فصل: فصل: في غزوة أُحُد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في غزوة بدر الكبرى

فلما كان في رمضانَ مِن هذه السنة، بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ العِير المقبلة من الشام لقريش صُحبةَ أبى سفيان، وهى العِير التي خرجوا في طلبها لما خرجت مِن مكة، وكانوا نحو أربعين رجلاً، وفيها أموالٌ عظيمة لٍقريش، فندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ للخروج إليها، وأمر مَن كان ظهرُه حاضراً بالنهوض، ولم يحْتَفِلْ لها احتفالاً بليغاً، لأنه خرج مُسْرِعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسانِ‏:‏ فرس للزبير بن العوام، وفرسٌ للمِقداد بن الأسود الكِندى، وكان معهم سبعون بعيراً يَعْتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ، ومَرْثَدُ ابنُ أبى مَرْثَدٍ الغَنوى، يعتقِبُون بعيراً، وزيدُ بن حارثة، وابنُه، وكبشةُ موالى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتَقِبُونَ بعيراً، وأبو بكر، وعمر، وعبدُ الرحمن ابن عوف، يعتقِبُونَ بعيراً، واستخلف على المدينةِ وعلى الصلاة ابنَ أمِّ مكتوم، فلما كان بالرَّوحاءِ رد أبا لُبابة بنَ عبد المنذر، واستعمله على المدينة، ودفع اللِّواء إلى مُصعبِ بنِ عُمَير، والراية الواحدة إلى علىِّ بن أبى طالب، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيسَ بنَ أبى صَعْصَعَةَ، وسار، فلما قَرُبَ مِن الصَّفْرَاء، بعث بَسْبَسَ بنَ عمرو الجهنى، وعدى ابن أبى الزغباء إلى بدر يتجسَّسان أخبارَ العِير، وأما أبو سفيان، فإنه بلغه مخرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه، فاستأجر ضَمْضَمَ بنَ عَمْرو الغِفارى إلى مكة، مُستصْرخاً لقريش بالنَّفير إلى عِيرهم، ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فنهضوا مُسرِعين، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلَّفْ من أشرافهم أحدٌ سوى أبى لهب، فإنَّه عوَّض عنه رجلاً كان له عليه دَيْن، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بنى عدى، فلم يخرُجْ معهم منهم أحد، وخرجوا مِن ديارهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 47‏]‏، وأقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم، تُحَادُّهُ وَتُحَادُّ رَسُولَه‏)‏، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين، وعلى حميَّةٍ، وغضبٍ، وحَنَقٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، لما يُريدون مِن أخذ عيرهم، وقتل مَن فيها، وقد أصابُوا بالأمسِ عَمْرو بن الحضرمى، والعِير التي كانت معه، فجمعهم اللهُ على غير ميعاد كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في الْمِيعَادِ وَلَـكِنْ لِّـيَقْضِىَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏‏.‏

ولما بلغَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خروجُ قريش، استشار أصحابه، فتكلَّم المهاجِرون فأحسَنُوا، ثم استشارهم ثانياً، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثاً، ففهمت الأنصارُ أنه يَعنيهم، فبادر سعدُ بنُ معاذ، فقال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا ‏؟‏‏)‏ وكان إنما يَعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخُروج، استشارهم لِيعلم ما عندهم، فقال له سعد‏:‏ ‏(‏لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإنى أقول عن الأنصار، وأُجِيب عنهم‏:‏ فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْت، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، واقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وخُذْ مِنْ أمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، ومَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَواللهِ لَئِن سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغ البَرْكَ مِنْ غمدَان، لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَوَاللهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هذَا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ‏)‏، وقَالَ لَهُ المِقْدَادُ‏:‏ ‏(‏لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى‏:‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتِلا إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ‏)‏‏.‏ فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابِه، وقالَ‏:‏ ‏(‏سِيرُوا وأَبْشروا،فإنَّ الله قَدْ وَعَدَنى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وإنِّى قَدْ رَأَيْتُ مَصارعَ القَوْمِ‏)‏‏.‏

فسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وخَفَضَ أبو سفيان فَلَحِقَ بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا، وأحرز العير، كتب إلى قريش‏:‏ أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتُم لِتُحْرِزُوا عيركم‏.‏ فأتاهم الخبرُ، وهم بالجُحْفَةِ، فهمُّوا بالرجوع، فقال أبو جهل‏:‏ واللهِ لا نرجع حتى نَقْدَمَ بدراً، فنقيمَ بها، ونُطعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِن العرب، وتخافُنَا العربُ بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شُريق عليهم بالرجوع، فَعَصَوْه، فرجع هو وبنو زُهرة،

فلم يشهد بدراً زُهرى، فاغتبطت بنو زُهرة بعدُ برأى الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً، وأرادَتْ بنو هاشم الرجوع، فاشتدَّ عليهم أبو جهل، وقال‏:‏ لا تُفَارِقُنَا هذه العِصابة حتى نَرْجِعَ فساروا، وسارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عشياً أدنى ماء مِن مياه بدر، فقال‏:‏ ‏(‏أَشيرُوا عَلَىَّ في المَنْزِل‏)‏‏.‏ فقال الحُبَابُ بنُ المنذر‏:‏ يا رسول الله؛ أنا عالم بها وبِقُلُبِهَا، إن رأيتَ أن نسيرَ إلى قُلُبٍ قد عرفناها، فهى كثيرة الماء، عذبة، فننزِلَ عليها ونَسبِقَ القوم إليها ونُغوِّر ما سواها مِن المياه‏.‏

وسار المشركون سِراعاً يريدون الماء، وبعث علياً وسعداً والزبير إلى بدر يلتمِسُون الخبر، فَقَدِمُوا بعبدين لقريش، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائم يُصلِّى، فسألهما أصحابُه‏:‏ مَنْ أنتما ‏؟‏ قالا‏:‏ نحن سُقاةٌ لِقريش، فكره ذلك أصحابه، وودُّوا لو كانا لِعير أبى سفيان، فلما سلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال لهما‏:‏

‏(‏أخْبِرَانِى أيْنَ قُرَيْشٌ‏)‏ ‏؟‏ قالا‏:‏ وراء هذا الكثيب‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كم القومُ‏)‏ ‏؟‏ فقالا‏:‏ لا عِلم لنا، فقال‏:‏ ‏(‏كم ينحرونَ كُلَّ يوم‏)‏ ‏؟‏ فقالا‏:‏ يوماً عشراً، ويوماً تسعاً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القومُ ما بينَ تسعمائة إلى الألف‏)‏، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلاً طهَّرهم به، وأذهب عنهم رجْسَ الشيطان، ووطَّأ به الأرضَ، وصلَّب به الرملَ، وثـبَّتَ الأقدام، ومهَّدَ به المنزل، وربطَ به على قلوبهم، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطرَ الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوَّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض‏.‏ وبُنِىَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تلٍّ يُشرِفُ على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يُشير بيده، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله، فما تعدى أحد منهم موضع إشارته‏.‏

فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعانِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ هذه قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخيلائِها وفَخْرِهَا، جَاءَتْ تُحادُّك، وَتَكَذِّبُ رَسُولَكَ‏)‏‏.‏ وقام، ورفع يديه، واستنصر ربَّه وقال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أنْجِزْ لى مَا وَعَدْتَنِى، اللَّهُمَّ إنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ‏)‏، فالتزمه الصِّدِّيق من ورائه، وقال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله؛ أبشر، فوالذى نفسى بيده، لَيُنجِزَنَّ الله لكَ ما وَعَدَكَ‏)‏‏.‏

واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرَّعُوا إليهِ، فَأَوْحَى الله إلى مَلائِكَتِهِ‏:‏ ‏{‏أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِى في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏

وأَوْحَى الله إلى رسوله‏:‏ ‏{‏أنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏ قرئ بكسر الدال وفتحها فقيل‏:‏ المعنى إنهم رِدْفٌ لكم‏.‏ وقيل‏:‏ يُرْدِفُ بعضُهم بعضاً أرسالاً لم يأتوا دَفعةً واحدة‏.‏

فإن قيل‏:‏ ههنا ذكر أنه أمدَّهم بألفٍ، وفى سورة ‏(‏آل عمران‏)‏ قال‏:‏ ‏{‏إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 124-125‏]‏، فكيف الجمع بينهما ‏؟‏

قيل‏:‏ قد اختُلِفَ في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف، والذي بالخمسة على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان يومَ أُحُد، وكان إمداداً معلَّقاً على شرط، فلما فات شرطُه، فات الإمدادُ، وهذا قولُ الضحاك ومقاتِل، وإحدى الروايتين عن عِكرمة‏.‏

والثانى‏:‏ أنه كان يومَ بدر، وهذا قولُ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والرواية الأخرى عن عِكرمة، اختاره جماعة من المفسِّرين‏.‏ وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك، فإنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُم تَشْكُرونَ إذْ تَقُولُ لِلْمُؤمِنينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وما جَعَلَهُ اللهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123-126‏]‏ أى‏:‏ هذا الإمداد ‏{‏إلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُـكُم بِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 126‏]‏‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ فلما استغاثوا، أمدَّهم بتمام ثلاثةِ آلاف، ثم أمدَّهم بتمامِ خمسة آلافٍ لما صبرُوا واتقوا، فكان هذا التدريجُ، ومتابعة الإمداد، أحسن موقعاً، وأقوى لِنفوسهم، وأسرَّ لها من أن يأتى به مرةً واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحى ونزوله مرة بعد مرة‏.‏

وقالت الفرقةُ الأولى‏:‏ القصة في سياق أُحُد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً في أثنائها، فإنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَِميعٌ عَلِيمٌ إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أن تَفْشَلا واللهُ وَليُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121-122‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهِ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏ فذكَّرهم نعمتَه عليهم لمَّا نصرهم ببدر، وهم أذلة، ثم عاد إلى قصةِ أُحُد، وأخبر عن قول رسوله لهم‏:‏ ‏{‏ألَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 124‏]‏، ثم وعدهم أنهم إن صبرُوا واتَّقُوا، أمدَّهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسولِهِ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمدَادُ بدر بألف، وهذا معلَّق على شرط، وذلك مطلق، والقصة في سورة ‏(‏آل عمران‏)‏ هي قصة أُحُد مستوفاة مطوَّلة، وبدر ذُكرت فيها اعتراضاً، والقصة في سورة ‏(‏الأنفال‏)‏ قصة بدر مستوفاة مطوَّلة، فالسياق في ‏(‏آل عمران‏)‏ غير السياق في

‏(‏الأنفال‏)‏‏.‏

يوضح هذا أن قوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُم مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏، قد قال مجاهد‏:‏ إنه يومُ أُحد، وهذا يستلزِمُ أن يكون الإمدادُ المذكور فيه، فلا يَصِحُّ قولُه‏:‏ إن الإمداد بهذا العدد كان يومَ بدر، وإتيانُهم من فورهم هذا يومَ أُحُد‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في بدء القتال بالمبارزة

وباتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلى إلى جِذْع شجرة هُناك، وكانت ليلةَ الجمعة السابع عشرَ من رمضان في السنة الثانية، فلما أصبحوا، أقبلتْ قريشٌ في كتائبها، واصطَف الفريقانِ، فمشى حكيمُ بنُ حِزام، وعُتبةُ بن ربيعة في قريش، أن يرْجِعُوا ولا يقاتلوا، فأبى ذلك أبو جهل، وجرى بينه وبين عتبة كلامٌ أَحْفَظَهُ، وأمر أبو جهل أخا عَمْرو بن الحضرمى أن يطلب دَمَ أخيه عَمْرو، فكشف عن اسْتِهِ، وصرخ‏:‏ واعَمْراهُ، فحمى القومُ، ونشَبتِ الحربُ، وعَدَّلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفوفَ، ثم رجع إلى العَريشِ هو وأبو بكر خاصة، وقام سعدُ بن معاذ في قوم من الأنصار على باب العريشِ، يحمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وخرج عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعة، والوليدُ بن عُتبة، يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثةٌ من الأنصار‏:‏ عبدُ الله بن رواحة، وعوفٌ، ومُعَوٍّذٌ ابنا عفراء، فقالوا لهم‏:‏ مَن أنتم ‏؟‏ فقالوا‏:‏ من الأنصار‏.‏ قالوا‏:‏ أكفَاءٌ كِرام، وإنما نُريد بنى عمنا، فبرز إليهم علىٌ وعُبيدة بن الحارث وحمزةُ، فقتل علىُّ قِرْنَه الوليد، وقتل حمزة قِرنه عُتبة وقيل‏:‏ شيبةُ واختلف عُبيدة وقِرنُه ضربتين، فكَّر علىُّ وحمزةُ على قِرن عُبيدة، فقتلاه واحتملا عُبيدة وقد قُطِعت رجله، فلم يزل ضَمِنَاً، حتى مات بالصَّفْراءِ‏.‏

وكان علىُّ يُقسِمُ بالله‏:‏ لنزلت هذه الآيةُ فيهم‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ الآية‏.‏

ثم حمى الوطيسُ، واستدارت رَحى الحربِ، واشتدَّ القِتال، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والابتهالِ، ومناشدة ربِّه عَزَّ وجَلَّ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فردَّه عليه الصِّدِّيق، وقال‏:‏ بعضَ مُناشَدَتِكَ ربَّكَ، فإنَّهُ منجزٌ لَكَ ما وَعَدَكَ‏.‏

فأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، وأخذ القومَ النعاسُ في حال الحربِ، ثم رفعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رأسَه فقال‏:‏ ‏(‏أَبْشِرْ يا أَبَا بَكْر، هذا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاه النَّقْع‏)‏‏.‏

وجاء النصر، وأنزل الله جنده، وأيَّد رسوله والمؤمنين، ومنحهم أكتافَ المُشركِينَ أسراً وقتلاً، فقتلوا منهم سبعين، وأَسرُوا سبعينَ‏.‏

فصل‏:‏ في ظهور إبليس في صورة سُراقة ووسوسته للعدو

ولما عزموا على الخروج، ذكروا ما بينهم وبينَ بنى كنانة مِن الحرب، فتبدَّى لهم إبليسُ في صورة سُراقة بن مالك المُدْلجى، وكان مِن أشراف بنى كنانة، فقال لهم‏:‏ لا غَالِبَ لكم اليومَ من الناس، وإنى جارٌ لكم من أن تأتيكم كِنانة بشىءٍ تكرهُونه، فخرجوا والشيطانُ جارٌ لهم لا يُفارقهم، فلما تعبَّؤوا للقتال، ورأى عدوُّ الله جندَ اللهِ قد نزلت مِن السماء، فرَّ، ونَكَصَ على عقبيه، فقالوا‏:‏ إلى أين يا سُراقة ‏؟‏ ألم تكن قُلْتَ‏:‏ إنك جار لنا لا تُفَارِقُنَا ‏؟‏ فقال‏:‏ إنى أرى ما لا ترون، إنى أخاف اللهَ، واللهُ شديدُ العِقَاب، وصدق في قوله‏:‏ إنى أرى ما لا ترون، وكذب في قوله‏:‏ إنى أخاف اللهَ‏.‏ وقيل‏:‏ كان خوفه على نفسه أن يَهْلِكَ معهم، وهذا أظهر‏.‏

ولما رأى المنافقون ومَن في قلبه مرض قِلَّة حزبِ الله وكثرةَ أعدائه، ظنُّوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 49‏]‏، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة، ولا بالعدد، والله عزيز لا يُغالَب، حكيم ينصر مَن يستحق النصر، وإن كان ضعيفاً، فعزتُه وحكمتُه أوجبت نصرَ الفئةِ المتوكِّلَةِ عليه‏.‏

ولما دنا العدو وتواجه القومُ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فوعظهم، وذكَّرهم بما لهم في الصبر والثباتِ مِن النصرِ، والظفرِ العاجِلِ، وثوابِ اللهِ الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجبَ الجنة لمن استشهد في سبيلِهِ، فقام عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ، فَقَالَ‏:‏ يا رسولَ اللهِ؛ جَنَّةٌ عَرْضُهَا سَّماواتُ والأَرْضُ ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ بَخٍ بَخٍ يَا رَسولَ اللهِ‏.‏ قالَ‏:‏ ‏(‏مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ إلاَّ رَجَاءَ أنْ أكُونَ مِنْ أَهْلِهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا‏)‏ قال‏:‏ فأَخرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يأكُلُ مِنْهُنَّ، ثم قال‏:‏ لَئِنْ حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ‏.‏ فكان أول قتيل‏.‏

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِلءَ كَفِّهِ مِنَ الحصباءِ، فَرَمَى بِهَا وجوهَ العَدُوِّ، فلم تترك رَجُلاً مِنهم إلاَّ ملأَتْ عينيه، وشُغِلُوا بالتراب في أعينهم، وشُغِلَ المسلمُونَ بقتلهم ، فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقد ظن طائفة أن الآية دلَّت على نفى الفعل عن العبد، وإثباتهِ لله، وأنه هو الفاعلُ حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن الله سبحانه أثبت لِرسوله ابتداءَ الرَّمى، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته، فالرمىُ يُرادُ به الحذفُ والإيصال، فأثبت لنبيه الحذفَ، ونفى عنه الإيصال‏.‏

وكانت الملائكة يومئذ تُبادِرُ المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ في أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إذّ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَه، وَصَوْتُ الفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ‏:‏ أَقْدِمْ حَيْزُوم، إذْ نَظَرَ إلَى المُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسَتَلْقِياً، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَإذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذلِكَ أجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِىُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثالث‏)‏‏.‏

وقال أبو داود المَازِنى‏:‏ ‏(‏إنِّى لأتْبَعُ رَجُلاً مِن المُشْرِكِينَ لأَضْرِبَه، إذْ وَقَع رَأْسُه قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِى، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِى‏)‏ ‏.‏

وجاء رجلٌ مِن الأنصار بالعبَّاسِ بنِ عبد المطلب أسيرَاً، فقال العباسُ‏:‏ إنَّ هذا واللهِ ما أسرنى، لقد أسرنى رجل أجلح، مِن أحسن النَّاسِ وجهاً، على فرسٍ أبْلَق، ما أراه في القومِ، فقال الأنصارى‏:‏ أنا أسرتُه يا رسول اللهِ، فقال‏:‏ ‏(‏اسْكُتْ فَقَدْ أيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ‏)‏‏.‏ وأُسِر من بنى عبد المطلب ثلاثة‏:‏ العباسُ، وعقيلٌ، ونوفل بن الحارث‏.‏

وذكر الطبرانى في ‏(‏معجمه الكبير‏)‏ عن رِفاعة بن رافع، قال‏:‏ ‏(‏لما رأى إبليسُ ما تفعَلُ الملائكةُ بالمشرِكِينَ يومَ بدر، أشفق أن يَخْلُصَ القتلَ إليه، فتشبَّثَ بِهِ الحارث بن هشام، وهو يظنُّه سُراقَةَ بِنَ مالك، فوكز في صَدْرِ الحارث فألقاه، ثم خَرَجَ هارباً حتى ألقى نفسَه في البحر، ورفع يديه وقال‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إيَّاى، وخاف أن يخلُصَ إليه القتل، فأقبل أبو جهل بن هشام، فقال‏:‏ يا معشر النَّاسِ؛ لا يَهْزِمَنَّكُم خِذْلانُ سُرَاقَةَ إيَّاكُم، فإنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعاد مِنْ مُحَمَّدِ، ولا يَهولَنَّكُم قَتْلُ عُتْبَةَ وشَيْبَةَ والوَلِيدِ، فإنَّهُم قد عجلوا، فواللاَّتِ والعُزَّى، لا نرجِعُ حتى نَقْرِنَهُم بالحِبال، ولا أُلفِيَنَّ رَجُلاً مِنْكُم قَتَلَ رجلاً مِنهم، ولكن خُذوهم أخذاً حتى نُعرِّفَهم سوء صنيعهم‏.‏

واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم، فقال‏:‏ اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه فأَحِنْهُ الغداة، اللَّهُمَ أيُّنَا كان أحبَّ إليكَ، وأرضى عِنْدَكَ، فانصره اليومَ، فأنزل الله عَزَّ وجَلّ‏:‏ ‏{‏إن تَسْتَـفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإن تَنْتَهُـواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِىَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ولَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 19‏]‏‏.‏

ولما وضع المسلمون أيدَيهم في العدو يقتلون ويأسِرون، وسعدُ بن معاذ واقفٌ على باب الخيمة التي فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهى العَرِيشُ متوشِّحاً بالسيف في ناسٍ مِن الأنصار، رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وجهِ سعدِ بنِ معاذ الكراهية لما يصنَعُ الناسُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كأنَّكَ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ أجَلْ واللهِ، كانت أولَ وقعةٍ أوقعها الله بالمشركين، وكان الإثخانُ في القتل أحبَّ إلىَّ من استبقاء الرجال‏.‏

ولما بردت الحربُ، وولَّى القومُ منهزمينَ، قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ‏)‏ ‏؟‏ فانطلق ابنُ مسعودٍ، فوجَدَهُ قد ضَرَبَهُ ابنا عَفْراء حتَّى بَرَدَ، وأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فقال‏:‏ أنْتَ أَبُو جَهْلٍ ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لِمَن الدَّائِرةُ اليوم ‏؟‏ فقال‏:‏ للهِ وَلِرَسوله، وهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ ‏؟‏ فقال‏:‏ وهل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ ‏؟‏ فَقَتَلَهُ عبدُ اللهِ، ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ قتلتُه، فقال‏:‏ ‏(‏اللهِ الذي لا إله إلا هُو‏)‏ فردَّدَهَا ثلاثاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه‏)‏ فانطلقنا فأريته إياه، فقال‏:‏ ‏(‏هذا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ‏)‏‏.‏

وأسر عبدُ الرحمن بنُ عوف أُميَّةَ بن خلف، وابنَه علياً، فأبصره بلالٌ، وكان أُميَّةُ يُعذِّبُه بمكة، فقال‏:‏ رأسُ الكفر أُمية بن خلف، لا نَجَوْتُ إن نَجَا، ثم اسْتَوْخَى جماعةً مِنَ الأنْصَارِ، واشتد عبد الرحمن بهما يُحرِزهما مِنهم، فأدركُوهم، فشغَلَهم عَنْ أُميَّة بابنه، ففَرَغُوا مِنْه، ثم لَحِقُوهما، فقالَ لَهُ عَبْدُ الرحمن‏:‏ ابرُك، فَبَرَكَ فأَلْقَى نَفْسَه عَلَيْهِ، فَضَربُوهُ بالسُّـيُوفِ مِنْ تَحتِه حَتَّى قَتَلُوهُ، وأصابَ بعضُ السيوف رِجْلَ عبد الرحمن بن عوف، قال له أُمية قبل ذلك‏:‏ مَن الرَّجُلُ المُعَلَّمُ في صَدْرهِ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ذَلِكَ حمزةُ بنُ عبد المطلب‏.‏ فقال‏:‏ ذَاكَ الذي فَعَلَ بِنَا الأفاعِيلَ، وَكانَ مع عبد الرحمن أدراعٌ قد استلبها، فلما رآه أُميَّةُ قال له‏:‏ أنا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هذه الأدراع، فألقَاهَا وأخذه، فَلَمَّا قتله الأنْصَارُ، كَانَ يَقُولُ‏:‏ يَرْحَمُ اللهُ بِلالاً، فَجَعَنِى، بأدْرَاعِى وبِأَسِيرى‏.‏

وانقطع يومئذ سيفُ عُكَّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ، فأعطاهُ النبىُّ صلى الله عليه وسلم جِذْلاً مِنْ حَطَبٍ،

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏دُونَكَ هذَا‏)‏، فلما أخذه عُكَّاشَةُ وهزَّه، عاد في يده سيفاً طويلاً شديداً أبيض، فلم يزل عنده يُقاتِلُ به حتَّى قُتِلَ في الرِّدة أيامَ أبى بكر‏.‏

ولقى الزبيرُ عُبيدةَ بن سعيد بنِ العاص، وهو مُدَجَّجٌ في السلاح لا يُرَى مِنه إلا الحَدَقُ، فحمل عليه الزبيرُ بحربته، فطعنه في عَينه، فمات، فوضع رجله على الحربة، ثم تمطَّى، فكان الجَهْدُ أن نزعها، وقد انثنى طرفاها، قال عروة‏:‏ فسأله إياها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياها، فلما قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أخذَها، ثم طَلَبها أبُو بكر، فأَعطَاه إياها، فلما قُبِض أبو بكر، سأله إيَّاها عمر، فأعطاه إياها، فلما قُبِض عُمرُ، أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه إياها، فلما قُبضَ عثمانُ، وقعت عِند آلِ علىّ، فطلبها عبدُ الله بن الزبير، وكانت عنده حتى قُتِلَ‏.‏

وقال رِفاعةُ بنُ رافع‏:‏ ‏(‏رُمِيتُ بسهمٍ يومَ بدر، فَفُقِئَتْ عينىِ، فَبَصَقَ فيها رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودعا لى، فما آذانى منها شئ‏)‏‏.‏

ولما انقضتِ الحربُ، أقبلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وقَفَ عَلَى القَتْلَى فقال‏:‏ ‏(‏بِئْسَ عَشيرةُ النبى كُنْتُم لِنَبِّيكُم، كَذَّبْتُمُونى، وصَدَّقَنى النَّاسُ، وخَذَلْتَمونى ونَصَرَنى النَّاسُ، وأَخْرَجْتمُونى وآوانى النَّاسُ‏)‏‏.‏

ثم أمر بهم، فسُحِبوا إلى قَلِيبٍ مِن قُلُب بدر، فطُرِحُوا فيه، ثم وقف عليهم، فقال‏:‏ ‏(‏يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ويا شَيْبَةَ بْنَ رَبيعَةَ، ويا فلانُ، ويا فُلانُ، هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ ربُّكم حَقًّاً، فَإنِّى وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِى رَبِّى حَقًّاً‏)‏، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب‏:‏ يا رَسُولَ اللهِ ؛ ما تُخَاطِبُ مِنْ أقوام قَدْ جَيَّفُوا ‏؟‏ فقالَ‏:‏ ‏(‏والذي نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُم، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الجَوَابَ‏)‏، ثم أقامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالعَرْصَةِ ثَلاثاً، وكان إذا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِم ثلاثاً‏.‏

ثم ارتحل مؤيَّداً منصوراً، قريرَ العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانمُ، فلما كان بالصَّفراء، قسمَ الغنائم، وضرب عُنُقَ النَّضْرِ بن الحارث بن كلدة، ثُمَّ لما نَزَلَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، ضرب عُنُقَ عُقبةَ بن أبى مُعَيْطٍ‏.‏

ودخل النبى صلى الله عليه وسلم المدينةَ مؤيَّداً مظفَّراً منصوراً قد خافه كُلُّ عدوٍ له بالمدينة وحولَها، فأسلم بَشَر كثير مِن أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أُبَىٍّ المنافقُ وأصحابُه في الإسلام ظاهراً‏.‏

ودخل النبى صلى الله عليه وسلم المدينةَ مؤيَّداً مظفَّراً منصوراً قد خافه كُلُّ عدوٍ له بالمدينة وحولَها، فأسلم بَشَر كثير مِن أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أُبَىٍّ المنافقُ وأصحابُه في الإسلام ظاهراً‏.‏

وجملة مَن حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعةَ عشر رجلاً، من المهاجرين ستة وثمانون، ومن الأوس أحدٌ وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون، وإنما قَلّ عَدَد الأوسِ عن الخزرج، وإن كانوا أشدَّ منهم، وأقوى شوكَةً، وأصبرَ عند اللِّقاء، لأن منازِلهم كانت في عوالى المدينة، وجاء النفيرُ بغتةً، وقال النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَتْبَعُنَا إلاَّ مَنْ كان ظَهْرُهُ حَاضِراً‏)‏، فاستأذنه رِجالٌ ظُهورُهم في عُلو المدينة أن يستأنىَ بهم حتى يذهبُوا إلى ظهورهم، فأبى ولم يَكُن عَزْمُهُم عَلَى اللِّقَاءِ، ولا أعدُّوا لهُ عدته، ولا تأهبوا له أهبتَه، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد‏.‏

واستشهد من المسلمين يومئذ أربعةَ عشرَ رجلاً‏:‏ ستةٌ من المهاجرينَ، وستة من الخزرج، واثنانِ من الأوس، وفرغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر والأسارى في شوَّال‏.‏

فصل‏:‏ في غزوة بنى سليم

ثم نهض بنفسه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه بعد فراغه بسبعةِ أيَّامٍ إلى غَزو بنى سُليم، واستعمل على المدينةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ‏.‏ وقيل‏:‏ ابنَ أُمِّ مكتومٌ، فبلغ ماءً يقال له‏:‏ الكُدْرُ، فأقام عليه ثلاثاً، ثم انصرف، ولم يلق كيداً‏.‏

فصل

ولما رجع فَلُّ المشرِكِينَ إلى مكَّةَ موتُورين، محزونين، نَذَرَ أبو سفيان أن لا يَمَسَّ رأسَه ماءٌ حتى يغزوَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائتى راكِبٍ، حتى أتى العُرَيْضَ في طرفِ المدينة، وبات ليلةً واحدة عند سلام بن مِشْكَم اليهودى، فسقاه الخمرَ، وبَطَنَ له مِن خبر الناس، فلما أصبح، قطع أصْواراً مِنَ النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ثم كرَّ راجعاً، ونَذِرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في طلبه، فبلغ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ، وفاته أبو سفيان، وطرحَ الكفارُ سويقاً كثيراً مِن أزوادِهم يتخفَّفُونَ به، فأخذها المسلمون، فَسُمِّيِتْ غزوةَ السويق، وكان ذلك بعد بدر بشهرين‏.‏

فأقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ بَقيَّةَ ذى الحِجَّة، ثم غزا نجداً يُرِيدُ غطفان، واستعملَ على المدينةِ عُثمانَ بنَ عفان رضى الله عنه، فأقام هُناك صَفَرَاً كُلَّهَ مِن السنة الثالثة، ثم انصرف، ولم يلق حرباً‏.‏

فصل

أقامَ بالمدينة ربيعاً الأول، ثم خرجَ يُريدُ قريشاً، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتوم، فبلغ بُحرَانَ مَعْدِناً بالحِجَازِ من ناحية الفُرْع، ولم يَلْقَ حَرباً، فأقَام هُنَالك ربيعاً الآخر، وجُمادَى الأولى، ثم انصرف إلى المدينة‏.‏

فصل‏:‏ في غزوة بنى قَيْنُقَاع

ثم غزا بنى قَيْنُقَاع، وكانُوا مِن يهودِ المدينة، فنقضُوا عهدَه، فحاصرهم خمسة عشرَ ليلةً حتى نزلُوا على حُكمه، فَشَفَعَ فيهم عبدُ اللهِ بن أُبَىّ، وألحَّ عليه، فأطلقهم له، وهم قومُ عبدِ الله بن سلام، وكانوا سَبعمائة مقاتل، وكانوا صاغة وتجاراً‏.‏

فصل‏:‏ في قتل كعب بن الأشرف

وكان رجلاً مِن اليهود ، وأُمُّه مِن بنى النضير، وكان شديدَ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يُشَبِّبُ في أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعةُ بدر، ذهب إلى مكة، وجعل يُؤَلِّبُ على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فإنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ ورَسُولَهُ ‏)‏، فانتدب له محمدُ بنُ مَسْلَمَة، وعَبَّادُ بْنُ بِشْر، وأبو نَائِلة واسمه سِلْكَانُ بْنُ سلامة، وهو أخو كعبٍ من الرضاع، والحارث بن أوس، وأَبُو عَبْسِ بنُ جَبر، وأذن لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ما شاؤوا مِنْ كلام يخدعونه به، فذهبوا إليه في ليلة مُقْمِرَةٍ، وشيَّعهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بَقيع الغَرْقَدِ، فلما انْتَهوا إليه، قدَّموا سِلْكَانَ بْنَ سَلاَمة إليه، فأظهر له موافقته على الانحرافِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وشَكا إليه ضِيقَ حاله، فكلَّمَهُ في أن يَبيعه وأصحابَه طعاماً، ويَرْهَنُونَه سِلاحَهم، فأجابَهم إلى ذلك‏.‏

وَرَجَع سِلْكَان إلى أصحابه، فأخبرهم، فأتوْه، فخرج إليه مِن حِصنه، فَتَماشَوْا، فوضَعُوا عليه سُيُوفَهم، ووضع محمدُّ بن مَسْلَمَة مِغْولاً كان معه في ثُنَّتِهٍ، فقتله، وصاحَ عدوُّ الله صيحةً شديدة أفزعت مَنْ حوله‏.‏ وأوقدوا النيرانَ، وجاء الوفدُ حتى قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، وهو قائم يُصلى، وجُرِحَ الحارث بن أوس ببعض سيوفِ أصحابه، فتفل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فبرئ، فَأَذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قتل مَنْ وجد مِن اليهود لنقضهم عهده ومحاربتِهم الله ورسوله‏.‏

فصل‏:‏ في غزوة أُحُد

ولما قتل الله أشرافَ قريشٍ ببدر، وأُصيبُوا بمصيبةٍ لم يُصابُوا بمثلها، ورَأَسَ فيهم أبو سفيانَ بنُ حربٍ لِذهاب أكابرهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطرافِ المدينة في غزوة السَّويق، ولم يَنَلْ ما في نفسه، أخذ يُؤلِّبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، ويجمِّع الجموعَ، فجمع قريباً مِن ثلاثةِ آلافٍ من قريش، والحلفاء، والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئِلا يَفِرُّوا، وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحوَ المدينة، فنزل قريباً من جبل أُحُد بمكان يقال لهُ‏:‏ عَيْنَيْنِ، وذلك في شوَّال مِن السنة الثالثةِ،

واستشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابًَه أَيخرُج إليهم، أم يمكثُ في المدينة ‏؟‏ وكان رأُيُه ألا يخرجُوا من المدينة، وأن يتحصَّنُوا بها، فإن دخلوها، قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنِّساء مِن فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأى عبدُ الله بن أُبَىّ، وكان هو الرأىَ، فبادر جماعةٌ مِن فُضلاء الصحابة ممن فاته الخروجُ يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وأَلحُّوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أُبَىّ بالمُقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعضُ الصحابةِ، فألحَّ أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهض ودخل بيته ، ولَبِسَ لأْمَتَهُ، وخرج عليهم، وقد انثنى عزمُ أُولئك، وقالوا‏:‏ أكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الخُروج، فقالوا‏:‏ يا رسولَ الله؛ إن أحببتَ أن تَمْكُثَ في المدينة فافعَلْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا يَنبَغِى لِنَبِىٍّ إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عدوِّه‏)‏‏.‏

فخرج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة، واستعمل ابنَ أُمِّ مكتُوم على الصلاة بمن بقى في المدينة، وكان رسولُ الله رأى رؤيا، وهو بالمدينةِ، رأى أن في سيفِه ثُلْمَةً، ورأى أن بقراً تُذبح، وأنه أدخل يده في درع حَصِينةٍ، فتأوَّل الثُّلمة في سيفه برجل يُصاب مِن أهل بيته، وتأوَّل البقرَ بِنَفَرٍ من أصحابه يُقتلون، وتأوَّل الدِّرع بالمدينة‏.‏

فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشَّوْط بَيْنَ المدينةِ وأُحُد، انخزَلَ عبدُ الله ابن أُبَىّ بنحو ثُلثِ العسكر، وقال‏:‏ تُخالفنى وتسمَعُ مِن غيرى، فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله يوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع، ويقول‏:‏ تعَالَوْا قاتِلُوا في سبيل الله، أو ادفعوا‏.‏ قالوا‏:‏ لو نَعلَمُ أنكم تُقاتلون، لم نرجع، فرجع عنهم، وسبَّهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحُلفائهم مِن يهود، فأبى، وسلك حرَّة بنى حارثة، وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى القَوْمِ مِنْ كَثَبٍ‏)‏ ‏؟‏، فخرج به بعضُ الأنصارِ حتى سلَك في حائط لِبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو الترابَ في وجوه المسلمين ويقول‏:‏ لا أُحِلُّ لكَ أن تدخُلَ في حائطى إن كنتَ رسولَ اللهِ ، فابتدره القومُ لِيقتلوه، فقال‏:‏ ‏(‏لا تقتُلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصرِ‏)‏‏.‏

ونفذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلَ الشِّعبَ مِن أُحُد في عُدْوَةِ الوَادِى، وجعلَ ظهرَه إلى أُحُد، ونهى الناسَ عَنِ القِتَال حتى يأمرهمْ، فلما أصبحَ يومَ السبت، تَعَبَّى للقتال، وهو في سبعِمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرُّماة وكانوا خمسين عبدَ الله بن جُبير، وأمره وأصحابَه أن يَلزمُوا مركزهم، وألا يُفارقُوه، ولو رأى الطيرَ تتخطفُ العسكر، وكانوا خلفَ الجيش، وأمرَهُم أنْ يَنْضَحُوا المُشرِكِينَ بالنَّبْلِ، لِئَلا يأتُوا المُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِم‏.‏

فظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ دِرعَيْن يومئِذٍ، وأعطى اللِّواء مُصْعَبَ بنَ عُمير، وجعل على إحدى المجَنِّبَتَيْنِ الزبيرَ بنَ العوام، وعلى الأخرى المُنذرَ بنَ عمرو، واستعرض الشبابَ يومئذٍ، فردَّ مَن استصغره عن القتال، وكان منهم عبدُ الله بنُ عمر، وأُسامَة بن زيد، وأُسَيْدُ بن ظَهِيرٍ، والبراءُ بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيدُ بن ثابت، وعَرَابةُ بن أوس، وعمرو بنُ حَزْمٍ، وأجازَ مَن رآهُ مُطِيقاً، وكان مِنهم سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ، ورافعُ بن خَديج، ولهما خمسَ عشْرة سنة‏.‏ فقيل‏:‏ أجاز مَن أجاز لبلوغه بالسِّنِّ خمس عشرة سنةً، وردَّ مَن رَدَّ لِصغره عن سِنِّ البُلُوغ، وقالت طائفة‏:‏ إنما أجازَ مَنْ أجاز لإطاقته، وردَّ مَن رَدَّ لِعدم إطاقته، ولا تأثيرَ للبلوغ وعدمِه في ذلك قالوا‏:‏ وفى بعض ألفاظ حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏ فلمَّا رَآنى مُطِيقاً أَجَازَنى ‏)‏‏.‏

وتعبَّتْ قريشٌ للقتال، وهم في ثلاثةِ آلافٍ، وفيهم مائتا فارسٍ، فجعلوا على ميمنتهم خالدَ بن الوليـد، وعلى الميسرةِ عِكرمةَ بنَ أبى جهل، ودفعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه إلى أبى دُجَانَة سِمَاكِ بن خَرَشَةَ، وكان شُجاعاً بطلاً يَخْتَالُ عِند الحرب‏.‏

وكان أوَّلَ مَنْ بَدَر مِن المشركين أبو عامر الفاسِقُ، واسمه عبد عَمْرِو بن صَيْفِى، وكان يُسمَّى ‏(‏ الرَّاهبَ ‏)‏، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسِقَ، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ، شَرِقَ به، وجاهَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعَدَاوة، فخرج مِنَ المدينة، وذهب إلى قُريش يُوَلِّبُهُم عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ويحضُّهم على قِتاله، ووعدَهم بأن قومَه إذا رأوه أطاعُوه، ومالُوا معه، فكان أوَّل مَنْ لَقِىَ المسلمينَ، فنادى قومَه، وتعرَّف إليهم، فَقَالُوا له‏:‏ لا أنعم اللهُ بكَ عيناً يَا فَاسِقُ، فقال‏:‏ لقد أصابَ قومى بعدى شرٌ، ثم قاتل المسلمين قِتالاً شديداً، وكان شِعارُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ‏:‏ أَمِتْ‏.‏

وأبلى يومئذ أبو دُجَانَةَ الأنصارىُّ، وطلحةُ بنُ عبيد الله، وأسدُ الله وأسدُ رسوله حمزةُ بنُ عبد المطَّلب، وعلىُّ بنُ أبى طالب، وأنسُ بن النضر، وسعدُ بنُ الربيع‏.‏

وكانت الدولةُ أوَّلَ النهارِ للمسلمين على الكفَّار، فانهزم عدوُّ اللهِ ، وولَّوا مُدْبِرينَ حتى انتَهَوْا إلى نِسائهم، فلما رأى الرُمَاةُ هزيمتَهم، تركوا مركَزَهم الذي أمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، وقالوا‏:‏ يا قومُ الغنيمةَ، فذكَّرهم أميرُهم عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعُوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعةٌ، فذهبُوا في طلب الغنيمةِ، وأخْلُوا الثَّغْرَ، وكرَّ فُرسَانُ المشركين، فوجدوا الثَّغْر خالياً، قد خلا مِن الرُّماة، فجازُوا منه، وتَمكَّنُوا حتى أقبل آخِرهُم، فأحاطُوا بالمسلمين، فأكرم اللهُ مَنْ أكرمَ منهم بالشهادة، وهم سبعون ، وتولَّى الصَّحَابة،

وخلَصَ المشركون إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فجرحُوا وجهَه، وكسروا رَباعِيَّتَه اليُمْنى، وكانت السُّفلى، وهَشَمُوا البيضة على رأسه ورمَوْهُ بالحِجَارة حتى وقع لِشقه، وسقط في حُفرة مِن الحُفَرِ التي كان أبو عامر الفاسِقُ يَكيدُ بها المسلمين، فأخذ علىُّ بيده، واحتضنه طلحةُ بنُ عُبيد الله، وكان الذي تولَّى أذاه صلى الله عليه وسلم عَمْرُو بنُ قَمِئَةَ، وعُتُبَةُ بنُ أبى وقاص، وقيل‏:‏ إن عبد الله بن شهاب الزهرىَّ، عمّ محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، هو الذي شجَّهُ‏.‏

وقُتِلَ مصعبُ بن عمير بين يديه، فدفع اللِّواء إلى علىِّ بن أبى طالب، ونشبت حَلَقَتَانِ مِن حلق المِغْفَرِ في وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجرَّاح، وعضَّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه مِن شدَّةِ غوصِهِمَا في وجْهِهِ

وامتصَّ مَالكُ بنُ سنان والد أبى سعيد الخدرى الدَّمَ مِن وجنته، وأدركه المشركون يُريدُونَ ما اللهُ حائلٌ بينَهُم وبينَه، فحال دُونَه نفرٌ مِن المسلمين نحو عشرة حتى قُتِلُوا، ثم جالدهم طلحةُ حتى أجهضهم عنه، وترَّسَ أبو دُجانة عليه بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرَّك، وأصيبت يومئذ عينُ قتادة بن النعمان، فأتى بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فردَّها عليه بيده، وكانَتْ أصحَّ عينيه وأحسنَهما، وصرخ الشيطانُ بأعلى صوتِهِ‏:‏ إنَّ محمداً قَد قُتِلَ، ووقع ذلك في قلوب كثيرٍ من المسلمين، وفرَّ أكثرُهم، وكان أمرُ الله قدراً مقدوراً‏.‏

ومر أنسُ بنُ النَّضر بقوم من المسلمين قد ألقَوا بأيديهم، فقال‏:‏ ما تنتظِرُونَ ‏؟‏ فقالوا‏:‏ قُتِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ ما تَصْنَعُونَ في الحياة بعده ‏؟‏ قومُوا فموتُوا على ما مَاتَ عليه، ثم استقبلَ الناسَ، ولقى سعدَ بنَ معاذ فقال‏:‏ يَا سَعْدُ؛ إنى لأَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ مِنْ دُونِ أُحُد، فقاتل حتى قُتِلَ، ووُجِدَ به سبعونَ ضَربة،

وجُرِحَ يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحواً من عشرينَ جِراحة‏.‏

وأقبل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَ المسلمين، وكان أوَّل مَن عرفه تحتَ المِغْفَرِ كعبُ بن مالك، فصاحَ بأعلى صوته‏:‏ يا معشرَ المسلمين؛ أَبْشِرُوا هذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اسْكُت، واجتمع إليه المسلمونَ ونهضُوا معه إلى الشِّعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلى، والحارث بنُ الصِّمَّة الأنصارى وغيرُهم، فلما استندوا إلى الجبل، أدركَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُبىُّ بنُ خَلَف على جواد له يُقال له‏:‏ العَوْذ، زعم عدوُّ اللهِ أنه يقتُل عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه، تناول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحربةَ مِن الحارث بنً الصِّمَّةِ، فطعنَه بها فجاءت في تَرْقُوتِهِ، فكرَّ عدوُّ الله منهزِمَاً، فقال له المشركون‏:‏ واللهِ ما بك من بأسٍ، فقال‏:‏ واللهِ لو كان ما بى بأهلِ ذِى المَجَازِ، لماتُوا أجمعُون، وكانَ يَعْلِفُ فرسَه بمكةَ ويقولُ‏:‏ أقْتُلُ عليه محمداً، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏ بَلْ أنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ‏)‏ فلما طعنَه، تَذكَّر عدوُّ الله قوله‏:‏ ‏(‏ أنا قاتِلهُ ‏)‏، فأيقن بأنه مقتول مِن ذلك الجرح، فمات منه في طريقه بِسَرِفَ مَرْجِعَهُ إلى مكَّةَ‏.‏

وجاءَ علىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليشرب منه، فوجده آجناً، فرده، وغسل عن وجهه الدم، وصبَّ على رأسه، فأراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعلُوَ صخرةً هُنالك، فلم يَسْتَطِع لِما به، فجلس طلحةُ تحتَه حتى صَعِدَهَا، وحانتِ الصلاةُ، فصلَّى بهم جالساً، وصار رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم تحتَ لِواء الأنصار‏.‏

وشدَّ حنظلةُ الغسيل وهو حنظلةُ بن أبى عامر على أبى سفيان، فلما تمكَّن منه، حَمَلَ على حنظلة شَدَّادُ بنُ الأسود فقتله، وكان جُنُباً، فإنه سَمِعَ الصَّيْحَـةَ، وهو على امرأته، فقَامَ مِن فَوره إلى الجهاد، فأخبرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَهُ‏:‏ ‏(‏ أنَّ المَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ ‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ سَلُوا أَهْلَهُ‏:‏ مَا شَأْنُهُ ‏)‏ ‏؟‏ فسألُوا امرأته، فَأَخْبَرَتْهُمُ الخَبَرَ‏.‏ وجعل الفقهاءُ هذا حُجة، أن الشهيدَ إذا قُتِلَ جُنباً، يُغسَّل اقتداءً بالملائكة‏.‏

وقتل المسلمون حامِلَ لواءِ المشركينَ، فرفَعَتْهُ لهم عَمْرَةُ بنتُ علقمةَ الحارِثِيَّة، حتى اجتمعوا إليه، وقاتلت أُمُّ عُمارة، وهى نُسيبة بنتُ كعب المازنية قِتالاً شديداً، وَضَرَبَتْ عمرَو بن قَمِئَةَ بالسَّيْفِ ضَرَبَاتٍ فَوَقَتْهُ دِرعانِ كانتا عليه، وضربها عمرو بالسِّيْفِ، فجرحها جُرحاً شديداً على عاتقها‏.‏

وكان عمرو بن ثابتِ المعروفُ بالأُصَيْرم من بنى عبد الأشهل يأبى الإسلامَ، فلما كان يَوْمَ أُحُدٍ، قذف اللهُ الإسلامَ في قلبه للحُسْنى التي سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفَه، ولَحِقَ بالنبى صلى الله عليه وسلم، فقَاتل فأُثْبِتَ بالجِرَاحِ، ولم يعلم أحدٌ بأمره، فلما انجلت الحرب، طاف بنو عبد الأشهل في القتلى، يلتمِسُون قتلاهم، فوجَدوا الأُصَيْرمَ وبهِ رَمَقٌ يسير، فقالوا‏:‏ واللهِ إن هذا الأصيرمَ، ما جاء به ‏؟‏ لقد تركناه وإنه لَمُنْكِرٌ لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك ‏؟‏ أَحَدَبٌ عَلى قَوْمِكَ، أم رغبةٌ في الإسلام ‏؟‏ فقال‏:‏ بل رغبةٌ في الإسلام، آمنتُ باللهِ ورسوله، ثم قاتلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابنى ما تَرَوْنَ، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏ هُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ‏)‏‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ ولم يُصَلِّ للهِ صَلاَةً قَطُّ‏.‏

ولما انقضَتِ الحربُ، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى‏:‏ أفيكُم محمد ‏؟‏ فلم يُجيبُوهُ، فقال‏:‏ أفيكُمُ ابنُ أبى قُحَافة ‏؟‏ فلم يُجيبوه‏.‏ فقال‏:‏ أفيكُم عُمرُ بنُ الخطاب ‏؟‏ فلم يجيبوه، ولم يَسْأَلْ إلاَّ عن هؤلاء الثلاثة لِعلمه وعِلم قومه أن قِوَامَ الإسلام بهم، فقال‏:‏ أمَّا هَؤلاء، فقد كُفيتُموهم، فلم يَملِكُ عُمَر نفسَه أن قال‏:‏ يَا عَدُوَّ اللهِ؛ إنَّ الَّذِينَ ذكرتَهُمْ أحياءٌ، وقد أبقى اللهُ لَكَ ما يَسُوءُكَ، فقال‏:‏ قَدْ كان في القوم مُثْلَةٌ لم آمُر بها، ولم تسؤْنى، ثم قال‏:‏ أعْلُ هُبَلُ‏.‏ فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ ألا تُجِيبُونَه ‏)‏ ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ ما نقُولُ ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ قُولُوا‏:‏ اللهُ أَعْلَى وأَجَلُّ ‏)‏، ثم قال‏:‏ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لكم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ ألا تُجِيبُونَه ‏)‏ ‏؟‏ قالُوا‏:‏ ما نقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ قولُوا‏:‏ اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكم ‏)‏‏.‏ فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبِشرْكِهِ تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة مَنْ عبده المسلمون، وقوةِ جانبه، وأنه لا يُغلب، ونحن حزبُه وجُنده، ولم يأمرهم بإجابته حين قال‏:‏ أفيكم محمد ‏؟‏ أفيكم ابنُ أبى قُحافة ‏؟‏ أفيكم عمر ‏؟‏ بل قد رُوى أنه نهاهم عن إجابته، وقال‏:‏ ‏(‏ لا تُجيبوه ‏)‏، لأن كَلْمَهُمْ لم يكن بَرَدَ بَعْدُ في طلب القوم، ونارُ غيظهم بعد متوقِّدة، فلما قال لأصحابه‏:‏ أما هؤلاء فقد كُفيتموهم، حمىَ عمر بنُ الخطاب، واشتد غضبُه وقال‏:‏ كذبْت يا عدوَّ الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة، وعدمِ الجُبن، والتعرفِ إلى العدو في تلك الحال، ما يُوذِنُهم بقوة القوم وبَسالتهم، وأنهم لم يَهِنُوا ولم يَضْعُفُوا، وأنه وقومَه جديرون بعدم الخوفِ منهم، وقد أبقى اللهُ لهم ما يسوؤهُم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنَّهِ وظنِّ قومه أنهم قد أُصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحِزبِهِ، والفتِّ في عَضُدِهِ ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداً، فكان سؤالُه عنهم، ونعيُهم لِقومه آخِر سهام العدو وكيده، فصبر له النبىُّ صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عُمَرُ، فرد سِهَام كيدِهِ عليه، وكان تركُ الجوابِ أولاً عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانةً له، وتصغيراً لشأنه، فلما منَّته نفسُه موتَهم، وظنَّ أنهم قد قتِلُوا، وحصل بذلك من الكِبر والأشر ما حصل، كان في جوابه إهانةٌ له، وتحقيرٌ، وإذلالٌ، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ لا تُجِيبُوه ‏)‏، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل‏:‏ أفيكم محمّدٌ ‏؟‏ أفيكم فلانٌ ‏؟‏ أفيكم فلانٌ ‏؟‏ ولم ينه عن إجابته حين قال‏:‏ أما هؤلاء، فقَد قُتِلُوا، وبكل حال، فلا أحسنَ من ترك إجابته أولاً، ولا أحسنَ من إجابته ثانياً‏.‏

ثمَّ قال أبو سفيان‏:‏ يَوْمٌ بِيوم بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ، فأجابه عُمَرُ فقال‏:‏ لاَ سَوَاء، قَتْلانَا في الجَنَّةِ، وَقَتْلاكُمْ في النَّارِ‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ما نُصِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مَوْطِنٍ نَصْرَه يَوْمَ أُحُد، فأُنْكِرَ ذلِكَ عليه، فَقَالَ‏:‏ بينى وبَيْنَ من يُنكِرُ كِتابُ الله، إنَّ الله يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏، قال ابنُ عباس‏:‏ والحَسُّ‏:‏ القتلُ، ولقد كان لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولأصحابه أوَّلُ النهار حَتَّى قُتِلَ مِن أصحابِ المشركينَ سبعةٌ أو تسعةٌ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏

وأنزل اللهُ عليهم النُّعاسَ أمنةً مِنْهُ في غَزاةِ بدرٍ وأُحُدٍ، والنعاسُ في الحرب وعند الخوفِ دليل على الأمنِ، وهو من الله، وفى الصَّلاة ومجالِس الذكر والعِلم مِن الشيطان‏.‏

وقاتلت الملائكةُ يومَ أُحُدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏‏:‏ عن سعدِ بن أبى وقاص، قال‏:‏ ‏(‏ رأيتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقََاتِلانِ عَنْهُ، عليهمَا ثِيَابٌ بِيْضٌ كَأَشَدِّ القِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم، أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأنصارِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فلما رَهِقُوه، قَالَ‏:‏ ‏(‏ مَنْ يَرُدُّهمْ عَنَّا، وَلَهُ الجَنَّة ‏)‏، أو ‏(‏ هُوَ رفِيقى في الجَنَّةِ ‏)‏ ‏؟‏ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثم رَهِقُوهُ، فقال‏:‏ ‏(‏ مَنْ يَرُدُّهُم عنَّا، ولهُ الجَنَّةُ ‏)‏، أَو ‏(‏ هُوَ رَفِيقى في الجنَّة ‏)‏، فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا ‏)‏، وهذا يُروى على وجهين‏:‏ بسكون الفاء ونصبِ ‏(‏ أصحابنا ‏)‏ على المفعولية، وفتح الفاء ورفع ‏(‏ أصحابنا ‏)‏ على الفاعلية‏.‏

ووجه النصب‏:‏ أن الأنصار لما خرجُوا للقتال واحداً بعد واحد حتى قُتِلُوا، ولم يخرج القرشيان، قال ذلك، أى‏:‏ ما أنصفت قريشٌ الأنصار‏.‏

ووجه الرفع‏:‏ أن يكون المراد بالأصحاب، الذين فرُّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُفْرِدَ في النفر القليل، فَقُتِلُوا واحداً بعد واحد، فلم يُنْصِفُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ ثبت معه‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح ابن حبان ‏)‏ عن عائشة، قالت‏:‏ قال أبو بكر الصِّديقُ‏:‏ لـمَّا كان يومُ أُحُدٍ، انصرفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فكنتُ أوَّلَ مَنْ فَاءَ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فرأيتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلاً يُقَاتِلُ عنه ويَحْمِيه، قلتُ‏:‏ كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبى وأُمِّى، كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبِى وأُمِّى‏.‏ فلم أَنْشَبْ، أَنْ أَدْرَكَنِى أبو عُبَيْدَة بنُ الجرَّاحِ، وإذَا هُوَ يشتَدُّ كأنه طيرٌ حتى لحقنى، فدفعنا إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعاً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ دُونَكُمْ أَخَاكُم فقد أَوْجَبَ ‏)‏، وقد رُمىَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم في جبينه، وروى‏:‏ في وَجْنَتِهِ حتَّى غَابَتْ حَلَقَةٌ مِنَ حَلَقِ المِغْفَرِ في وَجْنَتِهِ، فَذَهَبْتُ لأنْزِعَهَا عَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال أَبُو عبيدة‏:‏ نَشَدْتُك باللهِ يا أبا بكر إلاَّ تَرَكْتَنى ‏؟‏ قال‏:‏ فَأَخَذَ أبو عبيدة السَّهْمَ بفِيه، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْذِىَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ استلَّ السَّهْمَ بفِيه، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبى عُبيدة، قال أبو بكر‏:‏ ثم ذَهَبْتُ لآخُذَ الآخَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة‏:‏ نَشَدْتُكَ باللهِ يا أبا بَكْرٍ، إلا تَركْتَنِى ‏؟‏ قال‏:‏ فَأَخَذَهُ، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ حَتَّى اسْتَلَّهُ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبى عُبَيْدَةَ الأُخْرَى، ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ دُونكُمْ أخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ ‏)‏، قال‏:‏ فأقبلنا عَلَى طلحة نُعالِجُه، وقد أصابته بضعة عَشَر ضربة‏.‏

وفى ‏(‏ مغازى الأموى ‏)‏‏:‏ أن المشرِكِينَ صَعِدُوا على الجبل، فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ‏:‏ ‏(‏ اجنُبْهُمْ ‏)‏ يقول‏:‏ اردُدْهم‏.‏ فقال‏:‏ كيف أَجْنُبُهُمْ وَحْدِى ‏؟‏ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعدٌ سهماً مِن كِنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال‏:‏ ثم أخذتُ سهمى أَعْرِفُهُ، فرميتُ بِهِ آخر فقتلتُه، ثم أخذتُه أعْرِفُه، فرميتُ به آخر فقتلتُه، فهبطُوا مِن مَكَانِهم، فقلتُ‏:‏ هذا سهمٌ مبارك، فجعلته في كِنانتى، فكان عند سعد حتى مات، ثمَّ كان عند بنيه‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن أبى حازم، أنه سئلَ عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏ واللهِ إنِّى لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومَنْ كَانَ يَسْكُبُ المَاءَ، وبِمَا دُووى، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابنتهُ تَغْسِلُه، وعلىُّ بْنُ أبى طَالِبٍ يَسْكُبُ المَاءَ بِالمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أنَّ المَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إلا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قطعة مِنْ حَصيرٍ، فَأَحْرَقٌتَها فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيح ‏)‏‏:‏ أنه كُسِرَت رَبَاعِيتُه، وشُجَّ في رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدمَّ عنه، ويقُول‏:‏ ‏(‏ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نبيِّهمْ، وكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَه، وهُوَ يَدْعُوهم ‏)‏ فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏.‏

ولـمَّا انهزم الناسُ، لم ينهزِمْ أنسُ بنُ النضر‏.‏ وقال‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّى أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يعنى المُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يَعنى المُشْرِكِينَ، ثم تقدَّم، فَلَقِيَه سعدُ بن معاذ، فقال‏:‏ أينَ يا أبا عُمَرُ ‏؟‏ فَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ واهاً لِرِيحِ الجَنَّةِ يَا سَعْدُ، إنِّى أجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، ثُمَّ مَضَى، فَقَاتَلَ القَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَمَا عُرفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُه بِبَنَانِهِ، وَبِهِ بِضْعٌ وثَمَانُونَ، مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَضَرْبَةٍ بًسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ‏.‏

وانهزم المشركون أوَّل النهارِ كما تقدَّم، فصرخ فيهم إبليسُ‏:‏ أىْ عِبادَ الله، أخزاكم اللهُ، فارجِعُوا مِن الهزيمة، فاجتلدوا‏.‏

ونظر حُذيفة إلى أبيهِ، والمُسْلِمُونَ يريدون قتله، وهم يظنُّونه مِن المُشْرِكِينَ، فقال‏:‏ أىْ عِبَادَ اللهِ؛ أبى، فَلَمْ يَفْهَمُوا قولَه حتَّى قتلُوه، فَقَالَ‏:‏ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فأرادَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدِيَه، فَقَالَ‏:‏ قَدْ تَصَدَّقْتُ بديته عَلَى المُسْلِمِينَ، فزادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْراً عِنْدَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال زيدُ بنُ ثابت‏:‏ بعثنى رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ، فقال لى‏:‏ ‏(‏ إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّى السَّلاَمَ، وقُلْ لهُ‏:‏ يقولُ لَكَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كَيْفَ تَجِدُكَ ‏)‏ ‏؟‏ قالَ‏:‏ فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلَى، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَق، وفيه سبعونَ ضربةً، ما بين طعنةٍ برُمح، وضربةٍ بسيف، ورميةٍ بسهم، فقلت‏:‏ يا سعدُ؛ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكَ السَّلامَ، ويقول لك‏:‏ أخبرنى كيف تَجِدُكَ ‏؟‏ فقال‏:‏ وعلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم السلامُ، قل له‏:‏ يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجنة، وقل لقومى الأنصار‏:‏ لا عُذْرَ لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، وفاضَتْ نفسُهُ من وقته‏.‏

ومرَّ رجل مِن المهاجرين برجُل مِن الأنصار، وهو يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ، فقال‏:‏ يا فلانُ؛ أشعرتَ أن محمَّداً قد قُتل ‏؟‏ فقال الأنصَارِىُّ‏:‏ إن كان محمد قد قُتلَ، فقد بلَّغ، فقاتِلُوا عَنْ دِينكم، فنزل‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ الآية‏.‏

وقال عبد الله بن عمرو بن حرام‏:‏ رأيتُ في النَّومِ قَبْلَ أُحُد، مبشِّرَ بنَ عبدِ المنذر يقول لى‏:‏ أنت قادِمٌ علينا في أيَّام، فقلتُ‏:‏ وأين أنتَ ‏؟‏ فقال‏:‏ في الجنة نَسْرَحُ فيها كَيْفَ نشاء، قلت له‏:‏ ألم تُقتَلْ يومَ بدرٍ ‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ثم أُحْيِيْتُ، فذكر ذَلِكَ لِرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَا أبا جَابِر ‏)‏‏.‏

وقال خيثمة أبو سعد، وكان ابنُه استُشْهِدَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر‏:‏‏(‏ لَقَدْ أَخْطَأًَتْنِى وَقْعَةُ بَدْرٍ، وكُنْتُ واللهِ عليها حَرِيصَاً، حتى سَاهَمْتُ ابنى في الخُرُوجِ، فخرجَ سهمُه، فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ، وقد رأيتُ البَارِحَةَ ابنى في النوم في أَحْسَنِ صُورةٍ يَسْرَحُ في ثِمارِ الجَنَّةِ وأَنْهَارِهَا، ويقولُ‏:‏ الْحَقْ بِنَا تُرافِقْنَا في الجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِى رَبِّى حقاً، وقد واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقاً إلى مُرَافَقَتِهِ في الجَنَّةِ، وقَد كَبِرَتْ سِنِّى، وَرَقَّ عَظْمِى، وأحبَبْتُ لِقَاءَ رَبِّى، فَادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقَنى الشَّهَادَة، ومُرافقة سَعْدٍ في الجنَّةِ، فَدَعَا له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيداً‏)‏‏.‏

وقال عبدُ الله بنُ جَحْشٍ في ذلك اليوم‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّى أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقى العَدُوَّ غَدَاً، فَيَقْتُلُونِى، ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِى، ويَجْدعُوا أَنْفِى، وَأُذُنِى، ثُمَّ تَسْأَلُنِى‏:‏ فيمَ ذلِكَ، فَأَقُولُ فيكَ‏.‏

وَكَانَ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ العَرَجِ، وكانَ له أربَعَةُ بَنينَ شَبَاب، يَغْزُونَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذَا غَزَا، فَلمَّا تَوَجَّهَ إلى أُحُدٍ، أرادَ أن يَتَوجَّهَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ‏:‏ إنَّ اللهَ قد جعلَ لك رخصةً، فلو قَعَدْتَ ونحنُ نَكْفِيكَ، وقد وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ، فأتى عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسُولَ اللهِ؛ إنَ بَنِىَّ هؤلاء يمنعُونى أن أخْرُجَ مَعَكَ، وواللهِ إنى لأَرْجُو أن أُسْتَشْهدَ فأطأَ بعَرْجَتِى هذِهِ في الجَنَّةِ، فَقَال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ أمَّا أَنْتَ، فَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ ‏)‏ وَقَالَ لِبَنِيهِ‏:‏ ‏(‏ ومَا عَلَيْكُم أَنْ تَدَعُوهُ، لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ ‏)‏، فخرجَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شهيداً‏.‏

وانتهى أنسُ بنُ النَّضرِ إلى عُمَرَ بنِ الخطاب، وطلحةَ بن عبيد الله في رِجالٍ من المهاجرين والأنصار، وقد ألقَوْا بأيديهِم، فقال‏:‏ ما يُجْلِسُكم ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ قُتِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ فما تَصْنَعُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَهُ ‏؟‏ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ استقبلَ القَوْمَ، فقاتَلَ حتَّى قُتِلَ‏.‏

وأقبل أُبىُّ بنُ خَلَفٍ عَدُوُّ اللهِ، وهو مُقَنَّعٌ في الحديد، يقول‏:‏ لا نجوتُ إنْ نجا محمَّد، وكان

حَلَفَ بمكة أن يقتُل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ، وأبصَرَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَةَ أُبىِّ بْنِ خَلَف مِنْ فُرْجةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْع والبَيْضَةِ، فطعنَه بِحَرْبتِهِ، فوقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فاحتمله أصحابُه، وهو يخُور خُوارَ الثَّورِ، فقالُوا‏:‏ ما أجزعَكَ ‏؟‏ إنمَا هو خَدْشٌ، فذَكر لهم قول النبى صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى ‏)‏ فمات برابغ‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ ‏(‏ إنى لأسيرُ ببطنِ رَابغ بعد هُوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجَّجُ لى، فيممتُها، وإذا رجل يخرج منها في سِلْسِلَة يجتذبُها يصيحُ‏:‏ العطش، وإذا رجلٌ يقول‏:‏ لا تَسْقِهِ، هذا قتيلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، هذا أُبىُّ بنُ خلف ‏)‏‏.‏

وقال نافعُ بن جُبير‏:‏ سمعتُ رجلاً من المهاجرين يقولُ‏:‏ شَهِدْتُ أُحُداً، فنظرتُ إلى النَّبل يأتى من كُلِّ ناحيةٍ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسَطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُصرفُ عنه، ولقد رأيتُ عبدَ اللهِ بن شهاب الزهرى يقول يومئذ‏:‏ دُلُّونى على محمد، لا نجوتُ إن نَجا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزهُ، فعاتبه في ذلك صَفوان، فقال‏:‏ واللهِ ما رأيتُهُ، أَحْلِفُ باللهِ، إنه مِنَّا ممنوعٌ، فخرجنا أربعةً، فتعاهدنا، وتعاقدنا على قتله، فلم نخلُص إلى ذلك‏.‏

ولما مصَّ مالك أبو أبى سَعِيدٍ الخُدْرىّ جرحَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى أنقاهُ، قال له‏:‏ ‏(‏ مُجَّهُ ‏)‏ قال‏:‏ واللهِ لا أَمُجُّهُ أبداً، ثم أدبر، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى هذَا ‏)‏‏.‏

قالَ الزُّهرى، وعاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرُهم‏:‏ كان يومُ أحد يومَ بلاء وتَمحِيص، اختبر اللهُ عَزَّ وجَلَّ به المؤمنين، وأظهر به المنافقين ممن كان يُظْهِرُ الإسلام بلسانِهِ، وهو مُستخفٍ بالكُفر، فأَكْرَمَ اللهُ فيه مَن أراد كرامتَه بالشهادةِ من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن في يوم أُحُد ستون آية مِن آل عمران، أولها‏:‏ ‏{‏وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ إلى آخر القصة‏.‏

فصل‏:‏ فيما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام والفِقه

منها‏:‏ أن الجهادَ يلزمُ الشُّروع فيه، حتى إن مَنْ لَبِسَ لأْمَتَه وَشَرَعَ في أسْبَابِهِ، وتأَهَّبَ لِلخُروج، ليس له أن يَرْجِعَ عن الخروج حتى يُقاتِلَ عدوَّه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يَجِبُ على المسلمين إذا طَرَقَهُمْ عدوُّهم في ديارهم الخروجُ إليه، بل يجوزُ لهم أن يلزمُوا دِيارهم، ويُقاتلوهم فيها إذا كانَ ذلك أنصرَ لهم على عدوِّهم، كما أشار به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليهم يومَ أُحُد‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ سُلُوكِ الإمام بالعسكرِ في بعض أملاك رعيَّته إذا صادفَ ذلك طريقَه، وإن لم يرضَ المالكُ‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يأذنُ لِمن لا يُطيق القِتَالَ من الصبيان غيرِ البالغين، بل يردُّهم إذا خرجوا، كما رد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر ومَن معه‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ الغزوِ بالنساء، والاستعانةُ بِهِنَّ في الجهاد‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ الانغماس في العدو، كما انغمسَ أنسُ بنُ النضر وغيرُه‏.‏

ومنها‏:‏ أن الإمَامَ إذا أصابته جِراحة صلَّى بهم قاعداً، وصلُّوا وراءه قعوداً، كما فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذِهِ الغزوة، واستمرت على ذلك سُـنَّته إلى حين وفاته‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ دعاءِ الرجل أن يُقتَلَ في سَبيل الله، وتمنيه ذلك، وليس هذا من تمنى الموت عنه، كما قال عبد الله بن جحش‏:‏ اللَّهُم لقِّنى من المشركين رجلاً عظيماً كفره، شديداً حَردُه، فأقاتله، فيقتلنى فيك،‏.‏ ويسلبنى، ثم يجدَع أنفى وأُذنى، فإذا لقيتُكَ، فقلتَ‏:‏ يا عبدَ اللهِ

بن جحش، فيم جُدِعْتَ ‏؟‏ قلت‏:‏ فيك يا رَبِّ‏.‏

ومنها‏:‏ أن المسلِمَ إذا قتل نفسه، فهو من أهل النار، لقوله صلى الله عليه وسلم في قُزْمَانَ الذي أبلى يومَ أُحُدٍ بلاءً شديداً، فلما اشتدَّت بِهِ الجِراحُ، نَحَرَ نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن السُّـنَّةَ في الشهيدِ أنه لا يُغَسَّل، ولا يُصلَّى عليه ، ولا يُكَفَّن في غير ثيابه، بل يُدفَن فيها بدمه وكُلومه، إلا أن يُسْلَبَهَا، فيكفَّنَ في غيرها‏.‏

ومنها‏:‏ أنه إذا كان جُنباً، غُسِّلَ كما غسَّلَتِ الملائكةُ حنظلةَ بن أبى عامر‏.‏

ومنها‏:‏ أن السُّـنَّة في الشهداء أن يُدفنوا في مصَارِعهم، ولا يُنقلوا إلى مكان آخر، فإن قوماً من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فنادى منادى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بالأمرِ بَردِّ القتلى إلى مصارعهم، قال جابر‏:‏ بينا أنا في النَّظَّارَةِ، إذ جاءت عمَّتى بأبى وخالى عَادَلَتْهُمَا على ناضِح، فدخَلَتْ بهما المدينة، لنَدْفِنَهُمَا في مقابرنا، وجاء رجل يُنادى‏:‏ ألا إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُـم أن تَرْجِعُوا بِالقَتْلَى، فَتَدْفِنُوهَا في مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ‏.‏ قال‏:‏ فرجعنَا بِهِمَا، فدفنَّاهما في القتلى حيثُ قُتِلا، فبينا أنا في خلافةِ معاويةَ بنِ أبى سُفيان، إذ جاءنى رجلٌ، فقال‏:‏ يا جابرُ؛ واللهِ لقد أثار أَبَاكَ عُمَّالُ معاويَة فبدا، فخَرجَ طائفة منه، قال‏:‏ فأتيتُه، فوجدتُه على النحو الذي تركتُه لم يتَغيَّرْ منهُ شئ‏.‏ قال‏:‏ فواريتُه، فصارت سُـنَّة في الشهداء أن يُدْفَنُوا في مصارِعهم‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ دفن الرجلينِ أو الثلاثة في القبر الواحد، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَدْفِنُ الرجلين والثلاثة في القبر، ويقول‏:‏ ‏(‏ أيُّهم أكْثَرُ أخذاً لِلقُرآنِ، فإذا أشارُوا إلى رَجُلٍ، قَدَّمه في اللحد ‏)‏‏.‏

ودفن عبدَ الله بنَ عَمْرِو بن حرام، وعمرَو بنَ الجموح في قبر واحد، لِمَا كان بينهُمَا مِن المحبة فقال‏:‏ ‏(‏ ادْفِنُوا هَذَيْنِ المُتَحَابّيْنِ في الدُّنْيَا في قَبْرٍ واحد ‏)‏

ثمَّ حُفِرَ عنهما بعد زمنٍ طويل، ويدُ عبدِ اللهِ بن عمرو بن حرام على جرحه كما وضعها حين جُرِحَ، فأُمِيطَتْ يدُه عن جرحه، فانبعثَ الدَّمُ، فَرُدَّت إلى مكانهَا، فسكن الدم‏.‏

وقال جابر‏:‏ رأيتُ أبى في حُفرته حين حُفِرَ عليه، كأنَّه نائم، وما تغيَّر مِن حاله قليلٌ ولا كثير‏.‏ قيل له‏:‏ أفرأيتَ أكفانَه ‏؟‏ فقال‏:‏ إنما دُفن في نمرة خُمِرَّ وجْهُه، وعلى رجليه الحَرْمَلُ، فوجدنا النَّمِرَةَ كما هي، والحرملَ على رجليه علَى هَيْئَتِهِ، وبين ذلك ست وأربعون سنة‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في أمرِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أن يُدفن شهداءُ أُحُد في ثيابهم، هل هو على وجه الاستحبابِ والأولويَّة، أو على وجه الوجوب ‏؟‏ على قولين‏.‏ الثانى‏:‏ أظهرُهما وهو المعروفُ عن أبى حنيفة، والأول‏:‏ هو المعروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، فإن قيل‏:‏ فقد روى يعقوبُ بن شيبة وغيرُه بإسناد جيد، أن صفيَّةَ أرسلت إلى النبى صلى الله عليه وسلم ثوبَيْنِ لِيكفِّن فيهما حمزة، فكفَّنه في أحدهما، وكفَّن في الآخر رجلاً آخر‏.‏ قيل‏:‏ حمزةُ، كان الكفارُ قد سلبوه، ومثَّلُوا به، وبقَرُوا عن بَطنِه، واستخرجوا كَبدَه، فَلِذلِكَ كُفِّنَ في كَفَـنٍ آخر‏.‏ وهذا القولُ في الضعف نظيرُ قول مَن قال‏:‏ يُغسَّلُ الشهِيدُ، وسُـنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوْلى بالاتباع‏.‏

ومنها‏:‏ أن شهيدَ المعركة لا يُصلَّى عليه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على شُهدَاء أُحُد، ولم يُعرف عنه أنه صلَّى على أحد ممن استشهد معه في مغازيه، وكذلك خلفاؤُه الراشِدُون، ونوابُهم مِن بعدهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد ثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ من حديث عُقبة بنِ عامر، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاتَه على الميت، ثم انصرف إلى المنبر‏.‏

وقال ابنُ عباس‏:‏ ‏(‏ صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحُد ‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ أما صلاتُه عليهم، فكانت بعد ثمانِ سنين مِن قتلهم قُرْبَ موته، كالمودِّع لهم، ويُشبِهُ هذا خروجُه إلى البقيع قبل موته، يستغفِرُ لهم كالمودِّع للأحياء والأموات، فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُـنَّةُ الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك، لم يُؤخِّرها ثمان سنين، لا سيما عند مَنْ يقول‏:‏ لا يُصلَّى على القبر، أو يصلَّى عليه إلى شهر‏.‏

ومنها‏:‏ أن مَن عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروجُ إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرُو بن الجموح، وهو أعرج‏.‏

ومنها‏:‏ أن المسلمين إذا قَتَلُوا واحداً منهم في الجهاد يظنُّونه كافراً، فعلى الإمام ديتُه مِن بيتِ المالِ، لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يَدِىَ اليمانَ أبا حُذيفة، فامتنع حُذيفَةُ من أخذ الدية، وتصدَّقَ بها على المسلمين‏.‏

فصل‏:‏ في ذكر بعضِ الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها في سورة ‏(‏ آل عمران ‏)‏ حيث افتتح القصة بقوله‏:‏ ‏{‏وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ إلى تمام ستين آية‏.‏

فمنها‏:‏ تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذي أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏‏.‏

فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان‏.‏

ومنها‏:‏ أن حِكمة الله وسُـنَّته في رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة‏.‏

ومنها‏:‏ أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان‏:‏ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قَالَ‏:‏ كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه ‏؟‏ قالَ‏:‏ سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى‏.‏ قال‏:‏ كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة‏.‏

ومنها‏:‏ أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم في الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم في هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَـمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏‏.‏ أى‏:‏ ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذي يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومهُ الذي هو غيبٌ شهادةً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللهَ يَجْـتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏ استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم على ما يشاء مِن غيبه، كما قال‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26-27‏]‏ فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيبِ الذي يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة‏.‏

ومنها‏:‏ استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه في السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفى حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية‏.‏

ومنها‏:‏ أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم في كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا في الحال التي يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِباده إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ بحكمته، إنه بهم خبير بصير‏.‏

ومنها‏:‏ أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة، ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلعة النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره‏.‏

ومنها‏:‏ أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ في دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التي تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها‏.‏

ومنها‏:‏ أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها في سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه‏.‏

ومنها‏:‏ أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم في محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو‏.‏

ومنها‏:‏ أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم‏.‏

وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139-141‏]‏، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال‏:‏ ‏{‏إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏، فقد استويتُم في القرح والألَمِ، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال‏:‏ ‏{‏إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 104‏]‏، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم في سبيلى وابتغاء مرضاتى‏.‏

ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا‏.‏

ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين في غيبه، وذلك العلم الغيبى لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحسِ‏.‏

ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 57‏]‏، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين في ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءَهُ وحِزبه‏.‏

ثم ذكر حِِكمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان‏:‏ تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم‏.‏

ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد في سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ على مَن ظنه وحَسِبَه‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏، أى‏:‏ ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزى العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن وقعةَ أُحُدٍ كانت مُقَدِّمَةً وإرهاصاً بين يدى موتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم أَنْ ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه وتوحِيدهِ ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حىٌ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ، لا ينبغى لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم لِيخلَّد لا هُوَ ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بَقِىَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ‏:‏ إنَّ محمداً قد قُتِلَ، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏، والشاكرون‏:‏ هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله وأعزَّهم وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم،

ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير،

ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقىَ منهم لِما أصابهم في سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ مستكينين أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً كِراماً مقبلينَ غير مدبرين، والصحيح‏:‏ أن الآية تتناول الفريقين كليهما‏.‏

ثم أخبر سُبحانه عما استنصرت به الأنبياءُ وأُممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم، أن يُثَبِّت أقدامَهم، وأن ينصُرَهم على أعدائهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147-148‏]‏‏.‏ لما علم القومُ أن العدو إنما يُدَالُ عليهم بذنوبهم، وأن الشيطانَ إنما يستزِلُّهم ويهزِمُهم بها، وأنها نوعان‏:‏ تقصيرٌ في حق أو تجاوزٌ لحد، وأن النصرةَ منوطة بالطاعة، قالُوا‏:‏ ربنا اغفِرْ لنا ذنوبَنا وإسرافَنَا في أمرنا، ثم عَلِمُوا أن ربَّهم تبارك وتعالى إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم ويَنْصُرْهم، لم يَقْدِرُوا هُم على تثبيتِ أقدامِ أنفسهم، ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنَّهُ بيده دُونهم، وأنه إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم وينصرهم لم يثبتُوا ولم ينتصِرُوا، فَوَفَّوا المقَامَيْنِ حقَّهما‏:‏ مقامَ المقتضى، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه، ومقامَ إزالةِ المانع من النصرة، وهو الذنوبُ والإسرافُ، ثم حذَّرهم سبحانه مِن طاعة عدوِّهم، وأخبر أنَّهم إن أطاعوهم خَسِرُوا الدنيا والآخِرَة، وفى ذلك تعريضٌ بالمنافقينَ الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفِروا يومَ أُحُد‏.‏

ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمَن والاه فهو المنصور‏.‏

ثم أخبرهم أنه سيُلقى في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهُجُومِ عليهم، والإقدام على حربهم، وأنَّه يُؤيِّد حزبَه بجند مِن الرعب ينتصِرونَ به على أعدائهم، وذلك الرعبُ بسبب ما في قلوبهم مِن الشركِ باللهِ، وعلى قدرِ الشركِ يكون الرعبُ، فالمشركُ باللهِ أشدُّ شىءٍ خوفاً ورُعباً، والذين آمنوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بالشِّرْكِ، لهم الأمنُ والهُدى والفلاحُ، والمشركُ له الخوفُ والضلالُ والشقاءُ‏.‏

ثم أخبرهم أنه صَدَقَهُمْ وعدَه في نُصرتهم على عدوهم، وهو الصادقُ الوعد، وأنهم لو استمرُّوا على الطاعةِ، ولزوم أمر الرسول لاستمرَّت نُصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقُوا مركزهم، فانخلعوا عن عصمة الطاعة، ففارقتهم النصْرَةُ، فصرفهم عن عدوهم عقوبةً وابتلاءً، وتعريفاً لهم بسوء عواقِب المعصيةِ، وحُسنِ عاقبة الطاعة‏.‏

ثم أخبر أنه عَفَا عنهم بعد ذلك كُلِّه، وأنه ذو فضلٍ على عباده المؤمنين‏.‏ قيل للحسن‏:‏ كيف يعفو عنهم، وقد سلَّط عليهم أعداءَهم حتى قتلُوا منهم مَن قتلوا، ومثَّلُوا بهم، ونالُوا منهم مَا نالوه ‏؟‏ فقال‏:‏ لولا عفوُه عنهم، لاستأصلَهم، ولكن بعفوه عنهم دَفَعَ عنهم عدوَّهم بعد أن كانوا مُجمعين على استئصالهم‏.‏

ثمَّ ذكَّرهم بحالهم وقتَ الفرارِ مُصعدينَ، أى‏:‏ جادِّين في الهربِ والذهاب في الأرضِ، أو صاعدين في الجبلِ لا يَلْوونَ على أحدٍ من نبيهم ولا أصحابهم، والرسولُ يدعوهم في أُخراهم‏:‏ ‏(‏ إلىَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رسُولُ اللهِ ‏)‏، فأثابهم بهذا الهرب والفرارِ، غمَّاً بعدَ غَمٍّ‏:‏ غمَّ الهزيمة والكسرةِ، وغمَّ صرخةِ الشيطان فيهم بأن محمداً قد قُتل‏.‏

وقيل‏:‏ جازاكم غمَّاً بما غممتُم رسولَه بفراركم عنه، وأسلمتمُوه إلى عدوِّهِ، فالغمُّ الذي حصل لكم جزاءً على الغمِّ الذي أوقعتموه بنبيه، والقولُ الأولُ أظهر لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏لِكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلى مَا فَاتَكُم وَلا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ تنبيهٌ على حِكمة هذا الغم بعدَ الغمِّ، وهو أن يُنسيَهم الحزنَ على ما فاتهم مِن الظفر، وعلى ما أصابهم مِن الهزيمةِ والجِراحِ، فنسُوا بذلك السبب، وهذا إنما يحصُل بالغمِّ الذي يعقُبُه غمٌ آخر‏.‏

الثانى‏:‏ أنه مطابق للواقع، فإنَّه حَصَلَ لهم غمُّ فواتِ الغنيمة، ثم أعقبه غمُّ الهزيمةِ، ثم غمُّ الجراح التي أصابتهم، ثم غَمُّ القتلِ، ثم غَمُّ سماعِهم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ، ثم غَمُّ ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم، وليس المراد غمَّين اثنين خاصة، بل غمَّاً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان‏.‏

الثالث‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏بِغَمٍّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏، من تمام الثوابِ، لا أنه سببُ جزاء الثواب، والمعنى‏:‏ أثابكم غمَّاً متَّصِلاً بغمٍّ، جزاءً على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيَّهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وترك استجابتهم له وهو يدعوهم، ومخالفتهم له في لزومِ مركزهم، وتنازعهِم في الأمر، وفشلهم، وكُلُّ واحد من هذه الأمور يُوجب غمَّاً يخصُّه، فترادفت عليهم الغمومُ كما ترادفت منهم أسبابُها وموجباتُها، ولولا أن تداركهم بعفوِه، لكان أمراً آخَرَ‏.‏

وَمِن لطفه بهم، ورأفته، ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم، كانت من موجبات الطباع، وهى من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيَّض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل، فترتَّب عليها آثارُها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبةَ منها والاحترازَ مِن أمثالها، ودفعها بأضدادها أمرٌ متعيَّنٌ، لا يتم لهم الفلاحُ والنصرةُ الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشدَّ حذراً بعدها، ومعرفة بالأبوابِ التي دخل عليهم منها‏.‏

ورُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بِالعِلَلِ

ثم إنه تداركهم سُبحانه برحمته، وخفَّف عنهم ذلك الغَمَّ، وغيَّبه عنهم بالنُّعاسِ الذي أنزله عليهم أمناً منه ورحمة، والنعاسُ في الحرب علامةُ النصرة والأمنِ، كما أنزله عليهم يومَ بدر، وأخبر أن مَن لم يُصبْه ذلك النعاسُ، فهو ممن أهمته نفسُه لا دِينُه ولا نبيُّه ولا أصحابُه، وأنهم يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية‏.‏

وقد فُسِّرَ هذا الظنُّ الذي لا يليقُ باللهِ، بأنه سبحانه لا ينصُرُ رسولَه، وأن أمْرَهُ سيضمحِلُّ، وأنه يُسلِمُه للقتل، وقد فُسِّرَ بظنهم أن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففسر بإنكارِ الحِكمة، وإنكارِ القدر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وهذا هو ظنُّ السَّوْءِ الذي ظَنَّهُ المنافقُونَ والمشرِكُونَ به سبحانه وتعالى في ‏(‏ سورة الفتح ‏)‏ حيث يقول‏:‏ ‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُـنَافِقِينَ وَالْمُـنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينََ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏5‏]‏، وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنَّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِهِ العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ يحكمته وحمدِه، وتفرُّدِهِ بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذي لا يُخلفُهُ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هُمُ الغالبون، فمَن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءِ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزًَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرةُ المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فَمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله، وكذلك مَن أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمتَه، وكذلك مَن أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لِحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردةٍ عن حكمة، وغايةٍ مطلوبة هي أحبُّ إليه من فوتها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المفضية إليها لا يخرج تقديرُها عن الحكمةِ لإفضائِهَا إلى ما يُحِبُّ، وإن كانت مكروهة له، فما قدَّرها سُدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً، ‏{‏ذَلِكَ ظَنُّ الذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏ وأكثرُ النَّاسِ يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوءِ فيما يختصُّ بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا يسلَمُ عن ذلك إلا مَن عرف الله، وعرف أسماءَه وصفاتِهِ، وعرفَ موجبَ حمدِهِ وحكمته، فمَن قَنِطَ مِن رحمته، وأيسَ مِن رَوحه، فقد ظن به ظنَّ السَّوء‏.‏

ومَن جوَّز عليه أن يعذِّبَ أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوِّى بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السوءِ‏.‏

ومَن ظنَّ به أن يترُكَ خلقه سُدى، معطَّلينَ عن الأمر والنهى، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا ينزِّل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلاً كالأنعام، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوء‏.‏

ومَن ظن أنه لن يجمع عبيدَه بعد موتِهم للثوابِ والعِقاب في دار يُجازى المحسنَ فيها بإحسانه، والمسىءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ‏.‏

ومن ظنَّ أنه يُضَيِّعُ عليه عملَه الصالحَ الذي عملَه خالصاً لوجهه الكريمِ على امتثال أمره، ويُبطِلَه عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يُعاقِبُه بما لا صُنعَ فيه، ولا اختيار له، ولا قدرةَ، ولا إرادة في حصوله، بل يُعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظنَّ به أنه يجوزُ عليه أن يؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزاتِ التي يؤيِّدُ بها أنبياءه ورسله، ويُجرِيها على أيديهم يُضِلُّونَ بها عباده، وأنه يحسُن منه كُلُّ شئ حتى تعذيبُ مَن أفنى عمره في طاعته، فيخلدُه في الجحيم أسفلَ السافلينَ، ويُنعِمُ مَن استنفد عُمُرَه في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء، ولا يُعرف امتناعُ أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضى بقُبح أحدهما وحُسنِ الآخر، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السَّوْء‏.‏

ومَن ظن به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحقَّ، لم يُخبر به، وإنما رَمزَ إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لم يُصرِّح به، وصرَّح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد مِن خلقه أن يُتعِبُوا أذهانَهم وقُواهم وأفكارَهم في تحريفِ كلامه عن مواضعه، وتأويلهِ على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجى أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائِه وصفاتِه على عقولهم وآرائهم، لا على كتابِه، بل أراد منهم أن لا يحمِلوا كلامَه على ما يعرِفُون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصَرِّحَ لهم بالحق الذي ينبغى التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلافَ طريق الهدى والبيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ، فإنه إن قال‏:‏ إنه غيرُ قادر على التعبير عن الحقِّ باللَّفظ الصريح الذي عبَّر به هو وسلفُه، فقد ظن بقُدرته العجز، وإن قال‏:‏ إنه قادِرٌ ولم يُبَيِّن، وعدَلَ عن البيان، وعن التصريح بالحقِّ إلى ما يُوهم، بل يُوقِعُ في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظنَّ بحكمته ورحمته ظَنَّ السَّوءِ، وظنَّ أنه، هو وسلفُه عبَّروا عن الحقِّ بصريحه دُونَ الله ورسوله، وأن الهُدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم‏.‏ وأما كلام الله، فإنما يؤخذ مِن ظاهره التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهِر كلام المتهوِّكين الحيارى، هو الهُدى والحق، وهذا من أسوإ الظن بالله، فَكُلُّ هؤلاء من الظانين بالله ظن السَّوْءِ، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية‏.‏

ومَن ظن به أن يكونَ في ملكه ما لا يشاء ولا يَقْدِرُ على إيجاده وتكوينه، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظن به أنه كان مُعَطَّلاً مِن الأزل إلى الأبدِ عن أن يفعلَ، ولا يُوصفُ حينئذ بالقُدرة على الفعل، ثم صارَ قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه لا يَسمع ولا يُبصِرُ، ولا يعلم الموجودات، ولا عَدد السماواتِ والأرضِ، ولا النجوم، ولا بنى آدمَ وحركاتهِم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ أنه لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا عِلم له، ولا إرادة، ولا كلامَ يقولُ به، وأنه لم يُكلِّم أحداً من الخلق، ولا يتكلَّمُ أبداً، ولا قال ولا يقولُ، ولا له أمرٌ ولا نهى يقومُ به، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه فوقَ سماواتِه على عرشه بائناً من خلقه، وأن نِسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنِسبتها إلى أسفلِ السافلين، وإلى الأمكنة التي يُرغب عن ذكرها، وأنه أسفلُ، كما أنه أعلى، فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأه‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه يُحِبُّ الكفر، والفسوقَ، والعِصيانَ، ويحبُّ الفسادَ كما يُحبُّ الإيمان، والبر، والطاعة، والإصلاح، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه لا يُحبُّ ولا يَرضى، ولا يَغضب ولا يَسخط، ولا يُوالى ولا يُعادى، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرُب منه أحد، وأن ذواتِ الشياطين في القُرب مِن ذاته كذوات الملائكة المقرَّبين وأوليائه المفلحين، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ أنه يُسوى بين المتضادَّيْن، أو يفرِّق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحْبِطُ طاعاتِ العمر المديد الخالصةَ الصوابَ بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبدَ الآبدين بتلك الكبيرة، ويُحبطُ بها جميع طاعاته ويُخَلِّدُه في العذاب، كما يخلد مَن لا يؤمن به طرفة عين، وقد استنفد ساعاتِ عمره في مساخِطه ومعاداة رسله ودينه، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

وبالجملة‏.‏‏.‏ فمَن ظنَّ به خِلاَفَ ما وصف به نَفسه ووصفه به رسله، أو عطَّل حقائقَ ما وصف به نفسه، ووصفته به رُسله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظن أن له ولدَاً، أو شريكاً أو أن أحدَاً يشفعُ عنده بدون إذنه، أو أن بينَه وبين خلقه وسائطَ يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعباده أولياء مِن دونه يتقرَّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظنَّ به أقبحَ الظن وأسوأه‏.‏

ومَن ظن به أنه ينالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقربِ إليه، فقد ظنَّ به خلافَ حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يُعوِّضه خيراً منه، أو مَن فعل لأجله شيئاً لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه يغضبُ على عبده، ويُعاقبه ويحرمه بغير جُرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ‏.‏

ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه‏.‏

ومن ظنَّ به أنهُ يُثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلافَ ما هو أهلُه وما لا يفعله‏.‏

ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه ولياً، ودعا مِن دونه مَلَكاً أو بَشَراً حَياً، أو ميتاً يرجُو بذلك أن ينفَعَه عند ربِّه، ويُخَلِّصَه مِن عذابه، فقد ظنَّ به ظَنَّ السَّوْءِ، وذلك زيادة في بُعْدِه من الله، وفى عذابه‏.‏

ومَن ظنَّ به أنه يُسلِّطُ على رسولِهِ محمّد صلى الله عليه وسلم أعداءَهُ تسليطاً مستَقِرّاً دائماً في حياته وفى مماته، وابتلاه بهم لا يُفارقونه، فلما مات استبدُّوا بالأمر دون وَصِيَّه، وظلمُوا أهلَ بيتِهِ، وسلبُوهم حقَّهُم، وأذلُّوهم، وكانت العزَّةُ والغلبةُ والقهرُ لأعدائِه وأعدائِهم دائماً مِن غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرَهم لهم، وغصبهم إياهم حقَّهم، وتبديلَهم دِينَ نبيهم، وهو يقدر على نُصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصُرُهم ولا يُديلهم، بل يُديل أعداءهم عليهم أبداً، أو أنَّه لا يقدِرُ على ذلكَ، بل حصل هذا بغير قُدرته ولا مشيئته، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته، تُسَلِّمُ أُمتُه عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضةُ، فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأه، سواءً قالوا‏:‏ إنه قادرٌ على أن ينصرَهم، ويجعل لهم الدولةَ والظفرَ، أو أنه غيرُ قادر على ذلك، فهم قادِحون في قُدرته، أو في حِكمته وحمده، وذلك مِن ظنِّ السَّوْءِ به، ولا ريب أن الربَّ الذي فعل هذا بغيضٌ إلى مَن ظنَّ به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجبُ أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوْا هذا الظنَّ الفاسِدَ بخرق أعظمَ منه، واستجاروا من الرَّمضاءِ بالنار، فقالوا‏:‏ لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرةٌ على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يَقْدِرُ على أفعال عباده، ولا هي داخلةٌ تحت قدرته، فظنُّوا به ظَنَّ إخوانهم المجوس والثَّنَوِيةِ بربهم، وكلٌ مبطل، وكافر، ومبتدِع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه، فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول‏:‏ ظلمنى ربِّى، ومنعنى ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغى أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك ‏؟‏

فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِى عَظِيمَةٍ وَإلاَّ فَإنِّى لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً

فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركَّبة على الجهل والظلم، فهى أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، وأرحمِ الراحمين، الغنىِّ الحميد، الذي له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ في ذاته وصفاتِهِ، وأفعالِه وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى‏.‏

فَـلا تَظْـنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سَؤْءِ ** فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَــمِيلِ

وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِـكَ قَطُّ خَيْرَاً ** وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ

وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءِ ** أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ

وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوآى تَجِدْهَا ** كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ

وَمَـا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ ** فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ

وَلَيْسَ بِهَـا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ ** مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ

والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام مِن قوله‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏125‏]‏، ثم أخبر عن الكلام الذي صدَر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏هَل لَّـنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏154‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏154‏]‏، فليس مقصودُهم بالكلمةِ الأولى والثانية إثباتَ القدر، ورد الأمرِ كُلِّه إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى، لما ذُمُّوا عليه، ولما حَسُنَ الردُّ عليه بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏154‏]‏، ولا كان مصدرُ هذا الكلام ظَنَّ الجاهلية، ولهذا قال غيرُ واحد من المفسِّرين‏:‏ إن ظنَّهم الباطل هاهنا‏:‏ هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمرَ لو كان إليهم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه تبعاً لهم يسمعُون منهم، لما أصابهم القتلُ، ولكان النصرُ والظفرُ لهم، فأكذبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ في هذا الظنِّ الباطل الذي هو ظنُّ الجاهلية، وهو الظنُّ المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذِ القضاء والقدر الذي لم يكن بُدٌ من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمرَ لو كان إليهم، لما نفذ القضاءُ، فأكذَبَهُم اللهُ بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏154‏]‏، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدرُه، وجرى به عِلمه وكتابه السابق، وما شاء اللهُ كان ولا بُدَّ، شاءَ الناسُ أم أبَوْا، وما لم يَشَأ لم يكن، شاءه الناسُ أم لم يَشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمةِ والقتل، فبأمره الكونى الذي لا سبيلَ إلى دفعه، سواء أكان لكم من الأمر شئ، أو لم يكن لكم، وأنَّكُم لو كنتم في بيوتكم، وقد كُتِبَ القتلُ على بعضكم لخرج الذين كُتِب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بُد، سواء أكان لهم من الأمر شئ، أو لم يكن، وهذا مِن أظهر الأشياء إبطالاً لقول القَدَرِيَّةِ النفاة، الذين يُجوِّزون أن يقع ما لا يشاؤُه اللهُ، وأن يشاء ما لا يقع‏.‏

فصل

ثم أخبر سبحانه عن حِكمة أُخرى في هذا التقديرِ، هي ابتلاءُ ما في صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمانِ والنفاق، فالمؤمنُ لا يزدادُ بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافقُ ومَن في قلبه مرضٌ، لا بد أن أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه‏.‏

ثم ذكر حِكمة أُخرى‏:‏ وهو تمحيصُ ما في قلوب المؤمنين، وهو تخليصهُ وتنقيتُه وتهذيبه، فإن القلوبَ يُخالطها بِغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكمِ العادة، وتزيينِ الشيطانِ، واستيلاءِ الغفلة ما يُضادُّ ما أُودعَ فيها من الإيمانِ والإسلام والبر والتقوى، فلو تُرِكت في عافية دائمة مستمرة، لم تَتخَلَّص من هذه المخالطة، ولم تتمحَّص منه، فاقتضت حِكمةُ العزيزِ أن قَيَّض لها مِن المِحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خِيف عليه منه الفسادُ والهلاكُ، فكانت نعمتُه سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل مَن قُتِل منهم، تُعادِلُ نعمتَه عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمةُ التامةُ في هذا وهذا‏.‏

ثم أخبر سبحانه وتعالى عن توَلِّى مَنْ تَولَّى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاسْتَزَلَّهُمُ الشيطان بتلك الأعمال حتى تولَّوْا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، ازداد بها عدوُّهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجندٌ عليه، ولا بُدَّ فللعبد كلَّ وقت سَرِيَّةٌ مِن نفسه تَهْزِمُه، أو تنصره، فهو يمُدُّ عدوَّه بأعماله من حيث يظن أنه يُقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمالُ العبد تسوقُهُ قسراً إلى مقتضاها مِن الخير والشر، والعبدُ لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرارُ الإنسان من عدوه، وهو يُطيقه إنما هو بجُند مِن عمله، بعثه له الشيطان واستزلَّه به‏.‏

ثم أخبر سبحانه‏:‏ أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرارَ لم يكن عن نفاق ولا شكٍ، وإنما كان عارضاً، عفا الله عنه، فعادت شجاعةُ الإيمانِ وثباتُه إلى مركزها ونصابِها

ثم كرَّر عليهم سُبحانه‏:‏ أن هذا الذي أصابهم إنما أُتوا فيه مِن قِبَل أنفسهم، وَبِسبب أعمالهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قَلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏165‏]‏، وذكر هذا بعينه فيما هو أعمُّ من ذلك في السور المكِّية فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى ‏:‏30‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، فالحسنة والسيئة هاهنا‏:‏ النعمة والمصيبةُ، فالنعمةُ مِن الله ِ مَنَّ بها عليك، والمصيبةُ إنما نشأت مِن قِبَل نفسِك وعملِك، فالأول فضلُه، والثانى عدلُه، والعبد يتقلَّب بين فضلِه وعدله، جارٍ عليه فضلُهُ، ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه

وختم الآية الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادلٌ قادر، وفى ذلك إثباتُ القدرِ والسببِ، فذكر السببَ، وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عمومَ القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفى الجَبْرَ، والثانى ينفى القولَ بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏28-29‏]‏‏.‏

وفى ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهى أن هذا الأمر بيده وتحت قدرتِهِ، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبُوا كشفَ أمثاله من غيره، ولا تتَّكِلُوا على سواه، وَكَشَفَ هذا المعنى وأوضَحَه كُلَّ الإيضاح بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللهً‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏166‏]‏‏.‏ وهو الإذن الكونى القدرى، لا الشرعى الدينى، كقوله في السحر‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللهِ‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏102‏]‏

ثم أخبر عن حِكمة هذا التقدير، وهى أن يعلَمَ المؤمنين مِن المنافقين عِلمَ عَيان ورؤية يتميز فيه أحدُ الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان مِن حكمة هذا التقديرِ تكلُّمُ المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا ردَّ اللهِ عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدَّى النفاق وما يؤول إليه، وكيف يُحرم صاحبُه سعادةَ الدنيا والآخرة، فيعودُ عليه بفساد الدنيا والآخرة، فللَّهِ كم من حكمة في ضِمن هذه القِصة بالغةٍ، ونعمة على المؤمنين سابغةٍ، وكم فيها من تحذيرٍ وتخويفٍ وإرشاد وتنبيه، وتعريفٍ بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما

ثم عزَّى نبيه وأولياءه عمن قُتل منهم في سبيله أحسنَ تعزية، وألطفَها وأدعَاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169-170‏]‏، فجمع لهم إلى الحياة الدائمةِ منزلةَ القُربِ منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحَهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضى، بل هو كمال الرضى

واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يَتمُّ سُرورُهم ونعيمُهم، واستبشارهم بما يُجدِّدُ لهم كُلَّ وقت مِن نعمته وكرامته

، وذَكَّرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو مِن أعظمِ مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كُلَّ محنة تنالهم وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهى مِنَّتُه عليهم بإرسال رسولٍ من أنفسهم إليهم، يتلُو عليهم آياتِه، ويُزكيهم، ويُعلمهم الكتابَ والحِكمة، ويُنقذُهم مِن الضلال الذي كانُوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومِن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظُّلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكُلُّ بليةٍ ومحنةٍ تنالُ العبد بعد حصول هذا الخيرِ العظيم له أمرٌ يسيرٌ جداً في جنب الخير الكثير، كما ينالُ الناس بأذى المطرِ في جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سببَ المُصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره لِيوحِّدوا ويتَّكِلُوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها مِن الحكم لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرَّف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدراً، وأعظمُ خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزَّاهم عن قتلاهم بما نالُوه من ثوابه وكرامته، لينافِسوهم فيه، ولا يحزنُوا عليهم، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغى لكرم وجهه، وعزِّ جلاله‏.‏

فصل‏:‏ في انقضاء الحرب ورجوع المشركين

ولما انقضت الحربُ، انكفأ المشركون، فظنَّ المسلمون أنهم قَصَدُوا المدينةَ لإحراز الذرارى والأموال، فَشَقَّ ذلك عليهم، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏ اخْرُجْ في آثارِ القَوْمِ فانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ، فَإنْ هُمْ جَنَّبُوا الخَيْلَ وامْتَطَوُا الإِبلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الخَيْلَ وسَاقُوا الإِبلَ فَإنَّهُمْ يُرِيدُونَ المَدِينَةَ، فوالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لِئَنْ أرادُوهَا، لأَسِيرَنَّ إلَيْهِمْ، ثُمَّ لأَنَاجِزَنَّهُم فِيهَا ‏)‏‏.‏

قال على‏:‏ فخرجتُ في آثارهم انظرُ ماذا يصنعون، فجنَّبوا الخيلَ، وامتطوا الإبل، ووجَّهوا إلى مكة، ولما عزمُوا على الرجوع إلى مكة، أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم‏:‏ مَوْعِدُكم المَوْسِمُ ببدر، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ قولوا‏:‏ نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا ‏)‏ قال أبو سفيان‏:‏ ‏(‏ فَذلِكُم المًَوْعِد ‏)‏ ثم انصرف هو وأصحابه، فلما كان في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض‏:‏ لم تصنعُوا شيئاً، أصبتُم شوكتَهم وحدَّهم، ثم تركتُموهم، وقد بقى منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجِعُوا حتى نستأصِل شأفَتَهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس، وندبَهم إلى المسيرِ إلى لقاء عدوهم، وقال‏:‏ ‏(‏ لاَ يَخْرُجْ مَعَنَا إلاَّ مَنْ شَهِدَ القِتَالَ ‏)‏، فقال له عبد الله بن أُبَىّ‏:‏ أركبُ معك ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ لا ‏)‏، فاستجاب له المسلمون على ما بِهم من القرح الشديدِ والخوفِ، وقالُوا‏:‏ سمعاً وطاعةً، واستأذنه جابرُ بنُ عبد الله، وقال‏:‏ يا رَسُولَ الله؛ إنى أُحب ألاَّ تشهدَ مشهداً إلا كنتُ معك، وإنما خلَّفنى أبى على بناتِهِ، فأذَنْ لى أسيرُ معك، فأذِن له، فسارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بَلَغُوا حمراء الأسد ‏)‏، وأقبل معبدُ بن أبى معبد الخُزاعى إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فأمره أن يلحقَ بأبى سفيان، فيخذِّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال‏:‏ ما وراءكَ يا معبدُ ‏؟‏ فقال‏:‏ محمدٌ وأصحابه، قد تحرَّقوا عليكم، وخرجُوا في جمع لم يخرجُوا في مثله، وقد نَدِم مَن كان تخلَّف عنهم من أصحابهم، فقال‏:‏ ما تقولُ ‏؟‏ فقال‏:‏ ما أرى أن ترتَحِلَ حتى يطلع أولُ الجيش من وراء هذه الأَكَمَة‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ واللهِ لقد أجمعنا الكرَّةَ عليهم لنستأصلهم‏.‏ قال‏:‏ فلا تفعل، فإنى لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقى أبو سفيان بعضَ المشركين يريد المدينة، فقال‏:‏ هل لك أن تُبَلِّغَ محمداً رسالة، وأُوقِرَ لك راحلتَكَ زبيباً إذا أتيتَ إلى مكة ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ أبلغْ محمداً أنَّا قد أجمعنا الكَرَّةَ لِنَستأصِلَه ونَسْتَأْصِلَ أصحابَه، فلما بلغهم قولُه، قالُوا‏:‏ ‏{‏حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

كانت وقعة أحد يوم السبت في سابع شوال سنة ثلاث كما تقدم ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فاقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم ، فلما استهل هلال المحرم ، بلغه أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث أبا سلمة ، وعقد له لواء ، وبعث معه مائة وخمسين رجلاً من الأنصار والمهاجرين ، فأصابوا إبلاً ، وشاء ، ولم يلقوا كيداً ، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة ‏.‏

فصل

فلما كان خامِسُ المحرَّم، بلغه أنَّ خالدَ بنَ سُفيان بن نُبَيْح الهُذَلى قد جمع له الجموعَ، فبعث إليه عبدَ اللهِ أُنَيس فقتله، قال عبدُ المؤمن بن خلف ‏:‏ وجاءَه برأسه، فوضعه بين يديه، فأعطاه عصاً، فقال‏:‏ ‏(‏ هَذِهِ آيَةُ بَيْنِى وبَيْنَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ ‏)‏، فلما حضرته الوفاةُ أوصى أن تُجعل معه في أكفانه، وكانت غيبتهُ ثمانَ عشرةَ لَيلة، وَقَدِمَ يومَ السبت لسبع بَقين مِن المحرَّم‏.‏

فلمَّا كان صفر، قًدِمَ عليه قَوْمٌ مِن عَضَلٍ والقَارةِ، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألُوهُ أن يَبْعثَ معهم مَن يُعَلِّمُهم الدِّينَ، ويُقرئهُمُ القُرآن، فبعث معهم سِتَّة نَفَرٍ في قول ابن إسحاق، وقال البخارى‏:‏ كانُوا عشرة، وأَمَّر عليهم مَرْثَدَ بنَ أبى مَرْثَدٍ الغَنَوِى، وفيهم خُبيب بنُ عدى، فذهبوا معَهم، فلما كانُوا بالرَّجِيع، وهو ماءٌ لهُذَيْلٍ بناحيةِ الحِجاز غدرُوا بهم، واستصرخُوا عليهم هُذيلاً، فجاؤوا حتَّى أحاطُوا بهم، فقتلُوا عامَّتَهُم، واستأسرُوا خُبَيْبَ بْنَ عدِىٍّ، وزَيْدَ ابن الدّثِنَةِ، فذهبُوا بهما، وباعُوهما بمكة، وكانا قَتلا مِن رؤوسهم يَوْمَ بدر

فأما خُبيب، فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعُوا قتله، فخرجُوا به مِن الحَرَمِ إلى التنعيم، فلما أجمعُوا على صَلبه، قال‏:‏ دَعُونى حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فتركُوهُ فصلاهما، فلمَّا سَلَّمَ قال‏:‏ واللهِ، لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا إنَّ مَا بى جَزَعٌ، لَزِدْتُ، ثُمَّ قال‏:‏ ‏(‏ اللَّهُمَّ أَحْصِهمْ عَدَداً، واقْتُلْهُمْ بِدَدَاً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أحداً،‏)‏ ثم قال‏:‏

لَقَدْ أَجْمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلى وَأَلّبُوا ** قَبَائِلَهُم واسْتَجْمَعُوا كُــلَّ مجْمَـعِ

وكلُّهُـمُ مبدى العداوةِ جاهـدٌ ** عَلَـىَّ لأنى في وِثاقٍ بِمَضْــيَعِ

وقَــدْ قَرَّبُوا أَبْنَاءَهُم ونسَاءَهُم ** وقُـرِّبْتُ مِـنْ جِذْعٍ طوِيلٍ مُمَنَّعِ

إلَى اللهِ أَشْكُوا غُرْبَتِى بَعْدَ كُرْبَتِى ** وَمَا أَرْصَدَ الأَحْزَابُ لى عِنْدَ مَصْرَعِى

فَذَا العَرْشِ صَبِّرْنى عَلَى ما يُرادُ بى ** فَقَدْ بَضَّعُوا لحْمى وَقَد يَـاسَ مَطْمَعِى

وَقَدْ خَيَّرُونى الكُفْرَ والمَوْتُ دُونـَهُ ** فَقَـدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاىَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ

وَمَا بِى حِذَارُ المَوْت إنِّى لَمَيِّتٌ ** وإنَّ إلـــى ربِّى إيَابى ومَرْجِعى

وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِما ** عَلَى أَىِّ شِقٍّ كـان في اللهِ مَضْعَجِى

وَذلِكَ في ذَاتِ الإلـهِ وإنْ يَشـأْ ** يُبارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شلْوٍ مُمَــزَّعِ

فَلَسْـتُ بمبدٍ للعـدوِّ تَخَشُّعـاً ** ولا جَـزَعاً إنى إلى الله مَرجعـى

فقال له أبو سفيان‏:‏ أيسرُّك أنَّ محمداً عندنا تُضْرَبُ عنقُه وإنك في أهلك، فقال‏:‏ لا واللهِ، ما يسرُّنى أنى في أهلى، وأنَّ محمداً في مكانهِ الذي هُوَ فيه تُصيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤذِيه‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيح ‏)‏‏:‏ أن خبيباً أوَّلُ مَنْ سنَّ الركعتين عِند القتل‏.‏ وقد نقل أبو عمر بن عبدِ البر، عن اللَّيثِ بن سعد، أنه بلغه عن زيدِ بن حارثة، أنه صلاهما في قصةٍ ذكرها، وكذلك صلاهما حُجْرُ بنُ عدى حين أمر معاويةُ بقتله بأرضِ عذراء من أعمالِ دمشق‏.‏

ثم صَلبوا خُبَيْبَاً، ووكَّلوا به مَن يَحْرُسُ جُثَّته، فجاء عمرو بنُ أُمية الضَّمْرِى، فاحتمله بجذعه ليلاً، فذهب به، فدفنه‏.‏

ورؤى خُبيبٌ وهو أسيرٌ يأكل قِطْفاً مِن العِنَبِ، وما بمكة ثَمَرَةٌ، وأما زيدُ بن الدَّثِنَةِ، فابتاعه صفوانُ بنُ أُمية، فقتله بأبيه‏.‏

وأما موسى بن عقبة، فذكر سبب هذه الوقعة، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث هؤلاء الرهط يتحسَّسُون له أخبار قُريش، فاعترضهم بنو لَحيان‏.‏