فصل: فصل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل

وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يُبايعُ أصحَابَه في الحربِ على ألا يَفِرُّوا، وربَّما بايعهم على الموتِ، وبايعهم على الجهادِ كما بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهِجرةِ قبل الفتح، وبايَعُهُم على التوحيد، والتزامِ طاعةِ الله ورسوله، وبايع نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً‏.‏

وكانَ السَّوطُ يَسْقُطُ مِن يَدِ أحَدِهِم، فينزلُ عن دابته، فيأخُذُهُ، ولا يَقُولُ لأَحدِ‏:‏ نَاولْنى إيَّاهُ‏.‏

وكان يُشاوِر أصحابه في أمر الجهاد، وأمر العدو، وتخير المنازل، وفى ‏(‏المستدرك‏)‏ عن أبى هريرة‏:‏ ‏(‏ما رأيتُ أحداً أكثر مشورةً لأصحابه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وكان يتخلَّفُ في ساقَتِهم في المسير، فيُزجى الضعيفَ، ويُردِفُ المنقطِعَ، وكان أرفق النَّاسِ بهم في المسير‏.‏

وكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها ، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين‏:‏ كيف طريقُ نجد، ومياهُها، ومَن بها من العدوَّ ونحو ذلك‏.‏

وكان يقولُ‏:‏ ‏(‏الحَرْبُ خَدْعَةٌ‏)‏‏.‏

وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوِّه، ويُطلِعُ الطلائعَ، ويبِّيتُ الحرسَ‏.‏

وكان إذا لقى عدوَّه، وقف ودعا، واستنصرَ الله، وأكثر هو وأصحابُه مِن ذكر الله، وخفضوا أصواتهم‏.‏

وكان يرتِّبُ الجيش والمقاتلة، ويجعلُ في كل جنبةٍ كُفْئاً لها، وكان يُبارَزُ بين يديه بأمرِهِ، وكانَ يَلُبَسُ لِلحرب عُدَّتَه، ورُبَّمَا ظاهر بين دِرْعَيْنِ، وكان له الألويةُ والرايات‏.‏

وكان إذا ظهر على قوم، أقام بِعَرْصَتِهِمْ ثَلاثاً، ثم قفل‏.‏

وكان إذا أراد يُغير، انتظر، فإن سمع في الحىِّ مؤذناً، لم يُغِرْ وإلا أغارَ ، وكان ربما بيَّت عدوَّهُ، وربَّما فاجأهم نهاراً‏.‏

وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرةَ النهار، وكان العسكرُ إذا نزل انضمَّ بعضه إلى بعض حتى لو بُسطَ عليهم كساء لعمَّهم‏.‏

وكان يرتب الصفوف ويُعَبِّئُهُم عند القتال بيده، ويقول‏:‏ ‏(‏تقدَّم يا فلان، تأخَّر يا فلان‏)‏‏.‏

وكان يستحب للرجُلِ منهم أن يُقاتل تحت راية قومِه‏.‏

وكان إِذا لَقِىَ العدوَّ، قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَاب، ومُجْرىَ السَّحَاب، وهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وانصُرْنَا عَلَيْهم‏)‏ ، وربما قال‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأمَرُّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45-46‏]‏‏.‏

وكان يقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ‏)‏‏.‏

وكان يقولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِى وأَنتَ نَصِيرِى، وَبِكَ أُقَاتِلُ‏)‏‏.‏

وكان إذا اشتد له بأسٌ، وَحَمِىَ الحربُ، وقصده العدوُّ، يُعِلمُ بنفسه ويقولُ‏:‏

أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِب أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ

وكانَ الناسُ إذا اشتدَّ الحَرْبُ اتَّقَوْا به صلى الله عليه وسلم وكانَ أقربَهم إلى العدوِّ‏.‏

وكان يجعلُ لأصحابه شِعَاراً في الحرب يُعْرَفُونَ به إذا تكلَّموا، وكَانَ شِعَارُهُمْ مَرَّة‏:‏ ‏(‏أَمِتْ أَمِتْ‏)‏، ومرةً‏:‏ ‏(‏يَا مَنْصْورُ‏)‏، ومرة‏:‏ ‏(‏حَم لا يُنْصَرُونَ‏)‏‏.‏

وكان يلَبسُ الدَّرعَ والخُوذَةَ، ويتقلَّدُ السيفَ، ويَحْمِلُ الرّمح والقوسَ العربية، وكان يتترَّسُ بالتُّرسِ، وكان يُحِبُّ الخُيلاء في الحربِ، وقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، فأَمَّا الخُيَلاَءُ التي يُحبُّهَا اللهُ، فاخْتيالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، واخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا التي يُبْغِضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاخْتِيَالُهُ في البَغى وَالفَخْرِ‏)‏‏.‏

وقاتل مرة بالمنجنيق نصبَه على أهل الطائفِ‏.‏ وكان ينهى عن قتلِ النساءِ والولدانِ، وكان ينظُرُ في المقاتِلَةِ، فمن رآهُ أَنْبَتَ، قَتَلَهُ، ومَن لم يُنْبِتْ، استحياه‏.‏

وكان إذا بعث سريَّة يُوصيهم بتقوى الله، ويقول‏:‏ ‏(‏سيرُوا بِسْم اللهِ وفى سَبِيلِ اللهِ، وقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللَّهِ، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَغْدُرُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدَاً‏)‏‏.‏

وكان ينهى عن السَّفَرِ بالقُرآنِ إلى أرضِ العدوِّ‏.‏

وكان يأمر أميرَ سريَّته أن يدعوَ عدوَّه قبل القِتال إمَّا إلى الإسلامِ والهِجرةِ، أو الإسلامِ دون الهِجرة، ويكونون كأعرابِ المسلمين، ليس لهم في الفىء نصيب، أو بذل الجِزية، فإن هُمْ أجابُوا إليه، قَبِلَ منهم، وإلا استعان باللهِ وقاتلهم‏.‏

وكان إذا ظفر بعدوِّه، أمر منادياً، فجمع الغنائمَ كلَّها، فبدأ بالأسلابِ فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خُمُسَ الباقى، فوضعه حيث أراه الله، وأمره به مِن مصالح الإسلام، ثم يَرْضَخُ من الباقى لمن لا سهم له مِن النساءِ والصِّـبيانِ والعبيدِ، ثم قسم الباقى بالسَّويَّة بين الجيش، للفارسِ ثلاثةُ أسهم‏:‏ سهمٌ له، وسهمانِ لفرسه، وللراجل سهم هذا هو الصحيح الثابت عنه‏.‏

وكان يُنَفِّلُ مِن صُلْب الغنيمةِ بحسب ما يراه مِن المصلحةِ، وقيل‏:‏ بل كان النَّفَلُ مِن الخُمُس، وقيل وهو أضعف الأقوال ‏:‏ بل كان من خُمُسِ الخُمُسِ‏.‏ وجمع لِسلمةَ بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهمِ الراجل والفارس، فأعطاه أربعةَ أسهم لِعظم غَنائِهِ في تلك الغزوة‏.‏

وكان يُسَوِّى الضعيف والقوى في القِسمة ما عدا النفل‏.‏

وكان إذا أغار في أرض العدوِّ، بعثَ سَرِيَّة بين يديه، فما غَنِمتْ، أخرج خُمُسَهُ، وَنَفَّلَهَا رُبُعَ الباقى، وقسم الباقى بينها وبين سائر الجيش، وإذا رجع، فعل ذلك، ونفَّلها الثلث ومع ذلك، فكان يكرهُ النَّفَلَ، ويقولُ‏:‏ ‏(‏لِيَرُدَّ قَوِىُّ المْؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ‏)‏‏.‏

وكانَ له صلى الله عليه وسلم سَهْمٌ من الغنيمة يُدْعَى الصَّفِىَّ، إن شاء عبداً، وإن شاء أمةً، وإن شاءَ فرساً يختارُه قبل الخُمُس‏.‏

قالت عائشةُ‏:‏ ‏(‏وكَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصّفِىِّ‏)‏ رواه أبو داود‏.‏ ولهذا جَاءَ في كتابه إلى بنى زهير بن أُقَيْش‏:‏

‏(‏إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُم أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ، وأَنَّ محَمَّداً رسُولُ اللهِ، وأَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ، وآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ وَسَهْم النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم، وَسَهْمَ الصَّفِىَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ بأَمَانِ الله وَرَسُولِهِ‏)‏‏.‏

وكان سيفُهُ ذُو الفَقَارِ مِن الصَّفِىِّ‏.‏

وكان يُسهِمُ لمن غاب عن الوقعةِ لمصلحةِ المُسلمِينَ، كما أسهم لِعثمان سهمَه مِن بدر، ولم يحضُرْهَا لِمكان تمريضه لامرأتِهِ رُقيَّةَ ابنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ في حَاجَةِ الله وحاجة رَسُولِهِ‏)‏، فَضَربَ لَهُ سَهْمَه وَأَجْرَهُ‏.‏

وكانوا يشترون معه في الغزو ويبيعونَ، وهو يراهم ولا ينهاهم، وأخبره رجل أَنَّهُ رَبحَ ربحاً لم يَرْبحْ أحَدٌ مِثلَهُ، فقال‏:‏ ‏(‏ما هو‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ ما زِلتُ أبيعُ وأبتاعُ حتى رَبِحْتُ ثلاثَمائةِ أُوقيَّة، فقالَ‏:‏ ‏(‏أَنَا أُنَبَئُكَ بِخَيْرِ رَجُلٍ رَبِحَ‏)‏ قَالَ‏:‏ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلاة‏)‏‏.‏

وكانوا يستأجرون الأُجراء للغزو على نوعين، أحدُهما‏:‏ أن يخرُج الرجلُ، ويستأجِرَ مَنْ يَخْدِمه في سفرِهِ‏.‏ والثانى‏:‏ أن يستأجرَ من ماله مَن يخرج في الجهاد، ويسمون ذلك الجعائل، وفيها قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏للغازى أجرُه، وللجاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الغَازِى‏)‏‏.‏

وكانوا يتشاركون في الغنيمة على نوعين أيضاً، أحدهما‏:‏ شركة الأبدان، والثانى‏:‏ أن يدفع الرَّجلُ بعيرَه إلى الرجل أو فرسه يغزُو عليه على النصف مما يغنمُ حتى ربما اقتسما السَّهْمَ، فأصابَ أحدُهُما قِدْحَهُ، والآخر نصلَه ورِيشَه‏.‏

وقال ابنُ مسعود‏:‏ ‏(‏اشتركتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وسَعْدٌ فيما نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيْرَيْنِ، وَلَمْ أَجِىءْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَىءٍ‏)‏‏.‏

وكان يبعثُ بالسريَّة فُرساناً تارةً، ورِجَالاً أُخْرَى، وكان لا يُسْهِمُ لِمن قَدِمَ مِن المَدَدِ بعدَ الفتح‏.‏

فصل

وكان يُعطى سهمَ ذى القُربى في بنى هاشم وبنى المطلب دون إخوتِهم من بنى عبدِ شمس وبنى نوفل، وقال‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَىْءٌ وَاحِدٌ‏)‏ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا في جَاهِلِيةٍ ولاَ إِسْلاَم‏)‏

فصل

وكان المسلمون يُصيبُونَ معه في مغازِيهم العَسَلَ والعِنَبَ والطَّعَامَ فيأكلونه، ولا يرفعُونه في المغانم، قال ابنُ عمر‏:‏ ‏(‏إِنَّ جَيْشَاً غَنِمُوا في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامَاً وَعَسَلاً، ولم يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الخُمُسُ‏)‏ ذكره أبو داود‏.‏

وانفرد عبدُ الله بنُ المغفَّل يَوْمَ خَيبَر بِجِرَابِ شَحْمٍ، وقال‏:‏ ‏(‏لا أُعْطِى اليومَ أحداً مِنْ هذا شيئاً، فسمِعَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتبسَّم ولم يَقُلْ له شيئاً‏)‏‏.‏

وقيل لابن أبى أوفى‏:‏ كُنُتم تُخمِّسُونَ الطعامَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ أصبنا طعاماً يومَ خيبر، وكان الرجلُ يجىء، فيأخذُ منه مِقدَارَ ما يكفيه، ثم ينصرفُ ‏)‏‏.‏

وقال بعضُ الصحابةِ‏:‏ ‏(‏كنا نأكُلُ الجَوْزَ في الغَزْوِ، ولا نَقْسِمُه حتى إنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إلى رِحالِنَا وأَجْرِبَتُنَا منه مملوءة‏)‏‏.‏

فصل

وكان ينهى في مغازيه عن النُّهْبَة والمُثْلَةِ وقال‏:‏ ‏(‏مَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا‏)‏‏.‏

‏(‏وأمرَ بالقُدُورِ التي طُبِخَتْ مِنَ النُّهبَى فَأُكْفِئَتْ‏)‏‏.‏

وذكر أبو داود عَنْ رجلٍ من الأنصار قال‏:‏ ‏(‏خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأصَابَ النَّاسَ حاجَةٌ شديدةٌ وجَهْدٌ، وأصابُوا غنماً، فانتَهبُوها وإنَّ قُدورنَا لتغلى إذ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يمشى على قوسه، فَأَكْفَأَ قُدورَنَا بقوسِهِ، ثُمَّ جعلَ يُرْمِلُ اللَّحمَ بالترابِ، ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏إنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ المَيْتَةِ، أو إِنَّ المَيْتَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ النُّهْبَةِ‏)‏‏.‏

وكان ينهى أن يركبَ الرجلُ دابةً مِن الفىء حتَّى إذا أعجفَهَا، ردَّهَا فيه، وأن يَلْبَسَ الرَّجُلُ ثوباً مِن الفىء حتى إذا أخلقَه، ردَّه فيه ، ولم يمنع من الانتفاع به حال الحرب‏.‏

فصل

وكان يُشدِّدُ في الغُلُولِ جداً، ويقول‏:‏ ‏(‏هُوَ عارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏‏.‏

ولما أُصيبَ غلامهُ مِدْعَمٌ قالوا‏:‏ هنيئاً لَهُ الجَنَّةُ قال‏:‏ ‏(‏كَلا والذي نَفْسى بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ التي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَر مِنَ الغَنَائِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نارَاً‏)‏ فجاء رجل بِشرَاكٍ أو شِرَاكَيْنِ لما سمِع ذَلِكَ، فقال‏:‏ ‏(‏شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِن نارٍ‏)‏

وقال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏قَامَ فِينَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الغُلُولَ وعَظَّمهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، عَلَى رَقَبتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِى، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ، عَلَى رَقَبَتِهِ صَامتٌ، فَيَقُولُ‏:‏ يَارَسُولَ اللهِ أَغِثْنِى، فأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِى، فَأَقُولُ‏:‏ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ‏)‏‏.‏

وقال لمن كانَ عَلَى ثَقَلِهِ وقد مَات‏:‏ ‏(‏هُوَ في النَّارِ‏)‏ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا‏.‏

وقالوا في بعضِ غَزَواتِهم‏:‏ ‏(‏فُلانٌ شَهِيدٌ، وفُلانٌ شَهِيدٌ حتَّى مرُّوا على رجُلٍ، فَقَالُوا‏:‏ وفُلانٌ شَهِيدٌ، فقال‏:‏ ‏(‏كَلا إِنَّى رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَة‏)‏ ثمَّ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ يَا ابنَ الخَطَّابِ، اذْهَبْ فَنَادِ في النَّاسِ‏:‏ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا المُؤْمِنُونَ‏)‏‏.‏

وتُوفى رجلٌ يومَ خيبر، فذكُروا ذلكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏صَلُّوا عَلَى صَاحِبكُم‏)‏ فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لذلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إنَّ صَاحِبَكُم غَلَّ في سَبِيلِ الله شَيْئاً‏)‏، ففتَّشُوا متاعَه، فوجدُوا خَرزاً مِن خرزِ يَهودٍ لا يُساوى دِرْهَمَيْنِ‏)‏‏.‏

وكَانَ إذا أصابَ غَنِيمَةً أمرَ بِلالاً، فنادَى في الناسِ، فيجيؤونَ بِغَنَائِمِهِم، فَيُخَمِّسُه، ويَقْسمُه، فجاء رجلٌ بعد ذلك بِزِمَامٍ مِن شَعر، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَمِعْتَ بِلاَلاً نَادىَ ثَلاَثَاً ‏؟‏‏)‏ قالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏ فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِىءَ بِهِ ‏؟‏‏)‏ فاعتذر، فقالَ‏:‏ ‏(‏كُنْ أَنْتَ تَجِىءُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ‏)‏‏.‏

فصل

وأمر بتحريقِ متاعِ الغَالِّ وضرِبهِ، وحَرَقَهُ الخليفتانِ الراشِدانِ بعده ، فقيل‏:‏ هذا منسوخٌ بسائِرِ الأحاديثِ التي ذَكَرْتُ، فإنه لم يَجىء التحريقُ في شىءٍ منها، وقيل - وهو الصواب - إِنَّ هذَا مِن باب التعزِيرِ والعقوباتِ المالية الراجعةِ إلى اجتهاد الأئمة بحسَبِ المصلحة، فإنه حَرَقَ وتَرَكَ، وكذلِكَ خلفاؤهُ مِن بعده، ونظيرُ هذا قتلُ شارِب الخمر في الثَّالثة أو الرَّابعة فليسَ بِحَدٍّ ولا منسوخ، وإنما هو تعزيرٌ يتعلَّق باجتهادِ الإمام‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الأسارى

كان يَمُنُّ على بعضهم، ويقتُلُ بعضَهُم، ويُفادِى بعضَهم بالمال، وبعضَهم بأسرى المسلمينَ، وقد فعل ذلك كلَّه بِحَسَبِ المصلحة، ففادَى أسارى بدرٍ بمالٍ، وقَالَ‏:‏ ‏(‏ لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِىٍّ حَياً، ثُمَّ كَلَّمَنى في هؤلاءِ النَّتْـنَى، لَترَكْتُهُم له‏)‏‏.‏

وهبطَ عليه في صُلحِ الحديبية ثمانون متسلِّحُونَ يُرِيدون غِرَّته، فأسرهم ثمَّ مَنَّ عليهم‏.‏

‏(‏وأسرَ ثُمامةَ بن أثال سيِّدَ بنى حَنيفَةَ، فرَبَطَه بِسَارِيَةِ المَسْجِدِ، ثم أطلقه فأسلم‏)‏‏.‏

واستشار الصحابة في أسارى بدر، فأشار عليه الصِّدِّيقُُ أن يأخُذَ منهم فِديةً تكونُ لهم قوةً على عَدوِّهم ويُطلِقَهم، لعلَّ الله أن يَهدِيهم إلى الإسلام، وقال عمر‏:‏ ‏(‏لا والله، ما أرى الذي رأى أبُو بكر، ولكن أَرى أن تُمَكِّنَنَا فَنضرِبَ أعناقَهم، فإنَّ هؤلاء أئمةُ الكفرِ وصناديدُها‏)‏، فَهَوِىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبُو بكر، ولم يَهْوَ ما قال عُمَرُ، فلما كان مِن الغد، أقبلَ عُمَرُ، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَبكى هو وأبُو بكر، فقال‏:‏ ‏(‏يا رَسُولَ الله ؛ مِن أىِّ شىءٍ تبكى أنتَ وصاحِبُكَ، فإن وجدتُ بُكاءً بَكَيْتُ، وإن لم أَجِدْ بكاءً تباكَيْتُ لبكائكما ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ أَبْكِى لِلَّذِى عَرَضَ عَلَّى أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهمِ الفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَىَّ عَذَابُهُم أدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرة، وَأَنْزَلَ الله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ في الأرضِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ ‏)‏‏.‏

وقد تكلَّمَ النَّاسُ، في أىَّ الرأيينِ كان أصوَب، فرجَّحتْ طائِفةٌ، قولَ عُمَرَ لهذا الحديث، ورجَّحت طَائِفةٌ قولَ أبى بكر، لاستقرار الأمر عليه، وموافقتِهِ الكِتابَ الذي سَبَقَ مِن اللهِ بإحلالِ ذلك لهم، ولِموافقته الرحمة التي غلبتِ الغضب، ولتشبيه النبىِّ صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ولِحصول الخيرِ العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئكَ الأسْرى، ولخروجِ مَن خرج مِن أصلابهم مِن المسلمين، ولِحصولِ القوة التي حصلت لِلمسلمين بالِفداء، ولموافقةِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر أوَّلاً، ولِموافقةِ الله له آخراً حيثُ استقر الأمرُ على رأيه، ولِكمال نظر الصِّدِّيق، فإنه رأى ما يستقِرُّ عليه حُكْمُ اللهِ آخِراً، وغلَّب جانبَ الرحمةِ على جانبِ العُقُوبة‏.‏

قالوا‏:‏ وأما بكاءُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّمَا كان رحمةً لِنزول العذابِ لمن أراد بذلك عرضَ الدنيا، ولم يُرِدْ ذَلِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، وإن أرادَه بعضُ الصحابة، فالفتنةُ كانت تَعُمُّ ولا تُصيبُ مَن أرادَ ذلك خاصة، كما هُزِمَ العسكرُ يومَ حُنَين بقول أحدهم‏:‏ ‏(‏لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ‏)‏ وبإعجاب كثرتهم لِمن أعجبته منهم، فهزم الجَيْشُ بذلك فِتنة ومحنة، ثم استقر الأمرُ على النصر والظفر‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

واستأذنه الأنصارُ أن يترُكُوا لِلعباس عَمِّهِ فِدَاءَه، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَدَعُوا مِنْهُ دِرْهَمَاً‏)‏‏.‏

واستوهب مِن سلمة بنِ الأكوع جارية نَفَلَه إيَّاها أبو بكر في بعض مغازيه، فوهبها له، فبعثَ بها إلى مكَّة، ففدى بها ناساً مِن المسلمين، وفدى رجلين من المسلمين برجل من عقيل، ورد سبى هوازن عليهم بعد القِسْمَةِ، واستطابَ قلوبَ الغانمين، فطيبَّوا له، وعوَّض مَن لم يُطيب من ذلك بِكُلِّ إنسانٍ سِتَّ فرائض، وقتل عُقبةَ بن أبى مُعيط مِن الأسرى،وقتل النَّضرَ بنَ الحارث لشدة عداوتِهما لله ورسوله‏.‏

وذكر الإمامُ أحمد عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كانَ ناسُ مِن الأسرى لم يَكُنْ لهم مال، فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِداءَهم أن يُعلِّمُوا أولادَ الأنصارِ الكِتَابة‏)‏، وهذا يدل على جواز الفداء بالعمل، كما يجوز بالمال‏.‏

وكان هديُه أن مَن أسلم قبل الأسر، لم يُسترق، وكانَ يسترق سَبْىَ العربِ، كما يَسْتَرِقُّ غيَرَهم مِن أهل الكتاب، وكان عند عائشة سبِيَّةٌ منهم فقال‏:‏ ‏(‏أعْتِقيها فَإنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعيلَ‏)‏‏.‏

وفى الطبرانى مرفوعاً‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مِنْ وَلَدِ إِسماعيلَ، فَلْيَعْتِقْ مِنْ بَلْعَنْبَر‏)‏‏.‏

ولما قسم سبايا بنى المُصْطَلِقِ، وقعت جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحارث في السَّبى لثابتِ بنِ قَيْس بن شمَّاس، فكاتبتْهُ على نفسها، فَقَضَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كِتَابَتَهَا وَتَزَوَّجَها، فأُعتَقَ بِتَزَوُّجِهِ إِياها مائةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِ بنى المُصْطَلِقِ إِكراماً لصهرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهى من صريح العرب، ولم يكونوا يتوقَّفُون في وطء سبايا العرب على الإسلام، بل كانوا يطؤونهن بعد الاستبراء، وأباحَ الله لهم ذلك، ولم يشترط الإسلام، بل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النَّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، فأباح وَطْءَ مُلكِ اليمين، وإن كانت محصنة إذا انقضت عدتُها بالاستبراء‏.‏ وقال له سلمة بن الأكوع، لما استوهبه الجارية الفزارية من السبى‏:‏ ‏(‏واللهِ يا رسول الله ؛ لقد أعجبتنى، وما كشفتُ لها ثوباً‏)‏، ولو كان وطؤها حراماً قبل الإسلام عندهم، لم يكن لهذا القول معنى، ولم تكن قد أسلمت، لأنه قد فَدَى بها ناساً مِن المسلمين بمكة، والمسلِمُ لا يُفادى به، وبالجملةِ فلا نَعرِفُ في أثرٍ واحِدٍ قطُّ اشتراط الإسلام منهم قولاً أو فعلاً في وطء المسبية، فالصوابُ الذي كان عليه هديهُ وهدىُ أصحابه استرقاقُ العرب، ووطء إمائهن المسبيات بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام‏.‏

فصل

وكان صلى الله عليه وسلم يمنعُ التفريقَ في السَّبى بين الوالدة وولدها، ويقول‏:‏ ‏(‏مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَة‏)‏ وكان يؤتى بالسبى، فيعطى أهلَ البيت جميعاً كراهية أن يُفرَّق بينهم‏.‏

فصل‏:‏ في هديه فيمن جَسَّ عليه

ثبت عنه أنه قتل جاسوساً مِن المشركين‏.‏ وثبت عنه أنه لم يقتُل حاطباً، وقد جَسَّ عليه، واستأذنه عمرُ في قتله فقال‏:‏ ‏(‏وما يُدْريكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فقال‏:‏ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم‏)‏ فاستدلَّ به مَن لا يرى قتل المسلم الجاسوس، كالشافعى، وأحمد، وأبى حنيفة رحمهم الله ، واستدل به مَنْ يرى قتله، كمالك، وابن عقيل مِن أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهما قالوا‏:‏ لأنه عُلِّل بِعلَّة مانعة مِن القتل منتفيةٍ في غيره، ولو كان الإسلامُ مانعاً من قتله، لم يُعلَّل بأخصَّ منه، لأن الحكم إذا عُلِّلَ بالأعم، كان الأخص عديمَ التأثير، وهذا أقوى‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل

وكان هديه صلى الله عليه وسلم عِتقَ عبيدِ المشركين إذا خرجُوا إلى المسلمين وأسلموا، ويقول‏:‏ ‏(‏هُمْ عُتَقَاءُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ‏)‏‏.‏

وكان هديُه أنَّ مَن أسلم على شىء في يده، فهو له، ولم ينظُرْ إلى سببه قبل الإسلام، بل يُقِرُّه في يدِهِ كما كان قبل الإسلام، ولم يكن يُضَمِّنُ المشركينَ إذا أسلموا ما أتلفُوه على المسلمين مِن نفس، أو مال حالَ الحرب ولا قبلَه، وعزم الصِّدِّيقُ على تضمينِ المحاربينَ مِن أهل الرِّدة دياتِ المسلمينَ وأموالهم، فقال عمر‏:‏ ‏(‏تلك دماءٌ أُصيبت في سبيل الله، وأُجورُهم على الله ، ولا ديةَ لشهيد‏)‏، فاتفق الصحابةُ على ما قالَ عمر، ولم يكن أيضاً يَرُدُّ على المسلمين أعيان أموالهم التي أخذها مِنهم الكفارُ قهراً بعد إسلامهم، بل كانوا يرونها بأيديهم، ولا يتعرَّضُون لها سواء في ذلك العقار والمنقول، هذا هديُه الذي لا شك فيه‏.‏

ولما فتح مكة، قام إليه رجال من المهاجرين يسألونه أن يرد عليهم دورهم التي استولى عليها المشركون، فلم يردَّ على واحد منهم داره، وذلك لأنهم تركوها لله، وخرجوا عنها ابتغاءَ مرضاته، فأعاضهم عنها دوراً خيراً منها في الجنة، فليس لهم أن يرجِعُوا فيما تركوه لله، بل أبلغُ من ذلك أنه لم يُرخِّصْ للمهاجر أن يُقيم بمكة بعد نُسُكِه أكثرَ مِن ثلاثِ، لأنه قد ترك بلده لله، وهاجر منه، فليس له أن يعودَ يستوطِنهُ، ولهذا رثى لسعد بن خولة، وسمَّاه بائساً أن ماتَ بمكة، ودُفِنَ بها بعد هجرته منها‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في الأرض المغنومة

ثبت عنه أنه قسم أرضَ بنى قُريظة وبنى النَّضير وخيبر بينَ الغانمين، وأما المدينة، ففُـتِحت بالقرآن، وأسلم عليها أهلُها، فأُقِرَّت بحالها‏.‏ وأما مكة، ففتحها عَنْوَةً، ولم يقسمها، فأشكل على كُلِّ طائفةٍ من العلماء الجمعُ بين فتحها عنوة، وتركِ قسمتها، فقالت طائفة‏:‏ لأنها دارُ المناسِكِ، وهى وقفٌ على المسلمين كلِّهم، وهم فيها سواء، فلا يُمْكِنُ قسمتُها، ثم مِن هؤلاء مَن منع بيعهَا وإجارَتها، ومنهم مَن جوَّز بيع رِباعها، ومنع إجارَتها، والشافعى لما لم يجمع بين العَنوةِ، وبين عدم القسمة، قال‏:‏ إنها فُتِحتْ صُلحاً، فلذلك لم تُقْسم‏.‏ قال‏:‏ ولو فُتِحَتْ عَنوة، لكانت غنيمة، فيجبُ قسمتها كما تجب قسمةُ الحيوان والمنقول، ولم يرَ بأساً من بيع رباع مكة، وإجارتها، واحتج بأنها ملك لأربابها تُورث عنهم وتُوهب، وقد أضافها الله سبحانه إليهم إضافةَ الملك إلى مالكه، واشترى عمرُ بن الخطاب داراً مِن صفوان بن أمية، وقيل للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين تنزل غداً في دارك بمكة ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أو دُورٍ‏)‏ وكان عقيلُ ورثَ أبا طالب، فلمّا كان أصل الشافعى أن الأرضَ من الغنائم، وأن الغنائم تجبُ قسمتُها، وأن مكَّةَ تُملك وتُباع، ورِباعها ودُورها لم تقسم، لم يجد بُداً من القولِ بأنها فُتِحَتْ صُلْحَاً‏.‏

لكن من تأمل الأحاديثَ الصحيحةَ، وجدها كلَّها دالة على قول الجمهور، أنها فتحت عَنوة‏.‏ ثم اختلفوا لأى شىء لم يقسمها ‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لأنها دار النُّسُك ومحلُّ العبادة، فهى وقف من الله على عباده المسلمين‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الإمام مُخَيّرٌ في الأرض بين قسمتها وبين وقفها، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قسم خيبرَ، ولم يقسم مكة، فدل على جواز الأمرين‏.‏ قالوا‏:‏ والأرضُ لا تدخلُ في الغنائمِ المأمورِ بقسمتها، بَل الغنائمُ هي الحيوانُ والمنقولُ، لأن الله تعالى لم يُحِلَّ الغنائم لأمة غير هذه الأُمة، وأحل لهم ديارَ الكفر وأرضهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20-21‏]‏، وقال في ديارِ فرعون وقومِهِ وأرضهم‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَـنِى إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏، فعُلِم أن الأرض لا تدخل في الغنائم، والإمامُ مخيَّر فيها بحسب المصلحة، وقَد قَسَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وترك، وعُمَرُ لم يقسم، بل أقرَّها على حالها وضرب عليها خراجاً مستمراً في رقبتها يكون للمقاتلة، فهذا معنى وقفها، ليس معناه الوقف الذي يمنع مِن نقل الملك في الرقبة، بل يجوزُ بيعُ هذهِ الأرض كما هو عملُ الأُمة، وقد أجمعوا على أنها تورث، والوقف لا يُورث، وقد نص الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى على أنها يجوزُ أن تُجعل صداقاً، والوقفُ لا يجوز أن يكون مهراً في النكاح، ولأن الوقفَ إنما امتنع بيعهُ ونقل الملك في رقبته لما في ذلك من إبطال حقِّ البطون الموقوف عليهم من منفعته، والمقاتلة حقهم في خراج الأرض، فمن اشتراها صارت عنده خراجية، كما كانت عند البائع سواءً، فلا يبطُلُ حق أحدٍ من المسلمين بهذا البيع، كما لم يبطل بالميراث والهبة والصَّداق، ونظيرُ هذا بيعُ رقبة المكاتب، وقد انعقد فيه سببُ الحرية بالكتابة، فإنه ينتقل إلى المشترى مكاتباً كما كان عند البائع، ولا يبطل ما انعقد في حقِّه من سبب العتق ببيعه‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

ومما يدلُّ على ذلك أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قسم نِصفَ أرضِ خيبر خاصة، ولو كان حكمُها حكمَ الغنيمة، لقسمها كلها بعد الخُمُس، ففى ‏(‏السنن‏)‏ و ‏(‏المستدرك‏)‏‏:‏ ‏(‏أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمَها على ستةِ وثلاثين سهماً، جَمَعَ كُلُّ سَهْم مِائَةَ سَهْمٍ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النِّصفُ من ذلك، وعَزَلَ النِّصفَ الباقى لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائبِ الناسِ‏)‏‏.‏ هذا لفظ أبى داود، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏عزلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثمانيةَ عَشَرَ سهماً، وهو الشطرُ لِنوائبِهِ، وما ينزلُ بهِ من أمر المسلمين، وكان ذَلِكَ الوَطِيحَ والكُتَيْبَةَ، والسُّلالِمَ وتوَابِعَهَا‏)‏‏.‏ وفى لفظ له أيضاً‏:‏ ‏(‏عزلَ نِصفها لنوائبه وما نزل له‏:‏ الوَطيحة والكُتيبة، وما أُحيزَ مَعَهُمَا، وعزل النصفَ الآخر، فقسمه بين المسلمين‏:‏ الشِّقَّ والنَّطَاةَ، وما أُحيزَ معهما، وكان سهمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أُحيز معهما‏)‏‏.‏

فصل

والذي يدل على أن مكة فتحت عَنوة وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لم ينقُلْ أحدٌ قطُّ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمنَ الفتح، ولا جاءه أحدٌ مِنهم صالحه على البلدِ، وإنما جاءَهُ أبو سفيان، فأعطاه الأمانَ لِمن دخلَ دارَهُ، أو أغلقَ بابه، أو دخل المسجد، أو ألقى سلاحه‏.‏ ولو كانت قد فتحت صُلحاً، لم يقل‏:‏ مَن دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن، فإن الصلح يقتضى الأمان العام‏.‏

الثانى‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنَّ الله حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ، وإِنَّهُ أَذِنَ لى فيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَار‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ قَبْلِى، ولَنْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نهارٍ‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَال رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولْوا‏:‏ إِنّ الله أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَن لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذنَ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأمسِ‏)‏‏.‏ وهذا صريح في أَنَّهَا فتحت عَنوة‏.‏

وأيضاً فإنه ثبتَ في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ أنه جعلَ يومَ الفتحِ خالدَ بْنَ الوليدِ على المُجَنَّبَةِ اليُمْنَى، وجعل الزُّبَيْرَ على المُجَنَّبة اليسرى، وجعَلَ أبا عُبيدة على الحُسَّرِ وبَطْنِ الوَادِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أبَا هُريَرْة ادْعُ لى الأَنْصار‏)‏ فجاؤوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ الأَنْصارِ، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْش‏)‏ ‏؟‏ قالُوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏انْظُرُوا إذا لَقِيتُمُوهُم غَداً أَنْ تَحْصِدُوهُم حَصْداً‏)‏، وَأَخْفَى بِيَدِهِ، وَوَضَعَ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ، وقال‏:‏ ‏(‏مَوْعِدُكُم الصَّفا‏)‏، قال‏:‏ فما أَشرفَ يَوْمَئِذٍ لهم أحدٌ إلا أناموه، وصَعِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفا، وجَاءَتِ الأَنْصَارُ، فأطافُوا بالصَّفَا، فجاء أبُو سفيانَ فقال‏:‏ ‏(‏يا رَسُولَ الله ؛ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قريشٍ، لا قُرَيْشٍ بَعْدَ اليَوْمِ‏.‏ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ دَخًلَ دَارَ أبى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أَلْقَـى السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ‏)‏‏.‏

وأيضاً فإنَّ أُمَّ هانئ أجارَتْ رجُلاً، فأراد علىُّ بنُ أبى طالب قتله، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يا أُمَّ هانئ‏)‏

وفى لفظ عنها‏:‏ ‏(‏لـمَّا كان يومُ فتحِ مكة، أجرتُ رجلين مِن أحمائى، فأدخلتُهما بيتاً، وأغلقتُ عليهما باباً، فجاء ابنُ أمى علىٌ فَتَفَلَّتَ عليهما بالسَّيْفِ، فذكرت حديثَ الأمانِ، وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يا أُمَّ هانىء‏)‏ وذلك ضُحى بجوف مكة بعد الفتح، فإجارتُها له، وإرادةُ علىّ رضى الله عنه قتله، وإمضاءُ النبى صلى الله عليه وسلم إجارتَهَا صريحٌ في أنها فُتِحَتْ عنوةً‏.‏

وأيضاً‏.‏‏.‏ فإنه أمر بقتل مَقِيسِ بْنِ صُبابة، وابنِ خطل، وجاريتين، ولو كانت فُتِحَتْ صُلْحاً، لم يأمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكرُ هؤلاء مستثنى من عقد الصلحِ، وأيضاً ففى ‏(‏السنن‏)‏ بإسناد صحيح‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم لـمَّا كان يَوْمُ فتحِ مكة، قال‏:‏ ‏(‏أَمِّنُوا النَّاسَ إلا امْرَأَتَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ، اقْتُلُوهُم وإنَ وَجَدتْموهُم مُتَعَلِّقينَ بأَسْتَارِ الكَعْبَة‏)‏ والله أعلم‏.‏

فصل

ومنع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من إِقَامَةِ المُسْلِم بين المُشْرِكِينَ إِذَا قَدَرَ على الهِجْرَةِ مِن بينهم، وقال‏:‏ ‏(‏أنا بَرىءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يَا رسُول الله ؛ وَلِمَ ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَراءى نَاراهُمَا‏)‏ ، وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ جامع المُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبها‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏سَتَكُونُ هِجْرَةٌ، بَعْدَ هِجْرَة، فَخِيَارُ أَهْلِ الأرْضِ أَلْزَمُهُم مُهَاجَرَ إِبْرَاهيمَ، وَيَبْقَى في الأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُم‏.‏ تَقْذَرُهُم نَفْسُ الله، وتَحْشُرُهُم النّارُ مَعَ القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في الأمان والصلحِ، ومعاملةِ رسل الكفار، وأخذِ الجزية، ومعاملةِ أهل الكتاب، والمنافقين، وإجارة مَن جاءه من الكفار حتى يسمَعَ كلامَ الله، وردِّه إلى مأمنه، ووفائِهِ بالعهدِ، وبراءتِهِ من الغدر‏.‏

ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والملائِكَةِ، والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ الله مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفاً ولا عَدْلاً‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم، وَهُمْ يَدٌ على مَنْ سِواهُمْ، ويَسْعَى بذِمَّتِهِمْ أَدْناهُم، لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثَاً فَعلى نَفْسِهِ، ومَنْ أَحْدَثَ حَدَثاً أَوْ آوى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏)‏‏.‏

وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ بَيْنَه وبَيْنَ قَومٍ عَهْدٌ فَلا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلاَ يَشُدَّهَا حتَّى يَمْضِى أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ أَمَّنَ رَجُلاً عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ، فأَنَا بَرِىءٌ مِنَ القَاتِل‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏أُعْطِى لِوَاءَ غَدْر‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ عِندَ إسْتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ يُقال‏:‏ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ‏)‏‏.‏

ويُذكر عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏مَا نَقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلاَّ أُديلَ عَلَيْهمُ العَدُوُّ‏)‏‏.‏

فصل

ولما قَدِمَ النبُّى صلى الله عليه وسلم المدينَة، صارَ الكفارُ معه ثلاثة أقسام‏:‏ قِسم صالَحهم ووادعهم على ألا يُحاربوه، ولا يُظاهِروا عليه، ولا يُوالوا عليه عدوَّه، وهم على كُفرهم آمُنِونَ على دمائهم، وأموالهم‏.‏ وقسم‏:‏ حاربوه ونصبوا له العَدَاوة‏.‏ وقسم‏:‏ تاركُوه، فلم يُصالِحوه، ولم يُحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمُره، وأمرُ أعدائه، ثم مِن هؤلاء‏:‏ مَن كان يُحِبُّ ظهورَه، وانتصاره في الباطن، ومنهم‏:‏ مَن كان يُحِبُّ ظهورَ عدوه عليه وانتصارَهم، ومنهم‏:‏ مَن دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوِّه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المُنافقون، فعامَلَ كُلَّ طائِفةٍ مِن هذه الطوائف بما أمره به ربُّه تبارك وتعالى‏.‏

فصالح يهودَ المدينةِ، وكتب بينهم وبينه كتابَ أمن، وكانوا ثلاثَ طوائفَ حولَ المدينة‏:‏ بنى قَيْنُقَاع، وبنى النَّضير، وبنى قُريظة، فحاربته بنو قَيْنُقَاع بعد ذلك بعدَ بدرٍ، وشَرَقُوا بوقعة بدرٍ، وأظهروا البغىَ والحَسَدَ فسارت إليهم جُنود اللهِ، يَقْدَمُهم عبدُ الله ورسولُه يومَ السبت للنصف من شوَّال على رأس عشرين شهراً مِن مُهاجَرِه، وكانوا حُلَفاءَ عبدِ الله بنِ أُبىّ بن سَلول رئيسِ المنافقين، وكانوا أشجعَ يهودِ المدينة، وحامِلُ لواء المسلمين يومئذٍ حمزةُ بنُ عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لُبابة بنَ عبد المنذر، وحاصرهم خمسة عشر ليلةً إلى هلال ذى القَعْدَةِ، وهم أَوَّلُ مَنْ حارب مِن اليهود، وتحصَّنُوا في حصونهم، فحاصرهم أشدَّ الحِصار، وقذفَ الله في قلوبهم الرُّعبَ الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم، وقذفَه في قلوبهم، فنزلوا على حُكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في رِقابهم وأموالِهم، ونِسائهم وذُرِّيَّتِهم، فأمر بهم فكُـتِّـفُوا، وكلَّمَ عبدُ الله بنُ أُبْىّ فيهِم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وألحَّ عليه، فوهبَهم له، وأمرهم أن يَخرجوا مِن المدينة، ولا يُجاوِرُوه بها، فخرجوا إلى أَذْرِعَاتٍ من أرض الشام، فقلَّ أن لَبِثُوا فيها حتى هَلَكَ أكثرهُم، وكانوا صَاغة وتُجاراً، وكانوا نحَو الستمائة مقاتل، وكانت دارُهم في طرفِ المدينة، وقَبَض مِنهم أموالَهم، فأخذ منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ قِسىٍّ ودِرعين، وثلاثةَ أسياف، وثلاثَةَ رماح، وخَمَّسَ غَنَائِمهم، وكان الذي تولَّى جمع الغنائم محمدُ بن مسلمة‏.‏

فصل

ثم نقض العهد بنُو النضير، قال البخارى‏:‏ وكان ذَلِكَ بعد بدرٍ بستَّةِ أشهر، قاله عروة‏:‏ وسببُ ذلكَ أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نَفَرٍ من أَصْحَابه، وكلَّمهم أن يُعينُوهُ في دِية الكِلاَبِيَيْنِ اللَّذَيْنِ قتلَهُمَا عمرُو بنُ أُميَّة الضَّمْرِى، فقالوا‏:‏ نفعلُ يا أبا القاسم، اجلِس ههنا حتى نَقْضِىَ حاجَتك، وخلا بعضُهم ببعض، وسوَّلَ لهُم الشيطانُ الشقاء الذي كُتِبَ عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ أيُّكُم يأخذ هذه الرَّحا ويصعَدُ، فيُلقيها على رأسه يَشْدَخُه بها ‏؟‏ فقال أشقاهم عمرو بْنُ جِحَاشٍ‏:‏ أنا‏.‏ فقال لهم سلامُ بْنُ مِشْكم‏:‏ لا تفعلوا ؛ فواللهِ ليُخَبَّرَنَّ بما هممتُم به، وإنه لنقضُ العهدِ الذي بيننا وبينَه، وجاء الوحىُ على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما همُّوا به، فنهض مسرعاً، وتوجَّه إلى المدينة، ولَحِقَهُ أصحاُبه، فقالُوا‏:‏ نهضْتَ ولم نَشْعُرْ بِكَ، فأخبرهم بما همَّتْ يهود به، وبعث إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن اخرجُوا مِن المدِينةِ، ولا تساكِنُونى بها، وقد أجَّلتُكم عشراً، فمن وجدتُ بعد ذلك بها، ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فأقاموا أياماً يتجهَّزُونَ، وأرسل إليهم المنافِقُ عبدُ الله بن أُبَىّ‏:‏ أن لا تَخْرُجُوا مِنْ دياركم، فإن معىَ ألفين يدخلُونَ معكم حِصنكم، فيموتون دُونكم، وتنصُرُكم قُريظةُ وحلفاؤكم مِن غَطَفَان، وطَمِعَ رئيسُهم حُيَىّ بنُ أخطَب فيما قال له، وبعثَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إنَّا لا نَخْرُجُ مِن دِيَارِنَا، فاصْنَعْ ما بَدَا لك، فكبَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، ونهضُوا إليه، وعلىُّ بنُ أبى طالب يحمِل اللِّواء، فلما انتهى إليهم، قامُوا على حُصونهم يرمُون بالنَّبل والحِجارة، واعتزلتهم قُريظة، وخانهم ابنُ أُبىٍّ وحُلفاؤُهم مِن غَطَفَان، ولهذا شبَّه سبحانه وتعالى قِصتهم، وجعل مثلَهم ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إنَّى بَرِىءٌ مِّنكَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16‏]‏، فإن سورة الحشر هي سورة بنى النضير، وفيها مبدأ قِصتهم ونِهَايتها، فحاصرَهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقطَعَ نخلهم، وحرَّق، فأرسلوا إليه‏:‏ نحن نخرج عن المدينة، فأَنزلَهم على أن يخرجوا عنها بنفوسِهم وذراريهم، وأن لهم ما حَمَلَتِ الإبلُ إلا السلاَح، وقبض النبىُّ صلى الله عليه وسلم الأموالَ والحَلْقَةَ، وهى السلاح، وكانتْ بنو النضير خالِصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لِنوائبه ومصالحِ المُسلمين، ولم يُخمِّسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ‏.‏ وخَمَّسَ قُرَيْظَةَ‏.‏

قال مالك‏:‏ خمَّس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قُريظة، ولم يُخَمِّسْ بنى النضير، لأن المسلمين لم يُوجِفُوا بخيلهم ولا رِكابهم على بنى النَّضِير، كما أوجفوا على قُريظة وأجلاهم إلى خيبر، وفيهم حُيىَ بنُ أَخْطَب كبيرُهم، وقبضَ السِّلاح، واستولى على أرضهم وديارِهم وأموالهِم، فوجد من السِّلاح خمسينَ دِرعاً، وخمسينَ بَيْضةً، وثلاثَمِائةٍ وأربعين سيفاً، وقالَ‏:‏ ‏(‏هؤلاء في قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بنى المُغِيرَةِ في قُرَيْشٍ‏)‏ وكانت قصتُهم في ربيع الأول سنة أربعٍ مِن الهجرة‏.‏

فصل

وأما قُريظة، فكانت أشدَّ اليهودِ عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظَهم كُفراً، ولذلك جرى عليهم ما لم يجرِ على إخوانهم‏.‏

وكان سببُ غزوهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صُلْحٌ، جاء حُـيَىّ بن أخطَب إلى بنى قُريظة في ديارهم، فقال‏:‏ قد جئتُكم بعزِّ الدَّهر، جئتكم بقُريش على سادتها، وغَطَفَان على قادتها، وأنتم أهلُ الشَّوْكَة والسلاح، فهلمَّ حتى نناجِزَ محمداً ونفرُغ منه، فقالَ لهُ رئيسُهم‏:‏ بل جئتنى والله بذُلِّ الدهر، جئتنى بسحاب قد أراق ماءه، فهو يرعُدُ ويبرُق، فلم يزل حُـيَىّ يُخادعه ويَعِده ويُمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حِصنه، يُصيبه ما أصابهم، ففعل، ونقضُوا عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهروا سبَّه، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ، فأرسلَ يستعلِمُ الأمرَ، فوجدهم قد نقضُوا العهد، فكبَّر وقال‏:‏ ‏(‏أبْشِرُوا يا مَعْشرَ المسلمين‏)‏‏.‏

فلما انصَرَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لم يكن إلا أن وضع سِلاحه، فجاءه جبريلُ، فقال‏:‏ أوضعتَ السِّلاح‏؟‏ والله إن الملائكةَ لم تضعْ أسلحَتِها، فانهض بمن معكَ إلى بنى قُريظة، فإنى سائرٌ أمامك أُزلزل بهم حصونَهم، وأقذِف في قلوبهم الرُّعبَ، فسار جبريلُ في موكبه من الملائكة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أثره في موكبه مِن المهاجرِين والأنصار ، وقال لأصحابه يومئذ‏:‏ ‏(‏لا يُصَلَّيَنَّ أَحَدُكُم العَصْرَ إِلا في بنى قُرَيْظَةَ‏)‏، فبادروا إلى امتثال أمرِه، ونهضُوا مِن فورهم، فأدركتهم العصرُ في الطريق، فقال بعضُهم‏:‏ لا نُصليها إلا في بنى قُريظة كما أمرنا، فصلَّوها بعد عشاء الآخرة، وقال بعضُهم‏:‏ لم يُرِدْ منَّا ذلك، وإنما أراد سُرعة الخروج، فَصَلَّوْهَا في الطريق، فلم يُعنِّفْ واحدة من الطائفتين‏.‏

واختلف الفقهاء أَيُّهمَا كان أصوَب ‏؟‏ فقالت طائفةٌ‏:‏ الذين أخَّروها هم المُصيبُون، ولو كُنَّا معهم، لأخَّرناها كما أخَّرُوها، ولما صلَّيْنَاها إلا في بنى قُريظة امتثالاً لأمره، وتركاً للتأويل المخالف للظاهر‏.‏

وقالت طائفة أخرى‏:‏ بل الذين صَلَّوْها في الطريق في وقتها حازوا قَصَبَ السَّبْقِ، وكانوا أسعدَ بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادرُوا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادرُوا إلى اللِّحاق بالقوم، فحازوا فضيلةَ الجهاد، وفضيلةَ الصلاة في وقتها، وفهِمُوا ما يُراد منهم، وكانوا أفقهَ من الآخرين، ولا سيما تلك الصلاةَ، فإنها كانت صلاة العصر، وهى الصلاةُ الوسطى بنصِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مدفعَ له ولا مطعن فيه، ومجىء السُّـنَّة بالمحافظة عليها، والمبادرة إليها، والتبكير بها، وأن مَن فاتته، فقد وُتِرَ أهله وماله، أو قد حَبِطَ عملُه، فالذى جاء فيها أمرٌ لم يجىء مثلُه في غيرها، وأما المؤخِّرون لها، فغايتهم أنهم معذورون، بـل مأجورون أجراً واحداً لتمسُّكِهم بظاهر النص، وقصدهم امتِثَال الأمر، وأما أن يكونوا هم المصيبين في نفس الأمر، ومَن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئاً، فحاشا وكلا، والَّذِينَ صلَّوْا في الطريق، جمعوا بين الأدلة، وحصَّلُوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجورون أيضاً رضى الله عنهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ كان تأخيرُ الصلاة للجهاد حينئذ جائزاً مشروعاً، ولهذا كان عَقِبَ تأخير النبى صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلى الليل، فتأخيرُهم صلاة العصر إلى الليل، كتأخيره صلى الله عليه وسلم لها يَوم الخندق إلى الليل سواء، ولا سيما أن ذلك كان قبل شروع صلاة الخوف‏.‏

قيل‏:‏ هذا سؤال قوى، وجوابه من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يقال‏:‏ لم يَثبُت أن تأخيرَ الصلاةِ عن وقتها كان جائزاً بعد بيانِ المواقيت، ولا دليلَ على ذلِكَ إلا قصةُ الخندق، فإنها هي التي استدلّ بها مَنْ قال ذلك، ولا حُجَّةَ فيها لأنه ليس فيها بيانُ أن التأخير من النبى صلى الله عليه وسلم كان عن عمد، بل لعله كان نسياناً، وفى القصة ما يُشْعِرُ بذلك، فإن عمر لما قال له‏:‏ يا رسول الله، ما كِدْتُ أُصَلِّى العصر حتى كادت الشمس تغُربُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واللهِ مَا صَلَّيْتُه‏)‏ ثم قام، فصلاها‏.‏ وهذا مشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسياً بما هو فيه مِن الشغل، والاهتمام بأمر العدو المحيطِ به، وعلى هذا يكون قد أخَّرَها بعذر النسيان، كما أخَّرها بعُذر النوم في سفره، وصلاها بعد استيقاظه، وبعد ذكره لِتَتَأَسَّى أُمَّتُه به‏.‏

والجواب الثانى‏:‏ أن هذا على تقدير ثبوته إنما هو في حال الخوفِ والمُسايفة عند الدَّهش عن تعقُّلِ أفعالِ الصلاة، والإتيان بها، والصحابةُ في مسيرهم إلى بنى قُريظة، لم يكونوا كذلك، بل كان حكمُهم حكمَ أسفارهم إلى العدو قبل ذلك وبعدهُ، ومعلومٌ أنهم لم يكونوا يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، ولم تكن قُريظة ممن يخاف فوتهم، فإنهم كانوا مقيمين بدارهم، فهذا منتهى أقدام الفريقين في هذا الموضع‏.‏

فصل

وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرايةَ علىَّ بن أبى طالب، واستخلفَ على المدينة ابنَ أمِّ مكتومٍ، ونازل حصُون بنى قُريظة، وحصرهم خمساً وعشرين ليلةً، ولـمَّا اشتد عليهم الحِصَارُ، عرض عليهم رئيسُهم كعبُ بن أسد ثلاثَ خِصال‏:‏ إما أن يُسْلِمُوا ويدخُلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريَهم، ويخرجوا إليه بالسيوف مُصلتة يناجِزُونه حتى يظفروا بِه، أو يُقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه ويكبِسُوهم يومَ السبت، لأنهم قد أمِنُوا أن يُقاتِلوهم فيه، فأَبَوْا عليه أن يُجِيبُوهُ إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لُبابة بنَ عبد المنذر نستشيرُه، فلما رأوه، قاموا في وجهه يبكون، وقالوا‏:‏ يا أبا لُبابة ؛ كيف ترى لنا أن ننزِل على حكم محمد ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، وأشارَ بيده إلى حلقه يقول‏:‏ إنه الذَّبح، ثم عَلِمَ مِن فوره أنه قد خان الله ورسولَه، فمضى على وجهه، ولم يَرْجعْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد مسجد المدينة، فربط نفسه بسارِيَة المسجد، وحلف ألا يحلَّه إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخلُ أرضَ بنى قُريظة أبداً، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال‏:‏ ‏(‏دَعُوهُ حَتَّى يَتُوبَ اللهَ عَلَيْهِ‏)‏ ثم تاب الله عليه، وحلَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم إنهم نزلُوا على حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامَت إليه الأوسُ، فقالوا‏:‏ يا رَسُولَ الله ؛ قد فعلتَ في بنى قَيْنُقَاع ما قد عَلِمْتَ وهم حلفاءُ إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسِنْ فيهم، فقال‏:‏ ‏(‏ألاَ تَرْضوَْنَ أَنْ يَحْكُم فِيِهمْ رَجُلٌ مِنْكُم‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذ‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ قد رضينا، فأرسلَ إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة لم يخرُج معهم لجُرح كان به، فأُرْكِبَ حماراً وجاء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فجعلُوا يقولون له وهم كَنَفتاهُ‏:‏ يا سَعْدُ ؛ أجمل إلى مواليَك، فأحْسِن فيهم، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد حكَّمك فِيهم لِتُحْسِنَ فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثرُوا عليه، قال‏:‏ لقد آن لِسعد ألا تأخذه في اللهِ لومةُ لائم، فلما سَمِعُوا ذلِكَ منه، رجعَ بعضُهم إلى المدينة، فنعى إليهم القومَ، فلما انتهى سعد إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قال للصحابة‏:‏ ‏(‏قُومُوا إلَى سَيِّدكُم‏)‏ فلما أنزلُوهُ، قالوا‏:‏ يا سعدُ ؛ إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حُكمك، قال‏:‏ وحكمى نافِذٌ عليهم ‏؟‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وعلى المسلمين ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وعلى مَن ههنا وأعرض بوجهِهِ، وأشار إلى ناحية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيماً ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، وعلىَّ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإنى أحكم فيهم أن يُقتل الرِّجَالُ، وتُسْبىَ الذُّرِّيَّةُ، وتقسمَ الأموالُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الله مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَات‏)‏ وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، وهرب عمرو بن سُعْدَى، فانطلق فلمْ يُعلم أين ذهب، وكان قد أبى الدخُول معهم في نقض العهد، فلما حكم فيهم بذلك، أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل كُلِّ مَن جرت عليه الموسى منهم، ومَن لم يُنْبتْ أُلحِقَ بالذُرِّية ، فحفر لهم خنادِقَ في سوق المدينة، وضُرِبَتْ أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يُقتل مِن النساء أحد سوى امرأة واحدة كانت طَرحَتْ على رأس سويد بن الصامت رحى، فقتلته، وجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، فقالوا لرئيسهم كعب بن أسد‏:‏ يا كعبُ ؛ ما تراه يصنَعُ بنا ‏؟‏ فقال‏:‏ أفى كل موطن لا تعقِلُونَ ‏؟‏ أما ترون الدَّاعى لا يَنْزعُ، والذاهِبُ منكم لا يرجعُ، هو واللهِ القتلُ‏.‏

قال مالك في رواية بن القاسم‏:‏ قال عبد الله بنُ أُبَىِّ لِسعد بن معاذ في أمرهم‏:‏ إنهم أحد جناحَىَّ، وهم ثلاثُمائَةِ دارع، وستمائة حاسر، فقال‏:‏ قد آن لسعد ألا تأخذه في اللهِ لومة لائم، ولما جىء بحُـيَىّ بن أخطب إلى بين يديه، ووقع بصُره عليه، قال‏:‏ أما والله ما لُمتُ نفسِى في معاداتك، ولكن مَنْ يُغَالِب اللهَ يُغلبْ، ثم قال‏:‏ يا أيُّها الناس ؛ لا بأسَ قدر الله وملحمةٌ كتبت على بنى إسرائيل، ثم حبس، فضربتْ عنقُه‏.‏ واستوهب ثابت بن قيس الزبيرَ بن باطا وأهلهُ ومالَهُ من رسول الله، فوهبهم له، فقال له ثابت بن قيس‏:‏ قد وهبك لى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ووهب لى مالك وأهلك، فهم لك‏.‏ فقال‏:‏ سألتُكَ بيدى عندك يا ثابتُ إلا ألحقتنى بالأحبَّةِ، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، فهذا كُلُّهُ في يهود المدينة، وكانت غزوة كل طائفة منهم عَقِبَ كُلِّ غزوة من الغزوات الكبار‏.‏

فغزوة بنى قَيْنُقَاع عقب بدر، وغزوة بنى النَّضير عقب غزوة أُحُد، وغزوة بنى قُريظة عقب الخندق‏.‏

وأما يهود خيبر، فسيأتى ذكر قصتهم إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل

وكان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوماً فَنَقَضَ بعضُهم عهده، وصُلْحه، وأقرَّهم البَاقُونَ، ورضُوا به، غزا الجميعَ، وجعلهم كُلَّهُم ناقضين، كما فعل بِقُريظة، والنَّضير، وبنى قَيْنُقَاع، وكما فعل في أهل مكة، فهذه سُـنَّته في أهل العهد، وعلى هذا ينبغى أن يَجرِىَ الحُكْمُ في أهل الذِّمة كما صرَّح به الفقهاءُ من أصحاب أحمد وغيرهم، وخالفهم أصحابُ الشافعى فخصُّوا نقضَ العهد بمن نقضه خاصةً دون من رَضِىَ به، وأقرَّ عليه، وفرَّقُوا بينهما بأن عقد الذِّمة أقوى وآكدُ، ولهذا كان موضوعاً على التأبيد، بخلافِ عقد الهدنة والصلح‏.‏

والأوَّلون يقولون‏:‏ لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وعقد الذِّمة لم يُوضع للتأبيد، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه، فهو كعقدِ الصُّلح الذي وضع للهُدنة بشرط التزامِهم أحكامَ ما وقع عليه العقدُ، قالوا‏:‏ والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يُوَقِّتْ عقدَ الصلح والهُدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة، بل أطلقه ما داموا كافِّين عنه، غيرَ محاربين له، فكانت تِلك ذمَّتهم، غير أن الجِزيةَ لم يكن نزل فرضُها بعدُ، فلما نزل فرضُها، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد، ولم يغير حكمه، وصار مقتضاها التأبيد، فإذا نقض بعضهُم العهد، وأقرَّهم الباقُون، ورضُوا بذلك، ولم يُعلِموا به المسلمين، صارُوا في ذلك كنقض أهل الصلح، وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى، ولا فرْق بينهما فيه، وإن افترقا من وجه آخر يُوضِّحُ هذا أن المقرَّ الراضى الساكت إن كان باقياً على عهده وصُلحه، لم يجز قِتالُه ولا قتلُه في الموضعين، وإن كان بذلك خارجاً عن عهده وصلحه راجعاً إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح، لم يفترِقِ الحالُ بين عقد الهُدنة وعقد الذمة في ذلك، فكيف يكون عائداً إلى حاله في موضع دون موضع، هذا أمر غيرُ معقول‏.‏ توضيحُه‏:‏ أن تجدد أخذِ الجزيةِ منه، لا يُوجب له أن يكونُ مُوفياً بعهده مع رضاه، وممالأته ومواطأته لمن نقض، وعدم الجزية يُوجب له أن يكون ناقضاً غادراً غيرَ موفٍ بعهده، هذا بيِّن الامتناع‏.‏

فالأقوال ثلاثة‏:‏ النقض في الصورتين، وهو الذي دلَّت عليه سُـنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفار، وعدم النقض في الصورتين، وهو أبعدُ الأقوالِ عن السُّنَّة، والتفريق بين الصورتين، والأُولى أصوبها وبالله التوفيق‏.‏

وبهذا القول أفتينا ولىَّ الأمرِ لما أحرقت النصارى أموالَ المسلمين بالشام ودورَهم، ورامُوا إحراقَ جامِعهم الأعظم حتَّى أحرقوا منارته، وكاد لولا دفعُ الله أن يحترِقَ كُلُّهُ، وعلم بذلك مَن علم من النصارى، وواطؤوا عليه وأقروه، ورضوا به، ولم يُعلِمُوا ولىَّ الأمر، فاستفتى فيهم ولىُّ الأَمرِ مَن حضره من الفقهاء، فأَفتيناه بانتقاض عهد مَن فعل ذلك، وأعان عليه بوجه من الوجوه، أو رضى به، وأقر عليه، وأن حدَّه القتلُ حتماً، لا تخيير للإمام فيه، كالأسير، بل صار القتل له حَدّاً، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حَدّاً ممن هو تحت الذِّمة، ملتزماً لأحكام الله بخلاف الحربى إذا أسلم، فإن الإسلام يعصم دمه وماله، ولا يُقْتَلُ بما فعله قبل الإسلام، فهذا له حُكم، والذِّمى الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوصُ الإمام أحمد وأُصوله، ونص عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه، وأفتى به في غير موضع‏.‏

فصل

وكان هَدْيُه وسُنَّته إذا صالح قوماً وعاهدهم، فانضاف إليهم عدوٌ له سواهم، فدخلوا معهم في عقدهم، وانضاف إليه قوم آخرون، فدخلوا معه في عقده، صار حُكم مَن حارب مَن دخل معه في عقده من الكفار حكم مَن حاربه، وبهذا السبب غزا أهل مكة، فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينهم وبينه عشرَ سنين، تواثبتْ بنو بكر بن وائل، فدخلت في عهد قريش، وعقدها، وتواثبت خُزاعة، فدخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، ثم عدت بنو بكر على خُزاعة فبيتتهم، وقتلت منهم، وأعانتهم قريشٌ في الباطن بالسلاح، فعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ناقضين للعهد بذلك، واستجاز غزو بنى بكر بن وائل لِتعدِّيهم على حُلفائه، وسيأتى ذكر القصة إن شاء الله تعالى‏.‏

وبهذا أفتى شيخُ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما أعانُوا عدوَّ المُسلمين على قتالهم، فأمدُّوهم بالمالِ والسلاح، وإن كانوا لم يَغزونا ولم يُحاربونا، ورآهم بذلك ناقضين للعهد، كما نقضت قريشٌ عهد النبى صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بنى بكر ابن وائل على حرب حلفائه، فكيف إذا أعان أهلُ الذمة المشركينَ على حرب المسلمين‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل رسل أعدائه إذا وفدوا عليه

وكانت تَقْدَمُ عليه رُسُلُ أعدائه، وهم على عداوته، فلا يَهيجُهم، ولا يقتُلُهُم، ولما قَدِمَ عليه رسولا مُسَيْلِمَةَ الكذَّاب‏:‏ وهما عبد الله بن النواحة وابنُ أُثال، قال لهما‏:‏ ‏(‏فَمَا تَقُولانِ أَنْتُمَا‏)‏ ‏؟‏ قالا‏:‏ نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقكُمَا‏)‏ فجرت سُنَّته أَلاَّ يُقتلَ رسولٌ‏.‏

وكان هَديه أيضاً ألا يُحبس الرسولَ عنده إذا اختار دِينه، فلا يمنعه مِن اللحاق بقومه، بل يردُّه إليهم، كما قال أبو رافعٌ‏:‏ بعثتنى قُريشٌ إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فلما أتيتُهُ، وقع في قلبى الإسلام، فقلت‏:‏ يا رَسولَ الله؛ لا أرجع إليهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنى لا أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أحْبِسُ البُرُدَ، ارْجعْ إليهم، فَإِنْ كَانَ في قَلْبِكَ الذي فيهِ الآن، فارْجع‏)‏‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وكان هذا في المدة التي شرط لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يردَّ إليهم مَن جاء منهم، وإن كان مسلماً، وأما اليومَ، فلا يصلُح هذا‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏لا أحْبِسُ البُرُد‏)‏ إشعار بأن هذا حكم يختص بالرسُل مطلقاً، وأما ردُّه لمن جاء إليه منهم وإن كان مسلماً، فهذا إنما يكون مع الشرط، كما قال أبو داود، وأما الرسلُ، فلهم حكم آخر، ألا تراه لم يتعرض لرسولى مسيلمة وقد قالا له في وجهه‏:‏ نشهد أن مسيلمة رسول الله‏.‏

وكان من هَديه، أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضُرُّ بالمسلمين من غير رضاه، أمضاه لهم، كما عاهَدُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاه الحُسَيلَ أن لا يُقَاتِلاهم مَعَه صلى الله عليه وسلم، فأمضى لهم ذلك وقال لهما‏:‏ ‏(‏انْصَرِفا، نَفِى لَهُم بعهدهم، ونَسْتَعينُ اللهَ عَلَيهم‏)‏‏.‏

فصل

وصالح قريشاً على وضع الحرب بينَه وبينَهم عشرَ سنين، على أن مَن جاءه منهم مسلماً ردَّهُ إليهم، ومَنْ جاءَهُم مِن عنده لا يردُّونه إليه ، وكان اللفظُ عاماً في الرجال والنساء، فنسخَ الله ذلك في حقِّ النساء، وأبقاه في حقِّ الرجال، وأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يمتحنُوا مَن جاءهم مِن النساء، فإن عَلِمُوهَا مؤمِنةً، لم يردُّوها إلى الكُفَّار، وأمرهم بردِّ مهرها إليهم لما فات على زوجها مِن منفعة بُضعها، وأمر المسلمين أن يردُّوا على مَن ارتدَّتِ امرأتُهُ إليهم مهرَها إذا عاقبوا، بأن يجبَ عليهم ردُّ مهرِ المهاجرةِ، فيردونه إلى مَن ارتدَّت امرأتُهُ، ولا يردونها إلى زوجها المشرك، فهذا هو العِقابُ، وليس مِن العذاب في شىء، وكان في هذا دليل على أن خروج البُضع مِن ملك الزوج متقوَّم، وأنه متقوَّمٌ بالمسمَّى الذي هو ما أنفق الزوجُ لا بمهرِ المثل، وأن أنكحة الكفار لها حُكم الصحة، لا يُحكم عليها بالبطلان، وأنه لا يجوز ردُّ المسلمة المهاجرة إلى الكفَّارِ ولو شرط ذلك، وأن المسلمة لا يَحِلُّ لها نكاحُ الكافر، وأن المسلم له أن يتزوَّجَ المرأة المهاجرة إذا انقضت عدَّتُها، وآتاها مهرَها، وفى هذا أبينُ دلالة على خروج بُضعها مِن ملك الزوج، وانفساخِ نكاحها منه بالهجرة والإسلام‏.‏

وفيه دليلٌ على تحريمِ نكاحِ المشركة على المسلم، كما حرم نكاحُ المسلمة على الكافر‏.‏

وهذه أحكامُ استفيدت من هاتين الآيتين، وبعضُها مجمع عليه، وبعضُها مختلف فيه، وليس مع مَن ادعى نسخَها حُجَّةٌ البتة، فإن الشرطَ الذي وقع بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين الكفار في ردِّ مَن جاءه مسلماً إليهم، إن كان مختصاً بالرجال، لم تدخل النساء فيه، وإن كان عاماً للرجال والنساء، فالله سبحانه وتعالى خصّص منه ردَّ النساء ونهاهم عن ردِّهن، وأمرهم بِرَدِّ مهورِهنّ، وأن يردوا منها على مَن ارتدَّت امرأتُه إليهم من المسلمين المهرَ الذي أعطاها، ثم أخبر أن ذلك حكمُه الذي يحكُمُ به بين عباده، وأنه صادر عن علمه وحِكمته، ولم يأت عنه ما يُنافى هذا الحكم، ويكونُ بعده حتى يكون ناسخاً‏.‏

ولما صالحهم على ردِّ الرجالِ، كان يُمكِّنهم أن يأخذوا مَن أتى إليه منهم، ولا يُكْرِهُهُ على العود، ولا يأمره به، وكان إذا قتل منهم، أو أخذ مالاً، وقد فصل عن يده، ولما يلحق بهم، لم يُنْكِرْ عليه ذلك، ولم يضمنه لهم، لأنه ليس تحت قهره، ولا في قبضته، ولا أمرَه بذلك، ولم يقتضِ عقدُ الصلح الأمانَ على النفوس والأموال إلا عمن هو تحت قهره، وفى قبضته، كما ضَمِنَ لبنى جُذَيْمَةَ ما أتلفه عليهم خالدٌ مِن نفوسهم وأموالهم، وأنكره، وتبرأ منه‏.‏ ولما كان إصابُته لهم عن نوع شُبهة، إذْ لم يقولُوا‏:‏ أسلمنا، وإنما قالوا‏:‏ صبأنَا، فلم يَكُنْ إسلاماً صريحاً، ضَمِنهم بنصف دياتِهم لأجل التأويل والشبهة، وأجراهم في ذلك مجرى أهل الكتاب الذين قد عصمُوا نفوسَهم وأموالهم بعقدِ الذمة ولم يدخلوا في الإسلام، ولم يقتض عهدُ الصلح أن ينصُرَهم عَلى مَن حاربهم ممن ليس في قبضة النبى صلى الله عليه وسلم وتحت قهره، فكان في هذا دليل على أن المعَاهَدِينَ إذا غزاهُم قوم ليسوا تحت قهر الإمام وفى يده، وإن كانوا من المسلمين أنه لا يجِبُ على الإمام ردُّهم عنهم، ولا منعُهم من ذلك، ولا ضمانُ ما أتلفوه عليهم‏.‏

وأخذُ الأحكام المتعلقةِ بالحرب، ومصالح الإسلام، وأهلِه، وأمره، وأمورِ السياسات الشرعية من سيره، ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال، فهذا لون، وتلك لون‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

فصل

وكذلك صالحَ أهلَ خيبرَ لما ظهر عليهم على أن يُجْلِيَهُمْ منها، ولَهُمْ ما حملَتْ رِكَابُهم، ولرسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفراءُ والبيضَاءُ، والحَلْقَةُ، وهى السلاح‏.‏ واشترط في عقد الصلح ألا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً، فإن فعلُوا، فلا ذِمة لهم، ولا عهد، فغيَّبُوا مَسْكاً فيه مال وَحُلِىٌ لِحُـيَىّ بنِ أَخْطَب كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعم حُـيَىّ ابنِ أَخطب، واسمه سَعْيةُ‏:‏ ‏(‏مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَىٍّ الذي جَاءَ بهِ مِنَ النَّضير‏)‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ أذهبته النفقات والحروب، فقال‏:‏

‏(‏العَهْدُ قَرِيبٌ، والمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذلِكَ‏)‏‏.‏ وقد كان حُيَىّ قُتِلَ مع بنى قُريظة لـمَّا دخل معهم، فدفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمَّه إلى الزُّبير ليستقِرَّه، فَمَسَّهُ بعذاب، فقال‏:‏ ‏(‏قَدْ رَأَيْتُ حُييَّاً يَطُوفُ في خَربَةٍ ههنا‏.‏ فذهبوا فطافُوا، فوجدوا المَسك في الخَرِبَةَ، فقتلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنى أبى الحُقَيْقِ، وأحدهما زوج صفية بنت حُـيَىّ بن أخطب، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنَّكْثِ الذي نَكَثُوا، وأرادَ أن يُجليهم مِن خيبر، فقالوا‏:‏ دعنا نكون في هذه الأرض نُصلِحُهَا ونقومُ عليها، فنحنُ أعلمُ بها منكم، ولم يكن لِرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غِلمان يكفونهم مؤنتها، فدفعها إليهم على أن لِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ شىءٍ يخرُج منها مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلَهُمُ الشَّطْرُ، وعَلَى أَنْ يُقِرَّهُم فِيهَا مَا شَاء‏.‏

ولم يعمَّهم بالقتل كما عمَّ قُريظة لاشتراك أولئك في نقض العهد، وأما هؤلاء فالذين عَلِمُوا بالمَسك وغيَّبُوه، وشرطوا له إن ظهر، فلا ذِمة لهم ولا عهد، فإنه قتلَهم بشرطهم على أنفسهم، ولم يتعدَّ ذلك إلى سائر أهلِ خيبر، فإنه معلوم قطعاً أن جميعَهم لم يعلمُوا بمَسك حُـيَىّ، وأنه مدفون في خَرِبَةٍ، فهذا نظيرُ الذِّمىِّ والمعاهَدِ إذا نقض العهدَ، ولم يُمالِثه عليه غيرُه، فإن حكم النقض مختصٌ به‏.‏

ثم في دفعه إليهم الأرضَ على النصف دليل ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة، وكون الشجر نخلاً لا أثر له البتة، فحكم الشىء حكم نظيره، فَـبَلَدٌ شجرُهم الأعناب والتين وغيرهما من الثمار في الحاجة إلى ذلك، حكمه حكم بلد شجرُهُمْ النخل سواء، ولا فرق‏.‏

وفى ذلك دليل على أنه لا يُشترط كونُ البذر من ربِّ الأرضِ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحهم عن الشطر، ولم يُعْطِهم بذراً البتة، ولا كان يُرسِلُ إليهم بِبِذر، وهذا مقطوع به مِن سِيرته، حتى قال بعضُ أهل العلم‏:‏ إنه لو قِيل باشتراط كونه مِن العامل، لكان أقوى من القول باشتراط كونِه من ربِّ الأرض، لموافقته لِسُـنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في أهل خيبر‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه يجوز أن يكون من العامل، وأن يكونَ مِن ربِّ الأرض، ولا يُشترط أن يختصّ به أحدُهما، والذين شرطُوه من ربِّ الأرض، ليس معهم حُجةٌ أصلاً أكثرَ من قياسهم المزارعة على المُضاربة، قالوا‏:‏ كما يُشترط في المضاربة أن يكون رأسُ المالِ مِن المالك، والعملُ من المضارب، فهكذا في المزارعة، وكذلك في المساقاة يكون الشَّجرُ مِن أحدهما، والعملُ عليها من الآخر، وهذا القياسُ إلى أن يكون حجةً عليهم أقربُ من أن يكون حجةً لهم، فإن في المضاربة يعودُ رأسُ المال إلى المالك، ويقتسمان الباقى، ولو شرط ذلك في المزارعة، فسدت عندهم، فلم يُجْرُوا البِذْرَ مجرى رأس المال، بل أجَروْهُ مجرى سائر البقل، فبطل إلحاق المزارعة بالمضاربة على أصلهم‏.‏

وأيضاً فإن البذر جارٍ مجرى الماء، ومجرى المنافع، فإن الزرعَ لا يتكون وينمُو به وحده، بل لا بُد من السقى والعملِ، والبِذرُ يموتُ في الأرض، ويُنشىء الله الزرعَ مِن أجزاء أُخر تكون معه من الماء والريح، والشمسِ والتراب والعمل، فحكم البذرِ حكمُ هذه الأجزاء‏.‏

وأيضاً فإن الأرض نظيرُ رأس المال في القِراض، وقد دفعها مالكُها إلى المُزارع، وبِذرُها وحرثُهَا وسقيُهَا نظيرُ عمل المضارب، وهذا يقتضى أن يكون المزارع أولى بالبِذر مِن ربِّ الأرض تشبيهاً له بالمضارب، فالذى جاءت به السُّـنَّة هو الصواب الموافق لقياس الشرع وأُصوله‏.‏

وفى القصةِ دليل على جواز عقدِ الهُدنة مطلقاً مِن غير توقيت، بل ما شاء الإمامُ، ولم يجىء بعد ذلك ما ينسخ هذا الحكم البتة، فالصوابُ جوازه وصحته، وقد نصَّ عليه الشافعىُّ في رِواية المزنى، ونص عليه غيرُه من الأئمة، ولكن لا ينهضُ إليهم ويُحاربهم حتى يُعْلِمَهُمْ على سواء ليستووا هُمْ وهُوَ في العلم بنقض العهد‏.‏

وفيها دليل على جواز تعزيرِ المتهم بالعُقُوبة، وأن ذلك مِن السياسات الشرعية، فإنَّ الله سبحانه كان قادراً على أن يَدُلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الكنز بطريق الوحى، ولكن أراد أن يَسُنَّ لِلأُمَّةِ عقوبةَ المتهمين، ويُوسِّعَ لهم طُرُقَ الأحكام رحمة بهم، وتيسيراً لهم‏.‏

وفيها دليل على الأخذ بالقرائن في الاستدلال على صِحةِ الدَّعوى وفسادها، لقوله صلى الله عليه وسلم لِسِعْيَةَ لما ادَّعى نفادَ المال‏:‏ ‏(‏العَهْدُ قَرِيبٌ، والمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ‏)‏‏.‏

وكذلك فعل نبى الله سليمان بن داود في استدلاله بالقرينة على تعيين أم الطفل الذي ذهب به الذئب، وادَّعت كل واحدة من المرأتين أنه ابنُها، واختصمتا في الآخر، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا إلى سُليمان، فقال‏:‏ بِم قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِىُّ الله ‏؟‏ فأخبرتاه‏.‏ فقال‏:‏ ائتونى بالسِّكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى‏:‏ لا تفعلْ رحمك الله، هو ابنُهَا، فقضى به للصغرى فاستدل بقرينةِ الرحمة والرأفة التي في قلبها، وعدم سماحتها بقتله وسماحة الأخرى بذلك، لتصير أُسوتها في فقد الولد على أنه ابن الصغرى‏.‏

فلو اتفقت مثلُ هذه القضية في شريعتنا، لقال أصحابُ أحمد والشافعى ومالك رحمهم الله‏:‏ عمل فيها بالقافة، وجعلوا القافة سبباً لترجيح المدعى للنسب رجلاً كان أو امرأةً‏.‏

قال أصحابُنا‏:‏ وكذلك لو ولدت مسلمةُ وكافرةُ وَلَدَيْنِ، وادَّعَتِ الكافرةُ ولد المسلمة، وقد سُئل عنها أحمد، فتوقف فيها‏.‏ فقيل له‏:‏ ترى القافة ‏؟‏ فقال‏:‏ ما أحْسَنَهَا، فإن لم تُوجد قافةٌ، وحكم بينهما حاكم بمثل حُكم سليمان، لكان صواباً، وكان أولى من القُرعة، فإنَّ القُرعة إنما يُصار إليها إذا تساوى المدعيانِ من كل وجه، ولم يترجَّحْ أحدُهما على الآخر، فلو ترجَّح بيد أو شاهد واحد، أو قرينة ظاهرة مِن لَوْثٍ، أو نُكولِ خصمه عن اليمين، أو موافقةِ شاهد الحال لصدقه، كدعوى كل واحد من الزوجين ما يصلُح له من قماش البيت والآنية، ودعوى كل واحد من الصانعين آلات صنعته، ودعوى حاسِر الرأس عن العمامة عمامة مَن بيده عمامة، وهو يشتد عدواً، وعلى رأسه أخرى، ونظائر ذلك، قُدِّمَ ذلِكَ كله على القُرْعة‏.‏

ومن تراجم أبى عبد الرحمن النسائى على قصة سليمان‏:‏ ‏(‏هذا باب، الحكم يُوهم خِلافَ الحق، ليستعلم به الحقَّ‏)‏، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يقص علينا هذه القصة لنتخذها سمراً، بل لنعتبرَ بها في الأحكام، بل الحكم بالقَسامة وتقديم أيمان مدعى القتل هو من هذا استناداً إلى القرائن الظاهرة، بل ومن هذا رجمُ الملاعنة إذا التعنَ الزوجُ ونكَلَتْ عن الالتعان‏.‏ فالشافعى ومالك رحمهما الله، يقتلانِها بمجرد التعان الزوج، ونكولها استناداً إلى اللَّوْثِ الظاهر الذي حصل بالتعانه، ونكولها‏.‏

ومن هذا ما شرعه الله سبحانه وتعالى لنا مِن قبول شهادة أهلِ الكتاب على المسلمين في الوصيةِ في السفر، وأن وليي الميت إذا اطَّلعا على خِيانة من الوصيين، جاز لهما أن يحلفا ويستحقا ما حلفا عليه، وهذا لوثٌ في الأموال، وهذا نظير اللَّوثِ في الدماء، وأولى بالجواز منه، وعلى هذا إذا اطلع الرجلُ المسروقُ مالُه على بعضه في يد خائِنٍ معروفٍ بذلك، ولم يتبين أنه اشتراه من غيره، جاز له أن يَحْلِفَ أن بقية ماله عنده، وأنه صاحبُ السرقة استناداً إلى اللَّوث الظاهر، والقرائن التي تكشف الأمر وتوضحه، وهو نظيرُ حَلفِ أولياءِ المقتولِ في القَسَامَةِ أَن فلاناً قتله‏:‏ سواء، بل أمرُ الأموالِ أسهلُ وأخفُّ، ولذلك ثبت بشاهدٍ ويمينٍ، وشاهدٍ وامرأتين، ودعوى ونكولٍ، بخلاف الدماء‏.‏ فإذا جاز إِثْباتُهَا باللَّوثِ، فإثباتُ الأموال به بالطريق الأولى والأحرى‏.‏

والقرآن والسُّـنَّة يدلان على هذا وهذا، وليس مع مَن ادَّعى نسخَ ما دلَّ عليه القرآن من ذلك حُجَّةُ أصلاً، فإن هذا الحكم ُ في سورة ‏(‏المائدة‏)‏، وهى مِن آخر ما نَزَلَ مِن القرآن، وقد حكم بموجبِهَا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه، كأبى موسى الأشعرى، وأقرَّه الصحابةُ‏.‏

ومن هذا أيضاً ما حكاه الله سبحانه في قصة يوسف مِن استدلال الشاهد بِقرينةِ قَدِّ القميصِ مِنْ دُبُرٍ على صِدقه، وكذبِ المرأة، وأنه كان هارباً مُوَلِّياً، فأدركته المرأةُ مِن ورائه، فجبذته، فقدَّت قميصه مِنْ دُبُرٍ، فعلم بعلُها والحاضرونَ صدقه، وقبلوا هذا الحكم، وجعلوا الذنبَ ذنبها، وأمروها بالتوبة، وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرِّرٍ له غيرِ منكر، والتَّأَسِّى بذلك وأمثاله في إقرار الله له، وعدم إنكاره، لا في مجرَّدِ حكايته، فإنه إذا أخبر به مقراً عليه، ومُثنياً على فاعله، ومادحاً له، دل على رضاه به، وأنه موافق لحكمه ومرضاته، فليُتَدَبَّر هذا الموضعُ، فإنه نافع جداً، ولو تتبعنا ما في القرآن والسُّـنَّة، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك لطال، وعسى أن نُفْرِدَ فيهِ مصنفاً شافياً إن شاء الله تعالى‏.‏ والمقصود‏:‏ التنبيه على هَديه، واقتباس الأحكام من سيرته، ومغازِيهِ، ووقائعه صلواتُ الله عليه وسلامه‏.‏

ولما أَقَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في الأرض، كان يبعثُ كلَّ عام مَن يَخْرُصُ عليهم الثمارَ، فينظُرُ‏:‏ كَمْ يُجنى منها، فَـيُضمنهم نصيبَ المسلمين، ويتصرفون فيها‏.‏

وكان يكتفى بخارص واحد‏.‏ ففى هذا دليل على جواز خَرْصِ الثمار البادى صلاحُها كثمر النخل، وعلى جواز قسمة الثمار خرصاً على رؤوس النخل، ويصيرُ نصيبُ أحد الشريكين معلوماً وإن لم يتميز بعد لمصلحة النماء، وعلى أن القسمة إفراز لا بيع، وعلى جواز الاكتفاء بخارص واحد، وقاسمٍ واحد، وعلى أنَّ لِمن الثمارُ في يده أن يتصرَّف فيها بعد الخرص، ويَضْمَن نصيبَ شريكه الذي خرص عليه‏.‏

فلما كان في زمن عمر، ذهب عبدُ الله ابنه إلى ماله بخيبر، فَعَدَوْا عليه، فألقوه من فوق بيت، ففكُّوا يده فأجلاهم عمر منها إلى الشام، وقسمها بين مَن كان شهد خيبر من أهل الحُديبية‏.‏

فصل

وأما هَديه في عَقد الذِّمة وأخذِ الجزية، فإنَّهُ لم يأخذ مِن أحد من الكفار جزيةً إلا بعد نزول سورة ‏(‏براءة‏)‏ في السنة الثامنةِ مِن الهجرة، فلما نزلت آية الجِزية، أخذها مِن المجوس، وأخذها مِن أهل الكتاب، وأخذها مِن النصارى، وبعث معاذاً رضى الله عنه إلى اليمن، فعقد لمن لم يُسْلِم مِن يهودها الذِّمة، وضرب عليهم الجزيةَ، ولم يأخذها من يهودِ خيبر، فظن بعض الغالِطين المخطئين أن هذا حكم مختصٌ بأهل خيبر، وأنه لا يؤخذ منهم جزيةٌ وإن أُخِذَتْ منِ سائر أهل الكتاب، وهذا مِن عدم فقهه في السير والمغازي، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم وصالحهم على أن يُقِرَّهم في الأرض ما شاء، ولم تكن الجزيةُ نزلت بعد، فسبق عقدُ صلحهم وإقرارُهم في أرض خيبر نزولَ الجزية، ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يُقاتِلَ أهلَ الكِتاب حتى يُعطوا الجزية، فلم يدخل في هذا يهودُ خيبر إذ ذاك، لأن العقد كان قديماً بينه وبينهم على إقرارهم، وأن يكونوا عمالاً في الأرض بالشطر، فلم يُطالبهم بشىء غيرِ ذلك، وطالبَ سواهم من أهل الكتاب ممن لم يكن بينه وبينهم عقدٌ كعقدهم بالجزية، كنصارى نجرانَ، ويهودِ اليمن، وغيرِهم، فلما أجلاهم عمرُ إلى الشام، تغيّر ذلك العقدُ الذي تضمن إقرارَهم في أرض خيبر، وصار لهم حكمُ غيرهم مِن أهل الكتاب‏.‏

ولما كان في بعض الدول التي خفيت فيها السُّـنَّة وأعلامها، أظهر طائفة منهم كتاباً قد عَتَّقُوهُ وزوَّرُوهُ، وفيه‏:‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أسقط عن يَهودِ خيبر الجزية، وفيه‏:‏ شهادةُ على بن أبى طالب، وسعد بن معاذ، وجماعة مِن الصحابة رضى الله عنهم، فراج ذلك على مَنْ جَهِلَ سُـنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومغازيَه وسِيَرَه، وتوهَّموا، بل ظنوا صِحته، فَجَروْا على حُكم هذا الكتاب المزور، حتى أُلقى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه وطُلِبَ منه أن يُعين على تنفيذه، والعملِ عليه، فبصق عليه، واستدلّ على كذبه بعشرة أوجه‏:‏

منها‏:‏ أن فيه شهادةَ سعد بن معاذ، وسعد توفى قبل خيبر قطعاً‏.‏

ومنها‏:‏ أن في الكتاب، أنه أسقط عنهم الجزية، والجزية لم تكن نزلت بعد، ولا يعرِفها الصحابة حينئذ، فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام‏.‏

ومنها‏:‏ أنه أسقط عنهم الكُلَفَ والسُّخَرَ، وهذا محال، فلم يكن في زمانه كُلَفٌ ولا سُخَرٌ تُؤخذ منهم، ولا مِن غيرهم، وقد أعاذه الله، وأعاذ أصحابَه مِن أخذ الكُلَفِ والسُّخَرِ، وإنما هي من وضع الملوكِ الظَّلمة، واستمر الأمر عليها‏.‏

ومنها‏:‏ أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحدٌ من أهل المغازي والسير، ولا أحدٌ من أهل الحديث والسُّـنَّة، ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحدٌ من أهل التفسير، ولا أظهروه في زمان السَلَف، لعلمهم أنهم إن زوَّروا مثلَ ذلك، عرفوا كذبَه وبُطلانه، فلما استخفُّوا بعضَ الدول في وقت فتنةٍ وخفاء بعض السُّـنَّة، زوَّروا ذلك، وعتَّقوهُ وأظهروه، وساعدهم على ذلك طمعُ بعضِ الخائنين لله ولرسوله، ولم يستمرَّ لهم ذلك حتى كشف الله أمره، وبيَّن خلفاءُ الرسل بطلانه وكذبَه‏.‏

فصل‏:‏ في الأصناف التي تؤخذ منهم الجزية

فلما نزلت آيةُ الجزية، أخذها صلى الله عليه وسلم مِن ثلاث طوائف‏:‏ مِن المجوسِ، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام‏.‏ فقيل‏:‏ لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء، ومَن دان بدينهم، اقتداءً بأخذه وتركه‏.‏ وقيل‏:‏ بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول‏:‏ قول الشافعى رحمه الله، وأحمد، في إحدى روايتيه‏.‏ والثانى‏:‏ قولُ أبى حنيفة، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى‏.‏

وأصحاب القول الثانى يقولون‏:‏ إنما لم يأخذها مِنْ مشركى العربِ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب، ولم يبق فيها مُشِركٌ، فإنها نزلت بعد فتح مكة، ودخولِ العربِ في دين الله أفواجاً، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ، وكانُوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون، لكانُوا يلونه، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين‏.‏

ومن تأمَّل السِّـيَرَ، وأيامَ الإسلام، علم أن الأمرَ كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها، قالوا‏:‏ وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهلِ كتاب، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب، ورفع وهو حديث لا يثـبُت مثلُه، ولا يصح سنده‏.‏

ولا فرق بين عُـبَّادِ النَّار، وعُـبَّاد الأصنام، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالاً من عُبَّادِ النار، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن في عُـبَّاد النار، بل عُـبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية، فأخذها من عُـبَّاد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سُـنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فاقْبَلْ مِنْهُم، وكُفَّ عنهم‏)‏‏.‏ ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ، أَو الجِزْيَةِ، أو يُقَاتِلَهم‏.‏

وقال المغيرة لعاملِ كسرى‏:‏ ‏(‏أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله، أو تؤدُّوا الجزية‏)‏‏.‏

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِقريش‏:‏ ‏(‏هَلْ لَكُمْ في كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤدَّى العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ‏)‏ ‏؟‏‏.‏ قالُوا‏:‏ ما هي ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لاَ إِلَهََ إِلاَّ الله‏)‏‏.‏

فصل

‏(‏ولما كان في مرجعه من تبوك، أخذت خَيْلُه أُكْيدِرَ دُوْمَةَ، فصالحه على الجزية، وحقن له دمه‏)‏‏.‏

‏(‏وصالحَ أهلَ نجران مِن النصارى على ألفى حُلَّةٍ‏.‏ النِّصْفُ في صفر، والبقيةُ في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعاريَّة ثلاثين دِرعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين مِن كُلِّ صِنف من أصناف السلاح، يغزُون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم إن كان باليمن كَيْدٌ أو غَدْرَةٌ، على ألا تُهدم لهم بَـيْعة، ولا يُخرج لهم قَسٌ، ولا يُفتنوا عن دينهم ما لم يُحْدِثُوا حَدَثاً أَو يَأْكُلُوا الرَّبا‏)‏‏.‏

وفى هذا دليل على انتقاض عهد الذِّمة بإحداث الحَدَث، وأكلِ الرِّبا إذا كان مشروطاً عليهم‏.‏

ولما وجه معاذاً إلى اليمن، ‏(‏أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَاراً أَوْ قِيمَتَهُ مِنَ المَعَافِرِىِّ، وهى ثيابٌ تكون باليمن‏)‏‏.‏

وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس، ولا القدرِ، بل يجوز أن تكونَ ثياباً وذهباً وحُللاً، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين، واحتمال مَن تؤخذ منه، وحاله في الميسرة، وما عنده من المال‏.‏

ولم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه في الجزية بين العربِ والعجم، بل أخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب، وأخذها مِن مجوس هجر، وكانوا عرباً، فإن العرب أمةٌ ليس لها في الأصل كتاب، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم، فكانت عربُ البحرين مجوساً لمجاورتها فارِسَ، وتنوخَ، وبُهْرَة، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن، فأجرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحكامَ الجِزية، ولم يعتبر آباءهم، ولا متى دخلُوا في دينِ أهل الكتاب‏:‏ هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده، ومن أين يعرِفُونَ ذلك، وكيف ينضبط وما الذي دلَّ عليه ‏؟‏ وقد ثبت في السير والمغازي، أن من الأنصار مَن تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إكْرَاهَ في الدِّينِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏، وفى قوله لمعاذ‏:‏ ‏(‏خُذْ مِنْ كُلِّ حالم ديناراً‏)‏ دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه عبد الرزاق في ‏(‏مصنفه‏)‏ وأبو عبيد في ‏(‏الأموال‏)‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم أمَرَ معاذَ بن جبل‏:‏ أن يأخذ مِن اليمن الجزية مِن كل حالم أو حالمة، زاد أبو عبيد‏:‏ ‏(‏عبداً أو أمةً، ديناراً أو قيمته من المعافرِى‏)‏ فهذا فيه أخذها من الرجل والمرأة، والحر والرقيق ‏؟‏ قيل‏:‏ هذا لا يصح وصله، وهو منقطع، وهذه الزيادة مختلف فيها، لم يذكرها سائر الرواة، ولعلها من تفسير بعض الرواة‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه، وغيرهم هذا الحديث، فاقتصروا على قوله‏:‏ أمره ‏(‏أن يأخذ من كل حالم ديناراً‏)‏ ولم يذكروا هذه الزيادة، وأكثر مَنْ أخذ منهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم الجزية العرب مِنَ النصارى، واليهود، والمجوس، ولم يكشف عن أحد منهم متى دخل في دينه، وكان يعتبرهم بأديانهم لا بآبائهم‏.‏

فصل‏:‏ في ترتيب سياق هَديه مع الكفار والمنافقين، من حين بُعِث إلى حين لقى الله عَزَّ وجَلَّ

أوَّل ما أوحى إليه ربُّه تبارك وتعالى‏:‏ أن يقرأ باسمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1-2‏]‏ فنبأه بقوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ ، وأرسـله بـ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ ثم أمره أن يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِينَ، ثم أنذر قومَه، ثم أنذرَ مَنْ حَوْلَهُم مِن العرب، ثم أنذر العربَ قاطبة، ثم أنذر العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوته يُنْذِرُ بالدعوة بغير قتال ولا جِزية، ويُؤمر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح‏.‏

ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذِنَ له في القتال، ثم أمره أن يُقاتِلَ مَن قاتله، ويَكُفَّ عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمرِ بالجهاد ثلاثة أقسام‏:‏ أهلُ صُلح وهُدنة، وأهلُ حرب، وأهلُ ذِّمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يُوفى لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خِيانة، نبذَ إليهم عهدهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أن يقاتل مَن نقض عهده‏.‏ ولما نزلت سورة ‏(‏براءة‏)‏ نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يُقاتِلَ عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَةَ، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيفِ والسنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ واللِّسان‏.‏

وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعلَ أهلَ العهد في ذلك ثلاثة أقسام‏:‏ قسماً أمره بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهده، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم‏.‏ وقسماً لهم عهد مُؤقَّت لم ينقضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمره أن يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدتهم‏.‏ وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يُحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يُؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم، وهى الأشهر الأربعة المذكورة في قوله‏:‏

{‏فَسِيحُواْ في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ وهى الحُرُمُ المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏فإذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتلُواْ الْمُشرِكيِنَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فالحُرُم ههنا‏:‏ هي أشهر التسـيير، أولها يومُ الأذان وهو اليومُ العاشر من ذى الحِجة، وهو يومُ الحجِّ الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخِرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ فإن تلك واحِد فرد، وثلاثة سرد‏:‏ رجبٌ، وذُو القَعدة، وذو الحِجة، والمحَرَّمُ، ولم يسير المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يُمكن، لأنها غيرُ متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يُقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفى بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية‏.‏

فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول ‏(‏براءة‏)‏ على ثلاثة أقسام‏:‏ محاربينَ له، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين‏:‏ محاربين، وأهل ذِمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام‏:‏ مسلم مؤمِن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب‏.‏

وأما سيرته في المنافقين، فإنه أُمِرَ أن يَقبل مِنهم علانيتَهم، ويَكِلَ سرائِرَهم إلى الله، وأن يُجاهِدَهم بالعِلم والحُجَّة، وأمره أن يُعرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يَبْلُغَ بالقولِ البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلِّىَ عليهم، وأن يقومَ على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم، فلن يغفر الله لهم، فهذه سيرتُه في أعدائه مِن الكفار والمنافقين‏.‏

فصل

وأما سيرتُه في أوليائه وحِزبه، فأمرهُ أن يَصْبِرَ نفسَه مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعشى يُريدون وجهه، وألا تعدُُوَ عيناه عنهم، وأمره أن يعفوَ عنهم، ويستغفِرَ لهم، ويُشَاوِرَهم في الأمر، وأن يُصلِّى عليهم‏.‏

وأمره بهجر مَن عصاهُ، وتخلَّف عنه، حتى يتوبَ، ويُراجِعَ طاعته، كما هجر الثلاثة الذين خُلِّفُوا‏.‏

وأمره أن يُقيمَ الحدودَ على مَن أتى موجباتِها منهم، وأن يكونُوا عنده في ذلك سواء شَريفُهم ودنيئُهم‏.‏

وأمره في دفع عدوِّه مِن شياطينِ الإنس، بأن يدفع بالتى هي أحسن، فيُقابل إساءة مَن أساء إليه بالإحسان، وجهلَه بالحِلم، وظلمَه بالعفو، وقطيعتَه بالصلة، وأخبره أنه إن فعل ذلك، عاد عدوُّه كأنه ولى حميم‏.‏

وأمره في دفعه عدوه من شياطين الجن بالاستعاذة باللهِ منهم، وجمع له هذين الأمرين في ثلاثة مواضع مِن القرآن‏:‏ في سورة ‏(‏الأعراف‏)‏ و ‏(‏المؤمنين‏)‏ وسورة ‏(‏حم فصلت‏)‏ فقال في سورة الأعراف‏:‏ ‏{‏خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرَضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَمًيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199-200‏]‏‏.‏ فأمره باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم، وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه، وجمع له في هذه الآيةِ مكارِمَ الأخلاق والشيم كلها، فإن ولىَّ الأمر مع الرعية ثلاثة أحوال‏:‏ فإنه لا بدَّ له مِن حقٍّ عليهم يلزمهم القيامُ به، وأمرٍ يأمرُهم به، ولا بُدَّ مِن تفريط وعُدوان يقع منهم في حقه، فأُمِرَ بأن يأخذ من الحق الذي عليهم ما طوَّعَتْ به أنفسُهم وسمحت به، وسَهُلَ عليهم، ولم يَشُقَّ، وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضررٌ ولا مشقة، وأمر أن يأمرهم بالعُرْف، وهو المعروف الذي تَعرفُه العقولُ السليمة، والفِطَرُ المستقيمة، وتُقر بحسنه ونفعه، وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضاً لا بالعنف والغلظة‏.‏ وأمره أن يُقابِلَ جهلَ الجاهلين منهم بالإعراض عنه، دون أن يُقابلَه بمثله، فبِذلك يكتفى شرهم‏.‏

وقال تعالى في سورة المؤمنين‏:‏ ‏{‏قُل رَّبِّ إمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلِنْى في القَوْمِ الظَّالمينَ وَإنَّا عَلَى أَنْ نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هي أَحْسَنُ السَّـيِّـئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 93-98‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة حم فُصِّلت‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هي أَحْسَنُ فإذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34-36‏]‏، فهذه سيرته مع أهل الأرض إنسهم، وجنهم، مُؤمنهم، وكافرهم‏.‏

فصل‏:‏ في سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

وكان أوَّل لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه، وكان لواءً أبيضَ، وكان حامِله أبو مَرْثَد كَنَّاز بن الحُصين الغَنَوى حليف حمزة، وبعثه في ثلاثين رَجُلاً مِن المهاجرين خاصّة، يعترِضُ عِيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبُو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سِيْفَ البحرِ من ناحية العِيصِ، فالتَقَوْا واصطفُّوا للقتال، فمشى مجدى بن عمرو الجُهنى، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حَجَزَ بينهم ولم يقتتِلوا‏.‏

فصل

ثم بعث عُبَيْدَةَ بنَ الحارث بن المطلب في سريَّة إلى بَطنِ رَابغ في شوَّال على رأسِ ثمانية أشهر من الهجرة، وعقد له لواءً أبيضَ، وحمله مِسْطَحُ بن أُثَاثَة بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكانوا في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصارى، فلقى أبا سفيان بنَ حرب، وهو في مائتين على بَطن رابغ، على عشرة أميالٍ من الجُحْفَةِ، وكان بينهم الرمىُ، ولم يَسُلُّوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، وكان سعدُ بن أبى وقاص فيهم، وهو أوَّلُ مَن رمى بسهم في سبيل الله، ثم انصرف الفريقانِ على حاميتهم‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وكان على القوم عِكرمة بنُ أبى جهل، وقدم سريَّة عُبيدة على سريَّة حمزة‏.‏

فصل

ثم بعثَ سعدَ بن أبى وقاصٍ إلى الخرَّارِ في ذى القَعدة على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواءً أبيضَ، وحمله المقدادُ بنُ عمرو، وكانوا عشرين راكباً يعترِضُونَ عِيراً لقريش، وعَهِدَ أن لا يُجاوِزَ الخَرَّار، فخرجوا على أقدامهم، فكانوا يكمُنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى صبَّحوا المكان صَبِيحةَ خمس، فوجدوا العِير قد مرَّت بالأمس‏.‏

فصل

ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء، ويقال لها‏:‏ وَدَّان، وهى أولُ غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صَفَر على رأس اثنى عشر شهراً مِن مُهَاجَرِهِ، وحمل لواءه حمزةُ بنُ عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعدَ بن عبادة، وخرج في المهاجرين خاصة بعترِض عِيراً لقريش، فلم يلق كيداً، وفى هذه الغزوة وادع مخشىَّ بن عمرو الضَّمْرِى وكان سيِّدَ بنى ضَمْرة في زمانه على ألا يغزو بنى ضَمْرَة، ولا يغزوه، ولا أن يُكثِّروا عليه جمعاً، ولا يُعِينُوا عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وكانت غيبتُه خمسَ عشرة ليلة‏.‏

فصل

ثم غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بُوَاطَ في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثةَ عشرَ شهراً مِن مُهَاجَرِهِ، وحمل لواءَه سعدُ بنُ أبى وقاص، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة سعدَ بن معاذ، وخرج في مائتين مِن أصحابه يعترِض عِيراً لقُريش، فيها أميةُ بنُ خلف الجُمحى، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بُواطاً، وهما جبلان فرعان، أصلهما واحد من جبالِ جُهينة، مما يلى طريقَ الشام، وبين بُواط والمدينة نحُوُ أربعةِ بُرُد، فلم يلق كيداً فرجع‏.‏

فصل

ثم خرج على رأسِ ثلاثة عشر شهراً مِن مُهَاجَرِه يطلب كُرْز بن جابر الفهرى، وحمل لِواءه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كُرز قد أغار على سرح المدينة، فاستاقه، وكان يرعى بالحِمى، فطلبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ وادياً يقال له‏:‏ ‏(‏سَفَوان‏)‏ مِن ناحية بدر، وفاته كُرز ولم يلحقه، فرجع إلى المدينة‏.‏

فصل

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جُمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومى، وخرج في خمسين ومائة، ويقال‏:‏ في مائتين مِن المهاجرين، ولم يُكْرِهْ أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يَعْتَقِبُونَها يَعْترِضُون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام، وقد كان جاءه الخبرُ بفصولها مِن مكة فيها أموالٌ لقريش، فبلغ ذَا العُشيرَةِ وقيل‏:‏ العُشيراء بالمد‏.‏ وقيل‏:‏ العُسيرة بالمهملة وهى بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسعة بُرُد، فوجد العِيرَ قد فاتته بأيام، وهذه هي العيرُ التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، وهى التي وعده الله إياها، أو المقاتلة، وذات الشَوْكة، ووفَّى له بوعده‏.‏

وفى هذه الغزوة، وادع بنى مُدْلِج وحُلفاءهم من بنى ضَمْرَة‏.‏

قال عبد المؤمن بن خلف الحافظ‏:‏ وفى هذه الغزوة كنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً أبا تُراب، وليس كما قال، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما كَنَّاهُ أبا تراب بعد نكاحه فاطمة، وكان نِكاحُها بعد بدر، فإنه لما دخل عليها وقال‏:‏ ‏(‏أيْنَ ابْنُ عَمِّكِ‏)‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ خَرَجَ مُغاضِباً، فجاءَ إلى المسجد، فوجده مضطجعاً فيه، وقد لصق به التراب، فجعل ينفُضه عنه ويقول‏:‏ ‏(‏اجْلِسْ أبا تُرابٍ، اجْلِسْ أبا تُرابٍ‏)‏ وهو أول يوم كُنى فيه أبا تراب‏.‏

فصل

ثمَّ بعثَ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ إلى نَخْلَةَ في رجب، على رأْسِ سبعةَ عشرَ شهراً مِن الهِجْرة، في اثنى عشر رجلاً مِن المهاجرين، كُلُّ اثنين يعتقبان علَى بعير، فوصلُوا إلى بطن نخلة يرصُدُون عِيراً لقريش، وفى هذِهِ السَّرِيَّة سمَّى عبدَ الله بن جحش أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتب له كِتاباً، وأمره أن لا ينظُرَ فيه حتى يسيرَ يومين، ثم ينظُرَ فيه، ولما فَتحَ الكِتاب، وجد فيه‏:‏ ‏(‏إذَا نَظَرْتَ في كِتَابى هذا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشَاً، وتَعْلَمَ لنا مِنْ أَخْبَارِهم‏)‏ فقال‏:‏ سمعاً وطاعةً، وأخبر أصحابَه بذلكَ، وبأنه لا يستكرِهُهم، فمن أحبَّ الشهادةَ، فلينهض، ومن كرِهَ الموت، فليرجِعْ، وأما أنا فناهض، فَمَضَوْا كُلُّهم، فلما كان في أثناء الطريق، أضلَّ سعدُ بن أبى وقاص، وعتبةُ بنُ غزوان بعيراً لهما كانَا يَعْتَقِبَانِهِ، فتخلفا في طلبه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جحش حتى نزل بِنخلة، فمرَّت به عِيرٌ لقريش تَحْمِلُ زبيباً وأَدَماً وتِجارةً فيها عَمْرو بن الحَضْرَمى، وعثمان، ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكمُ بنُ كيسان مولى بنى المغيرة‏.‏

فتشاور المسلمُون وقالوا‏:‏ نحن في آخر يومٍ من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهرَ الحرام، وإن تركناهم الليلةَ، دخلوا الحَرَم، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم، فرمى أحدُهم عَمْرو بن الحضرمى فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفْلَتَ نوفل، ثم قَدِمُوا بالعِير والأسيرين، وقد عزلوا مِن ذلك الخُمس، وهو أول خُمس كان في الإسـلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام، وأنكر رسُول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه، واشتدَّ تعنُّتُ قريش وإنكارُهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا‏:‏ قد أحلَّ محمد الشهرَ الحرَامَ، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِـيرٌ وَصَدٌ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

يقول سبحانه‏:‏ هذا الذي أنكرتموه عليهم، وإن كان كبيراً، فما ارتكبتموه أنتم مِن الكفر بالله، والصدِّ عن سبيله، وعن بيتهِ، وإخراجِ المسلمين الذين هم أهلُه منه، والشِرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به أكبرُ عند اللهِ مِن قِتالهم في الشهر الحرام، وأكثرُ السَلَف فسَّروا الفتنة ههنا بالشرك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏ ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَـكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا أنْ قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ أى‏:‏ لم يكن مآلُ شركهم، وعاقبته وآخرُ أمرهم، إلا أن تبرّؤوا منه وأنكروه‏.‏

وحقيقتها‏:‏ أنها الشرك الذي يدعو صاحبُه إليه، ويُقاتِل عليه، ويُعاقب مَن لم يَفَتِتنْ به، ولهذا يُقال لهم وقتَ عذابهم بالنار وفتنتهم بها‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 14‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏تكذيبَكم‏)‏، وحقيقته‏:‏ ذوقوا نهاية فتنتكم، وغايَتَها، ومصيرَ أمرها، كقولهِ‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 24‏]‏، وكما فتنوا عباده على الشرك، فُتِنُوا على النار، وقيل لهم‏:‏ ذوقوا فتنتكم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ فُسِّرت الفتنةُ ههنا بتعذيبهم المؤمنين، وإحراقهم إياهم بالنار، واللَّفظُ أعمُّ من ذلك، وحقيقته‏:‏ عذَّبُوا المؤمنين ليفتَـتِنُوا عن دينهم، فهذه الفتنةُ المضافةُ إلى المشركين‏.‏

وأما الفتنة التي يُضيفها اللهُ سبحانه إلى نفسه أو يُضيفها رسولُه إليه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ فَـتَـنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏ وقول موسى‏:‏ ‏{‏إنْ هي إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، فتلك بمعنى آخر، وهى بمعنى الامتحان، والاختبار، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنةُ المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علىّ ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر، وهى الفتنة التي قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، القَاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، والقائِمُ فِيهَا خَيْرٌ منَ المَاشى، والماشى فيها خَيْرٌ من السَّاعِى‏)‏ وأحاديثُ الفتنة التي أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين، هي هذه الفتنة‏.‏

وقد تأتى الفتنة مراداً بها المعصية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏ يقوله الجدُّ بنُ قيس، لما ندبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوكَ، يقول‏:‏ ائذن لى في القُعود، ولا تفتنى بتعرضى لبنات بنى الأصفر، فإنى لا أَصْبِرُ عنهن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا في الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏، أى‏:‏ وقعوا في فتنة النفاق، وفروا إليها مِن فتنة بناتِ الأصفر‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبرئ أولياءَه من ارتكاب الإثم بالقتالِ في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ مِن مجردِ القتالِ في الشهر الحرام، فهم أحقُّ بالذمِّ والعيبِ والعُقوبَةِ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأوِّلين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفِره الله لهم في جنب ما فعلوه مِن التوحيد والطاعات، والهِجرة مع رسوله، وإيثارِ ما عند الله، فهم كما قيل‏:‏

وإذَا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ جَاءَتْ مَحَاسِنُه بِأَلْفِ شَفِيع

فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍ جاء بكُلِّ قبيح، ولم يأت بشفيع واحد مِن المحاسن‏.‏

فصل

ولما كان في شعبان من هذه السنة، حُوِّلت القِبْلة، وقد تقدم ذكرُ ذلك‏.‏