فصل: (مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» (نسخة منقحة)



.[مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ اسْتَقْبَلَ قِصّةَ الْخَبَرِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْنِ الْفِتْيَةِ فَقَالَ {أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} أَيْ قَدْ. كَانَ مِنْ آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالرّقِيمُ: الْكِتَابُ الّذِي رُقِمَ فِيهِ بِخَبَرِهِمْ وَجَمْعُهُ رُقُمٌ. قَالَ الْعَجّاجُ وَمُسْتَقَرّ الْمُصْحَفِ الْمُرَقّمِ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} ثُمّ قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ} أَيْ بِصِدْقِ الْخَبَر عَنْهُمْ {إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالشّطَطُ الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقّ. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ** كَالطّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزّيْتُ وَالْفَتْلُ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ} قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ بِحُجّةٍ بَالِغَةٍ. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلّا اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَزَاوَرُ تَمِيلُ وَهُوَ مِنْ الزّورِ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنِ حَجَرٍ:
وَإِنّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْتُ مُمَلّكًا ** بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الْفُرَانِقَ أَزْوَرَا

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ أَبُو الزّحْفِ الْكَلْبِيّ يَصِفُ بَلَدًا:
جأْبُ الْمُنَدّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ ** يُنْضِي الْمَطَايَا خِمْسُهُ الْعَشَنْزَرُ

وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وتَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ تُجَاوِزُهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ عَنْ شِمَالِهَا قَالَ ذُو الرّمّةِ:
إلَى ظُعْنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ ** شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنّ الْفَوَارِسُ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْفَجْوَةُ السّعَةُ وَجَمْعُهَا: الْفِجَاءُ. قَالَ الشّاعِرُ:
أَلْبَسْتَ قَوْمَك مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ** حَتّى أُبِيحُوا وَخَلّوْا فَجْوَةَ الدّارِ

{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} أَيْ فِي الْحُجّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِك عَنْهُمْ فِي صِدْقِ نُبُوّتِك بِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. {مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْوَصِيدُ الْبَابُ.
قَالَ الْعَبْسِيّ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ:
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ لَا يُسَدّ وَصِيدُهَا ** عَلَيّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَالْوَصِيدُ أَيْضًا: الْفِنَاءُ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ وَوُصْدَانُ وَأُصُدٌ وَأُصْدَانٌ {لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} إلَى قَوْلِهِ {قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} أَهْلُ السّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنْهُمْ {لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا سَيَقُولُونَ} يَعْنِي أَحْبَارَ يَهُودَ الّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ. {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ لَا تُكَابِرْهُمْ {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} فَإِنّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِم {وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ وَاذْكُرْ رَبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} أَيْ وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءِ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت فِي هَذَا: إنّي مُخْبِرُكُمْ غَدًا. وَاسْتَثْنِ شِيئَةَ اللّهِ وَاذْكُرْ رَبّك إذَا نَسِيت، وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبّي لِخَيْرٍ مِمّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ رَشَدًا، فَإِنّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِعٌ فِي ذَلِكَ. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ. {قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أَيْ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا سَأَلُوك عَنْهُ.

.[مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي خَبَرِ الرّجُلِ الطّوّافِ]:

وَقَالَ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّجُلِ الطّوّافِ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا} حَتّى انْتَهَى إلَى آخِرِ قِصّةِ خَبَرِهِ. وَكَانَ مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمُدّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ حَتّى انْتَهَى مِنْ الْبِلَادِ إلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، لَا يَطَأُ أَرْضًا إلّا سُلّطَ عَلَى أَهْلِهَا، حَتّى انْتَهَى مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى مَا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ الْخَلْقِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مِنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ عَنْ الْأَعَاجِمِ فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِهِ أَنّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ. اسْمُهُ مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْذُبَةَ الْيُونَانِيّ، مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ وَهُوَ الّذِي بَنَى الإسكندرية فَنُسِبَتْ إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيّ وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ مَلِكٌ مَسَحَ الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَابِ وَقَالَ خَالِدٌ سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ- رَضِيَ اللّه عَنْهُ- رَجُلًا يَقُولُ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَسَمّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ بِالْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: اللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَقَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ، فَالْحَقّ مَا قَالَ.

.[مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الرّوحِ]:

وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّوحِ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا}.

.[سُؤَالُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لِلرّسُولِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَنْ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا}]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّهُ قَالَ لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الْمَدِينَةَ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ يَا مُحَمّدُ أَرَأَيْتَ قَوْلَك: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلًا إيّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَك؟ قَالَ كُلّا؛ قَالُوا: فَإِنّك تَتْلُو فِيمَا جَاءَك: أَنّا قَدْ أُوتِينَا التّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلّ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: إنّهَا فِي عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ لَوْ أَقَمْتُمُوهُ قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ {وَلَوْ أَنّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ أَنّ التّوْرَاةَ فِي هَذَا مِنْ عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ.

.[مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى بِشَأْنِ طَلَبِهِمْ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ]:

قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ {وَلَوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} أَيْ لَا أَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلّا مَا شِئْت.

.[مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى رَدّا عَلَى قَوْلِهِمْ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُذْ لِنَفْسِك]:

وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ خُذْ لِنَفْسِك، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا، وَيَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا يُصَدّقُهُ بِمَا يَقُول، وَيَرُدّ عَنْهُ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا تَبَارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أَيْ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ {جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلّا إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا} أَيْ جَعَلْت بَعْضَكُمْ لِبَعْضِ بَلَاءً لِتَصْبِرُوا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُوا لَفَعَلْت.

.[مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى رَدّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي أُمَيّة]:

وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنْتُ إِلّا بَشَرًا رَسُولًا} قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْيَنْبُوعُ مَا نَبَعَ مِنْ الْمَاءِ مِنْ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، وَجَمْعُهُ قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ وَاسْمُهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيّ الْفِهْرِيّ.
وَإِذَا هَرَقْتَ بِكُلّ دَارٍ عَبْرَةً ** نُزِفَ الشّئُونُ وَدَمْعُك الْيَنْبُوعُ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْكِسَفُ الْقِطَعُ مِنْ الْعَذَابِ وَوَاحِدَتُهُ كِسْفَةٌ مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ. وَهِيَ أَيْضًا: وَاحِدَةُ الْكِسْفِ. وَالْقَبِيلُ يَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} أَيْ عِيَانًا وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أُصَالِحُكُمْ حَتّى تَبُوءُوا بِمِثْلِهَا ** كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا قَبِيلُهَا

يَعْنِي الْقَابِلَةُ لِأَنّهَا تُقَابِلُهَا وَتَقْبُلُ وَلَدَهَا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ الْقَبِيلُ جَمْعُهُ قُبُلٌ وَهِيَ الْجَمَاعَاتُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلًا} فَقُبُلٌ جَمْعُ قَبِيلٍ مِثْلُ سُبُلٍ جَمْعُ سَبِيلٍ وَسُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَقُمُصٍ جَمْعُ قَمِيصٍ. وَالْقَبِيلُ أَيْضًا: فِي مَثَلٍ مِنْ الْأَمْثَالِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ أَيْ لَا يَعْرِفُ مَا أَقْبَلَ مِمّا أَدْبَرَ قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
تَفَرّقَتْ الْأُمُورُ بِوَجْهَتَيْهِمْ ** فَمَا عَرَفُوا الدّبِيرَ مِنْ الْقَبِيلِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ إنّمَا أُرِيدَ بِهَذَا الْقَبِيلِ: الْفَتْلُ فَمَا فُتِلَ إلَى الذّرَاعِ فَهُوَ الْقَبِيلُ وَمَا فُتِلَ إلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ الدّبِيرُ وَهُوَ مِنْ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ الّذِي ذَكَرْتُ. وَيُقَالُ فَتْلُ الْمِغْزَلِ. فَإِذَا فُتِلَ الْمِغْزَلُ إلَى الرّكْبَةِ قَالَ الْعَجّاجُ:
مِنْ طَلَلٍ أَمْسَى تَخَالُ الْمُصْحَفَا ** رُسُومَهُ وَالْمُذْهَبَ الْمُزَخْرَفَا

وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلّ مُزَيّنٍ. مُزَخْرَفٌ.

.[مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى رَدّا عَلَى قَوْلِهِمْ إنّمَا يُعَلّمُك رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ إنّا قَدْ بَلَغَنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ الرّحْمَنُ وَلَنْ نُؤْمِنَ بِهِ أَبَدًا: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّي لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

.[مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ وَمَا هَمّ بِهِ]:

وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَا هَمّ بِهِ {أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنّ اللّهَ يَرَى كَلّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ كَلّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَنَسْفَعًا: لَنَجْذِبَنْ وَلَنَأْخُذَنْ. قَالَ الشّاعِرُ:
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصّرَاخَ رَأَيْتَهُمْ ** مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ

وَالنّادِي: الْمَجْلِسُ الّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَوْمُ وَيَقْضُونَ فِيهِ أُمُورَهُمْ. وَفِي كِتَابِ اللّهِ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} وَهُوَ النّدِيّ.
قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: اذْهَبْ إلَيْك فَإِنّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَهْلُ النّدِيّ وَأَهْلُ الْجُودِ وَالنّادِي.
وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى: {وَأَحْسَنُ نَدِيّا} وَجَمْعُهُ أَنْدِيَةٌ. فَلْيَدْعُ أَهْلَ نَادِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ:
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ** وَيَوْمُ سَيْرٍ إلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
لَا مَهَاذِيرَ فِي النّدِيّ مَكَانِي ** رَ وَلَا مُصْمِتِينَ بِالْإِفْحَامِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ النّادِي: الْجُلَسَاءُ. وَالزّبَانِيَةُ الْغِلَاظُ الشّدَادُ وَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَزَنَةُ النّارِ. وَالزّبَانِيَةُ أَيْضًا فِي الدّنْيَا: أَعْوَانُ الرّجُلِ الّذِينَ يَخْدُمُونَهُ وَيُعِينُونَهُ وَالْوَاحِدُ زِبْنِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى فِي ذَلِكَ:
مَطَاعِيمُ فِي الْمَقْرَى مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى ** زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلُومُهَا

يَقُول: شَدّادٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْهُذَلِيّ وَهُوَ صَخْرُ الْغَيّ:
وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ زَبَانِيَهْ

.[مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى فِيمَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَمْوَالِهِمْ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

.[اسْتِكْبَارُ قُرَيْشٍ عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرّسُولِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-]:

فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحَقّ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيمَا حَدّثَ وَمَوْقِعَ نُبُوّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ حِين سَأَلُوهُ عَمّا سَأَلُوا عَنْهُ حَالَ الْحَسَدُ مِنْهُمْ لَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اتّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ فَعَتَوْا عَلَى اللّهِ وَتَرَكُوا أَمْرَهُ عِيَانًا، وَلَجّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ. فَقَالَ قَائِلُهُمْ {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ} أَيْ اجْعَلُوهُ لَغْوًا وَبَاطِلًا، وَاِتّخِذُوهُ هُزُوًا لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَهُ بِذَلِكَ فَإِنّكُمْ إنْ نَاظَرْتُمُوهُ أَوْ خَاصَمْتُمُوهُ يَوْمًا غَلَبَكُمْ.

.[تَهَكّمُ أَبِي جَهْلٍ بِالرّسُولِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَتَنْفِيرُ النّاسِ عَنْهُ]:

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّمَا جُنُودُ اللّهِ الّذِينَ يُعَذّبُونَكُمْ فِي النّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النّاسِ عَدَدًا، وَكَثْرَةً أَفَيَعْجِزُ كُلّ مِئَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النّارِ إِلّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلّا فِتْنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا} إلَى آخِرِ الْقِصّةِ فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ جَعَلُوا إذَا جَهَرَ رَسُولُ اللّه- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي، يَتَفَرّقُونَ عَنْهُ وَيَأْبَوْنَ أَنْ يَسْتَمِعُوا لَهُ فَكَانَ الرّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بَعْضَ مَا يَتْلُو مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي، اسْتَرَقَ السّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ فَإِنْ رَأَى أَنّهُمْ ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- صَوْتَهُ فَظَنّ الّذِي يَسْتَمِعُ أَنّهُمْ لَا يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ أَصَاخَ لَهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ.

.[سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ {وَلَا تَجْهَرْ} إلَخْ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ حَدّثَهُمْ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا- حَدّثَهُمْ إنّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} وَابْتَغِ مِنْ أَجْلِ أُولَئِكَ النّفَرِ. يَقُولُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرّقُوا عَنْك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فَلَا يَسْمَعْهَا مَنْ يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ لَعَلّهُ يَرْعَوِي إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعَ بِهِ.
أَوّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ.

.[عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَا نَالَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَبِيلِ جَهْرِهِ بِالْقُرْآنِ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ أَوّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِمَكّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- قَالَ اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالُوا: وَاَللّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا؛ قَالُوا: إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك، إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ أَرَادُوهُ قَالَ دَعُونِي فَإِنّ اللّهَ سَيَمْنَعُنِي. قَالَ فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ {الرّحْمَنُ عَلّمَ الْقُرْآنَ} قَالَ ثُمّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا. قَالَ فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ مَاذَا قَالَ قَالَ ثُمّ قَالُوا: إنّهُ لَيَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ فَقَامُوا إلَيْهِ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنّ يَبْلُغَ. ثُمّ انْصَرَفَ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ فَقَالُوا لَهُ هَذَا الّذِي خَشِينَا عَلَيْك؛ فَقَالَ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللّهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ الْآنَ وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنّهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا؛ قَالُوا: لَا، حَسْبُك، قَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ.
قِصّةُ اسْتِمَاعِ قُرَيْشٍ إلَى قِرَاءَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

.[أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالْأَخْنَسُ وَحَدِيثُ اسْتِمَاعِهِمْ لِلرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ، حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فِي بَيْتِهِ فَأَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ وَكُلّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا. فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمّ انْصَرَفُوا. حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّانِيَةُ عَادَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوّلَ مَرّةٍ ثُمّ انْصَرَفُوا. حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّالِثَةُ أَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا نَبْرَحُ حَتّى نَتَعَاهَدَ أَلَا نَعُودَ فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ تَفَرّقُوا.

.[ذَهَابُ الْأَخْنَسِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ مَعْنَى مَا سَمِعَ]:

فَلَمّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِك فِيمَا سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ؟ فَقَالَ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ وَأَنَا الّذِي حَلَفْت بِهِ كَذَلِكَ.

.[ذَهَابُ الْأَخْنَسِ إلَى أَبِي جَهْلٍ يَسْأَلُهُ عَنْ مَعْنَى مَا سَمِعَ]:

قَالَ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ. يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُك فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمّدٍ؟ فَقَالَ مَاذَا سَمِعْتُ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشّرَفَ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتّى إذَا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرّكْبِ وَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنّا نَبِيّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السّمَاءِ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدّقُهُ. قَالَ فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.

.[تَعَنّتُ قُرَيْشٍ فِي عَدَمِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ قَالُوا يَهْزَءُونَ بِهِ قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إلَيْهِ لَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ لَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فَاعْمَلْ بِمَا أَنْت عَلَيْهِ إنّنَا عَامِلُونَ بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ إنّا لَا نَفْقَهُ عَنْك شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} إلَى قَوْلِهِ {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} أَيْ كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَك رَبّك إنْ كُنْتُ جَعَلْتُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ أَيْ إنّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أَيْ ذَلِكَ مَا تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَعَثْتُك بِهِ إلَيْهِمْ. {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} {وَقَالُوا أَئِذَا كُنّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أَيْ قَدْ جِئْت تُخْبِرُنَا أَنّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إذَا كُنّا عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَذَلِك مَا لَا يَكُونُ. {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ} أَيْ الّذِي خَلَقَكُمْ مِمّا تَعْرِفُونَ فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ بِأَعَزّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا، قَالَ سَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى: {أَوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} مَا الّذِي أَرَادَ اللّهُ بِهِ؟ فَقَالَ الْمَوْت.
ذِكْرُ عُدْوَانِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ أَسْلَمَ بِالْأَذَى وَالْفِتْنَةِ.

.[قَسْوَةُ قُرَيْشٍ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ]:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ. ثُمّ إنّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَاتّبَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذّبُونَهُمْ بِالضّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَبِرَمْضَاءِ مَكّةَ إذَا اشْتَدّ الْحَرّ، مَنْ اُسْتُضْعِفُوا مِنْهُمْ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدّةِ الْبَلَاءِ الّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْلُبُ لَهُمْ وَيَعْصِمُهُ اللّهُ مِنْهُمْ.

.[مَا كَانَ يَلْقَاهُ بِلَالٌ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي تَخْلِيصِهِ]:

وَكَانَ بَلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا، لِبَعْضِ بَنِي جُمَحٍ مُوَلّدًا مِنْ مُوَلّدِيهِمْ وَهُوَ بَلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَكَانَ اسْمُ أُمّهِ حَمَامَةَ وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ يُخْرِجُهُ إذَا مَكّةَ، ثُمّ يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعَ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَهُ لَا وَاَللّهِ لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمّدِ وَتَعْبُدَ اللّاتَ وَالْعُزّى، فَيَقُول وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرّ بِهِ وَهُوَ يُعَذّبُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَقُول: أَحَدٌ أَحَدٌ؛ فَيَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ وَاَللّهِ يَا بِلَالُ ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَيَقُولُ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتّخِذَنّهُ حَنَانًا، حَتّى مَرّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمًا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحٍ فَقَالَ لِأُمَيّةِ بْنِ خَلَفٍ أَلَا تَتّقِي اللّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟ حَتّى مَتَى؟ قَالَ أَنْت الّذِي أَفْسَدْته فَأَنْقِذْهُ مِمّا تَرَى؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ. أَفْعَلُ عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى، عَلَى دِينِك، أُعْطِيكَهُ بِهِ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ فَقَالَ هُوَ لَك. فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غُلَامَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ.

.[مَنْ أَعْتَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ مَعَ بِلَالٍ]:

ثُمّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ سِتّ رِقَابٍ بِلَالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا؛ وَأُمّ عُبَيْسٍ وَزِنّيرَةُ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلّا اللّاتُ وَالْعُزّى؛ فَقَالَتْ كَذَبُوا وَبَيْتِ اللّهِ مَا تَضُرّ اللّاتُ وَالْعُزّى وَمَا تَنْفَعَانِ فَرَدّ اللّهُ بَصَرَهَا. وَأَعْتَقَ النّهْدِيّةَ وَبِنْتَهَا، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَمَرّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا أَبَدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِلّ يَا أُمّ فُلَانٍ فَقَالَتْ حِلّ أَنْت أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا، قَالَ فَبِكَمْ هُمَا؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرّتَانِ أَرْجِعَا إلَيْهَا طَحِينَهَا، قَالَتَا: أَوَنَفْرُغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمّ نَرُدّهُ إلَيْهَا؟ قَالَ وَذَلِكَ إنْ شِئْتُمَا. وَمَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيّ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ يَضْرِبُهَا، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك، إنّي لَمْ أَتْرُكْ إلّا مَلَالَةً فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك. فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْتَقَهَا.