فصل: باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ فِي الْبُيُوعِ وَلَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلَإِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الْحِيَلِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الحيل‏)‏ جمع حيلة وهي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي‏.‏

وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة‏.‏

ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول‏:‏ هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا وباطنا، أو يبطل مطلقا، أو يصح مع الإثم‏؟‏ ولمن أجازها مطلقا أو أبطلها مطلقا أدلة كثيرة، فمن الأول قوله تعالى ‏(‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏)‏ وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى، وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في السنن، ومنه قوله تعالى ‏(‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏)‏ وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء فإن فيه تخليصا من الحنث، وكذلك الشروط كلها فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال ‏"‏ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ‏"‏ ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث ‏"‏ حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها ‏"‏ وحديث النهي عن النجش، وحديث لعن المحلل والمحلل له، والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم‏:‏ هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها‏؟‏ فمن قال بالأول أجاز الحيل‏.‏

ثم اختلفوا‏:‏ فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرا وباطنا في جميع الصور أو في بعضها ومنهم من قال تنفذ ظاهرا لا باطنا، ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه القرائن الحالية، وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية لكون أبي يوسف صنف فيها كتابا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق، قال صاحب المحيط أصل الحيل قوله تعالى ‏(‏وخذ بيدك ضغثا‏)‏ الآية، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا بل هي إثم وعدوان‏.‏

*3*باب فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ترك الحيل‏)‏ قال ابن المنير‏:‏ أدخل البخاري الترك في الترجمة لئلا يتوهم أي من الترجمة الأولى إجازة الحيل‏.‏

قال‏:‏ وهو بخلاف ما ذكره في ‏"‏ باب بيعة الصغير ‏"‏ فإنه أورد فيه أنه لم يبايعه بل دعا له ومسح برأسه فلم يقرب باب ترك بيعة الصغير وذلك أن بيعته لو وقعت لم يكن فيها إنكار، بخلاف الحيل فإن في القول بجوازها عموما إبطال حقوق وجبت وإثبات حقوق لا تجب فتحرى فيها لذلك‏.‏

قلت‏:‏ وإنما أطلق أولا للإشارة إلى أن من الحيل ما يشرع فلا يترك مطلقا‏.‏

قوله ‏(‏وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وغيره ‏"‏ وجعل الضمير مذكرا على إرادة اليمين المستفاد من صيغة الجمع، وقوله في الأيمان وغيرها من تفقه المصنف لا من الحديث، قال ابن المنير‏:‏ اتسع البخاري في الاستنباط والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكا في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ وصح القصد ألغي اللفظ وأعمل القصد تصحيحا وإبطالا، قال‏:‏ والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال التحيل من أقوى الأدلة، ووجه التعميم أن المحذوف المقدر الاعتبار، فمعنى الاعتبار في العبادات إجزاؤها وبيان مراتبها، وفي المعاملات وكذلك الأيمان الرد إلى القصد، وقد تقدم في ‏"‏ باب ما جاء أن الأعمال بالنية ‏"‏ من كتاب الإيمان في أوائل الكتاب تصريح البخاري بدخول الأحكام كلها في هذا الحديث، ونقلت هناك كلام ابن المنير في ضابط ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن إبراهيم‏)‏ هو التيمي، وقد صرح بتحديث علقمة شيخه في هذا الحديث له في أول بدء الوحي ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ يا أيها الناس ‏"‏ وفيه إشعار بأنه خطب به، وقوله ‏"‏يخطب ‏"‏ تقدم في بدء الوحي أن عمر قاله على المنبر‏.‏

قوله ‏(‏إنما الأعمال بالنية‏)‏ تقدم في بدء الوحي بلفظ ‏"‏ بالنيات ‏"‏ وفي كتاب الإيمان بلفظ ‏"‏ الأعمال بالنية ‏"‏ كما هنا مع حذف ‏"‏ إنما ‏"‏ من أوله‏.‏

قوله ‏(‏وإنما لامرئ ما نوى‏)‏ تقدم في بدء الوحي بلفظ ‏"‏ وإنما لكل امرئ ما نوى ‏"‏ وهو الذي علقه في أول الباب وتقدم البحث في أن مفهومه أن من لم ينو شيئا لم يحصل له وقد أورد عليه من نوى الحج عن غيره وكان لم يحج فإنه لم يصح عنه، ويسقط عنه الفرض بذلك عند الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق‏.‏

وقال الباقون‏:‏ يصح عن غيره ولا ينقلب عن نفسه لأنه لم ينوه، واحتج للأول بحديث ابن عباس في قصة شبرمة، فعند أبي داود ‏"‏ حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ‏"‏ وعند ابن ماجه ‏"‏ فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة ‏"‏ وسنده صحيح وأجابوا أن الحج خرج عن بقية العبادات ولذلك يمضي فاسده دون غيره، وقد وافق أبو جعفر الطبري على ذلك ولكن حمله على الجاهل بالحكم وأنه إذا علم بأثناء الحال وجب عليه أن ينويه عن نفسه فحينئذ ينقلب وإلا فلا يصح عنه، ويستثنى من عموم الخبر ما يحصل من جهة الفضل الإلهي بالقصد من غير عمل كالأجر الحاصل للمريض بسبب مرضه على الصبر لثبوت الأخبار بذلك خلافا لمن قال‏:‏ إنما يقع الأجر على الصبر وحصول الأجر بالوعد الصادق لمن قصد العبادة فعاقه عنها عائق بغير إرادته، وكمن له أوراد فعجز عن فعلها لمرض مثلا فإنه يكتب له أجرها كمن عملها‏.‏

ومما يستثنى على خلف ما إذا نوى صلاة فرض ثم ظهر له ما يقتضي بطلانها فرضا هل تنقلب نفلا‏؟‏ وهذا عند العذر، فأما لو أحرم بالظهر مثلا قبل الزوال فلا يصح فرضا ولا ينقلب نفلا إذا تعمد ذلك‏.‏

ومما اختلف فيه هل يثاب المسبوق ثواب الجماعة على ما إذا أدرك ركعة أو يعم، وهل يثاب من نوى صيام نفل في أثناء النهار على جميعه أو من حين نوى‏؟‏ وهل تكمل الجمعة إذا خرج وقتها في أول الركعة الثانية مثلا جمعة أو ظهرا وهل تنقلب بنفسها أو تحتاج إلى تجديد نية‏؟‏ والمسبوق إذا أدرك الاعتدال الثاني مثلا هل ينوي الجمعة أو الظهر‏؟‏ ومن أحرم بالحج في غير أشهره هل ينقلب عمرة أو لا‏؟‏ واستدل به من قال بإبطال الحيل ومن قال بإعمالها، لأن مرجع كل من الفريقين إلى نية العامل، وسيأتي في أثناء الأبواب التي ذكرها المصنف إشارة إلى بيان ذلك، والضابط ما تقدمت الإشارة إليه إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو مطلوب، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم ونص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في تفويت الحقوق فقال بعض أصحابه‏:‏ هي كراهة تنزيه‏.‏

وقال كثير من محققيهم كالغزالي‏:‏ هي كراهة تحريم ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله ‏"‏ وإنما لكل امرئ ما نوى ‏"‏ فمن نوى بعقد البيع الربا وقع في الربا ولا يخلصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ودخل في الوعيد على ذلك باللعن ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله كان إثما‏.‏

ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون لأنهما ليسا من أهل العبادة وعلى سقوط القود في شبه العمد لأنه لم يقصد القتل، وعلى عدم مؤاخذة المخطئ والناسي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما، وقد تقدم ذلك في أبوابه، واستدل به لمن قال كالمالكية‏:‏ اليمين على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية، وعكسه غيرهم، وقد تقدم بيانه في الأيمان، واستدلوا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ اليمين على نية المستحلف ‏"‏ وفي لفظ له ‏"‏ يمينك على ما يصدقك به صاحبك ‏"‏ وحمله الشافعية على ما إذا كان المستحلف الحاكم‏.‏

واستدل به لمالك على القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد بالقرائن كما تقدمت الإشارة إليه، وضبط بعضهم ذلك لأن الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلم ثلاثة أقسام أحدها أن تظهر المطابقة إما يقينا وإما ظنا غالبا، والثاني أن يظهر أن المتكلم لم يرد معناه إما يقينا وإما ظنا، والثالث أن يظهر في معناه ويقع التردد في إرادة غيره وعدمها على حد سواء، فإذا ظهر قصد المتكلم لمعنى ما تكلم به أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره، وإذا ظهرت إرادته بخلاف ذلك فهل يستمر الحكم على الظاهر ولا عبرة بخلاف ذلك أو يعمل بما ظهر من إرادته‏؟‏ فاستدل للأول بأن البيع لو كان يفسد بأن يقال هذه الصيغة فيها ذريعة أبي الربا ونية المتعاقدين فيها فاسدة لكان إفساد البيع بما يتحقق تحريمه أولى أن يفسد به البيع من هذا الظن، كما لو نوى رجل بشراء سيف أن يقتل به رجلا مسلما بغير حق فإن العقد صحيح وإن كانت نيته فاسدة جزما، فلم يستلزم تحريم القتل بطلان البيع، وإن كان العقد لا يفسد بمثل هذا فلا يفسد بالظن والتوهم بطريق الأولى، واستدل للثاني بأن النية تؤثر في الفعل فيصير بها تارة حراما وتارة حلالا كما يصير العقد بها تارة صحيحا وتارة فاسدا، كالذبح مثلا فإن الحيوان يحل إذا ذبح‏.‏

لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله والصورة واحدة، والرجل يشتري الجارية لوكيله فتحرم عليه ولنفسه فتحل له وصورة العقد واحدة، وكذلك صورة القرض في الذمة وبيع النقد بمثله إلى أجل صورتهما واحدة الأول قربة صحيحة والثاني معصية باطلة، وفي الجملة فلا يلزم من صحة العقد في الظاهر رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة في الباطن والله أعلم‏.‏

وقد نقل النسفي الحنفي في ‏"‏ الكافي ‏"‏ عن محمد بن الحسن قال‏:‏ ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق‏.‏

*3*باب فِي الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب في الصلاة‏)‏ أي دخول الحيلة فيها، ذكر فيه حديث أبي هريرة لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، قال ابن بطال‏:‏ فيه رد على من قال إن من أحدث في القعدة الأخيرة أن صلاته صحيحة لأنه أتى بما يضادها‏.‏

وتعقب بأن الحدث في أثنائها مفسد لها فهو كالجماع في الحج لو طرأ في خلاله لأفسده، وكذا في آخره‏.‏

وقال ابن حزم في أجوبة له عن مواضع من صحيح البخاري‏:‏ مطابقة الحديث للترجمة أنه لا يخلو أن يكون المرء طاهرا متيقنا للطهارة أو محدثا متيقنا للحدث وعلى الحالين ليس لأحد أن يدخل في الحقيقة حيلة، فإن الحقيقة إثبات الشيء صدقا أو نفيه صدقا فما كان ثابتا حقيقة فنافيه بحيلة مبطل وما كان منتفيا فمثبته بالحيلة مبطل وقال ابن المنير أشار البخاري بهذه الترجمة إلى الرد على قول من قال بصحة صلاة من أحدث عمدا في أثناء الجلوس الأخير ويكون حدثه كسلامه بأن ذلك من الحيل لتصحيح الصلاة مع الحدث، وتقرير ذلك أن البخاري بني على أن التحلل من الصلاة ركن منها فلا تصح مع الحدث، والقائل بأنها تصح يرى أن التحلل من الصلاة ضدها فتصح مع الحدث، قال‏:‏ وإذا تقرر ذلك فلا بد من تحقق كون السلام ركنا داخلا في الصلاة لا ضدا لها‏.‏

وقد استدل من قال بركنيته بمقابلته بالتحريم لحديث ‏"‏ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ‏"‏ فإذا كان أحد الطرفين ركنا كان الطرف الآخر ركنا ويؤيده أن السلام من جنس العبادات لأنه ذكر الله تعالى ودعاء لعباده فلا يقوم الحدث الفاحش مقام الذكر الحسن، وانفصل الحنفية بأن السلام واجب لا ركن، فإن سبقه الحدث بعد التشهد توضأ وسلم وإن تعمده فالعمد قاطع وإذا وجد القطع انتهت الصلاة لكون السلام ليس ركنا وقال ابن بطال‏:‏ فيه رد على أبي حنيفة في قوله إن المحدث في صلاته يتوضأ ويبني، ووافقه ابن أبي ليلى‏.‏

وقال مالك والشافعي‏:‏ يستأنف الصلاة واحتجا بهذا الحديث، وفي بعض ألفاظه ‏"‏ لا صلاة إلا بطهور ‏"‏ فلا يخلو حال انصرافه أن يكون مصليا أو غير مصل فإن قالوا هو مصل رد لقوله ‏"‏ لا صلاة إلا بطهور ‏"‏ ومن جهة النظر أن كل حدث منع من ابتداء الصلاة منع من البناء عليها بدليل أنه لو سبقه المني لاستأنف اتفاقا‏.‏

قلت‏:‏ وللشافعي قول وافق أبا حنيفة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ وجه أخذه من الترجمة أنهم حكموا بصحة الصلاة مع الحدث حيث قالوا يتوضأ ويبني؛ وحيث حكموا بصحتها مع عدم النية في الوضوء لعلة أن الوضوء ليس بعبادة‏.‏

ونقل ابن التين عن الداودي ما حاصله‏:‏ أن مناسبة الحديث للترجمة أنه أراد أن من أحدث وصلى ولم يتوضأ وهو يعلم أنه يخادع الناس بصلاته فهو مبطل كما خدع مهاجر أم قيس بهجرته وخادع الله وهو يعلم أنه مطلع على ضميره‏.‏

قلت‏:‏ وقصة مهاجر أم قيس إنما ذكرت في حديث ‏"‏ الأعمال بالنيات ‏"‏ وهو في الباب الذي قبل هذا، لا في هذا الباب، وزعم بعض المتأخرين أن البخاري أراد الرد على من زعم أن الجنازة إذا حضرت وخاف فوتها أنه يتيمم، وكذا من زعم أنه إذا قام لصلاة الليل فبعد عنه الماء وخشي إذا طلبه أن يفوته قيام الليل أنه تباح له الصلاة بالتيمم، ولا يخفي تكلفه‏.‏

*3*باب فِي الزَّكَاةِ

وَأَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب في الزكاة‏)‏ أي ترك الحيل في إسقاطها‏.‏

قوله ‏(‏وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة‏)‏ هو لفظ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ

الشرح‏:‏

طرف من حديث طويل أورده في الزكاة بهذا السند تاما ومفرقا وتقدم شرحه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا فَقَالَ أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ قَالَ شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا قَالَ أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ قَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَالَ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

حديث طلحة بن عبيد الله ‏"‏ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ‏"‏ الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان أول الصحيح‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعض الناس في عشرين ومائة بعير حقتان فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شيء عليه‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أن للمرء قبل الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة والذبح وإذا لم ينو الفرار من الصدقة وأجمعوا على أنه إذا حال الحول أنه لا يحل التحيل بأن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين متفرق، ثم اختلفوا فقال مالك‏:‏ من فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏خشية الصدقة ‏"‏ وقال أبو حنيفة إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية لأن ذلك لا يلزمه إلا بتمام الحول ولا يتوجه إليه معنى قوله ‏"‏ خشية الصدقة ‏"‏ إلا حينئذ، قال‏:‏ وقال المهلب قصد البخاري أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم أو تفرقتها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من حديث طلحة في قوله ‏"‏ أفلح إن صدق ‏"‏ أن من رام أن ينقص شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، قال‏:‏ وما أجاب به الفقهاء من تصرف ذي المال في ماله قرب حلول الحول ثم يريد بذلك الفرار من الزكاة ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط وهو كمن فر عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم واستعمل سفرا لا يحتاج إليه ليفطر فالوعيد إليه يتوجه‏.‏

وقال بعض الحنفية‏:‏ هذا الذي ذكره البخاري ينسب لأبي يوسف وقال محمد‏:‏ يكره لما فيه من القصد إلى إبطال حق الفقراء بعد وجود سببه وهو النصاب، واحتج أبو يوسف بأنه امتناع من الوجوب لا إسقاط للواجب، واستدل بأنه لو كان له مائتا درهم فلما كان قبل الحول بيوم تصدق بدرهم منها لم يكره، ولو نوى بتصدقه بالدرهم أن يتم الحول وليس في ملكه نصاب فلا يلزمه الزكاة، وتعقب بأن من أصل أبي يوسف أن الحرمة تجامع الفرض كطواف المحدث أو العاري، فكيف لا يكون القصد مكروها في هذه الحالة‏؟‏ وقوله امتناع من الوجوب معترض، فإن الوجوب قد تقرر من أول الحول ولذلك جاز التعجيل قبل الحول، وقد اتفقوا على أن الاحتيال لإسقاط الشفعة بعد وجوبها مكروه وإنما الخلاف فيما قبل الوجوب، فقياسه أن يكون في الزكاة مكروها أيضا والأشبه أن يكون أبو يوسف رجع عن ذلك فإنه قال في ‏"‏ كتاب الخراج ‏"‏ بعد إيراد حديث ‏"‏ لا يفرق بين مجتمع ‏"‏ ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر منع الصدقة ولا إخراجها عن ملكه لملك غيره ليفرقها بذلك فتبطل الصدقة عنها بأن يصير لكل واحد منهما ما لا تجب فيه الزكاة، ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه انتهى‏.‏

ونقل أبو حفص الكبير راوي ‏"‏ كتاب الحيل ‏"‏ عن محمد بن الحسن أن محمدا قال‏:‏ ما احتال به المسلم حتى يتخلص به من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال فلا بأس به، وما احتال به حتى يبطل حقا أو يحق باطلا أو ليدخل به شبهة في حق فهو مكروه والمكروه عنده إلى الحرام أقرب‏.‏

وذكر الشافعي أنه ناظر محمدا في امرأة كرهت زوجها وامتنع من فراقها فمكنت ابن زوجها من نفسها فإنها تحرم عندهم على زوجها بناء على قولهم إن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا، قال فقلت لمحمد‏:‏ الزنا لا يحرم الحلال لأنه ضده ولا يقاس شيء على ضده فقال‏:‏ يجمعهما الجماع، فقلت‏:‏ الفرق بينهما أن الأول حمدت به وحصنت فرجها والآخر ذمت به ووجب عليها الرجم، ويلزم أن المطلقة ثلاثا إذا زنت حلت لزوجها، ومن كان عنده أربع نسوة فزنى بخامسة أن تحرم عليه إحدى الأربع إلى آخر المناظرة‏.‏

وقد أشكل قول البخاري في الترجمة ‏"‏ فإن أهلكها ‏"‏ بأن الإهلاك ليس من الحيل بل هو من إضاعة المال، فإن الحيلة إنما هي لدفع ضرر أو جلب منفعة وليس كل واحد منهما موجودا في ذلك، ويظهر لي أنه يتصور بأن يذبح الحقتين مثلا وينتفع بلحمهما فتسقط الزكاة بالحقتين وينتقل إلى ما دونهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ أَنَا كَنْزُكَ قَالَ وَاللَّهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ فَيُلْقِمَهَا فَاهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا أَوْ بِغَنَمٍ أَوْ بِبَقَرٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنْ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالًا فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِتَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في المستخرج‏.‏

قوله ‏(‏يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع‏)‏ المراد بالكنز المال الذي يخبأ من غير أن يؤدي زكاته كما تقدم تقريره في كتاب الزكاة، ووقع هناك في رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من أعطاه الله مالا فلم يؤد زكاته سئل له يوم القيامة شجاعا أقرع ‏"‏ فذكر نحوه، وبه تظهر مناسبة ذكره في هذا الباب‏.‏

قوله ‏(‏أنا كنز‏)‏ هذا زائد في هذه الطريق‏.‏

قوله ‏(‏والله لن يزال‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لا ‏"‏ بدل ‏"‏ لن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى يبسط يده‏)‏ أي صاحب المال‏.‏

قوله ‏(‏فيلقمها فاه‏)‏ يحتمل أن يكون فاعل يلقمها الكانز أو الشجاع، ووقع في رواية أبي صالح ‏"‏ فليأخذ بلهزمتيه ‏"‏ أي يأخذ الشجاع يد الكانز بشدقيه وهما اللهزمتان كما أوضحته هناك‏.‏

قوله ‏(‏وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ هو موصول بالسند المذكور، وهو من نسخة همام عن أبي هريرة، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق تقدم هذا على الذي قبله‏.‏

قوله ‏(‏إذا ما رب النعم‏)‏ ما زائدة والرب المالك والنعم بفتحتين الإبل والغنم والبقر، وقيل الإبل والغنم فقط حكاه في المحكم، وقيل الإبل فقط، ويؤيد الأول قوله تعالى ‏(‏ومن الأنعام حمولة وفرشا‏)‏ ، ثم فسره بالإبل والبقر والغنم، ويؤيد الثالث اقتصاره هنا على الإخفاف فإنها للإبل خاصة، والمراد بقوله ‏"‏ حقها ‏"‏ زكاتها وصرح به في حديث أبي ذر كما تقدم في الزكاة أتم منه‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعض الناس في رجل له إبل فخاف أن تجب عليه الصدقة فباعها بإبل مثلها أو بغنم أو بقر أو بدراهم فرارا من الصدقة بيوم احتيالا فلا شيء عليه، وهو يقول إن زكى إبله قبل أن يحول الحول بيوم أو سنة جازت عنه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أجزأت عنه ‏"‏ ويعرف، تقرير مذهب الحنفية مما مضى، وقد تأكد المنع بمسألة التعجيل قبل توجيه إلزامهم التناقض أن من أجاز التقديم لم يراع دخول الحول من كل جهة، فإذا كان التقديم على الحول مجزئا فليكن التصرف فيها قبل الحول غير مسقط وأجاب عنهم ابن بطال بأن أبا حنيفة لم يتناقض في ذلك لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول ويجعل من قدمها كمن قدم دينا مؤجلا قبل أن يحل انتهى، والتناقض لازم لأبي يوسف لأنه يقول إن الحرمة تجامع الفرض كطواف العاري، ولو لم يتقرر الوجوب لم يجز التعجيل قبل الحول‏.‏

وقد اختلف العلماء فيمن باع إبلا بمثلها في أثناء الحول‏:‏ فذهب الجمهور إلى أن البناء على حول الأولى لاتحاد الجنس والنصاب، والمأخوذ عن الشافعي قولان واختلفوا في بيعها بغير جنسها فقال الجمهور‏:‏ يستأنف لاختلاف النصاب، وإذا فعل ذلك فرارا من الزكاة أثم، ولو قلنا يستأنف‏.‏

وعن أحمد إذا ملكها ستة أشهر ثم باعها بنقد زكى الدراهم عن ستة أشهر من يوم البيع‏.‏

ونقل شيخنا ابن الملقن عن ابن التين أنه قال‏:‏ إن البخاري إنما أتى بقوله ‏"‏ مانع الزكاة ‏"‏ ليدل على أن الفرار من الزكاة لا يحل فهو مطالب بذلك في الآخرة، قال شيخنا‏:‏ وهذا لم نره في البخاري‏.‏

قلت‏:‏ بل هو فيه بالمعنى في قوله ‏"‏ إذا ما رب النعم لم يعط حقها ‏"‏ فهذا هو مانع الزكاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْضِهِ عَنْهَا وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا بَلَغَتْ الْإِبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالًا لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ فِي مَالِهِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس قال ‏"‏ استفتى سعد بن عبادة إلخ ‏"‏ تقدم شرحه قريبا في كتاب الأيمان والنذور‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فيه حجة على أن الزكاة لا تسقط بالحيلة ولا بالموت، لأن النذر لما لم يسقط بالموت - والزكاة أوكد منه - كانت لازمة لا تسقط بالموت أولى، لأنه لما ألزم الولي بقضاء النذر عن أمه كان قضاء الزكاة التي فرضها الله أشد لزوما‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعض الناس‏:‏ إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه، فإن وهبها قبل الحول أو باعها فرارا أو احتيالا لإسقاط الزكاة فلا شيء عليه، وكذلك إن أتلفها فمات فلا شيء عليه في ماله‏)‏ تقدمت المنازعة في صورة الإتلاف قريبا، وأجاب بعض الحنفية بأن المال إنما تجب فيه الزكاة ما دام واجبا في الذمة أو ما يتعلق به من الحقوق، وهذا الذي مات لم يبق في ذمته شيء يجب على ورثته وفاؤه، والكلام إنما هو في حل الحيلة لا في لزوم الزكاة إذا فر‏.‏

قلت‏:‏ وحرف المسألة أنه إذا قصد ببيعها الفرار من الزكاة أو بهبتها الحيلة على إسقاط الزكاة ومن قصده أن يسترجعها بعد كما تقدم فهو آثم بهذا القصد لكن هل يؤثر هذا القصد في إبقاء الزكاة في ذمته أو يعمل به مع الإثم‏؟‏ هذا مجر الخلاف‏.‏

قال الكرماني‏:‏ ذكر البخاري في هذا الباب ثلاثة فروع يجمعها حكم واحد وهو أنه إذا زال ملكه عما تجب فيه الزكاة قبل الحول سقطت الزكاة سواء كان لقصد الفرار من الزكاة أم لا، ثم أراد بتفريعها عقب كل حديث التشنيع بأن من أجاز ذلك خالف ثلاثة أحاديث صحيحة انتهى، ومن الحيل في إسقاط الزكاة أن ينوي بعروض التجارة القنية قبل الحول فإذا دخل الحول الآخر استأنف التجارة حتى إذا قرب الحول أبطل التجارة ونوى القنية وهذا يأثم جزما، والذي يقوى أنه لا تسقط الزكاة عنه، والعلم عند الله تعالى‏.‏

*3*باب الْحِيلَةِ فِي النِّكَاحِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الحيلة في النكاح‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن الشغار، وفيه تفسيره عن نافع، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب النكاح وتقرير كون التفسير مرفوعا قال ابن المنير‏:‏ إدخال البخاري الشغار في باب الحيل مع أن القائل بالجواز يبطل الشغار ويوجب مهر المثل مشكل، ويمكن أن يقال إنه أخذه مما نقل أن العرب كانت تأنف من التلفظ بالنكاح من جانب المرأة فرجعوا إلى التلفظ بالشغار لوجود المساواة التي تدفع الأنفة، فمحا الشرع رسم الجاهلية فحرم الشغار وشدد فيه ما لم يشدد في النكاح الخالي عن ذكر الصداق، فهو صححنا النكاح بلفظ الشغار وأوجبنا مهر المثل أبقينا غرض الجاهلية بهذه الحيلة انتهى، وفيه نظر لأن الذي نقله عن العرب لا أصل له، لأن الشغار في العرب بالنسبة إلى غيره قليل، وقضية ما ذكره أن تكون أنكحتهم كلها كانت شغارا لوجود الأنفة في جميعهم‏.‏

والذي يظهر لي أن الحيلة في الشغار تتصور في موسر أراد تزويج بنت فقير فامتنع أو اشتط في المهر فخدعه بأن قال له زوجنيها وأنا أزوجك بنتي فرغب الفقير في ذلك لسهولة ذلك عليه فلما وقع العقد على ذلك وقيل له أن العقد يصح ويلزم لكل منهما مهر المثل فإنه يندم إذ لا قدرة له على مهر المثل لبنت الموسر وحصل للموسر مقصوده بالتزويج لسهولة مهر المثل عليه، فإذا أبطل الشغار من أصله بطلت هذه الحيل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّغَارِ قُلْتُ لِنَافِعٍ مَا الشِّغَارُ قَالَ يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَيَنْكِحُ أُخْتَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنْ احْتَالَ حَتَّى تَزَوَّجَ عَلَى الشِّغَارِ فَهُوَ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَقَالَ فِي الْمُتْعَةِ النِّكَاحُ فَاسِدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقال بعض الناس‏:‏ إن احتال حتى تزوج على الشغار فهو جائز والشرط باطل‏)‏ وقال في المتعة‏:‏ النكاح فاسد والشرط باطل‏.‏

قلت‏:‏ وهذا بناء على قاعدة الحنفية أن ما لم يشرع بأصله باطل، وما شرع بأصله دون وصفه فاسد، فالنكاح مشروع بأصله وجعل البضع صداقا وصف فيه فيفسد الصداق ويصح النكاح، بخلاف المتعة فإنها لما ثبت أنها منسوخة صارت غير مشروعة بأصلها‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعضهم‏:‏ المتعة والشغار جائزان والشرط باطل‏)‏ أي في كل منهما كأنه يشير إلى ما نقل عن زفر أنه أجاز النكاح المؤقت وألغى الوقت لأنه فاسد والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، وردوا عليه بالفرق المذكور، قال ابن بطال لا يكون البضع صداقا عند أحد من العلماء وإنما قالوا ينعقد النكاح بمهر المثل إذا اجتمعت شروطه والصداق ليس بركن فيه، فهو كما لو عقد بغير صداق ثم ذكر الصداق فصار ذكر البضع كلا ذكر انتهى‏.‏

وهذا محصل ما قاله أبو زيد وغيره من أئمة الحنفية، وتعقبه ابن السمعاني فقال‏:‏ ليس الشغار إلا النكاح الذي اختلفنا فيه وقد ثبت النهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأن العقد الشرعي إنما يجوز بالشرع وإذا كان منهيا لم يكن مشروعا، ومن جهة المعنى أنه يمنع تمام الإيجاب في البضع للزوج والنكاح لا ينعقد إلا بإيجاب كامل، ووجه قولنا يمنع أن الذي أوجبه للزوج نكاحا هو الذي أوجبه للمرأة صداقا، وإذا لم يحصل كمال الإيجاب لا يصح فإنه جعل عين ما أوجبه للزوج صداقا للمرأة فهو كمن جعل الشيء لشخص في عقد ثم جعل عينه لشخص آخر فإنه لا يكمل الجعل الأول، قال‏:‏ ولا يعارض هذا ما لو زوج أمته آخر فإن الزوج يملك التمتع بالفرج والسيد يملك رقبة الفرج بدليل أنها لو وطئت بعد بشبهة يكون المهر للسيد، والفرق أن الذي جعله السيد للزوج لم يبقه لنفسه لأنه ملك التمتع بالأمة للزوج وما عدا ذلك باق له، وفي مسألة الشغار جعل ملك التمتع الذي جعله للزوج بعينه صداقا للمرأة الأخرى ورقبة البضع لا تدخل تحت ملك اليمين حتى يصبح جعله صداقا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ الْحَسَنِ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنْ احْتَالَ حَتَّى تَمَتَّعَ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو القطان، وعبيد الله بن عمر هو العمري، ومحمد بن علي هو المعروف بابن الحنفية، وعلي هو ابن أبي طالب‏.‏

قوله ‏(‏قيل له إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا‏)‏ لم أقف على اسم القائل، وزاد عمرو بن علي الفلاس في روايته لهذا الحديث عن يحيى القطان ‏"‏ فقال له إنك تايه ‏"‏ بمثناة فوقانية وياء آخر الحروف بوزن فاعل من التيه وهو الحيرة، وإنما وصفه بذلك إشارة إلى أنه تمسك بالمنسوخ وغفل عن الناسخ، وقد تقدم بيان مذهب ابن عباس في ذلك في كتاب النكاح مستوفي‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعض الناس‏:‏ إن احتال حتى تمتع فالنكاح فاسد‏)‏ أي إن عقد عقد نكاح متعة، والفساد لا يستلزم البطلان لإمكان إصلاحه بإلغاء الشرط فيتحيل في تصحيحه بذلك، كما قال في ربا الفضل إن حذفت منه الزيادة صح البيع‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعضهم إلخ‏)‏ تقدم أنه قول زفر، وقيل إنه لم يجز إلا النكاح المؤقت وألغى الشرط‏.‏

وأجيب بأن نسخ المتعة ثابت والنكاح المؤقت في معنى المتعة، والاعتبار عندهم في العقود بالمعاني‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ فِي الْبُيُوعِ وَلَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلَإِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يكره من الاحتيال في البيوع‏.‏

ولا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ‏)‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ لا يمنع إلخ ‏"‏ وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب الشرب، قال المهلب‏:‏ المراد رجل كان له بئر وحولها كلأ مباح وهو بفتح الكاف واللام مهموز ما يرعى، فأراد الاختصاص به فيمنع فضل ماء بئره أن ترده نعم غيره للشرب وهو لا حاجة به إلى الماء الذي يمنعه وإنما حاجته إلى الكلأ وهو لا يقدر على منعه لكونه غير مملوك له فيمنع الماء فيتوفر له الكلأ لأن النعم لا تستغنى عن الماء بل إذا رعت الكلأ عطشت ويكون ماء غير البئر بعيدا عنها فيرغب صاحبها عن ذلك الكلأ فيتوفر لصاحب البئر بهذه الحيلة‏.‏

انتهى موضحا‏.‏

قال‏:‏ وفيه معنى آخر وهو أنه قد يخص أحد معاني الحديث ويسكت عن البقية لأن ظاهر الحديث اختصاص النهي بما إذا أريد به منع الكلأ فإذا لم يرد به ذلك فلا نهي عن منع الكلأ، والحديث معناه لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره فأحرى أن لا يمنع بسبب نفسه، وفي تسميته فضلا إشارة إلى أنه إذا لم تكن زيادة عن حاجة صاحب البئر جاز لصاحب البئر منعه والله أعلم‏.‏

وقال ابن المنير وجه مطابقة الترجمة أن الآبار التي في البوادي لمحتفرها أن يختص بما عدا فضلها من الماء، بخلاف الكلأ المباح فلا اختصاص له به، فلو تحيل صاحب البئر فادعى أنه لا فضل في ماء البئر عن حاجته ليتوفر له الكلأ الذي بقربه لأن صاحب الماشية حينئذ يحتاج أن يحولها إلى ماء آخر لأنها لا تستطيع الرعي على الظمأ لدخل في النهي، ثم قال‏:‏ ولا يلزم من كون دعواه كذبا محضا أن لا يكون في كلامه تحيل على منع المباح فحجته ظاهرة فيما له فيه مقال وهو الماء تحيلا على ما لا حق له فيه ولا حجة وهو الكلأ‏.‏

قلت‏:‏ وهذا جواب عن أصل التحيل لا عن خصوص التحيل في البيع، ومن ثم قال الكرماني‏:‏ هو من قبيل ما ترجم به وبيض له فلم يذكر فيه حديثا، يريد أنه ترجم بالتحيل بالبيع وعطف عليه ولا يمنع فضل الماء، وذكر الحديث المتعلق بالثاني دون الأول، لكن لا يدفع هذا القدر السؤال عن حكمة إيراد منع فضل الماء في ترك الحيل‏.‏

ثم قال الكرماني‏:‏ يمكن أن يكون المنع أعم من أن يكون بطريق عدم البيع أو بغيره انتهى‏.‏

ويظهر أن المناسبة بينهما ما أشار إليه ابن المنير لكن تمامه أن يقال‏:‏ إن صاحب البئر يدعي أنه لا فضل في ماء البئر ليحتاج من احتاج إلى الكلأ أن يبتاع منه ماء بئره ليسقى ماشيته، فيظهر حينئذ أنه تحيل بالجحد على حصول البيع ليتم مراده في أخذ ثمن ماء البئر وفي الكلأ عليه، وأما ابن بطال فأدخل في هذه الترجمة حديث النهي عن النجش، فلو كان كذلك لبطل الاعتراض، لكن ترجمة النجش موجودة في جميع الروايات بين الحديثين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلَإِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ لا يمنع إلخ ‏"‏ وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب الشرب‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَاجُشِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يكره من التناجش‏)‏ أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكور في الباب باللفظ ‏"‏ نهى عن النجش ‏"‏ من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا تناجشوا ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب البيوع، المراد بالكراهة في الترجمة كراهة التحريم‏.‏

*3*باب مَا يُنْهَى مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبُيُوعِ

وَقَالَ أَيُّوبُ يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما ينهى من الخداع‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ عن الخداع ‏"‏ ويقال له الخداع بالفتح والكسر ورجل خادع وفي المبالغة خدوع وخداع‏.‏

قوله ‏(‏وقال أيوب‏)‏ هو السختياني ‏(‏يخادعون الله كأنما يخادعون آدميا لو أتوا الأمر عيابا كان أهون علي‏)‏ وصله وكيع في مصنفه عن سفيان بن عيينة عن أيوب وهو السختياني قال الكرماني‏:‏ قول ‏"‏ عيابا ‏"‏ أي لو أعلنوا بأخذ الزائد على الثمن معاينة بلا تدليس لكان أسهل لأنه ما يجعل آلة للخداع انتهى‏.‏

ومن ثم كان سالك المكر والخديعة حتى يفعل المعصية أبغض عند الناس ممن يتظاهر بها وفي قلوبهم أوضع وهم عنه أشد نفرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر ‏"‏ إذا بايعت فقل لا خلابة ‏"‏ بكسر المعجمة وتخفيف اللام ثم موحدة، تقدم شرحه مستوفي في كتاب البيوع‏.‏

قال الملهب‏:‏ معنى قوله لا خلابة لا تخلبوني أي لا تخدعوني فإن ذلك لا يحل‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر أنه وارد مورد الشرط أي إن ظهر في العقد خداع فهو غير صحيح، كأنه قال بشرط أن لا يكون فيه خديعة أو قال لا تلزمني خديعتك‏:‏ قال الملهب‏:‏ ولا يدخل في الخداع المحرم الثناء على السلعة والإطناب في مدحها فإنه متجاوز عنه ولا ينتقض به البيع‏.‏

وقال ابن القيم في الإعلام‏:‏ أحدث بعض المتأخرين حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله علم أنه لم يكن يأمر بفعل الخيل التي تبنى عليا لخداع وإن كان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يبيح للناس المكر والخديعة، فإن الفرق بين إجراء العقد على ظاهره فلا يعتبر القصد في العقد وبين تجويز عقد قد علم بناؤه على المكر مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره، ومن نسب حل الثاني إلى الشافعي فهو خصمه عند الله فإن الذي جوزه بمنزلة الحاكم يجري الحكم على ظاهره في عدالة الشهود فيحكم بظاهر عدالتهم وإن كانوا في الباطن شهود زور، وكذا في مسألة العينة إنما جوز أن يبيع السلعة ممن يشتريها جريا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يجوز قط أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومائتين ثم يحضران سلعة تحلل الربا ولا سيما إن لم يقصد البائع بيعها ولا المشتري شراءها، ويتأكد ذلك إذا كانت ليست ملكا للبائع كأن يكون عنده سلعة لغيره فيوقع العقد ويدعي أنها ملكه ويصدقه المشتري فيوقعان العقد على الأكثر ثم يستعيدها البائع بالأقل ويترتب الأكثر في ذمة المشتري في الظاهر، ولو علم الذي جوز ذلك بذلك لبادر إلى إنكاره لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فقد يذكر العالم الشيء ولا يستحضر لازمه حتى إذا عرفه أنكره، وأطال في ذلك جدا وهذا ملخصه والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يجوزون العقود على ظاهرها يقولون مع ذلك إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن، وبهذا يحصل الانفصال عن إشكاله والله أعلم‏.‏