فصل: (مسألة النسخ) جائز (واقع عند كل المسلمين):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غاية الوصول إلى شرح لب الأصول



.(مسألة النسخ) جائز (واقع عند كل المسلمين):

وخالفت اليهود غير العيسوية بعضهم في الجواز، وبعضهم في الوقوع، واعترف بهما العيسوية وهم أصحاب أبي عيسى الأصفهاني المعترفون ببعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إلى بني إسماعيل خاصة وهم العرب. (وسماه أبو مسلم) الأصفهاني من المعتزلة (تخصيصا) وإن كان في الواقع نسخا لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان فهو تخصيص في الأزمان، كالتخصيص في الأشخاص حتى قيل إن هذا منه خلاف في وقوع النسخ. (فالخلف) في نفيه النسخ (لفظي) لأن تسميته له تخصيصا يتضمن اعترافه به إذ لا يليق به إنكاره كيف وشريعة نبينا مخالفة في كثير لشريعة من قبله فعنده ما كان مغيا في علم الله تعالى، فهو كالمغيا في اللفظ، ويسمى الكل تخصيصا فيسوّي بين قوله تعالى: {وأتموا الصيام إلى الليل} وبين صوموا مطلقا مع علمه تعالى بأنه سينزل لا تصوموا ليلًا وعند غيره يسمى الأول تخصيصا والثاني نسخا. (والمختار أن نسخ حكم أصل لا يبقى معه حكم فرعه) لانتفاء العلة التي ثبت بها بانتفاء حكم الأصل، وقالت الحنفية يبقى لأن القياس مظهر له لا مثبت. (و) المختار (أن كل شرعي يقبل النسخ) فيجوز نسخ كل التكاليف وبعضها حتى وجوب معرفة الله تعالى، ومنعت المعتزلة والغزالي نسخ كل التكاليف لتوقف العلم به المقصود منه على معرفة النسخ والناسخ، وهي من التكاليف لا يتأتى نسخها. قلنا مسلم ذلك لكن بحصولها ينتهي التكليف بها فيصدق أنه لم يبق تكليف فلا خلاف في المعنى، ومنعت المعتزلة أيضا نسخ وجوب معرفة الله تعالى، لأنها عندهم حسنة لذاتها لا تتغير بتغير الزمان فلا يقبل حكمها النسخ. قلنا الحسن الذاتي باطل كما مر.
(ولم يقع نسخ كل التكاليف ووجوب المعرفة) أي معرفة الله تعالى. (إجماعا) فعلم أن الخلاف السابق إنما هو في الجواز أي العقلي (و) المختار (أن الناسخ قبل تبليغ النبي) صلى الله عليه وسلّم. (الأمة) له وبعد بلوغه لجبريل (لا يثبت) حكمه (في حقهم) لعدم علمهم به، وقيل يثبت بمعنى استقراره في الذمة لا بمعنى الامتثال كما في النائم، أما بعد التبليغ فيثبت في حق من بلغه وكذا من لم يبلغه إن تمكن من علمه، وإلا فعلى الخلاف. (و) المختار وهو ما عليه الجمهور (أن زيادة جزء أو شرط أو صفة على النص) كزيادة ركعة أو ركوع أو غسل ساق أو عضد في الوضوء أو إيمان في رقبة الكفارة أو جلدات في جلد حدّ. (ليست بنسخ) للمزيد عليه، وقالت الحنفية إنها نسخ ومثار الخلاف أنها هل رفعت حكما شرعيا، فعندنا لا، وعندهم نعم. نظرا إلى أن الأمر بما دونها اقتضى تركها فهي رافعة لذلك المقتضى. قلنا لا نسلم اقتضاء تركها بل المقتضى له غيره، وبنوا على ذلك أنه لا يعمل بأخبار الآحاد في زيادتها على القرآن كزيادة التغريب على الجلد الثابتة بخبر الصحيحين: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» بناء على أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد. (وكذا نقصه) أي نقص جزء أو شرط أو صفة من مقتضى النص كنقص ركعة أو وضوء أو الإيمان في رقبة الكفارة، فقيل إنه نسخ لها إلى الناقص لجوازه أو وجوبه بعد تحريمه. وقال الجمهور لا. والنسخ إنما هو للجزء أو الشرط أو الصفة فقط، لأنه الذي يترك وقبل نقص الجزء نسخ بخلاف نقص الشرط والصفة والتصريح بذكرها من زيادتي، وبما تقرر علم أنه لا فرق في ذلك بين العبادة وغيرها، وخرج بزيادتي أولًا الجزء والشرط والصفة غيرها كعبادة مستقلة، سواء أكانت مجانسة كصلاة سادسة أملا. كزيادة الزكاة على الصلاة فليست نسخا في الثانية إجماعا ولا في الأولى عند الجمهور.
(خاتمة) للنسخ يعلم بها الناسخ من المنسوخ (يتعين الناسخ) لشيء (بتأخره) عنه (ويعلم) تأخره (بالإجماع) على أنه متأخر عنه أو أنه ناسخ له (وقول النبي) صلى الله عليه وسلّم (هذا ناسخ) لذاك (أو) هذا (بعد ذاك) أو سابق عليه (أو كنت نهيتـ)ـكم (عن كذا فافعلوه أو نصه على خلاف النص الأول) أي أن يذكر الشيء على خلاف ما ذكره فيه أوّلًا (أو قول الراوي هذا متأخر) عن ذاك أو سابق عليه، وهو الذي ذكره الأصل، فيكون ذاك فيه متأخرا (لا بموافقة أحد النصين للأصل) أي البراءة الأصلية فلا يعلم التأخر بها في الأصح، وقيل يعلم لأن الأصل مخالفة الشرع لها، فيكون المخالف سابقا على الموافق. قلنا مسلم لكنه ليس بلازم لجواز العكس (و) لا (ثبوت إحدى آيتين في المصحف) بعد الأخرى، فلا يعلم التأخرية في الأصح، وقيل يعلم لأن الأصل موافقة الوضع للنزول. قلنا لكنه غير لازم لجواز المخالفة كما مر في آيتي عدة الوفاة. (و) لا (تأخر إسلام الراوي) لمرويه عن إسلام الراوي للآخر فلا يعلم التأخر به في الأصح، لجواز أن يسمع متقدّم الإسلام بعد متأخره، وقيل يعلم لأنه الظاهر. قلنا لكنه بتقدير تسليمه غير لازم لجواز العكس كما مر. (و) لا (قوله) أي الراوي (هذا ناسخ) فلا يكون ناسخا (في الأصح). وقيل يكون وعليه المحدّثون لأنه لعدالته لا يقول ذلك إلا إذا ثبت عنده. قلنا ثبوته عنده يجوز أن يكون باجتهاد لا يوافق عليه. (لا) بقوله هذا (الناسخ) لما علم أنه منسوخ وجهل ناسخه فيعلم به أنه ناسخ له لضعف احتمال كونه حينئذ عن اجتهاد.

.الكتاب الثاني في السنة:

(وهي أقوال النبي) صلى الله عليه وسلّم (وأفعاله) ومنها تقريره لأنه كف عن الإنكار والكف فعل كما مر، وتقدمت مباحث الأقوال التي تشرك فيها السنة الكتاب، من الأمر والنهي وغيرهما، والكلام هنا في غير ذلك ولتوقف حجية السنة على عصمة النبي بدأت كالأصل بها مع عصمة سائر الأنبياء زيادة للفائدة فقلت (الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام (معصومون حتى عن صغيرة سهوا) فلا يصدر عنهم ذنب لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدا ولا سهوا.
فإن قلت يشكل بأنه صلى الله عليه وسلّم سها في صلاته حيث نسي فصلى الظهر خمسا وسلم في الظهر أو العصر عن ركعتين وتكلم. قلت لا إشكال على قول الأكثر الآتي، ويدل له خبر البخاري: «إني أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» وأما على القول المذكور، فيجاب عنه بأن المنع من السهو معناه المنع من استدامته لا من ابتدائه، وبأن محله في القول مطلقا. وفي الفعل إذا لم يترتب عليه حكم شرعي بدليل الخبر المذكور، لأنه صلى الله عليه وسلّم بعث لبيان الشرعيات، ثم رأيت القاضي عياضا ذكر حاصل ذلك، ثم قال إن السهو في الفعل في حقه صلى الله عليه وسلّم غير مضادّ للمعجزة ولا قادح في التصديق، والأكثر على جواز صدور الصغيرة عنهم سهوا، إلا الدالة على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بتمرة، وينبهون عليها لو صدرت، وإذا تقرر أن نبينا معصوم كغيره من الأنبياء.
(فلا يقر نبينا) محمد صلى الله عليه وسلّم (أحدا على باطن فسكوته ولو غير مستبشر على الفعل مطلقا) بأن علم به في الأصح وقيل إلا فعل من يغريه الإنكار بناء على سقوط الإنكار عليه، وقيل إلا الكافر بناء على أنه غير مكلف بالفروع، وقيل إلا الكافر غير المنافق. (دليل الجواز للفاعل) بمعنى الإذن له فيه، لأن سكوته صلى الله عليه وسلّم على الفعل تقرير له. (ولغيره في الأصح). وقيل لا لأن السكوت ليس بخطاب حتى يعمّ. قلنا هو كالخطاب فيعم. (وفعله) صلى الله عليه وسلّم (غير مكروه) بالمعنى الشامل للمحرم ولخلاف الأولى لعصمته، ولقلة وقوع المكروه وخلاف الأولى من التقى من أمته، فكيف يقع منه ولا ينافيه وقوع المكروه لنا منه بيانا لجوازه، لأنه ليس مكروها حينئذ، بل واجب. (وما كان) من أفعاله (جبليا) أي واقعا بجهة جبلة البشر أي خلقتهم كقيامه وقعوده وأكله وشربه. (أو مترددا) بين الجبلي والشرعي كحجه راكبا وجلسته للاستراحة. (أو بيانا) كقطعة السارق من الكوع بيانا لمحل القطع في آية السرقة (أو مخصصا به) كزيادته في النكاح على أربع نسوة (فواضح) أن الرابع لسنا متعبدين به على الوجه الذي تعبد هو به وأن غيره دليل في حقنا، لأنه صلى الله عليه وسلّم بعث لبيان الشرعيات فيباح لنا في الأول، وقيل يندب ويندب في الثاني، وقيل يباح ويندب أو يجب أو يباح بحسب المبين في الثالث. (وما سواه) أي سوى ما ذكر في فعله. (إن علمت صفته) من وجوب أو ندب أو إباحة (فأمته مثله) في ذلك. (في الأصح) عبادة كان أولا. وقيل مثله في العبادة فقط، وقيل لا مطلقا بل كمجهول الصفة وسيأتي. (وتعلم) صفة فعله أي من حيث هو لا بقيد كونه سوى ما ذكر، فلا يشكل بذكر البيان هنا مع ذكره قبل. (بنص) عليها كقوله هذا واجب مثلًا. (وتسوية بمعلوم الجهة) كقوله هذا الفعل مساوٍ لكذا في حكمه وقد علمت جهته. (ووقوعه بيانا أو امتثالًا لدال على وجوب أو ندب أو إباحة) فيكون حكمه حكم المبين أو الممتثل. (ويخص الوجوب) عن غيره (أمارته كالصلاة بأذان) لأنه ثبت باستقراء الشريعة أن ما يؤذن لها واجبة بخلاف غيرها، كصلاة العيد والخسوف. (وكونه) أي الفعل (ممنوعا) منه، (لو لم يجب كالحدّ)، والختان إذ كل منهما عقوبة وقد يتخلف الوجوب عن هذه الأمارة لدليل كما في سجودي السهو والتلاوة في الصلاة (و) يخص (الندب) عن غيره (مجرد قصد القربة) بأن تدل قرينة على قصدها بذلك الفعل مجردا عن قيد الوجوب، والفعل المجرد قصدها كما صرح به الأصل كثير من صلاة وصوم وقراءة ونحوها من التطوعات (وإن جهلت) صفته، (فللوجوب في الأصح) في حقه وحقنا، لأنه الأحوط، وقيل للندب لأنه المتحقق بعد الطلب، وقيل للإباحة لأن الأصل عدم الطلب، وقيل بالوقف في الكل لتعارض الأدلة، وقيل في الأولين فقط مطلقا، لأنهما الغالب من فعل النبي، وقيل فيهما إن ظهر قصد القربة، وإلا فللإباحة. وسواء على غير هذا القول أظهر قصد القربة أم لا. ومجامعة القربة للإباحة بأن يقصد بفعل المباح بيان الجواز للأمة فيثاب على هذا القصد.
(وإذا تعارض الفعل والقول) أي تخالفا بتخالف مقتضيهما (ودل دليل على تكرر مقتضاه) أي القول. (فإن اختص) القول (به) صلى الله عليه وسلّم، كأن قال يجب عليّ صوم عاشوراء في كل سنة، وأفطر في سنة بعد القول أو قبله. (فالمتأخر) من الفعل، والقول بأن علم (ناسخ) للمتقدم منهما في حقه، فإن لم يدل دليل على تكرر ما ذكر في هذا القسم وقسيميه الاثنين، فلا نسخ لكن في تأخر الفعل لا في تقدمه لدلالته على الجواز المستمرّ. (فإن جهل) المتأخر منهما. (فالوقف) عن ترجيح أحدهما على الآخر في حقه إلى تبين التاريخ (في الأصح) لاستوائهما في احتمال تقدم كل منهما على الآخر، وقيل يرجح القول، وعزى إلى الجمهور لأنه أقوى دلالة من الفعل لوضعه لها. والفعل إنما يدل بقرينة لأن له محامل، وقيل يرجح الفعل لأنه أقوى بيانا بدليل أنه يبين به القول. قلنا البيان بالقول أكثر، ولو سلم تساويهما، لكن البيان بالقول أقوى دلالة كما مر، ولأنه لا يختص بالموجود المحسوس، ولأن دلالته متفق عليها بخلاف الفعل في ذلك. (ولا تعارض) في حقنا حيث دل دليل على تأسينا به في الفعل لعدم تناول القول لنا. (وإن اختصّ) القول (بنا) كأن قال يجب عليكم صوم عاشوراء إلى آخر ما مرّ. (فلا تعارض فيه) أي في حقه صلى الله عليه وسلّم بين الفعل والقول لعدم تناوله له. (وفينا المتأخر) منهما بأن علم (ناسخ) للمتقدم. (إن دلّ دليل على تأسينا) به في الفعل (فإن جهل) المتأخر (عمل بالقول في الأصح) وقيل بالفعل، وقيل الوقف لما مرّ، وإنما اختلف التصحيح في المسألتين لأنا متعبدون فيما يتعلق بنا بالعلم بحكمه لنعمل به بخلاف ما يتعلق به، إذ لا ضرورة إلى الترجيح فيه، فإن لم يدل دليل على تأسينا به في الفعل فلا تعارض في حقنا لعدم ثبوت حكم الفعل في حقنا. (وإن عمنا وعمه) القول كأن قال يجب عليّ وعليكم صوم عاشوراء إلى آخر ما مرّ. (فحكمهما) أي الفعل والقول. (كما مرّ) من أن المتأخر منهما إن علم ناسخ للمتقدم في حقه، وكذا في حقنا إن دلّ دليل على تأسينا به في الفعل، وإلا فلا تعارض في حقنا، وإن جهل المتأخر فالأصح في حقه الوقف، وفي حقنا تقدم القول. (إلا أن يكون) القول (العام ظاهرا فيه) صلى الله عليه وسلّم لا نصا، كأن قال يجب على كل مكلف صوم عاشوراء إلى آخر ما مرّ. (فالفعل مخصص) للقول في حقه تقدم عليه أو تأخر عنه أو جهل ذلك، ولا نسخ لأن التخصيص أهون منه لما فيه من إعمال الدليلين بخلاف النسخ، نعم لو تأخر الفعل عن العمل بمقتضى القول فهو ناسخ كما مرّ آخر التخصيص، ولو لم يكن القول ظاهرا في الخصوص ولا في العموم، كأن قال صوم عاشوراء واجب في كل سنة، فالظاهر أنه كالعام لأن الأصل عدم الخصوص، أما تعارض القولين فسيأتي في التعادل والترجيح، وأما الفعلان فلا يتعارضان كما جزم به ابن الحاجب وغيره لجاز أن يكون الفعل في ووقت واجبا وفي آخر بخلافه، لأن الأفعال لا عموم لها.

.الكلام في الأخبار:

بفتح الهمزة جمع خبر وهو يطلق على صيغته وعلى معناها، وهو المعنى القائم بالنفس، ولما كان الخبر مما يصدق به المركب بدأت كالأصل به تكثيرا للفائدة فقلت (المركب) من اللفظ (إما مهمل) بأن لا يكون له معنى. (وليس موضوعا) اتفاقا، (وهو موجود في الأصح)، كمدلول لفظ الهذيان فإنه لفظ مركب مهمل كضرب من الهوس أو غيره مما لا يقصد به الدلالة على شيء، ونفاه الإمام الرازي قائلًا إن التركيب إنما يصار إليه للإفادة، فحيث انتفت انتفى فمرجع خلافه إلى أن مثل ما ذكر لا يسمى مركبا. (أو مستعمل)، بأن يكون له معنى (والمختار أنه موضوع) أي بالنوع، وقيل لا. والموضوع مفرداته والمركب المستعمل المفيد يعبر عنه بالكلام. (والكلام اللساني لفظ تضمن إسنادا مفيدا مقصودا لذاته) فخرج الخط والرمز والعقد والإشارة والنصب والمفرد كزيد وغير المفيد كالنار حارّة، وتكلم رجل ورجل يتكلم، وغير المقصود كالصادر من نائم، والمقصود لغيره كصلة الموصول نحو جاء الذي قام أبوه، فإنها مفيدة بالضم إليه مع ما معه مقصودة لإيضاح معناه (و) الكلام (النفساني معنى في النفس) أي قام بها. (يعبر عنه باللساني) أي بما صدقاته، وهذا من زيادتي. (والأصح عندنا أنه) أي الكلام (مشترك) بين اللساني والنفساني، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة. قال الإمام الرازي وعليه المحققون منا. وقيل إنه حقيقة في النفساني مجاز في اللساني، واختاره الأصل قال الأخطل:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقالت المعتزلة إنه حقيقة في اللساني لتبادره إلى الأذهان دون النفساني الذي أثبته الأشاعرة دون المعتزلة. ويجاب عما قاله الأخطل بأن مراده الكلام الأصلي، فالكلام اللساني ليس أصليا، وإن كان حقيقة، ودليلًا على الأصل، وعما قاله المعتزلة بأن تبادر الشيء وإن كان علامة للحقيقة لا بمنع كون ما انتفى فيه التبادر حقيقة أيضا، لأن العلامة لا يشترط فيها الانعكاس، والنفساني منسوب إلى النفس بزيادة ألف ونون للدلالة على العظمة، كما في قولهم شعراني لعظيم الشعر.
(والأصولي إنما يتكلم فيه) أي في اللساني لأن بحثه فيه لا في المعنى النفسي. (فإن أفاد) أي ما صدق اللساني (بالوضع طلبا فطلب ذكر الماهية) أي فاللفظ المفيد لطلب ذكرها أي ذاتا أو صفة. (استفهام) نحو ما هذا ومن ذا أزيد أم عمرو. (و) طلب (تحصيلها أو تحصيل الكف عنها) أي اللفظ المفيد لذلك. (أمر ونهي) نحو قم ولا تقم (ولو) كان تحصيل ذلك طلب (من ملتمس) أي مساوٍ لمطلوب منه رتبة. (وسائل) أي دون المطلوب منه رتبة فإن اللفظ المفيد لذلك منهما يسمى أمرا ونهيا، وقيل لا بل يسمى من الأول التماسا، ومن الثاني سؤالًا وإلى الخلاف أشرت بقولي ولو إلى آخره. (وإلا) أي وإن لم يفد بالوضع طلبا. (فما لا يحتمل) منه (صدقا وكذبا) في مدلوله (تنبيه وإنشاء) أي يسمى بكل منهما سواء أفاد طلبا باللازم كالتمني والترجي نحو ليت الشباب يعود لعلّ الله يعفو عني أم لم يفد طلبا نحو أنت طالق. (ومحتملهما) أي الصدق والكذب من حيث هو (خبر). وقد يقطع بصدقه أو كذبه لأمور خارجة عنه كما سيأتي، وأبى قوم كما قاله الأصل تعريف الخبر كما أبوا تعريف العلم والوجود والعدم. قيل لأن كلًّا منها ضروري فلا حاجة إلى تعريفه، وقيل لعسر تعريفه. (وقد يقال) هو للبيانيين. (الإنشاء ما) أي كلام (يحصل به مدلوله في الخارج) كأنت طالق. وقم ولا تقم، فإن مدلولها من إيقاع الطلاق وطلب القيام وعدمه يحصل به لا بغيره، فالإنشاء بهذا المعنى أعم منه بالمعنى الأول لشموله الطلب بأقسامه السابقة بخلافه بالمعنى الأول، فإنه قسيم للطلب بالوضع وللخبر فلا يشمل الاستفهام والأمر والنهي. (والخبر خلافه) أي ما يحصل بغيره مدلوله في الخارج بأن يكون له خارج صدق أو كذب نحو قام زيد فإن مدلوله أي مضمونه من قيام زيد يحصل بغيره، وهو محتمل لأن يكون واقعا في الخارج فيكون هو صدقا وغير واقع فيكون هو كذبا. (ولا مخرج له) أي للخبر من حيث مضمونه (عن الصدق والكذب لأنه إما مطابق للخارج).
فالصدق (أولًا) فالكذب (فلا واسطة) بينهما (في الأصح) وقيل بها. وفي القول بها أقوال منها قول عمرو بن بحر الجاحظ الخبر إن طابق الخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة فصدق أو لم يطابقه مع اعتقاد عدمها فكذب، وما سواهما واسطة بينهما وهو أربعة أن ينتفي اعتقاده المطابقة في المطابق بأن يعتقد عدمها أو لم يعتقد شيئا، وأن ينتفي اعتقاده عدمها في غير المطابق بأن يعتقدها أو لم يعتقد شيئا.
(ومدلول الخبر) في الإثبات أي مدلول ما صدقه (ثبوت النسبة) في الخارج كقيام زيد في قام زيد، وهذا ما رجحه السعد التفتازاني وردّ ما عداه. (إلا الحكم بها). وقيل هو الحكم بها ورجحه الأصل وفاقا للإمام الرازي مع مخالفته له في الكتاب الأول، حيث جعل ثم مدلول اللفظ المعنى الخارجي دون المعنى الذهني خلافا للإمام، إلا أن يقال ما ذكر ثمّ في غير لفظ الخبر ونحوه ويقاس بالخبر في الإثبات الخبر في النفي، فيقال مدلوله انتفاء النسبة لا الحكم به، ثم ما ذكر لا ينافي ما حققه المحققون من أن مدلول الخبر أي ما صدقه هو الصدق والكذب إنما هو احتمال عقلي. (ومورد الصدق والكذب) في الخبر (النسبة التي تضمنها فقط) أي دون غيرها. (كقيام زيد في قام زيد بن عمرو لا بنوّته) لعمرو أيضا، فمورد الصدق والكذب في الخبر المذكور النسبة، وهي قيام زيد لا بنوّته لعمرو فيه أيضا إذ لم يقصد به الإخبار بها. فالشهادة بتوكيل فلان بن فلان فلانا شهادة بالتوكيل فقط أي دون نسب الموكل كما هو قول عندنا وقال به الإمام مالك. (و) لكن (الراجح) عندنا أنها شهادة (بالنسب) للموكل (ضمنا وبالتوكيل أصلًا) لتضمن ثبوت التوكيل المقصود لثبوت نسب الموكل لغيبته عن مجلس الحكم.