فصل: أبو الحكم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.ظافر بن جابر السكري:

هو أبو حكيم ظافر بن جابر بن منصور السكري، كان مسلمًا فاضلًا في الصناعة الطبية، متقنًا للعلوم الحكمية، متحليًا بالفضائل وعلم الأدب، محبًا للاشتغال والتضلع بالعلوم، وكان قد لقي أبا الفرج بن الطيب ببغداد، واجتمع به، واشتغل معه، وكان ظافر بن جابر قد عمر مثل أبيه، وكان موجودًا في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة وهو موصلي، وإنما انتقل من الموصل إلى مدينة حلب، وأقام بحلب إلى آخر عمره، ومن خلفه جماعة مشتغلين بصناعة الطب ومقامهم بحلب.
ومن شعره:
ما زلت أعلم أولًا في أول ** حتى علمت بأنني لا علم لي

ومن العجائب أن أكون جاهلًا ** من حيث كوني أنني لا أجهل

ولظافر بن جابر من الكتب مقالة في أن الحيوان يموت مع أن الغذاء يخلف عوض ما يتحلل منه.

.موهوب بن الظافر:

هو أبو الفضل موهوب بن ظافر بن جابر بن منصور السكري، كان فاضلًا أيضًا في صناعة الطب، مشهورًا متميزًا وكان مقيمًا بمدينة حلب، ولموهوب بن ظافر من الكتب اختصار كتاب المسائل لحنين بن إسحق.

.جابر بن موهوب:

هو جابر بن موهوب بن ظافر بن جابر بن منصور السكري، كان أيضًا مشهورًا في صناعة الطب خبيرًا بها، وأقام بحلب.

.أبو الحكم:

هو الشيخ الأديب الحكيم أبو الحكم عبيد اللّه بن المظفر بن عبد اللّه الباهلي الأندلسي المربي، كان فاضلًا في العلوم الحكمية، متقنًا للصناعة الطبية، متعينًا في الأدب، مشهورًا بالشعر، وكان حسن النادرة، كثير المداعبة، محبًا للهو والخلاعة، وكثير من شعره يوجد مراثي في أقوام كانوا في زمانه أحياء، وإنما قصد بذلك اللعب والمجون، وكان محبًا للشراب مدمنًا له، ويعاني الخيال، وكان إذا طرب يخرج في الخيال ويغني له:
يا صياد النحلة جاك العمل ** قم اخرج من بكرة هات العسل

وكان يعرف الموسيقا، ويلعب بالعود، ويجلس على دكان في جيرون للطب، ومسكنه في دار الحجارة باللبادين، وله مدائح كثيرة في بني الصوفي الذين كانوا رؤساء دمشق، والمتحكمين فيها، وذلك في أيام مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن أتابك طغتكين، وسافر أبو الحكم إلى بغداد والبصرة وعاد إلى دمشق، وأقام بها إلى حين وفاته، وتوفي رحمه اللّه لساعتين خلتا من ليلة الأربعاء سادس ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة بدمشق، وقال أبو الفضل بن الملحي، وكتب بها إلى أبي الحكم في أثناء كتاب كتبه إليه شاكرًا لفعله:
إذا ما جزى اللّه امرءًا بفعاله ** فجازى الأخ البر الحكيم أبا الحكم

هو الفيلسوف الفرد والفاضل الذي ** أقر له بالحكمة العرب والعجم

يدبر تدبير المسيح مريضه فلو ** راءه أبقراط زلت به القدم

فينتاشني من قبضة الدهر بعدما ** ألم بأنواع من الضر والألم

وبوأني من رأيه خير معقل ** فبرّأ من ضري وأبرا من السقم

وما زال يهديني إلى كل منهج ** بآراء مفضال له سنّها الكرم

يضيء سنا أفكارها فكأنها ** شموس جلا إشراقها حندس الظلم

وقام بأمري إذ تقاعد أسرتي ** مقام أبي في كرمتي أو مقام أم

وأنقض ظهري ما تحامل ثقله ** ووكل بي طرفًا إذا نمت لم ينم

وضم ولم يمنن لجسمي شفاءه ** فلولاه قد أصبحت لحمًا على وضم

فأصبح سلمي الدهر بعد ** حروبه عليه سلام اللّه ما أورق السلم

وكان أبو الحكم يهاجي جماعة من الشعراء الذين كانوا في وقته ويهاجونه، وللعرقلة، وهو أبو الندى حسان بن نمير الكلبي، يهجو أبا الحكم:
لنا طبيب شاعر أشتر ** أراحنا من شخصه اللّه

ما عاد في صبحة يوم فتى ** إلا وفي باقيه رثاه

وقال أيضًا فيه:
يا عين سحي بدمع ساكب ودم ** على الحكيم الذي يكنى أبا الحكم

قد كان لا رحم الرحمن شيبته ** ولا سقى قبره من صيب الديم

شيخًا يرى الصلوات الخمس نافلة ** ويستحل دم الحجاج في الحرم

أقول وصف العرقلة لأبي الحكم في هجوه إياه بأنه أشتر العين له سبب، وهو أن أبا الحكم خرج ليلة وهو سكران من دار زين الملك أبي طالب بن الخياط فوقع فانشج وجهه، فلما أصبح زاره الناس يسألونه كيف وقع فكتب هذه الأبيات، وتركها عند رأسه فكان إذا سأله إنسان يعطيه الأبيات يقرؤها:
وقعت على رأسي وطارت عمامتي ** وضاع شِمَشْكي وانبطحت على الأرض

وقمت وأسراب الدماء بلحيتي ** ووجهي وبعض الشر أهون من بعض

قضى اللّه أني صرت في الحال ** هتكة ولا حيلة للمرء فيما به يقضي

ولا خير في قصف ولا في لذاذة ** إذا لم يكن سكر إلى مثل ذا يفضي

وأخذ المرآة فرأى الجرح في وجهه غائرًا تحت الجفن بعد وقعته فقال:
رك النبيذ بوجنت ** جرحًا ككس النعجة

ووقعت منبطحًا ** على وجهي وطارت عمتي

وبقيت منهتكًا فلو ** لا الليل بانت سوءتي

وعلمت أن جميع ** ذلك من تمام اللذة

من لي بأخرى مثل ** تلك ولو بحلق اللحية

ومن شعر أبي الحكم، وديوان شعره هو روايتي عن الشيخ شمس الدين أبي الفضل المطواع الكحال، عن الحكيم أمين الدين أبي زكريا يحيى البياسي، عن أبي المجد، عن والده أبي الحكم المذكور، قال يمدح الرئيس مؤيد الدين أبا الفوارس بن الصوفي:
رقت لما بي إذا رأت أوصابي ** وشكت فقصر وجدها عما بي

ما ضر يا ذات اللما الممنوع لو ** ذاويت حر جوى ببرد رضاب

من هائم في حبكم متقنع ** بمرار طيف أو برد جواب

أن تسعفي بالقرب منك فإنما ** تحيين نفسًا آذنت بذهاب

لا تنكري إن بان صبري بعدكم ** واعتادني ولهي لعظم مصابي

فالصبر في كل المواطن دائمًا ** مستحسن إلا عن الأحباب

هيهات أن يصفو الهوى لمتيم ** لا بد من شهد هناك وصاب

ما لي وللحدق المراض تذيبني ** أترى لحيني وكلت بعذابي

وكذا العيون النجل قدمًا لم تزل ** من شأنها الفتكات بالألباب

ما لي وحظي لا يني متباعدًا ** أدعو فلا أنفك غير مجاب

لولا رجاء أبي الفوارس لم أزل ** ما بين ظفر للخطوب وناب

دعني أخبر بعض ما قد حاز من ** شرف وإن أعيا ذوي الإسهاب

فلقد غدا فرضًا مديح مؤيد الدين ** الهمام على ذوي الآداب

من قيس عيلان نمته هوازن ** وسليم البادون في الأعراب

والبيت من أبناء صعصعة سما ** بنيانه في جعفر بن كلاب

وبنو ربيعة إن نسبت وخالد ** منهم عوف في ذوي الأنساب

منهم لبيد والطفيل وعامر ** وأبو براء هازم الأحزاب

ورث العلا منهم بنو الصوفي ** إذ قرنوا الأيادي الغر في الأحساب

وحوى المسيب ما به افتخروا ** كما حازت فذلك جمع كل حساب

في ذروة الشرف الرفيع سما ** به مجد قديم من صميم لباب

وأحل أندية المكارم ناشئًا ** فسما على القرناء والأضراب

ما مفعم لجب طمى آذيه ** وأمده منهلّ صوب سحاب

بأعم سيبًا من نوال بنانه ** أو مزبد ذو زخرة وعباب

لليث صولته على أعدائه ** بل دونه إن صال ليث الغاب

وله إلى أشيائه وعداته ** يومان يوم ندى ويوم ضراب

يا دولة عبق الندى والجود ** في أرجائها من فتية أنجاب

بشجاعها وجمالها وبعزها ** وبزينها تبقى على الأحقاب

حسبي بما نسبوا إليه وإن غدت ** أسماؤهم تغني عن الألقاب

أكرم بهم عربًا إذ افتخر الورى ** جاؤوا بخير أرومة ونصاب

شادوا العلا بندى وعز باذخ ** ومشارع للمعتفين عذاب

قوم ترى لذوي النفاق لديهم ** ذل العبيد لسطوة الأرباب

يا أيها المولى الذي نعماؤه ** مبذولة للطارق المتناب

إني لأعلم أن برك بي غدا ** لسعادتي من أوكد الأسباب

وتيقنت نفسي هناك بأنني ** سأرود من نعماك خير جناب

لا زلت ترقى في المكارم دائمًا ** ما لاح برق في خلال سحاب

وقال أيضًا: يمدح الرئيس جمال الدولة أبا الغنائم أخا الممدوح:
سواء علينا هجرها ووصالها ** إذا نكثت يومًا ورثت حبالها

وما برحت ليلى تجود بوعدها ** ويمنع منا بذلها ونوالها

ويطمعنا ميعادها في دنوها ** ولا وصل إلا أن يزور خيالها

أما منك إلا عذرة وتعلل لطال ** علينا عذرها واعتلالها

سقام بجسمي من جفونك أصله ** وقوة عشق نقص جسمي كمالها

فإن تسعفي صبًا يكن لك أجره ** بقربك يا من شف جسمي زيالها

وما ذكرتك النفس إلا تفرقت ** وعاودها من بعد هدي ضلالها

وما برحت تعتادني زفرة إذا ** طمعت لها بالبرء راث اندمالها

ومن عبرات لا يني الدهر كلما ** دعا للهوى داع أجاب أنا لها

تصدى الكرى عن مقلتيّ فتنثني ** دموع على الخدين يهمي انسجالها

وكيف يؤاتي النوم أو يطرق ** الكرى جفونًا بماء المقلتين اكتحالها

إذ قلت أنساها على نأي دارها ** تصور في عيني وقلبي مثالها

ودويّة تردي المطايا تنوفة ** يحار القطا فيها إذا خب آلها

قطعت بفتلاء الذراعين عرمس ** أمون قواها غير باد كلالها

تؤم بنا ربع المسلم حيث لا ** يخيب لها سعي وينعم بالها

ولولا جمال الملك ما جئتها ** ولا ترامت صحاريها بنا ورمالها

إلى أسرة لا يجهل الناس ** قدرها ويحمد بين العالمين فعالها

إذا أشكلت دهماء فالرأي ** رأيها وإن راب خطب فالمقال مقالها

أو اضطرمت نار الوغى ** بكماتها وطال عليهم حميها واشتعالها

ترى لهم بأسًا يقصر دونه ** أسود الشرى قدامها ونزالها

بأيديهم خطية يَزَنيَّة تساقي ** بأكواب المنايا نهالها

وبيض تقد الدارعين صوارم ** رهاف جلا الأطباع منها صقالها

وهم يطعمون الضيف من قمع ** الذرى إذا ناوحت نكباء ريح شمالها

فما لبني الصوفي في الناس مشبه ** ذوي البأس والأيدي المهاب مصالها

سما لهم مجد قديم ورفعة شديد ** عراها لا يخاف انحلالها

بني جعفر في العرب خير قبيلة ** سما في نزار فخرها واختيالها

تقابل فيهم من سليم ذؤابة كما ** قابلت يمنى اليدين شمالها

أيا ابن علي حزت أرفع رتبة إذا ** رامها من رامها لا ينالها

بك الدولة الغراء تزهى على الورى ** وحق لها إذ أنت فيها جمالها

ولو أنها أمست سناء ورفعة ** سماء علينا كنت أنت هلالها

إذا ما ذوو الشحناء أموك خيبوا ** وعاد عليهم بعد ذاك وبالها

سأظفر من دهري بأرغد عيشة ** بنعماك إن فاءت علي ظلالها

فما لذوي الحاجات عنك تأخر ** لأنك عم المكرمات وخالها

فدونكها كالدر لا مستعارة فينكر ** منها ضعفها واختلالها

ولكن نتاج الفكر عذراء حسنها ** يروق إذا شان القوافي انتحالها

فلا نعمة إلا ومنك نواله ** ولا مدحة إلا إليك مآلها

وقال يمدح عز الدولة أخا مؤيد الدين:
دعا بك داعي الهوى فاستجب ** وقصر عتابك عمن عتب

فما العيش إن غيض ماء الشباب ** ولم يقض من طرفيه أرب

وباكر معتقة زانها ** مرور الليالي بها والحقب

كأن على كأسها لؤلؤًا ** إذا ما استدار عليها الحبب

يطوف بها بابلي اللحاظ ** لذيذ المقبل عذب الشنب

يقول الذي راقه حسنها ** أذي الخمر من خده تجتلب

وإلا فمن أين ذا الاحمرار ** وهذا الصفاء لبنت العنب

بنات الكروم حياة الكروم ** وموت الهموم محيا الطرب

فقل للذي همه أن يرى ** كريمًا ينفس عنه الكرب

أكل امرئ يرتجي سيبه ** رويدك ما الناس فخر العرب

جواد إذا أنت وفيته ** أمنت به حادثات النوب

فقد شاع من ذكره في الأنام ** سوى ما ضمن طي الكتب

ثناء تأرج منه البلاد ** وذكر فلولاه لم يغترب

عفاف وحلم إلى سؤدد ** وفخر بآباء صدق نُجب

وفضل وبشر وجود يرا ** هـ فرضًا على نفسه قد وجب

فمن قاسه بفتى عصره ** فقد قايس الدر بالمختلب

ومن قال إن امرءًا غيره ** حوى بعض ما حازه قد كذب

وليس الذي فخره تالد ** كمن فخره طارف مكتسب

تفاخر قيس به خندفًا ** وتعطيه منها أجل الرتب

ولا سيما إن غدا فيهم ** وسيطًا بأكرم أم وأب

من الجعفريين في باذخ ** من العز تنحط عنه الشهب

وعبدك يرغب في خلعة ** ومثلك تشريفه يحتسب

ليرفع ذلك من قدره ** وإن كان قارب فيما طلب

ويشحذ خاطره كلما ** اشرأب إلي مدحكم وانتدب

فلي كلما ظفرت راحتي ** بجود المظفر أوفى أرب

ففي كل دولة أنت عز لها ** تنال الأماني بأدنى سبب

لأنك من معشر من يرد ** حياض مكارمهم لم يخب

وأعراضهم أبدًا لم تزل ** تصاب وأموالهم تنتهب

هنيئًا لك العيد فانعم به ** ودم ما بدا كوكب واحتجب

وما العيد أنت إذا ما حضرت ** سواء علينا نأى أو قرب

وإن غيب الغيم عنا الهلال ** فلسنا نبالي إذا لم تغب

فدونكها حرة تجتلى ** يناديك قائلها من كثب

أتاك بها إثر تهذيبها ** حكيم تنخلها وانتخب

ولا خير في حكمة لا ترى ** مطرزة بفنون الأدب

ومن مطبوع قصائده الأرجوزة التي وسمها بمعرة البيت، يذكر فيها ما ينال الإنسان إذا عمل دعوة للندماء من المضرة والغرامة وهي هذه:
معرة البيت على الإنسان ** تطرا بلا شك من الإخوان

فاصغ إلى قول أخي تجريب ** يأتك بالشرح على ترتيب

جميع ما يحدث في الدعوات ** وكل ما فيها من الآفات

فصاحب الدعوة والمسره ** لا بد أن يحتمل المضره

أولها لا بد من ثقيل ** يكرهه القوم وذي تطفيل

صاحبها إن قدم الطعاما ** يحتاج أن يحتمل الملاما

لو أنه يندس في حرمه ** لا بد أن يشرعوا في ذمه

يقول بعض عازه أبزار ** وبعضهم حافت عليه النار

وآخر هذا قليل الملح ** يظهر أني فطن ذو نصح

ينهب ما بين يديه نهبا ** ويشرب الماء القراح العذبا

يرى له في ذلك انتفاعًا ** وبعد ذلك يطلب الفقاعا

بالثلج في الصيف وفي الشتاء ** يلتمس النار بلا استحياء

وإن يعزهم أثر ذا خلال ** قد نسلوا الحصر ولم يبالوا

وبعد هذا يحضر النبيذ ** الطيب المنتخب اللذيذ

فواحد يقول هذا خل ** وآخر ذا قافز معتل

وثم من يسأل عن راووق ** يقول لا بد من التصفيق

وعند هذا تحضر البواطي ** ويمزج النبيذ باحتياط

فواحد يقول هذا صرف ** ويقلب الماء ولا يكف

وآخر يقول ذا ممعود ** فاجتنبوا الماء ولا تعودوا

والنقل لا بد مع المشموم ** فغير مهجو ولا مسؤوم

فذا له في نقله اختيار ** يروقه الريحان والخيار

وذا يقول الورد والتفاح ** أحسن ما دارت عليه الراح

وإن خشيت حجة المغاني ** وخوفهم من ضامن القيان

عجل وقشقل لهم الدينارا ** في الحال إن كنت تخاف العارا

وربما قد حان منهم شطحه ** تعيش إن تنعموا بالصبحه

وإن دعوت القوم في كانون ** لا بد من فحم على كانون

يطير منه أبدًا شرار ** يثبت في البسط لها آثار

ويصبح البساط بعد الجده ** منقطعًا كشبه جلد الفهده

فضلًا عن الكباب والشرائح ** لكل غاد منهم ورائح

واعزل لهم عند انقضاء البرد ** مراوحًا من بعد ماء الورد

وللندامى أبدًا فنون ** يظهرها الخمر فتستبين

منعمًا جشعًا له بالمضغ ** وليس فيهم من إليه يصغي

ويمسك الدور وينسى نفسه ** قد غيب الأدبار عنه حسه

ومنهم من يزن الكلاما ** تراؤسًا ويظهر الإعظاما

ومنهم من يظهر الوضاعه ** تعمدًا كي تضحك الجماعه

ومنهم من سكره قبيح ** لا يأخذ الدور ولا يروح

وثم من يدخل وقت السكر ** صاح ويحصي هفوات الخمر

ومنهم من في يديه خفه ** إذا رأى شيئًا مليحًا لفه

منيدلا للكم أو سكِّينة ** أو طاسة التكعيب أو قنينة

وبعضهم موكل بقلع ** سلاسل تسيل فوق الشمع

يوهم أن يكسو بها فتيله ** وإنما ذلك منه حيله

ولا تقل في الغمز والإيماء ** إذا مضى القوم لبيت الماء

فإن لقوا جارية أو عبدا ** قد قرصوا نهدًا وعضوا خدا

وربما تطرق الفساد ** وكان من عرس الفتى انقياد

أو أخته أو بنته أو ابنه ** لاسيما إن راقهم بحسنه

وعندها قد تسمح النفوس ** ويطمع النديم والجليس

فإنما الإنسان من لحم ودم ** ليس بصخر جامد ولا صنم

وإن يكن فيهم أبو تلور ** فغير مأمون ولا معذور

يأكل ما يلقاه أكلًا لما ** بلا اكتراث أو يجيد اللقما

لا يشرب الراح مع الندامى ** لأنه لا يوثر المداما

وإن تقع عربدة هناكا ** فليس يشقى فيهم سواكا

تنكسر الأقداح والقناني ** وكلما لاح من الأواني

وإن تأدى الأمر للجيران ** رموه بالزور والبهتان

ثم شكوه عاجلًا للشحنة ** وربما تمت عليه محنة

ويربح الإنسان سوء السمعة ** لا سيما إن كان ليل جمعة

وإن فشت بينهم جراح ** فليس يرجى للفتى صلاح

وإن تردى بينهم قتيل ** فذاك شيء أرشه قليل

وشربهم إن كان في عِلِّية ** فإنه يقرّب المنية

ولا تكن تنسى أذى الندمان ** والقيء فوق البسط في الأحيان

وبعده يلتمس الطعاما ** ليوصل الشرب مع النداما

ولا الذي يلقى من النقار ** إذا انتبهت وقت كنس الدار

من ربة البيت إذا ما نامت ** وخلفها الصعب إذا ما قامت

تذكره عند طلوع الشمس ** بكل ما دار له بالأمس

هذا إذا راحوا فإن أقاموا ** واقتصدوا الصبوح ثم ناموا

فكيف ترجو بعد ذا فلاحا ** إذا بدا الصبح لها ولاحا

لوح على القوم بخندريس ** في أثر الجردق والرؤوس

واستغن عن بعض أثاث الدار ** إن صار رهنًا في يد الخمار

وإن تضع بعض نعال يوم ** فليس تخلو عاجلًا من لوم

فوص أن يحفظها الغلام ** لكي يقل منهم الملام

ولا تبال ويك بالخسارة ** وأكثر السرج على المنارة

ومن أراد منهم الرواحا ** فإنه يستلب المصباحا

مستصحبًا في يده قرابة ** مملوءة يرضى بها أصحابه

ولا تفكر في فراغ الزيت ** فكل هذا من خراب البيت

فصاحب الدعوة في خسران ** لاسيما إن لُز بالميزان

وصاحب الوقت بغير شرب ** أحق مخلوق بصقع الجرب

يدل ما يلزمه من غرم ** إن الفتى لا شك دقن سرم

وكان من ذا كله غنيًّا ** لو كان شهمًا فطنًا ذكياً

معرة ما مثلها معرة ** تنحس من يُصْلى بها في كرة

فالشرب عندي في بيوت الناس ** أحسن من هذا على القياس

وبعد هذا كله فالتوبة ** أوفق ما دارت عليه النوبة

وقال في البصرة سنة إحدى وعشرين وخمسائة:
أقول وقد أشرفت من نهر معقل ** على البصرة الغراء حييت من مصر

أيا حبذا ساحاتها ورسومها ** وطيب رباها لا عرين من القطر

فكم فيك من يوم لهوت وليلة ** رأيت لها وجهًا ينوب عن البدر

وقال لغزًا في عبد الكريم:
بمهجتي يا صاح أفدي الذي ** تيمني تفتير عينيه

صرت له ثلث اسمه طائعًا ** وهو بوصلي ضد ثلثيه

كأنما وجنته إذا بدت ** أنجم خيلان بخديه

هلال تم والثريا له ** مقلوب ما يشبه صدغيه

وقال أيضًا: لغزًا في اسم شفتر وهو لقب لأبي المعالي السلمي الشاعر:
غزال من بني الأصفر ** سباني طرفه الأحور

لقد فضله اللّه ** بحسن الدل والمنظر

بحق الشفع والوتر ** وما قد ضمنا كوثر

فهذا اسم قضى الرحمن ** أن يلغز أو يستر

وقال يهجو الطبيب المفشكل اليهودي على سبيل المرثية:
ألا عد عن ذكرى حبيب ومنزل ** وعرِّج على قبر الطبيب المفشكل

فيا رحمة اللَّه استهيني بقبره ** وكوني عن الشيخ الوضيع بمعزل

ويا منكرًا جود هديت قذاله ** بمقنعة وأسقله سقل السجنجل

وكبكبه في قعر الجحيم بوجبة ** كجلمود صخر حطه السيل من عل

فلا زال وكاف تزجيه ديمة ** عليه بمنهل من السلح مسبل

لقد حاز ذاك اللحد أخبث جيفة ** وأوضع ميت بين ترب وجندل

سأسبل من بطني عليه مدامعي ** وأورده من مائها شر منهل

لعل أبا عمران حن لشخصه ** وقال له أسرع إلي وعجل

فما ضم بطن الأرض أنجس منهما ** وأنذل من رهط الغوي السموأل

وقال يهجو الأديب نصير الحلبي أيضًا على سبيل المرثية، وكان نصير قد اشتغل بالكتابة وتعرض للشعر والطب والنجوم:
يا هذه قومي اندبي ** مات نصير الحلبي

يرحمه اللّه لقد ** كان طويل الذنب

قد ضجت الأموات في ** نكهته في الترب

وودهم لو عوضوا ** منه بلب أجرب

والقوم بين صارخ ** وممعن في الهرب

ومنكر يقول ذا ** أوضع ميت مربي

ما ضم بطن الأرض ** بين شرقها والمغرب

أخبث منه طينة ** في عجمها والعرب

يا قوم ما أنجسه ** نصبًا على التعجب

أوصافه من فحشه ** مسطورة في الكتب

وقوله لمنكر ** أسرف يا معذبي

أما علمت أنني ** شيخ لأهل الأدب

والنحو والحكمة ** والمنطق والتطبب

وقال يهجو ملك النحاة:
لقد هب من باذهنك الورك ** نسيم على عارضي ذا الملك

وأقبل سيل على أثره ** فصار على وجهه مرتبك

كما درج الماء مر الصبا ** ودبج أفق السماء الحبك

وقال يهجو أبا الوحش الشاعر:
إذا رمت أن أهجو أبا الوحش عاقني ** خلائق لؤم عنه لا تتزحزح

تجاوز حد الذم حتى كأنه ** بأقبح ما يهجى به المرء يمدح

وقال يهجوه أيضاً:
إن دام في غيه وحيش ** ولم يدع فكه وظلمه

سلقت آذانه بعنز ** قد أكلوا في الحجاز لحمه

وقال أيضًا:
إذا عنيت بمحموم نظمت له ** بيتًا فإن زاد شيئًا عاد مفلوجا

فقل لقوم رأوا طبي لهم فرجًا ** ليهنهم أن غدا بالشعر ممزوجا

يفرح الهم عن أحشاء ذي حرق ** مضنى ويطعمه في الحال فروجا

وقال في الشجاعة:
أرى الحرب تكسبني نجدة ** إذا خامر القلب تذكارها

فإن أنا في النوم أبصرتها ** تبين في الفرش آثارها

وقال في قصيدته التي سماها ذات المناقب:
ومعشر قد جعلوني قدوة ** يرونني فيما أعاني أوحدا

تركت أعمارهم إذ ركنوا ** إلي في الطب كأعمار الجدا

وقال أيضًا:
سأظهر في إصلاح شأني تغافلًا ** ليعذرني من ظن أني ذو جهل

وأهزل مهما قلت شعرًا فإن بدت ** به ركة يومًا أحلت على الهزل

وقال أيضًا:
وطارق ليل أمّني بعد هجعة ** فمتعت جنبيه بعجزاء من سلم

فلو سمعت أذناك تحتي عواءه ** لقلت ابن آوى عج في حندس الظلم

وقلت له لولا شقاؤك لم تسر ** بليل ولم تحلل بربع أبي الحكم

وقال لما أدركته الوفاة في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
يا لهف نفسي إذا أدرجت في الكفن ** وغيبوني عن الأهلين والوطن

وقيل لا يبعدن من كان ينشدنا ** أنا الذي نظر الأعمى فلم يرني

ثم أنشد يوم الثلاثاء قبل وفاته وأمر ولده أبا المجد أن يرويها بعد موته عنه:
ندمت على موتي وما كان من أمري ** فيما ليت شعري من يرثيكم بعدي

وإني لأختار الرجوع لو أنني ** أرد ولكن لا سبيل إلى الرد

ولو كنت أدري أنني غير راجع ** لما كنت قد أسرعت سيرًا إلى اللحد

ألا هل من الموت المفرق من بد ** وهل لزمان قد تسلف من رد

مضى الأهل والأحباب عني وودعوا ** وغودرت في دهماء موحشة وحدي

لبعض على بعض لديكم مزية ** ولا يعرف المولى لدينا من العبد

لئن كنت قد أفرحتكم بمنيتي ** وسركم موتي وآنسكم فقدي

فدقيوس تلميذي عليكم خليفتي ** رضيت به في الهزل بعدي وفي الجد

فها أنا قد وليته الأمر فاعلموا ** وعما قليل سوف أسكنه عندي

ولا تقنطوا من رحمة اللَّه بعد ذا ** فليس لنا من رحمة اللّه من بد

وأبي الحكم من الكتب ديوان شعره، وسمي ديوانه هذا نهج الوضاعة.