فصل: باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلًا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين‏)‏ أي هل يشترط قطعهما أو لا‏؟‏ وأورد فيه حديث ابن عمر في ذلك وحديث ابن عباس، وقد تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب ‏"‏ ووقع في رواية أبي زيد المروزي ‏"‏ عن سالم بن عبد الله بن عمر سئل رسول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال الجباني‏:‏ الصواب ما رواه ابن السكن وغيره فقالوا ‏"‏ عن سالم عن ابن عمر ‏"‏ قلت‏:‏ تصحفت ‏"‏ عن ‏"‏ فصارت ابن‏.‏

وقوله في حديث ابن عباس ‏"‏ ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم ‏"‏ أي هذا الحكم للمحرم لا الحلال، فلا يتوقف جواز لبسه السراويل على فقد الإزار‏.‏

قال القرطبي‏:‏ أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد فأجاز لبس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإزار على حالهما‏.‏

واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السراويل، فلو لبس شيئا منهما على حاله لزمته الفدية، والدليل ثم قوله في حديث ابن عمر ‏"‏ وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ‏"‏ فيحمل المطلق على المقيد ويلحق النظير بالنظير لاستوائهما في الحكم‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ الأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف‏.‏

انتهى‏.‏

والأصح عند الشافعية والأكثر جواز لبس السراويل بغير فتق كقول أحمد، واشترط الفتق محمد ابن الحسن وإمام الحرمين وطائفة، وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقا، ومثله عن مالك وكأن حديث ابن عباس لم يبلغه، ففي الموطأ أنه سئل عنه فقال‏:‏ لم أسمع بهذا الحديث‏.‏

وقال الرازي من الحنفية‏:‏ يجوز لبسه وعليه الفدية كما قاله أصحابهم في الخفين، ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارا لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار‏.‏

*3*باب إِذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس وقد تقدم البحث فيه في الباب الذي قبله، وجزم المصنف بالحكم في هذه المسألة دون التي قبلها لقوة دليلها وتصريح المخالف بأن الحديث لم يبلغه فيتعين على من بلغه العمل به‏.‏

*3*باب لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ

وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لبس السلاح للمحرم‏)‏ أي إذا احتاج إلى ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عكرمة إذا خشي العدو لبس السلاح وافتدى‏)‏ أي وجبت عليه الفدية، ولم أقف على أثر عكرمة هذا موصولا‏.‏

وقوله ‏"‏ولم يتابع عليه في الفدية ‏"‏ يقتضي أنه توبع على جواز لبس السلاح الخشية وخولف في وجوب الفدية، وقد نقل ابن المنذر عن الحسن أنه كره أن يتقلد المحرم السيف، وقد تقدم في العيدين قول ابن عمر للحجاج ‏"‏ أنت أمرت بحمل السلاح في الحرم ‏"‏ وقوله له ‏"‏ وأدخلت السلاح في الحرم ولم يكن السلاح يدخل فيه ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ أمرت بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله ‏"‏ وتقدم الكلام على ذلك مستوفى في ‏"‏ باب من كره حمل السلاح في العيد ‏"‏ وذكر من روى ذلك مرفوعا‏.‏

ثم أورد المصنف في الباب حديث البراء في عمرة القضاء مختصرا، وسيأتي بتمامه في كتاب الصلح عن عبيد الله ابن موسى بإسناده هذا، ووهم المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ فزعم أن البخاري أخرجه في الحج بطوله وليس كذلك‏.‏

*3*باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ

وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام‏)‏ هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بمكة هنا البلد فيكون الحرم أعم‏.‏

قوله ‏(‏ودخل ابن عمر‏)‏ وصله مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن نافع قال ‏"‏ أقبل عبد الله بن عمر من مكة حتى إذا كان بقديد - يعني بضم القاف - جاءه خبر عن الفتنة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ولم يذكر الحطابين وغيرهم‏)‏ هو من كلام المصنف، وحاصله أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة، واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس ‏"‏ ممن أراد الحج والعمرة ‏"‏ فمفهومه أن المتردد إلى مكة - لغير قصد الحج والعمرة - لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا، وفي قول يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب وأولى بعدم الوجوب، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب‏.‏

وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب‏.‏

ثم أورد المصنف في الباب حديثين، أحدهما‏:‏ حديث ابن عباس وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت‏.‏

الثاني‏:‏ حديث أنس في المغفر وقد اشتهر عن الزهري عنه، ووقع لي من رواية يزيد الرقاشي عن أنس في ‏"‏ فوائد أبي الحسن الفراء الموصلي‏"‏‏.‏

وفي الإسناد إلى يزيد مع ضعفه ضعف، وقيل إن مالكا تفرد به عن الزهري، وممن جزم بذلك ابن الصلاح في ‏"‏ علوم الحديث ‏"‏ له في الكلام على الشاذ، وتعقبه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي بأنه ورد من طريق ابن أخي الزهري وأبي أويس ومعمر والأوزاعي وقال‏:‏ إن رواية ابن أخي الزهري عند البزار ورواية أبي أويس عند ابن سعد وابن عدي وأن رواية معمر ذكرها ابن عدي وأن رواية الأوزاعي ذكرها المزني ولم يذكر شيخنا من أخرج روايتهما، وقد وجدت رواية معمر في ‏"‏ فوائد ابن المقري ‏"‏ ورواية الأوزاعي في ‏"‏ فوائد تمام‏"‏‏.‏

ثم نقل شيخنا عن ابن مسدي أن ابن العربي قال حين قبل له لم يروه إلا مالك‏:‏ قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، وأنه وعد بإخراج ذلك ولم يخرج شيئا، وأطال ابن مسدي في هذه القصة وأنشد فيها شعرا، وحاصلها أنهم اتهموا ابن العربي في ذلك ونسبوه إلى المجازفة‏.‏

ثم شرع ابن مسدي يقدح في أصل القصة ولم يصب في ذلك، فراوي القصة عدل متقن، والذين اتهموا ابن العربي في ذلك هم الذين أخطئوا لقلة اطلاعهم، وكأنه بخل عليهم بإخراج ذلك لما ظهر له من إنكارهم وتعنتهم، وقد تتبعت طرقه حتى وقفت على أكثر من العدد الذي ذكره ابن العربي ولله الحمد فوجدته من رواية اثني عشر نفسا غير الأربعة التي ذكرها شيخنا وهم‏:‏ عقيل في ‏"‏ معجم ابن جميع‏"‏، ويونس بن يزيد في ‏"‏ الإرشاد ‏"‏ للخليلي وابن أبي حفص في ‏"‏ الرواة عن مالك للخطيب‏"‏، وابن عيينة في ‏"‏ مسند أبي يعلى ‏"‏ وأسامة بن زيد في ‏"‏ تاريخ نيسابور‏"‏، وابن أبي ذئب في ‏"‏ الحلية‏"‏، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي في ‏"‏ أفراد الدار قطني ‏"‏ وعبد الرحمن ومحمد ابنا عبد العزيز الأنصاريان في ‏"‏ فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني‏"‏، وابن إسحاق في ‏"‏ مسند مالك لابن عدي‏"‏، وبحر السقاء ذكره جعفر الأندلسي في تخريجه للجيزي بالجيم والزاي، وصالح بن أبي الأخضر ذكره أبو ذر الهروي عقب حديث يحيى بن قزعة عن مالك والمخرج عند البخاري في المغازي، فتبين بذلك أن إطلاق ابن الصلاح متعقب، وأن قول ابن العربي صحيح، وأن كلام من اتهمه مردود، ولكن ليس في طرقه شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقرنها رواية ابن أخي الزهري فقد أخرجها النسائي في ‏"‏ مسند مالك ‏"‏ وأبو عوانة في صحيحه، وتليها رواية أبي أويس أخرجها أبو عوانة أيضا وقالوا إنه كان رقيق مالك في السماع عن الزهري، فيحمل قول من قال انفرد به مالك - أي بشرط الصحة - وقول من قال توبع أي في الجملة‏.‏

وعبارة الترمذي سالمة من الاعتراض فإنه قال بعد تخريجه‏:‏ حسن صحيح غريب لا يعرف كثير أحد رواه غير مالك عن الزهري فقوله ‏"‏ كثير ‏"‏ يشير إلي أنه توبع في الجملة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ اقْتُلُوهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية أبي أويس عند ابن سعد ‏"‏ أن أنس بن مالك حدثه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عام الفتح وعلى رأسه المغفر‏)‏ بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء‏:‏ زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل هو رفرف البيضة قاله في ‏"‏ المحكم‏"‏‏.‏

وفي ‏"‏ المشارق ‏"‏ هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة‏.‏

وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك ‏"‏ يوم الفتح وعليه مغفر من حديد ‏"‏ أخرجه الدار قطني في ‏"‏ الغرائب ‏"‏ والحاكم في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ وكذا هو في رواية أبي أويس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما نزعه جاءه رجل‏)‏ لم أقف على اسمه، إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله، وقد جزم الفاكهي في ‏"‏ شرح العمدة ‏"‏ بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأي أنه هو الذي جاء مخبرا بقصته، ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي ‏"‏ فقال اقتله ‏"‏ بصيغة الإفراد‏.‏

على أنه اختلف في اسم قاتله، ففي حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطني والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا حرم‏:‏ الحويرث بن نقيد بالنون والقاف مصغر، وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح قال فأما هلال بن خطل فقتله الزبير ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ نحوه لكن قال ‏"‏ أربعة نفر وامرأتين فقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ‏"‏ فذكرهم لكن قال عبد الله ابن خطل بدل هلال‏.‏

وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين وقال ‏"‏ فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جلد نحوه‏.‏

وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في الدلائل من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس ‏"‏ أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس‏:‏ عبد العزى بن خطل، ومقيس ابن صبابة الكناني، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة‏.‏

فأما عبد العزى بن خطل فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة ‏"‏ وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي ‏"‏ أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ‏"‏ وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في ‏"‏ البر والصلة ‏"‏ من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذؤيب، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل‏.‏

وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد قال ‏"‏ فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة بقتل بن المقام وزمزم‏"‏‏.‏

وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس‏:‏ ستة رجال وأربع نسوة‏.‏

والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله ‏"‏ من دخل المسجد فهو آمن ‏"‏ ما روى ابن إسحاق في المغازي ‏"‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال‏:‏ لا يقتل أحد من قاتل، إلا نفرا سماهم فقال‏:‏ اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلما، فنزل منزلا، فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال‏:‏ قال مولى ابن عباس‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار ورجلا من مزينة وابن خطل وقال‏:‏ أطيعا الأنصاري حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاري وهرب المزني‏.‏

وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح‏.‏

ومن النفر الذين كان أهدر دمهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح غير من تقدم ذكره هبار بن الأسود وعكرمة ابن أبي جهل كعب بن زهير ووحشي بن حرب وأسيد بن إياس بن أبي زنيم وقينتا ابن خطل وهند بنت عتبة‏.‏

والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزى فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال، بين ذلك الكلبي في النسب، وقيل هو عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب‏.‏

وهذا الحديث ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره المصنف في المغازي عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث‏.‏

قال مالك‏:‏ ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فما نرى - والله أعلم - يومئذ محرما ا ه‏.‏

وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به، أخرجه الدار قطني في ‏"‏ الغرائب‏"‏‏.‏

ووقع في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك ‏"‏ قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما ‏"‏ وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ ‏"‏ دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام ‏"‏ وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال ‏"‏ لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة ‏"‏ وزعم الحاكم في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة، وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حديث عمرو بن حريث ‏"‏ أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء ‏"‏ أخرجه مسلم أيضا، وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول، وهذا الجمع لعياض‏.‏

وقال غيره‏:‏ يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم، وبهذا يندفع إشكال من قال‏:‏ لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام لاحتمال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان محرما ولكنه غطى رأسه لعذر، فقد اندفع ذلك بتصريح جابر بأنه لم يكن محرما، لكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه صلى الله عليه وسلم كان متأهبا للقتال ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله، وأما من قال من الشافعية كابن القاص‏:‏ دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر، لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، لكن زعم الطحاوي أن دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي شريح وغيره إنها لم تحل له إلا ساعة من نهار، وأن المراد بذلك جواز دخولهما له بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين قتالهم قتلهم فيها وقد عكس استدلاله النووي فقال‏:‏ في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة، فبطل ما صوره الطحاوي‏.‏

وفي دعواه الإجماع نظر فإن الخلاف ثابت كما تقدم، وقد حكاه القفال والماوردي وغيرهما، واستدل بحديث الباب على أنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة، وأجاب النووي بأنه صلى الله عليه وسلم كان صالحهم، لكن لما لم يأمن غدرهم دخل متأهبا، وهذا جواب قوي إلا أن الشأن في ثبوت كونه صالحهم فإنه لا يعرف في شيء من الأخبار صريحا كما سيأتي إيضاحه في الكلام على فتح مكة من المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

واستدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، قال ابن عبد البر‏:‏ كان تل ابن خطل قودا من قتله المسلم‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب‏.‏

وقال النووي‏:‏ تأول من قال لا يقتل فيها على أنه صلى الله عليه وسلم قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك‏.‏

انتهى‏.‏

وتعقب بما تقدم في الكلام على حديث أبي شريح أن المرد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعا لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر وذلك عند استقراره بمكة، وقد قال ابن خزيمة‏:‏ المراد بقوله في حديث ابن عباس ‏"‏ ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري ‏"‏ أي قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ابن خطل ومن ذكر معه‏.‏

قال‏:‏ وكان الله قد أباح له القتال والقتل معا في تلك الساعة، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال‏.‏

واستدل به على جواز قتل الذي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر كما قاله ابن عبد البر لأن ابن خطل كان حربيا ولم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانة لأهل مكة، بل استثناه مع من استثني وخرج أمره بقتله مع أمانة لغيره مخرجا واحدا، فلا دلالة فيه لما ذكره‏.‏

انتهى ويمكن أن يتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييد بكونه ذميا، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم أن سبب قتله السب، واستدل به على جواز قتل الأسير صبرا لأن القدرة على ابن خطل صيرته كالأسير في يد الإمام وهو مخير فيه بين القتل وغيره لكن قال الخطابي إنه صلى الله عليه وسلم قتله بما جناه في الإسلام‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ قتله قودا من دم المسلم الذي غدر به وقتله ثم ارتد كما تقدم‏.‏

واستدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام، ترجم بذلك أبو داود‏.‏

وفيه مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو وأنه لا ينافي التوكل، وقد تقدم في ‏"‏ باب متى يحل للمعتمر ‏"‏ من أبواب العمرة من حديث عبد الله بن أبي أوفى ‏"‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل مكة طاف وطفنا معه ومعه من يستره من أهل مكة أن يرميه أحد ‏"‏ الحديث، وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان حينئذ محرما فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك‏.‏

وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة ولا النميمة‏.‏

*3*باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلًا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ

وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أحرم جاهلا وعليه قميص‏)‏ أي هل يلزمه فدية أو لا‏؟‏ وإنما لم يجزم بالحكم لأن حديث الباب لا تصريح فيه بإسقاط الفدية، ومن ثم استظهر المصنف للراجح بقول عطاء راوي الحديث كأنه يشير إلى أنه أو كانت الفدية واجبة لما خفيت عن عطاء وهو راوي الحديث‏.‏

قال ابن بطال وغيره‏:‏ وجه الدلالة منه أنه لو لزمته الفدية لبينها صلى الله عليه وسلم لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وفرق مالك - فيمن تطيب أو لبس ناسيا - بين من بادر فنزع وغسل وبين من تمادى، والشافعي أشد موافقة للحديث لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية، وقول مالك فيه احتياط، وأما قول الكوفيين والمزني مخالف هذا الحديث‏.‏

وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم ولهذا انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الوحي‏.‏

قال‏:‏ ولا خلاف أن التكليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى، بخلاف من لبس الآن جاهلا فإنه جهل حكما استقر وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفا به وقد تمكن من تعلمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عطاء الخ‏)‏ ذكره ابن المنذر في الأوسط ووصله الطبراني في الكبير، وأما حديث يعلى فقد تقدم الكلام عليه مستوفى في ‏"‏ باب غسل الخلوق ‏"‏ في أوائل الحج‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فِيهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي تُحِبُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ تَرَاهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ وَعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ يَعْنِي فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله في الإسناد ‏(‏صفوان بن يعلى بن أمية قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا وقع في رواية أبي ذر وهو تصحيف، والصواب ما ثبت في رواية غيره ‏"‏ صفوان بن يعلى أبيه ‏"‏ فتصحفت ‏"‏ عن ‏"‏ فصارت ابن و ‏"‏ أبيه ‏"‏ فصارت أمية، أو سقط من السند عن أبيه، وليست لصفوان صحة ولا رواية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعض رجل يد رجل‏)‏ هذا حديث آخر وسيأتي مبسوطا مع الكلام عليه في أبواب الدية إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ

وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج‏)‏ يعني لم ينقل ذلك‏.‏

وذكر فيه حديث ابن عباس في الرجل المحرم الذي وقع عن بعيره بعرفة فمات، وقد تقدم التنبيه عليه في ‏"‏ باب ما ينهى عن الطيب محرم ‏"‏ وأورده المصنف من حديث حماد بن زيد عن عمرو ابن دينار وعن أيوب فرقهما كلاهما عن سعيد بن جبير، ووقع في رواية عمرو ‏"‏ فوقصته أو قال فأقعصته ‏"‏ وفي رواية أيوب ‏"‏ فوقصته أو قال فأوقصته ‏"‏ وكلها بمعنى، وزاد في رواية أيوب ‏"‏ ولا تمسوه طيبا ‏"‏ والباقي سواء‏.‏

وقد وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن علية في هذا الحديث عن أيوب قال ‏"‏ نبئت عن سعيد بن حبير ‏"‏ فالله أعلم‏.‏

*3*باب سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب سنة المحرم إذا مات‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور من وجه آخر ‏"‏ عن سعيد ابن جبير ‏"‏ وقد سبق‏.‏

*3*باب الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الحج والنذور عن الميت‏)‏ كذا ثبت للأكثر بلفظ الجمع‏.‏

وفي رواية النسفي ‏"‏ النذر ‏"‏ بالإفراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والرجل يحج عن المرأة‏)‏ يعني أن حديث الباب يستدل به على الحكمين، وفيه على الحكم الثاني نظر، لأن لفظ الحديث ‏"‏ أن امرأة سألت عن نذر كان على أبيها ‏"‏ فكان حق الترجمة أن يقول والمرأة تحج عن الرجل، وأجاب ابن بطال بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء وهو قوله ‏"‏ اقضوا الله ‏"‏ قال‏:‏ ولا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح‏.‏

انتهى‏.‏

والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى رواية شعبة عن أبي بشر في هذا الحديث فإنه قال فيها ‏"‏ أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أختي نذرت أن تحج ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فاقض الله فهو أحق بالقضاء‏"‏‏.‏

أخرجه المصنف في كتاب النذور، وكذا أخرجه أحمد والنسائي من طريق شعبة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن امرأة من جهينة‏)‏ لم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها، لكن روى ابن وهب عن عثمان ابن عطاء الخراساني عن أبيه ‏"‏ أن غاثية أو غاثية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة، فقال اقض عنها‏"‏‏.‏

أخرجه ابن مندة في حرف الغين المعجمة من الصحابيات، وتردد هل هي بتقديم المثناة التحتانية على المثلثة أو بالعكس، وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم الجهينية المذكورة في حديث الباب‏.‏

وقد روى النسائي وابن خزيمة وأحمد من طريق موسى بن سلمة الهذلي عن ابن عباس قال ‏"‏ أمرت امرأة سنان بن عبد الله الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمها توفيت ولم تحج ‏"‏ الحديث لفظ أحمد، ووقع عند النسائي ‏"‏ سنان بن سلمة ‏"‏ والأول أصح، وهذا لا يفسر به المبهم في حديث الباب أن المرأة سألت بنفسها وفي هذا أن زوجها سأل لها، ويمكن الجمع بأن يكون نسبة السؤال إليها مجازية وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها، وغايته أنه في هذه الرواية لم يصرح بأن الحجة المسئول عنها كانت نذرا، وأما ما روى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرا، الحديث‏.‏

فإن كان محفوظا حمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة، وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، ويفسر من في حديث الباب بأنها عمة سنان واسمها غايثة كما تقدم، ولم تسم المرأة ولا العمة ولا أم واحدة منهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أمي نذرت أن تحج‏)‏ كذا رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من رواية أبي عوانة عنه، وسيأتي في النذور من طريق شعبة عن أبي بشر بلفظ ‏"‏ أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت ‏"‏ فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته والبنت سألت عن أمها، وسيأتي في الصيام من طريق أخرى عن سعيد بن جبير بلفظ ‏"‏ قالت امرأة إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ‏"‏ وسيأتي بسط القول فيه هناك‏.‏

وزعم بعض المخالفين أنه اضطراب يعل به الحديث، وليس كما قال، فإنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة ‏"‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت، قال‏:‏ وجب أجرك وردها عليك الميراث‏.‏

قالت‏:‏ إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها‏؟‏ قال‏:‏ صومي عنها‏.‏

قالت إنها لم تحج أفأحج عنها‏؟‏ قال‏:‏ حجي عنها‏"‏‏.‏

وللسؤال عن قصة الحج من حديث ابن عباس أصل آخر أخرجه النسائي من طريق سليمان بن يسار عنه، وله شاهد من حديث أنس عند البزار والطبراني والدار قطني واستدل به على صحة نذر الحج ممن لم يحج فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور وعليه الحج عن النذر، وقيل يجزئ عن النذر ثم يحج حجة الإسلام، وقيل يجزئ عنهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال نعم حجي عنها‏)‏ في رواية موسى بن سلمة ‏"‏ أفيجزئ عنها أن أحج عنها‏؟‏ قال نعم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرأيت الخ‏)‏ فيه مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه‏.‏

وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتبت على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه‏.‏

وفيه أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلوما عندهم مقررا ولهذا حسن الإلحاق به‏.‏

وفيه إجزاء الحج عن الميت، وفيه اختلاف‏:‏ فروى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن مالك والليث، وعن مالك أيضا إن أوصى بذلك فليحج عنه وإلا فلا، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أكنت قاضيته‏)‏ كذا للأكثر بضمير يعود على الدين، وللكشميهني قاضية بوزن فاعلة على حذف المفعول‏.‏

وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء، ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك‏.‏

وفي قوله ‏"‏ فالله أحق بالوفاء ‏"‏ دليل على أنه مقدم على دين الآدمي، وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس، وقيل هما سواء‏.‏

قال الطيبي‏:‏ في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالا فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية‏.‏

قلت‏:‏ ولم يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالا كما زعم، لأن قوله ‏"‏ أكنت قاضيته ‏"‏ أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعا‏.‏

*3*باب الْحَجِّ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة‏)‏ أى من الأحياء، خلافا لمالك في ذلك ولمن قال لا يحج أحد عن أحد مطلقا كابن عمر‏.‏

ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي، وعن أحمد روايتان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ امْرَأَةً ح حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن شهاب عن سليمان‏)‏ في رواية الترمذي من طريق روح عن ابن جريج ‏"‏ أخبرني ابن شهاب حدثني سليمان بن يسار‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن عباس‏)‏ في رواية شعيب الآتية في الاستئذان عن ابن شهاب ‏"‏ أخبرني سليمان أخبرني عبد الله بن عباس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الفضل بن عباس‏)‏ كذا قال ابن جريج وتابعه معمر، وخالفهما مالك وأكثر الرواة عن الزهري فلم يقولوا فيه عن الفضل، وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه ‏"‏ عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف الخثعمي قال‏:‏ قلت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج ‏"‏ الحديث‏.‏

قال الترمذي‏:‏ سألت محمدا يعني البخاري عن هذا فقال‏:‏ أصح شيء فيه ما روى ابن عباس عن الفضل قال‏:‏ فيحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم رواه بغير واسطة، ا ه‏.‏

وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان ابن عباس قد تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة كما سيأتي بعد باب، وقد سبق في ‏"‏ باب التلبية والتكبير ‏"‏ من طريق عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فأخبر الفضل أعمه لم يزل يلبي حتى رمي الجمرة، فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة‏.‏

ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة فحضره ابن عباس فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة وتارة عما شاهده، ويؤيد ذلك ما وقع عند الترمذي وأحمد وابنه عبد الله والطبري من حديث على مما يدل على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي وأن العباس كان شاهدا، ولفظ أحمد عندهم من طريق عبيد الله ابن أبي رافع عن على قال ‏"‏ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال‏:‏ هذه عرفة وهو الموقف ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال‏:‏ هذا المنحر وكل متى منحر، واستفتته ‏"‏ وفي رواية عبد الله ‏"‏ ثم جاءته جارية شابة من خثعم فقالت‏:‏ إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ أن أحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ حجي عن أبيك‏.‏

قال ولوى عنق الفضل فقال العباس‏:‏ يا رسول الله لويت عنق ابن عمك‏.‏

قال‏:‏ رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان ‏"‏ وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يسق المصنف لفظ رواية ابن جريج، بل تحول إلى إسناد عبد العزيز بن أبي سلمة وساق الحديث على لفظه كعادته، وبقية حديث ابن جريح ‏"‏ أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يركب البعير، أفأحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ حجي عنه ‏"‏ أخرجه أبو مسلم الكجي عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه، والطبراني عن أبي مسلم كذلك، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن جريج فقال ‏"‏ إن امرأة من خثعم قالت‏:‏ يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عام حجة الوداع‏)‏ في رواية شعيب الآتية في الاستئذان ‏"‏ يوم النحر ‏"‏ وللنسائي من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب ‏"‏ غداة جمع ‏"‏ وسيأتي بقية الكلام عليه في الباب الذي بعده‏.‏

*3*باب حَجِّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حج المرأة عن الرجل‏)‏ تقدم نقل الخلاف فيه قبل باب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان الفضل‏)‏ يعني ابن عباس، وهو أخو عبد الله وكان أكبر ولد العباس وبه كان يكني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رديف‏)‏ زاد شعيب ‏"‏ على عجز راحلته‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاءته امرأة من خثعم‏)‏ بفتح المعجمة وسكون المثلثة قبيلة مشهورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعل الفضل ينظر إليها‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ وكان الفضل رجلا وضيئا - أي جميلا - وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يصرف وجه الفضل‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فدفع وجهه عن النظر إليها ‏"‏ وهذا هو المراد بقوله في حديث على ‏"‏ فلوى عنق الفضل ‏"‏ ووقع في رواية الطبري في حديث على ‏"‏ وكان الفضل غلاما جميلا، فإذا جاءت الجارية من هذا الشق صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر، فإذا جاءت إلى الشق الآخر صرف وجهه عنها - وقال في آخره - رأيت غلاما حدثا وجارية حدثه فخشيت أن يدخل بنيهما الشيطان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن فريضة الله أدراكت أبي شيخا كبيرا‏)‏ في رواية عبد العزيز وشعيب ‏"‏ أن فريضة الله على عباده في الحج ‏"‏ وفي رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار ‏"‏ أن أبي أدركه الحج‏"‏، واتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب على أن السائلة كانت امرأة وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفق الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه، أما إسناده فقال هشيم عنه ‏"‏ عن سليمان عن عبد الله بن عباس ‏"‏ وقال محمد بن سيرين عنه ‏"‏ عن سليمان عن الفضل ‏"‏ أخرجهما النسائي‏.‏

وقال ابن علية عنه ‏"‏ عن سليمان حدثني أحد ابني العباس إما الفضل وإما عبد الله ‏"‏ أخرجه أحمد‏.‏

وأما المتن فقال هشيم ‏"‏ أن رجلا سأل فقال‏:‏ إن أبي مات ‏"‏ وقال ابن سيرين ‏"‏ فجاء رجل فقال‏:‏ إن أمي عجوز كبيرة ‏"‏ وقال ابن علية ‏"‏ فجاء رجل فقال‏:‏ إن أبي أو أمي ‏"‏ وخالف الجميع معمر عن يحيى بن أبي إسحاق فقال في روايته ‏"‏ إن امرأة سألت عن أمها ‏"‏ وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار، فأحببنا أن ننظر في سياق غيره فإذا كريب قد رواه عن ابن عباس عن حصين بن عوف الخثعمي قال ‏"‏ قلت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ‏"‏ وإذا عطاء الخراساني قد روى ‏"‏ عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي أنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن حجة كانت على أبيه ‏"‏ أخرجهما ابن ماجة‏.‏

والرواية الأولى أقوى إسنادا، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه، ويوافقه ما روي الطبراني من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل بن عباس ‏"‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ‏"‏ ويوافقهما مرسل الحسن عند ابن خزيمة فإنه أخرجه من طريق عوف عن الحسن قال ‏"‏ بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام لم يحج ‏"‏ الحديث، ثم ساقه من طريق عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال مثله إلا أنه قال إن السائل سأل عن أمه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يوافق رواية ابن سيرين أيضا عن يحيى بن أبي إسحاق كما تقدم‏.‏

والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت أيضا والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعا‏.‏

ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلي بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال ‏"‏ كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت التفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة ‏"‏ فعلى هذا فقول الشابة أن أبي لعلها أرادت به جدها لأن أباها كان معها وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه، ولا مانع أن يسأل أيضا عن أمه‏.‏

وتحصل من هذه الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي‏.‏

وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن حصين فإن إسنادها ضعيف ولعله كان فيه عن أبي الغوث حصين فزيد في الرواية ابن أو أن أبا الغوث أيضا كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته‏.‏

والله أعلم‏.‏

ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر وهو أبو رزين - بفتح الراء كسر الزاي - العقيلي بالتصغير واسمه لقيط بن عامر، ففي السنن وصحيح ابن خزيمة وغيرهما من حديثه أنه قال ‏"‏ يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال‏:‏ حج عن أبيك واعتمر ‏"‏ وهذه قصة أخرى، ومن وجد بينها وبين حديث الخثعمي فقد أبعد وتكلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة‏)‏ قال الطيبي‏:‏ ‏"‏ شيخا ‏"‏ حال ولا يثبت صفة له، ويحتمل أن يكون حالا أيضا ويكون من الأحوال المتداخلة، والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة‏.‏

وقوله ‏"‏لا يثبت ‏"‏ وقع في رواية عبد العزيز وشعيب ‏"‏ لا يستطيع أن يستوي ‏"‏ وفي رواية ابن عيينة ‏"‏ لا يستمسك على الرحل‏"‏‏.‏

في رواية يحيى بن أبي إسحاق من الزيادة ‏"‏ وإن شددته خشيت أن يموت ‏"‏ وكذا في مرسل الحسن، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ ‏"‏ وإن شددته بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله ‏"‏ وهذا يفهم منه أن من قدر على غير هذين الأمرين من الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفأحج عنه‏)‏ أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه، لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر‏.‏

وفي رواية عبد العزيز وشعيب ‏"‏ فهل يقضي عنه ‏"‏ وفي حديث علي ‏"‏ هل يجزئ عنه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال نعم‏)‏ في حديث أبي هريرة فقال ‏"‏ احجج عن أبيك‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد جواز الحج عن الغير، واستدل الكوفيون بعمومه على جواز صحة من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بما في السنن وصحيح ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عباس أيضا ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يلبي من شبرمة فقال‏:‏ أحججت عن نفسك‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة‏"‏‏.‏

واستدل به على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال‏:‏ من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب، وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن فبه يظهر الانقياد أو النفور، بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال، وهو حاصل بالنفس وبالغير‏.‏

وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح، لأن عبادة الحج مالية بدنية معا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازري‏:‏ من غلب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة‏.‏

وقد أجاز المالكية الحج عن الغير إذا أوصى به ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع لأنه يوجد في الآمر من بذله المال في الأجرة‏.‏

وقال عياض‏:‏ لا حجة للمخالف في حديث الباب لأن قوله ‏"‏ إن فريضة الله على عباده الخ ‏"‏ معناه أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه‏؟‏ أي هل يجوز لي ذلك، أو هل فيه أجر ومنفعة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال، وتقدم في بعض طرق مسلم ‏"‏ أن أبي عليه فريضة الله في الحج ‏"‏ ولأحمد في رواية ‏"‏ والحج مكتوب عليه ‏"‏ وادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير، حكاه ابن عبد البر، وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية، واحتج بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب ‏"‏ الواضحة ‏"‏ بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث ‏"‏ حج عنه، وليس لأحد بعده ‏"‏ ولا حجة فيه لضعف الإسنادين مع إرسالهما‏.‏

وقد عارضه قوله في حديث الجهنية الماضي في الباب ‏"‏ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء ‏"‏ وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه، ولا يخفى أنه جمود‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن فرجح ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظنا، قال‏:‏ ولا يقال قد أجابها النبي صلى الله عليه وسلم على سؤالها، ولو كان ظنها غلطا لبينه لها، لأنا نقول إنما أجابها عن قولها ‏"‏ أفأحج عنه‏؟‏ قال حجي عنه ‏"‏ لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، ا ه‏.‏

وتعقب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث ‏"‏ حج عن أبيك فإن لم يزده خبرا لم يزده شرا ‏"‏ فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف‏.‏

ومن فروع المسألة أن لا فوق بين من استقر الوجوب في ذمته قبل العضب أو طرأ عليه خلافا للحنفية، وللجمهور ظاهر قصة الخثعمية وأن من حج عن غيره وقع الحج عن المستنيب، خلافا لمحمد بن الحسن فقال‏:‏ يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة‏.‏

واختلفوا فيما أذاعوا في المعضوب فقال الجمهور‏:‏ لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوسا منه‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ لا تلزمه الإعادة لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين‏.‏

واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برؤه ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه، والله أعلم‏.‏

وفي الحديث من الفوائد أيضا جواز الارتداف وسيأتي مبسوطا قبيل كتاب الأدب، وارتداف المرأة مع الرجل، وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلة الفضل بن عباس منه، وبيان ما ركب في الآدمي من الشهوة وجبلت طباعه عليه من النظر إلى الصور الحسنة‏.‏

وفيه منع النظر إلي الأجنبيات وغض البصر، قال عياض‏:‏ وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة‏.‏

قال‏:‏ وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول‏.‏

ثم قال‏:‏ لعل الفضل لم ينظر نظرا ينكر بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب‏.‏

ويؤخذ منه التفريق بين الرجال والنساء خشية الفتنة، وجواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع في الحكم والمعاملة‏.‏

وفيه أن إحرام المرأة في وجهها فيجوز لها كشفه في الإحرام، وروى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة ‏"‏ هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث أيضا النيابة في السؤال عن العلم حتى من المرأة عن الرجل وأن المرأة تحج بغير محرم، وأن المحرم ليس من السبيل المشترط في الحج، لكن الذي تقدم من أنها كانت مع أبيها قد يرد على ذلك‏.‏

وفيه بر الوالدين والاعتناء بأمرهما والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقه وغير ذلك من أمور الدين والدنيا‏.‏

واستدل به على أن العمرة غير واجبة لكون الخثعمية لم تذكرها، ولا حجة فيه لأن مجرد ترك السؤال لا يدل على عدم الوجود لاستفادة ذلك من حكم الحج، ولاحتمال أن يكون أبوها قد اعتمر قبل الحج، على أن السؤال عن الحج والعمرة قد وقع في حديث أبي رزين كما تقدم‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ حديث الخثعمية أصل متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس عموم للإنسان إلا ما سعى رفقا من الله في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقا‏.‏

*3*باب حَجِّ الصِّبْيَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حج الصبيان‏)‏ أي مشروعيته، وكأن الحديث الصريح فيه ليس على شرط المصنف، وهو ما رواه مسلم من طريق كريب عن ابن عباس قال ‏"‏ رفعت امرأة صبيا فقالت‏:‏ يا رسول الله ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

ولك أجر ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ، إلا أنه إذا حج به كان له تطوعا عند الجمهور‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء بفعل شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب، وشذ بعضهم فقال‏:‏ إذا حج الصبي أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، لظاهر قوله ‏"‏ نعم ‏"‏ في جواب ‏"‏ ألهذا حج‏"‏‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ لا حجة فيه لذلك، بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له، لأن ابن عباس راوي الحديث قال‏:‏ أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، ثم ساقه بإسناد صحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَعَثَنِي أَوْ قَدَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ

الشرح‏:‏

حديث بن عباس قال ‏"‏ بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في الثقل ‏"‏ وقد تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب من قدم ضعفة أهله‏"‏‏.‏

ووجه الدلالة منه هنا أن ابن عباس كان دون البلوغ، ولهذه النكتة أردفه المصنف بحديثه الآخر المصرح فيه بأنه كمان حينئذ قد قارب الاحتلام‏.‏

ثم بين بالطريق المعلقة أن ذلك وقع في حجة الوداع، وقد تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب متى يصح سماع الصغير ‏"‏ من كتاب العلم، وفي ‏"‏ باب سترة المصلي ‏"‏ من كتاب الصلاة

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ

الشرح‏:‏

حدثنا إسحاق نسبه الأصيلي وابن السكن ‏"‏ ابن منصور ‏"‏ ‏"‏ وقد أخرجه ‏"‏ إسحاق بن راهويه ‏"‏ في مسنده عن يعقوب أيضا ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج، لكن يرجح كونه ‏"‏ ابن منصور ‏"‏ أن ابن راهويه لا يعبر عن مشايخه إلا بصيغة ‏"‏ أخبرنا‏"‏‏.‏

ورواية يونس المعلقة وصلها مسلم من طريق ابن وهب عنه ولفظه ‏"‏ أنه أقبل يسير على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بمنى في حجة الوداع‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن يوسف‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ حدثنا محمد بن يوسف وهو الكندي ‏"‏ حفيد شيخه السائب وقيل سبط وقيل ابن أخيه عبد الله بن يزيد، والسائب بن يزيد أي ابن سعيد ابن ثمامة بن الأسود الكندي حليف بني عبد شمس ويعرف بابن أخت النمر والنمر رجل حضرمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حج بي‏)‏ كذا للأكثر بضم أوله على البناء لما لم يسم فاعله‏.‏

وقال ابن سعد عن الواقدي عن حاتم ‏"‏ حجت بي أمي ‏"‏ وللفاكهي من وجه آخر عن محمد بن يوسف عن السائب ‏"‏ حج بي أبي ‏"‏ ويجمع بينهما بأنه كان مع أبويه، زاد الترمذي عن قتيبة عن حاتم ‏"‏ في حجة الوداع‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الجعيد‏)‏ بالجيم مصغرا، والقاسم بن مالك هو المزني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت بن عبد العزيز يقول للسائب بن يزيد وكان السائب قد حج به في ثقل النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ لم يذكر مقول عمر ولا جواب السائب، وكأنه كان قد سأله عن قدر المد، فسيأتي في الكفارات عن عثمان بن أبي شيبة عن القاسم بن مالك بهذا الإسناد ‏"‏ كان الصاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز ‏"‏ زاد الإسماعيلي من هذا الوجه ‏"‏ قال السائب وقد حج بي في ثقل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام ‏"‏ وقال الكرماني‏:‏ اللام في قوله للسائب للتعليل أي سمعت عمر يقول لأجل السائب، والمقول ‏"‏ وكان السائب الخ ‏"‏ كذا قال ولا يخفى بعده، وسيأتي للسائب ترجمة في الكلام على خاتم النبوة إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب حَجِّ النِّسَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حج النساء‏)‏ أي هل يشترط فيه قدر زائد على حج الرجال أو لا‏؟‏ ثم أورد المصنف فيه عدة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

و قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْأَزْرَقِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَذِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال لي أحمد بن محمد حدثنا إبراهيم عن أبيه عن جده قال أذن عمر‏)‏ أي ابن الخطاب ‏(‏لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن‏)‏ كذا أورده مختصرا، ولم يستخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، ونفل الحميدي عن البرقاني أن إبراهيم هو ابن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قال الحميدي‏:‏ وفيه نظر، ولم يذكره أبو مسعود‏.‏

انتهى‏.‏

والحديث معروف، وقد ساقه ابن سعد والبيهقي مطولا، وجعل مغلطاي تنظير الحميدي راجعا إلى نسبة إبراهيم فقال‏:‏ مراد البرقاني بإبراهيم جد إبراهيم المبهم في رواية البخاري، فظن الحميدي أنه عين إبراهيم الأول، وليس كذلك بل هو جده لأنه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وقوله ‏"‏وقال لي أحمد بن محمد ‏"‏ أي ابن الوليد الأزرقي، وقوله ‏"‏أذن عمر ‏"‏ ظاهره أنه من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف عن عمر ومن ذكر معه، وإدراكه لذلك ممكن لأن عمره إذ ذاك كان أكثر من عشر سنين، وقد أثبت سماعه من عمر يعقوب بن أبي شيبة وغيره، لكن روى ابن سعد هذا الحديث عن الواقدي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده عن عبد الرحمن بن عوف قال ‏"‏ أرسلني عمر ‏"‏ لكن الواقدي لا يحتج به فقد رواه البيهقي من طريق عبدان وابن سعد أيضا عن الوليد بن عطاء بن الأغر المكي كلاهما عن إبراهيم ابن سعد مثل ما قال الأزرقي، ويحتمل أن يكون إبراهيم حفظ أصل القصة وحمل تفاصيلها عن أبيه فلا تتخالف الروايتان، ولعل هذا هو النكتة في اقتصار البخاري على أصل القصة دون بقيتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعبد الرحمن‏)‏ زاد عبدان ‏"‏ عبد الرحمن بن عوف ‏"‏ وكان عثمان ينادي‏:‏ ألا لا يدنو أحد منهن ولا ينظر إليهن، وهن في الهوادج على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب فلم يصعد إليهن أحد، ونزل عبد الرحمن وعثمان بذنب الشعب‏"‏‏.‏

وفي رواية لابن سعد ‏"‏ فكان عثمان يسير أمامهن وعبد الرحمن خلفهن‏"‏‏.‏

وفي رواية له ‏"‏ وعلى هوادجهن الطيالسة الخضر ‏"‏ في إسناده الواقدي، وروى ابن سعد أيضا بإسناد صحيح من طريق أبي إسحاق السبيعي قال ‏"‏ رأيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن في هوادج عليها الطيالسة زمن المغيرة ‏"‏ أي ابن شعبة، والظاهر أنه أراد بذلك زمن ولاية المغيرة على الكوفة لمعاوية، وكان ذلك سنة خمسين أو قبلها‏.‏

ولابن سعد أيضا من حديث أم معبد الخزاعية قالت ‏"‏ رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزلن بقديد، فدخلت عليهن وهن ثمان ‏"‏ وله من حديث عائشة ‏"‏ أنهن استأذن عثمان في الحج فقال‏:‏ أنا أحج بكن، فحج بنا جميعا إلا زينب كانت ماتت، وإلا سودة فإنها لم تخرج من بيتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وروى أبو داود وأحمد من طريق واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجة الوداع‏:‏ هذه ثم ظهور الحصر ‏"‏ زاد ابن سعد من حديث أبي هريرة ‏"‏ فكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحججن، إلا سودة وزينب فقالا‏:‏ لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وإسناد حديث أبي واقد صحيح‏.‏

وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع لقصد ذم أم المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل، وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر عن عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد بذلك أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة، وتأيد ذلك عندها بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لكن أفضل الجهاد الحج والعمرة ‏"‏ ومن ثم عقبه المصنف بهذا الحديث في هذا الباب، وكأن عمر رضي الله عنه كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له الجواز فأذن لهن، وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة ومن في عصره من غير نكير‏.‏

وروى ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر قال ‏"‏ منع عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة ‏"‏ ومن طريق أم درة عن عائشة قالت ‏"‏ منعنا عمر الحج والعمرة، حتى إذا كان آخر عام فأذن لنا ‏"‏ وهو موافق لحديث الباب، وفيه زيادة على ما في مرسل أبي جعفر، وهو محمول على ما ذكرناه‏.‏

واستدل به على جواز حج المرأة بغير محرم، وسيأتي البحث فيه في الكلام على الحديث الثالث‏.‏

‏(‏تكملة‏)‏ ‏:‏ روى عمر بن شبة هذا الحديث عن سليمان بن داود الهاشمي عن إبراهيم بن سعد بإسناد آخر فقال ‏"‏ عن الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فحججن في آخر حجة حجها عمر، فلما ارتحل عمر من الحصبة من آخر الليل أقبل رجل فسلم وقال‏:‏ أين كان أمير المؤمنين ينزل‏؟‏ فقال له قائل وأنا أسمع‏:‏ هذا كان منزله‏.‏

فأناخ في منزل عمر، ثم رفع عقيرته يتغنى‏:‏ عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق الأبيات‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت لهم اعلموا لي علم هذا الرجل، فذهبوا فلم يروا أحدا، فكانت عائشة تقول‏:‏ ‏"‏ إني لأحسبه من الجن‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الواحد‏)‏ هو ابن زياد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عائشة‏)‏ في رواية زائدة عن حبيب عند الإسماعيلي ‏"‏ حدثتني عائشة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا نغزو أو نجاهد‏)‏ هذا شك من الراوي، وهو مسدد شيخ البخاري، وقد رواه أبو كامل عن أبي عوانة شيخ مسدد بلفظ ‏"‏ ألا تغزو معكم ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي، وأغرب الكرماني فقال‏:‏ ليس الغزو والجهاد بمعنى واحد، فإن الغزو القصد إلى القتال، والجهاد بذل النفس في القتال‏.‏

قال‏:‏ أو ذكر الثاني تأكيدا للأول ا ه‏.‏

وكأنه ظن أن الألف تتعلق بنغزو فشرح على أن الجهاد معطوف على الغزو بالواو، أو جعل ‏"‏ أو ‏"‏ بمعنى الواو‏.‏

وقد أخرجه النسائي من طريق جرير عن حبيب بلفظ ‏"‏ ألا نخرج فنجاهد معك ‏"‏ ولابن خزيمة من طريق زائدة عن حبيب مثله وزاد ‏"‏ فإنا نجد الجهاد أفضل الأعمال ‏"‏ وللإسماعيلي من طريق أبي بكر بن عياش عن حبيب ‏"‏ لو جاهدنا معك، قال‏:‏ لا جهاد، ولكن حج مبرور ‏"‏ وقد تقدم في أوائل الحج من طريق خالد عن حبيب بلفظ ‏"‏ نرى الجهاد أفضل العمل ‏"‏ فظهر أن التغاير بين اللفظين من الرواة فيقوى أن ‏"‏ أو ‏"‏ للشك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لكن أحسن الجهاد‏)‏ تقدم نقل الخلاف في توجيهه في أوائل الحج وهل هو بلفظ الاستثناء أو بلفظ خطاب النسوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحج حج مبرور‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ حج البيت حج مبرور ‏"‏ وسيأتي في الجهاد من وجه آخر عن عائشة بنت طلحة بلفظ ‏"‏ استأذنه نساؤه في الجهاد فقال‏:‏ يكفيكن الحج ‏"‏ ولابن ماجة من طريق محمد بن فضيل عن حبيب ‏"‏ قلت يا رسول الله على النساء جهاد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة‏"‏‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ زعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى ‏(‏وقرن في بيوتكن‏)‏ يقتضى تحريم السفر عليهن‏.‏

قال‏:‏ وهذا الحديث يرد عليهم، لأنه قال ‏"‏ لكن أفضل الجهاد ‏"‏ فدل على أن لهن جهادا غير الحج والحج أفضل منه ا ه‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بقوله ‏"‏ لا ‏"‏ في جواب قولهن ‏"‏ ألا نخرج فنجاهد معك ‏"‏ أي ليس ذلك واجبا عليكن كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخص به عموم قوله ‏"‏ هذه ثم ظهور الحصر ‏"‏ وقوله تعالى ‏(‏وقرن في بيوتكن‏)‏ وكأن عمر كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها فأذن لهن في آخر خلافته، ثم كان عثمان بعده يحج بهن في خلافته أيضا‏.‏

وقد وقف بعضهن عند ظاهر النهي كما تقدم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب الحج مرة واحدة كالرجال، لا المنع من الزيادة‏.‏

وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب‏.‏

واستدل بحديث عائشة هذا على جواز حج المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوجا ولا محرما كما سيأتي البحث فيه في الذي يليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَقَالَ اخْرُجْ مَعَهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي معبد‏)‏ كذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج وابن عيينة كلاهما عمرو عن أبي معبد به، ولعمرو بهذا الإسناد حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره عن ابن عيينة عنه عن عكرمة قال ‏"‏ جاء رجل إلى المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين نزلت‏؟‏ قال‏:‏ على فلانة‏.‏

قال‏:‏ أغلقت عليها بابك‏؟‏ مرتين‏.‏

لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم‏.‏

ورواه عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عمرو ‏"‏ أخبرني عكرمة أو أبو معبد عن ابن عباس ‏"‏ قلت‏:‏ والمحفوظ في هذا مرسل عكرمة‏.‏

وفي الآخر رواية أبي معبد عن ابن عباس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تسافر المرأة‏)‏ كذا أطلق السفر وقيده في حديث أبي سعيد الآتي في الباب فقال ‏"‏ مسيرة يومين‏"‏، ومضى في الصلاة حديث أبي هريرة مقيدا بمسيرة يوم وليلة، وعنه روايات أخرى، وحديث ابن عمر فيه مقيدا بثلاثة أيام، وعنه روايات أخرى أيضا، وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات‏.‏

وقال النووي‏:‏ ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفر فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين‏.‏

وقال المنذري‏:‏ يحتمل أن يقال إن اليوم المفرد والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة، يعني فمن أطلق يوما أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها وأن يكون عند جمعهما أشار إلى مدة الذهاب والرجوع، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلا لأوائل الأعداد، فاليوم أول العدد والاثنان أول التكثير والثلاث أول الجمع، وكأنه أشار إلى أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل فيه السفر فكيف بما زاد‏.‏

ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد، فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافا للحنفية، وحجتهم أن المنع المقيد بالثلاث متحقق وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن، ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما عداها فإنه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص، وترك حمل المطلق على المقيد، وقد خالفوا ذلك هنا، والاختلاف إنما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التقييد، بخلاف حديث الباب فإنه لم يختلف على ابن عباس فيه‏.‏

وفرق سفيان الثوري بين المسافة البعيدة فمنعها دون القريبة، وتمسك أحمد بعموم الحديث فقال‏:‏ إذا لم تجد زوجا أو محرما لا يجب عليها الحج، هذا هو المشهور عنه‏.‏

وعنه رواية أخرى كقول مالك وهو تخصيص الحديث بغير سفر الفريضة، قالوا‏:‏ وهو مخصوص بالإجماع‏.‏

قال البغوي لم يختلفوا في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض إلا مع زوج أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت‏.‏

وزاد غيره أو امرأة انقطعت من الرفقة فوجدها رجل مأمون فإنه يجوز له أن يصحبها حتى يبلغها الرفقة‏.‏

قالوا‏:‏ وإذا كان عمومه مخصوصا بالاتفاق فليخص منه حجة الفريضة‏.‏

وأجاب صاحب ‏"‏ المغني ‏"‏ بأنه سفر الضرورة فلا يقاس عليه حالة الاختيار، ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل ضرر متوهم ولا كذلك السفر للحج‏.‏

وقد روى الدار قطني وصححه أبو عوانة حديث الباب من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار بلفظ ‏"‏ لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم ‏"‏ فنص في نفس الحديث على منع الحج فكيف يخص من بقية الأسفار‏؟‏ والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات، وفي قول تكفي امرأة واحدة ثقة‏.‏

وفي قول نقله الكرابيسي وصححه في المهذب تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا، وهذا كله في الواجب من حج أو عمرة‏.‏

وأغرب القفال فطرده في الأسفار كلها، واستحسنه الروياني قال‏:‏ إلا أنه خلاف النص‏.‏

قلت‏:‏ وهو يعكر على نفي الاختلاف الذي نقله البغوي آنفا‏.‏

واختلفوا هل المحرم وما ذكر معه شرط في وجوب الحج عليها أو شرط في التمكن فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة‏؟‏ وعبارة أبي الطيب الطبري منهم‏:‏ الشرائط التي يجب بها الحج على الرجل يجب بها على المرأة، فإذا أرادت أن تؤديه فلا يجوز لهم إلا مع محرم أو زوج أو نسوة ثقات‏.‏

ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث الباب، لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك، ومن أبى ذلك من أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة كما تقدم لا من جهة توقف السفر على المحرم، ولعل هذا هو النكتة في إيراد البخاري الحديثين أحدهما عقب الآخر، ولم يختلفوا أن النساء كلهن في ذلك سواء إلا ما نقل عن أبي الوليد الباجي أنه خصه بغير العجوز التي لا تشتهى، وكأنه نقله من الخلاف المشهور في شهود المرأة صلاة الجماعة‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ الذي قاله الباجي تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، يعني مع مراعاة الأمر الأغلب‏.‏

وتعقبوه بأن لكل ساقطة لاقطة، والمتعقب راعي الأمر النادر وهو الاحتياط‏.‏

قال‏:‏ والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة في الأمن وحدها فقد نظر أيضا إلى المعنى، يعني فليس له أن ينكر على الباجي، وأشار بذلك إلى الوجه المتقدم والأصح خلافه، وقد احتج له بحديث عدي بن حاتم مرفوعا ‏"‏ يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا زوج معها ‏"‏ الحديث‏.‏

وهو في البخاري‏.‏

وتعقب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز‏.‏

ومن المستظرف أن المشهور من مذهب من لم يشترط المحرم أن الحج على التراخي، ومن مذهب من يشترطه أنه حج على الفور، وكان المناسب لهذا قول هذا وبالعكس‏.‏

وأما ما قال النووي في شرح حديث جبريل في بيان الإيمان والإسلام عند قوله ‏"‏ أن تلد الأمة ربتها ‏"‏‏:‏ فليس فيه دلالة على إباحة بيع أمهات الأولاد ولا منع بيعهن، خلافا لمن استدل به في كل منهما، لأنه ليس في كل شيء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع يكون محرما ولا جائزا‏.‏

انتهى‏.‏

وهو كما قال، لكن القرينة المذكورة تقوي الاستدلال به على الجواز‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ هذه المسألة تتعلق بالعامين إذا تعارضا، فإن قوله تعالى ‏(‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏ عام في الرجال والنساء، فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع، وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تسافر المرأة إلا مع محرم ‏"‏ عام في كل سفر فيدخل فيه الحج، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج، وقد رجح المذهب الثاني بعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ‏"‏ وليس ذلك بجيد لكونه عاما في المساجد فيخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر بحديث النهي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا مع ذي محرم‏)‏ أي فيحل، ولم يصرح بذكر الزوج، وسيأتي في حديث أبي سعيد في هذا الباب بلفظ ‏"‏ ليس معها زوجها أو ذو محرم منها ‏"‏ وضابط المحرم عند العلماء من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها وبالمباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها وبحرمتها الملاعنة، واستثنى أحمد من حرمت على التأبيد مسلمة لها أب كتابي فقال‏:‏ لا يكون محرما لها لأنه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها إذا خلا بها‏.‏

ومن قال إن عبد المرأة محرم لها يحتاج أن يزيد في هذا الضابط ما يدخله، وقد روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعا ‏"‏ سفر المرأة مع عبدها ضيعة ‏"‏ لكن في إسناده ضعف، وقد احتج به أحمد وغيره، وينبغي لمن أجاز ذلك أن يقيده بما إذا كانا في قافلة بخلاف ما إذا كانا وحدهما فلا لهذا الحديث‏.‏

وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم، فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل إن امرأتي حاجة فكأنه فهم حال الزوج في المحرم، ولم يرد عليه ما فهمه بل قيل له ‏"‏ اخرج معها‏"‏‏.‏

واستثنى بعض العلماء ابن الزوج فكره السفر معه لغلبة الفساد في الناس‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ هذه الكراهية عن مالك، فإن كانت للتحريم ففيه بعد لمخالفة الحديث، وإن كانت للتنزيه فيتوقف على أن لفظ ‏"‏ لا يحل ‏"‏ هل يتناول المكروه الكراهة التنزيهية‏؟‏ قوله‏:‏ ‏(‏ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم‏)‏ فيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع، لكن اختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات‏؟‏ والصحيح الجواز لضعف التهمة به‏.‏

وقال القفال‏:‏ لا بد من المحرم، وكذا في النسوة الثقات في سفر الحج لا بد من أن يكون مع إحداهن محرم‏.‏

ويؤيده نص الشافعي أنه لا يجوز للرجل أن يصلي بنساء مفردات إلا أن تكون إحداهن محرما له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال رجل يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا‏)‏ لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة المذكورة، وسيأتي في الجهاد بلفظ ‏"‏ إني اكتتبت في غزوة كذا ‏"‏ أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزاة‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ الظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع فيؤخذ منه أن الحج على التراخي إذ لو كان على الفور لما تأخر الرجل مع رفقته الذين عينوا في تلك الغزاة‏.‏

كذا قال، وليس ما ذكره بلازم لاحتمال أن يكونوا قد حجوا قبل ذلك مع من حج في سنة تسع مع أبي بكر الصديق، أو أن الجهاد قد تعين على المذكورين بتعيين الإمام، كما لو نزل عدو بقوم فإنه يتعين عليهم الجهاد ويتأخر الحج اتفاقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اخرج معها‏)‏ أخذ بظاهره بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض فلو امتنع إلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة، واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي‏.‏

وأما ما رواه الدار قطني من طريق إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها‏؟‏ فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملا بالحديثين، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبا، واستنبط منه ابن حزم جواز سفر المرأة بغير زوج ولا محرم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بردها ولا عاب سفرها، وتعقب بأنه لو لم يكن ذلك شرطا لما أمر زوجها بالسفر معها وتركه الغزو الذي كتب فيه، ولا سيما وقد رواه سعيد بن منصور عن حماد بن زيد بلفظ ‏"‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله إني نذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا ‏"‏ فلو لم يكن شرطا ما رخص له في ترك النذر، قال النووي‏:‏ وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة، فإنه لما عرض له الغزو والحج رجح الحج لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها بخلاف الغزو، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ مَا مَنَعَكِ مِنْ الْحَجِّ قَالَتْ أَبُو فُلَانٍ تَعْنِي زَوْجَهَا كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا قَالَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

الحديث له طريقان موصول ومعلق وآخر معلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا حبيب المعلم‏)‏ هو ابن أبي قريبة بقاف وموحدة، واسم أبي قريبة زيد وقيل زائدة، وهو غير حبيب بن أبي عمرة المذكور في ثاني أحاديث الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت أبو فلان تعني زوجها‏)‏ وقد تقدم أنه أبو سنان، وتقدم الحديث مشروحا في ‏"‏ باب عمرة في رمضان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رواه ابن جريج عن عطاء الخ‏)‏ أراد تقوية طريق حبيب بمتابعة ابن جريج له عن عطاء، واستفيد منه تصريح عطاء بسماعه له من ابن عباس، وقد تقدمت طريق ابن جريج موصولة في الباب المشار إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبيد الله‏)‏ بالتصغير وهو ابن عمرو الرقي ‏(‏عن عبد الكريم‏)‏ وهو ابن مالك الجزري ‏(‏عن عطاء عن جابر‏)‏ ، وأراد البخاري بهذا بيان الاختلاف فيه على عطاء، وقد تقدم في ‏"‏ باب عمرة في رمضان ‏"‏ أن ابن أبي ليلى ويعقوب بن عطاء وافقا حبيبا وابن جريج، فتبين شذوذ رواية عبد الكريم، وشذ معقل الجزري أيضا فقال ‏"‏ عن عطاء عن أم سليم ‏"‏ وصنيع البخاري يقتضي ترجيح رواية ابن جريج ويومئ إلى أن رواية عبد الكريم ليست مطرحة لاحتمال أن يكون لعطاء فيه شيخان، ويؤيد ذلك أن رواية عبد الكريم خالية عن القصة مقتصرة على المتن وهو قوله ‏"‏ عمرة في رمضان تعدل حجة ‏"‏ كذلك وصله أحمد وابن ماجة من طريق عبيد الله بن عمرو، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَقَدْ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ أَرْبَعٌ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ يُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي أَنْ لَا تُسَافِرَ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ وَلَا صَوْمَ يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد، تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب الصلاة في مسجد مكة والمدينة ‏"‏ وأنه مشتمل على أربعة أحكام أحدها‏:‏ سفر المرأة، وقد تقدم البحث فيه في هذا الباب، ثانيها‏:‏ منع صوم الفطر والأضحى وسيأتي في الصيام، ثالثها‏:‏ منع الصلاة بعد الصبح والعصر وقد تقدم في أواخر الصلاة، رابعها‏:‏ منع شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة وقد تقدم في أواخر الصلاة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو قال يحدثهن‏)‏ وقع عند الكشميهني بلفظ ‏"‏ أو قال أخذتهن ‏"‏ بالخاء والذال المعجمتين أي حملتهن عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وآنقنني‏)‏ بفتح النونين وسكون القاف بوزن أعجبنني، ومعناه أي الكلمات، يقال آنقني الشيء بالمد، أي أعجبني‏.‏

وذكر الإعجاب بعده من التأكيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو ذو محرم‏)‏ كذا للأكثر، وفي بعض النسخ عن أبي ذر ‏"‏ أو ذو محرم، محرم ‏"‏ الأول بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه والثاني بوزن محمد أي عليها‏.‏

*3*باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْكَعْبَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من نذر المشي إلى الكعبة‏)‏ أي وغيرها من الأماكن المعظمة هل يجب عليه الوفاء بذلك أو لا‏؟‏ وإذا وجب فتركه قادرا أو عاجزا ماذا يلزمه‏؟‏ وفي كل ذلك اختلاف بين أهل العلم سيأتي إيضاحه في كتاب النذر إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ مَا بَالُ هَذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا الفزاري‏)‏ هو مروان بن معاوية كما جزم به أصحاب الأطراف والمستخرجات، وقد أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن مروان هذا بهذا الإسناد‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ هو أبو إسحاق الفزاري أو مروان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني ثابت‏)‏ هكذا قال أكثر الرواة عن حميد، وهذا الحديث مما صرح حميد فيه بالواسطة بينه وبين أنس، وقد حذفه في وقت آخر فأخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري والترمذي من طريق ابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس، وكذا أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي ويزيد بن هارون جميعا عن حميد بلا واسطة، ويقال إن غالب رواية حميد عن أنس بواسطة، لكن قد أخرج البخاري من حديث حميد عن أنس أشياء كثيرة بغير واسطة مع الاعتناء ببيان سماعه لها من أنس، وقد وافق عمران القطان عن حميد الجماعة على إدخال ثابت بينه وبين أنس، لكن خالفهم في المتن، أخرجه الترمذي من طريقه بلفظ ‏"‏ نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله، فسئل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ إن الله لغني عن مشيها، مروها فلتركب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأى شيخا يهادي‏)‏ بضم أوله من المهاداة، وهو أن يمشي معتمدا على غيره‏.‏

وللترمذي من طريق خالد بن الحارث عن حميد ‏"‏ يتهادى ‏"‏ بفتح أوله ثم مثناة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بين ابنيه‏)‏ لم أقف على اسم هذا الشيخ ولا على اسم ابنيه، وقرأت بخط مغلطاي ‏"‏ الرجل الذي يهادى ‏"‏ قال الخطيب‏:‏ هو أبو إسرائيل، كذا قال وتبعه ابن الملقن، وليس ذلك في كتاب الخطيب وإنما أورده من حديث مالك ‏"‏ عن حميد بن قيس وثور أنهما أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال‏:‏ ما بال هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ويصوم ‏"‏ الحديث‏.‏

قال الخطيب‏:‏ هذا الرجل هو أبو إسرائيل، ثم ساق حديث عكرمة عن ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة فرأى رجلا يقال له أبو إسرائيل فقال‏:‏ ما باله‏؟‏ قالوا‏:‏ نذر أن يصوم ويقوم في الشمس ولا يتكلم ‏"‏ الحديث‏.‏

وهذا الحديث سيأتي في الأيمان والنذور من حديث ابن عباس، والمغايرة بينه وبين حديث أنس ظاهرة من عدة أوجه، فيحتاج من وحد بين القصتين إلى مستند، والله المستعان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ما بال هذا‏؟‏ قالوا نذر أن يمشي‏)‏ في حديث أبي هريرة عند مسلم أن الذي أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله ولدا الرجل ولفظه ‏"‏ فقال ما شأن هذا الرجل‏؟‏ قال ابناه‏:‏ يا رسول الله كان عليه نذر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمره‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وأمره ‏"‏ بزيادة واو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يركب‏)‏ زاد أحمد عن الأنصاري عن حميد فركب، وإنما لم يأمره بالوفاء بالنذر إما لأن الحج راكبا أفضل من الحج ماشيا فنذر المشي يقتضي التزام ترك الأفضل فلا يجب الوفاء به، أو لكونه عجز عن الوفاء بنذره وهذا هو الأظهر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ قَالَ وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عقبة بن عامر‏)‏ هو الجهني كذا وقع عند أحمد ومسلم وغيرهما في هذا الحديث من هذا الوجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نذرت أختي‏)‏ قال المنذري وابن القسطلاني والقطب الحلبي ومن تبعهم‏:‏ هي أم حبان بنت عامر، وهي بكسر المهملة وتشديد الموحدة، ونسبوا ذلك لابن ماكولا فوهموا فإن ابن ماكولا إنما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنما ذكر في طبقات النساء أم حبان بنت عامر بن نابي بنون وموحدة ابن زيد بن حرام بمهملتين الأنصارية قال‏:‏ وهي أخت عقبة بن عامر بن نابي، شهد بدرا، وهي زوج حرام بن محيصة، وكان ذكر قبل عقبة بن عامر بن نابي الأنصاري وأنه شهد بدرا ولا رواية له، وهذا كله مغاير للجهني فإن له رواية كثيرة ولم يشهد بدرا وليس أنصاريا، فعلى هذا لم يعرف اسم أخت عقبة ابن عامر الجهني، وقد كنت تبعت في المقدمة من ذكرت ثم رجعت الآن عن ذلك وبالله التوفيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تمشي إلى بيت الله‏)‏ زاد مسلم من طريق عبد الله بن عياش بالياء التحتانية والمعجمة عن يزيد ‏"‏ حافية‏"‏، ولأحمد وأصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر الجهني ‏"‏ أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة‏"‏، وزاد الطبري من طريق إسحاق بن سالم عن عقبة بن عامر ‏"‏ وهي امرأة ثقيلة والمشي يشق عليها‏"‏، ولأبي داود من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ‏"‏ أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، وشكا إليه ضعفها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لتمشي ولتركب‏)‏ في رواية عبد الله بن مالك ‏"‏ مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام‏"‏‏.‏

وروى مسلم عقب هذا الحديث حديث عبد الرحمن بن شماسة وهو بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رفعه ‏"‏ كفارة النذر كفارة اليمين ‏"‏ ولعله مختصر من هذا الحديث، فإن الأمر بصيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين، لكن وقع في رواية عكرمة المذكورة ‏"‏ قال فلتركب ولتهد بدنة ‏"‏ وسيأتي البحث في ذلك في كتاب النذر إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال وكان أبو الخير لا يفارق عقبة‏)‏ هو يقول يزيد بن أبي حبيب الراوي عن أبي الخير، والمراد بذلك بيان سماع أبي الخير له من عقبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو عبد الله‏)‏ هو المصنف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن جريج عن يحيى بن أيوب‏)‏ كذا رواه أبو عاصم، ووافقه روح بن عبادة عند مسلم والإسماعيلي جعلا شيخ ابن جريج في هذا الحديث هو يحيى بن أيوب، وخالفهما هشام بن يوسف فجعل شيخ ابن جريج فيه سعيد بن أبي أيوب، ورجح الأول الإسماعيلي لاتفاق أبي عاصم وروح على خلاف ما قال هشام، لكن يعكر عليه أن عبد الرزاق وافق هشاما وهو عند أحمد ومسلم، ووافقهما محمد بن بكر عن ابن جريج وحجاج بن محمد عند النسائي، فهؤلاء أربعة حفاظ رووه عن ابن جريج عن سعيد ابن أبي أيوب، فإن كان الترجيح هنا بالأكثرية فروايتهم أولى‏.‏

والذي ظهر لي من صنيع صاحبي الصحيح أن لابن جريج فيه شيخين، وقد عبر مغلطاي وتبعه الشيخ سراج الدين عن كلام الإسماعيلي ما لا يفهم منه المراد، والله أعلم‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتملت أبواب المحصر وجزاء الصيد وما مع ذلك إلى هنا على أحد وستين حديثا، المعلق منها ثلاثة عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وثلاثون حديثا والخالص ثلاثة وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في النقاب والقفاز موقوفا ومرفوعا، وحديث ابن عباس ‏"‏ احتجم وهو محرم‏"‏، وحديثه في التي نذرت أن تحج عن أمها، وحديث السائب ابن يزيد أنه حج به، وحديث جابر ‏"‏ عمرة في رمضان‏"‏‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين اثنا عشر أثرا، والله المستعان‏.‏