فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا

وَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ قَالَ يَحْيَى الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - وإن الله عنده علم الساعة - وأنزله بعلمه - وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه - إليه يرد علم الساعة‏)‏ أما الآية الأولى فسيأتي شيء من الكلام عليها في آخر شرحه، وأما الآية الثانية فمضى الكلام عليها في تفسير سورة لقمان عند شرح ابن عمر المذكور هنا، وأما الآية الثالثة فمن الحجج البينة في إثبات العلم لله، وحرفه المعتزلي نصرة لمذهبه، فقال أنزله ملتبسا بعلمه الخاص، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ، وتعقب بأن نظم العبارات ليس هو نفس العلم القديم بل دال عليه، ولا ضرورة تحوج إلى الحمل على غير الحقيقة التي هي الإخبار عن علم الله الحقيقي وهو من صفات ذاته‏.‏

وقال المعتزلي أيضا أنزله بعلمه وهو عالم، فأول علمه بعالم فرارا من إثبات العلم له مع تصريح الآية به، وقد قال تعالى ‏(‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏)‏ وتقدم في قصة موسى والخضر ‏"‏ ما علمي وعلمك في علم الله ‏"‏ ووقع حديث الاستخارة الماضي في الدعوات ‏"‏ الهم إني أستخيرك بعلمك ‏"‏ وأما الآية الرابعة فهي كالأولى في إثبات العلم وأصرح‏.‏

وقال المعتزلي قوله ‏"‏ بعلمه ‏"‏ في موضع الحال أي لا معلومة بعلمه فتعسف فيما أول وعدل عن الظاهر بغير موجب، وأما الآية الخامسة فقال الطبري معناها‏:‏ لا يعلم متى وقت قيامها غيره فعلى هذا فالتقدير إليه يرد علم وقت الساعة، قال ابن بطال‏:‏ في هذه الآيات إثبات علم الله تعالى وهو من صفات ذاته، خلافا لمن قال إنه عالم بلا علم، ثم إذا ثبت أنه علمه قديم وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته بدلالة هذه الآيات، وبهذا التقرير يرد عليهم في القدرة والقوة والحياة وغيرها‏.‏

وقال غيره ثبت أن الله مريد بدليل تخصيص الممكنات بوجود ما وجد منها بدلا من عدمه، وعدم المعدوم منها بدلا من وجوده، ثم إما أن يكون فعله لها بصفة يصح منه بها التخصيص والتقديم والتأخير أولا، والثاني لو كان فاعلا لها لا بالصفة المذكورة، لزم صدور الممكنات عنه صدورا واحدا بغير تقديم وتأخير ولا تطوير، ولكان يلزم قدمها ضرورة استحالة تخلف المقتضي على مقتضاه الذاتي، فيلزم كون الممكن واجبا، والحادث قديما وهو محال، فثبت أنه فاعل بصفة يصح منه بها التقديم والتأخير فهذا برهان المعقول وأما برهان المنقول فآي من القرآن كثيرة كقوله تعالى ‏(‏إن ربك فعال لما يريد‏)‏ ثم الفاعل للمصنوعات بخلقه بالاختيار يكون متصفا بالعلم والقدرة لأن الإرادة وهي الاختيار مشروطة بالعلم بالمراد، ووجود المشروط بدون شرطه محال ولأن المختار للشيء إن كان غيره قادرا عليه تعذر عليه صدور مختاره، ومراده ولما شوهدت المصنوعات صدرت عن فاعلها المختار من غير تعذر علم قطعنا أنه قادر على إيجادها، وسيأتي مزيد الكلام في الإرادة في باب ‏"‏ المشيئة والإرادة ‏"‏ بعد نيف وعشرين بابا‏.‏

وقال البيهقي بعد أن ذكر الآيات المذكورة في الباب وغيرها مما هو في معناها، كان أبو إسحاق الإسفرايني يقول‏:‏ معنى العليم يعلم المعلومات ومعنى الخبير يعلم ما كان قبل أن يكون؛ ومعنى الشهيد يعلم الغائب كما يعلم الحاضر ومعنى المحصي لا تشغله الكثرة عن العلم، وساق عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏يعلم السر وأخفى‏)‏ قال يعلم ما أسر العبد نفسه وما أخفى عنه مما سيفعله قبل أن يفعله ومن وجه آخر عن ابن عباس قال‏:‏ يعلم السر الذي في نفسك ويعلم ما ستعمل غدا‏.‏

قوله ‏(‏قال الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما‏)‏ ‏"‏ يحيى ‏"‏ هذا هو ابن زياد الفراء النحوي المشهور ذكر ذلك في ‏"‏ كتاب معاني القرآن ‏"‏ له‏.‏

وقال غيره‏:‏ معنى الظاهر الباطن العالم بظواهر الأشياء وبواطنها، وقيل الظاهر بالأدلة الباطن بذاته، وقيل الظاهر بالعقل الباطن بالحس، وقيل معنى الظاهر العالي على كل شيء لأن من غلب على شيء ظهر عليه وعلاه، والباطن الذي بطن في كل شيء أي علم باطنه وشمل قوله أي كل شيء علم ما كان وما سيكون على سبيل الإجمال والتفصيل، لأن خالق المخلوقات كلها بالاختيار متصف بالعلم بهم والاقتدار عليهم، أما أولا فلأن الاختيار مشروط بالعلم، ولا يوجد المشروط دون شرطه، وأما ثانيا فلأن المختار للشيء لو كان غير قادر عليه لتعذر مراده وقد وجدت بغير تعذر فدل على أنه قادر على إيجادها، وإذا تقرر ذلك لم يتخصص علمه في تعلقه بمعلوم دون معلوم لوجوب قدمه المنافي لقبول التخصيص، فثبت أنه يعلم الكليات لأنها معلومات، والجزئيات لأنها معلومات أيضا، ولأنه مريد لإيجاد الجزئيات والإرادة للشيء المعين إثباتا ونفيا مشروطة بالعلم بذلك المراد الجزئي فيعلم المرئيات للرائين ورؤيتهم لها على الوجه الخاص، وكذا المسموعات وسائر المدركات لما علم ضرورة من وجوب الكمال له وأضداد هذه الصفات نقص، والنقص ممتنع عليه سبحانه وتعالى، وهذا القدر كاف من الأدلة العقلية، وضل من زعم من الفلاسفة أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي، واحتجوا بأمور فاسدة منها أن ذلك يؤدي إلى محال وهو تغير العلم فإن الجزئيات زمانية تتغير بتغير الزمان والأحوال، والعلم تابع للمعلومات في الثبات والتغير فيلزم تغير علمه، والعلم قائم بذاته فتكون محلا للحوادث وهو محال، والجواب أن التغير إنما وقع في الأحوال الإضافية، وهذا مثل رجل قام عن يمين الاسطوانة ثم عن يسارها ثم أمامها ثم خلفها، فالرجل هو الذي يتغير والاسطوانة بحالها، فالله سبحانه وتعالى عالم بما كنا عليه أمس وبما نحن عليه الآن وبما نكون عليه غدا، وليس هذا خبرا عن تغير علمه بل التغير جار على أحوالنا وهو عالم في جميع الأحوال على حد واحد، وأما السمعية فالقرآن العظيم طافح بما ذكرناه مثل قوله تعالى ‏(‏أحاط بكل شيء علما‏)‏ وقال ‏(‏لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏)‏ وقال تعالى ‏(‏إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏)‏ ولهذه النكتة أورد المصنف حديث ابن عمر في مفاتيح الغيب وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب التفسير ‏"‏ ثم ذكر حديث عائشة مختصرا، وقوله فيه ‏"‏ ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب ‏"‏ وهو يقول ‏(‏لا يعلم الغيب إلا الله‏)‏ كذا وقع في هذه الرواية عن ‏"‏ محمد بن يوسف ‏"‏ وهو الفريابي، وعن ‏"‏ سفيان ‏"‏ وهو الثوري، عن ‏"‏ إسماعيل ‏"‏ وهو ابن أبي خالد‏.‏

وقد تقدم في تفسير سورة النجم من طريق وكيع إسماعيل بلفظ ‏"‏ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ‏"‏ ثم قرأت ‏(‏وما تدري نفس ماذا تكسب غدا‏)‏ وذكر هذه الآية أنسب في هذا الباب لموافقته حديث ابن عمر الذي قبله لكنه جرى على عادته التي أكثر منها من اختيار الإشارة على صريح العبارة، وتقدم شرح ما يتعلق بالرؤية في تفسير سورة النجم، وما يتعلق بعلم الغيب في سورة لقمان، وتقدم في تفسير سورة المائدة بهذا السند ‏"‏ من حدثك أن محمدا كتم شيئا ‏"‏ وأحلت بشرحه على ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ وسأذكره إن شاء الله تعالى في باب‏:‏ ‏(‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏)‏ ونقل ابن التين عن الداودي قال قوله في هذا الطريق ‏"‏ من حدثك أن محمدا يعلم الغيب ‏"‏ ما أظنه محفوظا وما أحد يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم من الغيب إلا ما علم انتهى‏.‏

وليس في الطريق المذكورة هنا التصريح بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وقع فيه بلفظ ‏"‏ من حدثك أنه يعلم ‏"‏ وأظنه بني على أن الضمير في قول عائشة ‏"‏ من حدثك ‏"‏ أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في الذي قبله حيث قالت ‏"‏ من حدثك أن محمدا رأى ربه ‏"‏ ثم قالت ‏"‏ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد ‏"‏ ويعكر عليه أنه وقع في رواية إبراهيم النخعي عن مسروق عن عائشة قالت ‏"‏ ثلاث من قال واحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية‏:‏ من زعم أنه يعلم ما في غد ‏"‏ الحديث أخرجه النسائي وظاهر هذا السياق أن الضمير للزاعم، ولكن ورد التصريح بأنه لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد ربه بن سعيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي بلفظ ‏"‏ أعظم الفرية على الله من قال إن محمدا رأى ربه، وأن محمدا كتم شيئا من الوحي، وأن محمدا يعلم ما في غد ‏"‏ وهو عند مسلم من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن داود وسياقه أتم، ولكن قال فيه ‏"‏ ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد ‏"‏ هكذا بالضمير، كما في رواية إسماعيل معطوفا على ‏"‏ من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا ‏"‏ وما ادعاه من النفي متعقب، فإن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن ذلك حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال زيد بن الصيت بصاد مهملة وآخره مثناة وزن عظيم‏:‏ يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن رجلا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا قد حبستها شجرة، فذهبوا فجاءوه بها ‏"‏ فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وهو مطابق لقوله تعالى ‏(‏فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول‏)‏ الآية، وقد اختلف في المراد بالغيب فيها فقيل هو على عمومه، وقيل ما يتعلق بالوحي خاصة، وقيل ما يتعلق بعلم الساعة وهو ضعيف لما تقدم في تفسير لقمان، أن علم الساعة مما استأثر الله بعلمه، إلا إن ذهب قائل ذلك، إلى أن الاستثناء منقطع، وقد تقدم ما يتعلق بالغيب هناك‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ في هذه الآية إبطال الكرامات لأن الذين يضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وتعقب بما تقدم وقال الإمام فخر الدين‏:‏ قوله على غيبه لفظ مفرد وليس فيه صيغة عموم، فيصح أن يقال إن الله لا يظهر على غيب واحد من غيوبه أحدا إلا الرسل، فيحمل على وقت وقوع القيامة ويقويه ذكرها عقب قوله ‏(‏أقريب ما توعدون‏)‏ وتعقب بأن الرسل لم يظهروا على ذلك‏.‏

وقال أيضا يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا، أي لا يظهر على غيبه المخصوص أحدا لكن من ارتضى من رسول فإنه يجعل له حفظه‏.‏

وقال القاضي البيضاوي‏:‏ يخصص الرسول بالملك في اطلاعه على الغيب، والأولياء يقع لهم ذلك بالإلهام‏.‏

وقال ابن المنير دعوى الزمخشري عامة ودليله خاص، فالدعوى امتناع الكرامات كلها، والدليل يحتمل أن يقال ليس فيه إلا نفي الاطلاع على الغيب بخلاف سائر الكرامات انتهى‏.‏

وتمامه أن يقال المراد بالاطلاع على الغيب ‏"‏ علم ما سيقع قبل أن يقع على تفصيله ‏"‏ فلا يدخل في هذا ما يكشف لهم من الأمور المغيبة عنهم وما لا يخرق لهم من العادة، كالمشي على الماء وقطع المسافة البعيدة في مدة لطيفة ونحو ذلك‏.‏

وقال الطيبي الأقرب تخصيص الاطلاع بالظهور والخفاء، فإطلاع الله الأنبياء على المغيب أمكن، ويدل عليه حرف الاستعلاء في ‏"‏ على غيبه ‏"‏ فضمن ‏"‏ يظهر ‏"‏ معنى يطلع، فلا يظهر على غيبه إظهارا تاما وكشفا جليا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال ‏(‏فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا‏)‏ وتعليله بقوله ‏(‏ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم‏)‏ وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء‏.‏

وقد جزم الأستاذ أبو إسحاق بأن كرامات الأولياء لا تضاهي ما هو معجزة للأنبياء‏.‏

وقال أبو بكر بن فورك‏:‏ الأنبياء مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه إخفاؤها؛ والنبي يدعي ذلك بما يقطع به بخلاف الولي فإنه لا يأمن الاستدراج‏.‏

وفي الآية رد على المنجمين وعلى كل من يدعي أنه يطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك لأنه مكذب للقرآن وهم أبعد شيء من الارتضا مع سلب صفة الرسلية عنهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ

الشرح‏:‏

وقوله في أول حديث ابن عمر ‏"‏ مفاتيح الغيب - إلى أن قال - لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ‏"‏ فوقع في معظم الروايات ‏"‏ لا يعلم ما في الأرحام إلا الله ‏"‏ واختلف في معنى الزيادة والنقصان على أقوال‏:‏ فقيل ما ينقص من الخلقة وما يزداد فيها، وقيل ما ينقص من التسعة الأشهر في الحمل وما يزداد في النفاس إلى الستين، وقيل ما ينقص بظهور الحيض في الحبل بنقص الولد وما يزداد على التسعة الأشهر بقدر ما حاضت، وقيل ما ينقص في الحمل بانقطاع الحيض وما يزداد بدم النفاس من بعد الوضع، وقيل ما ينقص من الأولاد قبل وما يزداد من الأولاد بعد‏.‏

وقال الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة نفع الله به استعار للغيب مفاتيح اقتداء بما نطق به الكتاب العزيز ‏(‏وعنده مفاتح الغيب‏)‏ وليقرب الأمر على السامع لأن أمور الغيب لا يحصيها إلا عالمها وأقرب الأشياء إلى الاطلاع على ما غاب الأبواب، والمفاتيح أيسر الأشياء لفتح الباب فإذا كان أيسر الأشياء لا يعرف موضعها فما فوقها أحرى أن لا يعرف قال والمراد بنفي العلم عن الغيب الحقيقي فإن لبعض الغيوب أسبابا قد يستدل بها عليها لكن ليس ذلك حقيقيا قال فلمان كان جميع ما في الوجود محصورا في علمه شبهه المصطفى بالمخازن واستعار لبابها المفتاح وهو كما قال تعالى ‏(‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏)‏ قال والحكمة في جعلها خمسا الإشارة إلى حصر العوالم فيها ففي قوله ‏(‏وما تغيض الأرحام‏)‏ إشارة إلى ما يزيد في النفس وينقص وخص الرحم بالذكر لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ومع ذلك فنفى أن يعرف أحد حقيقتها فغيرها بطريق الأولى وفي قوله ولا يعلم متى يأتي المطر إشارة إلى أمور العالم العلوي وخص المطر مع أن له أسبابا قد تدل بجري العادة على وقوعه لكنه من غير تحقيق‏.‏

وفي قوله ‏"‏ ولا تدري نفس بأي أرض تموت ‏"‏ إشارة إلى أمور العالم السفلي مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ولكن ليس ذلك حقيقة بل لو مات في بلده لا يعلم في أي بقعة يدفن منها ولو كان هناك مقبرة لأسلافه بل قبر أعده هو له وفي قوله ‏"‏ ولا يعلم ما في غد إلا الله ‏"‏ إشارة إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث وعبر بلفظ غد لتكون حقيقته أقرب الأزمنة وإذا كان مع قربة لا يعلم حقيقة ما يقع فيه مع إمكان الأمارة والعلامة فما بعد عنه أولى‏.‏

وفي قوله ‏"‏ ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ‏"‏ إشارة إلى علوم الآخرة فإن يوم القيامة أولها وإذا نفى علم الأقرب انتفى علم ما بعده فجمعت الآية أنواع الغيوب وأزالت جميع الدعاوي الفاسدة وقد بين بقوله تعالى في الآية الأخرى وهي قوله تعالى ‏(‏فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول‏)‏ أن الاطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوفيق انتهى ملخصا‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى السلام المؤمن‏)‏ كذا للجميع وزاد ابن بطال المهيمن وقال غرضه بهذا الباب إثبات أسماء من أسماء الله تعالى ثم ذكر بعض ما ورد في معانيها وفيما ذكره نظر سلمنا لكن وظيفة الشارح بيان وجه تخصيص هذه الأسماء الثلاثة بالذكر دون غيرها وإفرادها بترجمة ويمكن أن يكون أراد بهذا القدر جميع الآيات الثلاث المذكورة في آخر سورة الحشر فإنها ختمت بقوله تعالى ‏(‏له الأسماء الحسنى‏)‏ وقد قال في سورة الأعراف ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ فكأنه بعد إثبات حقيقة القدرة والقوة والعلم أشار إلى أن الصفات السمعية ليست محصورة في عدد معين بدليل الآية المذكورة أو أراد الإشارة إلى ذكر الأسماء التي تسمى الله تعالى بها وأطلقت مع ذلك على المخلوقين فالسلام ثبت في القرآن وفي الحديث الصحيح أنه من أسماء الله تعالى وقد أطلق على التحية الواقعة بين المؤمنين والمؤمن يطلق على من اتصف بالإيمان وقد وقعا معا من غير تخلل بينهما في الآية المشار إليها فناسب أن يذكرهما في ترجمة واحدة وقال أهل العلم معنى السلام في حقه سبحانه وتعالى الذي سلم المؤمنون من عقوبته وكذا في تفسير المؤمن الذي أمن المؤمنون من عقوبته وقيل السلام من سلم من كل نقص وبرئ من كل آفة وعيب فهي صفة سلبية وقيل المسلم على عباده لقوله ‏(‏سلام قولا من رب رحيم‏)‏ فهي صفة كلامية وقيل الذي سلم الخلق من ظلمه وقيل منه السلامة لعباده فهي صفة فعلية وقيل المؤمن الذي صدق نفسه وصدق أولياءه وتصديقه علمه بأنه صادق وأنهم صادقون وقيل الموحد لنفسه وقيل خالق الأمن وقيل واهب الأمن، وقيل خالق الطمأنينة في القلوب وأما ‏"‏ المهيمن ‏"‏ فإن ثبت في الرواية فقد تقدم ما فيه في التفسير، ومما يستفاد أن ابن قتيبة ومن تبعه كالخطابي زعموا أنه مفيعل من الأمن قلبت الهمز هاء، وقد تعقب ذلك إمام الحرمين، ونقل إجماع العلماء على أن أسماء الله لا تصغر، ونقل البيهقي عن الحليمي أن المهيمن معناه الذي لا ينقص الطائع من ثوابه شيئا ولو كثر، ولا يزيد العاصي عقابا على ما يستحقه لأنه لا يجوز عليه الكذب، وقد سمي الثواب والعقاب جزاء وله أن يتفضل بزيادة الثواب ويعفو عن كثير من العقاب قال البيهقي‏:‏ هذا شرح قول أهل التفسير في المهيمن أنه الأمين، ثم ساق من طريق التيمي عن ابن عباس في قوله ‏"‏ مهيمنا عليه ‏"‏ قال مؤتمنا ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ المهيمن الأمين، ومن طريق مجاهد قال‏:‏ المهيمن الشاهد، وقيل‏:‏ المهيمن الرقيب على الشيء والحافظ له، وقيل‏:‏ الهيمنة القيام على الشيء، قال الشاعر‏:‏ ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم انتهى‏.‏

ويصح أن يريد الأمين عليهم فيوافق ما تقدم، ثم ذكر

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقُولُ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في ‏"‏ التشهد ‏"‏ وسنده كله كوفيون ‏"‏ وأحمد بن يونس ‏"‏ هو ابن عبد الله بن يونس اليربوعي نسب لجده و ‏"‏ زهير ‏"‏ هو ابن معاوية الجعفي و ‏"‏ مغيرة ‏"‏ هو ابن مقسم الضبي ‏"‏ وشقيق بن سلمة ‏"‏ هو أبو وائل مشهور بكنيته وباسمه معا، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أحمد بن يحيى الحلواني عن أحمد بن يونس فقال ‏"‏ حدثنا زهير بن معاوية حدثنا مغيرة الضبي ‏"‏ وساق المتن مثله سواء، وضاق على الإسماعيلي مخرجه فاكتفى برواية ‏"‏ عثمان بن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة ‏"‏ وساقه نحوه من رواية زهير، وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة عن مغيرة بسنده، وقوله في المتن ‏"‏ فنقول السلام على الله ‏"‏ هكذا اختصره مغيرة، وزاد في رواية الأعمش ‏"‏ من عباده ‏"‏ وفي لفظ مضي في الاستئذان ‏"‏ قبل عباده السلام على جبريل ‏"‏ إلخ‏.‏

وقد تقدم بيان ذلك مفصلا في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ في أواخر صفة الصلاة من قبل ‏"‏ كتاب الجمعة ‏"‏ ولله الحمد‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَلِكِ النَّاسِ

فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ملك الناس‏)‏ قال البيهقي‏:‏ الملك والمالك هو الخاص الملك، ومعناه في حق الله تعالى القادر على الإيجاد، وهي صفة يستحقها لذاته‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الملك المتصف بالأمر والنهي وذلك يختص بالناطقين، ولهذا قال ‏(‏ملك الناس‏)‏ ولم يقل ملك الأشياء، قال‏:‏ وأما قوله ‏(‏ملك يوم الدين‏)‏ فتقديره الملك في يوم الدين، لقوله ‏(‏لمن الملك اليوم‏)‏ انتهى ويحتمل أن يكون خص الناس بالذكر في قوله تعالى ‏(‏ملك الناس‏)‏ لأن المخلوقات جماد ونام والنامي صامت وناطق والناطق متكلم وغير متكلم فأشرف الجميع المتكلم وهم ثلاثة‏:‏ الإنس والجن والملائكة، وكل من عداهم جائز دخوله تحت قبضتهم وتصرفهم، وإذا كان المراد بالناس في الآية المتكلم فمن ملكوه في ملك من ملكهم فكان في حكم ما لو قال ملك كل شيء مع التنويه بذكر الأشرف؛ وهو المتكلم‏.‏

قوله ‏(‏فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي يدخل في هذا الباب حديث ابن عمر، ومراده حديثه الآتي بعد اثنى عشر بابا في ترجمة قوله تعالى ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ وسيأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى ثم ذكر

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ وَقَالَ شُعَيْبٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ‏"‏ أخرجه من رواية ‏"‏ يونس ‏"‏ وهو ابن يزيد عن ابن شهاب بسنده، ثم قال‏:‏ وقال شعيب والزبيدي وابن مسافر وإسحاق بن يحيى عن الزهري وعن أبي سلمة مثله، كذا وقع لأبي ذر وسقط لغيره لفظ ‏"‏ مثله ‏"‏ وليس المراد أن أبا سلمة أرسله بل مراده أنه اختلف على ‏"‏ ابن شهاب ‏"‏ وهو الزهري في شيخه فقال يونس هو سعيد ابن المسيب وقال الباقون أبو سلمة وكل منهما يرويه عن أبي هريرة، فأما رواية ‏"‏ شعيب ‏"‏ وهو ابن أبي حمزة الحمصي فستأتي في الباب المشار إليه في الحديث المعلق آنفا، فإنه قال هناك ‏"‏ وقال أبو اليمان أنا شعيب ‏"‏ فذكر طرفا من المتن، وقد وصله الدارمي قال ‏"‏ حدثنا الحكم بن نافع ‏"‏ وهو أبو اليمان فذكره، وفيه ‏"‏ سمعت أبا سلمة يقول قال أبو هريرة ‏"‏ وكذا أخرجه ابن خزيمة في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ من صحيحه ‏"‏ عن محمد بن يحيى الذهلي عن أبي اليمان ‏"‏ وأما رواية ‏"‏ الزبيدي ‏"‏ بضم الزاي بعدها موحدة، وهو محمد بن الوليد الحمصي فوصلها ابن خزيمة أيضا من طريق عبد الله بن سالم عنه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وأما طريق ‏"‏ ابن مسافر ‏"‏ وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أمير مصر نسب لجده فتقدمت موصولة في تفسير سورة الزمر، من طريق الليث بن سعد عنه كذلك، وأما رواية ‏"‏ إسحاق بن يحيى ‏"‏ وهو الكلبي فوصلها الذهلي في الزهريات، قال الإسماعيلي وافق الجماعة عبيد الله بن زياد الرصافي في أبي سلمة‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الصدفي عن الزهري كذلك، ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي أن الطريقين محفوظان انتهى‏.‏

وصنيع البخاري يقتضي ذلك وإن كان الذي تقتضيه القواعد ترجيح رواية شعيب لكثرة من تابعه لكن يونس كان من خواص الزهري الملازمين له، قال ابن بطال‏:‏ قوله تعالى ‏(‏ملك الناس‏)‏ داخل في معنى التحيات لله أي الملك لله، وكأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يقولوا التحيات لله امتثالا لأمر ربه ‏(‏قل أعوذ برب الناس ملك الناس‏)‏ ووصفه بأنه ‏(‏ملك الناس‏)‏ يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون بمعنى القدرة فيكون صفة ذات، وأن يكون بمعنى القهر والصرف عما يريدون فيكون صفة فعل، قال‏:‏ وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله تعالى من صفات ذاته وليست جارحة خلافا للمجسمة انتهى ملخصا‏.‏

والكلام على اليمين يأتي في الباب المشار إليه ولم يعرج على التوفيق بين الحديث والترجمة، والذي يظهر لي أنه أشار إلى ما قاله شيخه نعيم بن حماد الخزاعي، قال ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ وجدت في كتاب أبي عمر نعيم بن حماد قال‏:‏ يقال للجهمية أخبرونا عن قول الله تعالى بعد فناء خلقه ‏(‏لمن الملك اليوم‏)‏ فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه ‏(‏لله الواحد القهار‏)‏ وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم أفهذا مخلوق انتهى‏.‏

وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أن الله يخلق كلاما فيسمعه من شاء، بأن الوقت الذي يقول فيه ‏(‏لمن الملك اليوم‏)‏ لا يبقى حينئذ مخلوق حيا، فيجيب نفسه فيقول ‏(‏لله الواحد القهار‏)‏ فثبت أنه يتكلم بذلك وكلامه صفة من صفات ذاته فهو غير مخلوق، وعن أحمد بن سلمة عن إسحاق بن راهويه، قال صح أن الله يقول بعد فناء خلقه ‏(‏لمن الملك اليوم‏)‏ فلا يجبيه أحد فيقول لنفسه ‏(‏لله الواحد القهار‏)‏ قال ووجدت في كتاب عند أبي عن هشام بن عبيد الله الرازي قال ‏"‏ إذا مات الخلق ولم يبق إلا الله وقال ‏(‏لمن الملك اليوم‏)‏ فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه فيقول لله الواحد القهار ‏"‏ قال فلا يشك أحد أن هذا كلام الله وليس بوحي إلى أحد لأنه لم تبق نفس فيها روح إلا وقد ذاقت الموت، والله هو القائل وهو المجيب لنفسه‏.‏

قلت‏:‏ وفي حديث الصور الطويل الذي تقدمت الإشارة إليه في أواخر ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ في صفة الحشر ‏"‏ فإذا لم يبق إلا الله كان آخرا كما كان أولا طوى السماء والأرض ثم دحاها ثم تلقفهما ثم قال أنا الجبار ثلاثا ثم قال لمن الملك اليوم ثلاثا ثم قال لنفسه لله الواحد القهار ‏"‏ قال الطبري في قوله تعالى ‏(‏يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم‏)‏ يعني يقول الله لمن الملك فترك ذكر ذلك استغناء لدلالة الكلام عليه قال‏:‏ وقوله ‏"‏ لله الواحد القهار ‏"‏ ذكر أن الرب جل جلاله هو القائل ذلك مجيبا لنفسه، ثم ذكر الرواية بذلك من حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ

وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ جَهَنَّمُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَقَالَ أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى وهو العزيز الحكيم سبحان ربك رب العزة عما يصفون ولله العزة ولرسوله‏)‏ أما الآية الأولى فوقعت في عدة سور وتكررت في بعضها، وأول موضع وقع فيه ‏(‏وهو العزيز الحكيم‏)‏ في سورة إبراهيم، وأما مطلق ‏(‏العزيز الحكيم‏)‏ فأول ما وقع في البقرة في دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة ‏(‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم‏)‏ الآية، وآخرها ‏(‏إنك أنت العزيز الحكيم‏)‏ وتكرر ‏(‏العزيز الحكيم‏)‏ و ‏(‏وعزيز حكيم‏)‏ بغير لام فيهما في عدة من السور، وأما الآية الثانية ففي إضافة العزة إلى الربوبية إشارة إلى أن المراد بها هنا القهر والغلبة، ويحتمل أن تكون الإضافة للاختصاص كأنه قيل ذو العزة وأنها من صفات الذات، ويحتمل أن يكون المراد بالعزة هنا العزة الكائنة بين الخلق وهي مخلوقة فيكون من صفات الفعل، فالرب على هذا بمعنى الخالق والتعريف في العزة للجنس فإذا كانت العزة كلها لله فلا يصح أن يكون أحد معتزا إلا به ولا عزة لأحد إلا وهو مالكها، وأما الآية الثالثة فيعرف حكمها من الثانية، وهي بمعنى الغلبة لأنها جاءت جوابا لمن ادعى أنه الأعز وأن ضده الأذل فيرد عليه بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فهو كقوله ‏(‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏ومن حلف بعزة الله وصفاته‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية المستملي ‏"‏ وسلطانه ‏"‏ بدل وصفاته والأول أولى، وقد تقدم في الأيمان والنذور باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه، وتقدم توجيهه هناك، قال ابن بطال العزيز يتضمن العزة والعزة يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة، وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم ولذلك صحت إضافة اسمه إليها، قال ويظهر الفرق بين الحالف بعزة الله التي هي صفة ذاته والحالف بعزة الله التي صفة فعله، بأنه يحنث في الأولى دون الثانية، بل هو منهي عن الحلف بها كما نهى عن الحلف بحق السماء وحق زيد‏.‏

قلت‏:‏ وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت اليمين إلا أن قصد خلاف ذلك بدليل أحاديث الباب‏:‏ وقال الراغب‏:‏ العزيز الذي يقهر ولا يقهر، فإن العزة التي لله هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية الممدوحة وقد تستعار العزة للحمية والأنفة فيوصف بها الكافر والفاسق وهي صفة مذمومة، ومنه قوله تعالى ‏(‏أخذته العزة بالإثم‏)‏ وأما قوله تعالى ‏(‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعا‏)‏ فمعناه من كان يريد أن يعز فليكتسب العزة من الله فإنها له ولا تنال إلا بطاعته ومن ثم أثبتها لرسوله وللمؤمنين فقال‏:‏ في الآية الأخرى ‏(‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏)‏ ، وقد ترد العزة بمعنى الصعوبة كقوله تعالى ‏(‏عزيز عليه ما عنتم‏)‏ وبمعنى الغلبة، ومنه وعزني في الخطاب، وبمعنى القلة‏:‏ كقولهم شاة عزوز إذا قل لبنها، وبمعنى الامتناع، ومنه قولهم أرض عزاز بفتح أوله مخففا أي صلبة‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ العزة تكون بمعنى القوة فترجع إلى معنى القدرة، ثم ذكر نحوا مما ذكره ابن بطال، والذي يظهر أن مراد البخاري بالترجمة إثبات العزة لله ردا على من قال إنه العزيز بلا عزة، كما قالوا‏:‏ العليم بلا علم، ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث‏.‏

الحديث الأول‏:‏ قوله ‏(‏وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم تقول جهنم قط قط وعزتك‏)‏ هذا طرف من حديث تقدم موصولا في تفسير سورة ق مع شرحه، ويأتي مزيد كلام فيه في باب قوله ‏(‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏)‏ وقد ذكره موصولا هنا في آخر الباب، والمراد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل عن جهنم أنها تحلف بعزة الله وأقرها على ذلك، فيحصل المراد سواء كانت هي الناطقة حقيقة أم الناطق غيرها كالموكلين بها‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ قوله ‏(‏وقال أبو هريرة إلخ‏)‏ هو طرف من حديث طويل تقدم مع شرحه في آخر ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ والمراد منه قوله ‏"‏ لا وعزتك ‏"‏ وتوجيهه كما في الذي قبله‏.‏

الحديث الثالث‏:‏ قوله ‏(‏قال أبو سعيد إلخ‏)‏ هو طرف من حديث مذكور في آخر حديث أبي هريرة الذي قبله، ويستفاد منه أن أبا سعيد وافق أبا هريرة على رواية الحديث المذكور إلا ما ذكره من الزيادة في قوله ‏"‏ عشرة أمثاله‏"‏‏.‏

الحديث الرابع‏:‏ قوله ‏(‏وقال أيوب عليه السلام وعزتك لا غنى بي عن بركتك‏)‏ كذا في رواية الأكثر وللمستملي ‏"‏ لا غناء ‏"‏ وهو بفتح الغين المعجمة ممدودا، وكذا لأبي ذر عن السرخسي وتقدم بيانه في ‏"‏ كتاب الأيمان والنذور ‏"‏ وهو طرف من حديث لأبي هريرة وقد تقدم موصولا في ‏"‏ كتاب الطهارة ‏"‏ وأوله ‏"‏ بينا أيوب يغتسل ‏"‏ وتقدم أيضا في أحاديث الأنبياء مع شرحه، وتقدم توجيه الدلالة منه في الأيمان والنذور، ووقع في رواية الحاكم ‏"‏ لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أبو معمر‏)‏ هو عبد الله بن عمرو المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، و ‏"‏ عبد الوارث ‏"‏ هو ابن سعيد، و ‏"‏ حسين المعلم ‏"‏ هو ابن ذكوان و ‏"‏ يحيى بن يعمر ‏"‏ بفتح أوله والميم وسكون المهملة بينهما ويجوز ضم ميمه‏.‏

قوله ‏(‏كان يقول أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت‏)‏ قال الكرماني العائد للموصول محذوف لأن المخاطب نفس المرجوع إليه فيحصل الارتباط‏.‏

ومثله‏:‏ ‏"‏ أنا الذي سمتني أمي حيدره‏"‏‏.‏

لأن نسق الكلام سمته أمه‏.‏

قوله ‏(‏الذي لا يموت‏)‏ بلفظ الغائب للأكثر وفي بعضها بلفظ الخطاب‏.‏

قوله ‏(‏والجن والإنس يموتون‏)‏ استدل به على أن الملائكة لا تموت ولا حجة فيه لأنه مفهوم لقب ولا اعتبار له، وعلى تقديره فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو عموم قوله تعالى ‏(‏كل شيء هالك إلا وجهه‏)‏ مع أنه لا مانع من دخولهم في مسمى الجن لجامع ما بينهم من الاستتار عن عيون الإنس، وقد تقدمت بقية الكلام عليه في الدعوات وفي الأيمان والنذور في الباب المشار إليه منه، ثم ذكر حديث أنس من ثلاثة أوجه عن قتادة، وقد تقدم لفظ شعبة في تفسير ق، وساقه هنا على لفظ ‏"‏ خليفة ‏"‏ وهو ابن خياط البصري، ولقبه شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة وآخره موحدة، ووقع في رواية شعبة عنه ‏"‏ لا يزال يلقى في النار ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ سعيد ‏"‏ وهو ابن أبي عروبة، و ‏"‏ سليمان ‏"‏ هو التيمي والد معتمر كلاهما عن قتادة ‏"‏ لا يزال يلقى فيها ‏"‏ والضمير في هذه الرواية لغير مذكور قبله، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق العباس بن الوليد عن يزيد بن زريع، ومن طريق أبي الأشعث عن المعتمر بهذين السندين، وفي أوله ‏"‏ لا تزال جهنم يلقى فيها‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزَالُ يُلْقَى فِي النَّارِ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تَقُولُ قَدْ قَدْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ وَلَا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حتى يضع فيها رب العالمين قدمه‏)‏ في رواية أبي الأشعث ‏"‏ حتى يضع الله فيها قدمه ‏"‏ وفي رواية عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عند مسلم ‏"‏ حتى يضع فيها رب العزة ‏"‏ ولم يقع في رواية شعبة بيان من يضع، وتقدم في تفسير سورة ق من حديث أبي هريرة ‏"‏ فيضع الرب قدمه عليها ‏"‏ وذكر فيه شرحه، وذكر من رواه بلفظ الرجل وشرحه أيضا‏.‏

قوله ‏(‏وتقول قد قد‏)‏ بفتح القاف وسكون الدال وبكسرها أيضا بغير إشباع، وذكر ابن التين أنها رواية أبي ذر، وتقدم في تفسير سورة ق ذكر من رواه بلفظ ‏"‏ قدني ‏"‏ ومن رواه بلفظ ‏"‏ قط قط ‏"‏ وبيان الاختلاف فيها أيضا وشرح معانيها مع بقية الحديث‏.‏

قوله ‏(‏بعزتك وكرمك‏)‏ كذا ثبت عند الإسماعيلي في رواية يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة، ووقع في رواية عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عند مسلم بدون قوله وكرمك، ويؤخذ منه مشروعية الحلف بكرم الله كما شرع الحلف بعزة الله‏.‏

قوله ‏(‏ولا تزال الجنة تفضل‏)‏ كذا لهم بصيغة الفعل المضارع، ووقع في رواية المستملي بموحدة مكسورة وفاء مفتوحة وضاد معجمة ساكنة وكأن الباء للمصاحبة‏.‏

قال الكرماني روى البخاري هذا الحديث من ثلاث طرق الأولى‏:‏ عن شيخه يعني ‏"‏ ابن أبي الأسود ‏"‏ واسمه عبد الله بن محمد بالتحديث، والثانية‏:‏ بالقول يعني قوله ‏"‏ وقال لي خليفة ‏"‏ وكان ينبغي أن يزيد فيه بالقول المصاحب لحرف الجر للفرق بينه وبين القول المجرد، قال والثالث‏:‏ بالتعليق ينبغي قوله ‏"‏ وعن معتمر‏"‏، لأن هذا الثالث ليس تعليقا بل هو موصول معطوف على قوله ‏"‏ حدثنا يزيد بن زريع ‏"‏ فالتقدير وقال لي خليفة عن معتمر، وبهذا جزم أصحاب الأطراف، قال المزي‏:‏ حديث ‏"‏ لا تزال يلقى ‏"‏ الحديث ح في التوحيد، قال لي خليفة عن معتمر عن أبيه‏.‏

وقال أبو نعيم في المستخرج بعد تخريجه ‏"‏ رواه البخاري عن خليفة عن يزيد بن زريع عن سعيد وعن المعتمر عن أبيه قال ‏"‏ وحديث سليمان التيمي غير مرفوع‏.‏

قلت‏:‏ وكذا لم يصرح الإسماعيلي برفعه لما أخرجه من طريق أبي الأشعث عن المعتمر‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق‏)‏ كأنه أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الآية أن معنى قوله ‏(‏بالحق‏)‏ أي بكلمة الحق وهو قوله ‏(‏كن‏)‏ ووقع في أول حديث الباب قولك الحق، فكأنه أشار إلى أن المراد بالقول الكلمة، وهي كن والله أعلم‏.‏

ونقل ابن التين عن الداودي أن الباء هنا بمعنى اللام أي لأجل الحق‏.‏

وقال ابن بطال المراد بالحق هنا ضد الهزل، والمراد بالحق في الأسماء الحسنى الموجود الثابت الذي لا يزول ولا يتغير‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الحق في الأسماء الحسنى الموجد بحسب ما تقتضيه الحكمة، قال‏:‏ ويقال لكل موجود من فعله بمقتضى الحكمة حق ويطلق على الاعتقاد في الشيء المطابق لما دل ذلك الشيء عليه في نفس الأمر وعلى الفعل الواقع بحسب ما يجب قدرا وزمانا وكذا القول، ويطلق على الواجب واللازم والثابت والجائز، ونقل البيهقي في ‏"‏ كتاب الأسماء والصفات ‏"‏ عن الحليمي قال‏:‏ الحق ما لا يسيغ إنكاره ويلزم إثباته والاعتراف به ووجود الباري أولى ما يجب الاعتراف به، ولا يسيغ جحوده إذ لا مثبت تظاهرت عليه البينة الباهرة ما تظاهرت على وجوده سبحانه وتعالى، وذكر البخاري فيه حديث ابن عباس في الدعاء عند قيام الليل وفيه ‏"‏ اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ‏"‏ وقد تقدم شرحه وبيان اختلاف ألفاظه في ‏"‏ كتاب التهجد ‏"‏ قبيل ‏"‏ كتاب الجنائز ‏"‏ وذكر في ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ أيضا قال ابن بطال‏:‏ قوله ‏"‏ رب السموات والأرض ‏"‏ يعني خالق السموات والأرض وقوله ‏"‏ بالحق ‏"‏ أي أنشأهما بحق، وهو كقوله تعالى ‏(‏ربنا ما خلقت هذا باطلا‏)‏ أي عبثا، وقوله في السند ‏"‏ سفيان ‏"‏ هو الثوري و ‏"‏ ابن جريج ‏"‏ هو عبد الملك بن عبد العزيز المكي وقوله ‏"‏ عن سليمان ‏"‏ هو ابن أبي مسلم الأحول المكي وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج ‏"‏ أخبرني سليمان ‏"‏ وسيأتي، وقوله في آخره ‏"‏ حدثنا ثابت بن محمد حدثنا سفيان بهذا ‏"‏ يعني بالسند المذكور والمتن، وقوله ‏"‏وقال أنت الحق، وقولك الحق ‏"‏ يشير إلى أن رواية قبيصة سقط منها قوله ‏"‏ أنت الحق ‏"‏ فإن أولها ‏"‏ قولك الحق ‏"‏ وثبت قوله في أوله ‏"‏ أنت الحق ‏"‏ في رواية ثابت بن محمد كما سيأتي سياقه بتمامه في باب قوله الله تعالى ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة‏)‏ وكذا في رواية عبد الرزاق المشار إليها، وكذا وقع في رواية يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عند النسائي والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا

وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏:‏ وكان الله سميعا بصيرا‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال إن معنى ‏"‏ سميع بصير ‏"‏ عليم قال ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتا ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصح أن كونه سميعا بصيرا يفيد قدرا زائدا على كونه عليما، وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليما أنه يعلم بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعا بصيرا وبين كونه ذا سمع وبصر، قال وهذا قول أهل السنة قاطبة انتهى‏:‏ واحتج المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ والله منزه عن الجوارح، وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله سبحانه وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيا موجودا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات‏.‏

وسيأتي مزيد لهذا في باب ‏(‏وكان عرشه على الماء‏)‏ وقال البيهقي في الأسماء والصفات‏:‏ السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير‏:‏ من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته، وقد أفادت الآية، وأحاديث الباب الرد على من زعم أنه سميع بصير، بمعنى عليم، ثم ساق حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم من رواية أبي يونس ‏"‏ عن أبي هريرة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ‏"‏ يعني قوله تعالى ‏(‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها - إلى قوله تعالى - إن الله كان سميعا بصيرا‏)‏ ويضع إصبعيه قال أبو يونس وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال البيهقي وأراد هذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان، يريد أن له سمعا وبصرا لا أن المراد به العلم فلو كان كذلك لأشار إلى القلب لأنه محل العلم، ولم يرد بذلك الجارحة فإن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين، ثم ذكر لحديث أبي هريرة شاهدا من حديث عقبة بن عامر ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر إن ربنا سميع بصير وأشار إلى عينيه ‏"‏ وسنده حسن وسيأتي في باب ‏(‏ولتصنع على عيني‏)‏ حديث ‏"‏ إن الله ليس بأعور ‏"‏ وأشار بيده إلى عينه، وسيأتي شرح ذاك هناك، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ‏"‏ وفي حديث أبي جري الهجيمي رفعه ‏"‏ أن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردتين يتبختر فيهما فنظر الله إليه فمقته‏"‏، الحديث‏.‏

وقد مضى في اللباس حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ‏"‏ وفي الكتاب العزيز ‏(‏ولا ينظر إليهم‏)‏ وورد في السمع قول المصلي ‏"‏ سمع الله لمن حمده ‏"‏ وسنده صحيح متفق عليه بل مقطوع بمشروعيته في الصلاة، ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث‏:‏ أحدها‏.‏

قوله ‏(‏قال الأعمش عن تميم‏)‏ هو ابن سلمة الكوفي تابعي صغير وثقه يحيى بن معين، ووصل حديثه المذكور أحمد والنسائي وابن ماجه باللفظ المذكور هنا، وأخرجه ابن ماجه أيضا من رواية أبي عبيدة بن معن عن الأعمش بلفظ ‏"‏ تبارك ‏"‏ وسياقه أتم، وليس لتميم المذكور عن عروة في الصحيحين سوى هذا الحديث وآخر عند مسلم، قال ابن التين قول البخاري ‏"‏ قال الأعمش ‏"‏ مرسل لأنه لم يلقه، قال الشيخ أبو الحسن ولهذا لم يذكره في تفسير سورة المجادلة انتهى، وتسمية هذا مرسلا مخالف للاصطلاح، والتعليل ليس بمستقيم فإن في الصحيح عدة أحاديث معلقة لم تذكر في تفسير الآية التي تتعلق بها‏.‏

قوله ‏(‏وسع سمعه الأصوات‏)‏ في رواية أبي عبيدة بن معن ‏"‏ كل شيء ‏"‏ بدل ‏"‏ الأصوات ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ معنى قولها ‏"‏ وسع ‏"‏ أدرك لأن الذي وصف بالاتساع يصح وصفه بالضيق وذلك من صفات الأجسام فيجب صرف قولها عن ظاهره والحديث ما يقتضي التصريح بأن له سمعا، وكذا جاء ذكر البصر في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى مرفوعا ‏"‏ حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأنزل الله تعالى على نبيه‏:‏ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها‏)‏ هكذا أخرجه وتمامه عند أحمد وغيره ‏"‏ ممن ذكرت ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ الأصوات ‏"‏ لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله الآية ومرادها بهذا النفي مجموع القول لأن في رواية أبي عبيدة ابن معن‏:‏ إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفي علي بعضه وهي تشتكي زوجها وهي تقول ‏"‏ أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني ‏"‏ الحديث فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات ‏(‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله‏)‏ وهذا أصح ما ورد في قصة المجادلة وتسميتها وقد أخرج أبو داود وصححه ابن حيان من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت ‏"‏ ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت ‏"‏ الحديث‏.‏

وهذا يحمل على أن اسمها كان ربما صغر وإن كان محظوظا فتكون نسبت في الرواية الأخرى لجدها وقد تظاهرت الروايات بالأول ففي مرسل محمد بن كعب القرظي عند الطبراني كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت فقال لها أنت علي كظهر أمي، وعند ابن مردويه من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس أن أوس بن الصامت تظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة، وعنده أيضا من مرسل أبي العالية ‏"‏ كانت خولة بنت دليح تحت رجل من الأنصار سيئ الخلق فنازعته في شيء فقال‏:‏ أنت علي كظهر أمي ‏"‏ ودليح بمهملتين مصغر لعله من أجدادها‏.‏

وأخرج أبو داود من رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت، ووصله من وجه آخر عن عائشة، والرواية المرسلة أقوى، وأخرجه ابن مردويه من رواية إسماعيل بن عياش عن هشام عن أبيه عن أوس بن الصامت وهو الذي ظاهر من امرأته، ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة وهذا منها، فإن كان حفظه فالمراد بقوله ‏"‏ عن أوس بن الصامت ‏"‏ أي عن قصة أوس لا أن عروة حمله عن أوس فيكون مرسلا كالرواية المحفوظة وإن كان الراوي حفظها أنها جميلة فلعله كان لقبها وأما ما أخرجه النقاش في تفسيره بسند ضعيف إلى الشعبي قال‏:‏ المرأة التي جادلت في زوجها هي خولة بنت الصامت وأمها معاذة أمة عبد الله بن أبي التي نزل فيها ‏(‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء‏)‏ وقوله ‏"‏ بنت الصامت ‏"‏ خطأ فإن الصامت والد زوجها كما تقدم فلعله سقط منه شيء، وتسمية أمها غريب، وقد مضى ما يتعلق بالظهار في النكاح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَالَ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ بِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي عثمان‏)‏ هو عبد الرحمن بن مل النهدي والسند كله بصريون وقد مضى شرح المتن في‏:‏ ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ وقوله اربعوا بفتح الموحدة أي ارفقوا بضم الفاء وحكى ابن التين أنه وقع في روايته بكسر الموحدة وأنه في كتب أهل اللغة وبعض كتب الحديث بفتحها، وقوله ‏"‏فإنكم لا تدعون أصم ‏"‏ إلخ قال الكرماني لو جاءت الرواية ‏"‏ لا تدعون أصم ولا أعمى ‏"‏ لكان أظهر في المناسبة لكنه الغائب كالأعمى في عدم الرؤية نفي لازمه ليكون أبلغ وأشمل، وزاد ‏"‏ قريبا ‏"‏ لأن البعيد وإن كان ممن يسمع ويبصر لكنه لبعده قد لا يسمع ولا يبصر، وليس المراد قرب المسافة لأنه منزه عن الحلول كما لا يخفى ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت، قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث نفي الآفة المانعة من السمع والآفة المانعة من النظر، وإثبات كونه سميعا بصيرا قريبا، يستلزم أن لا تصح أضداد هذه الصفات عليه وقوله في آخره ‏"‏ أو قال ألا أدلك ‏"‏ شك من الراوي هل قال يا عبد الله بن قيس ‏"‏ قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة ‏"‏ أو قال يا عبد الله بن قيس ‏"‏ ألا أدلك ‏"‏ وقوله بعد قوله ألا أدلك به، أي ببقية الخبر وقد ذكره في الدعوات في باب الدعاء ‏"‏ إذا علا عقبة ‏"‏ فساق الحديث بهذا الإسناد بعينه وقال‏:‏ بعد قوله ‏"‏ ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر يعني الصديق قال ‏"‏ يا رسول الله علمني دعاء ‏"‏ الحديث وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة وفي الدعوات مع شرحه وبيان من جعله من رواية عبد الله بن عمرو عن أبي بكر الصديق فجعله من مسند أبي بكر، وأشار ابن بطال إلى أن مناسبته للترجمة أن دعاء أبي بكر لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الله سميع لدعائه ومجازيه عليه‏.‏

وقال غيره حديث أبي بكر ليس مطابقا للترجمة إذ ليس فيه ذكر صفتي السمع والبصر لكنه ذكر لازمهما من جهة أن فائدة الدعاء إجابة الداعي لمطلوبه فلولا أن سمعه سبحانه يتعلق بالسر كما يتعلق بالجهر لما حصلت فائدة الدعاء أو كان يقيده بمن يجهر بدعائه‏.‏

انتهى من كلام ابن المنير ملخصا وقال الكرماني‏:‏ لما كان بعض الذنوب مما يسمع وبعضها مما يبصر لم تقع مغفرته إلا بعد الإسماع والإبصار‏.‏

تنبيه‏:‏ المشهور في الروايات ظلما كثيرا‏.‏

بالمثلثة ووقع هنا للقابسي بالموحدة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام نَادَانِي قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إن جبريل عليه السلام أتاني فقال‏:‏ إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك‏)‏ هكذا ذكر هذا القدر منه مقتصرا عليه، وساقه بتمامه في بدء الخلق وتقدم شرحه هناك، والمراد منه هنا قوله ‏"‏ إن الله قد سمع ‏"‏ وقوله ‏"‏ ما ردوا عليك ‏"‏ أي أجابوك ويحتمل أن يكون أراد ردهم ما دعاهم إليه من التوحيد بعدم قبولهم‏.‏

وقال الكرماني المقصود من هؤلاء الأحاديث إثبات صفتي السمع والبصر وهما صفتان قديمتان من الصفات الذاتية وعند حدوث المسموع والمبصر يقع التعلق، وأما المعتزلة فقالوا إنه سميع يسمع كل مسموع وبصير يبصر كل مبصر فادعوا أنهما صفتان حادثتان، وظواهر الآيات والأحاديث ترد عليهم وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْ هُوَ الْقَادِرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى قل هو القادر‏)‏ قال ابن بطال القدرة من صفات الذات وقد تقدم في باب قوله تعالى ‏(‏إني أنا الرزاق‏)‏ أن القوة والقدرة بمعنى واحد وتقدم نقل الأقوال في ذلك والبحث فيها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ قَالَ أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن‏)‏ أي ابن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان عبد الله كبير بني هاشم في وقته قال ابن سعد كان من العباد وله عارضة وهيئة‏.‏

وقال مصعب الزبيدي‏:‏ ما كان علماء المدينة يكرمون أحدا ما يكرمونه، ووثقه ابن معين والنسائي وغيرهما، وهو من صغار التابعين، روى عن عم جده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؛ وله رواية عن أمه فاطمة بنت الحسين وعن غيرها، ومات في حبس المنصور سنة ثلاث وأربعين ومائة وله خمس وسبعون سنة، وليس له ذكر في البخاري إلا في هذا الموضع، وقد أفصح عبد الرحمن بن أبي الموالي بالواقع في حال تحمله، ولم يتصرف فيه بأن يقول حدثني ولا أخبرني لكن أخرجه أبو داود من وجه آخر عنه فقال ‏"‏ حدثني محمد بن المنكدر ‏"‏ وعليه في ذلك اعتراض لاحتمال أن يكون محمد بن المنكدر لم يقصده بالتحديث، وقد سلك في ذلك النسائي والبرقاني مسلك التحري، فكان النسائي فيما سمعه في الحالة التي لم يقصده المحدث فيها بالتحديث، لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا سمعت بل يقول فلان قرأه عليه وأنا أسمع، وكان البرقاني يقول سمعت فلانا يقول، وجوز الأكثر إطلاق التحديث والإخبار لكون المقصود بالتحديث من جنس من سمع ولو لم يكن مقصودا فيجوز ذلك عندهم لكن بصيغة الجمع فيقول حدثنا أي حدث قوما أنا فيهم فسمعت ذلك منه حين حدوث ولو لم يقصدني بالتحديث وعلى هذا فيمتنع بالإفراد بأن يقول مثلا ‏"‏ حدثني ‏"‏ بل ويمتنع في الاصطلاح أيضا لأنه مخصوص بمن سمع وحده من لفظ الشيخ، ومن ثم كان التعبير بالسماع أصرح الصيغ لكونه أدل على الواقع، وقد تقدم حديث الباب في صلاة الليل وفي الدعوات من وجهين آخرين عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ذكره في كل منهما بالعنعنة، قال ‏"‏ عن محمد بن المنكدر ‏"‏ ولم يقل سمعت ولا حدثنا، وكذا أخرجه الترمذي والنسائي وهو جائز، لأنها صيغة محتملة فأفادت هذه الرواية تعين أحد الاحتمالين، وهو التصريح بسماعه، ولهذا نزل فيه البخاري درجة لأنه عنده في الموضعين المذكورين بواسطة واحد عن عبد الرحمن؛ وهنا وقع بينه وبين عبد الرحمن اثنان، لكن سهل عليه النزول تحصيل فائدة الاطلاع على الواقع وفيها تصريح عبد الرحمن بالسماع في موضع العنعنة، فأما من يخشى من الانقطاع الذي تحتمله العنعنة، وقد وقع لي من رواية خالد بن مخلد عن عبد الرحمن قال‏:‏ سمعت محمد بن المنكدر يحدث عن جابر أخرجه ابن ماجه وخالد من شيوخ البخاري، فيحتمل أن لا يكون سمع منه هذا الحديث مع أنه لم يصرح بما صرحت به الرواية النازلة من تسمية المقصود بالتحديث وهو عبد الله بن الحسن، وقوله في الخبر ‏"‏ وأستقدرك بقدرتك ‏"‏ الباء للاستعانة أو للقسم أو للاستعطاف، ومعناه أطلب منك أن تجعل لي قدرة على المطلوب، وقوله ‏"‏فاقدره ‏"‏ بضم الدال ويجوز كسرها أي نجزه لي ‏"‏ ورضني ‏"‏ بتشديد المعجمة أي اجعلني بذلك راضيا فلا أندم على طلبه ولا على وقوعه لأني لا أعلم عاقبته وإن كنت حال طلبه راضيا به وقوله ‏"‏ ويسميه بعينه ‏"‏ في رواية خالد بن مخلد ‏"‏ فيسميه ما كان من شيء ‏"‏ يعني أي شيء كان وقوله ‏"‏ ثم ليقل ‏"‏ ظاهر في أن الدعاء المذكور يكون بعد الفراغ من الصلاة ويحتمل أن يكون الترتيب فيه بالنسبة لأذكار الصلاة ودعائها فيقوله بعد الفراغ وقبل السلام، وقد تقدم سائر فوائده في ‏"‏ كتاب الدعوات‏"‏‏.‏

*3*باب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب مقلب القلوب وقول الله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم‏)‏ قال الراغب‏:‏ تقليب الشيء تغييره من حال إلى حال والتقليب التصرف وتقليب الله القلوب والبصائر صرفها من رأي إلى رأي‏.‏

وقال الكرماني ما معناه كان يحتمل أن يكون المعنى بقوله ‏"‏ مقلب ‏"‏ أنه يجعل القلب قلبا لكن مظان استعماله تنشأ عنه ويستفاد منه أن إعراض القلب كالإرادة وغيرها بخلق الله تعالى وهي من الصفات الفعلية ومرجعها إلى القدرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سعيد بن سليمان‏)‏ هو الواسطي نزيل بغداد يكنى أبا عثمان، ويلقب سعدويه وكان أحد الحفاظ ‏"‏ وابن المبارك ‏"‏ هو عبد الله الإمام المشهور وقد تقدم شرح حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب في ‏"‏ كتاب الأيمان والنذور ‏"‏ وكذا الآية ويستفاد منهما أن أعراض القلوب من إرادة وغيرها تقع بخلق الله تعالى، وفيه حجة لمن أجاز تسمية الله تعالى بما ثبت في الخبر، ولو لم يتواتر، وجواز اشتقاق الاسم له تعالى من الفعل الثابت، وقد تقدم البحث في ذلك عند ذكر الأسماء الحسنى من ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ ومعنى قوله ‏(‏ونقلب أفئدتهم‏)‏ نصرفها بما شئنا كما تقدم تقريره‏.‏

وقال المعتزلي معناه نطبع عليها فلا يؤمنون والطبع عندهم الترك، فالمعنى على هذا ‏"‏ نتركهم وما اختاروا لأنفسهم ‏"‏ وليس هذا معنى التقليب في لغة العرب، ولأن الله تمدح بالانفراد بذلك، ولا مشاركة له فيه، فلا يصح تفسير الطبع بالترك فالطبع عند أهل السنة خلق الكفر في قلب الكافر واستمراره عليه إلى أن يموت فمعنى الحديث‏:‏ أن الله يتصرف في قلوب عباده بما شاء لا يمتنع عليه شيء منها ولا تفوته إرادة وقال البيضاوي في نسبة تقلب القلوب إلى الله إشعار بأنه يتولى قلوب عباده ولا يكلها إلى أحد من خلقه، وفي دعائه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ‏"‏ إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء ورفع توهم من يتوهم أنهم يستثنون من ذلك، وخص نفسه بالذكر إعلاما بأن نفسه الزكية إذا كانت مفتقرة إلى أن تلجأ إلى الله سبحانه فافتقار غيرها ممن هو دونه أحق بذلك‏.‏

*3*باب إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِدًا

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُو الْجَلَالِ الْعَظَمَةِ الْبَرُّ اللَّطِيفُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إن لله مائة اسم إلا واحدا‏)‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة أن لله تسعة وتسعين اسما، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ وبيان من رواه باللفظ المذكور في هذه الترجمة، ووقع هنا في رواية الكشميهني مائة إلا واحدا بالتذكير، ومائة في الحديث بدل من قوله تسعة وتسعين، فعدل في الترجمة من البدل إلى المبدل وهو فصيح ويستفاد منه زيادة توضيح، ولأن ذكر العقد أعلى من ذكر الكسور، وأول العقود العشرات، وثانيها المائة فلما قاربت العدة أعطيت حكمها، وجبر الكسر بقوله مائة ثم أريد التحقق في العدد فاستثنى، ولو لم يستثن لكان استعمالا غريبا سائغا‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ ذو الجلال العظمة‏)‏ في رواية الكشميهني العظيم، وعلى الأول ففيه تفسير ‏"‏ الجلال ‏"‏ بالعظمة وعلى الثاني هو تفسير ذو الجلال‏.‏

قوله ‏(‏البر اللطيف‏)‏ هو تفسير ابن عباس أيضا وقد تقدم الكلام عليه وبيان من وصله عنه في تفسير سورة الطور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَحْصَيْنَاهُ حَفِظْنَاهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏اسما‏)‏ قيل معناه تسمية وحينئذ لا مفهوم لهذا العدد بل له أسماء كثيرة غير هذه‏.‏

قوله ‏(‏أحصيناه حفظناه‏)‏ تقدم الكلام عليه وعلى معنى الإحصاء وبيان الاختلاف فيه في ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ قال الأصيلي الإحصاء للأسماء العمل بها لا عدها وحفظها، لأن ذلك قد يقع للكافر المنافق كما في حديث الخوارج يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم‏.‏

وقال ابن بطال الإحصاء يقع بالقول ويقع بالعمل فالذي بالعمل أن لله أسماء يختص بها كالأحد والمتعال والقدير ونحوها، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها، وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها‏:‏ كالرحيم والكريم والعفو ونحوها، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها فبهذا يحصل الإحصاء العملي، وأما الإحصاء القولي فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ، فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها‏.‏

وقال ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ ذكر نعيم بن حماد أن الجهمية قالوا‏:‏ إن أسماء الله مخلوقة، لأن الاسم غير المسمى، وادعوا أن الله كان ولا وجود لهذه الأسماء، ثم خلقها ثم تسمى بها، قال فقلنا لهم‏:‏ إن الله قال ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى‏)‏ وقال ‏(‏ذلكم الله ربكم فاعبدوه‏)‏ فأخبر أنه المعبود ودل كلامه على اسمه بما دل به على نفسه، فمن زعم أن اسم الله مخلوق فقد زعم أن الله أمر نبيه أن يسبح مخلوقا، ونقل عن إسحاق بن راهويه عن الجهمية أن جهما قال‏:‏ لو قلت إن لله تسعة وتسعين اسما لعبدت تسعة وتسعين إلها، قال فقلنا لهم‏:‏ إن الله أمر عباده أن يدعوه بأسمائه، فقال ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ والأسماء جمع أقله ثلاثة ولا فرق في الزيادة على الواحد بين الثلاثة وبين التسعة والتسعين‏.‏