فصل: فصل: في مبدأ الهجرة التي فرَّق اللهُ فيها بين أعدائه وأوليائه وجعلها مبدأً لإعزاز دينه ونصر عبده ورسُوله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الجهَاد والمغازي والسَّرايَا وَالبُعُوث

لما كان الجِهَاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرَّفعةُ في الدنيا، فهم الأَعْلَوْنَ في الدنُّيَا والآخِرةِ، كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الذَّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلَّها فجاهد في اللَّهِ حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيفِ، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده‏.‏ ولهذا كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً ‏.‏

وأمره الله تعالى بالجِهاد مِن حينَ بعثه، وقال ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 51-52‏]‏، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلكَ جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً‏.‏

ولما كان مِن أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند مَن تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للِرسلِ صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا صلواتُ الله وسلامُه عليه من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه‏.‏

ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعاً على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه‏)‏‏.‏ كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ في الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا في الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج ‏.‏

فهذان عدوَّانِ قد امْتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما مِن المشاق، وتركِ الحظوظ، وفوتِ اللذاتِ، والمشهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى ‏:‏ ‏{‏إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوُسع في مُحاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يَفْتُر، ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس‏.‏

فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبدُ بمحاربتها وجهادها، وقد بُلى بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطَتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى اللَّهُ العبدَ مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجِهَادِ، وأعطى أعداءه مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسِلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضَهم لبعض فتنة لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحِنَ من يَتولاَّه، ويتولَّى رسُلَهُ ممن يتولَّى الشيطانَ وحِزبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعَضٍ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنُكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعُقول والقُوَى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسلَ إليهم رسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم‏:‏ ‏{‏أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏، وأمرهم من أمره بما هو مِن أعظم العونِ لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوِّهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤُيسهُم، ولم يُقنِّطْهُمْ، بل أمرهم أن يسْتَقْبِلُوا أمرهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويَعُودوا إلى مُناهضةِ عدوهم فينصَرهم عليهم، ويُظفرَهم بهم، فأخبرهم أنه معَ المتقين مِنهم، ومعَ المحسنينَ، ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين، وأنه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم، لتخطّفهم عدوُّهم، واجتاحهم‏.‏

وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِىَ الإيمانُ، قويتِ المُدافعة، فمَن وجد خيراً، فليحمَدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذِلكَ، فلا يلومنَّ إلا نفسه‏.‏

وأمرهم أن يُجاهدوا فيه حقَّ جهاده، كما أمرهم أن يتَّقوه حقَّ تُقاته، وكما أن حقَّ تُقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهاده أن يُجاهِدَ العبد نفسَه لِيُسْلِم قلبه ولِسانه وجوارِحه للهِ فيكون كُلُّه لله، وباللهِ، لا لنفسِه، ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذِيبِ وعدِهِ، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانِىَّ، ويُمَنِّى الغُرورَ، ويَعِدُ الفقَر، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى، والعِفة والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كُلِّهَا، فجاهده بتكذِيبِ وعده، ومعصيةِ أمره، فينشأُ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطان، وعُدَّة يُجاهد بها أعداءَ اللهِ في الخارج بقلبه ولسانه ويده ومالِه، لتِكونَ كلمةُ الله هي العليا‏.‏

واختلفت عباراتُ السَلَف في حقِّ الجهاد ‏:‏

فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏هو استفراغُ الطاقة فيه، وألا يَخافَ في اللهِ لومةَ لائم‏)‏ ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏(‏اعملوا للهِ حقَّ عمله، واعبدُوه حقَّ عِبادته‏)‏ ‏.‏ وقال عبد الله بنُ المبارك‏:‏ ‏(‏هو مجاهدةُ النفس والهوى‏)‏‏.‏ ولم يُصِبْ مَن قال‏:‏ إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يُطاق، وحقّ تُقاته وحقّ جهاده‏:‏ هو ما يُطيقه كلُّ عبد في نفسه، وذلك يختِلف باختلافِ أحوال المكلَّفين في القُدرةِ، والعجزِ، والعلمِ، والجهلِ‏.‏ فحقُّ التقوى، وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالِم شىء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شىء‏.‏

وتأمل كيف عقَّب الأمر بذلك بقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ والحَرَج ‏:‏ الضِّيقُ، بل جعله واسعاً يسَعُ كُلّ أحد، كما جعل رِزقه يسع كُلّ حى، وكلَّف العبدَ بما يسعه العبدُ، ورزق العَبدَ ما يسعُ العبد، فهو يسعُ تكليفَه، ويسعه رزقُهُ، وما جعل على عبده في الدين من حَرَج بوجه ما، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ‏)‏ أى ‏:‏ بالمِلَّة، فهى حنيفيَّة في التوحيد، سمحَةٌ في العمل‏.‏

وقد وسَّع الله سبحانه وتعالى على عباده غايةَ التَّوسِعة في دينه، ورِزقْه، وعفوه، ومغفرتِهِ، وبسط عليهم التوبةَ ما دامت الروحُ في الجسد، وفتح لهم باباً لها لا يُغْلِقُهُ عنهم إلى أن تَطْلُعَ الشمسُ مِن مَغربها، وجعلَ لكلِّ سيئة كفارةً تُكفرها من توبة، أو صدقة، أو حسنة ماحية، أو مُصيبة مُكَفِّرة، وجَعل بكل ما حرَّم عليهم عِوضاً مِن الحلال أنفعَ لهم منه، وأطيَبَ، وألذَّ، فيقومُ مقامه لِيستغنى العبدُ عن الحرام، ويسعه الحلال، فلا يَضيقُ عنه، وجعل لِكل عُسْرٍ يمتحنُهم به يُسراً قبله، ويُسراً بعده، ‏(‏فلن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسرَيْنِ‏)‏ فإذَا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده، فكيف يُكلِّفُهم ما لا يسعهم فضلاً عما لا يُطيقونه ولا يقدِرُونَ عليه‏.‏

فصل‏:‏ مراتب الجهاد

إذَا عُرِفَ هذا، فالجهادُ أربع مراتب‏:‏ جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين‏.‏

فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً‏:‏

إحداها‏:‏ أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين‏.‏

الثانية‏:‏ أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله‏.‏

الرابعة‏:‏ أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله‏.‏ فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، فإن السلفَ مُجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، فمَن علم وَعَمِلَ وعَلَّمَ فذاكَ يُدعى عظيماً في ملكوتِ السموات‏.‏

فصل

وأما جهادُ الشيطان، فمرتبتان، إحداهما‏:‏ جهادُه على دفع ما يُلقى إلى العبد مِن الشبهات والشُّكوكِ القادحة في الإيمان‏.‏

الثانية‏:‏ جهادهُ على دفع ما يُلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهواتِ، فالجهادُ الأول يكون بعده اليقين، والثانى يكون بعدَه الصبر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏، فأخبر أن إمامة الدين، إنما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهواتِ والإرادات الفاسدة، واليقينُ يدفع الشكوك والشبهات‏.‏

فصل

وأما جهادُ الكفار والمنافقين، فأربع مراتب‏:‏ بالقلب، واللِّسان، والمالِ، والنفسِ، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان‏.‏

فصل

وأما جهادُ أرباب الظلم، والبِدعِ، والمنكرات، فثلاث مراتبَ‏:‏ الأولى‏:‏ باليدِ إذا قَدَرَ، فإن عَجَزَ، انتقل إلى اللِّسان، فإن عَجَزَ، جاهد بقلبه، فهذِهِ ثلاثةَ عشرَ مرتبةً من الجهاد، و ‏(‏مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النَّفَاقِ‏)‏‏.‏

فصل

ولا يَتِمُّ الجهِادُ إلا بالهِجْرةِ، ولا الهِجْرة والجهادُ إلا بالإيمَانِ، والرَّاجُونَ رحمة الله هم الذين قاموا بهذِهِ الثلاثة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏‏.‏

وكما فصلأن الإيمان فرضٌ على كل أحد، ففرضٌ عليهِ هِجرتان في كل وقت‏:‏ هجرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ بالتوحيدِ، والإخلاص، والإنابة، والتَّوكُّلِ، والخوفِ، والرَّجاءِ، والمحبةِ، والتوبةِ، وهِجرةٌ إلى رسوله بالمُتابعة، والانقيادِ لأمره، والتَّصدِيق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيرِهِ وخبره‏:‏ ‏(‏فمَن كانت هِجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ، فَهِجْرتُهُ إلى الله ورسولِهِ، ومَن كانت هِجْرتُهُ إلى دُنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجُهَا، فَهِجْرته إلى ما هاجر إليه‏)‏‏.‏

وفرضَ عليه جهادَ نفسه في ذات الله، وجِهادَ شيطانه، فهذا كُلُهُ فرضُ عينٍ لا ينوبُ فيه أحدٌ عن أحد‏.‏

وأما جِهَادُ الكُفار والمنافقين، فقد يُكتفى فيه ببعضِ الأمَّةِ إذا حَصَلَ منهم مقصود الجهاد‏.‏

فصل‏:‏ في مَن كمَّل مراتب الجهاد كلها

وأكملُ الخَلْقِ عند الله، من كَمَّلَ مراتِبَ الجهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوِتونَ في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكملَ الخلقِ وأكرمهم على الله خاتِمُ أنبيائِه ورُسُلِهِ، فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وشرع في الجهاد من حِينَ بُعِثَ إلى أن توفَّاهُ الله عزَّ وجلَّ، فإنَّه لما نزل عليه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّر وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1-4‏]‏ شَمَّر عن ساق الدعوة، وقام في ذاتِ الله أتمَّ قيام، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً، وسّراً وجهاراً، ولـمَّا نزل عليه‏:‏ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏، فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغيرَ والكبيرَ، والحرَّ والعبدَ، والذكَر والأُنثى، والأحمرَ والأسودَ، والجِنَّ والإنسَ‏.‏

ولما صَدَعَ بأمرِ الله، وصرَّحَ لقومه بالدَّعوة، وناداهم بسبِّ آلهتهم، وعَيبِ دينهم، اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له مِن أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذهِ سُـنَّة الله عزَّ وجلَّ في خلقه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52-53‏]‏‏.‏

فَعزَّى سبحانه نبيّه بذلك، وأن له أُسوةً بمن تقدَّمه من المرسلين، وعزَّى أتباعه بقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوْا الجَنَّةَ وَلَمَّا يأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَليَعْلَمَنَّ الْكَّاذِبِينَ أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّـيِّئاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ اللهِ فَإنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌ عَنِ العَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَـيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَـبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصَّالِحِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللِّهِ فَإذَا أُوذِىَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا في صُدُورِ العَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1-10‏]‏‏.‏

فليتأملِ العبدُ سياقَ هذِهِ الآياتِ، وما تضمنَّته من العِبَرِ وكُنُوز الحِكَم، فإنَّ الناسَ إذَا أُرسِلَ إليهم الرُّسُلُ بين أمرين‏:‏ إما أن يقولَ أحدهُم‏:‏ آمنا، وإما ألا يقولَ ذلك، بل يستمرَّ على السيَّئاتِ والكُفر، فمَن قال‏:‏ آمنا، امتحنه ربُّه، وابتلاه، وفتنه، والفتنة‏:‏ الابتلاء والاختبار، ليتبينَ الصادِقُ مِن الكاذِب، ومَن لم يقل‏:‏ آمنا، فلا يَحْسَبْ أنه يُعْجِزُ الله ويفوتُه ويَسبِقُه، فإنه إنما يطوى المراحِلَ في يديه‏.‏

وكَيـفَ يَفِـرُّ المرْءُ عَـنْهُ بِذَنْـبِهِ ** إِذَا كَانَ تُطْوى في يَدَيْهِ المرَاحِلُ

فمَن آمن بالرُّسُلِ وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتُلى بما يُؤلِمه، وإن لم يُؤمن بهم ولم يُطعهم، عُوقِبَ في الدنيا والآخرة، فَحَصَلَ له ما يُؤلمه، وكان هذا المؤلمُ له أعظَمَ ألماً وأدومَ مِن ألم اتِّباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفسٍ آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له العاقبةُ في الدنيا والآخرة، والمُعرِضُ عن الإيمان تحصلُ له اللَّذةُ ابتداءً، ثم يَصير إلى الألم الدائم‏.‏ وسئل الشافعى رحمه الله أيُّما أفضلُ للرجل، أن يُمكَّن أو يُبتلى ‏؟‏ فقال‏:‏ لا يُمكَّن حتى يُبتلى‏.‏ والله تعالى ابتلى أُولى العَزْمِ مِن الرسل فلما صَبَرُوا مكَّنهم، فلا يَظُنَّ أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلام في العُقُول، فأعقلُهم مَنْ باع ألماً مستمِراً عظيماً، بألم منقطع يسير، وأشقاهُم مَنْ باع الألَمَ المنقطِعَ اليسير، بالألم العظيم المستمر‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يختار العاقلُ هذا ‏؟‏ قيل‏:‏ الحاملُ له على هذا النَّقْدُ، والنَّسيئة‏.‏

* والنَّفْسُ مُوكلةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ *

{‏كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 20-21‏]‏، ‏{‏إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وهذا يحصُل لكل أحد، فإن الإنسان مدنى بالطَّبع، لا بُد له أن يعيشَ مع الناس، والناسُ لهم إرادات وتصورات، فيطلبُون منه أن يُوافِقهم عليها، فإن لم يوافقهم، آذوْه وعذَّبوه، وإن وافقهم، حَصَلَ له الأذى والعذابُ، تارةً منهم، وتارةً مِن غيرهم، كمن عنده دِينٌ وتُقى حلَّ بين قوم فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ، ولا يتمكنون مِن فجورهم وظُلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوتِه عنهم، فإن وافقهم، أو سكت عنْهم، سَلِمَ مِن شرهم في الابتداء، ثم يتسلَّطُونَ عليه بالإهانة والأذى أضعافَ ما كان يخافهُ ابتداء، لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سَلِمَ منهم، فلا بد أن يُهان ويُعاقَب على يد غيرهم، فالحزمُ كُلُّ الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية‏:‏ ‏(‏مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ الله لم يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ الله شَيْئَاً‏)‏‏.‏

ومَنْ تأمل أحوالَ العالَم، رأى هذا كثيراً فيمن يُعينُ الرؤساءَ على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعينُ أهلَ البِدَعِ على بِدعهم هَرَباً من عُقوبتهم، فمَنْ هداه الله، وألهمه رُشده، ووقاه شرَّ نفسه، امتنع مِن الموافقة على فِعل المحرَّم، وصَبَرَ على عُدوانهم، ثم تكونُ له العاقبةُ في الدنيا والآخرة، كما كانت لِلرُّسل وأتباعهِم، كالمهاجرين، والأنصار، ومَن ابتُلى مِن العلماء، والعُبَّاد، وصالحى الوُلاة، والتجار، وغيرهم‏.‏

ثمَّ عزَّاهم تعالى بعزاءٍ آخر، وهو أن جِهادهم فيه، إنما هو لأنفسهم، وثمرته عائدة عليهم، وأنه غنى عن العالمين، ومصلحةُ هذا الجهاد، ترجعُ إليهم، لا إليه سُبحانه، ثم أخبر أنَّه يُدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زُمرة الصالحين‏.‏

ثم أخبر عن حال الدَّاخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أُوذى في الله جعل فتنةَ الناسِ له كعذاب الله، وهى أذاهم له، ونيلُهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسلُ وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منهم، وتركِهِ السبب الذي ناله، كعذابِ الله الذي فرَّ منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لِكمال بصيرتهم، فرُّوا مِن ألم عذاب الله إلى الإيمانِ، وتحمَّلُوا ما فيهِ من الألم الزائل المُفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته، فرَّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففرَّ مِن ألمِ عذابهم إلى ألمِ عذاب الله، فجعل ألمَ فتنة الناس في الفِرار منه، بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبِنَ كُلَّ الغَبن إذ استجار مِن الرَّمضاء بالنار، وفرَّ مِن ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جُنده وأولياءه، قال‏:‏ إنى كنتُ معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدرُه من النفاق‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الله سبحانه اقتضت حكمتهُ أنه لا بد أن يمتحن النفوسَ ويبتَليها، فُيظْهِرَ بالامتحان طِّيبَها مِن خبيثها، ومَنْ يصلُح لموالاته وكراماته، ومَنْ لا يصلُح، وليُمحِّص النفوسَ التي تصلُح له ويُخلِّصها بِكِير الامتحان، كالذَّهب الذي لا يخلُص ولا يصفو مِن غِشه، إلا بالامتحان، إذ النفسُ في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم مِن الخُبث ما يحتاجُ خروجه إلى السَّبكِ والتصفية، فإن خرج في هذه الدار، وإلا ففى كِير جهنم، فإذا هُذِّب العبدُ ونُقِّىَ، أُذِنَ له في دخولِ الجنة‏.‏

فصل‏:‏ ذكر السابقين إلى الإسلام من الرجال والنساء والصبيان

ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عزَّ وجَلَّ، استجاب له عِبادُ الله مِن كل قبيلة، فَكَانَ حائِزَ قصبِ سَبْقِهِم، صِدَّيقُ الأُمة، وأسبقُها إلى الإسلام، أبو بكر رضى الله عنه، فآزره في دين الله، ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجابَ لأبى بكر‏:‏ عثمانُ بن عفان، وطلحةُ بن عُبيد الله، وسعدُ بنُ أبى وقاص‏.‏

وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صِدَّيقَةُ النِّساءِ‏:‏ خديجةُ بنت خُويلد، وقامت بأعباء الصِّدِّيقيَّةِ، وقال لها‏:‏ ‏(‏لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسى‏)‏‏.‏ فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ ‏(‏أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أبَداً‏)‏، ثم استَدَلَّت بما فيه من الصفات الفاضلة، والأخلاق والشيم، على أن مَنْ كان كذلك لا يُخزَى أبَدَاً، فعلمت بكمال عقلها وفِطرتها، أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشِّيم الشريفة، تُناسِبُ أشكالها من كرامة الله، وتأييده، وإحسانه، ولا تُناسِبُ الخزىَ والخِذلان، وإنما يُناسبه أضدادُها، فمَن ركَّبه الله على أحسنِ الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليقُ به كرامتهُ وإتمامُ نعمته عليه، ومَنْ ركَّبه على أقبح الصفاتِ وأَسْوَإِ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبُها، وبهذا العقل والصدِّيقية استحقَّت أن يُرْسِلَ إِلَيْهَا رَبُّها بالسَّلاَمِ مِنْهُ مَعَ رَسُولَيْهِ جِبْرِيل وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل

وبادر إلى الإسلام علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنه وكان ابنَ ثمان سنين، وقيل‏:‏ أكثرَ من ذلك، وكان في كفالةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذه من عمهِ أبى طالب إعانةً له في سَنَةِ مَحْلٍ‏.‏

وبادر زيدُ بنُ حارثة حِبُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان غُلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوَّجَها، وقَدِمَ أبوه وعمُّه في فِدائه، فسألا عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقيل‏:‏ هو في المسجد، فدخلا عليه، فقال‏:‏ يا ابنَ عبد المطلب، يا ابنَ هاشم، يا ابنَ سيِّدِ قومه، أنتُم أهلُ حَرَم الله وجيرانه، تفكُّون العانى وتُطعِمُونَ الأسير، جئناكَ في ابننا عِندك، فامنُن علينا، وأَحْسِنْ إلينا في فِدائِه، قال‏:‏ ‏(‏ومَن هو‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ زيدُ بنُ حارثة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَهَلاَّ غَيْرَ ذلِك‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ ما هو ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أَدْعُوهُ فأُخيِّرُه، فَإن اخْتارَكُم، فَهُوَ لَكُم، وَإِن اخْتَارَنى، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بالَّذِى أَخْتَارُ عَلَى مَن اخْتَارَنى أحَدَاً‏)‏ قالا‏:‏ قد رددتنا على النَّصَفِ، وأحسنتَ، فدعاه فقال‏:‏ ‏(‏هل تعرِفُ هؤلاء‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏ مَن هذَا ‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ هذا أبى، وهذا عمى، قال‏:‏ ‏(‏فأنا مَن قد علمتَ ورأيتَ، وعرفتَ صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما‏)‏ قال‏:‏ ما أنا بالذى أختارُ عليك أحداً أبداً، أنتَ منى مكان الأب والعم، فقالا‏:‏ ويحكَ يا زيد، أتختارُ العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك ‏؟‏، قال‏:‏ نعم، قد رأيتُ من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذى أختارُ عليه أحداً أبداً، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أخرجه إلى الحِجرْ، فقال‏:‏ ‏(‏أُشْهِدُكُم أنَّ زَيْدَاً ابنى، يَرِثُنى وأرِثُه‏)‏ فلما رأى ذلك أبوه وعمُّه، طابت نفوسُهما، فانصرفا، ودعى زيدَ بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، فَدُعِىَ من يَومئذ‏:‏ زيدَ بن حارثة‏.‏ قال معمر في ‏(‏جامعه‏)‏ عن الزهرى‏:‏ ‏(‏ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه، وأنعم عليه رسوله، وسماه باسمه‏)‏‏.‏ وأسلم القسُّ ورقةُ بنُ نوفل، وتمنَّى أَنْ يَكُونَ جَذَعَاً إذ يُخرِجُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قومُه، وفى ‏(‏جامع الترمذى‏)‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة، وفى حديث آخر‏:‏ ‏(‏أنه رآه في ثياب بياض‏)‏‏.‏

ودخل الناسُ في الدين واحداً بعد واحد، وقريشٌ لا تُنكِرُ ذلك، حتى بادأهم بعيب دِينهم، وسبِّ آلهتهم، وأنها لا تَضُرُّ ولا تنفعُ، فحينئذ شمَّروا له ولأصحابه عن سَاقِ العداوة، فحمى الله رسولَهُ بعمِّه أبى طالب، لأنه كان شريفاً معظَّمًا في قريش، مُطاعاً في أهله، وأهل مكة لا يتجاسَرونَ على مُكاشفته بشىءٍ من الأذى‏.‏

وكان مِن حكمةِ أحكم الحاكمين بقاؤُه على دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأمَّلها‏.‏

وأما أصحابُه، فمَن كان له عشيرةٌ تحميه، امتنع بعشيرته، وسائرهُم تَصَدَّوْا له بالأذى والعذاب، منهم عمَّار بن ياسر، وأمُّه سُمَيَّة، وأهلُ بيته، عُذِّبوا في الله، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بهم وهم يُعذَّبون يقول‏:‏ ‏(‏صَبْراً يا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ‏)‏‏.‏

ومنهم بلالُ بنُ رباح، فإنه عُذِّبَ في الله أشدَّ العذاب، فهانَ على قومه، وهانت عليه نَفْسُهُ في الله، وكان كلما اشتدَّ عليه العذابُ يقول‏:‏ ‏(‏أحدٌ أحدٌ‏.‏ فيمرُّ به ورقةُ بن نوفل‏.‏ فيقول‏:‏ إى واللهِ يا بلال أحدٌ أحدٌ، أما واللهِ لَئِن قتلُتُموهُ، لأتَّخِذَنَّه حَنَاناً‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هجرة المسلمين إلى الحبشة حين اشتد الأذى عليهم

ولما اشتدَّ أذى المشركين على مَن أسلم، وفُتِنَ منهم مَن فُتِنَ، حتى يقولوا لأحدهم‏:‏ اللاتُ والعُزَّى إلهُكَ مِن دون الله ‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، وحتى إن الجُعَلَ ليمُرُّ بهم، فيقولونَ‏:‏ وهذا إلهُكَ مِن دون الله، فيقول‏:‏ نعم‏.‏ ومرَّ عدوُّ الله أبو جهل بسُمَيَّة أم عمار بن ياسر، وهى تُعذَّبُ، وزوجُهَا وابنها، فطعنها بَحَرْبَةٍ في فَرْجها حتى قتلها‏.‏

كان الصِّدَّيقُ إذا مَّر بأحدٍ من العبيد يُعذَّب، اشتراهُ منهم، وأعتقه، منهم بلالُ، وعامِرُ بن فُهَيْرَةَ، وأم عُبيس، وزِنِّيرَة، والنهدية وابنتها، وجارية لبنى عدى كان عمر يُعذِّبها على الإسلام قبل إسلامه، وقال له أبوه‏:‏ يا بنىَّ أراك تَعْتِقُ رِقابًا ضِعافاً، فلو أنك إذ فعلتَ ما فعلتَ أعتقتَ قوماً جُلْدَاً يمنعونك، فقال له أبو بكر‏:‏ إنى أُرِيدُ ما أُرِيدُ‏.‏

فلما اشتد البلاءُ، أذِنَ الله سبحانه لهم بالهِجرة الأولى إلى أرض الحبشة، وكان أوَّلَ مَن هاجر إليها عثمانُ بن عفان، ومعه زوجتهُ رُقيَّةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أهلُ هذه الهجرة الأولى اثنى عشَرَ رجلاً، وأربع نسوة‏:‏ عثمانُ، وامرأته، وأبو حذيفة، وامرأتهُ سهلة بنت سهيل، وأبو سلمة، وامرأتُهُ أم سلمة هند بنت أبى أمية، والزبير بن العّوام، ومصعب بن عمير، وعبدُ الرحمن بن عوف، وعثمانُ بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وامرأتُهُ ليلى بنت أبى حَثمة، وأبو سَبْرَةَ بن أبى رُهْم، وحاطب بن عمرو،، وسهيل بن وهب، وعبد الله بن مسعود‏.‏ وخرجوا متسللين سراً، فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار، فحملُوهم فيهما إلى أرضِ الحبشة، وكان مخرجُهم في رجب في السنة الخامسة من المبعث، وخرجت قريشٌ في آثارهم حتى جاؤوا البحرَ، فلم يُدرِكُوا منهم أحداً، ثم بلغهم أن قريشاً قد كفُّوا عن النبى صلى الله عليه وسلم، فرجعوا، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار، بلغهم أن قريشاً أشدُّ ما كانُوا عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلَ مَنْ دخل بجوار، وفى تلك المرة دخل ابن مسعود، فسلَّم على النبى صلى الله عليه وسلم وهو في الصَّلاةِ، فلم يَرُدَّ عليه، فتعاظَمَ ذلك على ابن مسعود، حتى قال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ اللهَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أن لاَ تَكَلَّمُوا في الصَّلاةِ‏)‏ هذا هو الصوابُ، وزعم ابنُ سعد وجماعةُ أن ابن مسعود لم يدخُلْ، وأنه رجع إلى الحبشةِ حتى قَدِمَ في المرة الثانية إلى المدينةِ معَ مَنْ قَدِمَ، ورُدَّ هذَا بأن ابن مسعود شهد بدراً، وأجهز على أبى جهل، وأصحابُ هذهِ الهِجْرة إنما قَدِمُوا المدينة مع جعفر بن أبى طالب وأصحَابِهِ بعد بدر بأربع سنين أو خمس‏.‏

قالوا‏:‏ فإن قيل‏:‏ بل هَذَا الذي ذكره ابنُ سعد يُوافق قولَ زيدِ ابن أرقم‏:‏ كنَّا نتكلَّم في الصَّلاة، يُكلِّم الرَّجُلُ صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حَتَّى نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، فأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الكَلاَمِ‏)‏، وزيدُ بن أرقم من الأنصار، والسُّورة مدنية، وحينئذ فابن مسعود سلَّم عليه لما قدمَ وهو في الصلاة، فلم يَرُدَّ عليه حتى سلَّم، وأعلمه بتحريمِ الكلام، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم‏.‏

قيل‏:‏ يُبطِلُ هذا شهود ابن مسعود بدراً، وأهلُ الهِجرة الثانية إنما قَدِمُوا عامَ خيبر مع جعفر وأصحابه، ولو كان ابنُ مسعود ممن قَدِمَ قبل بدر، لكان لِقدومه ذِكر، ولم يذكر أحد قدومَ مهاجرى الحبشة إلا في القَدْمَةِ الأولى بمكة، والثانية عامَ خيبر مع جعفر، فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من ‏؟‏ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق، قال‏:‏ وبلغ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلامُ أهل مكة، فأقبلُوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن إسلامَ أهلِ مكة كان باطلاً، فلم يدخل مِنهم أحدٌ إلا بجوار، أو مستخفياً‏.‏ فكان ممن قدم منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد بدراً وأُحُداً فذكر منهم عبد الله بن مسعود‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تصنعون بحديثِ زيد بن أرقم ‏؟‏ قيل‏:‏ قد أُجيب عنه بجوابين، أحدهما‏:‏ أن يكون النهىُ عنه قد ثبت بمكة، ثم أُذِنَ فيه بالمدينة، ثم نُهِىَ عنه‏.‏ والثانى‏:‏ أن زيدَ بنْ أرقم كان مِن صغار الصحابة، وكان هو وجماعةٌ يتكلَّمون في الصلاة على عادتهم، ولم يبلغهم النهىُ، فلما بلغهم انتَهَوْا، وزيد لم يُخبر عن جماعة المسلمين كُلِّهم بأنهم كانوا يتكلَّمون في الصلاة إلى حين نزول هذه الآية، ولو قُدِّرَ أنه أخبر بذلك لكان وهماً منه‏.‏

ثم اشتد البلاءُ مِن قريش على مَن قَدِمَ من مهاجرى الحبشة وغيرِهم، وسطت بهم عشائِرُهم، ولَقُوا منهم أذىً شديداً، فأَذِنَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرضِ الحبشة مرَّة ثانية، وكان خروجهم الثانى أشقَّ عليهم وأصعبَ، ولَقُوا من قريش تعنيفاً شديداً، ونالوهم بالأذى، وصَعُب عليهم ما بلغهم عن النجاشى مِن حسن جواره لهم، وكان عِدَّةُ مَن خرج في هذه المرة ثلاثةً وثمانين رجلاً، إن كان فيهم عمَّارُ بن ياسر، فإنه يُشك فيه، قاله ابن إسحاق، ومِن النساء تِسعَ عشرة امرأة‏.‏

قلتُ‏:‏ قد ذُكرَ في هذه الهجرة الثانية عثمانُ بن عفان وجماعةٌ ممن شهد بدراً، فإما أن يكونَ هذا وهماً، وإما أن يكونَ لهم قدمةٌ أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاثُ قدمات‏:‏ قَدمة قبل الهِجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عامَ خيبر، ولذلك قال ابنُ سعد وغيرُه‏:‏ إنهم لما سَمِعُوا مُهَاجَرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثمانُ نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحُبِسَ بمكة سبعة، وشَهِدَ بدراً منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً‏.‏

فلما كان شهرُ ربيع الأول سنة سبعٍ من هِجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كتبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النَّجاشىِّ يدعوه إلى الإسلامِ، وبعث به مع عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فلما قُرِىء عليه الكتابُ، أسلمَ، وقال‏:‏ ‏(‏لَئِنْ قَدَرْتُ أَنْ آتِيَه لآتِيَنَّهُ‏)‏‏.‏

وكتب إليه أن يُزَوِّجَه أمِّ حبيبة بنتَ أبى سُفيان، وكانت فيمن هاجَرَ إلى أرضِ الحبَشَةِ مع زوجها عُبيدِ الله بنِ جحش، فَتنصَّر هُنَاك وماتَ، فزوَّجَهُ النجاشىُّ إياها، وأصدقها عنه أَربعَمائِة دِينارٍ، وكان الذي وَلى تزويجَها خالد بنُ سعيد بن العاص‏.‏

وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَبْعَثَ إليهِ مَنْ بقى عِندَه من أصحابه، ويحمِلَهم، ففعل، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فَقَدِمُوا على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بخَيْبَر، فوجدُوه قد فَتَحَهَا، فكلَّم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُسْلِمينَ أن يُدخِلُوهم في سِهَامِهم، فَفَعَلُوا‏.‏

وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بينَ حديثِ ابنِ مسعود وزيدِ بن أرقم، ويكون ابنُ مسعود قَدِمَ في المرة الوسطى بعد الهِجرة قبل بدرٍ إلى المدينة، وسلَّمَ عليه حينئذ، فلم يردَّ عليه، وكان العهدُ حديثاً بتحريم الكلام، كما قال زيدُ بن أرقم، ويكون تحريمُ الكلامِ بالمدينةِ، لا بمكة، وهذا أنسبُ بالنسخ الذي وقع في الصلاة والتغيير بعد الهجرة، كجعلها أربعاً بعد أن كانت ركعتين، ووجوب الاجتماع لها‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما أحسنه مِن جمع وأثبته لولا أن محمد بن إسحاق قد قال‏:‏ ما حكيتُم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه مِن الحبشة حتى هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وهذا يدفع ما ذكر‏.‏

قيل‏:‏ إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا، فقد قال محمد بن سعد في ‏(‏طبقاته‏)‏‏:‏ إن ابنَ مسعود مكث يسيراً بعد مقدمه، ثم رجع إلى أرض الحبشة، وهذا هو الأظهر، لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة مَن يَحميه، وما حكاه ابنُ سعد قد تضمَّن زيادة أمر خفى على ابن إسحاق، وابنُ إسحاق لم يذكر مَن حدَّثه، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب، فاتفقت الأحاديثُ، وصدَّق بعضها بعضاً، وزالَ عنها الإشكال، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد ذكر ابنُ إسحاق في هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعرى عبد الله بن قيس، وقد أَنْكَرَ عليه ذلك أهل السِّـيَر، منهم محمد بن عمر الواقدى وغيرُه، وقالوا‏:‏ كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على مَن دونه ‏؟‏

قلتُ‏:‏ وليس ذلك مما يخفى على مَنْ دون محمد بن إسحاق فضلاً عنه، وإنما نشأ الوهمُ أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم، ثم قَدِمَ معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، كما جاء مصرَّحاً به في ‏(‏الصحيح‏)‏ فعد ذلك ابن إسحاق لأبى موسى هِجرة، ولم يقل‏:‏ إنه هاجر من مكة

إلي أرض الحبشة لينكر عليه‏.‏

فصل

فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشى آمِنِين، فلما عَلِمَتْ قريشٌ بذلك، بعثت في أثرهم عبدَ الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، بهدايَا وتُحَفٍ مِن بلدهم إلى النجاشى ليردَّهم عليهم، فأبى ذلك عليهم، وشَفَعُوا إليه بعظماء بطارقته، فلم يجبهم إلى ما طلبوا، فَوَشَوْا إليه‏:‏ أن هؤلاء يقولون في عيسى قولاً عظيماً، يقولون‏:‏ إنه عبد الله، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه، ومُقَدَّمُهم جعفر بن أبى طالب، فلما أرادوا الدخولَ عليه، قال جعفر‏:‏ يستأذِنُ عليك حِزْبُ الله، فقال للآذِنِ‏:‏ قل له يُعيد استئذانه، فأعاده عليه، فلما دخلوا عليه قال‏:‏ ما تقولون في عيسى ‏؟‏ فتلا عليه جعفر صدراً من سورة ‏(‏كهيعص‏)‏ فأخذ النجاشى عُوداً من الأرض فقال‏:‏ ما زاد عيسى عَلَى هذا ولا هذَا العود، فتناخرت بطارقتهُ عنده، فقال‏:‏ وإن نخرتم، قال‏:‏ اذهبوا فأنتم سَيوم بأرضى، من سبَّكم غُرِّم والسيوم‏:‏ الآمنون في لسانهم، ثم قال للرسولين‏:‏ لو أعطيتمونى دَبْرَاً من ذهب يقول‏:‏ جبلاً من ذهب ما أسلمتهم إليكما، ثم أمَر فَرُدَّت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين‏.‏

فصل

ثم أسلم حمزة عمُّه وجماعة كثيرون، وفشا الإسلام، فلما رأت قريشٌ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يعلو، والأمور تتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وبنى عبد مناف، أن لا يُبايعوهم، ولا يُناكِحوهم، ولا يُكلِّموهم، ولا يُجالِسُوهُم، حتى يُسلِّموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلَّقوها في سقفِ الكعبةِ، يقال‏:‏ كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال‏:‏ النَّضرُ بن الحارث، والصحيح‏:‏ أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَشَلَّتْ يَدُهُ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنُهم وكافرهم، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى هاشم، وبنى المطلب، وحُبِسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه في الشِّعب شِعْب أبى طالب لَيْلَةَ هِلال المحرَّم، سنةَ سبع مِنَ البِعثة، وعُلِّقَتِ الصحيفةُ في جوف الكعبة، وبقُوا محبوسينَ ومحصورينَ، مضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم المِيرةُ والمادةُ، نحوَ ثلاثِ سنين، حتى بلغهم الجَهْدُ، وسُمِعَ أصواتُ صِبيانِهم بالبُكاء مِن وراء الشِّعب، وهناك عَمِلَ أبو طالب قصيدته اللاميةَ المشهورة أولها‏:‏

جَزَى الله عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً ** عُقُوبَـةَ شَـرٍّ عَاجلاً غَيْرَ آجِلِ

وكانت قريش في ذلك بين راضٍ وكاره، فسعى في نقضِ الصحيفةِ مَنْ كان كارِهاً لها، وكان القائمُ بذلك هشامَ بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك، مشى في ذلك إلى المُطعِم بن عدى وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك، ثم أطلعَ اللهُ رسولَه على أمر صحيفتهم، وأنه أرسل عليها الأرَضَةَ فأكلت جميع ما فيها من جَوْرِ وقطيعةٍ وظُلمٍ، إلا ذكر الله عَزَّ وجَلَّ، فأخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابنَ أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كانَ كاذباً خلَّينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً، رجعتُم عن قطيعتنا وظُلمِنا، قالوا‏:‏ قد أنصفت، فأنزلُوا الصَّحِيفةَ، فلما رأوا الأمرَ كما أخبر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ازدادوا كُفراً إلى كُفرهم، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعب‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجةُ بعده بثلاثة أيام، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

فصل

فلما نُقِضَتِ الصحيفةُ، وافق موتُ أبى طالب وموت خديجة، وبينهما يسير، فاشتد البلاءُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه، فكاشفُوه بالأذى، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائفِ رجاءَ أن يُؤووه ويَنصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ فلم يَرَ مَن يُؤوى، ولم ير ناصِراً، وآذَوه مع ذلك أشدَّ الأذى، ونالُوا منه ما لم ينله قومُه، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه، فقالوا‏:‏ اخُرج مِن بلدنا، وأغرَوْا به سُفهاءهم، فوقفوا له سمَاطَيْن، وجعلوا يرمُونه بالحِجَارَةِ حتى دمِيَتْ قَدَماه، وزيدُ بن حارثة يَقيهِ بنفسه حتى أصابه شِجاج في رأسه، فانصرفَ راجعاً من الطائفِ إلى مكة محزوناً، وفى مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهورِ دُعاء الطَّائِفِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِى، وَقِلَّةَ حِيلَتِى، وهَوَانى عَلَى النَّاس، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأَنْتَ رَبَّى، إلَى مَنْ تَكِلَنِى، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِى ‏؟‏ أوْ إلى عَدوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِى، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَىَّ فَلاَ أُبَالِى، غَيْرَ أَنَّ عَافِيتَكَ هي أَوْسَعُ لى، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَىَّ غَضَبُكَ، أوْ أَنْ يَنْزِلَ بى سَخَطُك، لك العُتبى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا بِكَ‏)‏‏.‏

فأرسل ربُّه تبارك وتعالى إليه مَلَكَ الجِبَالِ، يستأمِرُهُ أن يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ عَلَى أهْل مَكَّةَ، وهُمَا جبلاها اللذانِ هي بينهما، فقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ، بَلْ أَسْتَأْنى بِهمْ لَعَـلَّ اللهَ يُخرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً‏)‏‏.‏

فلما نزل بنخلة مَرْجِعَهُ، قام يُصَلِّى مِن الليل، فَصُرِفَ إليهِ نَفَرٌ مِنَ الجن، فاستمَعُوا قراءته، ولم يَشْعُرْ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى نَزَلَ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏وَإذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنَّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنْصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ قَالُواْ يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيُبواْ دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمِ وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ في ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29-32‏]‏‏.‏

وأقام بنخلة أياماً، فقال له زيدُ بنُ حارثة‏:‏ كيف تدخلُ عليهم، وقد أخرجوك ‏؟‏ يعنى قريشاً فقال‏:‏ ‏(‏يا زيدُ ؛ إن الله جاعِلٌ لما ترى فَرَجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دِينَه ومظهر نبيه‏)‏‏.‏

ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلاً مِن خُزاعة إلى مُطعم بن عدى‏:‏ أَدْخُلُ في جِوَارِكَ ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال‏:‏ البِسُوا السِّلاَح، وكونوا عِنْدَ أركانِ البيت، فإنى قد أجرتُ محمداً، فدخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحَرامَ، فقام المطعمُ بن عدى على راحلته، فنادى‏:‏ يا معشرَ قريش ؛ إنى قد أجرتُ محمداً، فَلا يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكم، فانتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّكنِ، فاسْتَلَمَه، وصلَّى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعمُ بن عدى وولده محدِقون به بالسِّلاح حتى دخل بيته‏.‏

فصل

ثم أُسرِىَ برسول الله صلى الله عليه وسلم بِجَسَدِهِ على الصحيح، مِن المسجد الحرامِ إلى بيتِ المقدس، راكباً على البُراقِ، صُحبة جبريل عليهما الصلاةُ والسَّلام، فنزل هُناكَ، وصَلَّى بالأنبياء إِماماً، وربط البُراقَ بحَلْقَةِ بابِ المسجد‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه نزل ببيتِ لحمٍ، وصلَّى فيه، ولم يَصِحَّ ذَلكَ عَنْهُ البتة‏.‏

ثمَّ عُرِجَ بِهِ تِلكَ الليلةَ مِنْ بَيْتِ المقدسِ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيا، فاستفتح لَهُ جِبْريلُ، فَفُتِحَ لَهُ، فَرَأَى هُنَالِكَ آدَمَ أَبَا البَشَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، ورحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبوَّتِه، وَأَرَاهُ الله أرْوَاحَ السُّعَدَاءِ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْوَاحَ الأَشْقِيَاءِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ لَهُ، فَرَأى فِيهَا يَحْيَى بن زَكَرِيَّا وَعِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، فَلَقِيَهُمَا وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَردَّا عليه، وَرَحَّبَا بِه، وَأَقَرَّا بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرج بهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَة، فَرأى فيها يوسف، فسلَّمَ عليه، فردَّ عليه، ورحَّبَ به، وأقرّ بنبوتِه، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَرَأَى فِيهَا إِدْريسَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنبوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَرَأَى فِيهَا هَارون بْنَ عِمْرَان، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَلَقِىَ فِيهَا مُوسَى بْن عِمْرَان، فَسَلَّمَ عَلَيهِ وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ، بَكَى مُوسَى، فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَبْكِى، لأَنَّ غُلاَمَاً بُعِثَ مِنْ بَعْدِى، يَدْخُلُ الجنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَلَقِىَ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ رُفِع إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لَهُ البَيْتُ المَعْمُورُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الجبَّارِ جَلَّ جَلالُه، فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أَدْنَى‏.‏ فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أوْحَى، وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً‏.‏ فَرَجِعَ حَتَّى مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ‏:‏ بِمَ أُمِرْتَ ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِخَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ‏:‏ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجعْ إِلىَ رَبِّكَ، فَاسْأْلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فالْتَفَتَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ في ذلِكَ، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلاَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ الجَبَّارَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهُوَ في مَكَانِهِ هذا لفظُ البخارى في بعض الطرق فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَاً، ثُمَّ أُنْزِلَ حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ‏:‏ ارْجعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى، وَبَيْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسَاً، فَأَمَرَهُ مُوسَى بالرُّجُوعِ وَسُؤَالِ التَّخْفِيفِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَدِ اسْتَحْييْتُ مِنْ رَبِّى، وَلكِنْ أَرْضَى وَأُسلِّمُ‏)‏، فَلَمَّا بَعُدَ نَادَى مُنَادٍ‏:‏ قَدْ أَمْضيْتُ فَرِيضَتِى، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِى‏.‏

واختلف الصحابةُ‏:‏ هل رأى ربَّهُ تلك الليلةَ، أم لا ‏؟‏ فصحَّ عن ابن عَبَّاس أنه رأى ربَّهُ، وصحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏رَآهُ بِفُؤَادِهِ‏)‏‏.‏

وصحَّ عَنْ عَائِشَةَ وابْن مًَسْعُودٍ إِنْكَارُ ذلِكَ، وقَالاَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 13-14‏]‏ إِنَّمَا هُوَ جِبْريلُ‏.‏

وَصَحَّ عَنْ أبى ذَرَّ أَنَّه سَأَلَهُ‏:‏ هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ ‏؟‏ فقالَ‏:‏ ‏(‏نُورُ أَنَّى أرَاهُ‏)‏ أى‏:‏ حال بينى وبين رؤيته النور، كما قال في لفظ آخر‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ نُورَاً‏)‏‏.‏

وقد حكى عثمانُ بن سعيد الدَّارمى اتفاقَ الصَّحَابة على أنه لم يره‏.‏

قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية قدَّس الله روحَه‏:‏ وليس قولُ ابن عباس‏:‏ ‏(‏إنه رآه‏)‏ مناقِضاً لهذا، ولا قولُه‏:‏ ‏(‏رآهُ بفُؤاده‏)‏ وقد صحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏رأيتُ ربِّى تَبَارَكَ وتَعَالَى ‏)‏ ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتُبِسَ عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤيةِ رَبِّه تبارك وتعالى تِلْكَ اللَّيْلَةَ في منامه، وعلى هذا بنى الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى، وقال‏:‏ ‏(‏نعم رآه حقاً، فإنَّ رؤيا الأنبياء حق، ولا بُدَّ‏)‏، ولكن لم يَقُلْ أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّه رآهُ بِعَيْنَىْ رأسِهِ يقظةً، ومَن حكى عنه ذلك، فقد وَهِمَ عليه، ولكن قال مرّة‏:‏ ‏(‏رآه‏)‏، ومرَّة قال‏:‏ ‏(‏رآه بفؤاده‏)‏، فَحُكِيَتْ عنه رِوايتان، وحُكِيَت عنه الثالثة مِن تصُّرفِ بعض أصحابه‏:‏ أنه رآه بعينى رأسه، وهذه نصوصُ أحمد موجودة، ليس فيها ذلك‏.‏

وأمَّا قولُ ابنِ عباس‏:‏ ‏(‏إنَّه رآهُ بفُؤادِهِ مرتين‏)‏، فإن كان استنادُه إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 11‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 13‏]‏ والظاهر أنه مستندُه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئى جبريلُ، رآهُ مرَّتَيْنِ في صُورته التي خُلِقَ عَلَيْهَا، وقول ابن عباس هذا هو مُسْتَنَدُ الإمام أحمد في قوله‏:‏ رآه بفؤاده، والله أعلم‏.‏

وأما قولُهُ تعالى في سورة النجم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 8‏]‏ فهو غير الدُّنو والتَّدلى في قصة الإسراء، فإنَّ الذي في ‏(‏سورة النجم‏)‏ هو دنُّو جبريل وتدلِّيه، كما قالت عائشةُ وابنُ مسعود، والسياقُ يَدُلُّ عليه، فإنه قال‏:‏ ‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 5‏]‏ وهو جبريل ‏{‏ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 6-8‏]‏، فالضمائر كُلُّها راجعة إلى هذا المعلِّم الشديد القوى، وهو ذُو المِرَّة، أى‏:‏ القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنى فتدلَّى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قَدْرَ قوسين أو أدنى، فأما الدُّنُوُّ والتدَّلى الذي في حديث الإسراء، فذلك صريحٌ في أنه دنوُّ الربِّ تبارك وتدلِّيه ولا تَعَرُّض في ‏(‏سورة النجم‏)‏ لِذلك، بل فيها أنه رآه نزلةً أُخرى عِند سِدرةِ المنتهى، وهذا هو جبريلُ، رآهُ محمد صلى الله عليه وسلم على صُورته مرتين‏:‏ مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم‏.‏

فصل

فلما أصبحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قومِه، أخبرهم بما أراه اللهُ عَزَّ وجَلَّ من آياتهِ الكبرى، فاْشْتَدَّ تكذيبُهم له، وأذاهُم وضراوتُهم عليه، وسألوه أن يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ، فجلاَّهُ الله له حَتَّى عَايَنَهُ، فَطَفِقَ يُخِبُرهم عَنْ آياتِهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَن يَرُدُّوا عَلَيْهِ شَيْئًا‏.‏

وأخبَرَهُم عَنْ عِيرهم في مَسْرَاهُ ورجوعِهِ، وأخبَرَهُم عن وقتِ قُدومِهَا، وأخبَرَهُم عن البعير الذي يَقْدُمُها، وكان الأمرُ كما قال، فلم يِزَدْهُم ذلك إلا نفوراً، وأبى الظالمون إلا كُفوراً‏.‏

فصل

وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا‏:‏ ‏(‏إنما كان الإسراء بروحه، ولم يَفْقِد جسدَه‏)‏، ونُقِلَ عن الحسن البَصرى نحو ذلك، ولكن ينبغى أن يُعلم الفرقُ بين أن يُقال‏:‏ كان الإسراءُ مناماً، وبين أن يُقال‏:‏ كان بروحه دونَ جسده، وبينهما فرقٌ عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقُولا‏:‏ كان مناماً، وإنما قالا‏:‏ ‏(‏أُسْرِىَ بِرُوحِهِ ولم يَفْقِدْ جَسَدَهُ‏)‏، وَفَرْقٌ بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصُّور المحسوسة، فيرى كأنَّه قد عُرِجَ به إلى السماء، أو ذُهِبَ به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحُه لم تصعَد ولم تذهب، وإنما مَلَكُ الرؤيا ضَرَبَ له المِثَال، والَّذِينَ قالوا‏:‏ عُرِجَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم طائفتان‏:‏ طائفةٌ قالت‏:‏ عُرِجَ بروحه وبدنه، وطائفة قالت‏:‏ عُرِجَ بروحه ولم يَفْقِدْ بدَنه، وهؤلاء لم يُرِيدُوا أن المِعراجَ كان مناماً، وإنما أرادوا أن الرُّوحَ ذاتَها أُسْرِىَ بها، وعُرِجَ بِهَا حقيقةً، وباشرت مِنْ جِنس ما تُباشِرُ بعد المفارقة، وكان حالُهَا في ذلك كحالها بعد المفارقة في صُعودها إلى السَّموات سماءً سماءً حتى يُنْتهى بها إلى السماء السابعة، فَتَقِفُ بَيْنَ يدى الله عَزَّ وجَلَّ، فيأمرُ فيها بمَا يَشَاءُ، ثم تنزل إلى الأرض، والذي كان لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراء أكملُ مما يحصُلُ للروح عند المفارقة‏.‏

ومعلوم أن هذا أمرٌ فوقَ ما يراهُ النائمُ، لكن لما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مقام خَرْقِ العَوائِدِ، حتى شُقَّ بطنُهُ، وهو حى لا يتألم بذلك، عُرِجَ بذاتِ روحه المقدسة حقيقةً من غير إماتة، ومَنْ سِوَاهُ لا ينالُ بذاتِ روحِهِ الصُّعودَ إلى السماءِ إلا بَعْدَ الموتِ والمُفارقة، فالأنبياءُ إنما استقرَّت أرواحُهُم هناك بعد مفارقة الأبدان، وروحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صَعِدَت إلى هُنَاكَ في حال الحياة ثم عادَت، وبعد وفاته استقرَّت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومع هذا، فلها إشراف على البَدَنِ وإشراقٌ وتعلُّق به، بحيث يَرُدُّ السلامَ على مَن سَلَّمَ عَلَيْهِ، وبهذا التعلق رأى موسى قائماً يُصَلِّى في قبره، ورآهُ في السماء السادسة‏.‏ ومعلوم أنه لم يُعْرَجْ بموسَى مِن قبره، ثم رُدَّ إليه، وإنما ذلك مقامُ رُوحِه واستقرارُها، وقبرُه مقامُ بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها، فرآهُ يُصَلِّى في قبره، ورآه في السماء السَّادِسَةِ، كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقِراً هناك، وبَدَنُه في ضريحه غيرُ مفقود، وإذا سلَّم عليه المسلِّم ردَّ الله عليه روحه حتى يَرُدَّ عليه السلام، ولم يفارق الملأ الأعلى، ومن كَثُفَ إدراكُهُ، وغلظت طباعه عن إدراك هذا، فلينظرْ إلى الشَّمسِ في عُلُوِّ محلها، وتعلُّقِهَا، وتأثيرهَا في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها، هذا وشأنُ الروح فوق هذا، فلها شأنٌ، وللأبدان شأن، وهذه النارُ تكون في محلها، وحرارتُها تؤثِّر في الجسم البعيد عنها، مع أنَّ الارتباط والتعلُّقَ الذي بَيْنَ الروحِ والبدنِ أقوى وأكملُ مِن ذلك وأتم، فشأنُ الروح أعلى من ذلك وألطف‏.‏

فَقُــلْ للعُيُــونِ الرُّمْــدِ إِيَّاكِ أَنْ تَرَىْ ** سَنَا الشَّمْسِ فَاسْتَغْشِى ظَلاَمَ اللَّيَالِيَا

فصل

قال موسى بن عُقبة عن الزهرى‏:‏ ‏(‏عُرِجَ بُروحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ المقدس وإلى الساء قبلَ خروجه إلى المدينة بسنة‏)‏، وقال ابن عبد البر وغيره‏:‏ كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وكان الإسراءُ مرَّةً واحدة‏.‏ وقيل‏:‏ مَرَّتين‏:‏ مرة يقظةً، ومرة مناماً، وأربابُ هذا القول كأنَّهُم أرادوا أن يجمعوا بين حديثِ شريك، وقوله‏:‏ ثم استيقظتُ، وبين سائرِ الروايات، ومنهم مَنْ قال‏:‏ بل كان هذا مرتين، مرة قبل الوحى لقوله في حديث شريك‏:‏ ‏(‏وذلك قبل أن يُوحَى إليه‏)‏، ومرة بعد الوحى، كما دلَّت عليه سائر الأحاديث، ومنهم مَن قال‏:‏ بل ثلاثُ مرات‏:‏ مرة قبل الوحى، ومرَّتين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقةُ ضعفاء الظاهرية مِنْ أرباب النَّقْلِ الذين إذا رأوا في القصة لفظة تُخالِفُ سياقَ بعضِ الروايات، جعلُوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الرواياتُ، عدَّدوا الوقائع، والصوابُ الذي عليه أئمةُ النقل أن الإسراء كان مرةً واحِدةً بمكَّة بعد البِعثة‏.‏

ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً، كيف ساغ لهم أن يظنُّوا أنه في كل مرة تُفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردَّد بين ربه وبين موسى حتى تصيرَ خمساً، ثم يقول‏:‏ ‏(‏أمضيتُ فريضتى، وخففتُ عن عبادى‏)‏ ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشراً عشراً، وقد غلَّط الحُفَّاظُ شريكاً في ألفاظ مِن حديث الإسراء ومسلم أورد المسند منه ثم قال‏:‏ فقدَّم وأخَّر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله‏.‏

فصل‏:‏ في مبدأ الهجرة التي فرَّق اللهُ فيها بين أعدائه وأوليائه،وجعلها مبدأً لإعزاز دينه ونصر عبده ورسُوله

قال الواقدى‏:‏ حدَّثنى محمدُ بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثلاثَ سِنِينَ مِن أوَّلِ نُبوته مُستخفياً، ثم أعلنَ في الرَّابِعة، فدعا النَّاسَ إلى الإسلام عَشْرَ سِنِينَ، يُوافى المَوْسِمَ كُلَّ عام، يتَّبعُ الحاجَّ في منازلهم، وفى المواسم بعُكاظ، ومَجَنَّة، وذى المَجَاز، يدعوهم إلى أن يمنَعُوهُ حتى يُبَلِّغَ رِسَالاتِ ربِّه ولهم الجنةُ، فلا يَجِدُ أحداً ينصُره ولا يُجيبه، حتى إنه ليسألُ عن القبائل ومنازِلهَا قبيلةً قبيلةً، ويقول‏:‏ ‏(‏يا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا‏:‏ لاَ إِلهَ إِلا الله تُفْلِحُوا، وَتمْلِكُوا بِهَا العَرَبَ، وتَذِلَّ لَكُم بِهَا العَجَمُ، فَإذَا آمَنْتُم، كُنْتُم مُلُوكاً في الجَنَّةِ‏)‏، وأبو لَهَبٍ وراءَه يقولُ‏:‏ لا تُطِيعُوهُ فإنَّهُ صَابِىء كَذَّاب، فيردُّونَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبحَ الرَّدِّ، ويُؤذونه، ويقولون‏:‏ أُسرتُك وعشيرتُكَ أعلمُ بِكَ حيثُ لم يَتَّبِعُوك، وهُوَ يدعُوهم إلى الله، ويقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هكَذَا‏)‏ قال‏:‏ وكان ممن يسمَّى لنا مِن القبائِلِ الَّذِينَ أتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم، وعَرَضَ نفسَه عليهم‏:‏ بنو عامر بن صَعْصَعَةَ، ومحارب بن حَصَفة، وفَزَارَة، وغسَّان، ومُرَّة، وحنيفة، وسُلَيم، وعَبْس، وبنو النَّضر، وبنو البكاء، وكِندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذرة، والحضَارِمة، فلم يستجب منهم أحد‏.‏

فصل

وكان مِما صنع الله لِرسوله أن الأوسَ والخزرجَ كانُوا يسمعُونَ مِن حُلفائهم مِن يهودِ المدينةِ أن نبياً من الأنبياء مبعوثٌ في هذا الزمانِ سَيَخْرُج، فَنَتَّبِعُهُ ونقتُلكُم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمٍ، وكانت الأنصارُ يحجُّونَ البيتَ كما كانتِ العربُ تحجُّه دونَ اليهود، فلما رأى الأنصارُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ إلى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، وتأمَّلُوا أحوَاله، قال بعضُهم لبعض‏:‏ تَعْلَمُونَ واللهِ يا قَوْمُ أَنَّ هذا الذي تَوَعَّدُكُم بِهِ يَهُودُ، فَلا يَسْبِقُنَّكُم إِلَيْهِ‏.‏ وكانَ سُويدُ بنُ الصَّامِت من الأوسِ قد قَدِمَ مَكَّةَ، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُبْعِدْ وَلَم يُجِبْ حتَّى قَدِمَ أنس بن رافع أبو الحيسر في فِتيةٍ مِن قومهِ من بنى عَبْدِ الأَشْهَلِ يطلُبُون الحِلف، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسْلام، فقال إياسُ بنُ معاذ وكان شاباً حَدَثاً‏:‏ يا قومُ ؛ هذا واللهِ خَيْرٌ مِما جئِنَا له، فضربَه أبو الحيسر وانتهره، فسكتَ، ثم لم يَتِمَّ لهم الحِلْفُ، فانصرَفُوا إلى المدينةِ‏.‏

فصل

ثم إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَقِىَ عِنْدَ العَقَبَةِ في المَوْسِمِ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الأنصارِ كُلُّهم مِن الخزرج، وهم‏:‏ أبو أُمامة أسعدُ بنُ زُرَارَة، وعوفُ بن الحارث، ورافِعُ بن مالك، وقُطبةُ بن عامر، وعُقبة بن عامر، وجابرُ بن عبد الله بن رئاب، فَدَعَاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسْلامِ فأسلمُوا‏.‏

ثم رجعوا إلى المدينةِ، فَدَعَوْهُم إلى الإسلام، ففشا الإسلامُ فيها حتَّى لم يبق دارٌ إلا وقد دخلها الإسلامُ، فلما كان العامُ المقبلُ، جاء مِنهم اثنا عشَرَ رَجُلاً، الستة الأُوَل خلا جابر بن عبد الله، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدِّم، وذكوان بنُ عبد القيس، وقد أقامَ ذَكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة، فيقال‏:‏ إنه مُهاجرى أنصارى، وعُبادة بن الصامت، ويزيدُ بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التَّيهان، وعُويمر بن مالك هم اثنا عشر‏.‏

وقال أبو الزبير عن جابر‏:‏ ‏(‏إن النبى صلى الله عليه وسلم لَبِثَ بِمَكَّةَ عشرَ سنين يَتَّبعُ الناسَ في منازلهم في المواسم، وَمَجَنَّة، وعُكَاظ، يقول‏:‏ ‏(‏مَنْ يُؤْوينى ‏؟‏ مَنْ يَنْصُرُنى ‏؟‏ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاَتِ رَبِّى، ولَهُ الجَنَّةُ، فَلاَ يَجِدُ أَحَدَاً يَنْصُرُهُ وَلاَ يُؤْوِيِهِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ اليَمَنِ إِلى ذِى رَحِمِهِ، فَيَأْتِيهِ قَوْمهُ فَيَقُولُونَ له‏:‏ ‏(‏احْذَرْ غُلاَمَ قُريْشٍ لاَ يَفْتِنْكَ، وَيَمْشِى بَيْنَ رِجَالِهِم يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وَهْم يشيرُونَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ به ويُقْرِئُهُ القُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ، فَيُسْلِمُونَ بإِسْلاَمِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دورِ الأنْصَارِ إِلاَّ وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، يُظْهُرونَ الإسْلاَمَ، وَبَعَثَنَا اللهُ إلَيْهِ، فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وقلنا‏:‏ حتَّى مَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُطرَّد في جِبَال مَكَّةَ وَيَخَافُ، فَرَحْلَنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ في المَوْسِمِ، فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ العَقَبَة، فَقَالَ لَهُ عَمُّه العَبَّاسُ، يَا ابنَ أَخِى مَا أَدْرى مَا هَؤُلاءِ القَوْمُ الَّذِينَ جَاؤوكَ، إِنِّى ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ العَبَّاسُ في وُجُوهِنَا، قَالَ‏:‏ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَ نَعْرِفُهُم، هَؤُلاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُول الله ؛ عَلامَ نُبَايِعُكَ ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تُبَايِعُونِى عَلى السَّمع وَالطَّاعَةِ، في النَّشَاطِ والكَسَلِ‏.‏ وَعلَى النَّفَقَةِ في العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْى عَنِ المُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا في اللهِ لا تَأْخُذُكُم لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَعلَى أَنْ تَنْصُرونى إِذا قَدِمْتُ عَلَيْكُم، وَتَمْنَعُونِى مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُم وَأَبْنَاءَكُم وَلَكُمُ الجَنَّةُ‏)‏، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ‏:‏ رُوَيْدَاً يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْربْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ المَطِىِّ إلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وأنَّ إِخْرَاجَهُ اليَوْمَ مُفَارَقَةُ العَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُم، وأَنْ تَعَضَّكُم السُّيوفُ، فإِمَّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذلِكَ، فَخُذُوهُ، وَأَجْرُكُم عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُم خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُم عِنْدَ اللهِ، فَقَالُوا‏:‏ يَا أَسْعَدُ ؛ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لاَ نَذَرُ هَذِهِ البَيْعَةَ، ولا نَسْتَقِيلُها، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلاً رَجُلاً، فأَخَذَ عَلَيْنَا وشرط، يُعْطِينَا بِذَلِكَ الجَنَّةَ‏)‏‏.‏

ثمَّ انصرفوا إلى المدينةِ، وبعثَ معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمروُ بنَ أُمَّ مكتوم، ومُصْعَبَ بْن عُمير يُعَلَّمان مَن أسلم منهم القرآن، ويدعوان إلى الله عزَّ وجلَّ، فنزلا على أبى أمامة أسعدَ بن زُرارة، وكان مُصعبُ بنَ عمير يَؤمُّهم، وجمَّع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بَشرٌ كثيرٌ، منهم أُسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ، وسعدُ بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بنى عبد الأشهل الرجالُ والنساء، إلا أُصيرم عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخَّر إسلامه إلى يوم أُحُد، وأسلم حينئذ، وقاتل فقُتِل قبل أن يَسجد للهِ سجدة، فأُخبر عنه النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏عَمِلَ قَليلاً، وَأُجِرَ كَثِيراً‏)‏‏.‏

وكثر الإسلامُ بالمدينة، وظهر، ثم رَجَعَ مُصعبُ إلى مكة، ووافى الموسِمَ ذلك العامَ خلقٌ كثير من الأنصار مِن المسلمين والمشركين، وزعيمُ القومِ البَراءُ بنُ معرور، فلما كانت لَيْلَةُ العقبةِ الثلثَ الأول مِن الليل تسلَّل إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةُ وسبعونَ رَجُلاً وامرأتانِ، فبايعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خِفية مِن قومهم، ومِن كُفَّارِ مكة، على أن يمنعُوه مما يمنعونَ مِنه نساءهم وأبناءهم وأزُرَهم، فكانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ ليلتئذٍ البَرَاءُ بن معرور، وكانت له اليدُ البيضاء، إذ أكَّدَ العقدَ، وبادر إليه، وحضرَ العباسُ عمُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لبيعته كما تقدم، وكان إذ ذاك على دينِ قومه، واختارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثنى عشر نقيباً، وهم‏:‏ أسعدُ بن زرارة، وسعدُ بنُ الربيع، وعبدُ الله بن رواحة، ورافِعُ بن مالك، والبَراءُ بن مَعرور، وعبد الله ابن عمرو بن حرام والد جابر، وكان إسلامُه تِلك الليلة، وسعدُ بنُ عبادة، والمنذرُ بن عمرو، وعبادةُ بن الصامت، فهؤلاء تِسعةٌ من الخزرجِ، وثلاثةٌ من الأوس‏:‏ أُسَيْدُ بنُ الحضير، وسعدُ بن خيثمة، ورِفاعةُ بن عبد المنذر‏.‏ وقيل‏:‏ بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه‏.‏

وأما المرأتان‏:‏ فأُم عُمارة نُسيبة بنتُ كعبِ بنِ عمرو، وهى التي قَتَل مُسَيْلِمةُ ابنَهَا حبيبَ بْنَ زيد، وأسماء بنت عمرو بن عدى‏.‏

فلما تمت هذه البيعةُ استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبةِ بأسيافهم، فلم يأذَنْ لهم في ذلك، وصرخَ الشيطانُ عَلَى العَقَبَةِ بأنفَذِ صوت سُمِع‏:‏ يا أهلَ الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّبَاةُ معه قد اجتمعوا على حربكم ‏؟‏ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا أَزَبُّ العقبة، هذا ابنُ أزيْب، أما واللهِ يا عدُوَّ الله لأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ‏)‏‏.‏

ثم أمرهم أن ينفضُّوا إلى رحالهم، فلما أصبحَ القومُ، غدَتْ عليهم جِلَّةُ قريش وأشرافهُم حتى دخلوا شِعب الأنصار، فقالوا‏:‏ يا معشرَ الخزرجِ ؛ إنه بلغنا أنكم لَقِيتُم صاحِبَنَا البارحة، وواعدتمُوه أن تُبايعُوه على حربنا، وايمُ اللهِ ما حىٌ مِن العرب أبغضَ إلينا من أن يَنْشَبَ بيننا وبينه الحربُ مِنكم، فانبعثَ مَن كان هُناك من الخزرج مِن المشركين، يحلِفُونَ لهم بالله‏:‏ ما كان هذا وما عَلِمْنا، وجعل عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سلول يقول‏:‏ هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومى لِيفتاتُوا عَلَىّ مِثل هذا، لو كنتُ بيثربَ ما صنع قومى هذا حتى يُؤامرونى، فرجعتْ قريش مِن عندهم، ورحل البراءُ بن معرور، فتقدَّم إلى بطنِ يَأْجَج، وتلاحق أصحابُه مِن المسلمين، وتطلَّبتهُم قريشٌ، فأدركوا سعدَ بْنَ عُبادة، فربطوا يديهِ إلى عُنقهِ بِنسْعِ رَحْلِه، وجعلوا يضرِبُونه، ويَجرُّونه، ويَجْذِبونَهُ بِجُمَّتِهِ حتى أدخلُوه مكَّة، فجاء مُطْعِمُ بنُ عدى والحارث بن حرب بن أُمية، فخلصَّاه من أيديهم، وتشاوَرَتِ الأنصارُ حين فقدُوه أَن يَكِرُّوا إليه، فإذا سَعْدُ قد طَلَعَ عليهم، فوصلَ القومُ جميعاً إلى المدينةِ‏.‏

فأذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهِجْرةِ إلى المدينة، فبادرَ الناسُ إلى ذلك، فكان أوَّلَ مَنْ خرج إلى المدينة أبُو سلمة بن عبد الأسد، وامرأتُهُ أُمُّ سلمة، ولكنها احتُبِسَت دونه، ومُنِعَت من اللَّحَاق به سنة، وحِيلَ بينها وبين ولدِها سلمة، ثم خرجت بعد السَّنة بولدها إلى المدينة، وشيَّعها عثمانُ بنُ أبى طلحة،‏.‏

ثم خَرجَ الناسُ أرسالاً يتبعُ بعضُهم بعضاً، ولم يبق بمكة مِن المسلمين إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعلىّ، أقاما بأمره لهما، وإلا مَن احتبسه المشرِكُونَ كرهاً، وقد أعدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جهَازَه ينتظر متى يُؤمر بالخروج، وأعدَّ أبو بكر جَهَازَهُ‏.‏

فصل

فلما رأى المشركُون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهَّزُوا، وخرجُوا، وحملُوا، وساقوا الذَّرارِى والأطفالَ والأموالَ إلى الأوسِ والخزرَج، وعرفُوا أن الدارَ دارُ مَنَعَةٍ، وأَن القومَ أَهلُ حَلْقَةٍ وَشَوْكَةٍ وبأسٍ، فخافوا خروجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقَه بهم، فيشتدَّ عليهم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلَّفْ أحدٌ من أهل الرأى والحجا منهم ليتشاوروا في أمره، وحضرهم وليُّهم وشيخُهم إبليسُ في صُورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصَّمَّاء في كِسائه، فتذاكَرُوا أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار كُلُّ أحد منهم برأى، والشيخُ يردُّهُ ولا يرضاه، إلى أن قال أبو جهل‏:‏ قد فُرِقَ لى فيه رأى ما أراكم قد وقعتُم عليه، قالوا‏:‏ ما هو ‏؟‏ قال‏:‏ أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نَهْداً جَلْداً، ثمَّ نعطيِه سَيْفاً صارماً، فيضربونه ضربةَ رجلٍ واحد، فيتفرَّقُ دمه في القبائل، فلا تدرى بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنعُ، ولا يُمكِنُهَا معاداة القبائل كلها، ونسوقُ إليهم ديته، فقال الشيخ‏:‏ للهِ دَرُّ الفتى، هذا واللهِ الرأىُ، قال‏:‏ فتفرَّقوا على ذلك، واجتمعوا عليه، فجاءه جبريلُ بالوحى من عند ربه تبارك وتعالى، فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مَضجعِه تلكَ الليلة‏.‏

وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر نِصفَ النهار في ساعةٍ لم يكن يأتيه فيها مُتَقَنَّعاً، فقالَ له‏:‏

‏(‏أخْرِجْ مَنْ عِنْدَك‏)‏ فقَالَ‏:‏ إنما هُم أهُلكَ يا رسولَ الله، فقال‏:‏ ‏(‏إنَّ الله قَدْ أَذِنَ لِى في الخُرُوجِ‏)‏ فقال أبُو بكر‏:‏ الصحبة يا رسولَ الله ‏؟‏ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ فقال أبو بكر‏:‏ فخذ بأبى وأُمّى إحدَى راحلتىَّ هاتين، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بالثمن‏)‏‏.‏

وأمر علياً أن يبيت في مَضْجَعِهِ تلكَ الليلة، واجتمعَ أُولئكَ النفرُ مِن قريش يتطلعون من صِيْرِ الباب ويرصُدُونه، ويُرِيدون بياتَه، ويأتمرونَ أيهم يكونُ أشقاها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حَفنةً من البطحاء، فجعل يَذُرُّهُ على رؤوسهم، وهم لا يرونه، وهو يتلو‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 9‏]‏، ومضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر، فخرجا مِن خَوْخَةٍ في دار أبى بكر ليلاً، وجاء رجلٌ، ورأى القوم ببابه، فقال‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ قالوا‏:‏ محمداً، قال‏:‏ خِبْتُم وخَسِرْتُم، قد واللهِ مرَّ بِكُمْ وذرّ على رؤوسكم الترابَ، قالوا‏:‏ واللهِ ما أبصرناه، وقاموا ينفضُون التراب عن رؤوسهم، وهم‏:‏ أبو جهل، والحكمُ بنُ العاص، وعُقْبَةُ بن أبى مُعيط، والنَّضرُ بن الحارث، وأُميَّةُ بن خلف، وزمعةُ بن الأسود، وطُعيمة بن عدى، وأبو لهب، وأُبَىُّ بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، فلما أصبحوا، قام علىٌ عن الفراش، فسألُوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لا عِلم لى به‏.‏

ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثورٍ، فدخلاه، وضربَ العنكبوتُ على بابه‏.‏

وكانا قد استأجرَا عبدَ الله بن أُرَيْقِطٍ الليثى، وكان هادِياً ماهِراً بالطريق، وكان على دِين قومه من قريش، وأمناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه غارَ ثور بعد ثلاث، وجدَّت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافَة، حتى انتهوا إلى بابِ الغار، فوقفوا عليه‏.‏

ففى ‏(‏الصحيحين‏)‏ أن أبا بكر قال‏:‏ يا رسول اللهِ ؛ لو أنَّ أحَدَهُم نظر إلى ما تحت قَدَمَيْهِ لأبصرنا فقال‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا بَكُرٍ ؛ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا، لاَ تَحْزَنْ فإنَّ الله مَعَنَا‏)‏ وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعانِ كلامَهم فوقَ رؤوسهما، ولكن الله سُبحانه عمَّى عليهم أمَرهما، وكان عامِر بن فُهيرة يرعى عليهما غنماً لأبى بكر، ويتسمَّع ما يُقالُ بمكة، ثم يأتيهما بالخبر، فإذا كان السَحَر سَرَحَ مع الناسِ‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وجهَّزناهُما أحث الجِهاز، ووضَعْنَا لهمَا سُفرة في جِرابٍ، فَقَطَعَتْ أسماءُ بنتُ أبى بكر قطعةً مِنْ نِطاقها، فأوْكَتْ بهِ الجِراب، وقطعتِ الأُخرى فصيرَّتها عِصاماً لِفم القِربة، فلذلك لُقِّبتْ‏:‏ ذاتَ النطاقين‏.‏

وذكر الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ عن عمر قال‏:‏ ‏(‏خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشى ساعة بين يديه، وساعة خلفَه، حتى فَطِنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال له‏:‏ يا رسول الله ؛ أذكُر الطلبَ، فأمشى خلفك، ثم أذكُر الرصَدَ، فأمشى بين يديك فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر ؛ لو كان شىء أحببتَ أن يكون بِكَ دونى‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم والذي بعثك بالحقِّ، فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر‏:‏ مكانَكَ يا رسول الله حتى أستبرىءَ لك الغارَ، فدخل، فاستبرأه، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرىء الجِحَرَةَ، فقال‏:‏ مكانك يا رسول الله حتى أستبرىء الجِحَرَةَ ثم قال‏:‏ انزلْ يا رسولَ الله، فنزل، فمكثا في الغار ثلاثَ ليالٍ حتى خمدت عنهما نارُ الطلب، فجاءهما عبد اللهِ بن أُريقط بالراحلتين، فارتحلا، وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة، وسار الدليلُ أمامهما، وعينُ الله تكلؤهما، وتأييدُه يصحبُهما، وإسعاده يرحلُهما ويُنزلهما‏.‏

ولما يئس المشركون مِن الظَّفرِ بهما، جعلُوا لمن جاء بهما دِيةَ كل واحد منهما، فجدَّ الناسُ في الطَّلب، واللهُ غالبٌ على أمره، فلما مرُّوا بحى بنى مُدُلجٍ مُصعدِين من قُديد، بَصُرَ بهم رجلُ من الحىِّ، فوقف على الحىِّ فقال‏:‏ لقد رأيتُ آنِفاً بالساحل أَسْوِدَةً ما أُراها إلا محمداً وأصحابَه، فَفَطِنَ بالأمر سُراقة بن مالك، فأراد أن يكون الظفرُ له خاصة، وقد سبق له من الظَّفَرِ ما لم يكن في حسابه، فقال‏:‏ بل هم فلان وفلان، خرجا في طلب حاجة لهما، ثم مكث قليلاً، ثم قام فدخل خِباءه وقال لخادمه‏:‏ اخْرُجْ بالفرس من وراءِ الخِباء، وموعِدُك وراء الأكمة، ثم أخذ رُمحه، وخفض عَالِيه يَخُطُّ به الأرضَ حتى رَكِبَ فرسه، فلما قَرُبَ منهم وسمع قِراءة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر يُكْثِرُ الالتفات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسولَ الله ؛ هذا سُراقة بن مالك قد رَهَقَنَا، فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرضِ، فقال‏:‏ قد علمتُ أن الذي أصابنى بدعائكما، فادعوا الله لى، ولكما علىّ أن أردَّ الناسَ عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُطلق، وسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتُب له كتاباً، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم وكان الكتابُ معه إلى يوم فتح مكة، فجاءه بالكتِاب، فوفَّاه له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏(‏يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ‏)‏، وعرض عليهما الزاد والحِملان، فقالا‏:‏ لا حاجة لنا به، ولكن عَمِّ عنَّا الطلبَ، فقالَ‏:‏ قد كُفيتم، ورجع فوجَدَ الناسَ في الطلب، فجعل يقول‏:‏ قد استبرأتُ لكم الخبر، وقد كُفيتم ما ههنا، وكان أول النهار جاهداً عليهما، وآخره حارساً لهما‏.‏

فصل

ثُمَّ مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك حتى مرَّ بخيمتى أُمَّ مَعْبَدٍ الخُزَاعية، وكانت امرأة بَرْزَةً جَلْدَةً تحتبى بفناء الخيمة، ثم تُطعِمُ وتَسقى مَنْ مَرَّ بها، فسألاها‏:‏ هل عندها شىء ‏؟‏ فقالت‏:‏ واللهِ لو كان عندنا شىء ما أعْوَزَكُم القِرَى، والشَّاءُ عازِب، وكانت سنة شهباء، فنظَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كِسْرِ الخيمة، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذه الشاة يا أُمّ مَعْبَد‏)‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ شاة خلفها الجَهْدُ عن الغنم، فقال‏:‏ ‏(‏هل بِهَا مِنْ لبن‏)‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ هي أجهدُ مِن ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏أتأذنين لى أن أَحلِبهَا‏)‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، بأبى وأُمى، إن رأيتَ بها حَلْباً فاحلُبها، فمسحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِيدِهِ ضَرْعَها، وسمَّى الله ودعا، فتفاجَّت عليه، ودرَّت، فدعا بإناء لها يُربِضُ الرَّهطَ، فحلب فيه حتى علته الرَّغوة، فسقاها فشربت حتى رَوِيَت، وسقى أصحابه حتى رَووْا، ثم شرب، وحلب فيه ثانياً، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، فارتحلُوا، فقلَّما لَبِثتْ أن جاء زوجُها أبو معبد يسوق أعنزاً عِجافاً، يتساوكن هُزالاً لا نِقى بهن، فلما رأى اللَّبن، عَجِبَ، فقال‏:‏ مِن أين لكِ هذا، والشاةُ عازب ‏؟‏ ولا حَلُوبةَ في البيت ‏؟‏ فقالت‏:‏ لا واللهِ إلا أنَّه مرَّ بنا رجلٌ مبارَكٌ كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ واللهِ إنى لأُراه صاحِبَ قريش الذي تطلُبه، صِفيه لى يا أُمّ مَعْبَد، قالت‏:‏ ‏(‏ظاهِرُ الوَضَاءة، أبلجُ الوجه، حَسَنُ الخَلْقِ، لم تعبه ثُجْلَة، ولم تُزْر به صُعْلَة، وسيم قَسِيم، في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وفى أَشْفَارهِ وطَفٌ، وفى صْوته صَحَل، وفى عُنُقِهِ سَطَعٌ، أحورُ، أكحلُ، أزجُّ، أقرنُ، شديدُ سواد الشَعْر، إذا صمت علاه الوقارُ، وإن تكلم علاه البهاءُ، أجملُ الناس وأبهاهُم مِن بعيد، وأحسنُه وأحلاه من قريب، حُلْوُ المنطق، فَصْلٌ، لا نَزْر ولاَ هَذْر، كأنَّ منطقه خرزاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ، ربعةٌ، لا تقحمُه عينٌ مِن قصر، ولا تشنؤُه مِن طول، غصنٌ بين غُصنين، فهو أنضرُ الثلاثة منظراً، وأحسنُهم قَدْرَاً، له رُفقاء يحفُّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادرُوا إلى أمره، محفودٌ محشودٌ، لا عابسٌ ولا مُفْنِدٌ‏)‏، فقال أبو مَعْبَد‏:‏ ‏(‏واللهِ هذا صاحبُ قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممتُ أن أصحَبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً‏)‏، وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعُونه ولا يرون القائل‏:‏

جَزَى اللهُ ربُّ العَرْشِ خَيْر جَزَائِـهِ ** رَفِيقَـيْنِ حَلاَّ خَيْمَتَىْ أُمَّ مَعْـبَدِ

هُـمَا نَـزلاَ بِالبِـرِّ وَارْتَـحَلاَ بِـهِ ** وَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ

فَيَا لَقُصَـىٍّ مَا زَوَى الله عَنْكُــمُ ** بِهِ مِنْ فَعَال لاَ يُجَازَى وَسُودَدِ

لِيَهْن بَنِى كَعْـبٍ مَكَانُ فَتَــاتِهمْ ** وَمَقْـعَدُهَا لِلْمُؤمِنينَ بِمَرْصَدِ

سَلُوا أُخْتَـكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ** فَإِنَّكُمُ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاءَ تَشْهَدِ

قالت أسماء بنت أبى بكر‏:‏ ما دَرَيْنَا أين توجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، فأنشد هذه الأبيات، والنَّاس يتَّبعونه ويسمعونَ صوته، ولا يرونه حتى خرج من أعلاها، قالت‏:‏ فلما سَمِعْنَا قولَه، عرفنا حيثُ توجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجههُ إلى المدينة‏.‏

فصل

وبلغ الأنصارَ مخرجُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، وقصدُه المدينة‏.‏ وكانوا يخرجونَ كُلَّ يوم إلى الحرَّة ينتظِرونه أول النهار، فإذا اشتد حرُّ الشمس، رجعُوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يومُ الاثنين ثانى عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنةً مِن النبوة، خرجُوا على عادتهم، فلما حَمِىَ حَرُّ الشمس رجعوا، وصَعِدَ رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه، فرأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيِّضِينَ، يزولُ بهم السرابُ، فصرخ بأعلى صوته‏:‏ يا بنى قَيْلَةَ ؛ هذا صَاحِبُكم قد جاء، هذا جَدُّكُم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وسُمِعَتِ الرَّجَّةُ والتَّكْبِيرُ في بنى عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحاً بقُدومه، وخرجوا للقائه، فتلقَّوْه وحيَّوْه بتحية النبوة‏.‏ فأحدقوا به مطيفين حوله، والسَّكينة تغشاه، والوحى ينزِل عليه ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏، فسار حتى نزل بقُباء في بنى عمرو بن عوف، فنزل على كُلْثُومِ بْنِ الهِدْمِ‏.‏ وقيل‏:‏ بل على سَعْدِ بن خَيْثَمَةَ، والأول أثبت، فأقام في بنى عمرو بن عوف أربع عشرةَ ليلةً وأسَّس مسجِدَ قُباء، وهو أوَّلُ مسجد، أُسِّسَ بعد النبوة‏.‏

فلما كان يوم الجمعة رَكِبَ بأمر الله له، فأدركته الجمعةُ في بنى سالم بن عوف، فجمَّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادى‏.‏

ثم رَكِبَ، فأخذوا بِخِطَام راحلته، هَلُمَّ إلى العدد والعُدَّة والسلاح والمنعة، فقال‏:‏ ‏(‏خَلُّوْا سَبِيلَهَا، فَإنَّهَا مَأْمُورَةٌ‏)‏ فلم تزل ناقته سائرة به لا تمرُّ بدارٍ من دُور الأنصار إلا رغِبُوا إليه في النزول عليهم، ويقول‏:‏ ‏(‏دَعُوهَا فإنَّهَا مَأْمُورَةٌ‏)‏ فسارت حتَّى وصلت إلى موضع مسجده اليومَ، وبركت، ولم ينزل عنها حتى نَهَضَتْ وسَارَتْ قليلاً، ثم التفتت، فرجعت، فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بنى النجار أخوالِهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان من توفيق الله لها، فإنه أحبَّ أن ينزِل على أخواله، يُكرمهم بذلك، فجعل الناس يُكلِّمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله، فأدخله بيتَه، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ‏)‏ وجاء أسعدُ بن زرارة، فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده وأصبح كما قال أبو قيس صِرمة الأنصارى، وكان ابن عباس يختلِف إليه يتحفَّظُ منه هذه الأبيات‏:‏

ثَوَى في قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْـرَةَ حِجَّةً ** يُذَكَّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيباً مُوَاتِــيَا

وَيَعْـرِضُ في أهْلِ المَوَاسِـمِ نَفْسَهُ ** فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِـيَا

فَلَمَّا أَتَانَا وَاسْتَقَرَتْ بِهِ النَّــوَى ** وأَصْبَـحَ مَسْرُورَاً بِطَيْببَةَ رَاضِيَا

وَأصْبَحَ لاَ يَخْشَى ظُلاَمَةَ ظَـالمٍ ** بَعِيدٍ وَلاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا

بَذَلْنَا لَهُ الأَمْـوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنـا ** وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الوَغَى والتآسِـيَا

نُعَادِى الذي عَادَى مِنَ النَّاس كُلِّهِمْ ** جَمِيعاً وَإِنْ كَانَ الحَبِيبَ المُصَافِيَا

وَنَعْلَـمُ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْــرُهُ ** وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَــحَ هَادِيَا

قال ابنُ عباس‏:‏ ‏(‏كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأُمِرَ بالهِجْرَةِ وأُنزلَ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏‏)‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ ‏(‏أخرجه الله مِن مكَّة إلى المدينة مخْرَجَ صدق ونبىُّ الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سُلطاناً نصيرا، وأراه اللهُ عَزَّ وجَلَّ دار الهِجرة، وهو بمكَّة فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ بِسَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ لابَتَيْنِ‏)‏‏.‏

وذكر الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ عن علىّ بن أبى طالب أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل‏:‏ ‏(‏مَنْ يُهَاجِرُ مَعِى ‏؟‏ قال‏:‏ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ‏)‏ ‏.‏

قال البراءُ‏:‏ ‏(‏أَوَّلُ مَن قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أصحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُصْعَبُ بنُ عُمير وابنُ أُمِّ مكتومٍ، فجعلا يُقْرِئانِ النَّاسَ القرآنَ، ثم جاء عمارُ وبِلالُ وسعدٌ، ثم جاء عمرُ بنُ الخطَّابِ رضى الله عنه في عشرين راكباً، ثُمَّ جاء رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُ النَّاسَ فَرِحُوا بشىءٍ كَفَرحِهِمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ والصِّـبْيَانَ والإِمَاءَ يَقُولُونَ‏:‏ هَذَا رَسُولُ الله قَدْ جَاءَ‏)‏‏.‏

وقال أنس‏:‏ ‏(‏شهدتُه يومَ دخلَ المدينة فما رأيتُ يوماً قطُّ، كان أحسنَ ولا أضوأَ مِن يوم دخلَ المدينة علينا، وشهدتُه يَوْمَ ماتَ، فما رأيتُ يوماً قطُّ، كان أقبحَ ولا أظلمَ مِن يومِ مات‏)‏‏.‏

فأقام في منزل أبى أيوب حتى بنى حُجَرَه ومسجدَه، وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزل أبى أيوب زيدَ بْنَ حارِثة وأبا رافع، وأعطاهما بَعِيَريْنِ وخمسمائة درهم إلى مكة فَقَدِمَا عليه بفاطمة وأُمِّ كلثوم ابنتيه، وسَوَدةَ بنتِ زمعة زوجتهِ، وأُسامةَ بنِ زيد، وأُمَّه أُم أيمن، وأما زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُمَكِّنْهَا زوجُها أبو العاص بن الربيع من الخروج، وخَرج عبدُ الله بن أبى بكر معهم بِعيال أبى بكر، ومنهم عائشة فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان‏.‏

فصل‏:‏ في بناء المسجد

قال الزهرى‏:‏ ‏(‏بَرَكَتْ ناقةُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم مَوْضِع مسجده وهو يومئذ يُصلِّى فيه رجالٌ من المسلمين، وكان مِرْبَداً لِسَهْلٍ وَسُهَيْل غلامين يتيمين من الأنصار، كانا في حَجْرِ أسعد بنِ زُرارة، فساوم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغلامَيْنِ بالمِرْبَدِ، لِيتخذَهُ مسجداً، فقالا‏:‏ بل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ الله، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، وكانَ جِدَارَاً لَيْسَ لَهُ سَقْفٌ، وقِبلتهُ إِلى بَيْتِ المقدِسِ، وكانَ يُصلِّى فِيهِ ويُجَمِّعُ أسعدُ بن زرارة قبل مَقْدَمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيهِ شَجَرَةُ غَرْقَدٍ وخِرَبٌ ونَخْلٌ وَقُبورٌ لِلمُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنُبِشَتْ، وبالخرب فَسُوِّيت وبالنَّخلِ والشَّجَرِ فقطعت وصُفَّت في قِبلة المسجد، وجعلَ طولَه مما يلى القِبْلةَ إلى مؤخره مائةَ ذراع، والجانبين مثلَ ذلك أو دونَهُ، وجعلَ أساسه قريباً من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللَّبنِ، وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبنى معهم، وَيَنْقُلُ اللَّبِنَ والحِجَارَةَ بنفسه ويقول‏:‏

اللَّهم لا عَيْشَ إلاَّ عَيْشُ الآخِرةْ ** فَاغْفِـرْ للأَنْصَارِ وَالمُهَـاجِـرَةْ

وكان يقول‏:‏

هَذَا الحِمَالُ لا حِـمَالُ خَيْبَر ** هَــذَا أَبَـرُّ رَبَّــنَا وَأَطْهَرُ

وجعلوا يرتَجِزُونَ، وهم ينقلُونَ اللَّبِنَ، ويقول بعضهم في رجزه‏:‏

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرَّسُولُ يَعْمـل ** لَـذَاكَ مِـنَّا العَـمَلُ المُضَـلَّلُُ

وجعل قِبلته إلى بيتِ المقدس، وجعل له ثلاثةَ أبواب‏:‏ باباً في مؤخره، وباباً يقال له‏:‏ باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عمده الجذوع، وسَقَفَه بالجريد، وقيل له‏:‏ ألا تُسَقِّفه، فقال‏:‏ ‏(‏لا، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى‏)‏ وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللَّبِن، وسقَّفها بالجريدِ والجذوع، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناهُ لها شرقى المسجد قبليه، وهو مكان حُجرته اليوم، وجعل لسَوَدة بنتِ زمعة بيتاً آخر‏.‏

فصل

ثمَّ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجِرينَ والأنصار في دار أنسِ بن مالك، وكانُوا تسعين رجلاً، نِصفهم مِن المهاجرينَ، ونِصفُهم مِن الأنصارِ، آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعدَ الموتِ دون ذوى الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ رد التوارث إلى الرَّحِم دون عقد الأُخوة ‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه آخى بين المهاجرين بعضِهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه والثابت الأول، والمهاجِرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابةِ النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بَيْنَ المهاجرينَ، كان أحقَّ الناسِ بأُخوته أحبُّ الخلق إليه ورفيقُه في الهِجرةِ، وأنيسُه في الغارِ، وأفضلُ الصحابة وأكرمُهم عليهِ أبو بكر الصِّدِّيق، وقد قال‏:‏ ‏(‏لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلاً لاتخَّذْتُ أَبَا بَكْر خَلِيلاً، وَلَكِنْ أُخْوَّةُ الإسْلاَمِ أَفْضَلُ‏)‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏ وَلَكِنْ أَخِى وَصَاحِبِى‏)‏ وهذه الأُخوة في الإسلام وإن كانت عامة، كما قال‏:‏ ‏(‏وَدِدْتُ أن قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا‏)‏ قَالُوا‏:‏ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْتُمْ أَصْحَابى، وإِخْوَانِى قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِى يُؤْمِنونَ بى وَلَمْ يَرَوْنِى‏)‏ فَلِلصِّدِّيق من هذه الأُخوة أعلى مراتبها، كما له من الصُّحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأُخوة، ومزيةُ الصحبة، ولأتباعه بعدهم الأخوة دون الصحبة‏.‏

فصل

ووادع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن بالمدينة مِن اليهود، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وبادر حَبْرُهم وعالمُهم عبدُ اللهِ بنُ سلام، فدخل في الإسلام، وأبى عامَّتُهم إلا الكفرَ‏.‏

وكانوا ثلاثَ قبائل‏:‏ بنو قَيْنُقَاع، وبنو النَّضير، وبنو قُرَيْظَة، وحاربه الثلاثة، فمنَّ على بنى قَيْنُقَاع، وأجلى بنى النَّضِير، وقتل بنى فُريظة، وسبى ذُرِّيَّتهم، ونزلت ‏(‏سورة الحشر‏)‏ في بَنى النَّضيرِ، و ‏(‏سورة الأحزاب‏)‏ في بنى قُريظة‏.‏

فصل

وكان يُصلِّى إلى قِبلة بيت المقدس، ويُحِبُّ أن يُصرَفَ إلى الكعبة، وقال لجبريل‏:‏ ‏(‏وَدِدْتُ أَنْ يَصْرِفَ الله وَجْهِى عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ‏)‏ فقال‏:‏ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَادْعُ رَبَّكَ، واسْأَلْهُ‏)‏ فَجَعَلَ يُقَلِّبُ وجهه في السماء يرجُو ذَلِكَ حتى أنزل الله عليه‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏، وذلك بعد ستةَ عشر شهراً مِن مَقْدَمِهِ المدينةَ قبل وقعةِ بدر بشهرين‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا هاشمُ بنُ القاسم، قال‏:‏ أنبأنا أبو معشر عن محمد بْنِ كعبٍ القُرَظىِّ قال‏:‏ ‏(‏ما خَالَفَ نَبِىٌ نَبِيا قطُّ في قِبْلَةٍ، وَلا في سُـنَّةٍ إلا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم استَقْبلَ بَيْتَ المَقْدِسِ حِينَ قَدِمَ المَدِينةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرَاً، ثم قَرَأَ‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ ‏)‏‏.‏

وكان للهِ في جعل القِبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلِها إلى الكعبة حِكَمٌ عظيمة، ومِحْنَةٌ للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين‏.‏

فأما المسلمون، فقالوا‏:‏ سَمِعْنَا وأطعنا وقالُوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِهِ كُلٌ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرةً عليهم‏.‏

وأما المشرِكُونَ، فقالُوا‏:‏ كما رجع إلى قبلتنا يُوشِكُ أن يَرْجعَ إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحقُّ‏.‏

وأما اليهودُ، فقالوا‏:‏ خالف قِبْلة الأنبياء قبله، ولو كان نبياً، لكان يُصلِّى إلى قِبْلة الأنبياء‏.‏

وأما المنافقون، فقالوا‏:‏ ما يدرى محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقاً، فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان على باطل‏.‏

وكثرت أقاويلُ السفهاء مِن الناس، وكانت كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وكانت مِحنة من الله امتحن بها عبادَهُ، ليرى مَن يتَّبعُ الرسول منهم ممن يَنْقَلِبُ على عَقِبَيه‏.‏

ولما كان أمرُ القِبلة وشأنُها عظيماً، وَطَّـأَ سبحانه قبلها أمرَ النسخ وقُدرته عليه، وأنَّه يأتى بخيرٍ مِن المنسوخ أو مثلِه، ثم عقَّب ذلك بالتوبيخ لمن تعنَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَنْقَدْ له، ثم ذكر بعده اختلافَ اليهود والنصارى، وشهادةَ بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شىء، وحذَّر عباده المؤمنين من موافقتهم، واتباعِ أهوائهم، ثم ذكر كُفرهم وشِركَهم به، وقولهم‏:‏ إن له ولداً، سبحانه وتعالى عما يقولون عُلواً، ثم أخبر أن له المشرِقَ والمغرب، وأينما يُوَلِّى عِبَادُه وجوهَهُم، فثمَّ وجهُه، وهو الواسِع العليم، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يُوجِّهُ العبدُ، فثمَّ وجهُ الله‏.‏

ثم أخبرَ أنه لا يَسألُ رسولَه عن أصحاب الجحيم الذين لا يُتَابِعونه ولا يُصدقونه، ثم أعلمه أن أهل الكِتاب من اليهود والنصارى لن يَرْضَوْا عنه حتى يَتَّبعَ ملتهم، وأنه إن فعل، وقد أعاذه اللهُ مِن ذلك، فما له مِن الله مِن ولى ولا نصير، ثم ذَكَّرَ أهل الكتاب بنعمته عليهم، وخوَّفَهُمْ مِن بأسه يومَ القيامة، ثم ذكر خَلِيلَه بانى بيته الحرام، وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله إماماً للناس، يأتَمُّ به أهلُ الأرض، ثم ذكر بيتَه الحرام، وبناءَ خليله له، وفى ضمن هذا أن بانى البيت كما هو إمامٌ للناس، فكذلك البيتُ الذي بناه إمام لهم، ثم أخبر أنه لا يَرْغَبُ عن مِلَّة هذا الإمام إلا أسفهُ الناسِ، ثم أمر عبادَه أن يأتمُّوا برسوله الخاتم، ويُؤمنوا بما أُنْزِلَ إليه وإلى إبراهيم، وإلى سائر النبيين، ثم ردَّ على مَن قال‏:‏ إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هوداً أو نصارى، وجعل هذا كلَّهُ توطئة ومُقدِّمة بين يدى تحويل القِبْلة، ومع هذا كله، فقد كَبُر ذَلِكَ على الناسِ إلا مَنْ هدى الله مِنهم، وأكَّد سُبحانه هذا الأمر مَّرةً بعد مرَّةٍ، بعد ثالثة، وأمر به رسوله حيثما كان، ومِن حيث خرج، وأخبر أن الذي يَهدى من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القِبْلة، وأنها هي القِبْلة التي تليق بهم، وهم أهلُها، لأنها أوسط القِبَل وأفضلُها، وهم أوسطُ الأمم وخيارُهم، فاختار أفضلَ القِبل لأفضل الأُمم، كما اختار لهم أفضلَ الرسل، وأفضلَ الكتب، وأخرجهم في خير القرون، وخصَّهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خيرَ المنازل، وموقفهم في القيامة خيرَ المواقف، فهم على تلٍّ عالٍ، والناسُ تحتهم، فسبحان مَن يختصُّ برحمته مَن يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم‏.‏

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون لِلناس عليهم حُجَّةٌ، ولكِنِ الظالِمون الباغون يحتجُّونَ عليهم بتلك الحجج التي ذُكِرَتْ، ولا يُعارِضُ الملحدون الرسلَ إلا بها وبأمثالها مِن الحجج الداحضة، وكُلُّ مَن قدَّم على أقوال الرسول سِواها، فحُجَّتُه مِن جنس حُجج هؤلاء‏.‏

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لِيُتِمَّ نعمتَه عليهم، ولِيهديَهم، ثم ذَكَّرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم، وإنزال كتابه عليهم، ليزكيهم ويُعلِّمَهم الكتابَ والحِكمةَ، ويُعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون، ثم أمرهم بذكره وبشكره، إذ بهذين الأمرين يستوجِبُونَ إِتمامَ نعمه، والمزيدَ من كرامته، ويستجلبون ذكره لهم، ومحبته لهم، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به، وهو الصبُر والصلاة، وأخبرهم أنه مع الصابرين‏.‏

فصل

وأتمَّ نعمتَه عليهم مع القِبْلة بأن شرع لهم الأذانَ في اليوم والليلة خمسَ مرات، وزادهم في الظهر والعصر والعشاء ركعتين أُخريين بعد أن كانت ثنائية، فكل هذا كان بعد مَقْدَمِه المدينة‏.‏

فصل

فلما استقرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيَّده الله بنصره، بعباده المؤمنين الأنصار، وألَّفَّ بين قلوبهم بعد العداوة والإحَنِ التي كانت بينهم، فمنعته أنصارُ الله وكتيبةُ الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلُوا نفوسهم دونه وقدَّموا محبتَه على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم مِن أنفسهم، رمتهُمُ العربُ واليهودُ عن قوس واحدة، وشمَّروا لهم عن سَاقِ العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم مِن كُلِّ جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبرِ والعفو والصفح حتى قويت الشوكةُ، واشتد الجناحُ، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرِضه عليهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لقَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وقد قالت طائفة‏:‏ إن هذا الإذن كان بمكة، والسُّورة مكية، وهذا غلط لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال، ولا كان لهم شَوْكة يتمكنون بها من القتال بمكة‏.‏

الثانى‏:‏ أن سِياقَ الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ وَهؤُلاء هم المهاجرون‏.‏

الثالث‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ في رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ نَزَلَتْ في الَّذِينَ تَبارَزُوا يومَ بدر من الفريقين‏.‏

الرابع‏:‏ أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏، والخطابُ بذلك كله مدنى، فأما الخطاب‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا النَّاسُ‏}‏ فمشترك‏.‏

الخامس‏:‏ أنه أمر فيها بالجهاد الذي يَعُمُّ الجهادَ باليد وغيره، ولا ريبَ أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأمَّا جهادُ الحُجَّة، فأمر به في مكة بقوله‏:‏ ‏{‏فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 52‏]‏ أى‏:‏ بالقرآن

{‏جِهَاداً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 52‏]‏، فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغُ، وجهادُ الحُجَّة، وأما الجهادُ المأمور به في ‏(‏سورة الحج‏)‏ فيدخل فيه الجهادُ بالسيف‏.‏

السادس‏:‏ أن الحاكم روى في ‏(‏مستدركه‏)‏ من حديث الأعمش، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبير، عن ابنِ عباس قال‏:‏ ‏(‏لما خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مكَّة قال أبو بكر‏:‏ أخرجُوا نبيَّهم، إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُونَ لَيهْلِكُنَّ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ وهى أول آية نزلت في القتال‏)‏‏.‏ وإسناده على شرط ‏(‏الصحيحين‏)‏ وسياق السورة يدل على أن فيها المكىَّ والمدنىَّ، فإن قصة إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول مكية، والله أعلم‏.‏

فصل

ثم فرضَ عليهم القِتَالَ بعدَ ذلك لمن قاتلهم دون مَن لم يُقاتِلْهم فقال‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ في سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 190‏]‏‏.‏

ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور‏.‏

والتحقيق أن جنسَ الجهادِ فرضُ عَيْن إما بالقلب، وإما باللِّسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كُلِّ مسلم أن يُجاهد بنوع مِن هذه الأنواع‏.‏

أما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال، ففى وجوبهِ قولانِ، والصحيح وجوبه لأن الأمرَ بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُم خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وعلَّق النجاةَ من النار به، ومغفرةَ الذنب، ودخولَ الجنة، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُم عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وََتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10-12‏]‏‏.‏

وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك، أعطاهم ما يُحبون مِن النصر والفتحِ القريب فقال‏:‏ ‏{‏وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 13‏]‏ أى‏:‏ ولكم خصلة أخرى تُحِبُّونها في الجهَادِ، وهى ‏{‏نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وأخبر سبحانه أنه ‏{‏اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ وأعاضهم عليها الجنةَ، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضلَ كتبه المنزَّلة مِن السماء، وهى التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحدَ أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكد ذلك بأن أمَرَهُم بأن يستبشِروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوزُ العظيمُ‏.‏

فليتأملِ العاقِد مع ربه عقد هذا التبايعِ ما أعظمَ خطَرَه وأجلَّه، فإن الله عَزَّ وجَلَّ هو المشترى، والثمن جنَّاتُ النعيم، والفوزُ برضاه، والتمتع برؤيته هناك، والذي جرى على يده هذا العقدُ أشرفُ رسله وأكرمُهم عليه مِن الملائكة والبَشر، وإن سِلْعَةً هذا شأْنُها لقد هُيِّئَتْ لأَمرٍ عَظِيمٍ وخَطْبٍ جَسيمٍ‏:‏

قَـدْ هَيَّؤوكَ لأَمْـرٍ لَوْ فَطِـنْتَ لَهُ ** فَارْبأ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرعَى مَعَ الهَمَلِ

مَهْرُ المحبةِ والجَنَّةِ بذلُ النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للِجبان المُعرِضِ المُفْلِس وسَوْمِ هذه السلعة، باللَّهِ ما هُزِلَتْ فيستامها المفلسون، ولا كَسَدَت، فيبيعَهَا بالنسيئة المُعْسِرُونَ، لقد أقيمت للعرض في سوق مَن يُرِيد، فلم يرضَ رَبُّهَا لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطَّالون، وقام المحبُّونَ ينتظرون أيُّهُم يصلُح أن يكون نفسُه الثمن، فدارت السِّلعة بينهم، ووقعت في يد ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

لما كَثُرَ المدَّعون للمحبة، طُولِبُوا بإقامة البيِّنة على صحة الدعوى، فلو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادَّعى الخَلِىُّ حِرْفَةَ الشَّجِىِّ، فتنوع المدعون في الشهودِ، فقيل‏:‏ لا تثبُت هذه الدعوى إلا بِبينَّةٍ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، فتأخر الخلقُ كُلُّهم، وثبت أتباعُ الرسول في أفعالهِ وأقوالهِ وهديه وأخلاقِه، فطُولِبُوا بعدالة البَيِّنة، وقيل‏:‏ لا تُقَبلُ العدالةُ إلا بتزكية ‏{‏يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، فتأخر أكثرُ المدعين للمحبة، وقام المجاهِدونَ، فقيل لهم‏:‏ إن نفوسُ المحبِّين وأموالهم ليست لهم، فسلَّموا ما وقع عليه العقد، فإن الله اشترى مِن المؤمنين أنفسَهم وأموالَهُم بأن لهم الجنَّةَ، وعقدُ التبايع يُوجِبُ التسليمُ مِن الجانبين، فلما رأى التجارُ عظمةَ المشترى وقَدْرَ الثمن، وجَلالةَ قَدْرِ مَن جرى عقدُ التبايع على يديه، ومِقدارَ الكتاب الذي أُثْبِتَ فيه هذا العقدُ، عرفُوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لِغيرها من السِّلع، فرأوا مِن الخُسران البَـيِّن والغَبْنِ الفاحش أن يبيعوها بثمن بَخْسٍ دَرَاهِمَ معدودة، تذهب لذَّتُهَا وشهوتُهَا، وتبقى تَبِعَتُهَا وحسرَتُها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء، فعقدوا مع المشترى بيعةَ الرِّضوان رضىً واختياراً مِن غير ثبوت خيار، وقالوا‏:‏ والله لا نَقِيلُكَ ولا نَسْتَقِيلُكَ، فلما تمَّ العقدُ، وسلَّموا المبيعَ، قيل لهم‏:‏ قد صارت أنفُسكم وأموالُكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفرَ ما كانت وأضعافَ أموالكم معها ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏، لم نبتع منكم نفوسَكم وأموالكم طلباً للربح عليكم، بل لِيظهر أثرُ الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجلَّ الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمَّنِ‏.‏ تأمل قصةَ جابر بن عبد الله ‏(‏وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيرَه، ثمَّ وفَّاهُ الثَمَنَ وزادَهُ، ورَدَّ عليه البعير‏)‏ وكان أبوه قد قُتِلَ مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم في وقعةِ أُحُد، فذكَّره بهذا الفعلِ حالَ أبيه مع الله، وأخبره ‏(‏أنَّ الله أحياه، وكلَّمهُ كِفَاحاً وقَالَ‏:‏ يَا عَبْدِى تَمَنَّ عَلَىَّ‏)‏، فسبحان مَنْ عَظُمَ جودُه وكرمُه أن يُحيط به علمُ الخلائق، فقد أعطى السلعةَ، وأعطى الثمنَ، ووفَّقَ لتكميلِ العقد، وقبل المبيعَ على عيبه، وأعاض عليه أجلَّ الأثمانَ، واشترى عبدهَ من نفسه بماله، وجمع له بين الثَّمَنِ والمُثَمَّنِ، وأثنى عليه، ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذي وفَّقه لهُ، وشاءه منه‏.‏

فَحيَّـهَلاَ إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّةٍ فَقَـدْ حَدَا ** بِكَ حَادِى الشَّوْقِ فَاطْوِ المَرَاحِلاَ

وقل لمنادي جبهم ورضــاهم إِذَا ** مَـا دَعَا لـبَّيْكَ أَلْفَاً كَوَامِلاَ

ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ** نَظَرْتَ إِلىَ الأَطْلاَلِ عُدْنَ حَوَائِــلاَ

ولا تنظر بالسير رفقة قاعـــد ** وَدَعْـهُ فإن الشَّـوْقَ يَكْفِيكَ حَامِلاَ

وخذ منهم زاداً إليهم وسـر على ** طَرِيقَ الهُدَى وَالحُبِّ تُصْبِحُ وَاصِـلاَ

وأحي بذكراهـم شراك إذا دنت ** رِكَابُكَ فَالذِّكْـرَى تُعِيدُك عَامِـلاَ

وَإِمَّا تَخَــافَنَّ الكَلاَلَ فَقُـلْ لَهَا ** أَمَامَكِ وِرْدُ الوَصْلَ فَابْغِى المَنَاهِـلاَ

وَخُـذْ قَبَسَاً مِنْ نُورِهمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ ** فَـنُورُهُم يَهْـدِيكَ لَيْسَ المَشَاعِلاَ

وَحَيِّ عَلَى وَادِى الأَرَاكِ فَقِـلْ بِهِ ** عَسَــاكَ تَرَاهُم ثَمَّ إِنْ كُنْتَ قَائِلاَ

وَإِلا فَفِى نَعْمَانَ عِنْدِى مُعَرِّفُ الـ ** ـأحِبَّةِ فَاطْلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَـائِلاَ

وَإِلا فَفى جَمْعٍِ بِلَيْلَتِــهِ فَإِنْ ** تَفُتْ فَمِنىً يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِـلاَ

وَحَيِّ عَلَى جَنَّاتِ عَــدْنٍ فَإِنَّها ** مَنَازِلُــكَ الأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلاَ

وَلكِن سَبَاكَ الكَاشِحُونَ لأَجْلِ ذا ** وَقَفْتَ عَلَى الأَطْلاَلِ تَبْكِى المَنَـازِلاَ

وَحيِّ عَلَى يَوْمِ المَزِيدِ بِجَنَّـةِ الـ ** ـخُلُودِ فَجُدْ بِالنَّفْسِ إِنْ كُنْتَ بَاذِلاَ

فَدَعْهَا رُسُوماً دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَـا ** مَقِيلٌ وَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَـــازِلاَ

رُسُوماً عَفَتْ يَنْتَابُهَا الخَلْقُ كَمْ بِهَا ** قَتِيلٌ وَكَمْ فِيهَا لِذَا الخَلْقِ قَاتِـــلاَ

وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى المَنْهَجِ الذي ** عَلَيْهِ سَـرَى وَفْدُ الأَحِبَّةِ آهِـــلاَ

وَقُلْ سَاعِدِى يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعَةً ** فَعِـنْدَ اللِّقَـا ذَا الكَـدُّ يُصبْحُ زَائِلا

فَمَـا هي إِلا سَـاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِى ** وَيُصْبِحُ ذُو الأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَـاذِلا

لقد حرَّك الداعى إلى الله، وإلى دار السلام النفوسَ الأبيَّة، والهِممَ العالية، وأسمع منادى الإيمان مَن كانت له أُذُنٌ واعية، وأسمع الله مَن كان حياً، فهزَّه السماعُ إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطَّت به رِحالُه إلا بدار القَرَارِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ في سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِى، وتَصْدِيقٌ بِرُسُلى أَن أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ منْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الجنَّةَ، وَلوْلاَ أَنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِى مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَودِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ في سَبِيلِ الله، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَل ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبِيلِ الله كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ القَانِتِ بآيَاتِ اللهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَة حَتَّى يَرْجعَ المُجَاهِدُ في سَبيل الله، وتوكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ في سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِماً مَعَ أَجْرٍ أَو غَنِيمةٍ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏غَدْوَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَافيها‏)‏‏.‏

وقال فيما يَروى عن ربِّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِى خَرَجَ مُجَاهِداً في سَبِيلى ابْتِغاءَ مَرْضَاتى، ضَمِنْتُ لهُ أَنْ أُرْجعه إِنْ أَرْجَعْتُهُ بِمَا أصابَ مِنْ أَجْرٍ أو غَنِيمَةٍ، وَإِنْ قَبَضْتُهُ أَنْ أَغْفِرَ له وَأَرْحَمَهُ وَأُدْخِلَهُ الجَنَّةَ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏جَاهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ، فإنَّ الجِهَادَ في سَبِيلِ الله بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يُنْجِى اللهُ به مِنَ الهمِّ والغَمِّ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏أَنَا زَعيمٌ والزَّعيمُ الحَميلُ لِمَنْ آمَنَ بى، وأَسْلَمَ وهَاجَرَ بَبيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وبِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ، وَأَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِى وَأَسْلَمَ، وَجَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ في أَعَلَى غُرَفِ الجَنَّةِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَم يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَباً، ولا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَباً يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يموت‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ قَاتَلَ في سَبيلِ الله من رَجُل مُسْلِمٍ فُواقَ نَاقةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة‏)‏‏.‏

وقالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ في الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجةٍ أعَدَّهَا اللهُ للمُجاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَإذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنهَارُ الجَنَّةِ‏)‏‏.‏

وقال لأبى سعيد‏:‏ ‏(‏مَنْ رَضىَ باللَّهِ رباً، وبالإسْلامِ دِيناً، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة‏)‏، فعجب لها أبُو سعيدٍ، فقال‏:‏ أَعِدْهَا علىَّ يا رسُولَ اللهِ، فَفَعَل، ثم قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بهَا العَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ‏)‏، قال‏:‏ وما هي يا رسول اللهِ‏؟‏ قال‏:‏

‏(‏الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيِلِ الله، دَعَاهُ خَزَنَةُ الجنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ، أَىْ فُلُ هَلُمَّ، فمنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ، دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمنْ كَانَ مِنْ أهل الجِهَادِ، دُعِىَ مِنْ بَابِ الجِهَاد، ومَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعىَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ‏)‏، فقال أبو بكر‏:‏ بأبى أَنْتَ وأُمِّى يا رسولَ اللهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِىَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوابِ كُلِّهَا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نَعَمْ وأرجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُم‏)‏‏.‏

وقالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً في سَبيِلِ الله، فَبِسَبْعمائةٍ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَعَادَ مَرِيضَاً أَوْ أَمَاطَ الأذَى عَنْ طَرِيقٍ ، فالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا، ومَنِ ابْتَلاَه الله في جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حِطَّةُ‏)‏‏.‏

وذكر ابنُ ماجه عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ في سَبِيلِ اللهِ، وَأَقَامَ في بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْفَقَ في وَجْهِهِ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ‏)‏ ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعَانَ مُجَاهِداً في سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمَاً في غُرْمِهِ أَوْ مُكَاتَباً في رَقَبتِهِ أَظَلَّهُ اللهُ في ظِلَّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلا ظِلُّهُ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّار‏)‏‏.‏

وقالَ‏:‏ ‏(‏لاَ يَجْتَمِعُ شُحٌ وَإِيمَانٌ في قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهنَّمَ في وَجْهِ عَبْدٍ‏)‏، وفى لَفْظِ‏:‏ ‏(‏في قَلْبِ عَبْدٍ‏)‏، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏في جَوْفِ امْرِئ‏)‏، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏في مَنْخَرَىْ مُسْلِمٍ‏)‏

وذكر الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ ‏(‏مَنِ اغْبَرَّت قَدَمَاهُ في سَبِيلِ اللهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ‏)‏‏.‏

وذكر عنه أيضاً أنَّهُ قال‏:‏ ‏(‏لاَ يَجْمَعُ اللهُ في جَوْفِ رَجُلٍ غُبَارَاً في سَبِيلِ الله ودخان جَهَنَّمَ، وَمَنِ اغْبَّرتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ سَائِر جَسَدِهِ عَلى النَّارِ، ومَنْ صَامَ يَوْمَاً في سَبِيلِ اللهِ، بَاعَدَ اللهُ عَنْهُ النَّارَ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ لِلرَّاكِبِ المُسْتَعْجِلِ، وَمَنْ جُرِحَ جِرَاحَةً في سَبِيلِ الله، خُتِمَ لَهُ بِخَاتَمِ الشُّهَدَاءِ، لَهُ نُورٌ يَوْمَ القِيَامَةِ لَوْنُهَا لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ، وَرِيحُهَا رِيحُ المِسْك يَعْرِفُه بِهَا الأَوَّلُونَ والآخِرُونَ، ويَقُولُونَ‏:‏ فُلانٌ عَلَيْهِ طَابعُ الشُّهَدَاءِ، وَمَنْ قاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ ‏)‏‏.‏

وذكر ابن ماجه عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ رَاحَ رَوْحَةً في سَبِيلِ اللهِ، كَانَ لَهُ بِمِثُلِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الغُبَارِ مِسْكَاً يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وذكر أحمد رحمه الله عنه‏:‏ ‏(‏مَا خَالَطَ قَلْبَ امْرِىءٍ رَهَجٌ في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ‏)‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيل الله خَيْرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا عَلَيْهَا‏)‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ، جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الذي كان يَعْمَلُهُ، وَأُجْرىَ عَلَيْهِ رِزْقُه وَأَمِنَ الفَتَّان ‏)‏ ‏.‏

وقالََ‏:‏ ‏(‏كُلُّ مَيَّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلا الذي مَاتَ مُرَابِطَاً في سَبِيل الله فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ويُؤمَّنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ‏)‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ‏)‏‏.‏

وذكر ابنُ ماجه عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ رَابَطَ ليْلَةً في سَبِيلِ الله، كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مُقَامُ أَحَدِكُم في سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ في أَهْلِهِ سِتَّينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَتَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، جَاهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ، مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ‏)‏‏.‏

وذكر أحمد عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ رَابَطَ في شَىءٍ مِنْ سَوَاحِلِ المُسْلِمِينَ ثَلاَثَةَ أَيَّام، أَجْزَأَتْ عَنْهُ رِبَاطَ سَنَةٍ‏)‏‏.‏

وذُكِرَ عنه أيضاً‏:‏ ‏(‏حَرَسُ لَيْلَةٍ في سَبِيلِ الله أفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا، ويُصَامُ نَهَارُهَا‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏حَرُمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ أَوْ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَحَرُمتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ في سَبِيلِ الله‏)‏‏.‏

وذكر أحمد عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ المُسْلِمِينَ في سَبِيلِ اللهِ مُتَطَوَّعَاً لا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ، لَمْ يَرَ النَّارَ بعَيْنَيْهِ إِلاَّ تَحِلَّةَ القَسَم، فَإنَّ الله يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَإنْ مِنْكُمْ إلا وارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ ‏)‏‏.‏

وقالَ لِرجلٍ حَرَسَ المسلمين ليلةً في سفرهم مِنْ أوَّلِها إلى الصباح عَلَى ظَهْرِ فرسه لم يَنِزلْ إلا لصلاةٍ أو قَضَاءِ حَاجَةٍ‏:‏ ‏(‏قَدْ أَوْجَبْتَ فَلاَ عَلَيْكَ ألا تَعْمَلَ بَعْدَهَا‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله، فَلَهُ دَرَجَةٌ في الجَنَّةِ‏)‏‏.‏

وقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللهِ، فَهُوَ عِدْلُ مُحَرَّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً في سَبِيلِ الله، كَانَتْ لَهُ نُورَاً يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وعند النسائى تفسير الدرجة بمائة عام‏.‏

وقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللهً يُدْخِلُ بالسَّهْمِ الوَاحِدِ الجَنَّةَ‏:‏ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، والمُمِدَّ بِهِ، والرَّامِىَ بِهِ، وارْمُوا وَارْكَبُوا، وأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلىَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وكُلُّ شَىءٍ يَلْهُو به الرجلُ فباطلٌ إلا رَمْيَهُ بقوسه، أو تَأْدِيبَه فرسَه، وملاعبتَه امرأته، ومَنْ علَّمهُ الله الرَّمىَ، فتركه رغبةً عنه، فنِعْمَةٌ كفرها‏)‏ رواه أحمد وأهل السنن‏.‏

وعند ابن ماجه‏:‏ ‏(‏مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْى ثم تَركَهُ، فَقَدْ عَصَانِى‏)‏‏.‏

وذكر أحمد عنه أنّ رجلاً قال له‏:‏ أوصِنى فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله، فإنَّهُ رَأْسُ كُلَّ شَىءٍ، وعَلَيْكَ بِالجِهَادِ، فَإنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الإسْلاَم، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ الله وَتِلاَوَةِ القُرْآنِ، فَإِنَّهُ رُوحُكَ في السَّمَاءِ، وَذِكْرٌ لَكَ في الأرْض‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏ذِرْوَةُ سَنَامِ الإسْلاَم الجِهَادُ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏ثَلاَثَةٌ حَقٌ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ‏:‏ المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، وَالمُكَاتَبُ الذي يريدُ الأَدَاءَ، والنَّاكِحُ الذي يُرِيدُ العَفَافَ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ‏)‏‏.‏

وذكر أبو داود عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيَاً، أَوْ يُخَلِّفْ غَازِيَاً في أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بالدِّينَار والدِّرْهَم، وَتَبَايَعُوا بالعِينَةِ، واتَّبَعُوا أذْنَابَ البَقَرِ، وَترَكُوا الجِهَادَ في سَبِيلِ الله، أنْزَلَ الله بِهِمْ بَلاَءً، فلم يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهُم‏)‏‏.‏

وذكر ابن ماجه عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ لَقِىَ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ في سَبِيلِ اللهِ، لَقِىَ اللهَ، وَفِيهِ ثُلْمَة‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، وفسر أبو أيوب الأنصارى الإلقاء باليد إلى التهلُكةِ بِتَركِ الجِهَادِ‏.‏

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَ أبْوَابَ الجنّةِ تَحْتَ ظِلال السيُّوفِ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ قَاتَل لِتكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهُوَ في سبيل اللهِ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه‏:‏ ‏(‏إنَّ النَّارَ أَوَّلُ ما تُسَعَّرُ بالْعَالِمِ والمَنْفِقِ وَالمقْتُولِ في الجِهَادِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَال‏)‏‏.‏

وصَحَّ عنه‏:‏ ‏(‏أَنَّ مَنْ جَاهَدَ يَبْتَغِى عَرَضَ الدُّنيَا، فَلاَ أَجْرَ لَهُ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه أنه قال لعبدِ الله بن عمرو‏:‏ ‏(‏إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرَاً مُحْتَسِبَاً، بَعَثَكَ اللهُ صَابِرَاً مُحْتَسِبَاً، وإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِياً مُكَاثِرَاً، بَعَثَكَ اللهُ مُرَائِيَّا مُكَاثِراً، يا عَبْدَ اللهِ بن عَمْرو عَلَى أىَّ وَجْهٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ، بَعَثَكَ اللهُ عَلَى تِلْكَ الحَالِ‏)‏‏.‏

فصل

وَكَانَ يَسْتَحِبُّ القِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ، كَمَا يَسْتَحِبُّ الخُرُوجَ لِلسَّفَرِ أَوَّلَه، فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ‏.‏

فصل

قَال‏:‏ ‏(‏والذي نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ في سَبِيلِ اللهِ والله أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ في سَبِيلِةِ إِلا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، والَّريحُ رِيحُ الْمِسْكِ‏)‏‏.‏

وفى الترمذى عنه‏:‏ ‏(‏لَيْس شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ أَوْ أَثَرَيْنِ، قَطْرةِ دَمْعَةٍ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ في سَبِيل اللهِ، وَأَمَّا الأَثرانِ، فَأَثَرٌ في سَبيلِ الله، وَأَثَرٌ في فَرِيضَةٍ مِنْ فَرائِضِ اللهِ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لاَ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْـيَا وَمَا فِيهَا، إِلا الشَّهيدَ لما يَرىَ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخُرى‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرامَة‏)‏‏.‏

وقالَ لأُمِّ حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ، وَقَدْ قُتِل ابْنُهَا مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَألَتْهُ أَيْنَ هُوَ ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ في الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْر، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثمَّ تأْوى إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ، فاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطَّلاَعَةً، فَقَالَ‏:‏ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئَاً ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ أَىَّ شَىْءٍ نَشْتَهِى، وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعلَ بِهِمْ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْركُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا‏:‏ يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَردَّ أَرْواحَنَا في أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ في سَبِيلكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله خِصَالاً أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، ويُرَى مَقْعَده مِنَ الجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حِلْيَةَ الإِيْمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الحُورِ العيْنِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏.‏ وَيُزوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْحُورِ الْعينِ، وَيُشفعَ في سَبْعِينَ إِنْسَاناً مِنْ أَقَارِبهِ‏)‏ ذكره أحمد وصححه الترمذى‏.‏

وقال لجابر‏:‏ ‏(‏أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ الله لأَبِيكَ‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدَاً إِلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحَاً، فَقَالَ‏:‏ يَا عَبْدِى تَمَنَّ عَلَىَّ أُعْطِكَ، قَالَ‏:‏ يَارَبِّ تُحيِيِنى فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قال‏:‏ إِنَّهُ سَبَقَ مِنَّى ‏(‏أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجعُونَ‏)‏ قالَ‏:‏ يَارَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏‏.‏

وقَالَ‏:‏ ‏(‏لَمَّا أُصِيبَ إِخُوانُكُمْ بأُحُدٍ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ في أَجْوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، وَتأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتأْوِى إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ في ظِلً الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ، قَالُوا‏:‏ يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ لَنَا لِئلا يَزْهَدُوا في الجِهَادِ، وَلاَ يَنْكُلوا عَن الْحَرْب، فَقَالَ اللهُ‏:‏ أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُم، فَأَنزل اللهُ على رسولِه هذه الآيات‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏ مرفوعاً‏:‏ ‏(‏الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، في قُبَّةٍ خَضْرَاء، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقهُمْ مِنَ الجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيَّة‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ، كَأَنَّهُمَا طَيْرَانِ أَضَلَّتَا فَصيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏المستدرك‏)‏ والنسائى مرفوعاً‏:‏ ‏(‏لأَنْ أُقْتَلَ في سَبيلِ الله أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى أَهْلُ المَدَرِ وَالْوَبَر‏)‏‏.‏

وفيهما‏:‏ ‏(‏ ما يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنَ القَتْلِ إِلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ ‏(‏يَشْفَعُ الشَّهِيدُ في سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏‏:‏ ‏(‏أَفْضلُ الشُّهَدَاء الَّذِينَ إِنْ يَلْقَوْا في الصَّفِ لا يَلْفِتُونَ وجوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ في الْغُرَفِ العُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ في الدُّنْيَا، فَلا حِسَابَ عَلَيْه‏)‏‏.‏

وفيهِ‏:‏ ‏(‏الشُّهَدَاءُ أَرْبَعةٌ‏:‏ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيَّدُ الإِيْمَانِ لَقِىَ العَدُوَّ، فصدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذلِكَ الذي يَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ أَعْنَاقَهُمْ ورفع رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ ورَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيَّدُ الإِيْمَانِ، لَقِىَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا يُضْرَبُ جِلدُهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ أَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ، فَقَـتَلَهُ، هُوَ في الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَجُلٌ مُؤمِنٌ جَيَّدُ الإِيْمَانِ، خَلَطَ عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيَّئاً لَقِىَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَاكَ في الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وََرَجُلٌ مُؤمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ إِسْرافاً كَثِيراً لَقِىَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذلِكَ في الدَّرَجَةِ الَّرابِعَةِ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏ و‏(‏صحيح ابن حبان‏)‏‏:‏ ‏(‏القَتْلَى ثَلاثَةٌ‏:‏ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ في سَبِيلِ اللهِ حَتَّى إذا لَقِىَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، فَذَاكَ الشَّهِيدُ المُمْتَحَنُ في خَيْمَةِ اللهِ تَحْتَ عَرْشِهِ، لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلا بِدَرَجَةِ النُّبْوَّةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ فَرِقَ على نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، جاهد بِنفسِهِ وَمَالِهِ في سَبيِلِ اللهِ حَـتَّى إِذَا لَقِىَ الْعَدُوَّ، قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ، فَتِلْكَ مُمَصْمِصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّم سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، وَبْعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى إِذَا لَقِىَ العَدُوَّ، قَاتَلَ في سَبيلِ اللهِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ في النَّار، وإِنَّ السَّيْفَ لا يَمْحُو النِّفَاقَ ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلَهَ في النَّارِ أَبَدَاً‏)‏‏.‏

وسُئل أَىُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ‏)‏، قيل‏:‏ فَأىّ القَتْلِ أَفْضَلُ ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ في سَبِيلِ الله‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنْ أَعْظَم الجِهَادِ كَلَمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر ‏)‏ وهو لأحمد والنسائى مرسلاً‏.‏

وصحَّ عنه‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ‏)‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏حتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَالَ‏)‏‏.‏