فصل: باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمكَّةَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ المبعث من البعث، وأصله الإثارة، ويطلق على التوجيه في أمر ما، رسالة أو حاجة، ومنه‏:‏ بعثت البعير إذا أثرته من مكانه، وبعثت العسكر إذا وجهتهم للقتال، وبعثت النائم من نومه إذا أيقظته‏.‏

قد تقدم في أول الكتاب في الكلام على حديث عائشة كثير مما يتعلق بهذه الترجمة، وساق المصنف هنا النسب الشريف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏محمد‏)‏ ذكر البيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ بإسناد مرسل ‏"‏ أن عبد المطلب لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عمل له مأدبة، فلما أكلوا سألوا ما سميته‏؟‏ قال محمدا، قالوا فما رغبت به عن أسماء أهل بيته‏؟‏ قال‏:‏ أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن عبد الله‏)‏ لم يختلف في اسمه، واختلف متى مات‏؟‏ فقيل مات قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد أن ولد، والأول أثبت‏.‏

واختلف في مقدار عمره صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه، والراجح أنه دون السنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن عبد المطلب‏)‏ اسمه شيبة الحمد عند الجمهور، وزعم ابن قتيبة أن اسمه عامر، وسمي عبد المطلب واشتهر بها لأن أباه لما مات بغزة كان خرج إليها تاجرا فترك أم عبد المطلب بالمدينة، فأقامت عند أهلها من الخزرج فكبر عبد المطلب، فجاء عمه المطلب فأخذه ودخل به مكة فرآه الناس مردفه فقالوا‏:‏ هذا عبد المطلب، فغلبت عليه في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن هاشم‏)‏ اسمه عمرو، وقيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لأهل الموسم ولقومه أولا في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر‏:‏ عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف قوله‏:‏ ‏(‏ابن عبد مناف‏)‏ اسمه المغيرة، روى السراج في تاريخه من طريق أحمد بن حنبل ‏"‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ اسم عبد المطلب شيبة الحمد، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن قصي‏)‏ بصيغة التصغير، تلقب بذلك لأنه بعد عن ديار قومه في بلاد قضاعة في قصة طويل ذكرها ابن إسحاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن كلاب‏)‏ بكسر أوله وتخفيف اللام، قال السهيلي‏:‏ هو منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، تقول‏:‏ كالبت فلانا مكالبة وكلابا، أو هو بلفظ جمع كلب كما تسمت العرب بسباع وأنمار وغير ذلك انتهى‏.‏

وذكر ابن سعد أن اسمه المهذب، وزعم محمد بن سعد أن اسمه حكيم، وقيل عروة وأنه لقب كلابا لمحبته كلاب الصيد وكان يجمعها فمن مرت به فسأل عنها قيل له هذه كلاب ابن مرة فلقب كلابا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن مرة‏)‏ قال السهيلي‏:‏ منقول من وصف الحنظلة، أو الهاء للمبالغة والمراد أنه قوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن كعب‏)‏ قال السهيلي‏:‏ قيل بذلك لستره على قومه ولين جانبه لهم، منقول من كعب القدم‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ من كعب القناة، وكذا قال غيره سمي بذلك لارتفاعه على قومه وشرفه فيهم فلذلك كانوا يخضعون له حتى أرخوا بموته، وهو أول من جمع قومه يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العروبة حتى جاء الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن لؤي‏)‏ قال ابن الأنباري‏:‏ هو تصغير لأي بوزن عصا، واللأي هو الثور‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ هو عندي لأي بوزن عبد وهو البطء، ويؤيده قول الشاعر‏:‏ فدونكم بني لأي أخاكم ودونك مالكا يا أم عمر انتهى‏.‏

وهذا قد ذكره ابن الأنباري أيضا احتمالا‏.‏

وقد قال الأصمعي‏:‏ هو تصغير لواء الجيش زيدت فيه همزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن غالب‏)‏ لا إشكال فيه كما لا إشكال في مالك والنضر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن فهر‏)‏ قيل هو قريش، نقل الزبير عن الزهري أن أمه سمته به، وسماه أبوه فهرا، وقيل فهر لقبه، وقيل بالعكس، والفهر الحجر الصغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن كنانة‏)‏ هو بلفظ وعاء السهام إذا كانت من جلود قاله ابن دريد، عن أبي عامر العدواني أنه قال‏:‏ رأيت كنانة بن خزيمة شيخا مسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله بينهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن خزيمة‏)‏ تصغير خزمة بمعجمتين مفتوحتين وهي مرة واحدة من الخزم وهو شد الشيء وإصلاحه‏.‏

وقال الزجاجي‏:‏ يجوز أن يكون من الجزم بفتح ثم سكون تقول خزمته فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن مدركة‏)‏ اسمه عمرو عند الجمهور‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ عامر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن إلياس‏)‏ بكسر الهمزة عند ابن الأنباري، قال وهو إفعال من قولهم أليس الشجاع الذي لا يفر، قال الشاعر أليس كالنشوان وهو صاحي وقال غيره‏:‏ هو بهمزة وصل وهو ضد الرجاء واللام فيه للمح الصفة، قاله قاسم بن ثابت وأنشد قول قصي‏:‏ أمهتي خندف واليأس أبي قوله‏:‏ ‏(‏ابن مضر‏)‏ قيل سمي بذلك لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض، وقيل سمي بذلك لبياضه، وقيل لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن نزار‏)‏ هو من النزر أي القليل، قال أبو الفرج الأصبهاني‏:‏ سمي بذلك لأنه كان فريد عصره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن معد‏)‏ بفتح الميم والمهملة وتشديد الدال، قال ابن الأنباري‏:‏ يحتمل أن يكون مفعلا من العد، أو هو من معد في الأرض إذا أفسد، قال الشاعر‏:‏ وخاربين خربا فمعدا وقيل غير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن عدنان‏)‏ بوزن فعلان من العدن تقول عدن أقام، وقد روى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه ‏"‏ المحبر ‏"‏ من حديث ابن عباس قال ‏"‏ كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بخير ‏"‏ وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعا ‏"‏ لا تسبوا مضر ولا ربيعة فأنهما كانا مسلمين ‏"‏ وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اقتصر البخاري من النسب الشريف على عدنان، وقد أخرج في التاريخ عن عبيد بن يعيش عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق مثل هذا النسب، وزاد بعد عدنان ‏"‏ ابن أدد بن المقوم بن تارح بن يشجب بن يعرب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم ‏"‏ وقد قدمت في أول الترجمة النبوية الاختلاف فيمن بين عدنان وإبراهيم وفيمن بين إبراهيم وآدم بما يغني عن الإعادة‏.‏

وأخرج ابن سعد من حديث ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا النضر‏)‏ هر ابن شميل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هشام‏)‏ هو ابن حسان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عكرمة‏)‏ في رواية روح عن هشام الآتية في الهجرة ‏"‏ حدثنا عكرمة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنزله على رسوله الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين‏)‏ هذا هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب، وهو متفق عليه، وقد مضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنس ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين ‏"‏ وتقدم في بدء الوحي أنه أنزل عليه في شهر رمضان، فعلى الصحيح المشهور أن مولده في شهر ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأنه ولد في رمضان فإنه قال‏:‏ مات وله اثنتان وستون سنة ونصف سنة، وقد أجمعوا على أنه مات في ربيع الأول فيستلزم ذلك أن يكون ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار وهو شاذ، وفي مولده أقوال أخرى أشد شذوذا من هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بمكة ثلاث عشرة سنة‏)‏ هذا أصح مما رواه مسلم من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة ‏"‏ وسيأتي البحث في ذلك في أبواب الهجرة إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمكَّةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة‏)‏ أي من وجه الأذى، وذكر فيه أحاديث في المعنى، وقد تقدم في ‏"‏ ذكر الملائكة ‏"‏ من بدء الخلق حديث عائشة أنها ‏"‏ قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت‏:‏ منهم ‏"‏ فذكر قصته بالطائف‏.‏

وروى أحمد والترمذي وابن حبان من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج ابن عدي من حديث جابر رفعه ‏"‏ ما أوذي أحد ما أوذيت ‏"‏ ذكره في ترجمة يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، ويوسف ضعيف، وقد استشكل بما جاء من صفات ما أوذي به الصحابة كما سيأتي لو ثبت، وهو محمول على معنى حديث أنس، وقيل معناه أنه أوحي إليه ما أوذي به من قبله فتأذى بذلك زيادة على ما آذاه قومه به، وروى ابن إسحاق من حديث ابن عباس وذكر الصحابة فقال ‏"‏ والله كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر، حتى يقولوا له‏:‏ اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول‏:‏ نعم ‏"‏ وروى ابن ماجه وابن حبان من طريق زر بن مسعود قال أول من أظهر إسلامه سبعة‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد‏.‏

فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس ‏"‏ الحديث‏.‏

وأجيب بأن جميع ما أوذي به أصحابه كان يتأذى هو به لكونه بسببه‏.‏

واستشكل أيضا بما أوذي به الأنبياء من القتل كما في قصة زكريا وولده يحيى‏.‏

ويجاب بأن المراد هنا غر إزهاق الروح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ قَالَا سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ زَادَ بَيَانٌ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا بيان‏)‏ هو ابن بشر، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وخباب بالمعجمة والموحدتين الأولى ثقيلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بردة‏)‏ كذا للأكثر بالتنوين، وللكشميهني بالهاء والأول أرجح فقد تقدم في ‏"‏ علامات النبوة ‏"‏ من وجه آخر بلفظ ‏"‏ بردة له‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا تدعو الله لنا‏)‏ زاد في الرواية التي في المبعث ‏"‏ ألا تستنصر لنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقعد وهو محمر وجهه‏)‏ أي من أثر النوم، ويحتمل أن يكون من الغضب وبه جزم ابن التين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد‏)‏ كذا للأكثر بكسر الميم، وللكشميهني ‏"‏ أمشاط ‏"‏ هو جمع مشط بكسر الميم وبضمها، يقال مشاط وأمشاط كرماح وأرماح، وأنكر ابن دريد الكسر في المفرد، والأشهر في الجمع مشاط ورماح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما دون عظامه من لحم أو عصب‏)‏ في الرواية الماضية ما دون لحمه من عظم أو عصب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويوضع الميشار‏)‏ بكسر الميم وسكون التحتانية بهمز وبغير همز، تقول وشرت الخشبة وأشرتها، ويقال فيه بالنون وهي أشهر في الاستعمال ووقع في الرواية الماضية ‏"‏ يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ كان هؤلاء الذين فعل بهم ذلك أنبياء أو أتباعهم، قال‏:‏ وكان في الصحابة من لو فعل به ذلك لصبر، إلى أن قال‏:‏ وما زال خلق من الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم يؤذون في الله، ولو أخذوا بالرخصة لساغ لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليتمن الله هذا الأمر‏)‏ بالنصب، وفي الرواية الماضية ‏"‏ والله ليتمن هذا الأمر ‏"‏ بالرفع، والمراد بالأمر الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏زاد بيان‏:‏ والذئب على غنمه‏)‏ هذا يشعر بأن في الرواية الماضية إدراجا، فإنه أخرجها من طريق يحيى القطان عن إسماعيل وحده وقال في آخرها ‏"‏ ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه‏"‏، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن الصباح بن أسلم وعبدة بن عبد الرحيم كلهم عن ابن عيينة به مدرجا، وطريق الحميدي أصح، وقد وافقه ابن أبي عمر أخرجه الإسماعيلي من طريقه مفصلا أيضا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ والذئب ‏"‏ هو بالنصب عطفا على المستثنى منه لا المستثنى، كذا جزم به الكرماني، ولا يمتنع أن يكون عطفا على المستثنى، والتقدير‏:‏ ولا يخاف إلا الذئب على غنمه، لأن مساق الحديث إنما هو للأمن من عدوان بعض الناس على بعض كما كانوا في الجاهلية، لا للأمن من عدوان الذئب فإن ذلك إنما يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ إِلَّا رَجُلٌ رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًا فَرَفَعَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا بِاللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد ‏"‏ سبق الكلام عليه في سجود القرآن من كتاب الصلاة، ويأتي بقيته في تفسير سورة النجم، وقد تقدم هناك تسمية الذي لم يسجد، وزعم الواقدي أن ذلك كان في رمضان سنة خمس من المبعث‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ كان حق هذا الحديث أن يذكر في ‏"‏ باب الهجرة إلى الحبشة ‏"‏ المذكور بعد قليل فسيأتي فيها أن سجود المشركين المذكور فيه سبب رجوع من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة لظنهم أن المشركين كلهم أسلموا، فلما ظهر لهم خلاف ذلك هاجروا الهجرة الثانية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ شُعْبَةُ الشَّاكُّ فَرَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُبَيٍّ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في قصة عقبة بن أبي معيط وإلقائه سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وقد سبق الكلام عليه مستوفى في أواخر كتاب الوضوء‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ كانت هذه القصة بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة، لأن من جملة من دعى عليه عمارة بن الوليد أخو أبي جهل، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا بعثوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي ليرد إليهم من هاجر إليه فلم يفعل، واستمر عمارة بالحبشة إلى أن مات‏.‏

‏(‏تنبيه آخر‏)‏ ‏:‏ أغرب الشيخ عماد الدين بن كثير فزعم أن الحديث الوارد عن خباب عند مسلم وأصحاب السنن ‏"‏ شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا ‏"‏ طرف من حديث الباب، وأن المراد أنهم شكوا ما يلقونه من المشركين من تعذيبهم بحر الرمضاء وغيره، فسألوه أن يدعو على المشركين فلم يشكهم، أي لم يزل شكواهم، وعدل إلى تسليتهم بمن مضى ممن قبلهم، ولكن وعدهم بالنصر انتهى‏.‏

ويبعد هذا الحمل أن في بعض طرق حديث مسلم عند ابن ماجه ‏"‏ الصلاة في الرمضاء ‏"‏ وعند أحمد ‏"‏ يعني الظهر وقال‏:‏ إذا زالت الشمس فصلوا ‏"‏ وبهذا تمسك من قال إنه ورد في تعجيل الظهر، وذلك قبل مشروعية الإيراد، وهو المعتمد، والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه آخر‏)‏ ‏:‏ عبد الله المذكور هو ابن مسعود جزما، وذكر ابن التين أن الداودي قال‏:‏ الظاهر أنه عبد الله بن مسعود لأنهم في الأكثر إنما يطلقون عبد الله غير منسوب عليه‏.‏

قلت‏:‏ وليس ذلك مطردا، وإنما يعرف ذلك من جهة الرواة، وبسط ذلك مقرر في علوم الحديث، وقد صنف فيه الخطيب كتابا حافلا سماه ‏"‏ المجمل لبيان المهمل ‏"‏ ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن الداودي قال‏:‏ لعله عبد الله بن عمرو لا ابن عمر، ثم تعقبه بأن البخاري صرح في كتاب الصلاة بأنه ابن مسعود، قلت‏:‏ ولم أر ما نسبه إلى الداودي في كلام غيره فالله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ قَالَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَدَعَوْنَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَقَدْ أَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ الْآيَةَ فَهَذِهِ لِأُولَئِكَ وَأَمَّا الَّتِي فِي النِّسَاءِ الرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ فَذَكَرْتُهُ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ إِلَّا مَنْ نَدِمَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في توبة القاتل، وسيأتي شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى، والغرض منه الإشارة إلى أن صنع المشركين بالمسلمين من قتل وتعذيب وغير ذلك سقط عنهم بالإسلام‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله هنا ‏"‏ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ‏"‏ كذا وقع في الرواية، والذي في التلاوة ‏(‏ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق‏)‏ هكذا في سورة الفرقان وهي التي ذكرت في بقية الحديث، فتعين أنها المراد في أوله، ويمكن الجواب عن ذلك والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ الْآيَةَ تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأبيه عمرو بن العاص على الاختلاف في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عياش ابن الوليد حدثنا الوليد بن مسلم‏)‏ عياش شيخه بالتحتانية والمعجمة هو الرقام، وله شيخ آخر لا ينسبه في غالب ما يخرج عنه، قال الجياني‏:‏ وقع هنا عند الأصيلي غير مقيد، وزعم بعضهم أنه العباس بن الوليد بن مربد وهو بالموحدة والمهملة، ثم نقل عن أبي زفر أن البخاري ومسلما ما أخرجا لابن مربد شيئا، قال‏:‏ ولا أعلم له رواية عن الوليد بن مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم‏)‏ في رواية علي بن المديني الآتية في تفسير غافر ‏"‏ حدثني محمد بن إبراهيم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني عروة‏)‏ كذا قال الوليد بن مسلم، وخالفه أيوب بن خالد الحراني فقال ‏"‏ عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عمرو ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي، وقول الوليد أرجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت ابن عمرو‏)‏ في رواية علي المذكورة ‏"‏ قلت لعبد الله بن عمرو‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بأشد شيء صنعه إلخ‏)‏ هذا الذي أجاب به عبد الله بن عمرو ويخالف ما تقدم في ‏"‏ ذكر الملائكة ‏"‏ من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها ‏"‏ وكان أشد ما لقيت من قومك ‏"‏ فذكر قصته بالطائف مع ثقيف‏.‏

والجمع بينهما أن عبد الله بن عمرو استند إلى ما رواه، ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف‏.‏

وقد روى الزبير بن بكار والدار قطني في ‏"‏ الأفراد ‏"‏ من طريق عبد الله بن عروة عن عروة ‏"‏ حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان قال‏:‏ أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته يوما، قال‏:‏ وذرفت عينا عثمان فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا، فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند، لكن سنده ضعيف، فإن كان محفوظا حمل على التعدد، وليس ببعيد لما سأبينه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه‏)‏ في حديث عثمان المذكور ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر، وفي الحجر عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمعوه بعض ما يكره ثلاث مرات، فلما كان في الشوط الرابع ناهضوه، وأراد أبو جهل أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة ‏"‏ فهذا السياق مغاير لحديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث عبد الله قول أبي بكر ‏"‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏ ‏"‏ وفي حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ‏"‏ أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم العقاب عاجلا، فأخذتهم الرعدة ‏"‏ الحديث، وهذا يقوي التعدد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه ابن إسحاق‏)‏ قال ‏(‏حدثني يحيى بن عروة إلخ‏)‏ وصله أحمد من طريق إبراهيم بن سعد والبزار من طريق بكر بن سليمان كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند، وفي أول سياقه من الزيادة قال ‏"‏ حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ما رأينا مثل صبرنا عليه، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وغير ديننا، وفرق جماعتنا‏.‏

فبينما هم في ذلك إذ أقبل، فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، وذكر أنه قال لهم في الثالثة ‏"‏ لقد جئتكم بالذبح ‏"‏ وأنهم قالوا له ‏"‏ يا أبا القاسم ما كنت جاهلا، فانصرف راشدا، فانصرف‏.‏

فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا‏:‏ ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع فقالوا‏:‏ قوموا إليه وثبة رجل واحد، قال‏:‏ فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ثيابه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي فقال‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏ ثم انصرفوا عنه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبدة عن هشام‏)‏ أي ابن عروة ‏(‏عن أبيه قيل لعمرو بن العاص‏)‏ هكذا خالف هشام بن عروة أخاه يحيى بن عروة في الصحابي، فقال يحيى‏:‏ ‏"‏ عبد الله بن عمرو ‏"‏ وقال هشام‏:‏ ‏"‏ عمرو بن العاص ‏"‏ ويرجح رواية يحيى موافقة محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة، على أن قول هشام غير مدفوع، لأن له أصلا من حديث عمرو بن العاص، بدليل رواية أبي سلمة عن عمرو الآتية عقب هذا، فيحتمل أن يكون عروة سأله مرة وسأل أباه أخرى، ويؤيده اختلاف السياقين، وقد ذكرت أن عبد الله بن عروة رواه عن أبيه بإسناد آخر عن عثمان فلا مانع من التعدد، نعم لم تتفق الرواة عن هشام على قوله ‏"‏ عمرو بن العاص ‏"‏ فإن سليمان بن بلال وافق عبدة على ذلك، وخالفهما محمد بن فليح فقال ‏"‏ عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو ‏"‏ ذكره البيهقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة‏:‏ حدثني عمرو بن العاص‏)‏ وصله البخاري في ‏"‏ خلق أفعال العباد ‏"‏ من طريقه، وأخرجه أبو يعلى وابن حبان عنه من وجه آخر عن محمد بن عمرو ولفظه ‏"‏ ما رأيت قريشا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوما أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏ ثم انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته مر بهم فقال‏:‏ والذي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، فقال له أبو جهل‏:‏ يا محمد ما كنت جهولا، فقال‏:‏ أنت منهم‏"‏‏.‏

ويدل على التعدد أيضا ما أخرجه البيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ من حديث ابن عباس عن فاطمة عليها السلام قالت ‏"‏ اجتمع المشركون في الحجر فقالوا‏:‏ إذا مر محمد ضربه كل رجل منا ضربة، فسمعت ذلك فأخبرته فقال‏:‏ اسكتي يا بنية‏.‏

ثم خرج فدخل عليهم، فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا، قالت فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال‏:‏ شاهت الوجوه، فما أصاب رجلا منهم إلا قتل يوم بدر كافرا ‏"‏ وقد أخرج أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس قال ‏"‏ لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي‏:‏ ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر ‏"‏ وهذا من مراسيل الصحابة، وقد أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن مطولا من حديث أسماء بنت أبي بكر أنهم ‏"‏ قالوا لها ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏؟‏ فذكر نحو سياق ابن إسحاق المتقدم قريبا وفيه ‏"‏ فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال‏:‏ أدرك صاحك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول‏:‏ ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏ فلهوا عنه، وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا رجع معه‏"‏‏.‏

ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال ‏"‏ من أشجع الناس‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنت قال‏:‏ أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكنه أبو بكر، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له أنت تجعل الآلهة إلها واحدا، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول‏:‏ ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏ ، ثم بكى علي ثم قال‏.‏

أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر‏؟‏ فسكت القوم، فقال علي‏:‏ والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا يعلن بإيمانه‏"‏‏.‏

*3*باب إِسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏)‏ ذكر فيه حديث عمار، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ مناقب أبي بكر رضي الله عنه ‏"‏ وعبد الله شيخه قال ابن السكن في روايته ‏"‏ حدثني عبد الله بن محمد ‏"‏ فتوهم أبو علي الجياني أنه أراد المسندي فقال‏:‏ لم يصنع شيئا‏.‏

قلت‏:‏ وفي كلامه نظر، فقد وقع في تفسير التوبة ‏"‏ حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن معين ‏"‏ لكن عمدة الجياني هنا أن أبا نصر الكلاباذي جزم بأن عبد الله هنا هو ابن حماد الآملي، وكذا وقع في رواية أبي ذر الهروي منسوبا، وهو عبد الله بن حماد، وهو من أقران البخاري، بل هو أصغر منه، فلقد لقي البخاري يحيى بن معين وهو أقدم من ابن معين، وبيان هو ابن بشر، ووبرة بفتح الواو والموحدة واكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئا على شرطه غيره، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي بكر إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال غيره، وقد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وذكر ابن إسحاق أنه كان يتحقق أنه سيبعث، لما كان يسمعه ويرى من أدلة ذلك، فلما دعاه بادر إلى تصديقه من أول وهلة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ كان حق هذا الباب أن يكون متقدما جدا، إما في ‏"‏ باب المبعث ‏"‏ أو عقبه لكن وجهه هنا ما وقع في حديث عمرو بن العاص الذي قبله أنه قام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا الآية المذكورة، فدل ذلك على أن إسلامه متقدم على غيره، بحيث أن عمارا مع تقدم إسلامه لم ير مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وبلال، وعنى بذلك الرجال، وبلال إنما اشتراه أبو بكر لينقذه من تعذيب المشركين لكونه أسلم‏.‏

*3*باب إِسْلَامُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إسلام سعد‏)‏ ذكر فيه حديثه، وقد تقدم شرحه في مناقبه مستوفى، ومناسبته لما قبله، واجتماعهما في أن كلا منهما يقتضي سبق من ذكر فيه إلى الإسلام خاصة، لكنه محمول على ما أطلع عليه، وإلا فقد أسلم قبل إسلام بلال وسعد خديجة وسعد بن حارثة وعلي بن أبي طالب وغيرهم‏.‏

*3*باب ذِكْرُ الْجِنِّ

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ذكر الجن‏)‏ تقدم الكلام على الجن في أوائل بدء الخلق بما يغني عن إعادته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن‏)‏ الآية‏)‏ يريد تفسير هذه الآية، وقد أنكر ابن عباس أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الصلاة من طريق أبي يشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ‏"‏ الحديث، وحديث أبي هريرة في هذا الباب وإن كان ظاهرا في اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن‏.‏

لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بين في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره، وأما حديث أبى هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضا، قال البيهقي‏:‏ حديث ابن عباس حكى ما وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب منه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود انتهى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم من طريق زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا‏:‏ أنصتوا، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يوافق حديث ابن عباس‏.‏

وأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال‏:‏ ‏"‏ قلت لعبد الله بن مسعود‏:‏ هل صحب أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا‏:‏ اغتيل، استطير‏.‏

فبتنا شر ليلة‏.‏

فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكرنا له، فقال‏:‏ أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ‏"‏ وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أصح مما رواه الزهري ‏"‏ أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة‏:‏ من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل، قال‏:‏ فلم يحضر منهم أحد غيري، فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق، ثم قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغ منهم مع الفجر فانطلق ‏"‏ الحديث، قال البيهقي‏:‏ يحتمل أن يكون قوله في الصحيح ‏"‏ ما صحبه منا أحد ‏"‏ أراد به في حال إقرائه القرآن لكن قوله في الصحيح‏:‏ إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه، إلا أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه، فالله أعلم‏.‏

ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فأقرأ عليهم القرآن، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطا ‏"‏ فذكر الحديث نحوه أخرجه الدار قطني وابن مردويه وغيرهما‏.‏

وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود نحوه مختصرا، وذكر ابن إسحاق أن استماع الجن كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف لما خرج إليها يدعو ثقيفا إلى نصره، وذلك بعد موت أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابن سعد بأن خروجه إلى الطائف كان في شوال، وسوق عكاظ التي أشار إليها ابن عباس كانت تقام في ذي القعدة‏.‏

وقول ابن عباس في حديثه ‏"‏ وهو يصلي بأصحابه ‏"‏ لم يضبط ممن كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، والله أعلم‏.‏

وقول من قال إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم‏.‏

والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك كان قبل المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذلك لم يقيد الترجمة بقدوم ولا وفادة، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني عبيد الله بن سعيد‏)‏ هو أبو قدامة السرخسي، وهو بالتصغير مشهور بكنيته، وفي طبقته عبد الله بن سعيد مكبر وهو أبو سعيد الأشج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن معن بن عبد الرحمن‏)‏ أي ابن عبد الله بن مسعود، وهو كوفي ثقة ما له في البخاري إلا هذا الموضع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من آذن‏)‏ بالمد أي أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه آذنت بهم شجرة‏)‏ في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة بهذا الإسناد ‏"‏ آذنت بهم سمرة ‏"‏ بفتح المهملة وضم الميم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ في حديث أبي هريرة ‏(‏أخبرني جدي‏)‏ هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابغني‏)‏ قال ابن التين‏:‏ هو موصول من الثلاثي تقول‏:‏ بغيت الشيء طلبته وأبغيتك الشيء أعنتك على طلبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحجارا استنفض بها‏)‏ تقدم شرح ذلك في كتاب الطهارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنه أتاني وفد جن نصيبين‏)‏ يحتمل أن يكون خبرا عما وقع في تلك الليلة، ويحتمل أن يكون خبرا عما مضى قبل ذلك‏.‏

ونصيبين بلدة مشهورة بالجزيرة‏.‏

ووقع في كلام ابن التين أنها بالشام وفيه تجوز، فإن الجزيرة بين الشام والعراق، ويجوز صرف نصيبين وتركه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسألوني الزاد‏)‏ أي مما يفضل عن الأنس، وقد يتعلق به من يقول إن الأشياء قبل الشرع على الحظر حتى ترد الإباحة، ويجاب عنه بمنع الدلالة على ذلك، بل لا حكم قبل الشرع على الصحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما‏)‏ في رواية السرخسي ‏"‏ إلا وجدوا عليها طعاما ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يجعل الله ذلك عليها، ويحتمل أن يذيقهم منها طعاما‏.‏

وفي حديث ابن مسعود عند مسلم ‏"‏ إن البعر زاد دوابهم ‏"‏ ولا ينافي ذلك حديث الباب لإمكان حمل الطعام فيه على طعام الدواب‏.‏

*3*باب إِسْلَامُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إسلام أبي ذر الغفاري‏)‏ هو جندب - وقيل بريد - ابن جنادة بضم الجيم والنون الخفيفة ابن سفيان - وقيل سفير - ابن عبيد بن حرام بالمهملتين ابن غفار، وغفار من بني كنانة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ فَقَالَ مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ قَالَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ لِمِثْلِهَا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا المثنى‏)‏ هو ابن سعيد الضبعي، له في البخاري حديثان‏:‏ هذا وآخر تقدم في ذكر بني إسرائيل، وأبو جمرة هو بالجيم نصر بن عمران‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أبا ذر قال لأخيه‏)‏ هو أنيس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اركب إلى هذا الوادي‏)‏ أي وادي مكة، وفي أول رواية أبي قتيبة الماضية في مناقب قريش ‏"‏ قال لنا ابن عباس‏:‏ ‏"‏ ألا أخبركم بإسلام أبي ذر‏؟‏ قال‏:‏ قلنا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ قال أبو ذر‏:‏ كنت رجلا من غفار ‏"‏ وهذا السياق يقتضي أن ابن عباس تلقاه من أبي ذر، وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس، ولكن الجمع بينهما ممكن وأول حديثه ‏"‏ خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فحسدنا قومه فقالوا له‏:‏ إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فذكر لنا ذلك فقلنا له‏:‏ أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته، فتحملنا عليه، وجلس يبكي، فانطلقنا نحو مكة، فنافر أخي أنيس رجلا إلى الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، قلت‏:‏ لمن‏؟‏ قال‏:‏ لله‏.‏

قلت‏:‏ فأين توجه‏؟‏ قال‏:‏ حيث يوجهني ربي‏.‏

قال‏:‏ فقال لي أنيس‏:‏ إن لي حاجة بمكة فانطلق، ثم جاء فقلت‏:‏ ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله‏.‏

قلت فما يقول الناس‏؟‏ قال يقولون‏:‏ شاعر كاهن ساحر‏.‏

وكان أنيس شاعرا، فقال‏:‏ لقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم عليها، والله إنه لصادق‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الظاهر مغاير لقوله في حديث الباب ‏"‏ إن أبا ذر قال لأخيه ما شفيتني ‏"‏ ويمكن الجمع بأنه كان أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانطلق الأخ‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فانطلق الآخر ‏"‏ أي أنيس، قال عياض‏:‏ وقع عند بعضهم ‏"‏ فانطلق الأخ الآخر ‏"‏ والصواب الاقتصار على أحدهما لأنه لا يعرف لأبي ذر إلا أخ واحد وهو أنيس‏.‏

قلت‏:‏ وعند مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي - أي عن المثنى - ‏"‏ فانطلق الآخر ‏"‏ حسب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى قدمه‏)‏ أي الوادي وادي مكة‏.‏

وفي رواية ابن مهدي ‏"‏ فانطلق الآخر حتى قدم مكة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر‏)‏ كذا في هذه الرواية، ووافقها عبد الرحمن بن مهدي عند مسلم، وقوله‏:‏ ‏"‏ وكلاما ‏"‏ منصوب بالعطف على الضمير المنصوب، وفيه إشكال لأن الكلام لا يرى‏.‏

ويجاب عنه بأنه من قبيل ‏"‏ علفتها تبنا وماء باردا ‏"‏ وفيه الوجهان‏:‏ الإضمار أي وسقيتها، أو ضمن العلف معنى الإعطاء‏.‏

وهنا يمكن أن يقال‏:‏ التقدير رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاما ما هو بالشعر‏.‏

أو ضمن الرؤية معنى الأخذ عنه‏.‏

ووقع في رواية أبي قتيبة ‏"‏ رأيته يأمر بالخير وينهى عن الشر ‏"‏ ولا إشكال فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكره أن يسأل عنه‏)‏ لأنه عرف أن قومه يؤذون من يقصده أو يؤذونه بسبب قصد من يقصده، أو لكراهتهم في ظهور أمره لا يدلون من يسأل عنه عليه، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرآه علي بن أبي طالب‏)‏ وهذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين وقيل‏:‏ أقل من ذلك، هذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فعرف أنه غريب‏)‏ في رواية‏:‏ أبي قتيبة ‏"‏ فقال، كأن الرجل غريب‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما رآه تبعه‏)‏ في رواية أبي قتيبة ‏"‏ قال فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما نال للرجل‏)‏ أي أما حان، يقال نال له بمعنى آن له، ويروى ‏"‏ أما آن ‏"‏ بمد الهمزة و ‏"‏ أني ‏"‏ بالقصر وبفتح النون وكلها بمعنى، وقد تقدم في قصة الهجرة في قول أبي بكر الصديق ‏"‏ أما آن للرحيل ‏"‏ مثله وقوله‏:‏ ‏"‏ أن يعلم منزله ‏"‏ أي مقصده، ويحتمل أن يكون علي أشار بذلك إلى دعوته إلى بيته لضيافته ثانيا، وتكون إضافة المنزل إليه مجازية لكونه قد نزل به مرة، ويؤيد الأول قول أبي ذر في جوابه ‏"‏ قلت لا ‏"‏ كما في رواية أبي قتيبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوم الثالث‏)‏ كذا فيه، وهو كقولهم مسجد الجامع، وليس من إضافة الشيء إلى نفسه عند التحقيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فعاد علي على مثل ذلك‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فغدا على مثل ذلك ‏"‏ وفي رواية أبي قتيبة ‏"‏ فقال فانطلق معي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لترشدنني‏)‏ كذا للأكثر بنونين‏.‏

وفي رواية الكشميهني بواحدة مدغمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخبرته‏)‏ كذا للأكثر وفيه التفات‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فأخبره ‏"‏ على نسق ما تقدم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قمت كأني أريق الماء‏)‏ في رواية أبي قتيبة ‏(‏كأني أصلح نعلي‏)‏ ويحمل على أنه قالهما جميعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانطلق يقفوه‏)‏ أي يتبعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ودخل منه‏)‏ قال الداودي‏:‏ فيه الدخول بدخول المتقدم، وكأن هذا قبل آية الاستئذان، وتعقبه ابن التين فقال‏:‏ لا تؤخذ الأحكام من مثل هذا‏.‏

قلت‏:‏ وفي كلام كل منهما من النظر ما لا يخفى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسمع من قوله وأسلم مكانه‏)‏ كأنه كان يعرف علامات النبي، فلما تحققها لم يتردد في الإسلام، هكذا في هذه الرواية، ومقتضاها أن التقاء أبي ذر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي‏.‏

وفي رواية عبد الله بن الصامت ‏"‏ أن أبا ذر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في الطواف بالليل، قال‏:‏ فلما قضى صلاته قلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قال‏:‏ فكنت أول من حياه بالسلام، قال‏:‏ من أين أنت‏؟‏ قلت من بني غفار، قال‏:‏ فوضع يده على جبهته، فقلت كره أن انتميت إلى غفار ‏"‏ فذكر الحديث في شأن زمزم، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين من بين يوم وليلة، وفيه ‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأنه أطعمه من زبيب الطائف ‏"‏ الحديث وأكثره مغاير لما في حديث ابن عباس هذا عن أبي ذر، ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف أو بالعكس، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر، كما في رواية عبد الله بن الصامت من الزيادة ما ذكرناه ففي رواية ابن عباس أيضا من الزيادة قصته مع علي وقصته مع العباس وغير ذلك‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد، ولا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه ففرغ لما أقام بمكة، والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها، ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة المذكورة ‏"‏ فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري‏)‏ في رواية أبي قتيبة ‏"‏ اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل ‏"‏ وفي رواية عبد الله بن الصامت ‏"‏ إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ‏"‏ فذكر قصة إسلام أخيه أنيس وأمه وأنهم توجهوا إلى قومهم غفار فأسلم نصفهم، الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأصرخن بها‏)‏ أي بكلمة التوحيد، والمراد أنه يرفع صوته جهارا بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، يؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك مترتب وجود الأجر وعدمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قام القوم‏)‏ في رواية أبي قتيبة ‏"‏ فقالوا قوموا إلى هذا الصابي ‏"‏ بالياء اللينة ‏"‏ فقاموا ‏"‏ وكانوا يسمون من أسلم صابيا لأنه من صبا يصبو إذا انتقل من شيء إلى شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فضربوه حتى أوجعوه‏)‏ في رواية أبي قتيبة ‏"‏ فضربت لأموت ‏"‏ أي ضربت ضربا لا يبالي من ضربني أن لو أموت منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأقلعوا عني‏)‏ أي كفوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأكب العباس عليه‏)‏ في رواية أبي قتيبة ‏"‏ فقال مثل مقالته بالأمس ‏"‏ وفي الحديث ما يدل على حسن تأتي العباس وجودة فطنته حيث توصل إلى تخليصه منهم بتخويفهم من قومه أن يقاصوهم بأن يقطعوا طرق متجرهم، وكان عيشهم من التجارة‏.‏

فلذلك بادروا إلى الكف عنه‏.‏

وفي الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي ذر، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمده طويلة لما فيه من الحكاية عن علي كما قدمناه، ومن قوله أيضا في رواية عبد الله بن الصامت ‏"‏ إني وجهت إلى أرض ذات نخل‏"‏، فإن ذلك يشعر بأن وقوع ذلك كان قرب الهجرة والله أعلم‏.‏