الحجِّ إلى العُمرة لنا خاصَّة ، أم للناس عامة ‏؟‏ فقال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏(‏ بَلْ لَنَا خًَاصَّة ‏)‏ ، ورواه الإمام أحمد ‏.‏

وفى مسند أبى عوانة بإسناد صحيح ‏:‏ عن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، قال‏:‏ سُئِلَ عُثْمَانُ عن مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَال ‏:‏ كَانَتْ لَنَا ، لَيْسَتْ لَكُمْ ‏.‏

هذا مجموعُ ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة ‏.‏

قال المجوِّزون للفسخ ، والموجِبُون له ‏:‏ لا حُجة لكم في شئ من ذلك ، فإنَّ هذه الآثار بين باطل لا يَصِحُّ عمن نُسِب إليه البتة ، وبين صحيح عن قائل غيرِ معصوم لا تُعارَض به نصوصُ المعصوم ‏.‏

أما الأول ‏:‏ فإن المُرَقِّع ليس ممن تقوم بروايته حُجة ، فضلاً عن أن يُقدَّم على النصوص الصحيحة غيرِ المدفوعة ‏.‏ وقد قال أحمد بن حنبل وقد عُورِضَ بحديثه ‏:‏ ومَن المُرقِّع الأسدى ‏؟‏ وقد روى أبو ذر عن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، الأمر بفسخ الحَجّ إلى العُمْرة ‏.‏ وغاية ما نقل عنه إنْ صح ‏:‏ أنّ ذلك مختصٌّ بالصحابة ، فهو رأيه ‏.‏ وقد قال ابن عباس ، وأبو موسى الأشعرى ‏:‏ إنَّ ذلك عام للأُمة ، فرأى أبى ذر معارَض برأيهما ، وسلمت النصوصُ الصحيحةُ الصريحة ، ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلةٌ بنص النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن تلك العُمْرة التي وقع السؤال عنها وكانت عُمْرة فسخ لأبد الأبد ، لا تَختصُّ بقَرن دونَ قرن ، وهذا أصح سنداً من المروى عن أبى ذر ، وأولى أن يُؤخذ به منه لو صحَّ عنه ‏.‏

وأيضاً ‏.‏‏.‏ فإذا رأينا أصحابَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد اختلفوا في أمر قد صحَّ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به ، فقال بعضُهم ‏:‏ إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم ‏:‏ هو باقٍ إلى الأبد ، فقولُ مَن ادَّعى نسخَه أو اختصاصَه مخالف للأصل ، فلا يُقبَلُ إلا ببرهان ، وإنَّ أقلَّ ما في الباب معارضتُه مَن ادَّعى بقاءه وعمومه ، والحجةُ تفصِل بين المتنازعين ، والواجبُ الردُّ عند التنازع إلى اللَّه ورسوله ‏.‏ فإذا قال أبو ذر وعثمان ‏:‏ إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى وعبد اللَّه بن عباس ‏:‏ إنه باقٍ وحكمُه عام ، فعلى مَن ادَّعى النسخ والاختصاص الدليل ‏.‏

وأما حديثه المرفوع حديث بلال بن الحارث فحديث لا يـُكْتَبُ ، ولا يُعارَض بمثله تلك الأساطين الثابتة ‏.‏

قال عبد اللَّه بن أحمد ‏:‏ كان أبى يرى للمُهِلِّ بالحج أن يفسخَ حجَّه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ‏.‏ وقال في المتعة ‏:‏ هي آخِرُ الأمرين من رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏.‏ وقال صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏.‏‏:‏ ‏(‏ اجْعَلُوا حَجَّكُم عُمْرَةً ‏)‏ ‏.‏ قال عبد اللَّه ‏:‏ فقلت لأبى ‏:‏ فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحج، يعنى قوله ‏:‏ ‏(‏ لنا خاصة ‏)‏ ‏؟‏ قال ‏:‏ لا أقول به ، لا يُعرف هذا الرجل ، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، ليس حديثُ بلال بن الحارث عندى يثبتُ ‏.‏ هذا لفظه ‏.‏

قلت ‏:‏ ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد ، وأن هذا الحديث لا يَصِحُّ أن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المُتعة التي أمرهم أن يفسخوا حَجَّهم إليها أنها لأَبَدِ الأبدِ ، فكيف يثبُت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ‏؟‏ هذا من أمحل المحال ‏.‏ وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول ‏:‏ ‏(‏ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة ‏)‏ ، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون مَن بعدهم ‏:‏ فنحن نَشْهَدُ باللَّهِ ، أن حديث بلال بن الحارث هذا ، لا يصح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غلط عليه ، وكيف تُقدَّم روايةُ بلال بن الحارث ، على روايات الثقات الأثبات ، حملةِ العلم الذين رووا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم خلافَ روايته ، ثم كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وابنُ عباس رضى اللَّه عنه يُفتى بخلافه ، ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام ، وأصحابُ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم متوافِرون ، ولا يقول له رجلٌ واحد منهم ‏:‏ هذا كان مختصاً بنا ، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة ، أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ‏؟‏

وأما قول عثمان رضى اللَّه عنه في متعة الحج ‏:‏ إنها كانت لهم ليست لغيرهم ، فحكمه حكم قول أبى ذر سواء ، على أن المروى عن أبى ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أُمور ‏:‏

أحدها ‏:‏ اختصاص جواز ذلك بالصحابة ، وهو الذي فهمه مَنْ حرَّم الفسخ ‏.‏

الثانى ‏:‏ اختصاصُ وجوبه بالصحابة ، وهو الذي كان يراه شيخنا قدَّس اللَّهُ روحه يقول ‏:‏ إنهم كانوا قد فُرِض عليهم الفسخ لأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لهم به ، وحتمه عليهم ، وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله ‏.‏ وأما الجواز والاستحباب ، فللأُمة إلى يوم القيامة ، لكنْ أبَى ذلك البحرُ ابنُ عباس ، وجعل الوجوب للأُمة إلى يوم القيامة ، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهَدْى ، أن يحلَّ ولا بد ، بل قد حَلَّ وإن لم يشأ ، وأنا إلى قوله أميلُ منى إلى قول شيخنا ‏.‏

الاحتمال الثالث ‏:‏ أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجاً قارِناً أو مفرداً بلا هَدْى ، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أَمَرَ به النبىُّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يَسُقِ الهَدْىَ ، والقِران لمن ساق ، كما صح عنه ذلك ‏.‏ وأمّا أن يَحرم بحج مفرد ، ثم يفسخه عند الطواف إلى عُمرة مُفردةٍ ، ويجعله متعة ، فليس له ذلك ، بل هذا إنما كان للصحابة ، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبىِّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالتمتع والفسخ إليه ، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه ، لم يكن لأحد أن يُخالفه ويُفرد ، ثم يفسخه ‏.‏

وإذا تأملتَ هذين الاحتمالين الأخيرين ، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول ، أو مساويين له ، وتسقط معارضةُ الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة ، وباللَّه التوفيق ‏.‏

وأما ما رواه مسلم في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ عن أبى ذر ‏:‏ أن المتعة في الحج كانت لهم خاصَّة ‏.‏ فهذا ، إن أريد به أصل المتعة ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين ، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة ‏.‏ وإن أريد به متعة الفسخ ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدِّمة ‏.‏ وقال الأثرم في ‏(‏ سننه ‏)‏ ‏:‏ وذكر لنا أحمد بن حنبل ، أن عبد الرحمن بن مهدى حدَّثه عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمى ، عن أبى ذر ، في متعة الحج ، كانت لنا خاصة ‏.‏ فقال أحمد بن حنبل‏:‏ رحم اللَّه أبا ذر ، هي في كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ ‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏

قال المانعون من الفسخ ‏:‏ قول أبى ذر وعثمان ‏:‏ إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة ، لا يُقال مثلُه بالرأى ، فمع قائله زيادة علم خفيت على مَن ادَّعى بقاءه وعمومه ، فإنه مستصحِب لحال النص بقاءً وعموماً ، فهو بمنزلة صاحب اليد في العَيْن المدَّعاة ، ومدَّعى فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البيِّنة التي تُقدَّم على صاحب اليد ‏.‏

قال المجوِّزون للفسخ ‏:‏ هذا قول فاسد لا شك فيه ، بل هذا رأى لا شك فيه ، وقد صرَّح بأنه رأى مَنْ هو أعظمُ من عثمان وأبى ذر عِمرانُ بن حصينْ ، ففى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ واللفظ للبخارى ‏:‏ تمتعنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ونزل القُرآنُ ، فقال رجل برأيه ما شاء ‏.‏ ولفظ مسلم ‏:‏ نزلت آيةُ المتعة في كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ ‏:‏ يعنى مُتعة الحج ، وأمرنا بها رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ مُتعة الحج ، ولم ينه عنها رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى مات ، قال رجلٌ برأيه ما شاء ‏.‏ وفى لفظ ‏:‏ يريد عمر ‏.‏

وقال عبد اللَّه بن عمر لمن سأله عنها ، وقال له ‏:‏ إن أباك نهى عنها ‏:‏ أَأَمْرُ رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحقُّ أن يُتَّبَعَ أو أَمْرُ أَبى ‏؟‏، ‏.‏

وقال ابن عباس لمن كان يُعارِضه فيها بأبى بكر وعمر ‏:‏ يُوشِكُ أن تَنْزِلَ عليكم حِجَارَةٌ من السماء ، أقولُ ‏:‏ قالَ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وتقولُون ‏:‏ قال أبو بكر وعمر ‏؟‏ فهذا جوابُ العلماء ، لا جوابُ مَن يقول ‏:‏ عثمانُ وأبو ذر أعلمُ برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم منكم ، فهلاَّ قال ابنُ عباس ، وعبدُ اللَّه بن عمر ‏:‏ أبو بكر وعمرُ أعلمُ برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم منا ، ولم يكن أحدٌ مِن الصحابة ، ولا أحدٌ من التابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نصٍ عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أعلمَ باللَّهِ ورسوله ، وأتقى له من أن يُقَدِّمُوا على قول المعصوم رأىَ غيرِ المعصوم ، ثم قد ثبت النصُّ عن المعصوم ، بأنها باقية إلى يوم القيامة ‏.‏ وقد قال ببقائها ‏:‏ علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه ، وسعدُ بن أبى وقَّاص ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو موسى ، وسعيد بن المسيِّب ، وجمهور التابعين ، ويدل على أن ذلك رأى محض لا يُنسب إلى أنه مرفوع إلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، أن عمرَ بن الخطَّاب رضى اللَّه عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعرى ‏:‏ يا أمير المؤمنين ؛ ما أحدثتَ في شأنِ النُّسُك ‏؟‏ فقال ‏:‏ إن نَأخُذْ بِكِتَاب رَبِّنَا ، فإنَّ اللَّه يقُول ‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وإنْ نَأْخُذْ بِسُّـنَّةِ رَسُولِ اللَّه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم ، فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ من أبى موسى وعمر ، على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداءً ، إنما هو رأى مِنه أحدثه في النُّسُك ، ليس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وإن استدل له بما استدل ، وأبو موسى كان يُفتى الناسَ بالفسخ في خلافة أبى بكر رضى اللَّه عنه كُلِّها ، وصدراً من خلافة عمر حتى فاوض عمرُ رضى اللَّه عنه في نهيه عن ذلك ، واتفقا على أنه رأى أحدثه عمر رضى اللَّه عنه في النُسُك ، ثم صحَّ عنه الرجوعُ عنه ‏.‏

فصل‏:‏ في معارضة أحاديث الفتح بما يدل على خلافها

وأما العذر الثالث ‏:‏ وهو معارضةُ أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ، فذكروا منها ما رواه مسلم في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ من حديث الزهرى ، عن عُروة ، عن عائشة رضى اللَّه عنها ، قالت ‏:‏ خرجنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع ، فمنا مَن أهلَّ بعُمرة ، ومنا مَنْ أهلَّ بحج ، حتى قَدِمْنَا مكة فقالَ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرةٍ وَلَمْ يُهْدِ ، فَلْيَحْلِلْ ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأهْدَى ، فلا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَه ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ ، فَلْيُتمَّ حَجَّه ‏)‏ ، وذكر باقى الحديث ‏.‏

ومنها ‏:‏ ما رواه مسلم في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ أيضاً من حديث مالك ، عن أبى الأسود ، عن عُروة عنها ‏:‏ خَرجنا مع رسولِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم عامَ حَجَّةِ الوَداع ، فمِنا مَن أهلَّ بعُمرة ، ومنَّا من أهلَّ بحج وعُمرة ، ومِنا مَنْ أهلَّ بالحجِّ ، وأهلَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم بالحجِّ ، فأمَّا مَنْ أهلَّ بعمرة فحلَّ ، وأمَّا مَنْ أهلَّ بحجٍّ ، أو جَمَعَ الحجَّ والعُمرة ، فلم يَحِلُّوا حتى يومُ النحر ‏.‏

منها ‏:‏ ما رواه ابنُ أبى شيبة ‏:‏ حدثنا محمد بن بشر العبدى ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، حدثنى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطِب ، عن عائشة ، قالت ‏:‏ خَرَجْنَا مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم لِلحجِّ على ثلاثة أنواع‏:‏ فمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بعُمرةٍ وحَجَّةٍ ، ومنا مَن أهلَّ بِحَجِّ مُفرد ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمرة مفردة ، فمَن كانَ أهلَّ بحجٍّ وعُمرةٍ معاً ، لم يحِلَّ مِن شئٍ مما حَرُمَ منه حتَّى قضى مناسِكَ الحجِّ ، ومَنْ أهلَّ بحجٍّ مفرد ، لم يَحِلَّ مِن شئ مما حَرُمَ منه حتى قضى مناسِكَ الحج ، ومَنْ أهلَّ بعُمرةٍ مفردةٍ ، فطافَ بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، حلَّ مما حرُم منه حتى استقبل حَجّاً ‏.‏

ومنها ‏:‏ ما رواه مسلم في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ من حديث ابن وهب ، عن عمرو بنِ الحارِث ، عن محمد بن نَوْفَلٍ ، أنَّ رجُلاً مِن أهلِ العِراق ، قال له ‏:‏ سل لى عُروة بن الزبير ، عن رجل أهلَّ بالحجِّ ، فإذا طافَ بالبيت ، أيحِلُّ أم لا ‏؟‏ فذكَر الحديث ، وفيه ‏:‏ قد حجَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، فأخبرتنى عائشة ، أن أول شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة ، أنه توضأ ، ثمَّ طَافَ بالبَيْتِ ‏.‏‏.‏ ثم حجَّ أبو بكر ، ثم كان أوَّلَ شئٍ بدأ به الطوافُ بالبيت ، ثم لم تكن عُمْرَةٌ ‏.‏‏.‏ ثم عُمَرُ مثلُ ذلك ‏.‏‏.‏ ثم حجَّ عثمانُ ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت ، ثم لم تكن عُمْرةٌ ‏.‏ ثم معاوية وعبدُ اللَّه بنُ عمر ، ثم حججتُ مع أبى الزبير بن العوَّام ، فكان أوَّلَ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت ، ثم لم تكن عُمْرَةٌ ، ثمَّ رأيتُ المهاجرين والأنصار ، يفعلُون ذلك ، ثم لم تَكُنْ عُمْرَةٌ ، ثم آخِرُ مَنْ رأيت فعل ذلك ابنُ عمر ، ثم لم ينقُضْها بعُمرة ، فهذا ابنُ عمرَ عندهم ، أفلا يسألونه ‏؟‏ ولا أحدٌ ممن مضى ما كانوا يَبدؤون بشىء حِينَ يضعون أقدامَهم أوَّلَ مِنَ الطَّواف بالبَيْتِ ، ثم لا يَحِلُّون ، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ لا تَبْدآنِ بشىءٍ أوَّلَ من الطواف بالبيت ، تطوفان بِه ثم لا تَحِلاَّنِ ‏.‏

فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديثَ الفسخ ، ولا مُعارضة فيها بحمد اللَّه ومَنِّـهِ ‏.‏

أما الحديثُ الأول وهو حديث الزهرى ، عن عُروة ، عن عائشة فَغَلِطَ فيه عبدُ الملك بن شعيب ، أو أبوه شعيب ، أو جَدُّه الليث ، أو شيخه عقيل ، فإن الحديث رواه مالك ومعمر ، والناسُ ، عن الزهرى ، عن عروة ، عنها وبيَّنُوا أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ لم يَكُنْ معه هَدْى إذا طاف وسعى ، أن يَحِلَّ ‏.‏ فقال مالك ‏:‏ عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرَةَ ، عنها ‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لِخَمس ليالٍ بقين لذى القِعدة ، ولا نرى إلا الحجَّ ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْى ، إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، أن يَحِلَّ وذكر الحديث ‏.‏ قال يحيى ‏:‏ فذكرتُ هذا الحديثَ لقاسم بن محمد ، فقال ‏:‏ أتتك واللَّهِ بالحديثِ على وجهه ‏.‏

وقال منصور ‏:‏ عن إبراهيم ، عن الأسود ، عنها ، خرجنا مع رسول اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحجَّ ، فلما قَدِمْنَا ، تَطَوَّفْنَا بالبَيْتِ ، فأمر النبىُّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْىَ ، أن يَحِلَّ ، فحلَّ مَنْ لم يكن ساق الهَدْىَ ، ونساؤه لم يَسُقْنَ فأحْلَلْنَ ‏.‏

وقال مالك ومعمر كلاهُما عن ابن شهاب ، عن عُروة ، عنها ‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عام حَجة الوداع ، فأهللنا بعُمرة ، ثم قال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَة ، ولاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَميعاً ‏)‏ ‏.‏

وقال ابن شهاب عن عُروة عنها بمثل الذي أخبر به سالم ، عن أبيه ، عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏.‏ ولفظه ‏:‏ تمتع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحَجِّ ، فأهدى ، فساق معه الهدىَ من ذى الحُليفة ، بدأ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ ، وتمتَّع الناسُ مع رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالعُمرة إلى الحَجِّ ، فكانَ مِنَ الناس مَنْ أهدى ، فساق معه الهَدْىَ ، ومنهم مَن لم يُهْدِ ، فلمَّا قَدِمَ النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَكَّةَ ، قال الناس ‏:‏ ‏(‏ مَنْ كَانَ مِنْكُم أهْدى ، فإنَّه لا يَحِلُّ مِنْ شئ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ ، ومَنْ لمْ يَكُنْ أهْدَى فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَة ، وَليُقصِّرْ وَلْيَحِلَّ ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ ولْيُهْدِ ، فمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً ، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّام في الحَجِّ ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَعَ إلى أهْلِه َ‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر باقى الحديث ‏.‏

وقال عبد العزيز الماجِشُون ‏:‏ عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ‏:‏ خرجنا معَ رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ ‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر الحديث ‏.‏ وفيه ، قالت ‏:‏ فلما قَدمْتُ مَكَّة ، قال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأصحابه ‏:‏ ‏(‏ اجْعَلُوها عُمْرَةً ، فأحَلَّ النَّاسُ إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْى ‏)‏ ‏.‏

وقال الأعمش ‏:‏ عن إبراهيم ، عن عائشة ‏:‏ خرجنا مع رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لا نذْكُر إلا الحَجَّ ، فلما قَدِمْنَا ، أُمِرْنَا أَنْ نَحِلَّ ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكرَ الحديثَ ‏.‏

وقال عبد الرحمن بن القاسم ‏:‏ عن أبيه ، عن عائشة ‏:‏ خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، ولا نذكر إلا الحَجَّ ، فلما جِئْنَا سَرِفَ ، طَمِثْتُ ‏.‏ قالت ‏:‏ فدخلَ عَلَىَّ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم وأنا أبكى ‏.‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ ما يُبْكِيك ‏)‏ ‏؟‏ قالت ‏:‏ فَقُلْتُ ‏:‏ واللَّهِ لَوِدِدْتُ أنِّى لاَ أَحُجُّ العَامَ فذكر الحديثَ ‏.‏ وفيه ‏:‏ فلما قَدِمْتُ مكة ، قال النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏(‏ اجْعَلُوهَا عُمْرةً ‏)‏ ، قالت ‏:‏ فَحَلَّ الناسُ إلاَّ مْن كَانَ مَعَهُ الهَدْىُ ‏.‏

وكل هذه الألفاظ في ‏(‏ الصحيح ‏)‏ ، وهذا موافق لما رواه جابر ، وابن عمر ، وأنس ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وأبو سعيد ، وأسماء ، والبراء ، وحفصة ، وغيرهم ، من أمره صلى اللَّه عليه وآله وسلم أصحابَه كُلَّهم بالإحلال، إلا مَنْ ساق الهَدْى ، وأن يجعلوا حجهم عُمْرَةً ‏.‏ وفى اتفاق هؤلاء كُلِّهم ، على أن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أمر أصحابه كلَّهم أن يحلوا ، وأن يجعلوا الذي قدموا به مُتعةً ، إلا مَنْ ساق الهَدْى ، دليلٌ على غلط هذه الرواية ، ووهمٍ وقع فيها ، يُبين ذلك أنها من رواية الليث ، عن عقيل ، عن الزهرى ، عن عروة ، والليث بعينه ، هو الذي روى عن عقيل ، عن الزهرى ، عن عروة ، عنها مثلَ ما رواه ، عن الزهرى عن سالم ، عن أبيه ، في تمتع النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأمره لمن لم يكن أهدى أن يَحِلَّ ‏.‏

ثم تأملنا ، فإذا أحاديث عائشة يُصدِّقُ بعضُها بعضاً ، وإنما بعضُ الرواة زاد على بعض ، وبعضهم اختصر الحديث ، وبعضُهم اقتصر على بعضه ، وبعضهم رواه بالمعنى ‏.‏ والحديث المذكور ‏:‏ ليس فيه منع مَنْ أهلَّ بالحجِّ من الإحلال ، وإنما فيه أمره أن يُتِمَّ الحج ، فإن كان هذا محفوظاً ، فالمراد به بقاؤه على إحرامه ، فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال ، وجعله عمرة ، ويكون هذا أمراً زائداً قد طرأ على الأمر بالإتمام ، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقِران ، ويتعين هذا ولا بُد ، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد ، وهذا محالٌ قطعاً ، فإنه بعد أن أمرهم بالحِلِّ لم يأمرهم بنقضه ، والبقاءِ على الإحرام الأول ، هذا باطل قطعاً ، فيتعيَّنُ إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ، ولا يجوز غير هذا البتة ‏.‏‏.‏ واللَّه أعلم ‏.‏

فصل

وأما حديثُ أبى الأسود ، عن عروة ، عنها ‏.‏ وفيه ‏:‏ ‏(‏ وأما مَنْ أهلَّ بحجٍّ أو جمعَ الحجَّ والعُمرة ، فلم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر ‏)‏ ‏.‏ وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها ‏:‏ ‏(‏فمَن كان أهلَّ بحجٍّ وعُمرة معاً ، لم يَحِلَّ من شئ مما حَرُمَ منه حتى يَقْضِىَ مَناسِكَ الحَجِّ ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدٍ كَذَلِكَ ‏)‏ ‏.‏ فحديثان ، قد أنكرهما الحفاظُ ، وهما أهلٌ أن يُنكَرا ، قال الأثرم ‏:‏ حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى ، عن مالك بن أنس ، عن أبى الأسود ، عن عُروة ، عن عائشة ‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فمنَّا مَنْ أَهلَّ بالحَجِّ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ والعُمرَةِ ، وأَهلَّ بالحَجِّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم ، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ ، فأحلُّوا حِينَ طَافُوا بِالبَيْتِ وَبالصَّفَا والمَرْوَةِ ‏.‏ وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ ، فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ ‏)‏، فقال أحمد بن حنبل ‏:‏ أَيْش في هذا الحديثِ مِن العَجَبِ ، هذا خطأ ، فقال الأثرم ‏:‏ فقلتُ له ‏:‏ الزهرى ، عن عروة ، عن عائشة ، بخلافه ‏؟‏ فقال ‏:‏ نعم ، وهشام بن عروة ‏.‏ وقال الحافظ أبو محمد بن حزم ‏:‏ هذان حديثان منكران جداً ، قال ‏:‏ ولأبى الأسود في هذا النحو حديثٌ لا خفاء بِنُكرَتِه ، وَوَهْنِهِ ، وبُطلانه ‏.‏ والعجب كيف جاز على مَن رواه ‏؟‏ ثم ساق من طريق البخارى عنه ، أن عبد اللَّه مولى أسماء ، حدّثه أنه كان يَسْمَعُ أسماء بنتَ أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللَّه عنهما تقول كُلما مَرَّتْ بالحَجُونِ ‏:‏ صلَّى اللَّه على رسوله ‏:‏ لقد نزلنا معه هاهنا ، ونحنُ يومئذ خِفافٌ ، قليلٌ ظهرُنا ، قليلةٌ أزوادُنا ، فاعتمرتُ أنا وأختى عائشة ، والزبيرُ ، وفلان ، وفلان ‏.‏ فلما مسحنا البيتَ ، أَحْلَلْنَا ، ثُمَّ أَهْلَلَنْا مِنَ العَشِىِّ بِالحَجِّ ‏.‏

قال ‏:‏ وهذه وهلةٌ لا خفاءَ بها على أحد ممن له أقلُّ علم بالحديثِ لوجهين باطلين فيه بلا شك ‏:‏

أحدُهما ‏:‏ قوله ‏:‏ فاعتمرتُ أنا وأُختى عائشة ، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل ، في أن عائشة لم تعتمر في أول دخولها مكة ، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة ، هكذا رواه جابر بن عبد اللَّه ، ورواه عن عائشة الأثبات ، كالأسود بن يزيد ، وابنِ أبى مُليكة ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد ‏.‏

الموضع الثانى ‏:‏ قوله فيه ‏:‏ فلما مسحنا البيتَ ، أحللنا ، ثم أهللنا من العشى بالحج ، وهذا باطل لا شكَّ فيه ، لأن جابراً ، وأنسَ بن مالك ، وعائشة ، وابنَ عباس ، كُلُّهم روَوْا أن الإحلال كان يومَ دخولهم مكة ، وأن إحلالهم بالحجِّ كان يوم التروية ، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك ‏.‏

قلت ‏:‏ الحديثُ ليس بمنكر ولا باطل ، وهو صحيح وإنما أُتى أبو محمد فيه مِن فهمه ، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هي وعائشة ، وهكذا وقع بلا شك ‏.‏ وأما قولها ‏:‏ فلما مسحنا البيت أحْلَلْنَا ، فإخبار منها عن نفسها ، وعمن لم يُصبه عذرُ الحيض الذي أصابَ عائشة ، وهى لم تُصرِّحْ بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة ، وأنها حلَّت ذلك اليوم ، ولا ريبَ أن عائشة قدمت بعُمرة ، ولم تزل عليها حتى حاضتْ بِسَرِفَ ، فأدخلت عليها الحجَّ ، وصارت قارِنةً ‏.‏ فإذا قيل ‏:‏ اعتمرت عائشة مع النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أو قدمت بعمرة ، لم يكن هذا كذباً ‏.‏

وأما قولها ‏:‏ ثم أهللنا مِن العَشِىِّ بالحج ، فهى لم تَقُلْ ‏:‏ إنهم أَهلُّوا من عشى يوم القدوم ، ليلزم ما قال أبو محمد ، وإنما أرادت عشىَّ يوم التروية ‏.‏ ومثل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يُصرَّح فيه بعشى ذلك اليوم بعينه ، لعلم الخاص والعام به ، وأنه مما لا تذهبُ الأوهام إلى غيره ، فردُّ أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه ‏.‏

قال أبو محمد ‏:‏ وأسلمُ الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة ، يعنى اللذين أنكرَهُما ، أن تُخرَّجَ روايتهما على أن المراد بقولها ‏:‏ إن الَّذينَ أهلَّوا بحجٍّ ، أو بحجٍّ وعُمرة ، لم يَحِلُّوا حتى كان يومُ النحر حين قَضَوْا مناسِك الحج ، إنما عنت بذلك مَنْ كان معه الهَدْى ، وبهذا تنتفى النُّكرةُ عن هذين الحديثين ، وبهذا تأتلِف الأحاديثُ كلها ، لأن الزهرى عن عُروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة ، والزهرى بلا شك أحفظُ من أبى الأسود ، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة في هذا الباب مَنْ لا يُقرَن يحيى بن عبد الرحمن إليه ، لا في حفظ ، ولا في ثقة ، ولا في جَلالة ، ولا في بطانة لعائشة ، كالأسود ابن يزيد ، والقاسم بن محمد بن أبى بكر ، وأَبى عمرو ذكوان مولى عائشة ، وعَمْرَةَ بنت عبد الرحمن ، وكانت في حجر عائشة ، وهؤلاء هم أهلُ الخصوصية والبطانة بها ، فكيف ‏؟‏ ولو لم يكونوا كذلك ، لكانت روايتُهم أو روايةُ واحد منهم ، لو انفرد هي الواجبُ أن يؤخذ بها ، لأن فيها زيادة على رواية أبى الأسود ويحيى ، وليس مَن جَهَلَ ، أو غَفَلَ حُجَّةَ على مَن علم ، وذكر وأخبر ، فكيف وقد وافق هؤلاء الجِلَّةُ عن عائشة فسقط التعلُّق بحديث أبى الأسود ويحيِى اللذين ذكرنا ‏.‏

قال ‏:‏ وأيضاً ، فإن حديثى أبى الأسود ويحيى ، موقوفان غير مسندين ، لأنهما إنما ذكرا عنها فعل مَن فعل ما ذكرت ، دون أن يذكُرا أن النبىَّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أمرهم أن لا يَحِلُّوا ، ولا حُجَّة في أحد دون النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فلو صحَّ ما ذكراه ، وقد صح أمرُ النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَنْ لا هَدْى معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ، ولم يَحِلُّوا لكانوا عصاة للّه تعالى ، وقد أعاذهم اللَّه من ذلك ، وبرَّأهم منه ، فثبت يقيناً أن حديث أبى الأسود ويحيى ، إنما عنى فيهما ‏:‏ مَن كان معه هَدْى ، وهكذا جاءت الأحاديثُ الصحاح التي أوردناها ، بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر مَن معه الهَدْى ، بأن يجمع حجاً مع العُمرة ، ثم لا يَحِلَّ حتى يحلَّ منهما جميعاً ‏.‏ ثم ساق من طريق مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها ترفعه ‏:‏ ‏(‏ مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيُهْلِلْ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا ‏)‏ ، قال ‏:‏ فهذا الحديث كما ترى ، من طريق عروة ، عن عائشة ، يُبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك ، في حديث أبى الأسود ، عن عروة وحديث يحيى عن عائشة ، وارتفع الآن الإشكال جملة ، والحمد للّه رب العالمين ‏.‏

قال ‏:‏ ومما يُبيِّنُ أن في حديثِ أبى الأسود حذفاً قوله فيه ‏:‏ عن عُروة ‏:‏ ‏(‏ أن أُمَّه وخالَته والزُّبير ، أقبلوا بعُمرة فقط ، فلما مسحُوا الركن ، حلُّوا ‏)‏ ‏.‏ ولا خلاف بين أحد ، أن مَن أقبل بعُمرة لا يَحِلُّ بمسحِ الرّكن ، حتى يسعى بين الصَّفا والمَرْوَةِ بعد مسح الركن ، فصحَّ أن في الحديث حذفاً بيَّنه سائرُ الأحاديث الصحاح التي ذكرنا ، وبطل التشغيبُ به جملة ‏.‏‏.‏ وباللَّه التوفيق ‏.‏

فصل

وأما ما في حديث أبى الأسود ، عن عروة ، من فعل أبى بكر ، وعمر ، والمهاجرين ، والأنصار ، وابن عمر ، فقد أجابه ابن عباس ، فأحسن جوابه ، فيُكتفى بجوابه ‏.‏ فروى الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، تمتعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال عروة ‏:‏ نهى أبو بكر وعُمَرُ عن المُتعة ‏.‏ فقال ابن عباس ‏:‏ أراكم ستهلكون ، أقول ‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتقول ‏:‏ قال أبو بكر وعمر ‏.‏

وقال عبد الرزاق ‏:‏ حدثنا مَعمر ، عن أيوب ، قال ‏:‏ قال عُروة لابن عباس ‏:‏ ألا تتَّقى اللَّه تُرَخِّصُ في المُتعة ‏؟‏، فقال ابنُ عباس ‏:‏ سل أُمَّك يا عُرَيَّةُ ‏.‏ فقال عُروة ‏:‏ أمَّا أبو بكر وعمر ، فلم يفعلا ، فقال ابنُ عباس ‏:‏ واللَّهِ ما أراكم مُنتهين حتى يُعَذِّبَكُمُ اللَّه ، أُحدِّثُكم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُحدِّثُونا عن أبى بكر وعمر ‏؟‏ فقال عُروة ‏:‏ لَهُما أعلمُ بِسُّـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأتبعُ لها منك ‏.‏

وأخرج أبو مسلم الكجى ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختيانى ، عن ابن أبى مُلَيكة ، عن عُروة بن الزبير ، قال لرجل مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ تأمُرُ النَّاس بالعُمرَةِ في هؤلاء العَشْرِ ، وليس فيها عُمرة ‏؟‏، قال ‏:‏ أوَ لاَ تَسألُ أُمَّك عن ذلك ‏؟‏ قال عُروة ‏:‏ فإن أبا بكر وعُمَرَ لم يفعلا ذلك ، قال الرجل ‏:‏ مِن هاهنا هلكتُم ، ما أرى اللَّه عزَّ وجلَّ إلا سَيُعَذِّبُكُم ، إنِّى أحدِّثكم عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُخبرونى بأبى بكر وعمر ‏.‏ قال عروةُ ‏:‏ إنهما واللَّهِ كانا أعلَم بِسُّـنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ ، فسكت الرجلُ ‏.‏

ثم أجاب أبو محمد بن حزم عُروة عن قوله هذا ، بجواب نذكره ، ونذكر جواباً أحسَن منه لشيخنا ‏.‏

قال أبو محمد ‏:‏ ونحن نقول لعروة ‏:‏ ابنُ عباس أعلمُ بِسُـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وبأبى بكر وعمَر منك ، وخيرٌ منك ، وأولى بهم ثلاثتهم منك ، لا يشكُّ في ذلك مسلم ‏.‏ وعائشةُ أم المؤمنين ، أعلم وأصدق منك ‏.‏ ثم ساق من طريق الثورى ، عن أبى إسحاق السَّبِيعى ، عن عبد اللَّه قال ‏:‏ قالت عائشة ‏:‏ من استُعْمِلَ على المَوْسِمِ ‏؟‏ قالوا ‏:‏ ابن عباس ‏.‏ قالت ‏:‏ هو أعلم الناس بالحج ‏.‏ قال أبو محمد ‏:‏ مع أنه قد روى عنها خلاف ما قاله عروة ، ومَن هو خير من عروة ، وأفضل ، وأعلم ، وأصدق ، وأوثق ‏.‏ ثم ساق من طريق البزار ، عن الأشج ، عن عبد اللَّه بن إدريس الأودى ، عن ليث ، عن عطاء ، وطاووس ، عن ابن عباس ‏:‏ تمتع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ‏.‏ وأول مَن نهى عنها معاوية ‏.‏

ومن طريق عبد الرزاق ، عن الثورى ، عن ليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس ‏:‏ تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ‏.‏ حتى مات ، وعمر ، وعثمان كذلك ‏.‏ وأول مَن نهى عنها ‏:‏ معاوية ‏.‏

قلت ‏:‏ حديث ابن عباس هذا ، رواه الإمام أحمد في ‏(‏ المسند ‏)‏ والترمذى ‏.‏ وقال ‏:‏ حديث حسن ‏.‏

وذكر عبد الرزاق ، قال ‏:‏ حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال ‏:‏ قال أُبىُّ بن كعب ، وأبو موسى لعمر بن الخطاب ‏:‏ ألا تقومُ فتبيِّنَ للنَّاسِ أمرَ هذه المتعة ‏؟‏ فقال عمر ‏:‏ وهل بَقى أحد إلا وقد عَلِمَهَا ، أما أنا فأفعلُها ‏.‏

وذكر على بنُ عبدِ العزيز البغوى ، حدثنا حجاجُ بن المنهال ، قال ‏:‏ حدثنا حمادُ بنُ سلمة ، عن حماد بن أبى سليمان أو حميد عن الحسن ، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة ، وقال ‏:‏ الكعبة غَنِيَّةٌ عن ذلِكَ المالِ ، وأراد أن يَنْهى أهل اليمن أن يَصْبِغُوا بالبَولِ ، وأراد أن ينهى عن مُتعة الحج ، فقال أُبىُّ بنُ كعب ‏:‏ قد رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه هذا المالُ ، وبه وبأصحابه الحاجةُ إليه، فلم يأخذه ، وأنت فلا تأخذْه ، وقد كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يلبَسون الثيابَ اليمانية ، فلم ينهَ عنها ، وقد علم أنها تُصْبَغُ بالبول، وقد تمتَّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينه عنها ، ولم يُنْزِلِ اللَّهُ تعالى فيها نهياً ‏.‏

وقد تقدَّم قولُ عمر ‏:‏ لو اعتمرتُ في وسط السنة ، ثم حججتُ لتمتعتُ ، ولو حججتُ خمسين حَجة ، لتمتعتُ ‏.‏ ورواه حماد بن سلمة ‏.‏ عن قيس ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه ‏:‏ لو اعتمرتُ في سنة مرتين ، ثم حججت ، لجعلت مع حَجتى عُمرة ‏.‏ والثورى ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه ‏:‏ لو اعتمرتُ ، ثم اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت ‏.‏ وابن عيينة ‏:‏ عن هشام بن حُجير ، وليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال‏:‏ هذا الذي يزعمُون أنه نهى عن المتعة يعنى عمر سمعتُه يقول ‏:‏ لو اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت ‏.‏ قال ابن عباس ‏:‏ كذا وكذا مرة ، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة ‏.‏

وأما الجواب الذي ذكره شيخنا ، فهو أن عُمَرَ رضى اللَّه عنه ، لم ينه عن المتعة البتة ، وإنما قال ‏:‏ إنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكم وعُمرتِكم أن تَفْصِلُوا بينهما ، فاختار عُمَرُ لهم أفضلَ الأُمور ، وهو إفرادُ كل واحد منهما بسفر يُنشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القِران والتمتع الخاص بدون سَفرة أُخرى ، وقد نصَّ على ذلك ‏:‏ أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعى رحمهم اللَّه تعالى وغيرهم ‏.‏ وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر رضى اللَّه عنهما ، وكان عُمر يختاره للناس ، وكذلك علىٌ رضى اللَّه عنهما ‏.‏

وقال عمر وعلى رضى اللَّه عنهما في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ قالا ‏:‏ إتمامهُما أن تُحرِمَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهلِكِ وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم لعائشة في عُمرتها ‏:‏ ‏(‏ أجْرُكِ عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ ‏)‏ فإذا رجع الحاجُّ إلى دُوَيْرَةِ أهلِه ، فأنشأ العُمرة منها ، واعتمر قبل أشهرِ الحجِّ ، وأقام حتى يحجَّ ، أو اعتمر في أشهره ، ورجع إلى أهله ، ثم حجَّ ، فهاهنا قد أتى بكل واحدٍ من النسكين من دُويرةِ أهله ، وهذا إتيانٌ بهما على الكمال ، فهو أفضلُ من غيره ‏.‏

قلت ‏:‏ فهذا الذي اختاره عمر للناس ، فظنَّ مَن غَلِطَ منهم أنه نهى عن المتعة ، ثم مِنهم مَن حمل نَهيه على متعة الفسخ ، ومنهم مَن حمله على تركِ الأولى ترجيحاً للإفراد عليه ، ومنهم مَن عارض رواياتِ النهى عنه بروايات الاستحباب ، وقد ذكرناها ، ومنهم مَن جعل في ذلك روايتين عن عمر ، كما عنه روايتان في غيرهما من المسائل ، ومنهم مَن جعل النهى قولاً قديماً ، ورجع عنه أخيراً ، كما سلك أبو محمد بن حزم ، ومنهم مَن يَعُدُّ النهى رأياً رآه من عنده لكراهته أن يَظَلَّ الحاجُّ مُعرِسِينَ بِنسائهم في ظِلِّ الأرَاكِ ‏.‏

قال أبو حنيفة ‏:‏ عن حماد ، عن إبراهيم النخعى ، عن الأسود بن يزيد ، قال ‏:‏ بينما أنا واقف مع عُمَرَ بن الخطاب بعرفة عشيةَ عرفة ، فإذا هو برجل مُرَجِّلٍ شعرَه ، يفوحُ منه ريحُ الطِّيب ، فقال له عمر ‏:‏ أمحرِمٌ أنت ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ فقال عمر ‏:‏ ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرِمُ الأشْعَثُ الأَغْبَرُ الأدْفَرُ ‏.‏ قال ‏:‏ إنى قَدِمتُ متمتِّعاً ، وكان معى أهلى ، وإنما أحرمتُ اليومَ ، فقال عمر عند ذلك ‏:‏ لا تتمتَّعُوا في هذه الأيام ، فإنى لو رَخَّصْتُ في المُتعة لهم ، لعرَّسُوا بِهِنَّ في الأراك ، ثم راحوا بِهِنّ حُجَّاجاً ‏.‏ وهذا يبين ، أن هذا من عمر رأى رآه‏.‏

قال ابن حزم ‏:‏ فكان ماذا ‏؟‏ وحبذا ذلك ‏؟‏ وقد طاف النبى صلى الله عليه وسلم على نسائه، ثم أصبح محرِماً ، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين واللَّه أعلم ‏.‏

فصل

وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين ، نذكرهُما ونبيِّنُ فسادهما ‏.‏‏.‏

الطريقة الأولى ‏:‏ قالوا ‏:‏ إذا اختلف الصحابَةُ ومَنْ بعدهم في جواز الفسخ ، فالاحتياطُ يقتضى المنعَ منه صِيانةً للعبادة عما لا يجوزُ فيها عند كثير من أهل العلم ، بل أكثرهم ‏.‏

والطريقة الثانية ‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ لِيبيِّن لهم جوازَ العُمرة في أشهر الحج ، لأن أهْلَ الجاهلية كانوا يكرهون العُمرة في أشهر الحج ، وكانوا يقُولون ‏:‏ إذا بَرَأَ الدَّبَرُ ، وعَفَا الأَثَرُ ، وانْسَلَخَ صَفَرُ ، فقد حلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ ، فأمرهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بالفسخ ، ليبين لهم جوازَ العُمرة في أشهر الحج ، وهاتان الطريقتان باطلتان ‏.‏

أما الأولى ‏:‏ فلأن الاحتياطَ إنما يشرع ، إذا لم تتبين السُّـنَّةُ ، فإذا تبيَّنت فالاحتياطُ هو اتِّباعُها وتركُ ما خالفها ، فإن كان تركُها لأجل الاختلاف احتياطاً ، فتركُ ما خالفها واتَباعُها ، أحوطُ وأحوطُ ، فالاحتياطُ نوعان ‏:‏

احتياطٌ للخروج مِن خلاف العلماء ، واحتياطٌ للخروج من خِلاف السُّـنَّة ، ولا يخفى رُجحانُ أحدهما على الآخر ‏.‏

وأيضاً ‏.‏‏.‏ فإن الاحتياط ممتنعٌ هنا ، فإنَّ للناس في الفسخ ثلاثةَ أقوال ‏:‏

أحدها ‏:‏ أنه محرَّم ‏.‏

الثانى ‏:‏ أنه واجب ، وهو قولُ جماعة من السَلَف والخَلَف ‏.‏

الثالث ‏:‏ أنه مستحَبٌ ، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف مَن حرَّمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف مَن أوجبه ، وإذا تعذَّر الاحتياطُ بالخروج من الخلاف ، تعيَّن الاحتياطُ بالخروج من خلاف السُّـنَّة ‏.‏

فصل

وأما الطريقة الثانية ‏:‏ فأظهرُ بُطلاناً من وجوه عديدة ‏.‏

أحدُها ‏:‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عُمَرَهُ الثلاث في أشهر الحج في ذى القِعْدَة ، كما تقدَّم ذلك ، وهو أوسطُ أشهرِ الحج ، فكيف يُظن أن الصحابة لم يعلموا جوازَ الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العُمرة ، وقد تقدَّم فعله لذلك ثلاثَ مرات ‏؟‏

الثانى ‏:‏ أنه قد ثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ، أنه قال لهم عند الميقات ‏:‏ ‏(‏ مَنْ شَاءَ أنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلُ ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلِّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ ‏)‏ فبيَّن لهم جوازَ الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات ، وعامةُ المسلمين معه ، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ‏؟‏ ولعمرُ اللَّه إن لم يكونوا يعلمون جوازَها بذلك ، فهم أجدرُ أن لا يعلموا جوازَها بالفسخ ‏.‏

الثالث ‏:‏ أنه أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ أن يتحلَّل ، وأمرَ مَن ساق الهَدْىَ أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدىُ مَحِلَّه ، ففرق بين محرِم ومحرِم ، وهذا يدل على أن سوقَ الهَدْى هو المانعُ من التحلل ، لا مجردُ الإحرام الأول ، والعِلَّة التي ذكروها لا تختص بمحرِم دوم محرم ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحِل وعدمه للهَدْى وجوداً وعدماً لا لغيره ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن يقال ‏:‏ إذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم قصَد مخالفَة المشركين ، كان هذا دليلاً على أن الفسخَ أفضلُ لهذه العِلَّة ، لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين ، كان يكونُ دليلاً على أن الفسخ يبقى مشروعاً إلى يوم القيامة ، إما وجوباً وإما استحباباً ، فإن ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم وشرعه لأُمته في المناسك مخالفةً لهَدْى المشركين ، هو مشروع إلى يوم القيامة ، إما وجوباً أو استحباباً ، فإن المشركين كانوا يُفِيضُون من عرفةَ قبل غروب الشمس ، وكانوا لا يُفيضون من مزدلفة حتى تَطْلُع الشمسُ ، وكانوا يقولون ‏:‏ أشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ ، فخالفهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، وقال ‏:‏ ‏(‏ خَالَفَ هَدْيُنا هدْىَ المُشْرِكِين ، فَلَمْ نُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ‏)‏ ‏.‏

وهذه المخالفة ، إما ركن ، كقول مالك ، وإما واجبٌ يَجبرُه دم ، كقول أحمد ، وأبى حنيفة ، والشافعى في أحد القولين ، وإما سُّـنَّة ، كالقول الآخر له ‏.‏

والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُّـنَّة باتفاق المسلمين ، وكذلك قريشٌ كانت لا تَقفُ بعرفة ، بل تفيض من جَمْع ، فخالفهم النبى صلى الله عليه وسلم ، ووقف بعرفاتٍ ، وأفاضَ منها ، وفى ذلك نزل قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏، وهذه المخالفة من أركانِ الحجِّ باتفاق المسلمين ، فالأمُور التي نُخَالِفُ فيها المشركين هي الواجبُ أو المستحبُّ ، ليس فيها مكروه ، فكيف يكون فيها مُحرَّم ‏؟‏ وكيف يُقال ‏:‏ إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بِنُسُكٍ يُخالِفُ نُسُك َ المشركين ، مع كون الذي نهاهم عنه ، أفضلَ مِن الذي أمرهم به ‏؟‏ أو يقال ‏:‏ مَنْ حجَّ كما حج المشركون فلم يتمتع ، فحجُّه أفضلُ مِن حجِّ السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ، بأمرِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

الخامس ‏:‏ أنه قد ثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عنه ، أنه قال ‏:‏ ‏(‏ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة ‏)‏ ‏.‏ وقيل له ‏:‏ عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هََذَا ، أم لِلأبَدِ ‏؟‏ فَقَالَ ‏:‏ ‏(‏ لا ، بَلْ لأَبدِ الأَبَدِ ، دَخَلَت العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة ‏)‏ ‏.‏

وكان سؤالهم عن عُمْرة الفسخ ، كما جاء صريحاً في حديث جابر الطويل ‏.‏ قال ‏:‏ حتى إذا كان آخرُ طوافه عَلَى المروَةِ ، قال ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ ، لَمْ أَسُق الهَدْىَ ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً ، فمَنْ كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْى، فَلْيُحِلَّ ، وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً ‏)‏ ، فقامَ سُراقة بنُ مالك فقال ‏:‏ يا رسول اللَّه ؛ ألعامنا هذا ، أم للأبد ‏؟‏ فشبَّكَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أصابِعَه واحِدَةً في الأخرى ، وقال ‏:‏ ‏(‏ دَخَلَتِ العُمْرَة في الحَجِّ مَرَّتيْن ، لا بَلْ لأَبَدِ الأَبَد ‏)‏ ‏.‏

وفى لفظ ‏:‏ قَدِمَ رسولُ صلى الله عليه وسلم صبح رابِعةٍ مَضَتْ مِن ذى الحِجة ، فأمرنا أن نحلَّ ، فقلنا ‏:‏ لما لم يكن بيننا وبين عرفةَ إلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أنْ نُفْضِىَ إلى نِسَائِنا ، فَنَأْتىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا المَنِىَّ ‏.‏‏.‏ فذكر الحديثَ ‏.‏ وفيه ‏:‏ فقال سُراقة بنُ مالك ‏:‏ لِعامنا هذا أم للأبد ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ لأبد ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ عنه ‏:‏ أن سُراقة قال للنبىِّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ألَكُمْ خَاصَةً هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّه ‏؟‏ قَالَ ‏:‏ ‏(‏ بل لِلأَبَدِ ‏)‏ فبيَّن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أن تلك العُمرة التي فسخ مَن فسخ منهم حجّه إليها لِلأبد ، وأن العُمرة دخلت في الحجِّ إلى يومِ القيامة ‏.‏ وهذا يُبيِّن أن عمرة التمتع بعضُ الحج ‏.‏

وقد اعترض بعضُ الناس على الاستدلال بقوله ‏:‏ ‏(‏ بَلْ لأبَدِ الأَبَدِ ‏)‏ باعتراضين ، أحدهما ‏:‏ أن المراد ، أن سقوطَ الفرض بها لا يختصُّ بذلك العام ، بل يُسقِطُه إلى الأبد ، وهذا الاعتراضُ باطل ، فإنه لو أراد ذلك لم يَقُلْ ‏:‏ للأبد ، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معيَّنة ، بل إنما يكون لجميع المسلمين ، ولأنه قال ‏:‏ ‏(‏ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلَى يَوْم القِيَامَةِ ‏)‏ ، ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤالَ عن تكرار الوجوب ، لما اقتصروا على العُمرة ، بل كان السؤالُ عن الحج ، ولأنهم قالوا له ‏:‏ ‏(‏ عُمرتنا هذه لِعامِنَا هَذَا ، أم لِلأَبَدِ ‏)‏ ‏؟‏ ولو أرادوا تكرار وجوبها كُلَّ عام ، لقالُوا له ، كما قالوا له في الحج ‏:‏ أكلَّ عام يا رسولَ اللَّهِ ‏؟‏ ولأجابهم بما أجابهم به في الحجِّ بقوله ‏:‏ ‏(‏ ذَرُونى مَا تَرَكْتُكُم ، لَوْ قُلْتُ ‏:‏ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ‏)‏ ‏.‏ ولأنهم قالوا له ‏:‏ هذه لكم خاصة ‏.‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ بَلْ لأَبَدِ الأبَد ‏)‏ ‏.‏ فهذا السؤال والجواب ، صريحان في عدم الاختصاص ‏.‏

الثانى ‏:‏ قوله ‏:‏ إن ذلك إنما يُريد به جوازَ الاعتمار في أشهرِ الحجِّ ، وهذا الاعتراضُ أبطلُ مِن الذي قبله ، فإن السائلَ إنما سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم فيه عن المُتعة التي هي فَسخُ الحجِّ ، لا عن جواز العُمرة في أشهرِ الحجِّ ، لأنه إنما سأله عَقِبَ أمره مَن لا هَدْىَ معه بفسخ الحجِّ ، فقال له سراقةُ حينئذ ‏:‏ هذا لِعامِنَا ، أم للأبد ‏؟‏ فأجابه صلى اللَّه عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه ، لا عمَّا لم يسأله عنه ‏.‏ وفى قوله ‏:‏ ‏(‏ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ‏)‏ ، عقب أمره مَن لا هَدْى معه بالإحلال ، بيانٌ جلىٌ أن ذلك مستمِر إلى يومِ القِيامَة ، فبطل دعوى الخُصوص‏.‏‏.‏ وباللَّه التوفيق ‏.‏

السادس ‏:‏ أن هذه العِلَّة التي ذكرتموها ، ليست في الحديثِ ، ولا فيه إشارةٌ إليها ، فإن كانت باطلةً ، بطل اعتراضُكم بها ، وإنْ كانت صحيحةً ، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه مِن الوجوه ، بل إن صحَّتْ اقتضت دوامَ معلولها واستمراره ، كما أن الرَّمَلَ شُرِعَ لِيُرِىَ المشركينَ قوَّتَه وقوَّةَ أصحابه ، واستمرت مشروعيتُه إلى يوم القيامة ، فبطل الاحتجاجُ بتلك العِلَّة على الاختصاص بهم على كل تقدير ‏.‏

السابع ‏:‏ أنَّ الصحابَةَ رضى اللَّه عنهم ، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العُمرة في أشهر الحجِّ على فعلهم لها معه ثلاثةَ أعوام ، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العُمرة ، فَمَنْ بعدهم أحرى أن لا يَكْتَفىَ بذلك حتى يَفْسَخَ الحجَّ إلى العُمرة ، اتِّباعاً لأمر النبى صلى الله عليه وسلم ، واقتداءً بأصحابه ، إلا أن يقولَ قائل ‏:‏ إنَّا نحن نكتفى من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابَة ، ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه ، وهذا جهلٌ نعوذُ باللَّه منه ‏.‏

الثامن ‏:‏ أنه لا يُظَنُّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أن يأمر أصحابَه بالفسخ الذي هو حرام ، لِيعلِّمهم بذلك مباحاً يُمكن تعليمُه بغير ارتكاب هذا المحظور ، وبأسهل منه بياناً ، وأوضح دلالةً ، وأقل كلفةً ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراماً ‏.‏ قيل ‏:‏ فهو إذاً إما واجب أو مستحَب ‏.‏ وقد قال بكل واحد منهما طائفة ، فمَن الذي حرَّمه بعد إيجابه أو استحبابه ، وأىُّ نص أو إجماع رفع هذا الوجوبَ أو الاستحبابَ ، فهذه مطالبة لا محيص عنها ‏.‏

التاسع ‏:‏ أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الهَدْىَ ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً ‏)‏ ، أفترى تجدَّد له صلى اللَّه عليه وسلم عند ذلك العلم بجواز العمرة في أشهر الحج ، حتى تأسَّف على فواتها ‏؟‏ هذا من أعظم المحال ‏.‏

العاشر ‏:‏ أنه أمر بالفسخ إلى العُمرة ، مَن كان أفرد ، ومَنْ قرن ، ولم يَسُقِ الهَدْى ‏.‏ ومعلوم ‏:‏ أن القارن قد اعتمر في أشهر الحج مع حجته ، فكيف يأمره بفسخِ قِرانه إلى عُمرة ليبيِّن له جواز العُمرة في أشهر الحج ، وقد أتى بها ، وضم إليها الحج ‏؟‏

الحادى عشر ‏:‏ أن فسخ الحجِّ إلى العُمرة ، موافق لقياس الأصول ، لا مخالف له ‏.‏ ولو لم يرد به النصُّ ، لكان القياسُ يقتضى جوازه ، فجاء النصُّ به على وفق القياس ، قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرِم إذا التزم أكثرَ مما كان لزمه ، جاز باتفاق الأئمة ‏.‏ فلو أحرم بالعُمرة ، ثم أدخل عليها الحج ، جاز بلا نزاع ، وإذا أحرم بالحجِّ ، ثم أدخل عليه العُمرة ، لم يجز عند الجمهور ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، والشافعى في ظاهر مذهبه ، وأبو حنيفة يُجوِّز ذلك ، بناءً على أصله في أن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين ‏.‏ قال ‏:‏ وهذا قياس الرواية المحكيَّةِ عن أحمد في القارن ‏:‏ أنه يطوفُ طوافين ، ويسعى سعيين ‏.‏ وإذا كان كذلك ، فالمحرِمُ بالحج لم يلتزم إلا الحج ‏.‏ فإذا صار متمتعاً ، صار ملتزماً لعُمرة وحج ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثرَ مما كان عليه ، فجازَ ذلك ‏.‏ ولما كان أفضلَ ، كان مستحباً ، وإنما أشكل هذا على مَن ظنَّ أنه فسخ حجاً إلى عُمرة ، وليس كذلك ، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عُمرة مفردة ، لم يجز بلا نزاع ، وإنما الفسخُ جائز لمن كان مِن نِيَّته أن يحج بعد العُمرة ، والمتمتع من حين يحرم بالعُمرة فهو داخل في الحج ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة ‏)‏ ‏.‏ ولهذا ، يجوز له أن يصومَ الأيامَ الثلاثةَ مِن حين يُحرِمُ بالعُمرة ، فدل على أنه في تلك الحال في الحج ‏.‏

وأما إحرامُه بالحج بعد ذلك ، فكما يبدأ الجُنبُ بالوضوء ، ثم يغتسِلُ بعده ‏.‏ وكذلك كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يفعل ، إذا اغتسل من الجنابة ‏.‏ وقال لِلنسوة في غسل ابنته ‏:‏ ‏(‏ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا ، ومَوَاضِع الوُضُوءِ مِنْهَا ‏)‏ ‏.‏ فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ هذا باطل لثلاثة أوجه ‏.‏ أحدها ‏:‏ أنه إذا فسخ ، استفاد بالفسخ حِلاً كان ممنوعاً منه بإحرامه الأول ، فهو دون ما التزمه ‏.‏

الثانى ‏:‏ أن النُّسُكَ الذي كان قد التزمه أولاً ، أكملُ مِن النُّسُكِ الذي فسخ إليه ، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جُبران ، والذي يُفسخ إليه ، يحتاج إلى هَدْى جُبراناً له ، ونُسُكٌ لا جُبران فيه ، أفضلُ من نُسُكٍ مجبور ‏.‏

الثالث ‏:‏ أنه إذا لَم يَجُزْ إدخالُ العُمرة على الحج ، فلأن لا يجوزَ إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأَوْلى والأحرى ‏.‏

فالجواب عن هذه الوجوه ، من طريقين ، مجمل ومفصَّل ‏.‏ أما المجمل ‏:‏ فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السُّـنَّة ، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحى على الآراء ، وأن كل رأى يُخالف السُّـنَّة ، فهو باطل قطعاً ، وبيان بطلانه لمخالفة السُّـنَّة الصحيحة الصريحة له ، والآراء تبع للسُّـنَّة ، وليست السُّـنَّة تبعاً للآراء ‏.‏

وأما المفصَّل ‏:‏ وهو الذي نحن بصدده ، فإنَّا التزمنا أن الفسخَ على وفق القياس ، فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام ، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه ‏:‏ بأن التمتع وإن تَخلَّله التحلل فهو أفضل من الإفراد الذي لا حِلَّ فيه ، لأمر النبى صلى الله عليه وسلم مَن لا هَدْى معه بالإحرام به ، ولأمره أصحابه بفسخ الحجِّ إليه ، ولتمنِّيه أنه كان أحرم به ، ولأنه النُّسكُ المنصوصُ عليه ، في كتاب اللَّه ، ولأن الأُمَّة أجمعت على جوازه ، بل على استحبابه ، واختلفُوا في غيره على قولين ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم ، غَضِبَ حين أمرهم بالفسخ إليه بعدَ الإحرام بالحجِّ ، فتوقَّفوا ، ولأنه من المُحال قطعاً أن تكون حَجَّة قطُّ أفضلَ من حَجَّة خيرِ القرون ، وأفضل العالمين مع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرهم كُلَّهم بأن يجعلوها متعة إلا مَنْ ساق الهَدْى ، فمن المحال أن يكون غيرُ هذا الحج أفضلَ منه ، إلا حَجَّ من قرن وساق الهَدْى ، كما اختاره اللَّهُ سبحانه لنبيِّه ، فهذا هو الذي اختاره اللَّه لنبيِّه ، واختار لأصحابه التمتعَ ، فأىُّ حجٍّ أفضلُ من هذين ‏.‏ ولأنه من المحال أن ينقُلَهم من النُّسُكِ الفاضِل إلى المفضول المرجوحِ ، ولوجوه أُخَر كثيرة ليس هذا موضِعَها ، فرجحان هذا النُّسُكِ أفضلُ من البقاء على الإحرام الذي يفوته بالفسخ ، وقد تبين بهذا بطلانُ الوجه الثانى ‏.‏

وأما قولُكم ‏:‏ إنه نُسُك مجبور بالهَدْى ، فكلام باطل من وجوه ‏.‏

أحدها ‏:‏ أن الهَدْىَ في التمتع عبادة مقصودة ، وهو مِن تمام النُسُك ، وهو دم شُكران لا دم جُبران ، وهو بمنزلة الأُضحية للمقيم ، وهو من تمام عبادة هذا اليوم ، فالنُّسُكُ المشتمِل على الدم ، بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية ، فإنه ما تُقُرِّبَ إلى اللَّه في ذلك اليوم ، بمثل إراقة دم سائل ‏.‏

وقد روى الترمذى وغيره ، من حديث أبى بكر الصِّدِّيق ، أن النبى صلى الله عليه وسلم سُئِل ‏:‏ أىُّ الحجِّ أَفْضَلُ ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ العَجُّ والثَّجُّ ‏)‏ ‏.‏ والعجُّ رفعُ الصوت بالتلبية ، والثَّجُّ ‏:‏ إراقةُ دم الهَدْى ‏.‏ فإن قيل ‏:‏ يُمكِنُ المفردُ أن يُحصِّلَ هذه الفضيلة ‏.‏ قيل ‏:‏ مشروعيتها إنما جاءت في حق القارِن والمتمتِّع ، وعلى تقدير استحبابها في حقه ، فأين ثوابُها من ثواب هَدْى المتمتع والقارن ‏؟‏

الوجه الثانى ‏:‏ أنه لو كان دمَ جُبران ، لما جاز الأكلُ منه ، وقد ثبت عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه أكلَ مِن هَدْيه ، فإنه أَمَرَ مِن كل بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فَجُعِلَتْ في قِدْرِ ، فأكلَ مِن لحمها ، وشَرِبَ مِن مَرَقِهَا، وإن كان الواجبُ عليه سُبْعَ بدنة ، فإنَّه أكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةِ مِنَ المِائة ، والواجبُ فيها مُشاعٌ لم يتعيَّن بقسمة ، وأيضاً ‏:‏ فإنه قد ثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ‏:‏ أنه أطعَم نِسَاءَه مِنَ الهَدْى الذي ذَبحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ ، احتج به الإمام أحمد ، فثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن عائشة رضى اللَّه عنها ، أنَّه أهدى عَنْ نسائه ، ثم أرْسَلَ إليهنَّ مِن الهَدْى الذي ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ ، وأيضاً ‏:‏ فإن سبحانه وتعالى قال فيما يُذبح بمِنَى مِنَ الهَدِى ‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏، وهذا يتناولُ هَدْىَ التمتع والقِران قطعاً إن لم يختصَّ به ، فـإن المشروعَ هناك ذبحُ هَدْى المُتعة والقِران ‏.‏ ومن هاهنا واللَّهُ أعلمُ أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، من كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فُجعِلَتْ في قِدر امتثالاً لأمر ربه بالأكل لِيَعُمَّ به جميع هَدْيه ‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن سبب الجُبران محظورٌ في الأصل، فلا يجوز الإقدامُ عليه إلا لعذر، فإنه إما تركُ واجب، أو فعلُ محظور، والتمتُع مأمور به، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره، أو أمر استحباب عند الأكثرين، فلو كان دَمُهُ دَمَ جُبران ‏.‏ لم يَجُزِ الإقدامُ على سببه بغير عذر، فبطل قولُهم‏:‏ إنه دمجُبران، وعُلِم أنه دم نُسُك، وهذا وسَّعَ اللَّه به على عباده، وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة، فهو بمنزلة القصر والفِطر في السفر، وبمنزلة المسح على الخُفَّين، وكان من هَدْى النبى صلى الله عليه وسلم وهَدْى أصحابه فعلُ هذا وهذا، ‏(‏واللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَما يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُهُ‏)‏ فمحبتُه لأخذ العبد بما يَسَّرَه عليه وسهَّله له، مثلُ كراهته منه لارتكاب ما حرَّمه عليه ومنعه منه، والهَدْىُ وإن كان بدلاً عن ترفُّهه بسقُوط أحد السفرين، فهو أفضلُ لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتىَ بحجٍّ مفرد ويعتمِر عقيبه، والبدل قد يكون واجباً كالجمعة عند مَن جعلها بدلاً، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء، فإنه واجب عليه وهو بدل، فإذا كان البدلُ قد يكون واجباً، فكونه مستحَباً أولى بالجواز، وتخلل التحلُّلِ لا يمنع أن يكون الجميعُ عبادة واحدة كطواف الإفاضة، فإنه ركن بالاتفاق، ولا يُفعل إلا بعد التحلُّل الأول، وكذلك رمىُ الجمار أيام مِنَى، وهو يُفعل بعد الحِلِّ التام، وصومُ رمضان يتخلَّله الفطرُ في لياليه، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادةً واحدة، ولهذا قال مالك وغيره‏:‏ إنه يجزئ بِنِيَّة واحدة للشهر كله، لأنه عبادة واحدة‏.‏‏.‏‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏

فصل

وأما قولُكم‏:‏ إذا لم يجز إدخالُ العُمرة على الحجِّ، فلأن لا يجوزَ فسخُه إليها أولى وأحرى، فنسمع جَعَجَعَةً ولا نرى طِحناً‏.‏ وما وجهُ التلازُم بين الأمرين، وما الدليلُ على هذه الدعوى التي ليس بأيديكم برهانٌ عليها‏؟‏ ثم القائلُ بهذا إن كان مِن أصحاب أبى حنيفة رحمه اللَّه، فهو غيرُ معترف بفساد هذا القياس‏.‏ وإن كان من غيرهم، طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلاً، ثم يُقال‏:‏ مُدْخِلُ العُمرة قد نقص مما كان التزمه، فإنه كان يطوفُ طوافاً للحجِّ، ثم طوافاً آخر للعمرة‏.‏ فإذا قرن، كفاه طوافٌ واحد وسعىٌ واحد بالسُّـنَّة الصحيحة، وهو قول الجمهور، وقد نقص مما كان يلتزمه‏.‏ وأما الفاسخ، فإنه لم ينقُضْ مما التزمه، بل نقل نُسُكه إلى ما هو أكملُ منه، وأفضلُ، وأكثر واجبات، فبطل القياسُ على كل تقدير، وللّه الحمد‏.‏

فصل

عُدنا إلى سِياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏

ثمَّ نهض صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن نزل بذى طُوى وهى المعروفة الآن بآبار الزاهر، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التي تُشْرِفُ على الحَجُونِ، وكان في العُمرة يدخل من أسفلها، وفى الحج دخل من أعلاها، وخرج مِن أسفلها، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً‏.‏

وذكر الطبرانى، أنه دخلَه من بابِ بنى عبد مناف الذي يُسمِّيه الناسُ اليومَ بابَ بنى شيبة‏.‏

وذكر الإمام أحمد‏:‏ أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى، استقبل البيت فدعا‏.‏

وذكر الطبرانى‏:‏ أنه كان إذا نظر إلى البيت، قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ زدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْريماً وَمَهَابَةً‏)‏‏.‏ وروى عنه، أنه كان عند رؤيته يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً‏)‏ وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيدُ بن المسِّيب من عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضى اللَّه عنه يقوله‏.‏

فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فإنَّ تحيةَ المسجدِ الحرام الطَّوافُ، فلما حاذى الحجَر الأسود، استلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانى، ولم يرفع يديه، ولَم يَقُلْ‏:‏ نويتُ بطوافى هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكْبير كما يفعله مَن لا علم عنده، بل هو مِن البِدَع المُنكرات، ولا حاذى الحَجَرَ الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجَعله على شِقه، بل استقبلَه واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدُعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عِند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقَّتَ لِلطَّوَافِ ذِكراً معيناً، لا بفعله، ولا بتعليمِه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏ ورمَل في طوافه هَذَا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يُسرع في مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس‏.‏ وثبت عنه، أنه استلم الركن اليمانى‏.‏ ولم يثبتْ عنه أنه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه، وقد روى الدارقطنى، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُ الركن اليمانى، ويضع خده عليه‏)‏، وفيه عبد اللَّه بن مسلم بن هُرمز، قال الإمام أحمد‏:‏ صالحُ الحديثِ وضعَّفه غيره‏.‏ ولكن المرادَ بالرُّكن اليمانِى ههنا، الحجرُ الأسود، فإنه يُسمَّى الركنَ اليمانى ويُقالُ له مع الركن الآخر‏:‏ اليمانيان، ويقال له مع الركن الذي يلى الحِجر من ناحية الباب‏:‏ العراقيان، ويقال للرُّكنين اللذين يليان الحِجر‏:‏ الشاميان‏.‏ ويقال للركن اليمانى، والذي يلى الحِجر مِن ظهر الكعبة‏:‏ الغربيان، ولكن ثبت عنه، أنه قبَّل الحجر الأسود‏.‏ وثبت عنه، أنه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبَّلها، وثبت عنه، أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً يبكى‏.‏

وذكر الطبرانى عنه بإسناد جيد‏:‏ أنه كان إذا استلم الرُّكن اليمانى، قال‏:‏ ‏(‏بسْم اللَّه واللَّه أكْبَر‏)‏‏.‏

وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أكبَر‏)‏‏.‏

وذكر أبو داود الطيالسى، وأبو عاصم النبيل، عن جعفَر بن عبد اللَّه بن عثمان قال‏:‏ ‏(‏رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر قَبَّلَ الحَجَرَ وسَجَدَ عليه، ثُمَّ قال‏:‏ رأيتُ ابنَ عباس يُقبِّلُه ويسجُد عليه، وقال ابن عبَّاس‏:‏ رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّلَه وسجَدَ عليه‏.‏ ثم قال‏:‏ رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلتُ‏)‏‏.‏

وروى البيهقىُّ عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أنه قبَّل الرُكن اليمانى، ثم سَجَدَ عليه، ثم قبَّله، ثم سَجَدَ عليه ثلاثَ مرات‏)‏‏.‏

وذكر أيضاً عنه، قال‏:‏ ‏(‏رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم سجد على الحَجَر‏)‏‏.‏

ولم يستلِمْ صلى الله عليه وسلم، ولم يَمَسَّ مِن الأركان إلا اليمانيين فقط‏.‏ قال الشافعى رحمه اللَّه‏:‏ ولم يَدَعْ أحدٌ استلاَمَهما هِجرة لبيتِ اللَّه، ولكن اسْتَلَم ما استَلَمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأَمْسَكَ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ‏.‏

فصل

فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتى الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن، ومراد اللَّه منه بفعله صلى اللَّه عليه وسلم، فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه‏.‏

ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذي يقابله، فلما قَرُب منه‏.‏ قرأ‏:‏ ‏(‏‏{‏إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ أبدأ بما بدأ اللَّه به‏)‏، وفى رواية النسائى‏:‏ ‏(‏ابدؤوا‏)‏، بصيغة الأمر‏.‏ ثم رَقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ اللَّه وكبَّره، وقال‏.‏ ‏(‏لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه‏)‏‏.‏ ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات‏.‏

وقام ابنُ مسعود على الصَّدْع، وهو الشِّقُّ الذي في الصَّفا‏.‏ فقيل له‏:‏ ‏(‏هاهنا يا أبَا عبد الرحمن‏؟‏ قال‏:‏ هَذَا والذي لا إلَه غَيْرُه مَقَامُ الذي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورةُ البقرة‏)‏ ذكره البيهقى‏.‏

ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه في بطن الوادى، سعى حتَّى إذا جاوز الوادى وأَصْعَد، مشى‏.‏ هذا الذي صحَّ عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره‏.‏ والظاهر‏:‏ أن الوادى لم يتغير عن وضعه، هكذا قال جابر عنه في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏.‏ وظاهر هذا‏:‏ أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقولُ‏:‏ طافَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاع على رَاحِلَتِه بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ لِيَراهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ ولِيَسْألُوه فَإن النَّاسَ قد غشوْه، وروى مسلم عن أبى الزبير عن جابر‏:‏ ‏(‏لم يطف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُه بين الصَّفَا والمروة إلا طَوَافاً واحِداً طوافه الأول‏)‏‏.‏

قال ابنُ حزم‏:‏ لا تعارُض بينهما، لأن الراكب إذا انصبَّ به بعيرُه، فقد انصبَّ كُلُّه، وانصبَّتْ قدماه أيضاً مع سائر جسده‏.‏

وعندى في الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشياً أولاً، ثم أتمَّ سعيَه راكباً، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به، ففى صحيح ‏(‏مسلم‏)‏‏:‏ عن أبى الطُّفيل، قال‏:‏ ‏(‏قلت لابن عباس‏:‏ أخبرنى عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكباً، أسُّـنَّة هو‏؟‏ فإن قومَك يزعمُون أنه سُّـَّنة‏.‏ قال‏:‏ صدقُوا وكذبُوا قال‏:‏ قُلْتُ‏:‏ ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا‏؟‏ قال‏:‏ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ‏:‏ هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ‏.‏ قال‏:‏ وكانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ‏)‏‏.‏

فصل

وأما طوافُه بالبيت عند قدومه، فاختُلِفَ فيه، هل كان على قدميه، أو كان راكباً‏؟‏ ففى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت‏:‏ ‏(‏طافَ النبى صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاع حَوْلَ الكعبة على بعيره يستلِمُ الرُّكْنَ كراهية أن يُضْرَبَ عنْه الناسُ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏‏:‏ عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏(‏قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم مكة وهو يَشْتَكِى، فَطافَ على راحلِته، كلَّمَا أتى على الرُّكْنِ، استلمه بمِحْجَنٍ، فلما فَرَغَ مِن طوافه، أناخ، فصلَّى ركعتين‏.‏ قال أبو الطفيل‏:‏ رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم يطوفُ حولَ البيتِ على بعيره، يَسْتَلِمُ الحجر بمِحْجنِه، ثم يقبِّله‏)‏‏.‏ رواه مسلم دون ذِكر البعير‏.‏ وهو عند البيهقى، بإسناد مسلم بِذِكْرِ البَعيرِ‏.‏ وهذا واللَّهُ أعلم في طواف الإفاضة، لا في طوافِ القُدوم، فإن جابراً حكى عنه الرملَ في الثلاثة الأُوَل، وذلك لا يكون إلا مع المشى‏.‏

قال الشافعى رحمه اللَّه‏:‏ أما سُبعه الذي طافه لمقدَمِه، فعلى قدميه، لأن جابراً حكى عنه فيه، أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، فلا يجوز أن يكون جابرٌ يحكى عنه الطواف ماشياً وراكباً في سُبعٍ واحد‏.‏ وقد حفظ أن سُبعه الذي ركب فيه في طوافه يومَ النحر، ثم ذكر الشافعى‏:‏ عن ابن عُيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمَرَ أصحابَه أن يُهَجِّروا بالإفاضة، وأفاض في نسائه ليلاً على راحلته يستلم الرُّكن بِمحْجَنِهِ، أحسِبه قال‏:‏ فيقبِّل طرف المحجن‏.‏

قلت‏:‏ هذا مع أنه مرسل، فهو خلاف ما رواه جابر عنه في

‏(‏الصحيح‏)‏ أنه طاف طوافَ الإفاضة يوم النحر نهاراً، وكذلك روت عائشة وابنُ عمر، كما سيأتى وقول ابن عباس‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه‏.‏ هذا إن كان محفوظاً، فهو في إحدى عُمَره، وإلا فقد صح عنه الرمل في الثلاثة الأُوَل من طواف القدوم، إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعى‏:‏ إنه رمل على بعيره، فإن مَن رمل على بعيره، فقد رمل، لكن ليس في شئ من الأحاديثِ أنه كان راكباً في طواف القدوم‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏

فصل

وقال ابن حزم‏:‏ وطاف صلى اللَّه عليه وسلم بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره يَخُبُّ ثلاثاً، ويمشى أربعاً، وهذا مِن أوهامه وغلطه رحمه اللَّه، فإن أحداً لم يقُلْ هذا قطُّ غيره، ولا رواه أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم البتة‏.‏ وهذا إنما هو في الطواف بالبيت، فغلِط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة‏.‏ وأعجبُ من ذلك، استدلالُه عليه بما رواه من طريق البخارى، عن ابن عمر، ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم طافَ حينَ قَدِم مكة، واستلم الركنَ أوَّل شئ، ثم خَبَّ ثلاثةَ أطواف، ومشى أربعاً، فركع حين قَضَى طوافَه بالبيت، وصلَّى عند المَقَام رَكعتين، ثم سلَّم فانصرف، فأتى الصَّفا، فطاف بالصَّفا والمروةِ سبعة أشواط‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر باقى الحديث‏.‏ قال‏:‏ ولم نجد عدد الرَّمَل بين الصَّفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه‏.‏ هذا لفظه‏.‏

قلت‏:‏ المتفقُ عليه‏:‏ السعىُ في بطن الوادى في الأشواط كلِّها‏.‏ وأما الرَّمَلُ في الثلاثة الأُوَل خاصَّة، فلم يقُله، ولا نقله فيما نعلمُ غيرُه‏.‏ وسألت شيخنا عنه، فقال‏:‏ هذا مِن أغلاطه، وهو لم يحجَّ رحمه اللَّه تعالى‏.‏

ويشبه هذا الغلطَ، غلطُ مَن قال‏:‏ إنه سعى أربَع عشرةَ مرة، وكان يحتسِبُ بذهابه ورجوعِه مرة واحدة‏.‏ وهذا غلط عليه صلى اللَّه عليه وسلم، لم ينقله عنه أحد، ولا قاله أحدٌ من الأئمة الذين اشتهرت أقوالُهم، وإن ذهب إليه بعضُ المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة‏.‏ ومما يبين بُطلان هذا القول، أنه صلى الله عليه وسلم لا خلاف عنه، أنه ختم سعيه بالمروة، ولو كان الذهابُ والرجوعُ مرة واحدة، لكان ختمُه إنما يقع على الصَّفا‏.‏

وكان صلى اللَّه عليه وسلم إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر اللَّهَ ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتماً ولا بُدَّ، قارناً كان أو مفرداً، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه‏.‏ وهناك قال‏:‏ ‏(‏لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً‏)‏‏.‏

وقد روى أنه أحلَّ هو أيضاً، وهو غلط قطعاً، قد بينَّاه فيما تقدم‏.‏

وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة‏.‏ وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال‏:‏ هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بَلْ لِلأبد‏)‏‏.‏ ولم يَحِلَّ أبو بكر، ولا عُمر، ولا علىٌّ، ولا طلحةُ، ولا الزبيرُ من أجل الهَدْى‏.‏

وأما نساؤه صلى اللَّه عليه وسلم، فأحللن، وكُنَّ قارنات، إلا عائشة فإنها لم تَحِلَّ من أجل تعذُّرِ الحل عليها لحيضها، وفاطمة حلَّت، لأنها لم يكن معها هَدْى، وعلىّ رضى اللَّه عنه لم يَحِلَّ مِن أجل هَدْيه، وأمر صلى الله عليه وسلم مَن أهل بإهلالِ كإهلاله أن يُقيم على إحرامه إن كان معه هَدْى، وأن يَحِلَّ إن لم يكن معه هَدْى‏.‏

وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهرمكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، ولم يدخُلُوا إلى المسجد، فأحرمُوا منه، بل أحرمُوا ومكةُ خلفَ ظهورهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة، فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ على يمين طريق النَّاس اليوم، وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهى قرية شرقى عرفات، وهى خرابٌ اليوم، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادى من أرض عُرَنَةَ‏.‏

فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحقَّ الذي لهن والذي عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدْخَلْن إلى بيوتهن مَنْ يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب اللَّه، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم‏:‏ بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا‏:‏ نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللَّهَ عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ وأرسلت إليه أمُّ الفضل بنت الحارث الهِلالية وهى أمُّ عبد اللَّه بن عباس، بقدح لبن، فشربه أمامَ النَّاس وهو على بعيره فلما أتم الخُطبة، أمر بلالاً فأقام الصلاة، وهذا من وهمه رحمه اللَّه، فإن قِصة شربه اللبن، إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها، هكذا جاء في ‏(‏الصحيحين‏)‏ مصرَّحاً به عن ميمونة‏:‏ ‏(‏أن الناسَ شَكُّوا في صِيام النبى صلى الله عليه وسلم يومَ عرفة، فأرسلت إليه بحِلاب وهو واقِف في الموقف، فشرِب منه والناسُ ينظرون‏)‏‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏وهو واقف بعرفة‏)‏‏.‏

وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، فدل على أن المسافِر لا يُصلِّى جمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومَن قال‏:‏ إنه قال لهم‏:‏ ‏(‏أتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ‏)‏، فقد غلط فيه غلطاً بيِّناً، ووهم وهما قبيحاً‏.‏ وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا في ديارهم مقيمين‏.‏

ولهذا كان أصحَّ أقوالِ العلماء‏:‏ أن أهل مَكّة يَقْصُرُون ويجمعون بعرفة، كما فعلُوا مع النبى صلى الله عليه وسلم، وفى هذا أوضحُ دليل، على أن سفر القصر لا يتحدَّدُ بمسافةٍ معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنُّسُكِ في قصر الصلاة البتة، وإنما التأثيرُ لما جعله اللَّه سبباً وهو السفرُ ، هذا مقتضى السنة ، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون‏.‏

فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال‏:‏ ‏(‏وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ‏)‏‏.‏

وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال‏:‏ ‏(‏الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه‏)‏‏.‏

وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ‏.‏

وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِى نَقُولُ، وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتى وَنُسُكى، ومَحْيَاىَ، ومَمَاتِى، وَإليكَ مَآبى، ولَكَ ربِّى تُراثى، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ‏)‏ ذكره الترمذى‏.‏

ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامى، وتَرَى مَكَانى، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتى، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبى، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلنى بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بى رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ‏)‏ ذكره الطبراني‏.‏

وذكر الإمام أحمد‏:‏ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال‏:‏ كان أكثرُ دُعاءِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفة‏:‏ ‏(‏لا إله إلاَّ اللَّهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير‏)‏‏.‏

وذكر البيهقىُّ من حديث علىّ رضى اللَّهُ عنه، أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أَكْثَرُ دُعائى ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلى بِعَرَفَةَ‏:‏ لا إله إلاَّ اللَّه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَئ قَدِير، اللَّهُمَّ اجْعَل في قَلبى نُوراً، وفى صَدْرى نُوراً، وفى سَمْعى نُوراً، وفى بَصَرى نُوراً، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لى صَدْرِى، ويَسِّرْ لى أَمْرى، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمْر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ إنى أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ في اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ في النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر‏)‏‏.‏

وأسانيدُ هذه الأدعية فيها لين‏.‏

وهناك أُنزِلَتْ عليه‏:‏ ‏{‏اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّنَ في ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى‏.‏

وفى هذه القصة اثنا عشر حُكماً‏.‏

الأول‏:‏ وجوبُ غسلِ الميت، لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم به‏.‏

الحكم الثانى‏:‏ أنه لا يَنْجُسُ بالموت، لأنه لو نجس بالموت لم يَزِدْهُ غسلُه إلا نجاسة، لأن نجاسة الموتِ للحيوان عينية، فإن ساعد المنجِّسون على أنه يَطْهُرُ بالغَسل، بطل أن يكون نَجساً بالموت، وإن قالوا‏:‏ لا يطهُرُ، لم يزد الغسلُ أكفانَه وثيابه وغاسله إلا نجاسة‏.‏

الحكم الثالث‏:‏ أنَّ المشروعَ في حقِّ الميت، أن يُغسَّل بماءٍ وسِدْرٍ لا يُقتصر به على الماء وحده، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالسدر في ثلاثة مواضع، هذا أحدُها‏.‏ والثانى‏:‏ في غسل ابنته بالماءوالسدر‏.‏والثالث‏:‏ في غسل الحائض‏.‏

وفى وجوب السِّدرِ في حقِّ الحائِض قولان في مذهب أحمد‏.‏

الحكم الرابع‏:‏ أنَّ تغيَّر الماء بالطاهرات، لا يسلُبُه طهوريَّتَه، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنصُّ الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخِّرون من أصحابه على خلافها‏.‏ ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماءٍ قَراح، بل أمر في غَسلِ ابنته أن يجعلْنَ في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، ولو سلبه الطَّهورِيَّة، لنهى عنه، وليس القصدُ مجردَ اكتساب المَاء من رائحته حتى يكونَ تغير مجاورة، بل هو تطييب البدنِ وتصليبه وتقويتُه، وهذا إنما يحصُل بكافُور مخالِط لا مجاوِر‏.‏

الحكم الخامس‏:‏ إباحةُ الغسل للمحرم، وقد تناظر في هذا عبدُ اللَّهِ بنُ عباس، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بينهما أبُو أيوب الأنصارى، بأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اغتسلَ وهو مُحْرِمٌ‏.‏ واتفقوا على أنه يغتسِل من الجنابة، ولكن كره مالك رحمه اللَّه أن يُغَيِّبَ رأسه في الماء، لأنه نوع سِتر له، والصحيحُ أنه لا بأس به، فقد فعله عمرُ بن الخطاب وابنُ عباس‏.‏

الحكم السادس‏:‏ أن المحرم غيرُ ممنوع من الماء والسِّدْرِ‏.‏ وقد اختُلِفَ في ذلك، فأباحه الشافعىُّ، وأحمد في أظهر الروايتين عنه، ومنع منه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية ابنه صالح عنه‏.‏ قال‏:‏ فإن فعل، أهدى، وقال صاحبا أبى حنيفة‏:‏ إن فعل، فعليه صدقة‏.‏

وللمانعين ثلاث علل‏.‏

إحداها‏:‏ أنه يقتُل الهَوَامَّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلِّى‏.‏

الثانية‏:‏ أنه ترفُّه، وإزالةُ شَعَثٍ يُنافى الإحرام‏.‏

الثالثة‏:‏ أنه يستَلِذُّ رائحتَه، فأشبه الطِّيب، ولا سيما الخطمى‏.‏

والعلل الثلاث واهية جداً، والصواب‏:‏ جوازه للنص، ولم يُحرِّم اللَّهُ ورسوله على المحرِم إزالة الشَّعَثِ بالاغتسال، ولا قتل القمل، وليس السِّدْرُ من الطيب في شئ‏.‏

الحكم السابع‏:‏ أن الكفنَ مقدَّم على الميراث، وعلى الدَّيْن، لأن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أن يُكفَّن في ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن دَيْنٍ عليه، ولو اختلف الحالُ، لسأل‏.‏

وكما أن كِسوته في الحياة مقدَّمة على قضاء دَينه، فكذلك بعد الممات، هذا كلامُ الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يُعَوَّلُ عليه‏.‏

الحكم الثامن‏:‏ جواز الاقتصارِ في الكفن على ثوبين، وهما إزارٌ ورداء، وهذا قول الجمهور‏.‏ وقال القاضى أبو يعلى‏:‏ لا يجوز أقلُّ من ثلاثة أثواب عند القدرة، لأنه لو جاز الاقتصارُ على ثوبين، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام، والصحيح خلاف قوله، وما ذكرهُ يُنقض بالخشن مع الرفيع‏.‏

الحكم التاسع‏:‏ أن المحرم ممنوعٌ من الطِّيب، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يُمَسَّ طيباً، مع شهادته له أنه يُبعث ملبِّياً، وهذا هو الأصل في منع المحرِم مِن الطِّيب‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏لا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَاب شَيْئاً مَسَّه وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَان‏)‏‏.‏

وأمر الذي أحرم في جُبَّة بعد ما تضمَّخَ بالخَلُوق، أن تُنْزَعَ عَنْهُ الجُبَّةُ، ويُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الخَلُوقِ‏.‏ فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدارُ منع المحرِم من الطيب‏.‏ وأصرحُها هذه القصة، فإن النهى في الحديثين الأخيرين، إنما هو عن نوع خاصٍّ من الطيب، لا سيما الخَلوقَ، فإن النهى عنه عام في الإحرام وغيره‏.‏

وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُقرب طيباً، أو يمس به، تناول ذلك الرأسَ، والبدن، والثياب، وأما شمُّه من غير مسٍّ، فإنما حرَّمه مَن حرَّمه بالقياس، وإلا فلفظُ النهى لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعَ معلومٌ فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمُه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته في البدنِ والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حَرُمَ تحريم الوسائِل، فإنه يُباح للحاجة، أو المصلحة الرَّاجِحة، كما يُباح النظر إلى الأَمَة المُستَامَةِ، والمخطُوبة، ومن شَهِدَ عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّها‏.‏ وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرمُ مِن قصد شمِّ الطيب للترفُّه واللَّذة، فأما إذا وصلت الرائحةُ إلى أَنفه من غير قصد منه، أو شمَّه قصداً لاستعلامه عند شرائه، لم يُمنع منه، ولم يجب عليه سدُّ أنفه، فالأول‏:‏ بمنزلة نظر الفجأة، والثانى‏:‏ بمنزلة نظر المُستام والخاطب، ومما يُوضِّح هذا، أن الذين أباحوا للمحرم استدامَة الطيب قبل الإحرام، منهم مَن صرَّح بإباحة تعمُّد شَمِّه بعد الإحرام، صرَّح بذلك أصحاب أبى حنيفة، فقالوا‏:‏ في ‏(‏جوامع الفقه‏)‏ لأبى يوسف‏:‏ لا بأس بأن يشم طيباً تطيَّب به قبل إحرامه، قال صاحب ‏(‏المفيد‏)‏‏:‏ إن الطِّيب يتصلُ به، فيصير تبعاً له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه، فيصير كالسَّحور في حق الصائم يدفعُ به أذى الجوع والعطش في الصوم، بخلاف الثوب، فإنه بائن عنه‏.‏

وقد اختلف الفقهاء، هل هو ممنوع من استدامته، كما هو ممنوع من ابتدائه، أو يجوز له استدامتُه‏؟‏ على قولين‏.‏ فمذهب الجمهور‏:‏ جوازُ استدامته اتباعاً لما ثبت بالسُّـنَّة الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ في مَفَارِقِه بَعْدَ إحْرَامِه‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏وهو يُلبِّى‏)‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏بَعْدَ ثَلاثٍ‏)‏‏.‏ وكل هذا يدفع التأويل الباطلَ الذي تأوَّله مَن قال‏:‏ إن ذلك كان قبل الإحرام، فلما اغتسل، ذهب أثره‏.‏ وفى لفظ‏:‏ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، تَطيَّبَ بأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ في رَأْسِهِ وَلِحيَتِهِ بَعْدَ ذلِكَ‏.‏ وللَّه ما يصنعُ التقليدُ، ونصرة الآراء بأصحابه‏.‏

وقال آخرون منهم‏:‏ إن ذلك كان مختصاً به، ويردُّ هذا أمران، أحدهما‏:‏ أنَّ دعوى الاختصاص، لا تُسْمَعُ إلا بِدليل‏.‏

والثانى‏:‏ ما رواه أبو داود، عن عائشة، ‏(‏كنا نخرُجُ مع رسولِ صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بالسُّكِّ المُطَيَّبِ عِنْدَ الإحْرَامِ، فَإذَا عَرِقَتْ إحدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَنْهَانَا‏)‏‏.‏

الحكم العاشر‏:‏ أن المُحرِم ممنوع مِن تغطية رأسه، والمراتبُ فيه ثلاث‏:‏ ممنوع منه بالاتفاق، وجائزٌ بالاتفاق، ومختلَف فيه، فالأول‏:‏ كلُّ متصل ملامس يُرادُ لستر الرأس، كالعِمَامَةِ، والقُبَّعَةِ، والطَّاقيةِ، والخُوذَةِ، وغيرها‏.‏

والثانى‏:‏ كالخيمة، والبَيْتِ، والشَّجَرةِ، ونحوها، وقد صحَّ عنِ النبى صلى الله عليه وسلم، أنه ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ، إلا أن مالكاً منع المحرِم أن يضَعَ ثوبَه على شجرة لِيستَظِلَّ به، وخالفه الأكثرون، ومنع أصحابُهُ المحرِم أن يَمْشِىَ في ظِلِّ المَحْمِلِ‏.‏

والثالث‏:‏ كالمَحْمِل، والمَحَارَةِ، والهَوْدَجِ، فيه ثلاثة أقوال‏:‏ الجواز، وهو قولُ الشافعى وأبى حنيفة رحمهما اللَّه، والثانى‏:‏ المنع‏.‏ فإن فعل، افتدى، وهو مذهبُ مالكٍ رحمه اللَّه‏.‏ والثالث‏:‏ المنع، فإن فعل، فلا فِديةَ عليه، والثلاثةُ رواياتٌ عن أحمد رحمه اللَّه‏.‏

الحكم الحادى عشر‏:‏ منع المحرم من تغطية وجهه، وقد اختُلِف في هذه المسألة‏.‏ فمذهب الشافعى وأحمد في رواية‏:‏ إباحته، ومذهب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد في رواية‏:‏ المنع منه، وبإباحته قال ستة من الصحابة‏:‏ عثمانُ، وعبدُ الرحمن بن عوف، وزيدُ بن ثابت، والزبيرُ، وسعدُ بن أبى وقاص، وجابرٌ رضى اللَّه عنهم‏.‏ وفيه قول ثالث شاذ‏:‏ إن كان حياً، فله تغطية وجهه، وإن كان ميتاً، لم يجز تغطيةُ وجهه، قاله ابنُ حزم، وهو اللائق بظاهريته‏.‏

واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة، وبأصل الإباحة، وبمفهوم قوله‏:‏ ‏(‏ولاَ تُخَمِّرُوا رَأسَه‏)‏، وأجابوا عن قوله‏:‏ ‏(‏ولا تُخَمِّروا وجهه‏)‏، بأن هذه اللفظة غير محفوظة فيه‏.‏ قال شعبة‏:‏ حدثنيه أبو بشر، ثم سألتُه عنه بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان، إلا أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تُخَمِّروا رَأْسَهُ، ولاَ وَجْهَه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على ضعفها‏.‏ قالوا‏:‏ وقد روى في الحديث‏:‏ ‏(‏خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلا تُخَمِّروا رَأْسَهُ‏)‏‏.‏

الحكم الثانى عشر‏:‏ بقاءُ الإحرامِ بعد الموت، وأنه لا ينقطِعُ به، وهذا مذهبُ عثمانَ، وعلىٍّ، وابن عباس، وغيرهم رضى اللَّه عنهم، وبه قال أحمدُ، والشافعى، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعى‏:‏ ينقطع الإحرامُ بالموت، ويُصنع به كما يُصنع بالحَلال، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولا دليلَ في حديث الذي وقصته راحلتُه، لأنه خاص به، كما قالُوا في صلاته على النَّجَاشِىِّ‏:‏ إنها مختصة به‏.‏

قال الجمهور‏:‏ دعوى التخصيص على خلاف الأصلِ، فلا تُقبل، وقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلبِّياً‏)‏، إشارة إلى العِلَّة‏.‏ فلو كان مختصاً به، لم يُشر إلى العِلَّة، ولا سيما إن قيل‏:‏ لا يصح التعليلُ بالعِلَّة القاصرة‏.‏ وقد قال نظير هذا في شُهداء أُحُد، فقال‏:‏ ‏(‏زَمِّلُوهُمْ في ثيابهِم، بكُلُوُمهم، فإنَّهُم يُبْعَثُونَ يَومَ القيامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم، والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ‏)‏‏.‏ وهذا غيرُ مختص بهم، وهو نظيرُ قوله‏:‏ ‏(‏كَفِّنُوهُ في ثَوْبيهِ، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلَبِّياً‏)‏‏.‏ ولم تقولوا‏:‏ إن هذا خاص بشهداء أُحُد فقط، بل عدَّيتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه‏.‏ وما الفرق‏؟‏ وشهادة النبى صلى الله عليه وسلم في الموضعين واحدة، وأيضاً‏:‏ فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التي رتب عليها المعاد، فإن العبد يُبعث على ما مات عليه، ومَن مات على حالة بُعِث عليها فلو لم يرد هذا الحديث، لكان أصول الشرع شاهدة به‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏