فصل: باب الْفَأْلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْفَأْلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الفأل‏)‏ بفاء ثم همزة وقد تسهل، والجمع فئول بالهمزة جزما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالَ وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد الله بن عبد الله‏)‏ أي ابن عتبة بن مسعود، وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالإخبار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال وما الفأل‏)‏ ‏؟‏ كذا للأكثر بالإفراد، وللكشميهني ‏"‏ قالوا ‏"‏ كرواية شعيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم‏)‏ وقال في حديث أنس ثاني حديثي الباب ‏"‏ ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة‏"‏‏.‏

وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال ‏"‏ ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل‏:‏ اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله ‏"‏ وقوله ‏"‏ وخيرها الفأل ‏"‏ قال الكرماني تبعا لغيره‏:‏ هذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة، وليس كذلك بل هي إضافة توضيح، ثم قال‏:‏ وأيضا فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامن، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم، بل بعض التيامن مقبول‏.‏

قلت‏:‏ وفي جواب الأول دفع في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤال ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة ‏"‏ وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ العين حق، وأصدق الطيرة الفأل ‏"‏ ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الضمير المؤنث في قوله ‏"‏ وخيرها ‏"‏ راجع إلى الطيرة، وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى ‏(‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا‏)‏ وهو مبني على زعمهم، وهو من إرخاء العنان في المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق، فقوله ‏"‏ خيرها الفأل ‏"‏ إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيرا حقيقة، أو هو من نحو قولهم ‏"‏ الصيف أحر من الشتاء ‏"‏ أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها‏.‏

والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ‏.‏

قال الخطابي‏:‏ وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا، وإنما هو تكلف ممن يتعاطاه‏.‏

وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال‏:‏ كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح، فقال رجل‏:‏ خير خير، فقال ابن عباس‏:‏ ما عند هذا لا خير ولا شر‏.‏

وقال أيضا الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت‏.‏

وقال النووي‏:‏ الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر، وأكثره في السرور‏.‏

والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازا في السرور ا ه‏.‏

وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه‏.‏

وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع‏:‏ يا نجيح يا راشد ‏"‏ وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه ‏"‏ وذكر البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن الحليمي ما ملخصه‏:‏ كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذكر نحو ما تقدم ثم قال‏.‏

وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا، لأن أصله الأول‏.‏

وقال‏.‏

وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاؤم فإن رآه واضعا حمله تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله‏.‏

وقال ‏"‏من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا ‏"‏ ونحو ذلك من الأحاديث‏.‏

وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه اشفق من الشر لأن التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لأهل الجاهلية‏.‏

والله أعلم‏.‏

قال الحليمي‏:‏ وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك‏.‏

وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله‏.‏

فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب لَا هَامَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا هامة‏)‏ كذا للجميع، وذكر فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ‏"‏ ثم ترجم بعد سبعة أبواب ‏"‏ باب لا هامة ‏"‏ وذكر فيه الحديث المذكور مطولا وليس فيه ‏"‏ ولا طيرة ‏"‏ وهذا من توارد ما اتفق له أن يترجم للحديث في موضعين بلفظ واحد، وسأذكر شرح الهامة في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى، ثم ظهر لي أنه أشار بتكرار هذه الترجمة إلى الخلاف في تفسير الهامة كما سيأتي بيانه‏.‏

*3*باب الْكِهَانَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكهانة‏)‏ وقع في ابن بطال هنا ‏"‏ والسحر ‏"‏ وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه، بل ترجمة السحر في باب مفرد عقب هذه، والكهانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها - ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيها استراق السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن‏.‏

والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه‏.‏

وقال في ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ الكاهن القاضي بالغيب‏.‏

وقال في ‏"‏ الجامع ‏"‏‏:‏ العرب تسمي كل من أذن بشيء قبل وقوعه كاهنا‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه‏.‏

وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم‏.‏

وهي على أصناف‏:‏ منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ‏(‏إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏)‏ ‏.‏

وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد‏.‏

ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد‏.‏

ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه‏.‏

رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعا‏.‏

وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ‏"‏ وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين ولفظهما ‏"‏ من أتى كاهنا ‏"‏ وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - ومن الرواة من سماها حفصة - بلفظ ‏"‏ من أتى عرافا ‏"‏ وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه ‏"‏ من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا ‏"‏ واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم فقال فيه ‏"‏ لم يقبل لهما صلاة أربعين يوما‏"‏‏.‏

ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ ‏"‏ من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما ‏"‏ والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبي‏.‏

والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة‏)‏ وساقه بطوله، كذا قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب، وفصل مالك عن ابن شهاب قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق التي تلي طريق ابن مسافر هذه، وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات، وكذا أخرج هناك طريق يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة، ويأتي شرح ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال ولي المرأة‏)‏ هو حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك ابن النابغة الهذلي، بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة، وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة‏.‏

وفي رواية مالك ‏"‏ فقال الذي قضي عليه ‏"‏ أي قضي على من هي منه بسبيل‏.‏

وفي رواية الليث عن ابن شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان، وبنو لحيان حي من هذيل، وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال ‏"‏ كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك ابن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة بمسطح ‏"‏ الحديث، لكن قال فيه ‏"‏ فقال العلاء بن مسروح‏:‏ يا رسول الله، أنغرم من لا شرب ولا أكل ‏"‏ الحديث، وفي آخره ‏"‏ أسجع كسجع الجاهلية ‏"‏ ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو العلاء قال ذلك تواردا معا عليه، لما تقرر عندهما أن الذي يودي هو الذي يخرج حيا، وأما السقط فلا يودي، فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة، وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى‏.‏

ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم، فلعلها قصة أخرى‏.‏

وأم عفيف بمهملة وفاءين وزن عظيم، ووقع في المبهمات للخطيب، وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغر، فالله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل‏)‏ في رواية مالك ‏"‏ من لا أكل ولا شرب ‏"‏ والأول أولى لمناسبة السجع‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك ‏"‏ ما لا ‏"‏ بدل ‏"‏ من لا ‏"‏ وهذا هو الذي في ‏"‏ الموطأ‏"‏‏.‏

وقال أبو عثمان بن جني‏:‏ معني قوله لا أكل أي لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمثل ذلك يطل‏)‏ للأكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر، يقال دم فلان هدر إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا، وحكي ‏"‏ أطل ‏"‏ ولم يعرفه الأصمعي‏:‏ ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر ‏"‏ بطل ‏"‏ بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال‏:‏ وبالوجهين في الموطأ، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال فقال‏:‏ كذا يقوله أهل الحديث، وإنما هو طل الدم إذا هدر‏.‏

قلت‏:‏ وليس لإنكاره معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الأخرى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما هذا من إخوان الكهان‏)‏ أي لمشابهة كلامه كلامهم، زاد مسلم والإسماعيلي من رواية يونس ‏"‏ من أجل سجعه الذي سجع ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ هو من تفسير الراوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة ‏"‏ فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم ‏"‏ فذكر نحوه وفيه ‏"‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الأعراب ‏"‏‏؟‏ والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع، قال ابن بطال‏:‏ فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم، وإنما لم يعاقبه لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام، وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات‏.‏

والحاصل أنه إن جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع‏:‏ فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا، والمذموم عكسهما‏.‏

وفي الحديث من الفوائد أيضا رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات مع استيفاء فوائده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ

الشرح‏:‏

حديث أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، في النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَاناً بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقّاً

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ قَالَ عَلِيٌّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلٌ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة‏)‏ كأن هذا مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله عن ولده عنه، مع كثرة ما عن الزهري عن عروة، وقد وصفه الزهري بسعة العلم، ووقع في رواية معقل بن عبيد الله عند مسلم عن الزهري ‏"‏ أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة ‏"‏ وكذا للمصنف في التوحيد من طريق يونس، وفي الأدب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب، ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاري إلا على هذا الحديث، وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق، وكذا هشام بن عروة عن أبيه به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وكذا هو في رواية يونس، وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله، وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه ‏"‏ قال قلت يا رسول الله، أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، فقال‏:‏ لا تأتوا الكهان ‏"‏ الحديث‏.‏

وقال الخطابي هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات، ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطين‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال ليس بشيء‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ليسوا بشيء‏"‏، وكذا في رواية يونس في التوحيد، وفي نسخة ‏"‏ فقال لهم ليسوا بشيء ‏"‏ أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه‏:‏ ما عمل شيئا، قال القرطبي‏:‏ كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ فإنهم يتحدثون ‏"‏ هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله ‏"‏ ليسوا بشيء ‏"‏ لأنه فهم أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تلك الكلمة من الحق‏)‏ كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا، ووقع في مسلم ‏"‏ تلك الكلمة من الجن ‏"‏ قال النووي‏:‏ كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون، أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن‏.‏

قلت‏:‏ التقدير الثاني يوافق رواية البخاري، قال النووي‏:‏ وقد حكى عياض أنه وقع يعني في مسلم بالحاء والقاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخطفها الجني‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية السرخسي ‏"‏ يخطفها من الجني ‏"‏ أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ يحفظها ‏"‏ بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فيقرها‏)‏ بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها، تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته، فكأنه صب في أذنه ذلك الكلام، قال القرطبي‏:‏ ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت، يقال قر الطائر إذا صوت انتهى‏.‏

ووقع في رواية يونس المذكورة ‏"‏ فيقرقرها ‏"‏ أي يرددها، يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها، قال الخطابي‏:‏ ويقال أيضا قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة، قال‏:‏ والمعني أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها‏.‏

وتعقبه القرطبي بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له، فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط، وقد تقدم شيء من ذلك في أواخر الجنائز في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله ‏"‏ في قطيفة له فيها زمزمة ‏"‏ وأطلق على الكاهن ولي الجني لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن وغيره ممن يوالي الجن‏.‏

قال الخطابي بين صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرا وخطؤه الغالب، وقوله في رواية يونس ‏"‏ كقرقرة الدجاجة ‏"‏ يعني الطائر المعروف، ودالها مثلثة والأشهر فيها الفتح، ووقع في رواية المستملي ‏"‏ الزجاجة ‏"‏ بالزاي المضمومة وأنكرها الدار قطني وعدها في التصحيف، لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في ‏"‏ باب ذكر الملائكة ‏"‏ قي كتاب بدء الخلق ‏"‏ فيقرها في أذنه كما تقر القارورة ‏"‏ وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء‏.‏

وقال القابسي‏:‏ المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ المعنى أنه يطبق به كما يطبق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها‏.‏

وأغرب شارح ‏"‏ المصابيح ‏"‏ التوربشتي فقال‏:‏ الرواية بالزاي أحوط لما ثبت في الرواية الأخرى ‏"‏ كما تقر القارورة ‏"‏ واستعمال قر في ذلك شائع بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور ولم نجد له شاهدا في كلامهم، فدل على أن الرواية بالدال تصحيف أو غلط من السامع‏.‏

وتعقبه الطيبي فقال‏:‏ لا ريب أن قوله ‏"‏ قر الدجاجة ‏"‏ مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها، وهذا مشاهد، ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر معه، وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير كما قال الله تعالى ‏(‏فتخطفه الطير‏)‏ فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في الاستعارة‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده دعوى الدار قطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف، وإن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيخلطون معها مائة كذبة‏)‏ في رواية ابن جريج ‏"‏ أكثر من مائة كذبة ‏"‏ وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد، وقوله كذبة هنا بالفتح وحكي الكسر، وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه، وقد أخرج مسلم في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس ‏"‏ حدثني رجال من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال‏:‏ ما كنتم تقولون إذا رمي مثل هذا في الجاهلية‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم، فقال‏:‏ إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته‏.‏

ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فيخبرونهم حتى يصل إلى السماء الدنيا، فيسترق منه الجني، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون ‏"‏ وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم، وأما ما تقدم في بدء الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة ‏"‏ أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع ‏"‏ فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم الشياطين، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق، ثم بلغني أنه أسنده بعد‏)‏ علي هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده أن عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث، ثم أنه بعد ذلك وصله بذكر عائشة فيه، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد والإسماعيلي من طريق فياض بن زهير، وأبو نعيم من طريق عباس العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر، وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي‏:‏ يجب عل من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ إيراد باب الكهانة كتاب الطب لمناسبته لباب السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين، وإيراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته ذكر الرقى وغيرها من الأدوية المعنوية، فناسب ذكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك، واشتمل كتاب الطب على الإشارة للأدوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على الأدوية المعنوية كالرقى بالدعاء والقرآن‏.‏

ثم ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها كالسحر، كما ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم‏.‏

*3*باب السِّحْرِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى وَقَوْلِهِ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وَقَوْلِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى وَقَوْلِهِ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ تُسْحَرُونَ تُعَمَّوْنَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب السحر‏)‏ قال الراغب وغيره‏:‏ السحر يطلق على معان‏:‏ أحدها ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس، ومنه قول الأطباء‏:‏ الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏بل نحن قوم مسحورون‏)‏ أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث ‏"‏ إن من البيان لسحرا ‏"‏ وسيأتي قريبا في باب مفرد‏.‏

الثاني ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحوها ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏سحروا أعين الناس‏)‏ ومن هناك سموا موسى ساحرا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس‏.‏

الثالث ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ ‏.‏

الرابع ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم، قال ابن حزم‏:‏ ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب - وهي سرقسطة - فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الأمرين الأخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم، قال أبو بكر الرازي في الأحكام له‏:‏ كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى‏.‏

ثم السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور‏.‏

وتارة بجمع الأمرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ‏.‏

واختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي‏:‏ والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى‏.‏

لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا‏؟‏ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه‏؟‏ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني‏.‏

فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة‏.‏

وقال المازري‏:‏ جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله‏:‏ ‏(‏يفرقون به بين المرء وزوجه‏)‏ لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره‏.‏

قال المازري‏:‏ والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال‏:‏ والآية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي‏.‏

ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق‏.‏

ونقل النووي زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك‏.‏

وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لأنه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون‏:‏ ‏(‏وجاءوا بسحر عظيم‏)‏ مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا‏.‏

ثم قال‏:‏ والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية‏)‏ كذا للأكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله‏:‏ ‏(‏من خلاق‏)‏ وفي هذه الآية بيان أصل السحر الذي يعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الأول لأن قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودا في زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون وكل ذلك قبل سليمان‏.‏

واختلف في المراد بالآية فقيل‏.‏

إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود‏:‏ هل أدلكم على كنز لا نظير له‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم‏:‏ إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الآية‏.‏

أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه‏.‏

وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال‏:‏ إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا‏:‏ هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس‏.‏

وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا به الكتاب وكتبوا عنوانه ‏"‏ هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ‏"‏ ثم دفنوه فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي ولكن قال أنهم لما وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا‏.‏

وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤوها على الناس، وملخص ما ذكر في تفسير هذه الآية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب، إذ تقدم قبل ذلك في الآيات إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولما جاءهم رسول‏)‏ إلى آخر الآية، و ‏"‏ ما ‏"‏ في قوله ‏(‏ما تتلو الشياطين‏)‏ موصولة على الصواب، وغلط من قال إنها نافية لأن نظم الكلام يأباه، و ‏"‏ تتلو ‏"‏ لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع، ومعنى تتلو تتقول، ولذلك عداه بعلي، وقيل معناه تتبع أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك سليمان، وقوله‏:‏ ‏(‏وما كفر سليمان‏)‏ ما نافية جزما وقوله‏:‏ ‏(‏ولكن الشياطين كفروا‏)‏ هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ما قبلها، وقوله‏:‏ ‏(‏يعلمون الناس السحر‏)‏ الناس مفعول أول والسحر مفعول ثان والجملة حال من فاعل كفروا، أي كفروا معلمين، وقيل هي بدل من كفروا، وقيل استئنافية، وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين، ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من فاعل اتبعوا أو استئنافا، وقوله‏:‏ ‏(‏وما أنزل‏)‏ ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، والتقدير يعلمون الناس السحر، والمنزل على الملكين، وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك سليمان وعلى ما أنزل، قيل بل هي نافية عطفا، على ‏(‏وما كفر سليمان‏)‏ والمعنى ولم ينزل على الملكين إباحة السحر‏.‏

وهذان الإعرابان ينبنيا على ما جاء في تفسير الآية عن البعض، والجمهور على خلافه وأنها موصولة، ورد الزجاج على الأخفش دعواه أنها نافية وقال‏:‏ الذي جاء في الحديث والتفسير أولى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ببابل‏)‏ متعلق بما أنزل أي في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة، أو عطف بيان، وقيل بل هما بدل من الناس وهو بعيد، وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو ضعيف، وقوله‏:‏ ‏(‏وما يعلمان من أحد‏)‏ بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذ بسكون العين من الإعلام بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به وينهيانهم عنه، والأول أشهر، وقد قال علي الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب، وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا، قال النووي‏:‏ عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر‏.‏

وعن مالك‏:‏ الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق‏.‏

قال عياض‏:‏ وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين ا ه‏.‏

وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها‏.‏

وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به‏.‏

وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في ‏"‏ باب هل يستخرج السحر ‏"‏ قريبا والله أعلم‏.‏

وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة‏.‏

وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها‏:‏ ‏(‏وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين‏:‏ ‏(‏إنما نحن فتنة فلا تكفر‏)‏ فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه‏.‏

وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز كإطلاق السحر على القول البليغ، وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ ولا يفلح الساحر حيث أتى‏)‏ في الآية نفي الفلاح عن الساحر، وليست فيه دلالة على كفر الساحر مطلقا، وإن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر، لكن ليس فيه ما ينفي نفي الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي‏.‏

قوله ‏(‏وقوله أفتأتون السحر وأنتم تبصرون‏)‏ ‏؟‏ هذا يخاطب به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه‏:‏ أفتأتون السحر، أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله‏:‏ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏)‏ هذه الآية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة له بها لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل، قال أبو بكر الرازي في ‏"‏ الأحكام ‏"‏‏:‏ أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن شر النفاثات في العقد، والنفاثات السواحر‏)‏ هو تفسير الحسن البصري أخرجه الطبري بسند صحيح، وذكره أبو عبيدة أيضا في ‏"‏ المجاز ‏"‏ قال‏:‏ النفاثات السواحر ينفثن‏.‏

وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في ‏"‏ باب الرقية‏"‏‏.‏

وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس ‏"‏ أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة ‏"‏ فذكر نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تسحرون تعمون‏)‏ بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضا بسكون العين قال أبو عبيدة في كتاب ‏"‏ المجاز ‏"‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏سيقولون الله قل فأني تسحرون‏)‏ أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه‏؟‏ قال‏:‏ ونراه من قوله سحرت أعيننا عنه فلم نبصره‏.‏

وأخرج في قوله‏:‏ ‏(‏فأنى تسحرون‏)‏ أي تخدعون أو تصرفون عن التوحيد والطاعة‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذه الآية إشارة إلى الصنف الأول من السحر الذي قدمته‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرّاً فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إبراهيم بن موسى‏)‏ هو الرازي‏.‏

وفي رواية أبي ذر ‏"‏ حدثني ‏"‏ بالإفراد، وهشام هو ابن عروة بن الزبير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ وقع في رواية يحيى القطان عن هشام ‏"‏ حدثني أبي ‏"‏ وقد تقدمت في الجزية، وسيأتي في رواية ابن عيينة عن ابن جريج ‏"‏ حدثني آل عروة ‏"‏ ووقع في رواية الحميدي عن سفيان عن ابن جريج ‏"‏ حدثني بعض آل عروة عن عروة ‏"‏ وظاهره أن غير هشام أيضا حدث به عن عروة، وقد رواه غير عروة عن عائشة كما سأبينه‏.‏

وجاء أيضا من حديث ابن عباس وزيد بن أرقم وغيرهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق‏)‏ بزاي قبل الراء مصغر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال له لبيد‏)‏ بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة ‏(‏ابن الأعصم‏)‏ بوزن أحمر بمهملتين، ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم ‏"‏ سحر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق ‏"‏ ووقع في رواية ابن عيينة الآتية قريبا ‏"‏ رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا ‏"‏ ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره‏.‏

وقال ابن الجوزي هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقا وهو واضح، وقد حكى عياض في ‏"‏ الشفاء ‏"‏ أنه كان أسلم، ويحتمل أن يكون قيل له يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم‏.‏

وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم، وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر‏:‏ أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال ‏"‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم - وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا - فقالوا له‏:‏ يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه‏.‏

فجعلوا له ثلاثة دنانير ‏"‏ ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي ‏"‏ فأقام أربعين ليلة ‏"‏ وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد ‏"‏ ستة أشهر ‏"‏ ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوما من استحكامه‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به في ‏"‏ جامع معمر ‏"‏ عن الزهري أنه لبث ستة أشهر، كذا قال، وقد وجدناه موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد‏.‏

قوله ‏(‏حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله‏)‏ قال المازري‏:‏ أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري‏:‏ وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل‏.‏

وأما ما يتعلق ببعض الأمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال‏:‏ وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه ‏"‏ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ‏"‏ وفي رواية الحميدي ‏"‏ أنه يأتي أهله ولا يأتيهم ‏"‏ قال الداودي ‏"‏ يرى ‏"‏ بضم أوله أي يظن‏.‏

وقال ابن التين ضبطت ‏"‏ يرى ‏"‏ بفتح أوله‏.‏

قلت‏:‏ وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معني الظن‏.‏

وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق ‏"‏ سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره ‏"‏ وعنده في مرسل سعيد بن المسيب ‏"‏ حتى كاد ينكر بصره ‏"‏ قال عياض‏:‏ فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد ‏"‏ فقالت أخت لبيد بن الأعصم‏:‏ إن يكن نبيا فسيخبر، إلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله ‏"‏ قلت‏:‏ فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح‏.‏

وقد قال بعض العلماء‏.‏

لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك‏.‏

وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة‏.‏

وقال عياض‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ حتى كاد ينكر بصره ‏"‏ أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته‏.‏

ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به‏.‏

وقال المهلب‏:‏ صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين‏.‏

واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث ‏"‏ فأما أنا فقد شفاني الله ‏"‏ وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل ‏"‏ فكان يدور ولا يدري ما وجعه ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد ‏"‏ مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة‏)‏ شك من الراوي، وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق فقال ‏"‏ حتى كان ذات يوم ‏"‏ ولم يشك، ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في مسنده عنه على الشك، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم، فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم وتارة بالشك، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين‏.‏

ووقع في رواية أبي أسامة الآتية قريبا ‏"‏ ذات يوم ‏"‏ بغير شك ‏"‏ وذات ‏"‏ بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل إنها مقحمة، وقيل بل هي من إضافة الشيء لنفسه على رأي من يجيزه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو عندي لكنه دعا ودعا‏)‏ كذا وقع، وفي الرواية الماضية في بدء الخلق ‏"‏ حتى كان ذات يوم دعا ودعا ‏"‏ وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث‏.‏

قال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها ‏"‏ عندي ‏"‏ أي لم يكن مشتغلا بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث أنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم‏.‏

ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم ‏"‏ فدعا، ثم دعا، ثم دعا ‏"‏ وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثا‏.‏

وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد ‏"‏ فرأيته يدعو‏"‏‏.‏

قال النووي‏:‏ فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره الالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك‏.‏

قلت‏:‏ سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشعرت‏)‏ أي علمت‏؟‏ وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفتاني فيما استفتيته‏)‏ في رواية الحميدي ‏"‏ أفتاني في أمر استفتيته فيه ‏"‏ أي أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب والمجيب مفت، أو المعنى أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر‏.‏

ووقع في رواية عمرة عن عائشة ‏"‏ إن الله أنبأني بمرضي ‏"‏ أي أخبرني‏.‏

قوله ‏(‏أتاني رجلان‏)‏ وقع في رواية أبي أسامة ‏"‏ قلت‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ أتاني رجلان ‏"‏ ووقع في رواية معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام ‏"‏ أتاني ملكان ‏"‏ وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة جبريل وميكائيل، وكنت ذكرت في المقدمة ذلك احتمالا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي‏)‏ لم يقع لي أيهما قعد عند رأسه، لكنني أظنه جبريل لخصوصيته به عليهما السلام‏.‏

ثم وجدت في ‏"‏ السيرة للدمياطي ‏"‏ الجزم بأنه جبريل قال‏.‏

لأنه أفضل، ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد ‏"‏ سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا ‏"‏ فدل مجموع الطرق على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أحدهما لصاحبه‏)‏ في رواية ابن عيينة الآتية بعد باب ‏"‏ فقال الذي عند رأسي للآخر ‏"‏ وفي رواية الحميدي ‏"‏ فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي ‏"‏ وكأنها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس عند البيهقي‏.‏

ووقع بالشك في رواية ابن نمير عند مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما وجع الرجل‏)‏ ‏؟‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية ابن عيينة ‏"‏ ما بال الرجل ‏"‏‏؟‏ وفي حديث ابن عباس عند البيهقي ‏"‏ ما ترى ‏"‏ وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه‏.‏

ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم وهو يقظان، فتخاطبا وهو يسمع‏.‏

وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائما، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي ‏"‏ فانتبه من نومه ذات يوم ‏"‏ وهو محمول على ما ذكرت، وعلى تقدير حملها على الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي‏.‏

ووقع في حديث ابن عباس عند سعد بسند ضعيف جدا ‏"‏ فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ مطبوب‏)‏ أي مسحور، يقال طب الرجل بالضم إذا سحر، يقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء ويقال له طب‏.‏

وأخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ‏"‏ احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طب ‏"‏ قال أبو عبيد يعني سحر‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أولا على أنه مرض، وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبا، فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال‏:‏ ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعا في ذلك‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في مشط ومشاطة‏)‏ أما المشط فهو بضم الميم، ويجوز كسرها أثبته أبو عبيد وأنكره أبو زيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية؛ وهذا هو المشهور‏.‏

ويطلق المشط بالاشتراك على أشياء أخرى‏:‏ منها العظم العريض في الكتف، وسلاميات ظهر القدم، ونبت صغير يقال له مشط الذنب‏.‏

قال القرطبي‏:‏ يحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أحد هذه الأربع‏.‏

قلت‏:‏ وفاته آلة لها أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الإناة، قال ابن سيده في ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ إنها تسمى المشط‏.‏

والمشط أيضا سمة من سمات البعير تكون في العين الفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول، فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة ‏"‏ فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مراطة رأسه ‏"‏ وفي حديث ابن عباس ‏"‏ من شعر رأسه ومن أسنان مشطه ‏"‏ وفي مرسل عمر بن الحكم ‏"‏ فعمد إلى مشط وما مشط من الرأس من شعر فعقد بذلك عقدا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومشاطة‏)‏ سيأتي بيان الاختلاف هل هي بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بينه المصنف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجف طلع نخلة ذكر‏)‏ قال عياض‏:‏ وقع للجرجاني - يعني في البخاري - والعذري - يعني في مسلم - بالفاء‏.‏

ولغيرهما بالموحدة‏.‏

قلت‏:‏ أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة، وأما روايته في بدء الخلق فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع، وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة، وللكشميهني بالفاء، قال القرطبي‏:‏ روايتنا - يعني في مسلم - بالفاء‏.‏

وقال النووي‏:‏ في أكثر نسخ بلادنا بالباء يعني في مسلم، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعني واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر في قوله ‏"‏ طلعة ذكر ‏"‏ وهو بالإضافة انتهى‏.‏

ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ ‏"‏ ذكر ‏"‏ صفة لجف، وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع وهو للغشاء الذي يكون عليه، وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري قاله شمر، قال‏:‏ ويقال أيضا للداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جف، وقيل هو من القطع يعني ما قطع من قشورها‏.‏

وقال أبو عمرو الشيباني‏:‏ الجف بالفاء شيء ينقر من جذوع النخل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال وأين هو‏؟‏ قال‏:‏ هو في بئر ذروان‏)‏ زاد ابن عيينة وغيره ‏"‏ تحت راعوفة ‏"‏ وسيأتي شرحها بعد باب، وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء، وحكى ابن التين فتحها وأنه قرأه كذلك قال‏:‏ ولكنه بالسكون أشبه‏.‏

وفي رواية ابن نمير عند مسلم ‏"‏ في بئر ذي أروان ‏"‏ ويأتي في رواية أبي ضمرة في الدعوات مثله، وفي نسخة الصغاني لكن بغير لفظ بئر، ولغيره ‏"‏ في ذروان ‏"‏ وذروان بئر في بني زريق، فعلى هذا فقوله‏:‏ ‏"‏ بئر ذروان ‏"‏ من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل ‏"‏ بئر ذي أروان ‏"‏ ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت ‏"‏ ذروان ‏"‏ ويؤيده أن عبيد البكري صوب أن اسم البئر ‏"‏ أروان ‏"‏ بالهمز وأن من قال ‏"‏ ذروان ‏"‏ أخطأ‏.‏

وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته‏.‏

ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير ‏"‏ بئر أروان ‏"‏ كما قال البكري، فكأن رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء، ووقع عند الأصيلي فيما حكاه عياض ‏"‏ في بئر ذي أوان ‏"‏ بغير راء قال عياض‏:‏ هو وهم، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه‏)‏ وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد ‏"‏ فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر ‏"‏ وعنده في مرسل عمر بن الحكم ‏"‏ فدعا جبير بن أياس الزرقي وهو ممن شهد على موضعه في بئر ذروان فاستخرجه ‏"‏ قال ويقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضا ‏"‏ أن الحارث بن قيس قال‏:‏ يا رسول الله ألا يهور البئر ‏"‏ فيمكن تفسير من أبهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولا ثم توجه فشاهدها بنفسه‏.‏

قوله ‏(‏فجاء فقال يا عائشة‏)‏ في رواية وهيب ‏"‏ فلما رجع قال يا عائشة ‏"‏ ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه ‏"‏ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال ‏"‏ وفي رواية عمرة عن عائشة ‏"‏ فنزل رجل فاستخرجه ‏"‏ وفيه من الزيادة أنه ‏"‏ وجد في الطلعة تمثالا من شمع، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة ‏"‏ وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه، وفي حديث زيد بن أرقم الذي أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره ‏"‏ فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين ‏"‏ وفيه ‏"‏ فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال ‏"‏ وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلا ‏"‏ فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كأن ماءها‏)‏ في رواية ابن نمير ‏"‏ والله لكأن ماءها ‏"‏ أي البئر ‏(‏نقاعة الحناء‏)‏ بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء‏.‏

قال ابن التين‏:‏ يعني أحمر‏.‏

وقال الداودي‏.‏

المراد الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم ‏"‏ فوجد الماء وقد اخضر ‏"‏ وهذا يقوي قول الداودي‏.‏

قال القرطبي‏:‏ كأن ماء البئر قد تغير إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التي ألقيت في البئر‏.‏

قلت‏:‏ ويرد الأول أن عند ابن سعد في مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هور البئر المذكورة وكان يستعذب منها وحفر بئرا أخرى فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين‏)‏ كذا هنا، وفي الرواية التي في بدء الخلق ‏"‏ نخلها كأنه رءوس الشياطين ‏"‏ وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام ‏"‏ كأن نخلها ‏"‏ بغير ذكر ‏"‏ رءوس ‏"‏ أولا، والتشبيه إنما وقع على رءوس النخل فلذلك أفصح به في رواية الباب وهو مقدر في غيرها‏.‏

ووقع في رواية عمرة عن عائشة ‏"‏ فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين ‏"‏ وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برءوس الشياطين، قال الفراء وغيره‏:‏ يحتمل أن يكون شبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين‏:‏ لأنها موصوفة بالقبح، وقد تقرر في اللسان أن من قال‏.‏

فلان شيطان أراد أنه خبيث أو قبيح، وإذا قبحوا مذكرا قالوا شيطان، أو مؤنثا قالوا غول، ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا وهو ثعبان قبيح الوجه، ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول الله أفلا استخرجته‏)‏ في رواية أبي أسامة ‏"‏ فقال لا ‏"‏ ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ سوءا ‏"‏ ووقع في رواية أبي أسامة ‏"‏ أن أثور ‏"‏ بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعني‏.‏

والمراد بالناس التعميم في الموجودين قال النووي‏:‏ خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك؛ وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة‏.‏

ووقع في رواية ابن نمير ‏"‏ على أمتي ‏"‏ وهو قابل أيضا للتعميم، لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة على ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم لأنه كان منافقا فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شرا لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضا في رواية ابن عيينة ‏"‏ وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرا ‏"‏ نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة ‏"‏ فقيل يا رسول الله لو قتلته، قال‏:‏ ما وراءه من عذاب الله أشد ‏"‏ وفي رواية عمرة ‏"‏ فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف فعفا عنه ‏"‏ وفي حديث زيد بن أرقم ‏"‏ فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئا مما صنع به ولا رآه في وجهه ‏"‏ وفي مرسل عمر بن الحكم ‏"‏ فقال له‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ حب الدنانير ‏"‏ وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله‏.‏

وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في ‏"‏ الشفاء ‏"‏ قولين‏:‏ هل قتل، أم لم يقتل‏؟‏ وقال القرطبي لا حجة على مالك من هذه القصة، لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال‏:‏ ‏"‏ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمر بها‏)‏ أي بالبئر ‏(‏فدفنت‏)‏ وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره عن هشام، وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال ‏"‏ لم يقل أبو أسامة في روايته فأمر بها فدفنت‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه، وإلا فقد أوردها البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة، كما في الباب بعده‏.‏

وقال في آخره ‏"‏ فأمر بها فدفنت ‏"‏ وقد تقدم أن في مرسل عبد الرحمن بن كعب ‏"‏ أن الحارث بن قيس هورها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه أبو أسامة‏)‏ هو حماد بن أسامة، وتأتي روايته موصولة بعد بابين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو ضمرة‏)‏ هو أنس بن عياض، وستأتي روايته موصولة في كتاب الدعوات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وابن أبي الزناد‏)‏ هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، ولم أعرف من وصلها بعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث وابن عيينة عن هشام في مشط ومشاطة‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره ‏"‏ ومشاقة ‏"‏ وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات، ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق، ورواية ابن عيينة تأتي موصولة بعد باب‏.‏

وذكر المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ تبعا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن الحميدي وعن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة، وطريق الحميدي ما هي في الطب في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وقد أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق الحميدي وقال بعده ‏"‏ أخرجه البخاري عن عبيد الله بن محمد ‏"‏ لم يزد على ذلك، وكذا لم يذكر أبو مسعود في أطرافه الحميدي، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط‏)‏ هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة‏.‏

المشاطة ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا من اللحية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمشاطة من مشاطة الكتان‏)‏ كذا لأبي ذر كأن المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط وبين الكتان إذا سرح، ووقع في رواية غير أبي ذر ‏"‏ والمشاقة ‏"‏ وهو أشبه، وقيل المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج، والله أعلم‏.‏