فصل: الرابع: فيما يفك الرهن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الرابع: فيما يفك الرهن:

وفيه فرعان:
الأول: فيما بين الراهن والمرتهن.
فإذا قال الراهن: ما سلمته من المال كان على جهة الدين الذي به الرهن، فانفك الرهن وادعى المرتهن أنه عن جهة غيره، فإن المال المقبوض يوزع على الجهتين بعد أيمانهما.
وقال أشهب: هذا إذا تقاررا بالإبهام، وأما لو تداعيا البيان لكان القول قول المرتهن.
الفرع الثاني:
في ما بين العدل والمرتهن.
فلو قال العدل الذي على يده الرهن: بعته بمائة ودفعتها للمرتهن، وقال المرتهن: بل بخمسين، وهي التي دفعتها إلي، لكان القول قول المرتهن مع يمينه أنه لم يقبض إلا خمسين، وكان على العدل غرم خمسين، ثم ينظر فإن قال المرتهن: لا أدري ما بعت به إلا من قولك، أخذ الخمسين الأخرى إن اغترفها دينه.
وإن قال: كنت حاضراً لبيعك له بخمسين، فقال أشهب: لا يضمن الخمسين الثانية للمرتهن، لأنه أقر أنه بخمسين باع، ولكن يضمنها للراهن.
وقال أبو الحسن اللخمي: إذا ادعى حضور البيع بخمسين، فهل يسوغ له أخذ الخمسين الأخرى أم تكون للغرماء دونه؟. قال: وألا شيء له فيها أصوب، والله أعلم عز وجل.

.كتاب التفليس:

والتماس الغرماء أو بعضهم الحجر بالديون الحالة على المديان الزائدة على قدر ماله سبب لضرب الحجر عليه بدليل الحديث.
وأم الديون المؤجلة فلا حجر فيها، إلا أن تحل عليه ديون تستغرق ما بيده ويطلبها أربابها، فيطلب المؤجلة ديونهم الحجر فلهم ذلك، لأنهم يقولون: أخليتم ذمته ولم يبق لنا ما نأخذ منه ديوننا، وكذلك إن ظهر منه إتلاف يخاف معه ألا يجد عند الأجل قضاء، فيحجر عليه ويحل دينه إلا أن يضمن له، أو يجد ثقة يتجر له فيه ويحال بينه وبينه.
ومتى حجر على المفلس حلت الديون المؤجلة عليه دون الديون المؤجلة له، والميت كالمفلس في ذلك كله.
ولو قام الغرماء على الغريم فمكنهم من ماله فباعوه، واقتسموه، ثم داين آخرين، فليس للأولين دخول في ما بيده، إلا أن يكون فيه فضل ربح، ويكون هذا بمنزلة تفليس السلطان، رواه ابن القاسم في العتبية. ولو كان الغريم غائباً، فروى محمد عن ابن القاسم وأشهب في البعيد الغيبة لا يعرف ملأه من عدمه: أنه يفلس ويحل المؤجل من دينه. قال ابن القاسم: وإن عرف ملأه لم يفلس، ولا يقضي إلا لمن حل دينه، قال أشهب: بل يفلس، إذ لا يدري ما حدث عليه. قال ابن القاسم: وأما القريب الغيبة على مثل الأيام، فليكتب في كشف أمره حتى يعلم ملؤه من عدمه، فيفلس أو لا يفلس.
ثم:

.للحجر أربعة أحكام:

.(الحكم) الأول: منع التصرف في المال الموجود عن ضرب الحجر بوجوه التبرع:

كالعتق والهبة والوصية، والبيع بالمحاباة في معنى التبرع، أما ما كان من غير محاباة فهو موقوف على إجازة الغرماء.
واختلف في عتقه أم ولده فأمضاه ابن القاسم في الكتاب. ورده المغيرة في كتاب ابن سحنون وقال: ليس هو كطلاقه لزوجته، بل هي كرقيقة في ارتفاقه بها.
ثم إذا قلنا: يمضي عتقها، فقال مالك في كتاب محمد: يتبعها مالها.
وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيراً.
فأما ما لا يصادف المال من تصرفه كالطلاق والخلع واستيفاء القصاص، وعفوه، واستلحاق النسب ونفيه باللعان واحتكامه واتهامه وقبول الوصية فهو صحيح. وكذلك شراؤه على أن يقضي الثمن من غير ما حجر عليه فيه.
وأما إقراره بالدين فإن كان استحقاق غير المقر له من الغرماء بغير بينة، بل بإقراره، فيجوز ذلك لمن أقر له في ذلك المجلس وبلفظ واحد أو قرب بعض ذلك من بعض. قاله مالك في كتاب محمد.
وإن كانت الديون الأولى تثبت ببينة فلا يجوز إقراره لمن لم يثبت دينه من الغرماء في وقت الحجر عليه، لأنه يدخل نقصاً على من ثبت دينه بالبينة بمجرد قوله، وذلك غير جائز له مع الحجر عليه.
ثم حيث قلنا: لا يقبل إقراره في المال المحجور عليه فيه فما أقر به من ذلك واجب في ذمته. فإن أفاد مالاً غير ما حجر عليه فيه قضى مما أفاد ما أقر به.
وأما لو قال: هذا قراض فلان أو وديعته، وعلى أصلها بينة، فأجاز ابن القاسم إقراره، ولم يجزه أشهب إلا ببينة على التعيين، ورواه عن مالك.
وقال أصبغ: يقبل في ما عين من وديعة أو قراض، كان عيناً أو عرضاً، كان على أصله بينة أو لم تكن، لأنه إقرار بأمانة ولم يقر بدين إذا أقر لمن لا يتهم عليه بالتأليج إليه.
فأما إن لم يفسر ذلك، وإنما قال له: في مالي وديعة كذا وكذا أو قراض كذا، فلا يجوز لأن هذا إقرار بدين، وقاله ابن حبيب.
والمال الذي يتجدد بعد الحجر لا يتعدى إليه الحجر، بل يحتاج في إلى استئناف حجر ثان، وأجرة الكيال والحمال وما يتعلق بمصلحة الحجر تقدم على جميع الديون.
وإذا كان له دين وله به شاهد فليحلف، وكذلك إذا رد عليه اليمين. فإن نكل فللغرماء أن يحلفوا، قاله ابن حبيب.
وإن أراد سفراً فلمن بقي له دين حال منعه، وليس لمن له دين مؤجل منعه ولا طلب الكفيل، ولا طلب الإشهاد، إلا أن يكون مما يحل في غيبته، فليوكل من يقضيه عند استحقاقه.

.الحكم الثاني: بيع ماله وقسمته:

وعلى القاضي أن يبادر إلى بيع الحيوان، ولا يطيل مدة الحجر، بل يبيع ويقسم الثمن على أرباب الديون، إلا أن يكون المحجور عليه معروفاً بالدين فليستأن به في الموت.
واختلف في الاستيناء في الفلس.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: وإذا فلس الغريم أو مات رجل وعليه دين فليأمر القاضي من ينادي على باب المسجد في مجتمع الناس: إن فلان بن فلان قد مات أو فلس، فمن كان له عليه دين أو عنده قراض أو وديعة أو بضاعة فليرفع ذلك إلى القاضي، وكذلك فعل عمر رضي الله عنه في الأسيفيع.
ويبيع الحاكم بحضرة المفلس، ويباع متاعه بالخيار إلى ثلاثة أيام طلباً للزيادة.
وفي رواية مطرف: يستأنى في بيع ربعه، يتسوق به الشهر والشهرين.
فأما الحيوان فلا يؤخر إلا اليسير. قال مطرف: ويشترط السلطان فيما يبيع الخيار ثلاثاً.
وفي كتاب محمد: أما الحيوان والعروض فيتسوق اليسير، والحيوان أسرع بيعاً، وأما الدور والأرضون الشهر والشهرين ثم تباع. ولا يكلف الغرماء حجة على ألا غريم سواهم، ويعول على أنه لو كان لظهر مع استفاضة الحجر، إما مطلقاً وإما بعد الاستيناء على ما تقدم.
ثم يقسم ثمن ما يبيع من ماله على نسبه الديون، فإن اختلفت أجناسها من العين والعرض والطعام المسلم إليه فيه، قوم لكل واحد قيمة دينه بقيمة يومه حين الفلس أو الموت وقسم ماله بينهم على تلك الحصص، واشترى لكل واحد منهم بما صار له من المحاصة سلعته أو ما بلغ منها، ولا يدفع إلى أحد من أرباب الطعام ثمن، وكذلك أرباب العروض إلا أن يكون أسلم عرضاً في عرض، ويعزل لمن كان غائباً من الغرماء نصيبه، فإن هلك بعد العزل فهو منه. ثم إن ظهر بعد القسمة غريم لم يشعر به فلا ينتقص، بل يرجع على كل واحد بما ينوبه مما يخصه على ما يقتضيه الحساب. ولا يرجع على مليء بمعدم، ولا على حي بميت.
وكذلك لو خرج المبيع مستحقاً لرجع على كل واحد بجزء من الثمن يقتضيه الحساب.
هذا إن كان الميت غير مشهور بالدين، فإن كان مشهوراً بالدين أو علم الورثة أن عليه ديناً ثم باعوا وأقبضوا بعض الغرماء، فلمن بقي أن يرجع على الورثة بما يخصه، ثم للورثة أن يرجعوا على من أخذ أولاً بما يغرمونه. وفي الكتاب أيضاً أن له أن يرجع على من أخذ فيأخذ منه ما يخصه.
وحيث قلنا: يرجع على الورثة، فإنه يأخذ من الملي عن المعدم ما لم تجاوز حصته ما قبض الوارث، بخلاف الغرماء.
فرع:
اختلف في مال المفلس ممن يكون ضمانه إذا تلف. فروى أشهب أن مصيبته من المفلس، كان عيناً أو عرضاً. وروى ابن الماجشون أن ما أوقف من عين أو عرض مصيبته من الغرماء، العرض بقيمته والعين بوزنه، وبه قال، وشبهه بالثمن يهلك في المواضعة فيكون ممن تكون له الأمة.
وروى ابن القاسم: أنه منه إن كان عرضاً أو ما يشبهه، ومنهم إن كان عيناً، وجد في التركة أو بيع به من العروض، وقال بما روى.
وقال أصبغ: مصيبته منه إن كان حياً فلس، وإن كان ميتاً فمصيبته منهم.
وإذا حيل بين المفلس وبين ماله وقبض الغرماء، تركت عليه كسوته المعتادة إلا أن يكون فيها فضل عن لباس مثله، ولا ينزع رداؤه إذا كان نزعه يزري بمنصبه.
وروى ابن نافع أنه لا يترك له إلا ما يوارى به. وبه قال ابن كنانة.
واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين، بناء على كراهية بيعها.
وقال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بعد موته بثلاثمائة دينار، وأصحابنا متوافرون فما أنكروا ذلك. وفي ترك كسوة زوجته له تردد.
وقال سحنون: لا يترك له كسوة زوجته ولا يترك مسكنه ولا خادمه ولا غير ذلك من سرجه وخاتمه وثوبي جمعته ما لم تقل قيمتها، ويترك عيشه وعيش زوجته وولده الصغير الأيام نحو الشهر، وإن لم يجد له غيره ترك، وكذا ينفق عليه في مدة الحجر، ثم إن بقي شيء من الدين فلا يستكسب، ولا تؤاجر مستولدته، ويؤاجر مدبره، ولا يلزمه أن ينتزع لقضاء دينه مالهما ولا مال معتقه إلى أجل. فإن اختار هو ذلك جاز على المستحسن من القولين. وتباع كتابة مكاتبه.
ولا يجبر على اعتصار ما وهب لولده، ولا على الأخذ بشفعة له فيها فضل، إذ هو ابتداء الملك ولا يلزمه. وكذلك لو بذل له السلف لم يجبر على قبوله. وليس عليه العفو عن دم أبيه ليأخذ الدية، ولا له أن يعفو عن دية وجبت له. قال مطرف: ولا أن يجيز وصية أبيه بماله كله.
وإن ورث أباه فالدين أولى به، ولا يعتق عليه منه إلا ما يفضل عن الدين. ولو وهب له لعتق وقدم عتقه على حق الغرماء، إذ لذلك وهب.
ثم إذا لم يبق له مال واعترف بذلك الغرماء انفك الحجر عنه، ولا يحتاج إلى فك القاضي.
وقال القاضي أبو محمد: لا ينفك حجر عن محجور عليه بحكم أو بغير حكم إلا بحكم الحاكم.

.الحكم الثالث: حبسه إلى ثبوت إعساره:

وفي الكتاب: قال مالك: لا يحبس الحر ولا العبد في الدين ولكن يستبرأ أمره، فإن اتهم بأنه قد خبأ مالاً أو غيبه حبسه، فإن لم يجد له مالاً ولم يخبئ شيئاً لم يحبسه وخلى سبيله، إلا أن يحبسه قدر ما يتلوم به من اختياره ومعرفة ماله، أو يأخذ عليه حميلاً.
وللقاضي إطالة حبسه إن ظهر عناده بإخفاء المال.
قال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف: وإذا تبين لدده حبسه، مثل أن يتهم بمال أخفاه، ومثل هؤلاء التجار الذين يأخذون أموال الناس، ثم يقولون: ذهبت، ولا يعرف ذلك، والرجل في السوق وفي موضعه لا يعلم أنه سرق له شيء ولا احترق منزله ولا أصيب بشيء، فهؤلاء يحبسون حتى يوفوا الناس حقوقهم أو يتبين أنه لا شيء لهم فيطلقهم ولا يلازمهم أحد.
قال مالك في الدين يتفالسون ويقولون: ذهب لنا، ولا يعرف ذلك، فإنهم يحبسون، وإن شهد ناس: أنه لا شيء لهم، فهذا لا يعرف ولا يعجل سراحهم حتى يستبرأ أمرهم.
قال في كتابي محمد وابن حبيب: وأرى في الذين يتفالسون في السوق، ولا يعرف ما يأتون به أن يخرجوا من السوق.
وقال عنه مطرف: فإنه لا يزال يفعل ذلك الرجل منهم، ثم يظهر له مال ومتاع فلينف هؤلاء من السوق.
فأما من حبس للاستبراء من التهمة أو للجهل بحاله، فإن أقام بينة على إعساره خلي في الحال، وانظر إلى ميسره، ويشهد من يخبر باطن حاله.
وقال القاضي أبو الوليد: ويشهد له الشهود أنهم لا يعلمون له مالاً ظاهراً ولا باطناً، ثم يحلفه مع الشهادة. قال: لأن شهادتهم على الظاهر، ويحلف هو على الباطن. فإن لم يجد من يشهد له، وقد طال حبسه أخرج، والطول يختلف بالنسبة إلى كثرة الحق وقلته، وليس له أمد محدود.
وقد روى ابن حبيب عن ابن الماجشون: لا يحبس في الدريهمات أكثر من نصف الشهر. ويبلغ في الكثيرة أربعة أشهر، وفي ما بين ذلك الشهرين ونحوهما بالنسبة.
ويحبس في دين والده.
قال مطرف: ولا يحبس في دين ولده، لأن مالكاً قال: لا يحلف القاضي الأب لولد، إن طلب يمينه، فاليمين أيسر، ولكن يأمره الإمام فيما ثبت له عليه أن يقضيه.
وقال ابن القاسم: فإن شح الابن في استحلاف أبيه أحلف له، وكانت جرحة على الابن.
وقال محمد بن عبد الحكم: أصحابنا لا يرون حبس الوالد لولده في الدين يداينه.
قال محمد: ويحبس الوالد لولده في دينه إذا امتنع من دفعه وشح الابن على ماله، ويحبس الوالد في امتناعه من الإنفاق على ولده، ويحبس أيضاً فيما على الولد من دين إذا كان له بيده مال.
وكذلك الوصي يحبس في ما على الأيتام من الدين إذا كان لهم بيده مال. ويحبس النساء في الدين وغيره، هن كالرجال في ما يحبس فيه الرجال، ويكن بموضع لا يكون فيه رجل، والمؤتمن عليهن امرأة مأمونة لا زوج لها، أو لها زوج مأمون معروف بالخير.
قال سحنون: ومن سجن في دين لامرأته أو لغيرها فليس له أن تدخل إليه امرأته، لأنه إنما يسجن للتضييق عليه، فإذا لم يمنع لذته لم يضيق عليه.
وقال محمد بن عبد الحكم: إذا حبس الحاكم الزوجين في حق وجب عليهما جميعاً أو كفالة تكفلا جميعاً بها، فقالا: نحبس جميعاً، وقال صاحب الحق: بل يفرق بينهما، فذلك للزوجين إذا كان المحبس خالياً، فإن كان فيه رجال غيرهما حبس الزوج مع الرجال والمرأة مع النساء. وإذا حبس الأب والابن في دين عليهما حبساً جميعاً لا يفرق بينهما.
قال: ولا يمنع من حبس بالحقوق من زيادة المسلمين ممن يسلم. ويترك مع المحبوس من يخدمه، وإن مرض مرضاً احتاج فيه إلى جارية لتوضئه وتطلع على عورته، لم أر بأساً أن تصير معه جارية حيث يجوز ذلك.
فرع:
من حل عليه دين فسأل أن يؤخر ووعد بالقضاء، فحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أن الإمام يؤخره حسبماً يرجو له ولا يعجل عليه.
وقال في كتاب ابن سحنون: إن سأل أن يؤخره يوماً أو نحوه آخر، ويعطي حميلاً بالمال.

.الحكم الرابع: في الرجوع إلى عين المال:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل أفلس فأدرك رجل مال بعينه فهو أحق به من غيره» فجعل رب المال أحق، وذلك عند اختياره الأخذ، وله الضرب. ويتعلق الرجوع بثلاثة أركان.
- العوض.
- والمعوض.
- والمعاوضة.
أما العوض وهو الثمن فشرطه أن يتعذر استيفاؤه بالإفلاس، فلو وفى المال به، فلا رجوع.
ولو دفع الغرماء إليه الثمن من مال المفلس، قال ابن الماجشون: أو من أموالهم فلا رجوع أيضاً.
وقال ابن كنانة: ليس لهم أن يدفعوا من مالهم، بل من مال المفلس إن كان له مال.
وقال أشهب: ليس لهم أخذها بالثمن حتى يزيدوا على الثمن زيادة يحطونها عن المفلس من دينهم، ويكون نماء السلعة ونقصانها لهم وعليهم.
فرعان: الأول: لو قبض بعض الثمن ثم وجد السلعة، خير في رد ما قبض وأخذ سلعته أو الضرب بما بقي له من الثمن.
الفرع الثاني:
لو قبض البعض ثم وجد من السلعة بعضها، فإما ضرب ببقية الثمن وإما رد ما قبض. مما يخص ما وجد وأخذ ما وجد وضرب ببقية ثمن ما فات بعدما أخذ. وأما المعوض فله شرطان:
أحدهما: أن يكون قائماً في ملك المفلس، فلو هلك لم يكن للبائع إلا المضاربة بالثمن والخروج عن ملكه مثل الهلاك والكتابة كزوال الملك.
الشرط الثاني: ألا يكون متغيراً تغير انتقال، فإن تغير كالحنطة تزرع أو تطحن أو يخلط جيدها برديء، أو مسوس أو معلوث، أو يعمل الزبد سمناً، أو يقطع الثوب قميصاً أو الخشبة باباً، أو يذبح الكبش، فقد فات الرجوع. ولو لم ينتقل ولكن أضيف إليه صناعة أو عين أخرى: كالعرصة يبتني فيها بيت أو الغزل ينسج، فلا يمنع الرجوع. ثم يكون له أن يشارك الغرماء بقدر قيمتها من قيمة البنيان، وكذلك الغزل وغيره. وكذلك لو خلط السلعة بجنسها المماثل لها كالزيت على مثله والحنطة على مثلها، وغير ذلك، فله من ذلك قدر مكيلته.
ولو ولدت الأمة أو الماشية فله أخذ الولد معها، بخلاف الثمرة والغلة إلا أن يكون الصوف على ظهورها واللبن في ضروعها والثمرة قد أبرت واشترطها المبتاع، فإنه يرد ما كان قائماً من ذلك ويضرب بمثل ماله مثل وقيمة ما لا مثل له. وقيل: إن جد الثمرة، وجز ذلك الصوف فهما كالغلة.
وفي الرجوع في تمر بعد أن يبس من مبتاعه منه في رؤوس النخل إذا فلس روايتان: بالإجازة والمنع. وبالأولى أخذ أشهب. وإلى الثانية ذهب أصبغ.
والروايتان مبنيتان على أصلين: أحدهما أن البائع إذا أخذ السلعة في الفلس، هل هو ناقض للبيع الأول، أو هو مبتدئ بيع ثان؟.
فعلى الأول يصح أخذه، وأما على الثاني فيختلف فيه بناء على أصل أخر، وهو أن ما كان من الذرائع إذا ألجأ إليه الحكم هل يعتبر في المنع أم لا؟
فرعان: الأول: إذا وجد بعض المبيع كأحد العبدين أخذه وضارب بما يخص الفائت من الثمن.
ولو ولدت الأمة ثم مات أحدهما، فليس له إلا أخذ الباقي بجميع الثمن أو الترك.
ولو بيع الولد وبقيت الأم أخذها بجميع الثمن في رواية ابن القاسم.
وروي أنه يأخذها بحصتها ويحاص بما أصاب الولد من الثمن. ولو بيعت الأم وبقي الولد أخذه بحصته من الثمن كسلعتين في صفقة. قال يحيى: روى هذا ابن وهب وقال سحنون: ما أدري هذا. قال أبو الحسن: يريد أن القياس فيهما سواء.
وقال الشيخ أبو القاسم: أخذ الباقي منهما بحسابه.
الثاني: إذا وجد العبد الذي باعه مرهوناً، فهو بالخيار بين أن يدعه ويحاص بالثمن،
أو يفديه ويأخذه بالثمن كله، زاد أو نقص، ويحاص بما فداه به. بخلاف ما لو وجده جانباً ففداه وأخذه بالثمن، فإنه لا يرجع بشيء مما فداه به، لأنه في الجناية لم يتعلق بذمة المشتري شيء يلزمه.
وأما المعاوضة فشرطها أن تكون معاوضة محضة، فلا يثبت الفسخ في النكاح أو الخلع أو الصلح، بتعذر استيفاء العوض، لكن لو طلقها قبل البناء وفلست، فإن عرف المهر بيدها فهو أحق به حتى يأخذ نصفه. فإن لم يوجد إلا نصفه فإن كان ما هلك بغير سببها فليس له إلا نصف ما وجد ولا محاصة له بما بقي، وإن كان بسببها خاص بنصف ما ذهب.
ويثبت الفسخ في الإجارة والسلم ويثبت الرجوع إلى رأس المال عند الإفلاس، إن كان باقياً عيناً كان أو عرضاً، وإلى المضاربة بقيمة المسلم فيه إن كان تالفاً، ثم يشتري بالقيمة جنس حقه، وأشهب لا يرى الرجوع في العين وبجه.
وإذا أفلس المستأجر بالأجرة رجع المكري إلى عين الدابة أو الدار المكتراة.
وإن كان قد زرع الأرض فربها أحق بالزرع من الغرماء حتى يأخذ كراءه في الفلس دون الموت.
وقال ابن القاسم: هو أحق فيهما، ولو أقرضه سلعة لم يكن أحق بها. قال أبو محمد الأصيلي: هو أحق بها كالبيع.
ولو وهب للثواب لكان له الرجوع في هبته، وإن تغيرت، إلا أن يبذل له الغرماء القيمة.
والأجير. في سقي زرع أو نخل أو أصل إذا سقاه كان أحق به، بخلاف من استؤجر على رحيل إبل أو رعايتها أو علفها أو على رحى الماء والصباغ شريك بقيمة الصبغ، وكذلك النساج والبناء. وأما من دفع ثوبه إلى الصباغ ثم قبضه قبل دفع الأجرة، ثم فلس، فالصباغ أحق بما زاد الصبغ إن زاده، ثم يضرب بما فضل له.
وقيل: يكون شريكاً بقيمة الصبغ زاده أو نقصه.
وجميع الصناع أحق بما أسلم إليهم للصنعة، وكذلك مكري دابته لحمل متاع، فهو أحق بما حمل عليها وإن لم يكن معها.
والمكتري أحق بالدابة المعينة في العقد، وإن لم يقبضها دون الكراء المضمون إلا أن يقبضها فيه.
وأرباب الحوانيت والدور أسوة غرماء مكتريها فيما فيها. ورب الأرض المكتراة أحق بما فيها من الزرع حتى يقبض كراءه لا يشاركه أحد من الغرماء، سوى من استؤجر للسقي فإنه يحاصه، ويقدمان على مرتهن الزرع. وقيل: رب الأرض أولى، ثم أجبر السقي، ثم المرتهن.
فروع: الأول: من ابتاع سلعة بيعاً فاسداً، ثم فلس البائع، فقال سحنون: هو أحق بالسلعة التي في يده وإن فسخ بيعها حتى يستوفي ثمنه.
وقال محمد: لا يكون أحق بها.
وقال ابن الماجشون: هو أحق بها في النقد دون الدين.
الثاني: قال ابن القاسم في المشتري يرد العبد بعيب، فلم يقبض ثمنه من البائع حتى فلس والعبد بيده، فلا يكون الراد له أولى به.
الثالث: قال مالك في المشتري للسلعة يفلس وقد نقد بعض ثمنها ورد البائع ما قبض وأخذها، ثم وجد بها عيباً، يرد مما حدث عند المبتاع، فله ردها ويحاص أو يحبس ولا شيء له. قال محمد: لأنه لا يعرف ما كان رد من الثمن بعينه، ولو عرف بعينه مثل أن يكون طعاماً أو كتاباً أو غيره لكان أحق به ويحاص بما بقي له من ثمنها فيها وفي غيرها.
الرابع: قال ابن القاسم في العتبية: إذا فلس المشتري بعد بيعه للسلعة وخاص البائع الغرماء، ثم ردت بعيب، كان للبائع أن يرد ما أخذ في الحصص، ويأخذ سلعته.
قال أبو الحسن اللخمي: ويصح أن يقال: ذلك حكم مضى فلا لا يرد.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كبيراً.

.كتاب الحجر:

.وأسباب الحجر:

سبعة:
الصبا والجنون والتبذير والرق والفلس والمرض والنكاح في حق الزوجة.
فأما حجر الصبا:
فينقطع بالبلوغ مع الرشد عند الابتلاء.
ويشترط في ابتلاء الأنثى أن تتزوج ويدخل بها زوجها على المشهور، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد لأن الذكر بتصرفه وملاقاته للناس في أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختيار ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض.
وأما المرأة فبكونها محجور لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل حياء البكارة وقف فيها على وجود الدخول في النكاح فيه تفهم المقاصد كلها، ثم تبتلى بعد ذلك.
واختلف في العانس، فقال ابن القاسم في الكتاب: لا تجوز كفالة البكر ولا بيعها ولا صدقتها ولا عتقها ولا معروفها. وإن أجازه الوالد لم ينبغ للسلطان أن يجيزه. هذا قول مالك ورأيي.
قال: ولا تجوز عطيتها لوالديها، وهما في ذلك بمنزلة الأجنبيين، وكان مالك يقول فيما رأيت في كتاب عبد الرحيم: إنها إذا عنست جاز صنيعها.
قال ابن القاسم: فإذا بلغت سن التعنيس جاز صنيعها إلا أن تولى بوصي أو أب.
وقال ابن عبد الحكم في البكر إن لم تول بأحد فبيعها جائز إذا كان على سداد، وأما هبتها وصدقتها فلا تجوز.
وروى ابن عبد الحكم ومطرف وغيرهما أنها إذا عنست جاز صنيعها وإن كان لها أب أو وصي، ورواه عبد الرحيم.
فرع:
في تحديد المدة التي يقف الابتلاء على مضيها بعد الدخول على المشهور.
وقد اختلف فيها، فقيل الخمسة الأعوام. وقيل: الستة والسبعة في ذوات الأب والعام الواحد في اليتيمة التي لا وصي عليها. وحكى الشيخ أبو الوليد رواية بأن الأنثى كالذكر يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بل بمجرد الحيض.
ثم البلوغ في الذكور بالاحتلام أو الإنبات، أو بلوغ سن تشهد العادة ببلوغ من بلغه واختلف في مقداره.
فقال ابن القاسم: هو ثمان عشرة سنة.
وقال غيره: سبع عشرة. وذكر ابن وهب أن سن البلوغ خمسة عشرة سنة. وهو اختيار القاضي أبي بكر.
وأما الإناث فيزدن على الذكور مع مساواتهن لهم فيما تقدم بالحيض والحمل.
فرع:
في طريق معرفة هذه العلامات:
أما السن فبالعدد. وأما الاحتلام فبقوله: إذا كان ممكناً إلا أن تعارضه ريبة. وأما الإنبات فقال القاضي أبو بكر: يكشف عنه، وسيتدبره الناظر، ويستقبلان جميعاً المرآة وينظر إليها الناظر، فيرى الإنبات أو البياض المسطح. وأما الرشد فبأن يكون مصلحاً لماله، حافظاً له، عارفاً بوجوه أخذ المال وإعطائه والحفظ له عن التبذير. وزاد ابن الماجشون: وأن يكون جائز الشهادة. ولم يعتبر ابن القاسم ذلك.
ومهما حصل انفكاك الحجر فلو عاد إلى التبذير لعاد الحجر.
صفة السفيه المستحق للحجر عليه: أن يكون يبذر ماله صرفا في لذاته من الشراب وغيره، ويسقط فيه سقوط من لا يعد المال شيئاً. قال ابن القاسم: ويحجر على كل من لو كان في ولاء لم يعط ماله.
وقال أشهب: لا يحجر إلا على البين أمره المبذر لماله ولا بحكم إمساكه.
فرع:
اختلف في أفعال من يستحق الحجر إذا تصرف في ماله قبل الحجر. فقال ابن كنانة وابن نافع: تمضي.
وقال ابن القاسم: تصرفه على الرد كالمحجور عليه.
وقال مطرف وابن الماجشون: إذا كان سفهه قبل البلوغ ثم لم يأت عليه حال رشد كانت أفعاله مردودة، لأنه لم يزل في ولاء، وإن كان رشد ثم أحدث سفهاً كان فعله نافذاً، إلا أن يكون بيعة خديعة فباع ما يساوي ألفاً بمائة، فإنه يرده، وفرق بين هبته وبيعه.
وحكى الإمام أبو عبد الله قولاً آخر فقال: وقيل يرد إن كان ظاهر السفه، ويمضي إن كان خفيه، ثم قال: وكان المحققون من شيوخنا يختارون الرد، لأن السفيه المحجور عليه يرد بيعه اتفاقاً قال: فكأن المحققين من شيوخنا رأوا أن الرد من مقتضى السفه، فردوا أفعال المهمل.
ورأى بعض أصحاب مالك الرد من مقتضى الحجر، فأجازوا أفعاله إذ لا حجر عليه.
قال: والأصح عند شيوخنا أنه من مقتضى السفه، لأن الحجر كان عن السفه، ولم يكن السفه عن الحجر، وإذا كان الحجر عن السفه ومن مقتضاه وجب أن يكون الرد في السفيه المحجور عليه لأجل السفه لا لأجل الحجر.
وقال: وكان شيخي رحمه الله يقول: الدليل على أن السفه علة في رد الأفعال الاتفاق على رد أفعال الصغير والمجنون. وأن السفيه إذا ثبت رشده وجب تسليم ماله إليه، فدل ذلك على أن العلة وجود السفه.
قال الإمام: وكذلك اختلف المذهب في المحجور عليه إذا رشد ولم يفك الحجر عنه، هل تمضي أفعاله وهو عكس السفيه المهمل.
قال: والنظر عند شيخنا يقتضي جواز أفعاله لوجود علة الجواز وهي الرشد، وارتفاع علة الرد وهي السفه.
قال: وهكذا يجري الاختلاف في المرتد إذا باع قبل الحجر عليه قياساً على السفيه المهمل.
ثم فائدة الحجر صرف استقلاله في التصرفات المالية كالبيع والشراء والهبة والإقرار بالدين، وسلب عمارته عند التوكيل. ويستثنى من ذلك وصية الصغير فإنها تنفذ إذا لم يخلط فيها.
ويصح قبول المحجور عليه للهبة والوصية، ولا حجر عليه فيما لا يدخل تحت حجر الولي كالطلاق والظهار واستل حاق النسب ونفيه وإقراره بموجب العقوبات لأنه مكلف، والولي لا يتولى ذلك، فلا بد أن يتولاه بنفسه، ولا يقبل إقراره بإتلاف مال الغير.
وولي الصبي أبوه، وعند عدمه الوصي أو وصيه، فإن لم يكن فالحاكم. ولا ولاية للجد ولا للأم ولا لغير من ذكرنا.
ولا يتصرف الولي إلا على ما يقتضيه حسن النظر، ولا يبيع عقاره إلا لحاجة الإنفاق عليه أو لغبطة في الثمن أو لخشية سقوطه إن لم ينفق عليه من المال ما يكون معه بيعه وابتياع غيره بثمنه أفضل، أو لكونه في موضع حرب، أو يخشى انتقال العمارة من موضعه فيبيعه ويستبدل بثمنه في موضع أصلح منه.
ولا يستوفي الولي قصاصه ولا يعفوا عنه، ولا يعتق رقيقه، ولا يطلق نساءه إلا أن يكون بعوض على وجه النظر في غير البالغ من الذكور، أو يفعل ذلك الأب خاصة فيمن يجبر من الإناث، وفي مخالعتها عمن لا يجبر ممن تملك أمرها خلاف، وكذلك في البائع السفيه على ما تقدم في كتاب الخلع.
ولا يعفو عن حق شفعته إلا لمصلحة، ثم إذا تركها فليس للصبي الطلب بعد البلوغ.
هذا حكم من حجر عليه لحق نفسه. أعني الصبي والمجنون والسفيه. فأما الباقون فالحجر عليهم لحق غيرهم، وقد مضي حكم المفلس منهم.
فأما الرقيق فلصاداتهم الحجر عليهم ومنعهم من التصرف في قليل أموالهم وكثيرها بمعاودة وغيرها كانوا ممن يحفظها أو يضيعها.
وأما المريض فمحجور عليه لحقوق ورثته إذا كان مرضه مخوفاً.
ويلحق بالمريض من كان في معناه بحصوله في حالة يعظم الخوف عليه فيها كالزاحف في الصف والمحبوس للقتل والحامل إذا بلغت ستة أشهر، وفي راكب اللجة وقت الهول خلاف، تفصيله مذكور في الوصايا.
وأما الزوجة مع الزوج فله منعها من التصرف فيما زاد على ثلثها بهبة أو صدقة أو عتق أو غير ذلك مما ليس بمعاودة.
قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجوز لامرأة أن تقضي في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها فرأى العلماء أن الثلث ذو بال، ولم تكون أسوأ حالاً من المريض.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة يملك زوجها عصمتها عطية في مالها إلا بإذنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع». فذكر المال، وذلك يفيد حقاً في تبقية المال بيدها، ولأن العادة جارية بأن الزوج يتجمل بمال زوجته وله فيه معونة وترفيه، يبين ذلك أن مهر المثل يقل ويكثر بحسب قلة مالها وكثرته، كما يكثر ويقل بحسب بروزها في الجمال أو عدمه. وإذا ثبت ذلك فليس لها إبطال غرض الزوج مما لأجله رغب في نكاحها وحمل لأجله صداقها.
فرعان: الأول: إذا تبرعت بأكثر من ثلث مالها، فقال ابن القاسم: هو جائز حتى يرده الزوج كعتق المديان، ورواه.
وقال مطرف وابن الماجشون: قد قال في الحديث: لا يجوز لامرأة فهو مردود في الأصل. قالا: وإذا قضت بأكثر من الثلث ولم يعلم الزوج بما فعلت حتى ماتت فذلك مردود.
قالا: فأما إذا لم يعلم بما فعلت حتى تأيمت بموته أو طلاقه أو علم فرده، فلم تخرجه من ملكها حتى تأيمت فذلك نافذ عليها لانتفاء الضرر.
وقال ابن القاسم: إن لم يعلم الزوج حتى تأيمت أو ماتت، فذلك ماض إلا أن يكون الزوج رده حين علم.
وقال أصبغ: أقول بقوله في الموت، وأما في التأيم فيقول مطرف وابن الماجشون.
وقال ابن حبيب بقولهما في كل شيء.
وقد أجمعوا في التأيم واختلفوا في الموت.
الفرع الثاني: إذا تبرعت بما زاد على ثلثها فالزوج بالخيار بين أن يجيز أو يرد جميعه.
وقال المغيرة وابن الماجشون: يرد ما زاد على الثلث خاصة إذ هو المحجور عليها فيه كالمريض.
قال ابن الماجشون: حاشا العتق، فإنها إذا زادت فيه على الثلث بطل جميعه لأنه لا يتبعض.
ثم ليس لها التصرف في بقية المال الذي أخرجت ثلثه، ولها ذلك في مال آخر إن طرأ لها.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

.كتاب الصلح والتزاحم على الحقوق والتنازع:

وفيه ثلاثة فصول:

.(الفصل)الأول: في الصلح.

وهو ضربان: معاوضة كالبيع، فحكمه حكم البيع فيما يجوز ويمتنع، وإسقاط وإبراء.
والصلح على الدين كبيع الدين، وإن صالح على بعضه فهو أبرأ عن البعض. ولو صالح من حال على مؤجل مثله أو أقل منه جاز، ولا يجوز على أكثر منه. وإن صالح من مؤجل على حلول بعضه وإسقاط بعضه لم يجز.
وبالجملة، فهذا القسم من الصلح بيع، وحكمه حكم البيع في العين كان أو في الدين، ويقدر المدعى به والمقبوض كالعوضين فيما يجوز بينهما وما يمنع فتمتنع الجهالة والغرر والواحد باثنين من جنسه إلى أجل، والوضع على التعجيل وغيره مما يشبهه.
فأما الصلح على ترك القيام بالعيب كمن اشترى سلعة ثم اطلع على عيب فصالح البائع على ألا يقوم به بشيء دفعه إليه فأصل ابن القاسم في المدفوع: الأخذ بالأحوط وصرف هذا الصلح إلى أنه استئناف مبايعة ثانية بعد تقدير كون الأولى قد انفسخت، فيعتبر ما يحل ويحرم في المعاوضة الثانية، ويحذر فيه من بيع وسلف وفسخ دين في دين.
وأصل أشهب: أن هذه المعاملة ليست بفسخ للعقد الأول تحقيقاً ولا تقديراً، وإنما هي معاوضة على ترك منازعة وإسقاط حق عن قيامه بالعيب، فيعتبر ما يجوز أخذه عوضاً عن الإسقاط.
واختلافهم هذا يلاحظ أصلاً مختلفاً فيه في المذهب، وهو أن من خير بين شيئين هل يقدر أنه مالك لما يختاره قبل اختياره أم لا؟ فإن المتمسك بهذا العيب ملك أن يتمسك به وأن يرد، فهل يقدر أنه ملك الرد قبل اختياره فيكون الصلح على ما ملك في هذا العين أو لا يكون مالكاً إلا لما اختاره وهو التمسك.
وبيان الأصلين بالتمثيل: أن من اشترى عبداً بمائة دينار مثلاً، ثم ظهر على عيب بعد النقد جاز أن يصالحه على الرد بكل شيء يدفعه إليه معجلاً، ويشترط فيما يدفعه من العين أن يكون من سكة الثمن لا من غيرها، فإنه على أصل ابن القاسم يقدر على أن المشتري رد بالعيب، ووجب له على البائع ارتجاع المائة، فإذا أخذ منه عرضاً أو طعاماً صار البائع كأنه دفع عن مائة وجب عليه ردها العبد وما دفع عن العيب من عرض أو طعام، وذلك جائز.
ولو صالحه على دراهم كثيرة أكثر من صرف دينار نقداً، لم يجز على أصل ابن القاسم، لأنه بيع وصرف لا يجوز عنده إلا في ما قل.
وأشهب يجيز ذلك، لأنه لا يمنع الصرف والبيع في عقد واحد، مع أنه لو منع ذلك لجازت المسألة على أصله أيضاً لكونه لا يرى الصلح معاوضة عن الثمن الذي قبضه البائع، وإنما يقدره معاوضة عن إسقاط القيام بالعيب.
ولو صالح على عشرة دنانير يدفعها للمشتري إلى شهر، لكان ممنوعاً عند ابن القاسم لأنه يقدر أن البائع فاسخ المشتري في البيع، ووجب رد المائة بأسرها، وأخذ عبده فقبل المشتري منه تسعين منها معاوضة على العبد الذي أبقاه المشتري في يده بشرط أن يؤخر البائع بالعشرة الباقية إلى أجل، فيصير هذا بيعاً للعبد بتسعين على أن يسلف المشتري البائع العشرة التي وجبت له معجلة فأخرها إلى أجل، وتأخيرها سلف للبائع، والبيع والسلف محرم، وإذا وقع هذا أجري على أحكام البيع والسلف.
ومقتضى أصل أشهب جواز هذا لأن العشرة التي يدفعها البائع إلى شهر ليست معاوضة عن العبد، لكنها معاوضة عن إسقاط القيام، وذلك جائز. وكذلك لو صالحه على دراهم مؤجلة لجاز عند أشهب، ولم يره صوفاً متأخراً. ومنه عند ابن القاسم.
ولو صالحه قبل النقد على دنانير فنقدها له لم يجز، لأنه أعطاه عبداً ودنانير في مائة دينار يأخذها من المشتري، إلا أن يشترط المقاصة بها من الثمن فيجوز، وكأنه هضم بعض الثمن لأجل العيب.
ولو صالحه البائع على تسعين ديناراً يأخذها منه وتبقى عشرة إلى أجل لانعكس حكم التفريع على المذهبين، فيجوز على أصل ابن القاسم لأنه يقدر أن البيع الأول قد انفسخ، وهذا عقد ثان على العبد بتسعين نقداً وعشرة مؤجلة. ولا يجوز على أصل أشهب، لأنه يرى أن العقد الأول على حاله لم ينحل، وإنما الصلح شراء الرد الذي وجب للمشتري، فصار البائع كأنه وجب له مائة دينار بحكم العقد الأول، فأخذ منها تسعين، وأخره بعشرة إلى أجل، وجعل التأخير عوضاً عن إسقاط قيام المشتري عليه بالعيب والتأخير سلف، فصار ذلك سلفاً جر نفعاً.
وكذلك لو صالحه على تسعين ديناراً ودراهم يدفعها المشتري مؤجرة أو عرضاً مؤخراً لجاز على أصل ابن القاسم، ومنع على أصل أشهب، لأنه فسخ العشرة الباقية من المائة في عرض إلى أجل أو في دراهم إلى أجل.
فأما حيث جرى الصلح على الإسقاط والإبراء، فهو وضع بعض الحق المدعى وإبراء منه، مثل أن يسقط بعض الحال ويأخذ باقيه.
وتجوز المصالحة على ذهب من ورق، وبالعكس يشترط حلول الجميع وتعجيل القبض.
والصلح على الإنكار جائز كالصلح على الإقرار، ويحل للمدعي ما يأخذه ويملكه إذا علم أنه مطالب بحق، إذ هو بعض ماله أو عوضه.
والوضيعة في الصلح لازمة لا يجوز الرجوع بها، لأن ذمة الغريم قد برئت منها.
وافتداء اليمين بشيء يبذله من لزمته جائز، فإن علم المبذول له أنه مطالب بغير حق لم يجز له أخذه.
فرعان: الأول: إن من ادعى على رجل حقاً فأنكره فصالحه، ثم ثبت الحق بعد الصلح، فإن كان ثوبته بوجه واضح لا مخاصمة فيه كإقرار المطلوب بثبوت الحق الذي أنكره أولاً، فإن الصلح لا يلزم المقر له لأنه إنما التزمه كالمجبر عليه والمغلوب على حقه. قال سحنون: وله ألا ينقض الصلح ويتمادى عليه لأنه محض حقه. وإن ثبت ببينة لم يعلم بها حين الصلح، ففي الكتاب: إن له القيام بها. وفي رواية مطرف: أنه لا يقوم بها.
فإن كانت البينة حاضرة حين الصلح، وهو عالم بها وقادر على القيام بها فالصلح له لازم، ولا قيام له بها إذا كان قد صرح بإسقاطها، فإن لم يصرح بإسقاطها فخرج المتأخرون فيها قولين من مسألة مستحلف خصمه مع علمه ببينته، وإن كانت بينته بعيدة، فإن كان شرط القيام بها متى حضرت وأعلم بذلك فلا يختلف المذهب في أن له القيام بها، وإن كان إنما أشهد سراً ففي انتفاعه به وتمكينه من القيام بها قولان.
الفرع الثاني:
قال سحنون فيمن أقر في السر وجحد في العلانية، وقال للمدعي: أخرني وأقر لك، فأشهد المدعي في السر أنه إنما يصالحه لأجل إنكاره، وأنه متى وجد بينة قام بها، فإن الصلح لا يلزمه إذا ثبت جحوده وثبت أصل الحق. قال: والظالم أحق أن يحمل عليه.

.الفصل الثاني: في التزاحم على الحقوق في الطرق والحيطان والسقوف:

وقد روى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع من طريق المسلمين أو أفنيتهم شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين».
وقضى عمر بالأفنية لأرباب الدور.
قال ابن حبيب: وتفسير هذا يعني بالانتفاع للمجالس والمرابط والمصاطب وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة في الأفنية، وليس بأن تحاز بالبنيان والتحظير.
ويجوز إخراج العساكر والرواشن والأجنحة على الحيطان إلى طرق المسلمين.
قال سحنون في من له داران متقابلتان عن يمين الطريق ويساره فأراد أن يبني على جداري داريه ساباطا يتخذ عليه غرفة أو مجلساً: فذلك له، ولا يمنع من هذا أحد، وإنما يمنع من تضييق السكة، وأما ما لا ضرر فيه على السكة ولا على أحد من الناس فلا يمنع.
وليس لأحد أن يدخل شيئاً من طريق المسلمين في داره، فإن فعل هدم ما يضر بالمسلمين من ذلك، وفي هدم ما لا يضر خلاف.
والسكة المنسدة الأسفل كالملك المشترك بين سكان السكة لا يجوز إشراع جناح إليها، ولا فتح باب جديد فيها إلا برضاهم.
ولو فتح باب دار له أخرى إلى داره التي في السكة المنسدة ليرتفق به، لا ليجعله كالسكة النافذة للناس يدخلون من باب ويخرجون من آخر لجاز دون جعله كالسكة النافذة. أما فتح الكوة للضوء والرواح فلا يمنع، ولتكن بحيث لا يصلها المتطلع. وأما المتطلع على الجار فيمنع. وأما الجدار بين الدارين، فإن كان ملك أحدهما فلا يتصرف فيه الآخر إلا بإذن، فإن استعار لوضع جذعه لم تلزمه الإعارة وإن كان مندوباً إليها، فإن أعار فليس له أن يرجع عن ذلك إلا لحاجة تعرض له لجداره تلجئه إلى ذلك الأمر لم يرده به الضرر.
وروي أنه ليس له أن ينتزعها طال الزمان أو قصر، احتاج إلى جداره أو استغنى عنه، مات أو عاش، باع أو ورث.
ويلحق بعارية الجدار في الندب كل ارتفاق طلبه جاره منه مما يقف على إذن الجار ولا يضر به فعله من فتح باب أو إرفاق بناء أو مختلف في طريق أو فتح طريق وشبه ذلك.
وأما الجدار المشترك بين الجارين، فلكل واحد منع صاحبه من الانتفاع دون رضاه، فإن تنازعا في قسمته أجبر عليها من أباها.
وقال أصبغ: لا يقسم بينهما إلا عن تراض منهما.
وإذا حزر بالتراضي أقرع على القسمين، فإذا طلب أحد الشريكين العمارة في ما لا ينقسم، قيل لمن أباها: إما أن تعم معه أو تقاويه، أو تبيع ممن يعمل، وإلا بعنا عليك من حقك بمقدار ما به يعمل باقي حقك، ولا يمنع شريكك من النفع بحظه بهذا الضرر. وأما ما ينقسم فيقسم بينهما.
وعلى الجار أن يأذن لجاره في دخول داره لإصلاح حائطه أو طره.
واختلف في الحائط بين الرجلين يحتاج إلى الإصلاح أو ينهدم، فيأبى أحدهما الإصلاح؟. قال سحنون: فمن أصحابنا من قال: يجبر عليه، ومنهم من قال: لا يجبر عليه، ويصلح من أراد في حقه.
وإن هدمه أحدهما، فروى عيسى عن ابن القاسم: أن عليه أن يرده إن كان هدمه على الضرر، وإن كان هدمه لإصلاح فعجز عنه، أو انهدم من غير أن يهدم فلا يجبر على بنيانه، ويقال للجار: استر دارك إن شئت.
وقال سحنون من رواية العتبي: يجبر على بنيانه كما كان.
وروى يحيى عن ابن القاسم أنه يجبر على بنيانه كان هو هادمه أو انهدم من غير هادم، إذا كان قوياً على بنيانه، وإن كان ضعيفاً عنه لم يجبر.
وإذا انهدم السفل والعلو، فلصاحب العلو إجبار صاحب السفل على أن يبني أو يبيع ممن يبني، حتى يبني رب العلو علوه، وكذلك أن يبيع ذلك من رجل على أن يبنيه فامتنع المشتري أيضاً من البناء أجبر أن يبني أو يبيع ممن يبني.
وكذلك لو كان فرق العلو علو آخر لوجب على صاحب العلو الذي دونه البناء حتى يبني الأعلى.
وإن اعتل السفل فإصلاحه على صاحبه، وعليه تعليق العلو حتى يصلح الأسفل لأن عليه أن يحمله على بنيان أو تعليق.
وكذلك لو كان على العلو علو فتعليق الأعلى على صاحب الأوسط في إصلاح الأوسط، وعلى رب السفل الخشب والحديد.
وقال أشهب: وعليه باب الدار. قال ابن القاسم: والسلم بينهما على صاحب السفل إذا كان له علو إلى أن يبلغ به علوه، ثم على صاحب العلو الأعلى ما أدرك العلو الأول إلى علوه.
وقال الشيخ أبو محمد: وأعرف لبعض أصحابنا أن على أصحاب السفل بناء السلم إلى حد العلو، فإن كان عليه علو آخر فعلى صاحب العلو الأول من بناء السلم من حد علوه إلى أن يبلغ به سقف علوه الذي عليه علو الآخر.
ومن له حق إجراء الماء على سطح عيره فالنفقة على السطح على مالكه دون من له حق المسيل والسقف الحائل بين السفل والعلو لصاحب السفل، ويجوز لصاحب العلو الجلوس عليه إذ له حق الانتفاع به.
ويجوز بيع حق الهواء لإشراع جناح من غير أصل يعتمده البناء، ويجوز بيع حق مسيل الماء ومجراه، وحق الممر، وكل الحقوق المقصودة على التأبيد.
وإذا كان لرجل سفل دار ولآخر علوها، فقال أشهب وابن عبد الحكم على صاحب السفل كنس مرحاض السفل دون صاحب العلو وإن كان لصاحب العلو حق الانتفاع به.
وقال ابن وهب وأصبغ: كنسه عليهما على عدد الجماجم. وليس لصاحب العلو أن يزيد في بنيان العلو شيئاً، ولا له أن يرفعه.
وإذا كانت الرحى بين أشراك فانهدمت فأقامها أحدهم إذ أبى الباقون موافقته وعادت إلى حد الغلة، فقال ابن القاسم: الغلة كلها للذي أقامها، وعليه لأصحابه أجرة أنصبائهم خراباً.
وقال ابن الماجشون: الغلة بينهم على الأنصباء، ويستوفي المنفق من أنصبائهم ما أنفق. قال ابن دينار وابن وهب: يكون شريكاً بما زاد عمله مع جزئه المتقدم في غلة الرحى، ويكون له أجر ما أقام في حصص أصحابه.
قال عيسى: وتفسير ذلك أن تقوم الرحى غير معمولة فيقال عشرة، وتقوم بعد العمل فيقال: خمسة عشر، فيكون ثلث الغلة للعامل وثلثاها بينه وبين شريكه، وعلى الذي يعمل ما ينوبه من أجر العمل في قيامه بغلتها، ثم إذا أراد الذي لم يعمل أن يدخل مع الذي يعمل في الرحى أعطاه ما ينوبه من قيمة ذلك يوم يدفع ذلك إليه.
وقال يحيى بن يحيى مثل ذلك كله. قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول مثل ذلك.