فصل: باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الجلوس على المنبر عند التأذين‏)‏ تقدمت مباحث حديث السائب قريبا، ومناسبته للذي قبله ظاهرة جدا، وأشار الزين بن المنير إلى أن مناسبة هذه الترجمة الإشارة إلى خلاف من قال الجلوس على المنبر عند التأذين غير مشروع وهو عن بعض الكوفيين‏.‏

وقال مالك والشافعي والجمهور‏:‏ هو سنة‏.‏

قال الزين‏:‏ والحكمة فيه سكون اللفظ، والتهيؤ للإنصات، والاستنصات لسماع الخطبة، وإحضار الذهن للذكر‏.‏

*3*باب التَّأْذِينِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التأذين عند الخطبة‏)‏ أي عند إرادتها، أورد فيه حديث السائب أيضا وقد تقدم ما فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ إِنَّ الْأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرُوا أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ

الشرح‏:‏

عبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد‏.‏

*3*باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ

وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الخطبة على المنبر‏)‏ أي مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها ويتناول غيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أنس خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر‏)‏ هذا طرف من حديث أورده المصنف في الاعتصام وفي الفتن مطولا وفيه قصة عبد الله بن حذافة، ومن حديثه أيضا في الاستسقاء في قصة الذي قال ‏"‏ هلك المال ‏"‏ وسيأتي ثم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَقَدْ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فُلَانَةَ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ثُمَّ جَاءَ بِهَا فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَا هُنَا ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجالا أتوا سهل بن سعد‏)‏ لم أقف على أسمائهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏امتروا‏)‏ من المماراة وهي المجادلة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ من الامتراء وهو الشك، ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عند مسلم ‏"‏ أن تماروا ‏"‏ فإن معناه تجادلوا، قال الراغب‏:‏ الامتراء والمماراة المجادلة، ومنه ‏(‏فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا‏)‏ ‏.‏

وقال أيضا‏:‏ المرية التردد في الشيء، ومنه ‏(‏فلا تكن في مرية من لقائه‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والله إني لأعرف مما هو‏)‏ فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده للسامع‏.‏

وفي قوله ‏"‏ ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه ‏"‏ زيادة على السؤال، لكن فائدته إعلامهم بقوه معرفته بما سألوه عنه، وقد تقدم في باب الصلاة على المنبر أن سهلا قال ‏"‏ ما بقي أحد أعلم به مني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرسل الخ‏)‏ هو شرح الجواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى فلانة امرأة من الأنصار‏)‏ في رواية أبي غسان عن أبي حازم ‏"‏ امرأة من المهاجرين ‏"‏ كما سيأتي في الهبة، وهو وهم من أبي غسان لإطباق أصحاب أبي حازم على قولهم ‏"‏ من الأنصار‏"‏، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في ‏"‏ باب الصلاة على المنبر ‏"‏ في أوائل الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مري غلامك النجار‏)‏ سماه عباس بن سهل عن أبيه فيما أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سعد في ‏"‏ شرف المصطفي ‏"‏ جميعا من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدثني عمارة بن غزية عنه ولفظه ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة، فلما كثر الناس قيل له‏:‏ لو كنت جعلت منبرا‏.‏

قال وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون ‏"‏ فذكر الحديث، وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعد الأنصاري عن ابن عباس نحو هذا السياق ولكن لم يسمه، وفي الطبراني من طريق أبي عبد الله الغفاري ‏"‏ سمعت سهل بن سعد يقول‏:‏ كنت جالسا مع خال لي من الأنصار‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اخرج إلى الغابة، وآتني من خشبها، فاعمل لي منبرا ‏"‏ الحديث‏.‏

وجاء في صانع المنبر أقوال أخرى‏:‏ أحدها اسمه إبراهيم، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي نضرة عن جابر‏.‏

وفي إسناده العلاء بن مسلمة الرواس وهو متروك، ثانيها باقول بموحدة وقاف مضمومة، رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع، ووصله أبو نعيم في المعرفة لكن قال باقوم آخره ميم وإسناده ضعيف أيضا‏.‏

ثالثها صباح بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة وآخره مهملة أيضا ذكره ابن بشكوال بإسناد شديد الانقطاع‏.‏

رابعها قبيصة أو قبيصة المخزومي مولاهم، ذكره عمر بن شبة في ‏"‏ الصحابة ‏"‏ بإسناد مرسل‏.‏

خامسها كلاب مولى العباس كما سيأتي‏.‏

سادسها تميم الداري رواه أبو داود مختصرا والحسن بن سفيان والبيهقي من طريق أبي عاصم عن عبد العزيز ابن أبي رواد ‏"‏ عن نافع عن ابن عمر أن تميما الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لحمه‏:‏ ألا نتخذ لك منيرا يحمل عظامك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، فاتخذ له منبرا ‏"‏ الحديث وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة، فإن البخاري أشار إليه ثم، وروى ابن سعد في ‏"‏ الطبقات ‏"‏ من حديث أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع فقال‏:‏ إن القيام قد شق على‏.‏

فقال له تميم الداري‏:‏ ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام‏؟‏ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب‏:‏ إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال‏:‏ مره أن يعمل ‏"‏ الحديث رجاله ثقات إلا المواقدي‏.‏

سابعها ميناء ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار ‏"‏ حدثني إسماعيل - هو ابن أبي أويس - عن أبيه قال‏:‏ عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة - أو من بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم - يقال له ميناء ‏"‏ انتهى‏.‏

وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه في ‏"‏ باب الصلاة على المنبر والسطوح ‏"‏ عن ابن التين أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد‏.‏

وليس في جميع هذه الروايات التي سمي فيها النجار شيء قوي السند إلا حديث ابن عمر، وليس فيه التصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم الداري، بل قد تبين من رواية ابن سعد أن تميما لم يعمله‏.‏

وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها‏.‏

ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة‏.‏

وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة ‏"‏ لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد ‏"‏ إلا إن كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته والبقية أعوانه فيمكن والله أعلم‏.‏

ووقع عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه رومي فقال‏:‏ ألا أصنع لك منبرا ‏"‏ الحديث، ولم يسمه يحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداري لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم‏.‏

وقد عرف مما تقدم سبب عمل المنبر، وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع‏.‏

وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت ‏"‏ فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا ‏"‏ فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى‏.‏

وحكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد ابن عبد الرحمن بن عوف قال ‏"‏ بعث معاوية إلى مروان - وهو عامله على المدينة - أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب وقال‏:‏ إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هي عليها اليوم‏"‏، ورواه من وجه آخر قال‏:‏ فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال ‏"‏ فزاد فيه ست درجات وقال‏:‏ إنما زدت فيه حين كثر الناس ‏"‏ قال ابن النجار وغيره‏:‏ استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين صلى الله عليه وسلم منبرا فأزيل منبر المظفر، فلم يزل إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر الله له صالح عمله آمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فعملها من طرفاء الغابة‏)‏ في رواية سفيان عن أبي حازم ‏"‏ من أثلة الغابة ‏"‏ كما تقدم في أوائل الصلاة، ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء وقيل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه، والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضا، وأصلها كل شجر ملتف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرسلت‏)‏ أي المرأة تعلم بأنه فرغ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمر بها فوصعت‏)‏ أنث لإرادة الأعواد والدرجات، ففي رواية مسلم من طريق عبد العزيز ابن أبي حازم ‏"‏ فعمل له هذا الدرجات الثلاث‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها‏)‏ أي على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقري‏)‏ لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم ولفظه ‏"‏ كبر فقرأ وركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقري ‏"‏ القهقرى بالقصر المشي إلى خلف‏.‏

والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة‏.‏

وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني ‏"‏ فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر ‏"‏ فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في أصل المنبر‏)‏ أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم عاد‏)‏ زاد مسلم من رواية عبد العزيز حتى فرغ من صلاته قوله‏:‏ ‏(‏ولتعلموا‏)‏ بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي لتتعلموا، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفي عليه رؤيته إذا صلى على الأرض ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه‏.‏

وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره‏.‏

وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وقد تقدم البحث فيه وكذا في جواز ارتفاع الإمام في ‏"‏ باب الصلاة في السطوح ‏"‏ وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد صلى الله عليه وسلم إما شكرا وإما تبركا‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض‏.‏

وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة‏.‏

قلت‏:‏ ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة، أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين‏.‏

ولا يلزم من مشروعية ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لمن ولى الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم بعض أمور الدين، والله الموفق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني يحيى بن سعيد‏)‏ هو الأنصاري، وابن أنس هو حفص بن عبيد الله بن أنس كما سيأتي في الرواية المعلقة، ونسب في هذه إلى جده، قال أبو مسعود الدمشقي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏‏:‏ إنما أبهم البخاري حفصا لأن محمد بن جعفر بن أبي كثير يقول ‏"‏ عبيد الله بن حفص ‏"‏ فيقلبه‏.‏

قلت‏:‏ كذا رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق محمد بن مسكين عن ابن أبي مريم شيخ البخاري فيه، ولكن أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأحوص محمد بن الهيثم عن ابن أبي مريم فقال ‏"‏ عن حفص بن عبيد الله ‏"‏ على الصواب، وقلبه أيضا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن يحيى بن سعيد أخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال‏:‏ الصواب فيه حفص بن عبيد الله‏.‏

وفي تاريخ البخاري ‏"‏ حفص بن عبيد الله بن أنس‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ عبيد الله بن حفص، ولا يصح عبيد الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصوات العشار‏)‏ بكسر المهملة بعدها معجمة قال الجوهري‏:‏ العشار جمع عشراء بالضم ثم الفتح وهي الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر ولا يزال ذلك اسمها إلى أن تلد‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ العشار الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة‏.‏

ويقال‏:‏ اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر، يقال ناقة عشراء ونوق عشار على غير قياس‏.‏

وسيأتي الكلام علي حديث الجذع في علامات النبوة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سليمان عن يحيى أخبرني حفص بن عبيد الله‏)‏ أما سليمان فهو ابن بلال، وأما يحي فهو ابن سعيد، وقد وصله المصنف في علامات النبوة بهذا الإسناد، وزعم بعضهم أنه سليمان بن كثير لأنه رواه عن يحيى بن سعيد، لكن فيه نظر لأن سليمان بن كثير قال فيه عن يحيى عن سعيد بن المسيب عن جابر كذلك أخرجه الدارمي عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان، فإن كان محفوظا فليحيى بن سعيد فيه شيخان والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخطب على المنبر‏)‏ هذا القدر هو المقصود إيراده في هذا الباب، وقد تقدم الكلام على المتن في ‏"‏ باب فضل الغسل يوم الجمعة ‏"‏ ويستفاد منه أن للخطيب تعليم الأحكام على المنبر‏.‏

*3*باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا

وَقَالَ أَنَسٌ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الخطبة قائما‏)‏ قال ابن المنذر الذي حمل عليه جل أهل العلم من علماء الأمصار ذلك، ونقل غيره عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب، وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء وصحت الخطبة، وعند الباقين أن القيام في الخطبة يشترط للقادر كالصلاة، واستدل للأول بحديث أبي سعيد الآتي في المناقب ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله ‏"‏ وبحديث سهل الماضي قبل ‏"‏ مري غلامك يعمل لي أعوادا أجلس عليها ‏"‏ والله الموفق‏.‏

وأجيب عن الأول أنه كان في غير خطبة الجمعة، وعن الثاني باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد وبين الخطبتين، واستدل للجمهور بحديث جابر بن سمرة المذكور وبحديث كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدا، فأنكر عليه وتلا ‏(‏وتركوك قائما‏)‏ وفي رواية ابن خزيمة ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرتين ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس ‏"‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية ‏"‏ وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، ولأن الذي نقل عنه القعود كان معذورا‏.‏

فعند ابن أبي شيبة من طريق الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه، وأما من احتج بأنه لو كان شرطا ما صلى من أنكر ذلك مع القاعد فجوابه أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أن الذي قعد قعد باجتهاد كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود ثم إنه صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أنس الخ‏)‏ هو طرف من حديث الاستسقاء أيضا وسيأتي في بابه‏.‏

ثم أورد في الباب حديث ابن عمر، وقد ترجم له بعد بابين ‏"‏ القعدة بين الخطبتين ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه ثم‏.‏

وفي الباب حديث جابر بن سمره ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب ‏"‏ أخرجه مسلم، وهو أصرح في المواظبة من حديث ابن عمر إلا أن إسناده ليس على شرط البخاري‏.‏

وروى ابن أبي شيبه من طريق طاوس قال ‏"‏ أول من خطب قاعدا معاوية حين كثر شحم بطنه ‏"‏ وهذا مرسل، يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال ‏"‏ أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعي جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية ‏"‏ وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة، حتى شق على عثمان القيام فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما ‏"‏ ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعدا لأنه تبين أن ذلك للضرورة‏.‏

*3*باب يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ الْقَوْمَ وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ إِذَا خَطَبَ

وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْإِمَامَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب استقبال الناس الإمام إذا خطب‏)‏ زاد في رواية كريمة في أول الترجمة ‏"‏ يستقبل الإمام القوم ‏"‏ ولم يبت الحكم وهو مستحب عند الجمهور، وفي وجه يجب، جزم به أبو الطيب الطبري من الشافعية فإن فعل أجزأ، وقيل لا، ذكره الشاشي، ونقل في شرح المهذب أن الالتفات يمينا وشمالا مكروه اتفاقا إلا ما حكى عن بعض الحنفية فقال أكثرهم‏:‏ لا يصح، ومن لازم الاستقبال استدبار الإمام القبلة، واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان أدعى لتفهم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واستقبل ابن عمر وأنس الإمام‏)‏ أما ابن عمر فرواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم قال‏:‏ ذكرت لليث بن سعد فأخبرني عن ابن عجلان أنه أخبره عن نافع أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله‏.‏

وأما أنس فرويناه في نسخة نعيم صلى الله عليه وسلم ابن حماد بإسناد صحيح عنه أنه كان إذا أخذ الإمام في الخطبة يوم الجمعة يستقبله بوجهه حتى يفرغ من الخطبة، ورواه ابن المنذر من وجه آخر ‏"‏ عن أنس أنه جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط واستقبل الإمام ‏"‏ قال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء‏.‏

وحكى غيره عن سعيد بن المسيب والحسن شيئا محتملا‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، يعني صريحا‏.‏

وقد استنبط المصنف من حديث أبي سعيد ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله ‏"‏ مقصود الترجمة، وهو طرف من حديث طويل سيأتي بهذا الإسناد في كتاب الزكاة في باب الصدقة على اليتامى، ويأتي الكلام عليه في الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالبا، ولا يعكر على ذلك ما تقدم من القيام في الخطبة لأن هذا محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه، إذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها، والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ

رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ قُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ قَالَتْ فَأَطَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِدًّا حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَفَتَحْتُهَا فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِي فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ قَالَتْ وَلَغَطَ نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لِأُسَكِّتَهُنَّ فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ قَالَتْ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ قَالَ الْمُوقِنُ شَكَّ هِشَامٌ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا فَيُقَالُ لَهُ نَمْ صَالِحًا قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنْ كُنْتَ لَتُؤْمِنُ بِهِ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ قَالَ الْمُرْتَابُ شَكَّ هِشَامٌ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ قَالَ هِشَامٌ فَلَقَدْ قَالَتْ لِي فَاطِمَةُ فَأَوْعَيْتُهُ غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من قال في الخطبة بعد الثناء‏:‏ أما بعد‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ يحتمل أن تكون ‏"‏ من ‏"‏ موصولة بمعنى الذي والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم كما في أخبار الباب، ويحتمل أن تكون شرطية والجواب محذوف والتقدير فقد أصاب السنة، وعلى التقديرين فينبغي للخطباء أن يستعملوها تأسيا واتباعا ا هـ‏.‏

ملخصا‏.‏

ولم يجد البخاري في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حديثا على شرطه، فاقتصر على ذكر الثناء، واللفظ الذي وضع للفصل بينه وبين ما بعده من موعظة ونحوها‏.‏

قال سيبويه‏:‏ أما بعد معناها مهما يكن من شيء بعد‏.‏

وقال أبو إسحاق هو الزجاج‏:‏ إذا كان الرجل في حديث فأراد أن يأتي بغيره قال أما بعد، وهو مبني على الضم لأنه من الظروف المقطوعة عن الإضافة، وقيل التقدير أما الثناء على الله فهو كذا، وأما بعد فكذا‏.‏

ولا يلزم في قسمه أن يصرح بلفظ، بل يكفي ما يقوم مقامه‏.‏

واختلف في أول من قالها، فقيل داود عليه السلام رواه الطبراني مرفوعا من حديث أبي موسى الأشعري وفي إسناده ضعف، وروى عبد بن حميد والطبراني عن الشعبي موقوفا أنها فضل الخطاب الذي أعطيه داود، وأخرجه سعيد بن منصور من طريق الشعبي فزاد فيه عن زياد بن سمية‏.‏

وقيل أول من قالها يعقوب رواه الدار قطني بسند رواه في غرائب مالك‏.‏

وقيل أول من قالها يعرب بن قحطان، وقيل كعب بن لؤي أخرجه القاضي أبو أحمد الغساني صلى الله عليه وسلم من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بسند ضعيف‏.‏

وقيل سحبان بن وائل‏.‏

وقيل قس بن ساعدة، والأول أشبه‏.‏

ويجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إلى العرب خاصة، ثم يجمع بينها بالنسبة إلى القبائل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رواه عكرمة عن ابن عباس‏)‏ سيأتي موصولا آخر الباب‏.‏

ثم أورد في الباب أيضا ستة أحاديث ظاهرة المناسبة لما ترجم له‏:‏ أولها حديث أسماء بنت أبي بكر في كسوف الشمس، وفيه ‏"‏ فحمد الله بما هو أهله ثم قال‏:‏ أما بعد ‏"‏ ثم ذكر قصة فتنة القبر، وسيأتي الكلام عليه في الكسوف، وذكره هنا عن محمود وهو ابن غيلان أحد شيوخه بصيغة ‏"‏ قال محمود ‏"‏ وكلام أبي نعيم في المستخرج يشعر بأنه قال ‏"‏ حدثنا محمود‏"‏‏.‏

ثانيها حديث عمرو بن تغلب - وهو بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام بعدها موحدة - وفيه ‏"‏ فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه في كتاب الخمس، ووقع هنا في بعض النسخ ‏"‏ تابعه يونس ‏"‏ وهو ابن عبيد‏.‏

وقد وصله أبو نعيم في مسند يونس بن عبيد له بإسناده عنه عن الحسن عن عمرو‏.‏

ثالثها حديث عائشة في قصة صلاة الليل وفيه ‏"‏ فتشهد ثم قال أما بعد ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه في أبواب التطوع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تَابَعَهُ يُونُسُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعة يونس‏)‏ هو ابن يزيد؛ وقد وصله مسلم من طريقه بتمامه، وكلام المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ يدل على أن يونس إنما تابع شعيبا في ‏"‏ أما بعد ‏"‏ فقط وليس كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ أَمَّا بَعْدُ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه الزبيدي‏)‏ وصله الطبراني في مسند الشاميين من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عنه عن الزهري بتمامه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ فَثَابُوا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ الْأَنْصَارِ يَقِلُّونَ وَيَكْثُرُ النَّاسُ فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس قال ‏"‏ صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وكان - أي صعوده - آخر مجلس جلسه ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فحمد الله وأثنى عليه ‏"‏ وفيه ‏"‏ ثم قال أما بعد ‏"‏ وسيأتي في فضائل الأنصار بتمامه، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي الباب مما لم يذكره عن عائشة في قصة الإفك، وعن أبي سفيان في الكتاب إلى هرقل متفق عليهما، وعن جابر قال ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فيقول‏:‏ أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وفي رواية له عنه ‏"‏ كان خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ يقول‏:‏ أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله ‏"‏ وهذا أليق بمراد المصنف للتنصيص فيه على الجمعة، لكنه ليس على شرطه كما قدمناه‏.‏

ويستفاد من هذه الأحاديث أن ‏"‏ أما بعد ‏"‏ لا تختص بالخطب، بل تقال أيضا في صدور الرسائل والمصنفات، ولا اقتصار عليها في إرادة الفصل بين الكلامين، بل ورد في القرآن في ذلك لفظ ‏"‏ هذا وأن ‏"‏ صلى الله عليه وسلم وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ ‏"‏ وبعد ‏"‏ ومنهم من صدر بها كلامه فيقول في أول الكتاب ‏"‏ أما بعد حمد الله فإن الأمر ‏"‏ كذا ولا حجر في ذلك‏.‏

وقد تتبع طرق الأحاديث التي وقع فيها ‏"‏ أما بعد ‏"‏ الحافظ عبد القادر الرهاوي في خطبة الأربعين المتباينة له فأخرجه عن اثنين وثلاثين صحابيا‏.‏

منها ما أخرجه من طريق ابن جريج عن محمد بن سيرين عن المسور بن مخرمة ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب خطبة قال‏:‏ أما بعد ‏"‏ ورجاله ثقات، وظاهره المواظبة على ذلك‏.‏

*3*باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب القعدة بين الخطبتين‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم يصرح بحكم الترجمة لأن مستند ذلك الفعل ولا عموم له ا هـ‏.‏

ولا اختصاص بذلك لهذه الترجمة فإنه لم يصرح بحكم غيرها من أحكام الجمعة، وظاهر صنيعه أنه يقول بوجوبها كما يقول به في أصل الخطبة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخطب خطبتين يقعد بينهما‏)‏ مقتضاه أنه كان يخطبهما قائما، وصرح به في رواية خالد بن الحارث المتقدمة قبل ببابين ولفظه ‏"‏ كان يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ‏"‏ وللنسائي والدار قطني من هذا الوجه ‏"‏ كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس ‏"‏ وغفل صاحب العمدة فعزا هذا اللفظ للصحيحين، ورواه أبو داود بلفظ ‏"‏ كان يخطب خطبتين‏:‏ كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب ‏"‏ واستفيد من هذا أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا‏.‏

واستدل به الشافعي في إيجاب الجلوس بين الخطبتين لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك مع قوله ‏"‏ صلوا كما رأيتموني أصلي‏"‏‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل‏.‏

وزعم الطحاوي أن الشافعي تفرد بذلك، وتعقب بأنه محكي عن مالك أيضا في رواية، وهو المشهور عن أحمد نقله شيخنا في شرح الترمذي، وحكى ابن المنذر أن بعض العلماء عارض الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى، فإن كانت مواظبته دليلا على شرطية الجلسة الوسطى فلتكن دليلا على شرطية الجلسة الأولى، وهذا متعقب بأن جل الروايات عن ابن عمر ليست فيها هذه الجلسة الأولى وهي من رواية عبد الله العمري المضعف فلم تثبت المواظبة عليها، بخلاف التي بين الخطبتين‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ المغني ‏"‏‏:‏ لم يوجبها أكثر أهل العلم لأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تجب، وقدرها من قال بوجوبها بقدر جلسة الاستراحة وبقدر ما يقرأ سورة الإخلاص‏.‏

واختلف في حكمتها فقيل‏:‏ للفصل بين الخطبتين، وقيل للراحة وعلى الأول - وهو الأظهر - يكفي السكوت بقدرها، ويظهر أثر الخلاف أيضا فيمن خطب قاعدا لعجزه عن القيام‏.‏

وقد ألزم الطحاوي من قال بوجوب الجلوس بين الخطبتين أن يوجب القيام في الخطبتين، لأن كلا منهما اقتصر على فعل شيء واحد‏.‏

وتعقبه الزين بن المنير‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏