فصل: فصل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فوائد أخرى لغزوة تبوك

فصل‏:‏ في انتقاض عهد أهل العهد والذِّمَّة إذا أحدثوا حَدَثاً

ومنها‏:‏ أن أهلَ العهد والذِّمَّة إذا أحدث أحد منهم حَدَثاً فيه ضرر على الإسلام، انتقضَ عهدُه في ماله ونفسه، وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام، فدمُه وماله هدر، وهو لمن أخذه، كما قال في صلح أهل أيلة‏:‏ فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يحول مالُه دون نفسه، وهو لمن أخذه من الناس، وهذا لأنه بالإحداث صار محارباً، حكمه حكم أهل الحرب‏.‏

فصل‏:‏ في جواز الدفن ليلاً

ومنها‏:‏ جواز الدفن بالليل، كما دفن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذا البِجادين ليلاً، وقد سُئل أحمد عنه، فقال‏:‏ وما بأسٌ بذلك‏.‏ وقال‏:‏ أبُو بكر دُفِنَ ليلاً، وعلىّ دفن فاطمة ليلاً‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ سمعنا صوتَ المساحِى من آخِر الليل في دفن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

ودفن عُثمان، وعائشةُ، وابنُ مسعود ليلاً‏.‏

وفى الترمذى عن ابن عباس، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً، فأُسْرِجَ له سِراج، فأخذه من قِبَل القِبْلة، وقال‏:‏ ‏(‏رحمك الله؛ إن كُنْتَ لأَوَّاهَاً تَلاءً لِلْقُرآن‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏

وفى البخارى‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فقال‏:‏ ‏(‏مَنْ هذَا‏)‏‏؟‏ قالُوا‏:‏ فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تصنعون بما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فذكر رجلاً مِن أصحابِه قُبضَ فَكُفِّن في كَفَنٍ غَيْرِ طَائِل، وَقُبِرَ لَيْلاً، فزجَرَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقَبَرَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ حتَّى يُصَلَّى عليه إلا أَنْ يُضطرَّ إنْسَانٌ إلَى ذلِكَ‏؟‏ قال الإمام أحمد‏:‏ إليه أذهب‏.‏

قيل‏:‏ نقول بالحديثين بحمد اللهِ، ولا نرُدُّ أحدَهما بالآخر، فنكره الدفنَ بالليل، بل نزجُر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، كميت مات مع المسافرين بالليل، ويتضرَّرون بالإقامة به إلى النهار، وكما إذا خِيف على الميت الانفجارُ، ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلاً‏.‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في أن الإمام إذا بعث سَرِيَّة، فغَنِمَت غنيمة أو أسرت أسيراً أو فتحت حصناً، كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه

ومنها‏:‏ أن الإمام إذا بعث سَرِيَّةً، فغنِمَت غنيمة، أو أسرت أسيراً، أو فتحت حِصناً، كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قسم ما صالح عليه أُكَيْدِر من فتح دُومة الجندل بين السريَّة الذين بعثهم مع خالد، وكانوا أربعمائة وعشرين فارساً، وكانت غنائِمُهم ألفى بعير وثمانمائة رأس، فأصاب كُلَّ رجل منهم خمسُ فرائض، وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السريةُ من الجيش في حال الغزو، فأصابت ذلك بقوة الجيش، فإن ما أصابُوا يكون غنيمة للجميع بعد الخُمُس والنَّفلَ، وهذا كان هَدْيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ في أن الجهاد يكون بالقلب، واللِّسان، والمال، والبدن

ومنها‏:‏ قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ بالمَدِينَةِ أقْواماً مَا سِرْتُمْ مَسيراً، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم‏)‏، فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم، لا كما يظنه طائفة من الجُهَّال أنهم معهم بأبدانهم، فهذا محال، لأنهم قالوا له‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وهم بالمدينة حَبَسَهُمُ العُذْرُ‏)‏، وكانوا معه بأرواحهم، وبدار الهجرة بأشباحهم، وهذا مِن الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع، وهى القلب، واللِّسان، والمال، والبدن‏.‏ وفى الحديث‏:‏ ‏(‏جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَقُلُوبِكُم وأَمْوالِكُم‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في تحريق أمكنة المعصية

ومنها‏:‏ تحريقُ أمكنة المعصية التي يُعصى اللهُ ورسولُه فيها وهدمُها، كما حرقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضِّرار، وأمر بهدمه، وهو مسجدٌ يُصلَّى فيه، ويُذكر اسمُ الله فيه، لما كان بناؤه ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنينَ، ومأوى للمنافقين، وكُلُّ مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيلُه، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضِعَ له‏.‏ وإذا كان هذا شأنَ مسجد الضِّرارِ، فمشاهِدُ الشِّرْكِ التي تدعو سدنتُها إلِى اتخاذ مَنْ فيها أنداداً من دون الله أحقُّ بالهدمِ وأوجب، وكذلك محالُّ المعاصى والفسوق، كالحانات، وبُيوت الخمَّارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمرُ بن الخطاب قريةً بكمالها يُباع فيها الخمر، وحرق حانوت رُويشد الثقفى وسماه فويسقاً، وحرق قصرَ سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تَاركى حضور الجماعة والجُمُعة، وإنما منعه مَن فيها من النساء والذُرِّية الذين لا تجبُ عليهم كما أخبر هو عن ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أن الوقف لا يصح على غير برٍّ ولا قُربة، كما لم يصحَّ وقفُ هذا المسجد، وعلى هذا‏:‏ فيُهدم المسجد إذا بُنى على قبر، كما يُنبش الميتُ إذا دُفِنَ في المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيرُه، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخـر‏.‏ منع منه، وكان الحكم لِلسابق، فلو وُضِعا معاً، لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تَصِحُّ الصلاة في هذا المسجد لنهى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه مَن اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دينُ الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربتُه بينَ الناس كما ترى‏.‏

فصل‏:‏ في جواز إنشاد الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به

ومنها‏:‏ جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به ما لم يكن معه مُحرَّم من لهو، كمزمار، وشبابة، وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رُقية الفواحش، وما حرَّم الله، فهذا لا يُحَرِّمُه أحد، وتَعَلُّقُ أربابِ السماع الفِسقى به كتعلق مَن يستحِلُّ شُربَ الخمر المسكر قياساً على أكل العنب، وشرب العصير الذي لا يُسْكِر، ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا‏:‏ إنما البيع مثل الربا‏.‏

ومنها‏:‏ استماعُ النبى صلى الله عليه وسلم مدحَ المادحين له، وتركُ الإنكار عليهم، ولا يَصِحُّ قياسُ غيره عليه في هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال‏:‏ ‏(‏احْثُوا في وُجُوه المَدَّاحِينَ التُّرابَ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ ما اشتملت عليه قصةُ الثلاثة الذين خُلِّفُوا مِن الحِكَم والفوائد الجمَّة، فنشيرُ إلى بعضُها‏:‏

فمنها‏:‏ جوازُ إخبار الرجل عن تفريطه وتقصِيرِه في طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمرُه، وفى ذلك مِن التحذير والنصيحة، وبيانِ طُرُقِ الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأُمور‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع‏.‏

ومنها‏:‏ تسلية الإنسان نفسَه عما لم يُقدَّر له من الخير بِما قُدِّر له مِن نظيره أو خير منه‏.‏

ومنها‏:‏ أن بَيْعةَ العَقَبَةِ كانت مِن أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعباً كان لا يراها دونَ مشهد بدر‏.‏

ومنها‏:‏ أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهم به ويقصِدُه من العدو، ويُورِّى به عنه، استُحِبَّ له ذلك، أو يتعين بحسب المصلحة‏.‏

ومنها أن السِّترَ والكِتمان إذا تضمن مفسدة، لم يجز‏.‏

ومنها‏:‏ أن الجيشَ في حياة النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم دِيوان، وأول مَن دوَّن الدِّيوان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مِن سُـنَّته التي أمر النبى صلى الله عليه وسلم باتباعها، وظهرت مصلحتُها، وحاجةُ المسلمين إليها‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرجلَ إذا حضرت له فُرصةُ القُربة والطاعة، فالحزمُ كُلُّ الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجزُ في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعةُ الانتقاض قلَّما ثبتت، والله سُبحانه يُعاقب مَنْ فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعد من إرادته عقوبةً له، فمن لم يَستَجِبْ للهِ ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابةُ بعد ذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏، وقد صرَّح الله سبحانه بهذا في قوله‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏ وهو كثير في القرآن‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لم يكن يتخلَّفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحد رجال ثلاثة‏:‏ إما مغموصٌ عليه في النفاق، أو رجلٌ من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة، أو خَلَّفه لمصلحة‏.‏

ومنها‏:‏ أن الإمام والمطاعَ لا ينبغى له أن يُهمِلَ مَنْ تخلَّفَ عنه في بعض الأُمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال بتبوك‏:‏ ‏(‏مَا فَعَلَ كَعْب‏)‏‏؟‏ ولم يذكر سِواه من المخلَّفين استصلاحاً له، ومُرعاةً وإهمالاً للقوم المنافقين‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ الطعنِ في الرجل بما يغلِبُ على اجتهادِ الطاعن حميةً، أو ذبّاً عن الله ورسوله، ومن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعنُ ورثة الأنبياء وأهل السُّـنَّة في أهل الأهواء والبِدَع للهِ لا لحظوظهم وأغراضهم‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الرادِّ أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذى طعن في كعب‏:‏ بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلاَّ خيراً، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما‏.‏

ومنها‏:‏ أن السُّـنَّة للقادم من السفر أن يدخل البلَد على وضوء، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيُصَلِّى فيه ركعتين، ثم يجلس للمسلِّمين عليه، ثم ينصرفُ إلى أهله‏.‏

ومنها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية مَن أظهر الإسلام من المنافقين، ويَكِلُ سريرته إلى الله، ويُجرى عليه حكم الظاهر، ولا يُعاقبه بما لم يعلم مِن سِرِّه‏.‏

ومنها‏:‏ تركُ الإمام والحاكم ردَّ السلام على مَن أحدث حَدَثاً تأديباً له، وزجراً لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أنه رَدَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المُغْضَبِ‏.‏

ومنها‏:‏ أن التبسم قد يكون عن الغضب، كما يكون عن التعجب والسرور، فإن كلاّ منهما يُوجب انبساط دمِ القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرةُ الوجه لسرعة ثورانِ الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجُّبٌ يتبعهُ ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه، ولا سيما عند المَعتَبَةِ كما قيل‏:‏

إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَة فَلا تَظُّنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ

ومنها‏:‏ معاتبةُ الإمام والمطاع أصحابه، ومَن يعز عليه، ويَكْرُم عليه، فإنه عاتَب الثلاثة دونَ سائِر مَنْ تخلَّف عنه، وقد أكثر الناسُ من مدح عتاب الأحبة، واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرتَه، وأجلَّ فائدتَه، ولله ما نال به الثلاثةُ مِن أنواع المسرَّات، وحلاوةِ الرضى، وخِلَعِ القبول‏.‏

ومنها‏:‏ توفيقُ اللهِ لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلُحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهُم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا في العاجلة بعضَ التعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، والفلاح كُلَّ الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمراراتُ المبادى حلاوات في العواقب، وحلاوات المبادى مرارات في العواقب‏.‏ وقول النبىِّ صلى الله عليه وسلم لكعب‏:‏ ‏(‏أما هذا، فقد صدق‏)‏، دليلٌ ظاهر في التمسك بمفهوم اللَّقب عند قيام قرينة تقتضى تخصيص المذكور بالحكم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَداوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78-79‏]‏ ، وقوله صـلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جُعِلت لى الأرضُ مسجداً وتُرْبَتُها طهوراً‏)‏، وقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏أما هذا فقد صدق‏)‏، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم‏.‏

وقول كعب‏:‏ هل لقى هذا معى أحد‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية، فيه أن الرجل ينبغى له أن يردَّ حرَّ المصيبة بروح التأسى بمن لقى مثل ما لقى، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ في ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إنْ تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 104‏]‏ ، وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهلَ النارِ فيها بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَن يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 39‏]‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدراً لى فيهما أُسوة‏)‏ هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزُّهْرى، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين في أهل بدر، لا ابن إسحاق ولا موسى ابن عقبة، ولا الأموى، ولا الواقدى، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغى ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لمْ يَهْجُرْ حاطباً، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هَمَّ بقتله‏:‏ ‏(‏وما يُدريكَ أن الله اطلع على أَهْلِ بدرٍ فقال‏:‏ اعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم‏)‏، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ‏.‏

قال أبو الفرج بن الجوزى‏:‏ ولم أزل حريصاً على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر الأثرم قد ذكر الزُّهْرى، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه قال‏:‏ إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية شهدا بدراً، وهذا لم يقله أحدٌ غيره، والغلط لا يُعصم منه إنسان‏.‏

فصل‏:‏ في أنَّ مَن أحبه اللهُ تعالى أدَّبه في الدنيا على أدنى زَلَّة

وفى نهى النبىِّ صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر مَن تخلَّف عنه دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجرَ الصادقين وتأديبَهم على هذا الذنب، وأما المنافِقون، فجُرمهم أعظمُ من أن يُقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق، ولا فائدةَ فيه، وهكذا يفعلُ الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدِّبُ عبده المؤمن الذي يحبُه وهو كريم عنده بأدنى زَلَّة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حَذِراً، وأما مَن سقط من عينه وهان عليه، فإنه يُخلَى بينَه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث له نِعمة، والمغرورُ يظن أن ذلك مِن كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة، وأنه يُريد به العذابَ الشديد، والعقوبةَ التي لا عاقبة معها، كما في الحديث المشهور‏:‏ ‏(‏إذَا أرَادَ اللهُ بَعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ في الدُّنْيَا، وإذَا أرادَ بِعَبْدٍ شَراً، أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ في الدُّنْيَا، فَيَرِدُ يَوْمَ القِيَامَة بذُنُوبِه‏)‏‏.‏

وفيه دليل أيضاً على هِجران الإمام، والعالمِ، والمطاعِ لمن فعل ما يستوجِبُ العَتب، ويكون هِجرانه دواء له بحيث لا يضعُف عن حصولِ الشفاء به، ولا يزيدُ في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المرادُ تأديبُه لا إتلافُه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى تنكرت لى الأرض، فما هي بالتى أعرِفُ‏)‏ هذا التنكرُ يجده الخائفُ والحزينُ والمهمومُ في الأرض، وفى الشجر، والنبات حتى يجدَه فيمن لا يُعلم حاله من الناس، ويجده أيضاً المذنبُ العاصى بحسب جُرمه حتى في خُلُقِ زوجته وولده، وخادمه ودابته، ويَجِدُه في نفسه أيضاً، فتتنكر له نفسُه حتى ما كأنَّه هو، ولا كأنَّ أهلَه وأصحابَه، ومَن يُشْفِقُ عليه بالَّذِينَ يعرِفُهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على مَن هو ميتُ القلب، وعلى حسب حياة القلب، يكون إدراكُ هذا التنكر والوحشة‏.‏ وما لجرح بميت إيلام‏.‏

ومن المعلوم، أن هذا التنكرَ والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به، وهكذا القلبُ إذا استحكم مرضُه، واشتد ألـمُه بالذنوب والإجرام، لم يجد هذه الوحشة والتنكر، ولم يحس بها، وهذه علامةُ الشقاوة، وأنه قد أيسَ من عافية هذا المرض، وأعيا الأطباء شِفاؤه، والخوفُ والهمُّ مع الريبة، والأمنُ والسرورُ مع البراءةِ مِن الذنب‏.‏

فَمَا في الأرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِىءٍ وَلا في الأرْضِ أخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ

وهذا القدرُ قد ينتفع به المؤمنُ البَصيرُ إذا ابتُلِىَ به ثم راجع، فإنه ينتفع به نفعاً عظيماً مِن وجوه عديدة تفوتُ الحصرَ، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه من ذلك أعلام النبوة، وذوقُه نفس ما أخبر به الرسولُ فيصير تصديقه ضرورياً عنده، ويصيرُ ما ناله مِن الشر بمعاصيه، ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرقُ إليها الاحتمالات، وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيتَ وكيتَ على التفصيل، فخالفته وسلكتها، فرأيتَ عَيْن ما أخبرَكَ به، فإنك تَشْهَدُ صِدقَه في نفس خِلافك لهُ، وأما إذا سلكت طريقَ الأمن وحدها، ولم تجد من تلك المخاوف شيئاً، فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلاً، فإن علمه بتلك يكون مجملاً‏.‏

فصل‏:‏ في جواز هجر المسلم إذا أثم

ومنها‏:‏ أن هلال بنَ أُمية ومرارة قعدا في بيوتهما، وكانا يُصلِّيان في بيوتهما، ولا يحضُران الجماعة، وهذا يدل على أن هِجران المسلمين للرجل عذر يُبيح له التخلف عن الجماعة، أو يقال‏:‏ من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال‏:‏ فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبى صلى الله عليه وسلم، ولا عتب عليهما على التخلف، وعلى هذا فيُقال‏:‏ لما أُمِرَ المسلمون بهجرهم تُركوا‏:‏ لم يُؤمروا، ولم يُنهوا، ولم يُكلَّموا، فكان مَن حضر منهم الجماعة لم يُمنع، ومَن تركها لم يُكلَّم، أو يقال‏:‏ لعلهما ضَعُفَا وعَجَزا عن الخروج، ولهذا قال كعب‏:‏ وكنتُ أنا أجلدَ القوم وأشبَّهم، فكنتُ أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول‏:‏ هل حرَّك شفتيه برد السلام علىَّ أم لا‏)‏‏؟‏ فيه دليل على أن الرد على مَن يستحق الهجرَ غيرُ واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بُد من إسماعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا طال ذلك علىَّ، تسورتُ جدار حائط أبى قتادة‏)‏، فيه دليل على دخول الإنسان دارَ صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك، وإن لم يستأذِنْه‏.‏

وفى قول أبى قتادة له‏:‏ ‏(‏الله ورسوله أعلم‏)‏، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يُكلِّمه، فقال مثلَ هذا الكلام جواباً له لم يحنث، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته، وهو الظاهر من حال أبى قتادة‏.‏

وفى إشارة الناس إلى النَّبطى الذي كان يقول‏:‏ مَن يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيقٌ لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحاً‏:‏ ذاك كعب بن مالك، لم يكن ذلك كلاماً له، فلا يكونون به مخالفين للنهى، ولكن لِفرط تحرِّيهم وتمسكهم بالأمر، لم يذكروه له بصريح اسمه‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه، وهى ذريعةٌ قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أفقه وأحسن‏.‏

وفى مكاتبة ملك غسَّان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى، وامتحان لإيمانه ومحبته للهِ ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانُه بهجر النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين له، ولا هو ممن تحمِلُه الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه، فهذا فيه من تبرئة الله له مِن النفاق، وإظهار قوة إيمانه، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه، ولطفه به، وجبره لكسره، وهذا البلاءُ يُظهر لُبَّ الرجل وسره، وما ينطوى عليه، فهو كالكِير الذي يُخرج الخبيث من الطيب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فتيممتُ بالصحيفة التنورَ‏)‏، فيه المبادرة إلى إتلاف ما يُخشى منه الفساد والمضرَّة في الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يُؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمَّر، وكالكتاب الذي يُخشى منه الضررُ والشر، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه‏.‏

وكانت غسَّان إذ ذاك وهُم ملوك عرب الشام حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينعلُون خيولَهم لمحاربته، وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدى إلى ملكهم الحارث بن أبى شمر الغسَّانى يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه إليه، قال شجاع‏:‏ فانتهيتُ إليه وهو في غَوْطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لِقيصر، وهو جاءٍ من حمصَ إلى إيلياء، فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثة، فقلتُ لِحاجبه‏:‏ إنى رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليه، فـقال‏:‏ لا تَصِلُ إليه حتى يخرُجَ يومَ كذا وكذا، وجعل حاجبُه وكان رومياً اسمه مرى يسألُنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ أُحدِّثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فيرقُّ حتى يغلِبَ عليه البكاء، ويقول‏:‏ إنى قرأتُ الإنجيل، فأجدُ صفة هذا النبى بعَيْنه، فأنا أُؤمن به وأُصدِّقه، فأخافُ من الحارث أن يقتلنى، وكان يُكرمنى ويُحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوماً فجلس، فوضع التاجَ على رأسه، فأذِن لى عليه، فدفعتُ إليه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، ثمَّ رمى به، قال‏:‏ مَن ينتزِعُ مِنى ملكى، وقال‏:‏ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئتُه، علىَّ بالناس، فلم تزل تُعرض حتى قام، وأمر بالخيول تُنعل، ثم قال‏:‏ أخبر صاحِبَكَ بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر‏:‏ أن لا تَسِرْ، ولا تَعْبُرْ إليه، والهُ عنه، ووافنى بإيلياء، فلما جاءه جوابُ كتابه، دعانى فقال‏:‏ متى تُريد أن تخرُج إلى صاحبك‏؟‏ فقلت‏:‏ غداً، فأمر لى بمائةِ مثقالٍ ذهباً، ووصلنى حاجبُه بنفقة وكُسوةٍ، وقال‏:‏ اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام، فقدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخـبرته، فقال‏:‏ ‏(‏بَادَ مُلْكُه‏)‏، وأقرأته من حاجبه السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صدق‏)‏، ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، ففى هذه المدة أرسل ملكُ غسَّان يدعو كعباً إلى اللحاق به، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِينه‏.‏

فصل‏:‏ في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة باعتزال نساءهم

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة، كالبشارة بمقدمات الفَرَج والفتح مِن وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ كلامُه لهم، وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله‏.‏

الثانى‏:‏ مِن خصوصية أمرهم باعتزال النساء، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة، وشد المئزر، واعتزال محل اللَّهو واللَّذة، والتعوض عنه بالإقبال على العبادة، وفى هذا إيذان بقرب الفَرَج، وأنه قد بقى من العتب أمر يسير‏.‏

وفقه هذه القصة، أن زمن العبادات ينبغى فيه تجنبُ النساء، كزمن الإحرام، وزمن الاعتكاف، وزمن الصيام، فأراد النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يكون آخرُ هذه المدة في حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام في توفرها على العبادة، ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم، إذ لعَلهم يضعف صبرهم عن نسائهم في جميعها، فكان من اللُّطف بهم والرحمة، أن أُمروا بذلك في آخر المدة، كما يؤمر به الحاج من حين يُحرم، لا من حين يعزم على الحج‏.‏

وقول كعب لامرأته‏:‏ ‏(‏الحقى بأهلك‏)‏، دليل على أنه لم يقطع بهذه اللَّفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه‏.‏ والصحيح‏:‏ أن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة، وإخراج الرقيق عن ملكه، لا يقع به طلاقٌ ولا عتاق، هذا هو الصواب الذي ندينُ الله به، ولا نرتابُ فيه ألبتة‏.‏ فإذا قيل له‏:‏ إن غلامك فاجر أو جاريتك تزنى، فقال‏:‏ ليس كذلك، بل هو غلام عفيف حر، وجارية عفيفة حرة، ولم يُرد بذلك حرية العتق، وإنما أراد حرية العفة، فإن جاريته وعبده لا يُعتقان بهذا أبداً، وكذا إذا قيل له‏:‏ كم لغلامك عندك سنة‏؟‏ فقال‏:‏ هو عتيق عندى، وأراد قدم ملكه له، لم يُعتق بذلك، وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق، فسئل عنها، فقال‏:‏ هي طالق، ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق، وإنما أراد أنها في طلق الولادة، لم تُطلَّق بهذا، وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أُريد بها، ودل السياق عليها، فدعوى أنها صريحة في العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة، ودعوى باطلة قطعاً‏.‏

فصل‏:‏ في سجود الشكر والتهنئة وإعطاء البشير بخبرٍ سار

وفى سجود كعب حين سمع صوت المبشِّر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهى سجودُ الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصِّدِّيق لما جاءه قتلُ مُسَيْلِمة الكذَّاب، وسجد علىُّ بن أبى طالب لما وجد ذا الثُّديَّةِ مقتولاً في الخوارج، وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بشَّره جبريلُ أنه مَن صَلَّى عليه مَرَّة صَلَّى الله عليه بها عشراً، وسجد حين شفع لأُمته، فشفعه الله فيهم ثلاث مرات، وأتاه بشير فبشَّره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حَجر عائشة، فقام فخرَّ ساجداً، وقال أبو بكرة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يسُرُّه خرَّ للهِ ساجداً، وهى آثار صحيحة لا مطعن فيها‏.‏

وفى استباق صاحب الفرس والراقى على سلع ليبشِّرا كَعباً دليل على حرص القوم على الخير، واستباقهم إليه، وتنافُسهم في مسَّرة بعضهم بعضاً‏.‏

وفى نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير، دليل على أن إعطاء المبشِّرين من مكارم الأخلاق والشيم، وعادة الأشراف، وقد أعتق العباس غلامه لما بشَّره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسره‏.‏وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه‏.‏

وفيه دليل على استحباب تهنئة مَن تجدَّدت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سُـنَّة مستحَبة، وهو جائز لمن تجددت له نِعمةٌ دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال له‏:‏ لِيهنك ما أعطاك الله، وما مَنَّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربَّها، والدعاء لمن نالها بالتهنى بها‏.‏

وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يومُ توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه‏؟‏ قيل‏:‏ هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سـعادته، ويومُ توبته كمالها وتمامها‏.‏‏.‏ والله المستعان‏.‏

وفى سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأُمة، والرحمة بهم والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم مِن فرح كعب وصاحبيه‏.‏

وقول كعب‏:‏ ‏(‏يا رسول الله؛ إن من توبتى أن أنخلع من مالى‏)‏، دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال‏.‏

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ‏)‏، دليل على أن مَن نذر الصدقة بكُلِّ ماله، لم يلزمه إخراجُ جميعه، بل يجوز له أن يُبقى له منه بقية، وقد اختلفت الرواية في ذلك، ففى ‏(‏الصحيحين‏)‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ‏)‏ ولم يُعيِّن له قدراً، بل أطلق ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية، وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به، فنذره لا يكون طاعة، فلا يجب الوفاء به، وما زاد على قدر كفايته وحاجته، فإخراجه والصدقة به أفضل، فيجب إخراجُه إذا نذره، هذا قياسُ المذهب، ومقتضى قواعِد الشريعة، ولهذا تُقدَّم كفاية الرجل، وكفايةُ أهله على أداء الواجبات المالية، سواء أكانت حقاً لله كالكفَّارات والحَجِّ، أو حقاً للآدميين كأداء الديون

فإنَّا نترك للمفلس ما لا بُدَّ منه من مسكن، وخادم، وكسوة، وآلةِ حِرفة، أو ما يتَّجِرُ به لمؤنته إن فُقِدت الحرفة، ويكون حق الغرماء فيما بقى‏.‏ وقد نص الإمام أحمد على أن مَن نذر الصدقة بمالِه كُلِّه، أجزأه ثُلُثه، واحتج له أصحابُه بما رُوى في قصة كعب هذه، أنه قال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله؛ إنَّ من توبتى إلى الله ورسوله أن أخرُجَ من مالى كُلِّه إلى الله ورسوله صدقة، قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قلت‏:‏ فنصفُه‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قلت‏:‏ فثُلُثه قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قلت‏:‏ فإنى أمسك سهمى الذي بخيبر‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ وفى ثبوت هذا ما فيه، فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزُّهْرى، عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك‏)‏، مِن غير تعيين لقدره، وهم أعلمُ بالقصة مِن غيرهم، فإنهم ولدُه، وعنه نقلوها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد في ‏(‏مسنده‏)‏ أن أبا لُبابةَ بن عبد المنذر لما تابَ اللهُ عليه، قال‏:‏ يا رسولَ الله؛ إنَّ مِنْ تَوْبَتى أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِى وأُساكِنَكَ، وأن أنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ هذا هو الذي احتج به أحمد، لا بحديث كعب، فإنه قال في رواية ابنه عبد الله‏:‏ إذا نذر أن يتصدَّق بماله كُلِّه أو ببعضه، وعليه دَيْنٌ أكثر مما يملكه، فالذى أذهبُ إليه أنه يُجزئه من ذلك الثُلُث، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أبا لُبابة بالثُلُث، وأحمد أعلمُ بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذي فيه ذكر الثُلُث، إذ المحفوظ في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏أمسك عليك بعضَ مالك‏)‏ وكأنّ أحمد رأى تقييد إطلاق حديثِ كعبٍ هذا بحديث أبى لبابة‏.‏

وقوله فيمن نذر أن يتصدَّق بماله كله أو ببعضه وعليه دَيْن يستغرِقه‏:‏ إنه يجزئه من ذلك الثُلُث، دليل على انعقاد نذره، وعليه دَيْن يستغرِقُ ماله، ثم إذا قضى الدَّيْن، أخرج مقدار ثُلُث ماله يومَ النذر، وهكذا قال في رواية ابنه عبد الله‏:‏ إذا وهب ماله، وقضى دَيْنه، واستفاد غيره، فإنما يجبُ عليه إخراجُ ثُلُث ماله يوم حِنثه، يريد بيوم حِنثه يومَ نذره، فينظـر قدر الثُلُث ذلك اليوم، فيُخرجه بعد قضاء دَيْنه‏.‏

وقوله‏:‏ أو ببعضه‏.‏ يُريد أنه إذا نذر الصدقة بمُعيَّن مِن ماله، أو بمقدار كألْفٍ ونحوها، فيجزئه ثُلُثه كنذر الصدقة بجميع ماله، والصحيح من مذهبه لزومُ الصدقة بجميع المُعيَّن، وفيه روايةٌ أُخرى، أن المُعيَّن إن كان ثُلُث ماله فما دونه، لزمه الصدقةُ بجميعه، وإن زاد على الثُلُث، لزمه منه بقدر الثُلُث، وهى أصحُّ عند أبى البركات‏.‏

وبعد‏.‏‏.‏ فإن الحديثَ ليس فيه دليل على أن كعباً وأبا لبابة نذرا نذراً منجَّزاً، وإنما قالا‏:‏ إن مِن توبتنا أن ننخلِعَ مِن أموالنا، وهذا ليس بصريح في النذر، وإنما فيه العزمُ على الصدقة بأموالهما شكراً لله على قبول توبتهما، فأخبر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن بعضَ المال يُجزئ من ذلك، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يُوصِىَ بماله كلِّه، فأذن له في قدر الثُلُث‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا يدفعُه أمران‏.‏ أحدهما‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏يُجزئك‏)‏، والإجزاء إنما يُستعمل في الواجب، والثانى‏:‏ أن منعه مِن الصـدقة بما زاد على الثُلُث دليل على أنه ليس بقُربة، إذ الشارع لا يمنع من القُرَب، ونذر ما ليس بقُربة لا يلزم الوفاءُ به‏.‏

قيل‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏(‏يُجزئك‏)‏، فهو بمعنى يكفيك، فهو من الرباعى، وليس من ‏(‏جزى عنه‏)‏ إذا قضى عنه، يقال‏:‏ أجزأنى‏:‏ إذا كفانى، وجزى عنى‏:‏ إذا قضى عنى، وهذا هو الذي يُستعمل في الواجب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبى بُردة في الأُضحية‏:‏ ‏(‏تَجْزِى عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ‏)‏ والكفاية تُستعمل في الواجب والمستحَب‏.‏

وأما منعُه مِن الصدقة بما زاد على الثُلُث، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به، وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه، فإنه لو مكَّنه من إخراج ماله كُلِّه لم يصبِرْ على الفقر والعدم، كما فعل بالذى جاءه بالصُّرة ليتصدق بها، فضربه بها، ولم يقبلها منه خوفاً عليه من الفقر، وعدم الصبر‏.‏ وقد يقال وهو أرجحُ إن شاء الله تعالى ‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم عامل كُلَّ واحدٍ ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله، فمكَّن أبا بكر الصِّدِّيق من إخراج مالِه كُلِّه، وقال‏:‏ ‏(‏ما أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله،

فلم يُنكر عليه، وأقرَّ عمر على الصدقة بِشَطْرِ ماله، ومنع صاحب الصُّرةِ من التصدُّق بها، وقال لكعب‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ‏)‏، وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثُلُث، ويبعُد جداً بأن يكون الممسَك ضِعفى المُخْرَج في هذا اللَّفظ، وقال لأبى لبابة‏:‏ ‏(‏يُجزئك الثُلُث‏)‏، ولا تناقض بين هذه الأخبار، وعلى هذا، فمَن نذر الصدقة بماله كُلِّه، أمسك منه ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناسِ مدةَ حياتِهم من رأس مال أو عَقار، أو أرض يقومُ مَغَلُّها بكفايتهم، وتصدَّق بالباقى‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن‏:‏ يتصدَّقُ منه بقدر الزكاة، ويُمسك الباقى‏.‏ وقال جابر بن زيد‏:‏ إن كان ألفين فأكثرَ، أخرج عُشْرَهُ، وإن كان ألفاً، فما دون فسُبْعَهُ، وإن كان خمسمِائة فما دُون فَخُمْسَهُ‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ يتصدَّق بكلِّ ماله الذي تجبُ فيه الزكاةُ، وما لا تجب فيه الزكاة، ففيه روايتان‏:‏ أحدهما‏:‏ يُخرجه، والثانية‏:‏ لا يلزمه منه شيئ‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ تلزمه الصدقةُ بماله كله، وقال مالك، والزُّهرى، وأحمد‏:‏ يتصدَّقُ بثُلُثه، وقالت طائفة‏:‏ يلزمه كفَّارة يمين فقط‏.‏

فصل‏:‏ في عِظَم مقدار الصِّدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة به

ومنها‏:‏ عِظَم مقدارِ الصِّدق، وتعليقُ سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة مِن شرهما به، فما أنجى الله مَن أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك مَن أهلَكه إلا بالكذب، وقد أمر اللهُ سبحانه عِباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا الَّذِينَ َآمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 119‏]‏‏.‏

وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين‏:‏ سعداء وأشقياء، فجعل السـعداء هم أهلَ الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهلَ الكذب والتكذيب، وهو تقسيم حاصِر مطَّرد منعكِس‏.‏ فالسعادةُ دائرة مع الصدق والتصديقِ، والشقاوةُ دائرة مع الكذب والتكذيب‏.‏

وأخبر سبحانه وتعالى‏:‏ أنه لا ينفعُ العبادَ يومَ القيامة إلا صدقهم، وجعل عَلَم المنَافقين الذي تميزوا به هو الكذبَ في أقوالهم وأفعالهم، فجميعُ ما نعاه عليهم أصلُه الكذبُ في القول والفعل، فالصدق بريدُ الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحِليته، ولباسُه، بل هو لبُّه وروحه‏.‏ والكذب‏:‏ بريدُ الكفر والنفاق، ودليلهُ، ومركبه، وسائقه، وقائدُه، وحليته، ولباسه، ولبُّه، فمضادة الكذبِ للإيمان كمضادة الشِّرك للتوحيد، فلا يجتمعُ الكذب والإيمان إلا ويطرُد أحدهما صاحبه، ويستقِرُّ موضعه، والله سبحانه أنجى الثلاثَةَ بصدقهم، وأهلكَ غيرَهم من المخلَّفين بكذبهم، فما أنعم اللهُ على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غِذاء الإسلام وحياتُه، ولا ابتلاه ببلية أعظمَ من الكذب الذي هو مرضُ الإسلام وفساده‏.‏ والله المستعان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117‏]‏ ، هذا من أَعظَم ما يُعَرِّفُ العبد قدرَ التوبة وفضلَها عند الله، وأنها غاية كمال المؤمن، فإنَّه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزواتِ بعد أن قَضَوْا نحبَهم، وبذلوا نفوسهم، وأموالهم، وديارهم لله، وكان غايةَ أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبى صلى الله عليه وسلم يومَ توبةِ كعب خيرَ يوم مَرَّ عليه منذ ولدته أُمه، إلى ذلك اليوم، ولا يعرِفُ هذا حق معرفته إلا مَن عرف الله، وعرف حقوقَه عليه، وعرف ما ينبغى له من عُبوديته، وعرف نفسَه وصفاتِها وأفعالها، وأن الذي قام به مِن العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه، كقَطْرة في بحرٍ، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة، فسُبحان مَن لا يسعُ عبادَه غيرُ عفوه ومغفرته، وتغمده لهم بمغفرته ورحمته، وليس إلا ذلك أو الهلاك، فإن وضع عليهم عدله، فعذَّب أهلَ سماواته وأرضه عذَّبهم، وهو غيرُ ظالم لهم، وإن رحمهم، فرحمتُه خير لهم من أعمالهم، ولا يُنجى أحداً منهم عملُه‏.‏

فصل

وتأمل تكريرَه سبحانه توبتَه عليهم مرتين في أول الآية وآخِرها، فإنه تاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا، تاب عليهم ثانياً بقبولها منهم، وهو الذي وفقهم لِفعلها، وتفضَّل عليهم بقبولها، فالخير كله منه وبه، وله وفى يديه، يعطيه مَن يشاءُ إحساناً وفضلاً، ويحرمه مَن يشاء حكمةً وعدلاً‏.‏

فصل

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏، قد فسَّرها كعبٌ بالصواب، وهو أنهم خُلِّفُوا من بين مَن حلفَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتذر من المتخلفين، فخلَّف هؤلاء الثلاثة عنهم، وأرجأ أمرهم دونهم، وليس ذلك تخلُّفهم عن الغزو، لأنه لو أراد ذلك، لقال‏:‏ تخلَّفوا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏، وذلك لأنهم تخلَّفوا بأنفسهم بخلاف تخليفهم عَن أمر المتخلِّفين سواهم، فإن الله سبحانه هو الذي خلَّفهم عنهم، ولم يتخلَّفوا عنه بأنفسهم‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في حَجَّة أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللهُ عنه سنة تسع بعد مقدمه من تَبُوك

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منصرَفه مِن تَبُوك بقيةَ رمضانَ وشوَّالاً وذا القَعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنةَ تسع لِيقيم للمسلمين حَجَّهم، والناس من أهل الشِّرك على منازلهم من حَجِّهم، فخرج أبو بكر والمؤمنون‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلَّدها وأشعرها بيده، عليها ناجية بن جُندب الأسلمى، وساق أبو بكر خمس بدنات‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فنزلت براءة في نقضِ ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين مِن العهد الذي كانوا عليه، فخرج علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ فلما كان بالعَرْج وابن عائذ يقول‏:‏ بضَجَنان لحقه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على العضباء، فلما رآه أبو بكر، قال‏:‏ أميرٌ أو مأمورٌ‏؟‏ قال‏:‏ لا بل مأمور، ثم مضيا‏.‏

وقال ابن سعد‏:‏ فقال له أبو بكر‏:‏ أستعملك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الحج‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن بعثنى أقرأ براءة على الناس، وأَنبذ إلى كل ذى عَهدٍ عهده، فأقام أبو بكر للناس حَجَّهم، حتى إذا كان يومُ النحر، قام علىُّ بن أبى طالب، فأذَّن في الناس عند الجمرة بالذى أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ إلى كل ذى عهد عهده، وقال‏:‏ أَيها الناس؛ لا يدخُلُ الجنَّة كافر، ولا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوفُ بالبيت عُريان، ومَن كان له عهد عِند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إلى مُدَّته‏.‏

وقال الحميدى‏:‏ حدَّثنا سفيان، قال‏:‏ حدَّثنى أبو إسحاق الهَمْدَانى،عن زيد بن يُثَيْع، قال‏:‏ سألنا علياً، بأى شئ بُعِثْتَ في الحَجَّة‏؟‏ قال‏:‏ بُعِثتُ بأربع‏:‏ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا نفسٌ مُؤمِنة، ولا يَطُوفُ بالبيت عُريان، ولا يجتمِعُ مُسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامِه هذا، ومَنْ كان بينَه وبَيْن النبىِّ صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى مُدَّته، ومَن لم يكن له عهد، فأجلُه إلى أربعةِ أشهرِ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن أبى هُريرة، قال‏:‏ بعثنى أبو بكر في تلك الحَجَّة في مُؤذِّنِينَ بعثهم يومَ النحر يؤذِّنون بمِنَى‏:‏ أَلاَّ يَحُجَّ بعدَ هذا العامِ مُشرِك، ولا يَطُوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف النبىُّ صلى الله عليه وسلم أبا بَكر بعلىِّ بنِ أبى طالب رضى الله عنهما، فأمره أن يُؤذِّن ببراءة، قال‏:‏ فأذَّن معنا علىُّ في أهل مِنَى يَوْمَ النحرِ ببراءة، وأَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيان‏.‏

وفى هذه القصة دليل على أن يومَ الحج الأكبر يومُ النحر، واختُلِف في حَجَّة الصِّدِّيق هذه، هل هي التي أسقطت الفرضَ، أو المسقطة هي حَجَّة الوداع مع النبى صلى الله عليه وسلم‏؟‏ على قولين‏.‏ أصحهما الثانى، والقولان مبنيان على أصلين‏:‏ أحدُهما‏:‏ هل كان الحَجُّ فُرِضَ قَبْلَ عام حَجَّة الوداع أو لا‏؟‏ والثانى‏:‏ هـل كانت حَجَّةُ الصِّدِّيق رضى الله عنه في ذى الحجة، أم وقعت في ذى القَعدَة من أجل النسئ الذي كان الجاهليةُ يؤخِّرون له الأشهر ويُقدِّمونها‏؟‏ على قولين‏.‏ والثانى‏:‏ قولُ مجاهد وغيره‏.‏ وعلى هذا، فلم يُؤخِّر النبى صلى الله عليه وسلم الحَجَّ بعد فرضه عاماً واحداً، بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فُرِض فيه، وهذا هو اللائق بهَدْيه وحاله صلى الله عليه وسلم، وليسَ بِيدِ مَن ادَّعى تقدُّم فرض الحَجّ سنةَ ست أو سبعٍ أو ثمانٍ أو تسع دليل واحد، وغايةُ ما احتج به مَن قال‏:‏ فُرِضَ سنة ست قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، وهى قد نزلت بالحُديبية سنة ست، وهذا ليس فيه ابتداءُ فرض الحَجّ، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شُرِعَ فيه، فأين هذا مِن وجوب ابتدائه، وآيةُ فرض الحَجّ وهى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ منِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، نزلت عامَ الوفود أواخرَ سنة تسع‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفود العرب وغيرهم على النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

فَقَدِم عليه وفدُ ثقيف، وقد تقدَّم مع سياق غزوة الطائف‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأقام أبو بكر لِلناس حَجَّهم، وقدم عروةُ بن مسعود الثقفىُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليرجع إلى قومه، فذكر نحوَ ما تقدم، وقال‏:‏ فقدم وفدهم، وفيهم‏:‏ كِنانة بن عبد ياليل، وهو رأسُهم يومئذ، وفيهم‏:‏ عُثمان بنُ أبى العاص، وهو أصغرُ الوفد، فقال المغيرةُ ابن شُعْبة‏:‏ يا رسولَ الله؛ أنزل قومى علىَّ فأكرمهم، فإنى حديثُ الجرح فيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أَمْنَعُكَ أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَكَ، ولكِنْ أنْزِلْهُمْ حَيْثُ يَسْمَعُونَ القُرْآنَ‏)‏، وكان من جُرح المغيرة في قومه أنه كان أجيراً لثقيفٍ، وأنهم أقبلوا مِن مُضَرَ حتى إذا كانوا ببعض الطريق، عدا عليهم وهُمْ نيام، فقتلهم، ثم أقبل بأموالِهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمَّا الإسْلاَمُ فَنَقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلاَ، فإنَّا لا نَغْدِرُ‏)‏، وأبى أن يُخَمِّسَ ما معه، وأنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفدَ ثقيف في المسجد، وبنى لهم خِياماً لكى يسمعوا القرآن، ويَروا الناسَ إذا صَلَّوْا، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يذكرُ نفسه، فلما سمعه وفدُ ثقيف، قالوا‏:‏ يأمُرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهدُ به في خُطبته، فلما بلغه قولُهم، قال‏:‏ ‏(‏فإنى أول مَن شهد أنى رسولُ الله‏)‏‏.‏ وكانوا يغدُون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلَّ يوم، ويخلِّفونَ عثمان بن أبى العاص على رحالهم، لأنه أصغرُهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مراراً حتى فَقُه في الدين وعلم، وكان إذا وجدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نائماً، عَمَدَ إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأحبه، فمكث الوفد يختلِفُون إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، فقال كِنانة بنُ عبدِ ياليل‏:‏ هل أنتَ مقاضينا حتى نرجِعَ إلى قومنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، إن أنتم أقررتُم بالإسلام أُقاضيكم، وإلا فلا قضية، ولا صُلْحَ بينى وبينكم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أفرأيت الزِّنَى، فإنَّا قوم نغترِبُ، ولا بد لنا منه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هُوَ عَلَيْكُم حَرَامٌ فَإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏، قالوا‏:‏ أفرأيتَ الرِّبا فإنه أموالُنا كلها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لَكُمْ رُؤوسُ أمْوالِكُم إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏‏.‏قالوا‏:‏ أفرأيتْ الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنَّ الله قدْ حَرَّمَهَا، وقرأ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْاْ إنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ فارتفع القومُ، فخلا بعضُهم ببعض، فقالوا‏:‏ ويحكم، إنَّا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلِقُوا نُكاتبه على ما سألناه، فَأَتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ نعم لك ما سألتَ، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اهدِمُوها‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ هيهاتَ لو تعلمُ الرَّبَّةُ أنك تُريد هدمها، لقتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ويحكَ يا ابنَ عبد ياليل، ما أجهلَك، إنما الرَّبَّة حجر‏.‏ فقالوا‏:‏ إنَّا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا لِرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تَوَلَّ أنت هدمها، فأما نحن، فإنَّا لا نهدِمُها أبداً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فسَأَبْعَثُ إلَيْكُم مَنْ يَكْفِيكُم هَدْمَها‏)‏ فَكاتبوه، فقال كِنانة بنُ عبد ياليل‏:‏ ائذن لنا قبلَ رسولِك، ثم ابعثْ في آثارنا، فإنَّا أعلمُ بقومنا، فأَذِنَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرمهم وحبَاهم، وقالوا‏:‏ يا رسولَ الله؛ أمِّر علينا رجلاً يؤمنا مِن قومنا، فأمَّر عليهم عثمانَ بن أبى العاصِ لِما رأى مِن حرصه على الإسلام، وكان قد تعلَّم سوراً مِن القرآن قبل أن يخرج، فقال كِنانة بن عبد ياليل‏:‏ أنا أعلمُ الناس بثقيف، فاكتموهُمُ القضية، وخوِّفُوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أُموراً أبيناها عليه، سألنا أن نَهْدِمَ اللاتَ والعُزَّى، وأن نُحَرِّمَ الخمرَ والزِّنَى، وأن نُبْطِلَ أموالنا في الربا‏.‏

فخرجت ثقيفٌ حين دنا منهم الوفدُ يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العَنَق، وقطروا الإبل، وتغشَّوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزِنُوا وكربوا، وَلم يرجعوا بخير، فقال بعضُهم لبعض‏:‏ ما جاء وفدُكم بخير، ولا رجعوا به، وترجَّل الوفد، وقصدُوا اللاتَ، ونزلوا عندها واللات وثن كان بين ظهرانى الطائف، يُستر ويُهدى له الهَدْى كما يُهدى لبيت اللهِ الحرام فقال ناسٌ من ثقيف حين نزل الوفدُ إليها‏:‏ إنَّهم لا عهد لهم برؤيتها، ثم رجع كُلُّ رجل منهم إلى أهله، وجاء كُلاً منهم خَاصَّتُه مِن ثقيف، فسألوهم ماذا جئتُم به وماذا رجعتم به‏؟‏ قالوا‏:‏ أتينا رجلاً فظاً غليظاً يأخُذ مِن أمره ما يشاءُ، قد ظهر بالسيفِ، وداخ له العرب، ودان له الناس، فعرض علينا أُموراً شداداً‏:‏ هدَم اللات والعُزَّى، وتركَ الأموال في الربا إلا رؤوس أموالكم، وحرَّم الخمر والزِّنَى، فقالت ثقيف‏:‏ واللهِ لا نقبل هذا أبداً‏.‏ فقال الوفدُ‏:‏ أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، وتعبَّؤوا له، ورُمُّوا حِصنكم، فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يُريدون القِتال، ثم ألقى اللهُ عَزَّ وجَلَّ في قلوبهم الرُّعبَ، وقالوا‏:‏ واللهِ ما لنا به طاقة، وقد داخ له العرب كُلُّها، فارجعُوا إليه، فأعطُوه ما سأل، وصالِحُوه عليه‏.‏ فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا، واختاروا الأمان على الخوف والحرب، قال الوفد‏:‏ فإنَّا قد قاضيناه، وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم، وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بُورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه عليه، فاقبلوا عافية الله، فقالت ثقيف‏:‏ فلِم كتمتمُونا هذا الحديث، وغممتُمونَا أشدَّ الغم‏؟‏ قالوا‏:‏ أردنا أن ينزِعَ اللهُ مِن قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياماً‏.‏ ثم قدم عليهم رُسُلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُمِّرَ عليهم خالدُ بن الوليد، وفيهم المغيرةُ بن شُعْبة، فلما قَدِمُوا، عَمَدُوا إلى اللات ليهدموها، واستكَفَّتْ ثقيف كُلُّها، الرِّجالُ والنساءُ والصبيانُ، حتى خرج العواتِق مِن الحِجال لا ترى عامةُ ثقيف أنها مهدومة يظنُّون أنها ممتنعة، فقام المغيرةُ بنُ شُعْبة، فأخذ الكِرْزِين، وقال لأصحابه‏:‏ واللهِ لأُضحكنَّكم من ثقيف، فضرب بالكِرْزِين، ثم سقط يركُض، فارتجَّ أهلُ الطائف بضجَّةٍ واحدة، وقالوا‏:‏ أبعد اللهُ المغيرة، قتلته الرَّبَّة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا‏:‏ مَن شاء منكم، فليقرب، وليجتهد على هـدمها، فواللهِ لا تُستطاع، فوثب المغيرة بن شُعْبة، فقال‏:‏ قبَّحكم الله يا معشر ثقيف، إنما هي لكَاع حِجَارة ومَدَر، فاقبلوا عافيةَ اللهِ واعبدوه، ثم ضرب البابَ فكسره، ثم علا سورَها، وعلا الرجالُ معه، فما زالوا يهدِمُونها حجراً حجراً حتى سوَّوْها بالأرض، وجعل صاحب المفتاح يقول‏:‏ ليغضبن الأساس، فليخْسِفَنَّ بهم، فلما سمع ذلك المغيرة، قال لِخالد‏:‏ دعنى أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا تُرابها، وانتزعوا حُليها ولباسها، فبُهِتَتْ ثقيف، فقالت عجوز منهم‏:‏ أسلمها الرُّضَّاعُ، وتركوا المِصَاعَ‏.‏

وأقبل الوفدُ حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحُليها وكِسوتها، فقسمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمد الله على نُصرة نبيه وإعزاز دينه، وقد تقدَّم أنه أعطاه لأبى سفيان بن حرب، هذا لفظ موسى بن عقبة‏.‏

وزعم ابن إسحاق أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قدم من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف‏.‏

وروينا في ‏(‏سنن أبى داود‏)‏ عن جابر قال‏:‏ اشترطَتْ ثقيفٌ عَلَى النَّبى صلى الله عليه وسلم أَلا صَدَقَة عليها ولا جِهَادَ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذلِكَ‏:‏ ‏(‏سَيَتَصَدَّقون ويُجَاهِدُونَ إذَا أسْلَمُوا‏)‏‏.‏

وروينا في ‏(‏سنن أبى داود الطيالسى‏)‏، عن عثمان بن أبى العاص، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مَسْجِدَ الطائِفِ حيث كانت طاغيتُهم‏.‏

وفى ‏(‏المغازي‏)‏ لمعتمِر بن سليمان قال‏:‏ سمعتُ عبد الله بن عبد الرحمن الطائفى يُحدِّث عن عثمان بن عبد الله، عن عمه عمرو بن أَوْس، عن عثمان بن أبى العاص، قال‏:‏ استعملنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغرُ السِّـتَّة الذين وفدُوا عليه من ثقيف، وذلك أنى كنتُ قرأتُ سورة البقرة، فقلت‏:‏ يا رسولَ الله؛ إنَّ القرآن يتفلَّتُ مِنِّى، فوضع يدَه على صدرى وقال‏:‏ ‏(‏يا شَيْطَانُ اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثمان‏)‏ فما نسيتُ شيئاً بعده أريد حفظه‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن عثمان بن أبى العاص، قلتُ‏:‏ يا رسول الله؛ إنَّ الشَيطَانَ قد حَالَ بينى وبَيْنَ صلاتى وقراءتى، قال‏:‏ ‏(‏ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقالُ لَهُ‏:‏ خِنْزِبِ، فإذا أحْسَسْتهُ، فَتَعَوَّذْ باللهِ مِنْهُ، واتْفِلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً‏)‏، ففعلتُ، فأذهبَه اللهُ عنِّى‏.‏

فصل‏:‏ فيما في قصة وفد ثقيف من الأحكام‏.‏

وفى قصة هذا الوفد مِن الفقه، أنَّ الرجلَ من أهل الحرب إذا غَدَر بقومه، وأخذ أموالَهم، ثم قَدِم مسلماً، لم يتعرَّض له الإمامُ، ولا لما أخذه مِن المال، ولا يضمنُ ما أتلفه قبلَ مجيئه من نفس ولا مال، كما لم يتعرض النبىُّ صلى الله عليه وسلم لما أخذه المغيرةُ من أموال الثقفيين، ولا ضَمِنَ ما أتلفه عليهم، وقال‏:‏ ‏(‏أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال، فلست منه في شىء‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ إنزال المشرك في المسجد، ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام، وعبادتهم‏.‏

ومنها‏:‏ حسنُ سياسة الوفد، وتلطفهم حتى تمكنَّوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوَّروا لهم بصُورة المنكر لِما يكرهونه، الموافق لهم فيما يَهْوَوْنه حتى ركنوا إليهم، واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بُد من الدخول في دعوة الإسلام أذعنوا، فأعلمهم الوفدُ أنهم بذلك قد جاؤوهم، ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقرُّوا به، ولا أذعنوا، وهذا مِن أحسن الدعوة، وتمامِ التبليغ، ولا يتأتَّى إلا مع ألبَّاءِ الناس وعُقلائهم‏.‏

ومنها‏:‏ أن المستحق لإمرة القوم وإمامتِهم أفضلُهم وأعلمُهم بكتاب الله، وأفقهُهم في دينه‏.‏

ومنها‏:‏ هدمُ مواضِع الشِّرك التي تُتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمُها أحبُّ إلى الله ورسوله، وأنفعُ للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حالُ المشاهد المبنية على القبور التي تُعبد مِن دون الله، ويُشْرَك بأربابها مع الله، لا يَحِلُّ إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمُها، ولا يَصحُّ وقفُها، ولا الوقفُ عليها، وللإمام أن يقطِعَها وأوقافها لجند الإسلام، ويستعينَ بها على مصالح المسلمين، وكذلك ما فيها من الآلات، والمتاع، والنذور التي تُساق إليها، يُضاهىَ بها الهدايا التي تُساق إلى البيت الحرام، للإمام أخذُها كلها، وصرفها في مصالح المسلمينَ، كما أخذ النبى صلى الله عليه وسلم أموال بيوت هذه الطواغيت، وصرفها في مصالح الإسلام، وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، سواء من النذور لها، والتبركِ بها، والتمسح بها، وتقبيلها، واستلامها‏.‏ هذا كان شِركَ القوم بها، ولم يكونوا يعتقِدون أنها خَلَقَتِ السَّمواتِ والأرضَ، بل كان شِركُهم بها كشِرك أهلِ الشِّرك من أرباب المشاهِد بعينه‏.‏

ومنها‏:‏ استحبابُ اتخاذِ المساجد مكانَ بيوت الطواغيت، فيُعبد اللهُ وحدَه، لا يُشْرَك به شيئاً في الأمكنه التي كان يُشرَكُ به فيها، وهكذا الواجبُ في مثل هذه المشاهد أن تُهدَمَ، وتُجعلَ مساجِدَ إن احتاج إليها المسلمون، وإلا أقطعها الإمامُ هي وأوقافُها للمقاتلة وغيرهم‏.‏

ومنها‏:‏ أن العبدَ إذا تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، وتَفَلَ عن يساره، لم يضُرَّه ذلك، ولا يقطعُ صلاته، بل هذا مِن تمامها وكمالها‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في دخول العرب في دين الله أفواجاً

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضَرَبَتْ إليه وفُود العرب مِن كل وجه، فدخلوا في دين الله أفواجاً يضربِون إليه مِن كل وجه‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد بنى عامر

وقد تقدم ذكر وفد تميم ووفد طيئ‏.‏

ذكر وفد بنى عامر، ودعاء النبىِّ صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطُّفيل

وكفاية الله شره وشر أَرْبَد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه

روينا في كتاب ‏(‏الدلائل‏)‏ للبيهقى، عن يزيد بن عبد الله أبى العلاء، قال‏:‏ وَفَدَ أبى في وَفْدِ بنى عامر إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ أنت سيدُنا، وذُو الطَّوْل علينا فقال‏:‏ ‏(‏مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانَ، السَّيِّدُ الله‏)‏‏.‏

روينا عن ابن إسحاق، قال‏:‏ لما قدم على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وفدُ بنى عامر فيهم عامرُ بن الطُّفيل، وأرْبَدُ بن قيسٍ بن جزء بن خالد بن جعفر، وجَبَّارُ بن سُلْمَى ابن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء النَّفَر رؤساءَ القوم وشياطينهم، فقدم عدوُّ الله عامرُ بنُ الطُّفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ يريد الغدرَ به، فقال له قومُه‏:‏ يا عامر؛ إنَّ الناس قد أسلموا، فقال‏:‏ واللهِ لقد كنتُ آليتُ ألا أنتهىَ حتَّى تتبع العرب عَقِبَى، وأنا أتبعُ عَقِبَ هذا الفتى مِن قريش، ثم قال لأرْبَد‏:‏ إذا قَدِمنا على الرجل، فإنى شاغل عنك وجهه، فإذا فعلتُ ذلك، فاعْلُهُ بالسِّيف، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر‏:‏ يا محمد؛ خالِّنى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا واللهِ حتى تُؤمِنَ بالله وحدّه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ يا محمد؛ خالِّنى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حتى تؤمنَ بالله وحده لا شريك له‏)‏، فلما أبى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال له‏:‏ أما واللهِ لأملأنها عليكَ خـيلاً ورِجالاً‏.‏ فلما ولَّى، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اكْفِنى عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْل‏)‏، فلما خرجوا مِن عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر لأرْبَد‏:‏ ويحك يا أربد، أين ما كُنْتُ أمَرْتُك بِه‏؟‏ واللهِ ما كان على وجه الأرض أخوفُ عندى على نفسى منك، وايمُ اللهِ لا أخافُك بعد اليوم أبداً‏.‏ قال‏:‏ لا أبا لك، لا تَعْجَلْ علىَّ، فواللهِ ما هممتُ بالذى أمرتنى به، إلا دخلتَ بينى وبين الرجل، أفأضرِبُك بالسيف‏؟‏

ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطُّفيل الطاعونَ في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بنى سَلول، ثم خرج أصحابُه حين رأوه حتى قَدِمُوا أرض بنى عامر، أتاهم قومُهم فقالوا‏:‏ ما وراءك يا أربَد‏؟‏ فقال‏:‏ لقد دعانى إلى عبادة شىء لوددتُ أنه عندى فأرمِيَه بنبلى هذه حتى أقتُلَه، فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأُمه، فبكى ورثاه‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ أنَّ عامِرَ بنَ الطُّفيل أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أُخيِّرُك بَيْنَ ثَلاثِ خِصال‏:‏ يكونُ لك أهلُ السهلِ، ولى أهلُ المدر، أو أكونُ خليفَتك من بعدك، أو أغزوك بغَطَفَان بألف أشقر، وألف شقراء، فطُعِنَ في بيت امرأة فقال‏:‏ أغُدَّة كَغُدَّةِ البَكْر في بيت امرأة من بنى فلان‏؟‏ ائتونى بفرسى، فركِبَ، فمات على ظهر فرسه‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد عبد القيس وما في قصتهم من الفوائد

في ‏(‏الصحيحين‏)‏ مِن حديث ابنِ عباس‏:‏ أنَّ وفدَ عبد القيس قَدِمُوا على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏مِمَّنِ القَوْمُ‏)‏‏؟‏ فقالوا‏:‏ مِن رَبيعة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏مَرْحَباً بِالوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله؛ إن بيننا وبينك هذا الحىَّ مِن كفار مُضَرَ، وإنَّا لا نِصِلُ إليك إلا في شهرٍ حرام، فمُرنا بأَمْرٍ فَصْلٍ نأخذُ به ونأمر به مَن وراءنا، وندخُل به الجنَّة، فقال‏:‏ ‏(‏آمُرُكُم بأَرْبَعٍ، وأَنْهاكُم عَنْ أَرْبَع‏:‏ آمُرُكُم بالإيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإيمان بالله‏؟‏ شَهَادَةُ أَنْ لا إلَه إلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وإقَام الصَّلاةِ، وإيتَاء الزَّكَاةِ، وصَوْم رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعطُوا الخُمْسَ مِنَ المَغْنَم‏.‏ وأَنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَع‏:‏ عَنِ الدُّبَّاءِ، والحَنْتَم، والنَّقِير، والمُزَفَّتِ، فَاحْفَظُوهُنَّ وادْعُوا إلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُم‏)‏‏.‏ زاد مسلم‏:‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله؛ ما عِلمُكَ بِالنَّقِير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلى جِذع تَنقُرُونَهُ، ثمَّ تُلْقُونَ فيه مِن التَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّونَ عَلَيْهِ المَاءَ حَتَّى يَغلِىَ، فإذَا سَكَنَ، شَرِبْتُمُوهُ، فعسى أحَدُكُم أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بالسَّيفِ‏)‏، وفى القوم رجل به ضربة كذلك‏.‏ قال‏:‏ وكنت أخبؤها حَياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ ففيم نشرَبُ يا رسـول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اشْرَبُوا في أسْقِيَةِ الأدَمِ التي يُلاثُ عَلَى أفْوَاهِها‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسولَ الله؛ إنَّ أرضَنَا كثيرةُ الجِرذان لا تبقى فيها أسقية الأَدَم، قال‏:‏ ‏(‏وإن أكلها الجِرْذَانُ‏)‏ مرتين أو ثلاثاً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس‏:‏ ‏(‏إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله‏:‏ الحِلْمُ والأَنَاةُ‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن بشر بن المعلَّى وكان نصرانياً، فجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في وفد عبد القيس، فقال‏:‏ يا رسولَ الله؛ إنى على دينٍ، وإنى تاركٌ دِينِى لِدينك، فتضمنُ لى بما فيه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم أَنا ضَامِنٌ لِذلِك، إنَّ الذي أدْعُوكَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الذي كُنْتَ عَلَيْهِ‏)‏، فأسلمَ وأسلمَ أصـحابه، ثم قال‏:‏ يا رسولَ الله؛ احملنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏واللهِ مَا عِندى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ‏)‏ فقال‏:‏ يا رسولَ الله؛ إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ بلادِنا ضَوَالَّ من ضوالِّ الناس، أفنتبلغُ عليها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ ما في هذه القصة من الفوائد

ففى هذه القصة‏:‏ أن الإيمانَ باللهِ هو مجموعُ هذه الخصالِ مِن القول والعمل، كما على ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وتابعوهم كُلُّهم، ذكره الشافعى في ‏(‏المبسوط‏)‏، وعلى ذلك ما يُقارب مائة دليل مِن الكتاب والسُّـنَّة‏.‏

وفيها‏:‏ أنه لم يَعُدَّ الحجَّ في هَذِهِ الخصال، وكان قدومُهم في سنة تِسع، وهذا أحدُ ما يُحتج به على أن الحَجَّ لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فُرِض في العاشرة، ولو كان فُرِضَ لعدَّه من الإيمان، كما عدَّ الصوم والصلاة والزكاة‏.‏

وفيها‏:‏ أنه لا يُكره أن يُقال‏:‏ ‏(‏رمضان‏)‏ للشهر خلافاً لمن كره ذلك، وقال‏:‏ لا يُقال إلا شهر رمضان‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ ‏(‏مَن صَامَ رمضان إيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ وجوبُ أداءِ الخُمس من الغنيمة، وأنه من الإيمان‏.‏

وفيها‏:‏ النهىُ عن الانتباذ في هذه الأوعية، وهل تحريمُه باقٍ أو منسوخ‏؟‏ على قولين، وهما روايتان عن أحمد‏.‏ والأكثرون على نسخه بحديث بُرَيدة الذي رواه مسلم وقال فيه‏:‏ ‏(‏وكُنْتُ نَهَيْتُكُم عَن الأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِراً‏)‏‏.‏ ومَن قال‏:‏ بأحكام أحاديث النهى، وأنها غير منسوخة، قال‏:‏ هي أحاديث تكادُ تبلغ التواتر في تعددها وكثرة طُرقها، وحديثُ الإباحة فرد، فلا يبلُغْ مقاومتَها، وسر المسألة أن النَّهى عن الأوعية المذكورة من باب سدِّ الذرائع، إذ الشرابُ يُسرع إليه الإسكارُ فيها‏.‏ وقيل‏:‏ بل النهى عنها لصلابتها، وأن الشراب يُسكر فيها، ولا يُعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشرابَ متى غلا فيها وأسكر، انشقت، فيُعلم، بأنه مسكر، فعلى هذه العِلَّة يكون الانتباذ في الحجارة، والصُّفر أولى بالتحريم، وعلى الأول لا يحرم، إذ لا يُسرِعُ الإسكار إليه فيها، كإسراعه في الأربعة المذكورة، وعلى كلا العِلَّتين، فهو من باب سدِّ الذريعة، كالنهى أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشِّركِ، فلما استقر التوحيدُ في نفوسهم، وقوىَ عندهم، أذِن في زيارتِها، غير أن لا يقولوا هُجراً‏.‏ وهكذا قد يقال في الانتباذ في هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته، وسدَّ الذريعة إليه إذ كانوا حديثى عهد بشربه، فلما استقر تحريمُه عندهم، واطمأنت إليه نفوسُهم، أباح لهم الأوعية كُلَّها غير أن لا يشربوا مسكراً، فهذا فِقه المسألة وسِرُّها‏.‏

وفيها‏:‏ مدح صفتى الحِلم والأناة، وأنَّ الله يحبهما، وضِدهما الطيشُ والعَجَلة، وهما خُلُقَانِ مذمومانِ مفسدان للأخلاق والأعمال‏.‏

وفيه دليل على أن اللهَ يُحِبُّ من عبده ما جبله عليه من خصال الخير، كالذكاء، والشجاعة، والحِلم‏.‏

وفيه دليل على أن الخُلُقَ قد يحصل بالتخلُّق والتكلف، لقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا، أَوْ جَبَلَنى اللهُ عَلَيْهِما‏)‏‏؟‏، فقال‏:‏ ‏(‏بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا‏)‏

وفيه دليل على أنه سُبحانه خالقُ أفعالِ العباد وأخلاقِهِم، كما هو خالقُ ذَوَاتِهِم وصفاتِهِم، فالعبدُ كُلُّه مخلوق ذاتُه وصفاتُه وأفعالُه، ومَن أخرج أفعالَه عن خلق الله، فقد جعل فيه خالقاً مع الله، ولهذا شبَّه السَّلَفُ القَدَرِيَّة النفاة بالمجوس، وقالوا‏:‏ هم مجوسُ هذه الأُمَّة، صحَّ ذلك عن ابن عباس‏.‏

وفيه إثباتُ الجَبْلِ لا الجَبْرِ للهِ تعالى، وأنه يَجْبِل عبده على ما يريد، كما جبل الأشجَّ على الحِلم والأناة، وهما فِعلان ناشئان عن خُلُقين في النفس، فهو سبحانه الذي جبل العبدَ على أخلاقه وأفعاله، ولهذا قال الأوزاعى وغيرُه من أئمة السَّلَف‏:‏ نقول‏:‏ إن الله جبلَ العبادَ على أعمالهم، ولا نقول‏:‏ جَبَرَهم عليها‏.‏ وهذا من كمال علم الأئمة، ودقيقِ نظرهم، فإن الجبر أن يُحْمَل العبد على خلاف مراده، كجبر البِكْر الصغيرة على النكاح، وجبر الحاكم مَن عليه الحق على أدائه، والله سبحانه أقدرُ من أن يجبر عبده بهذا المعنى، ولكنه يجبُلُه على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته، فهذا لون، والجبر لون‏.‏

وفيها‏:‏ أنَّ الرجلَ لا يجوزُ له أن ينتفع بالضالة التي لا يجوز التقاطُها، كالإبل، فإنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لم يجَوِّزْ للجارود ركوب الإبل الضالة، وقال‏:‏ ‏(‏ضالَّةُ المُسلْمِ حَرَقُ النَّارِ‏)‏، وذلك لأنه إنما أُمِرَ بتركها، وأن لا يلتقطـها حفظاً على ربِّها حتى يَجِدَها إذا طلبها، فلو جوَّز له ركوبَها والانتفاعَ بها، لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربُّها، وأيضاً تطمع فيها النفوس، وتتملكها، فمنع الشارع من ذلك‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد بنى حنيفة

قال ابن إسحاق‏:‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى حنيفة، فيهم مُسَيْلِمةُ الكذَّاب، وكان منزلُهم في دار امرأة من الأنصار من بنى النجَّار، فأتوا بمُسَيْلِمَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَرُ بالثياب، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، في يده عَسِيبٌ من سَعَفِ النخل، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ سَأَلتنى هذا العَسِيبَ الذي في يدى مَا أَعْطَيْتُك‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال لى شيخ من أهلِ اليمامة من بنى حنيفة‏:‏ إنَّ حديثه كان على غير هذا، زعم أن وفد بنى حنيفة أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وخلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ في رحالهم، فلما أسلموا، ذكروا له مكانه، فقالُوا‏:‏ يا رسول الله؛ إنَّا قد خلَّفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظُها لنا، فـأمر له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما أمر به للقوم، وقال‏:‏ ‏(‏أما إنه ليس بِشَرِّكُم مكاناً‏)‏، يعنى حِفظَه ضَيْعَة أصحابِه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم انصرفُوا وجاؤوه بالذى أعطاه، فلما قدموا اليمامه، ارتدَّ عدوُّ اللهِ وتنبَّأ، وقال‏:‏ إنى أُشْرِكْتُ في الأمر معه، ألم يَقُلْ لكم حين ذكرتمونى له‏:‏ ‏(‏أما إنه ليس بشرِّكم مكاناً‏)‏‏؟‏، وما ذاك إلا لما كان يعلم أنى قد أُشركت في الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن‏:‏ لقد أنعم اللهُ على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صِفَاقٍ وَحَشا‏.‏ ووضع عنهم الصلاةَ، وأحلَّ لهم الخمر والزِّنَى، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبىّ، فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مِن مُسَيْلِمَة رسول الله إلى محمَّد رسولِ الله، أما بعد‏:‏ فإنى أُشْرِكْتُ في الأمر معك، وإن لنا نِصفَ الأمر، ولقريشٍ نصفَ الأمر، وليس قريش قوماً يَعْدِلُون‏.‏ فقدِم عليه رسولُه بهذا الكتاب، فكتب إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ مِنْ محمَّدٍ رسولِ الله، إلى مُسَيْلِمَة الكذَّاب، سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى‏.‏ أما بعد‏:‏ فإن الأرض للهِ يُورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين‏)‏، وكان ذلك في آخر سنة عشر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدَّثنى سعدُ بنُ طارق، عن سلمة بن نُعيم بن مسعود، عن أبيه، قال‏:‏ سمعتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين جاءه رَسُولا مُسَيْلِمَة الكذَّاب بكتابه يقولُ لهما‏:‏ ‏(‏وأَنْتُمَا تَقُولاَنِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ‏)‏‏؟‏ قالا‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أمَا واللهِ لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ، لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُما‏)‏‏.‏

وروينا في ‏(‏مسند أبى داود الطيالسى‏)‏ عن أبى وائل، عن عبد الله، قال‏:‏ جاء ابنُ النَّوَّاحة وابنُ أُثَال رسَولين لمُسَيْلِمَة الكذَّاب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تشهدَانِ أِّنِّى رَسُول الله‏)‏‏؟‏ فقالا‏:‏ نشهد أن مُسَيْلِمَةَ رسولُ الله‏.‏ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آمَنْتُ بِاللهِ ورَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاَ لَقَتَلْتُكُما‏)‏‏.‏ قال عبد الله‏:‏ فمضت السُّـنَّة بأن الرُّسُل لا تُقتل‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ عن أبى رجاء العُطَارِدى، قال‏:‏ لما بُعِثَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَا به، لحقنا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبُدُ الحجرَ في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسنُ منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاةِ فحلبناها عليه، ثم طُفنا به، وكنا إذا دخل رجب، قلنا‏:‏ جاء مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا نَدَعُ رُمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها‏.‏

قلت‏:‏ وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث نافع بن جُبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فجعل يقولُ‏:‏ إن جعل لى محمدٌ الأمرَ مِن بعده، تبعتُه، وقَدِمَها في بَشَرٍ كثير من قومه، فأقبل النبىُّ صلى الله عليه وسلم ومعه ثابتُ بنُ قيس بن شَمَّاس، وفى يدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم قِطعةُ جـريد حتى وقف على مُسَيْلِمَة في أصحابه، فقال‏:‏ ‏(‏إن سَأَلْتَنى هذِهِ القِطعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أدْبَرْتَ، ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وإنِّى أُرَاكَ الذي أُريتُ فيهِ ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس يُجيبك عنى‏)‏ ثم انصرف‏.‏ قال ابنُ عباس‏:‏ فسألتُ عن قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّك الذي أُريتُ فيه ما أُريتُ‏)‏ فأخبرنى أبو هريرة، أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ في يَدَىَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنى شأنُهُما، فأُوحِىَ إلىَّ في المَنامِ أَن انْفُخهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِى، فَهذانِ هُما، أَحَدُهُما العَنسِى صَاحِبُ صَنْعَاءَ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ صَاحِبُ اليَمَامَةِ‏)‏‏.‏ وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ مِن حديث أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بَيْنَا أَنا نَائِمٌ إذ أُتيتُ بِخَزَائِنِ الأرْضِ، فوُضِعَ في يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلىَّ وأَهَمَّانى، فأُوْحى إلىَّ أَن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنعَاءَ وصَاحِبَ اليَمَامَةِ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في فقه هذه القصة

فيها‏:‏ جوازُ مكاتبةِ الإمام لأهل الرِّدَّة إذا كان لهم شَوْكة، ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار‏:‏ سلامٌ على مَن اتبَّع الهُدَى‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ الرسول لا يُقتل ولو كان مرتداً، هذه السُّـنَّة‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ للإمام أن يأتىَ بنفسه إلى مَن قدم يُريد لقاءه من الكفار‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ الإمام ينبغى له أن يستعينَ برجل من أهل العلم يُجيب عنه أهلَ الاعتراض والعِناد‏.‏

ومنها‏:‏ توكيلُ العالِم لبعض أصحابِه أن يتكلَّم عنه، ويُجيب عنه‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ هذا الحديثَ من أكبرِ فضائلِ الصِّدِّيق، فإنَّ النبى صلى الله عليه وسلم نفخ السِّوارين بروحه فطارا، وكان الصِّدِّيق هو ذلك الرُّوح الذي نفخ مُسَيْلِمَة وأطاره‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فَقُلْـــتُ لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَحْيِهَا ** بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا

ومن هاهنا دلَّ لباس الحلى للرجل على نكَدٍ يلحقه وهمٍّ يناله، وأنبأنى أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نِعمة بن سرور المقدسى المعروف بالشهاب العابِر‏.‏ قال‏:‏ قال لى رجل‏:‏ رأيتُ في رجلى خِلخالاً، فقلتُ له‏:‏ تتخلخل رجلك بألم، وكان كذلك‏.‏

وقال لى آخر‏:‏ رأيتُ كأن في أنفى حلقةَ ذهبٍ، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له‏:‏ يقع بك رعاف شديد، فجرى كذلك‏.‏

وقال آخر‏:‏ رأيتُ كُلاباً معلقاً في شفتى، قلت‏:‏ يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد في شفتك، فجرى كذلك‏.‏

وقال لى آخر‏:‏ رأيتُ في يدى سِواراً والناس يُبصرونه، فقلتُ له‏:‏ سوء يُبصره الناس في يدك، فعن قليل طلع في يده طلوع‏.‏

ورأى ذلك آخر لم يكن يُبصره الناس، فقلت له‏:‏ تتزوجُ امرأةً حسنة، وتكون رقيقة‏.‏

قلتُ‏:‏ عبَّر له السِّوار بالمرأة لما أخفاه، وستره عن الناس، ووصفها بالحُسن لحُسن منظر الذهب وبهجته، وبالرِّقة لشكل السوار‏.‏

والحلية للرجل تنصرف على وجـوه‏.‏ فربما دلَّت على تزويج العُزَّاب لكونها من آلات التزويج، وربما دلَّت على الإماء والسرارى، وعلى الغناء، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائى وما يليق به‏.‏

قال أبو العباس العابر‏:‏ وقال لى رجل‏:‏ رأيتُ كأنَّ في يدى سواراً منفوخاً لا يراه الناس، فقلت له‏:‏ عندك امرأة بها مرضُ الاستسقاء، فتأمل كيف عبَّر له السِّوار بالمرأة، ثم حكم عليها بالمرض لصُفرة السِّوار، وأنه مرض الاستسقاء الذي ينتفخ معه البطن‏.‏

قال‏:‏ وقال لى آخر‏:‏ رأيتُ في يدى خلخالاً وقد أمسكه آخر، وأنا ممسك له، وأصيحُ عليه وأقول‏:‏ اترك خلخالى، فتركـه، فقلتُ له‏:‏ فكان الخلخالُ في يدك أملس‏؟‏ فقال‏:‏ بل كان خشناً تألمتُ منه مرةً بعد مرةً، وفيه شراريف، فقلت له‏:‏ أُمك وخالُك شريفان، ولستَ بشريف، واسمُك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس ردىء يتكلم في عِرضك، ويأخذ مما في يدك، قال‏:‏ نعم، قلت‏:‏ ثم إنه يقع في يد ظالم متعد، ويحتمى بك، فتشدُّ منه، وتقولُ‏:‏ خلِّ خالى، فجرى ذلك عن قليل‏.‏

قلت‏:‏ تأمل أَخْذَه الخال من لفظ ‏(‏الخلخال‏)‏، ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه، خلِّ خالى، وأخذ شرفه من شراريف الخلخال، ودلَّ على شـرف أُمه، إذ هي شقيقة خاله، وحكم عليه بأنه ليس بشريف، إذ شـرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقاً هي في أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسانَ خاله لسان ردىء يتكلم في عِرضه بالألم الذي حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة، فهى خشونةُ لسان خاله في حقه، واستدل على أخذ خاله ما في يديه بتأذيه به، وبأخذه من يديه في النوم بخشونته، واستدلَّ بإمساك الأجنبى للخلخال، ومجاذبة الرائى عليه على وقوع الخال في يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدلَّ بصياحه على المجاذب له، وقوله‏:‏ خلِّ خالى على أنه يعين خاله على ظالمه، ويشدٍّ منه، واستدل على قهره لذلك المجاذِب له، وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر، وهذه كانت حالَ شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لى قراءةُ هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد طيئ على النبى صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق‏:‏ وقدم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ، وفيهم زيدُ الخيل، وهو سيِّدُهم، فلما انتَهَوْا إليه، كلَّمهم، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وحَسُن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ذُكِرَ لى رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ بِفَضْلٍٍ ثُمَّ جَاءَنى إلاَّ رَأَيْتُه دُونَ ما يُقالُ فيه إلاَّ زَيْدَ الخَيْلِ‏:‏ فَإنَّه لَمْ يَبْلُغ كُلَّ ما فِيهِ‏)‏، ثم سمَّاه‏:‏ زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنْ يُنْجَ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى المَدِينَةِ‏)‏ فإنَّهُ قال‏:‏ وقد سمَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحُمَّى وغير أُمِّ مَلْدَم، فلم يُثبته، فلما انتهى إلى ماء مِن مياه نجد يقال له‏:‏ فَرْدَة، أصابته الحُمَّى بها، فمات، فلما أحس بالموت أنشد‏:‏

أمُرْتَحِلٌ قَوْمِى المَشَـارِقَ غَدْوَةً ** وَأُتْرَكُ في بـَيْتٍ بفَـرْدَةَ مُنجِد

ألا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنى ** عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنَّ يَجْهَــدِ

قال ابن عبد البر‏:‏ وقيل‏:‏ مات في آخر خلافة عمر رضى الله عنه، وله ابنان‏:‏ مُكْنِف، وحُريث، أسلما، وصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدا قِتال أهل الرِّدَّة مع خالدِ بن الوليد‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثنى الزُّهْرى، قال‏:‏ قدم الأشعثُ بنُ قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين أو ستين راكباً من كِندة، فدخلُوا عليه صلى الله عليه وسلم مسجده قد رَجَّلُوا جُمَمَهم، وتسلَّحوا، ولبسوا جِبَابَ الحِبَرَاتِ مكفَّفة بالحرير، فلما دخلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوَلَمْ تُسْلِموا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَما بالُ هذا الحَرير في أعْنَاقِكُم‏)‏‏؟‏‏.‏ فشقُّوهُ، ونزعوه، وألقَوْه، ثم قال الأشعث‏:‏ يا رسول الله؛ نحنُ بنو آكـلِ الـمُرار، وأنت ابنُ آكلِ الـمُرار، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏ناسِبُوا بهذا النَّسَبِ رَبِيعَةَ بن الحارث، والعَبَّاس بن عَبْد المُطَّلب‏)‏‏.‏

قال الزُّهْرى وابن إسحاق‏:‏ كانا تاجرين، وكانا إذا سارا في أرض العرب، فسُئِلا مَن أنتُما‏؟‏ قالا‏:‏ نحن بنو آكِلِ الـمُرار، يتعزَّزون بذلك في العرب، ويدفعون به عن أنفسهم، لأن بنِى آكل الـمُرار من كِندة كانوا ملوكاً‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنَانَة لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا ننْتَفِى مِنْ أبِينَا‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏ من حديث حمَّاد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن مسلم ابن هيضم، عن الأشعث بن قيس، قال‏:‏ قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَفْدَ كِندة، ولا يَرون إلا أنى أفضلُهم، قلتُ‏:‏ يا رسول الله؛ ألستُم منا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، نَحْنُ بَنُو النَّضْر بن كِنَانَة، لا نَقْفُو أُمَّنا ولا نَنْتَفى مِنْ أبينا‏)‏، وكـان الأشعث يقول‏:‏ لا أُوتى برجل نفى رجلاً مِن قريش من النَّضْر بن كِنانة إلا جلدتُه الحد‏.‏

وفى هذا من الفقه، أنَّ مَن كان مِن ولد النَّضْر بن كِنانة، فهو من قريش‏.‏

وفيه‏:‏ جوازُ إتلاف المالِ المحرَّم استعمالُه، كثياب الحرير على الرجال، وأنَّ ذلك ليس بإضاعة‏.‏

والـمُرار‏:‏ هو شجر من شجر البوادى، وآكل الـمُرار‏:‏ هو الحارث بن عَمْرو ابن حِجر بن عَمْرو بن معاوية بن كندة، وللنبى صلى الله عليه وسلم جدة مِن كندة مذكورة، وهى أُم كِلاب بن مُرَّة، وإياها أراد الأشعث‏.‏

وفيه‏:‏ أنَّ مَن انتسب إلى غير أبيه، فقد انتفى من أبيه، وقفى أُمه، أى‏:‏ رماها بالفجور‏.‏

وفيها‏:‏ أنَّ كِندة ليسوا من ولد النَّضْر بن كِنانة‏.‏

وفيه‏:‏ أنَّ مَن أخرج رجلاً عن نسبه المعروف، جُلِدَ حَدَّ القذف‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد الأشعريين وأهل اليمن

روى يزيد بن هارون، عن حُمَيد، عن أنس، أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يَقْدَمُ قَوْمٌ هم أرَقُّ منكم قُلُوباً‏)‏، فقدِم الأشعريون، فجعلوا يرتجزون‏:‏

* غَداً نَلْقَى الأَحِبَّة مُحَمَّداً وحِـزْبَه *

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أبى هريرة، قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏جَاء أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أرَقُّ أَفْئِدَةً وأَضْعَفُ قلوباً، والإيمانُ يَمانٍ، والحِكْمَة يَمَانِيةٌ، والسَّكِينةُ في أهْل الغَنَم، الفَخْرُ والخُيَلاءُ في الفَدَّادِين مِنْ أهْلِ الوَبَر قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ‏)‏‏.‏

وروينا عن يزيد بن هارون، أنبأنا ابنُ أبى ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد ابن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال‏:‏ كنا مَع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال‏:‏ ‏(‏أتَاكُم أهْلُ اليَمَنِ كَأَنَّهُم السَّحَابُ، هُمْ خِيَارُ مَنْ في الأرْضِ‏)‏، فقال رجلٌ من الأنصار‏:‏ إلا نحنُ يا رسولَ الله، فسكت، ثم قال‏:‏ إلا نحنُ يا رسولَ الله، فسكتَ، ثم قال‏:‏ ‏(‏إلاَّ أنْتُم‏)‏ كَلِمَةً ضَعِيفَةً‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏‏:‏ أنَّ نَفَراً من بنى تميم، جاؤوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏أَبْشِرُوا يا بنى تَمِيم‏)‏، فقالوا‏:‏ بَشَّرْتَنَا فأَعطنا، فتغيَّر وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء نَفَرٌ من أهل اليمن، فقال‏:‏ ‏(‏اقْبَلُوا البُشْرى إذْ لَمْ يَقْبَلهَا بَنُو تَمِيم‏)‏، قالوا‏:‏ قد قَبِلْنَا، ثم قالُوا‏:‏ يا رسول الله؛ جئنا لنتفقه في الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال‏:‏ ‏(‏كَانَ اللهُ، ولَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْره، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَىْء‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد الأزدِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق‏:‏ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صُرَدُ بنُ عبد الله الأزْدى، فأسلم وحَسُن إسلامُه في وفد من الأَزْد، فأمَّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على مَن أسلم مِن قومه، وأمره أن يُجاهد بمن أسلم مَن كان يليه مِن أهل الشِّركِ من قبائل اليمن، فخرج صُرَدُ يسيرُ بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بِجُرَشَ، وهى يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائلُ من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خَثْعَمُ، فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرُوهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلاً، حتى إذا كان في جبل لهم يقال له‏:‏ ‏(‏شَكَرَ‏)‏، ظن أهلُ جُرَشَ أنه إنما ولَّى عنهم منهزماً، فخرجُوا في طلبه حتى إذا أدركوه، عطف عليهم، فقاتلهم، فقتلهم قتلاً شديداً، وقد كان أهلُ جُرَشَ بعثُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين منهم يرتادان وينظُران، فبينا هما عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عشيةً بعدَ العصر، إذ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بأىِّ بلاد اللهِ شـَكَر‏)‏‏؟‏ فقام الجُرشيانِ، فقالا‏:‏ يا رسول الله؛ ببلادنا جبل يُقال له‏:‏ ‏(‏كشر‏)‏، وكذلك تُسميه أهلُ جُرش، فقال‏:‏ ‏(‏إنَّهُ لَيْسَ بِكَشَر، ولكِنَّهُ شكر‏)‏، قالا‏:‏ فما شأنُه يا رسولَ اللهِ‏؟‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنَّ بُدْنَ اللهِ لتُنْحَرُ عِنْدَهُ الآن‏)‏، قال‏:‏ فجلس الرجلانِ إلى أبى بكـر، وإلى عثمان، فقالا لهما‏:‏ ويحكما، إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليَنعَى لكُما قومَكما، فقوما إليه، فاسألاه أن يدعوَ الله أن يرفَع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏اللُّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ‏)‏، فخرجَا مِن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما، فوجدا قومَهما أُصيبُوا في اليومِ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وفى الساعة التي ذكر فيها ما ذكر، فخرج وفدُ جُرش حتى قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، وحمى لهم حِمى حول قريتهم‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد بنى الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جُمَادَى الأُولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يُقاتِلهم ثلاثاً، فإن استجابُوا، فاقبلْ منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتِلْهم، فخرج خالدٌ حتى قَدِمَ عليهم، فبعث الرُّكبان يضرِبُون في كُلِّ وجه، ويدعُون إلى الإسلام، ويقولون‏:‏ أيها الناسُ؛ أسلموا لِتسلموا، فأسلم الناسُ، ودخلُوا فيما دَعَوْا إليه، فأقام فيهم خالدٌ يُعلِّمهم الإسلامَ، وكتب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فكتب له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقْبِلَ ويُقْبِلَ معه وفدهم، فأقبل وأقبل معه وفدُهم، فيهم‏:‏ قيسُ بنُ الحصين ذى الغَصَّة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله ابن قُراد، وشَدَّاد بن عبد الله، وقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بِمَ كُنْتُم تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ في الجَاهِلِيَّة‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لم نكن نغلِبُ أحداً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏بلى‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ كنا نجتمِعُ ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏صدقتم‏)‏، وأمَّر عليهم قيسَ بن الحُصين، فرجعوا إلى قومهم في بقيةٍ من شوَّال، أو من ذى القَعدة، فلم يمكثُوا إلا أربعة أشهر حتى توفى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد هَمْدَانَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقدم عليه وفدُ هَمْدَانَ، منهم‏:‏ مَالك بن النَّمَط، ومالك بن أيفع، وضِمام بن مالك، وعَمْرو بن مالك، فلقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مرجِعَه مِن تَبُوك، وعليهم مُقَطَّعَاتُ الْحِبَرَاتِ والعمائم العَدَنية على الرواحل المَهْرِية والأَرْحَبِيَّة، ومالك بن النَّمط يرتجزُ بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏

* إلَيْكَ جَـــاوَزْنَ سَوَادَ الرِّيفِ *

* في هَبَوَاتِ الصَّيْفِ والخَرِيفِ *

* مُخَطَّمَــــاتٍ بِحِبَالِ اللِّيفِ *

وذكروا له كلاماً حسناً فصيحاً، فكتب لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمَّر عليهم مالك بن النَّمط، واستعمله على مَن أسلم من قومه، وأمره بقتال ثَقيف، وكان لا يخرُج لهم سرحٌ إلا أغارُوا عليه‏.‏

وقد روى البيهقى بإسناد صحيح، من حديث أبى إسحاق، عن البراء، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بعث خالدَ بن الوليد إلى أهلِ اليمن يدعُوهم إلى الإسلام، قال البراء‏:‏ فكنتُ فيمن خرجَ مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستةَ أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يُجيبوه، ثم إنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بعث علىَّ بنَ أبى طالب رضى الله عنه، فأمره أن يُقْفِلَ خالداً إلا رجلاً ممن كان مع خالد أحبَّ أن يُعقِبَ مع علىّ رضى الله عنه، فليُعقب معه، قال البَراء‏:‏ فكنتُ فيمن عقب مع علىّ، فلما دنونا مِن القوم، خرجوا إلينا، فصلَّى بنا علىُّ رضى الله عنه، ثم صفَّنا صفاً واحداً، ثم تقدَّم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت هَمْدَانُ جميعاً، فكتب علىٌ رضى الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، خَرَّ ساجِداً، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏السَّلاَمُ عَلى هَمْدَانَ، السَّلامُ عَلى هَمْدَانَ‏)‏، وأصل الحديث في صحيح البخارى‏.‏

وهذا أصحُّ مما تقدَّم، ولم تكن هَمْدَانُ أن تُقاتل ثقيفاً، ولا تُغير على سرحهم، فإن هَمْدَان باليمن، وثقيفاً بالطائف‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد مُزينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

روينا من طريق البيهقى، عن النُّعمان بن مُقَرِّن، قال‏:‏ قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة رجل من مُزينة، فلما أردنا أن ننصرف، قال‏:‏ ‏(‏يا عُمَرُ؛ زَوِّدِ القَوْمَ‏)‏ فقال‏:‏ ما عندى إلا شئٌ من تمر، ما أظنُّه يقعُ من القوم موقعاً، قال‏:‏ ‏(‏انطلِق فَزَوِّدْهُم‏)‏ قال‏:‏ فانطلق بهم عمر، فأدخلهم منزله، ثم أصعدهم إلى عُلَّيَّـة، فلما دخلنا، إذا فيها مِن التمر مِثْلُ الجَمَلِ الأوْرَق، فأخذ القومُ منه حاجَتَهم، قال النُّعمان‏:‏ فكنت في آخر مَن خرج، فنظرتُ فما أفقد موضع تمرة مِن مكانها‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد دَوْس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

قال ابن إسحاق‏:‏ كان الطُّفيل بن عَمْرو الدُّوسى يُحدِّث أنه قَدِمَ مكة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطُّفَيلُ رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، قالوا له‏:‏ إنك قَدِمْتَ بلادنا، وإنَّ هذا الرجلَ وهو الذي بين أظهرنا فَرَّقَ جماعتنا، وشتَّتَ أمرنا، وإنما قوله كالسِّحر يُفَرِّقُ بين المرءِ وابنه، وبينَ المرءِ وأخيه، وبين المرءِ وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حلَّ علينا، فلا تُكَلِّمه، ولا تَسْمَعْ منه، قال‏:‏ فواللهِ ما زالُوا بى حتى أجمعتُ أن لا أسمعَ منه شيئاً، ولا أُكَلِّمَه حتى حشوتُ في أذنىَّ حين غدوتَ إلى المسجد كُرسُفاً فَرَقاً من أن يَبْلُغَنى شىْءٌ من قوله‏.‏ قال‏:‏ فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يُصلِّى عند الكعبة، فقمتُ قريباً منه، فأبى اللهُ إلا أن يُسمِعَنى بعضَ قوله، فسمعتُ كلاماً حسناً، فقلتُ في نفسى‏:‏ واثكل أُمِّياه، واللهِ إنى لرجل لبيب شاعر، ما يَخفى علىَّ الحَسنُ من القبيح، فما يمنعُنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏؟‏ فإن كان ما يقولُ حسـناً، قبلتُ، وإن كان قبيحاً، تركتُ، قال‏:‏ فمكثتُ حتى انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فتبعتُه

حتى إذا دخل بيتَه دخلتُ عليه، فقلتُ‏:‏ يا محمد؛ إن قومَك قد قالُوا لى كذا وكذا، فَواللهِ ما بَرِحُوا يُخوفونى أمرَك حتى سددتُ أُذنى بِكرْسُفٍ لئلا أسمعَ قولَك، ثم أبى الله إلا أن يُسمِعَنيه، فسمعتُ قولاً حسناً، فاعرض علىَّ أمرك، فعرض علىَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإسلامَ، وتلا علىَّ القرآن، فلا واللهِ ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسنَ منه، ولا أمراً أعدلَ منه، فأسلمتُ، وشهدتُ شهادةَ الحق، وقلتُ‏:‏ يا نبى الله؛ إنى امرؤ مُطاع في قومى، وإنى راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادعُ الله لى أن يجعل لى آية تكون عَوْناً لى عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً‏)‏ قال‏:‏ فخرجتُ إلى قومى حتَّى إذا كنتُ بثنية تُطلعنى على الحاضر، وقع نورٌ بين عَيْنَىَّ مثلَ المصباح، قلتُ‏:‏ اللَّهُمَّ في غير وجهى إنى أخشى أن يظنوا أنها مُثلة وقعت في وجهى لِفراقى دينهم، قال‏:‏ فتحوَّل، فوقع في رأس سَوطى كالقنديل المعلَّق، وأنا أنهبطُ إليهـم من الثَّنِيَّة حتى جئتُهم، وأصبحتُ فيهم، فلما نزلتُ، أتانى أبى، وكان شيخاً كبيراً، فقلتُ‏:‏ إليك عنى يا أبتِ، فلستَ منى ولستُ منك، قال‏:‏ لِمَ يا بُنَىّ‏؟‏ قلتُ‏:‏ قد أسلمتُ، وتابعتُ دينَ محمد‏.‏ قال‏:‏ يا بُنَىّ فدينى دينُك‏.‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ اذهب فاغتسِلْ، وطهِّرْ ثيابَك، ثم تَعالَ حتى أُعلِّمك ما عَلِمْتُ‏.‏ قال‏:‏ فذهب فاغتسل، وطهَّرْ ثيابه، ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحِبتى، فقلتُ لها‏:‏ إليكِ عنِّى، فلستُ منكِ ولستِ منى‏.‏ قالت‏:‏ لِمَ بأبى أنت وأُمى‏؟‏، قلتُ‏:‏ فرَّق الإسلامُ بينى وبينَكِ، أسلمتُ وتابعتُ دين محمد‏.‏ قالت‏:‏ فدينى دينُك، قال‏:‏ قلتُ‏:‏ فاذهبى فاغتسلى، ففعلت، ثم جاءت، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوتُ دَوْساً إلى الإسلام فأبطؤوا علىّ، فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ‏:‏ يا رسول الله؛ إنه قد غلبنى على دَوْس الزِّنَى، فادعُ الله عليهم، فقال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏ارجع إلى قومِك فادعُهم إلى الله، وارفُق بهم‏)‏ فرجعتُ إليهم، فلم أزل بأرض دَوْس أدعوهم إلى الله، ثم قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَر، فنزلتُ المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً مِن دَوْس، ثم لحقنا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم بخَيْبَر، فأسهم لنا مع المسلمين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّت العربُ، خرج الطُّفَيلُ مع المسلمين حتى فرغوا مِن طُليحة، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامَةِ، ومعه ابنه عَمْرو بن الطُّفَيْل، فقال لأصحابه‏:‏ إنى قد رأيتُ رؤيا فاعبُروها لى؛ رأيتُ أنَّ رأسى قد حُلِقَ، وأنه قد خرج مِن فمى طائر، وأن امرأة لقيتنى، فأدخلتنى في فَرْجها، ورأيتُ أنَّ ابنى يطلبُنى طلباً حثيثاً، ثم رأيتُه حُبِسَ عنى، قالوا‏:‏ خيراً رأيت‏.‏ قال‏:‏ أما واللهِ إنى قد أوَّلتُها‏.‏ قالوا‏:‏ وما أوَّلتَها‏؟‏ قال‏:‏ أما حلق رأسى، فوضعُه، وأما الطائر الذي خرج من فمى، فروحى، وأما المرأة التي أدخلتنى في فَرْجها، فالأرض تُحفر، فأغيب فيها، وأما طلب ابنى إياى وحبسُه عنى، فإنى أراه سيجاهد، لأن يصيبه من الشهادة ما أصابنى‏.‏ فقُتِل الطُّفَيْل شهيداً باليمامة، وجُرِح ابنه عَمْرو جرحاً شديداً، ثم قُتِل عام اليرموك شهيداً في زمن عمر رضى الله عنه‏.‏

فصل‏:‏ في فقه هذه القصة

فيها‏:‏ أنَّ عادة المسلمين كانت غُسْلَ الإسلامِ قبل دخولهم فيه، وقد صح أمرُ النبى صلى الله عليه وسلم به، وأصح الأقوال‏:‏ وجوبُه على مَن أجنب في حال كفره ومَن لم يُجنب‏.‏

وفيها‏:‏ أنَّه لا ينبغى للعاقل أن يُقَلِّد الناسَ في المدح والذم، ولا سيما تقليدَ مَن يَمدح بهوى ويذُمُّ بهوى، فكم حَالَ هذا التقليدُ بينَ القُلُوب وبين الهُدى، ولم ينجُ منه إلا مَن سبقت له مِن الله الحُسْنَى‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب، أسهم لهم‏.‏

ومنها‏:‏ وقوعُ كرامات الأولياء، وأنها إنما تكون لحاجة في الدِّين، أو لمنفعةٍ للإسلام والمسلمين، فهذه هي الأحوال الرحمانية، سببُها متابعة الرسول، ونتيجتُها إظهارُ الحق، وكسرُ الباطل، والأحوال الشيطانية ضِدُّها سبَباً ونتيجة‏.‏

ومنها‏:‏ التأنى والصبرُ في الدعوة إلى الله، وأن لا يُعجل بالعقوبةِ والدعاء على العصاة، وأما تعبيرُه حلق رأسه بوضعه، فهذا لأن حلق الرأس وضعُ شعره على الأرض، وهو لا يدُلُّ بمجرده على وضع رأسه، فإنه دال على خلاص من هم، أو مرض، أو شدة لمن يليقُ به ذلك، وعلى فقر ونَكَدٍ، وزوالِ رياسة وجاه لمن لا يليق به ذلك، ولكن في منام الطُّفَيْل قرائن اقتضت أنَّه وضْعُ رأسه، منها أنه كان في الجهاد، ومقاتلة العدو ذى الشَوْكة والبأس‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّه دخل في بطن المرأة التي رآها، وهى الأرض التي هي بمنزلة أُمه، ورأى أنَّه قد دخل في الموضع الذي خرج منه، وهذا هو إعادته إلى الأرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، فأوَّلَ المرأة بالأرض إذ كلاهما محلُ الوطء، وأوَّلَ دخولَه في فَرْجها بعودِه إليها كما خُلِقَ منها، وأوَّلَ الطائر الذي خرج مِن فِيه بروحه، فإنها كالطائر المحبوس في البدن، فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذي فارق حبسه، فذهب حيثُ شاء، ولهذا أخبر النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنَّ نَسْمَةَ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ في شَجَرِ الجَنَّة‏)‏، وهذا هو الطائرُ الذي رُؤى داخلاً في قبر ابن عباس لما دُفِنَ، وسُمِعَ قارئ يقرأ‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27 - 28‏]‏‏.‏ وعلى حسب بياض هذا الطائر وسواده وحُسْنِه وقُبحهِ، تكونُ الروح، ولهذا كانت أرواحُ آلِ فرعون في صورة طيور سود تَرِدُ النارَ بكرة وعشيةً، وأوَّلَ طلبَ ابنه له باجتهاده في أن يلحق به في الشهادة، وحبسه عنه هو مدة حياته بين وقعة اليمامة واليرموك‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏