فصل: (وَقْتُ الْعُمْرَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» (نسخة منقحة)



.عُمْرَةُ الرّسُولِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَاسْتِخْلَافُهُ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ وَحَجّ عَتّابٌ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ ثَمَانِي:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنّةَ، بِنَاحِيَةِ مَرّ الظّهْرَانِ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ، وَخَلّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، يُفَقّهُ النّاسَ فِي الدّينِ وَيُعَلّمُهُمْ الْقُرْآنَ وَاتّبِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّهُ قَالَ لَمّا اسْتَعْمَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ رَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، فَقَامَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دِرْهَمًا كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَتْ. بِي حَاجَةٌ إلَى أَحَدٍ.

.[وَقْتُ الْعُمْرَةِ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيّةِ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجّةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ لِسِتّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِيمَا زَعَمَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَجّ النّاسُ تِلْكَ السّنَةَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّ عَلَيْهِ وَحَجّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السّنَةَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَهِيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَقَامَ أَهْلُ الطّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ إذْ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ.

.أَمْرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْ الطّائِفِ:

وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنْ الطّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إلَى أَخِيهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكّةَ، مِمّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ وَأَنّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ، ابْنَ الزّبَعْرَى وَهُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ، قَدْ هَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَتْ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إلَى نَجَائِك مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَدْ قَالَ:
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ** فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتُ وَيْحَك هَلْ لَكَا؟

فَبَيّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ** عَلَى أَيّ شَيْءٍ غَيْرَ ذَلِكَ دَلّكَا

عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبَا لَهُ ** عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبَا لَكَا

فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ ** وَلاَ قَائِلٌ إِمّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا

سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً ** فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: الْمَأْمُورُ. وَقوله: فَبَيّنْ لَنَا: عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ،
مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ** فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْت بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا

شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيّةً ** فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا

وَخَالَفْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتّبَعْتَهُ ** عَلَى أَيّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِك دَلّكَا

عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ** عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا

فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفِ ** وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا

قَالَ وَبَعَثَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ، فَلَمّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْشَدَهُ إيّاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَمِعَ: سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ: «صَدَقَ وَإِنّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا الْمَأْمُونُ». وَلَمّا سَمِعَ: عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ، قَالَ: «أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمّهُ». ثُمّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبِ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الّتِي ** تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهْيَ أَحْزَمُ

إلَى اللّهِ لَا الْعُزّى وَلَا اللّاتِ وَحْدَهُ ** فَتَنْجُو إذَا كَانَ النّجَاءُ وَتَسْلَمُ

لَدَى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ** مِنْ النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ

فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ** وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَى مُحَرّمِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنّمَا يَقُولُ كَعْبٌ: الْمَأْمُونُ، وَيُقَالُ: الْمَأْمُورُ فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ لِقَوْلِ قُرَيْشٍ الّذِي كَانَتْ تَقُولُهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

.[قُدُومُ كَعْبٍ عَلَى الرّسُولِ وَقَصِيدَتُهُ اللّامِيّةُ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوّهِ فَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ. فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدّا؟ قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوّهِ ثُمّ خَرَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ. مِنْ جُهَيْنَةَ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَغَدَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَلّى الصّبْحَ فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَشَارَ لَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ. فَذُكِرَ لِي أَنّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ؟ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي وَعَدُوّ اللّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعْهُ عَنْك فَإِنّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا، نَازِعًا عَمّا كَانَ عَلَيْهِ قَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ، لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَتَكَلّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا بِخَيْرِ فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مُتَبْولُ ** مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ

وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ** إلّا أَغَنّ غَضِيضُ الطّرْفِ مَكْحُولُ

هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً ** لَا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ

تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ** كَأَنّهُ مُنْهَلٌ بِالرّاحِ مَعْلُولُ

شُجّتْ بِذِي شَيَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ** صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ

تَنْفِي الرّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ** مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعالِيلُ

فَيَالَهَا خُلّةً لَوْ أَنّهَا صَدَقَتْ ** بِوَعْدِهَا أَوْ لَوَ انّ النّصْحَ مَقْبُولُ

لَكِنّهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ** فَجْعٌ وَوَلْغٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ

فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ** كَمَا تَلَوّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ

وَمَا تَمَسّكُ بِالْعَهْدِ الّذِي زَعَمَتْ ** إلّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ

فَلَا يَغُرّنْكَ مَا مَنّتْ وَمَا وَعَدَتْ ** إنّ الْأَمَانِيّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ

كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ** وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلّا الْأَبَاطِيلُ

أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدّتُهَا ** وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ

أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلّغُهَا ** إلّا الْعِتَاقُ النّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ

وَلَنْ يُبَلّغَهَا إلّا عُذَافِرَةٌ ** لَهَا عَلَى الْأَيْنِ إرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ

مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ** عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ

تَرْمِي الْغُيُوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرِدٍ لَهَقٍ ** إذَا تَوَقّدَتْ الْحِزّانُ وَالْمِيلُ

ضَخْمٌ مُقَلّدُهَا فَعْمٌ مُقَيّدُهَا ** فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ

غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عُلْكُومٌ مُذَكّرَةٌ ** فِي دَفّهَا سَعَةٌ قُدّامُهَا مِيلُ

وَجِلْدُهَا مِنْ أُطُومٍ مَا يُؤَيّسُهُ ** طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ

حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ** وَعَمّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ

يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمّ يُزْلِقُهُ ** مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ

عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنّحْضِ عَنْ عُرُضٍ ** مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزّوْرِ مَفْتُولُ

كَأَنّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا ** مِنْ خَطْمِهَا وَمِنْ اللّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ

تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ ذَا خُصَلٍ ** فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوّنْهُ الْأَحَالِيلُ

قَنْوَاءُ فِي حُرّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ** عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدّيْنِ تَسْهِيلُ

تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاحِقَةٌ ** ذَوَابِلٍ مَسّهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ

سُمْرِ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا ** لَمْ يَقِهِنّ رُءُوسَ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ

كَأَنّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ ** وَقَدْ تَلَفّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ

يَوْمًا يَظَلّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُصْطَخِدًا ** كَأَنّ ضَاحِيَهُ بِالشّمْسِ مَمْلُولُ

وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهِمْ وَقَدْ جَفَلَتْ ** وُرْقُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا

شَدّ النّهَارِ ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصَفٍ ** قَامَت فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ

نَوّاحَةٍ رِخْوَةِ الضّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ** لَمّا نَعَى بِكْرَهَا النّاعُونَ مَعْقُولُ

تَفْرِى اللّبَانَ بِكَفّيْهَا وَمِدْرَعُهَا ** مُشَقّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ

تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ** إنّك يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ

وَقَالَ كُلّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ** لَا أُلْهِيَنّكَ إنّي عَنْكَ مَشْغُولُ

فَقُلْتُ خَلّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمْ ** فَكُلّ مَا قَدّرَ الرّحْمَنُ مَفْعُولُ

كُلّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ** يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ

نُبّئْتُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ أَوْعَدَنِي ** وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ مَأْمُولُ

مَهْلًا هَدَاك الّذِي أَعْطَاك نَافِلَةَ الْ ** قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ

لَا تَأْخُذَنّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ** أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيّ الْأَقَاوِيلُ

لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ** أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ

لَظَلّ يَرْعَدُ إلّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ** مِنْ الرّسُولِ بِإِذْنِ اللّهِ تَنْوِيلُ

حَتّى وَضَعْتُ يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ ** فِي كَفّ ذِي نَقِمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ

فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُهُ ** وَقِيلَ إنّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ

مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ ** فِي بَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ

يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ** لَحْمُ مِنْ النّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ

إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلّ لَهُ ** أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إلّا وَهُوَ مَفْلُولُ

مِنْهُ تَظَلّ سِبَاعُ الْجَوّ نَافِرَةً ** وَلَا تَمَشّى بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ

وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ** مُضَرّجُ الْبَزّ وَالدّرْسَانِ مَأْكُولُ

إنّ الرّسَولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ** مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ

فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ** بِبَطْنِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمُوا زُولُوا

زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفُ ** عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ

شُمّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالُ لَبُوسُهُمْ ** مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ

بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكّتْ لَهَا حَلَقٌ ** كَأَنّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ

لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ ** قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا

يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ** ضَرْبٌ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ

لَا يَقَعَ الطّعْنُ إلّا فِي نُحُورِهِمْ ** وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ قَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ. وَبَيْتُهُ: حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا وَبَيْتُهُ: يَمْشِي الْقُرَادُ، وَبَيْتُهُ: عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ، وَبَيْتُهُ: تُمِرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ، وَبَيْتُهُ: تَفْرِي اللّبَان، وَبَيْتُهُ: إذَا يُسَاوِرُ قِرْنَا، وَبَيْتُهُ: وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ: عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.

.[اسْتِرْضَاءُ كَعْبٍ الْأَنْصَارَ بِمَدْحِهِ إيّاهُمْ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: فَلَمّا قَالَ كَعْبٌ:
إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ

وَإِنّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لِمَا كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بَهْ مَا صَنَعَ وَخَصّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِدْحَتِهِ غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ، وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنْ الْيَمَنِ:
مَنْ سَرّهُ كَرْمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ** فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ

وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ** إنّ الْخِيَارَ هُمْ بَنُو الْأَخْيَارِ

الْمُكْرِهِينَ السّمْهَرِيّ بِأَذْرُعٍ ** كَسَوَالِفِ الْهِنْدِيّ غَيْرَ قِصَارِ

وَالنّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرّةٍ ** كَالْجَمْرِ غَيْرَ كَلَيْلَةِ الْأَبْصَارِ

وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيّهِمْ ** لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ

وَالْقَائِدِينَ النّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ** بِالْمَشْرَفِيّ وَبِالْقَنَا الْخَطّارِ

يَتَطَهّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسْكًا لَهُمْ ** بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفّارِ

دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنٍ خَفِيّةٍ ** غُلْبُ الرّقَابِ مِنْ الْأَسْوَدِ ضَوَارِي

وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوك إلَيْهِمْ ** أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَعْفَارِ

ضَرَبُوا عَلِيّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ** دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ

لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلّهُ ** فِيهِمْ لَصَدّقَنِي الّذِينَ أُمَارِي

قَوْمٌ إذَا خَوَتْ النّجُومُ فَإِنّهُمْ ** لِلطّارِقِينَ النّازِلِينَ مَقَارِي

فِي الْغُرّ مِنْ غَسّانَ مِنْ جُرْثُومَةٍ ** أَعْيَتْ مَحَافِرُهَا عَلَى الْمِنْقَارِ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ حَيْنَ أَنْشَدَهُ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ

لَوْلَا ذَكَرْت الْأَنْصَارَ بِخَيْرِ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ لِي عَنْ عَلِيّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنّهُ قَالَ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ:
بَانَتْ سُعَادٌ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ

.غَزْوَةُ تَبُوكَ:

فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ.
قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْن ذِي الْحَجّةِ إلَى رَجَبٍ ثُمّ أَمَرَ النّاسَ بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الزّهْرِيّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلّ حَدّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدّثُ مَا لَا يُحَدّثُ بَعْضٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ مِنْ عُسْرَةِ النّاسِ وَشِدّةٍ مِنْ الْحَرّ وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَالنّاسُ يُحِبّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ وَيَكْرَهُونَ الشّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزّمَانِ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلّا كَنّى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ إلّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنّهُ بَيّنَهَا لِلنّاسِ لِبُعْدِ الشّقّةِ وَشِدّةِ الزّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوّ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ لِيَتَأَهّبَ النّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ فَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ يُرِيدُ الرّومَ.

.[تَخَلّفَ الْجَدّ وَمَا نَزَلَ فِيهِ]:

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِك لِلْجَدّ بْنِ قِيسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ يَا جَدّ، هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْ تَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنّي؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّي، وَإِنّي أَخْشَى إنْ رَأَيْتَ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ قَدْ أَذِنْتُ لَك فَفِي الْجَدّ بْنِ قِيسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ إنْ كَانَ إنّمَا خَشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِك بِهِ فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْبَرُ بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالرّغْبَة بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِنّ جَهَنّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ.

.[مَا نَزَلَ فِي الْقَوْمِ الْمُثَبّطِينَ]:

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ زَهَادَةٌ فِي الْجِهَادِ وَشَكّا فِي الْحَقّ وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

.[تَحْرِيقُ بَيْتِ سُوَيْلِمٍ وَشِعْرُ الضّحّاكِ فِي ذَلِكَ]:

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي الثّقَةُ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيّ، وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ جَاسُومَ، يُثَبّطُونَ النّاسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ فَفَعَلَ طَلْحَةُ. فَاقْتَحَمَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا. فَقَالَ الضّحّاكُ فِي ذَلِكَ:
كَادَتْ وَبَيْتِ اللّهِ نَارُ مُحَمّدٍ ** يَشِيطُ بِهَا الضّحّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ

وَظَلْتُ وَقَدْ طَبّقْتُ كِبْسَ سُوَيْلِمٍ ** أَنَوْءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقَى

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا ** أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلْ بِهِ النّارُ يُحْرَق

.[حَثّ الرّسُولِ عَلَى النّفَقَةِ وَشَأْنُ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَدّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ وَجَضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ، فَإِنّي عَنْهُ رَاضٍ.

.[شَأْنُ الْبَكّائِينَ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ الْبَكّاءُونَ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ وَعَمْرُو بْنُ حُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ الْمُزَنِيّ- وَبَعْضُ النّاسِ يَقُولُ بَلْ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ- وَهَرَمِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ وَعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيّ. فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةِ فَقَالَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، فَتَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنّ ابْنَ يَامِينَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النّضْرِيّ لَقَى أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ مُغَفّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَقَالَ مَا يُبْكِيكُمَا؟ قَالَا: جِئْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلَاهُ وَرَوّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

.[شَأْنُ الْمُعَذّرِينَ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَاءَهُ الْمُعَذّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ، فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ.