فصل: بَاب خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ

لِقَوْلِهِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي إِلَى قَوْلِهِ عَمَّا يَعْمَلُونَ بَخْسًا نَقْصًا قَالَ مُجَاهِدٌ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَأُمَّهَاتُهُنَّ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ قَالَ اللَّهُ وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ عِنْدَ الْحِسَابِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم‏)‏ أشار بهذه الترجمة إلى إثبات وجود الجن وإلى كونهم مكلفين، فأما إثبات وجودهم فقد نقل إمام الحرمين في ‏"‏ الشامل ‏"‏ عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنهم أنكروا وجودهم رأسا، قال‏:‏ ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة، قال‏:‏ وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم‏.‏

قال وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم ولو شاءوا لأبدوا أنفسهم، قال‏:‏ وإنما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات‏.‏

وقال القاضي أبو بكر‏:‏ وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم وينفي تسلطهم على الإنس‏.‏

وقال عبد الجبار المعتزلي‏:‏ الدليل على إثباتهم السمع دون العقل، إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق، ولو كان إثباتهم باضطرار لما وقع الاختلاف فيه، إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده‏.‏

وإذا ثبت وجودهم فقد تقدم في أوائل صفة النار تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وخلق الجان من مارج من نار‏)‏ واختلف في صفتهم فقال القاضي أبو بكر الباقلاني قال بعض المعتزلة‏:‏ الجن أجساد رقيقة بسيطة، قال‏:‏ وهذا عندنا غير ممتنع إن ثبت به سمع‏.‏

وقال أبو يعلى بن الفراء‏:‏ الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها‏.‏

وهو مردود، فإن الرقة ليس بمانعة عن الرؤية‏.‏

ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها‏.‏

وروى البيهقي في ‏"‏ مناقب الشافعي ‏"‏ بإسناده عن الربيع سمعت الشافعي يقول‏:‏ من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبيا‏.‏

انتهى‏.‏

وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يري شيئا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور، واختلف أهل الكلام في ذلك فقيل‏:‏ هو تخييل فقط ولا ينتفل أحد عن صورته الأصلية، وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر وهذا قد يرجع إلى الأول، وفيه أثر عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ‏"‏ أن الغيلان ذكروا عند عمر فقال‏:‏ إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلفه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا ‏"‏ وإذا ثبت وجودهم فقد اختلف في أصلهم فقيل‏:‏ إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافرا سمي شيطانا، وقيل‏:‏ إن الشياطين خاصة أولاد إبليس ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس الآتي في تفسير سورة الجن يقوي أنهم نوع واحد من أصل واحد، واختلف صنفه فمن كان كافرا سمي شيطانا وإلا قيل له جني، وأما كونهم مكلفين فقال ابن عبد البر‏:‏ الجن عند الجماعة مكلفون‏.‏

وقال عبد الجبار‏:‏ لا نعلم خلافا بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا بمكلفين، قال‏:‏ والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر وارتكب النهي مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدا، وإذا تقرر كونهم مكلفين فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي منهم أم لا‏؟‏ فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، قال‏:‏ ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله تعالى أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه وهو فاسد انتهى‏.‏

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم، ورسل الجن بثهم الله في الأرض فسمعوا كلام الرسل من الإنس وبلغوا قومهم، ولهذا قال قائلهم ‏(‏إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى‏)‏ الآية، واحتج ابن حزم بأنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه ‏"‏ قال وليس الجن من قوم الإنس، فثبت أنه كان منهم أنبياء إليهم، قال‏:‏ ولم يبعث إلى الجن من الإنس نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لعموم بعثته إلى الجن والإنس باتفاق انتهى‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ ‏"‏ لا يختلفون أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن ‏"‏ وهذا مما فضل به على الأنبياء، ونقل عن ابن عباس في قوله تعالى في سورة غافر ‏(‏ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‏)‏ قال‏:‏ هو رسول الجن، وهذا ذكره‏.‏

وقال إمام الحرمين في ‏"‏ الإرشاد ‏"‏ في أثناء الكلام مع العيسوية‏:‏ وقد علمنا ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم دعى كونه مبعوثا إلى الثقلين‏.‏

وقال ابن تيمية‏:‏ اتفق على ذلك علماء السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وثبت التصريح بذلك في حديث ‏"‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه وبعثت إلى الإنس والجن ‏"‏ فيما أخرجه البزار بلفظ‏.‏

وعن ابن الكلبي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الإنس فقط، وبعث محمد إلى الإنس والجن وإذا تقرر كونهم مكلفين فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام، وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وأنهما زاد الجن، وسيأتي في السيرة النبوية حديث أبي هريرة وفي آخره ‏"‏ فقلت ما بال الروث والعظم‏؟‏ قال‏:‏ هما طعام الجن ‏"‏ الحديث، فدل على جواز تناولهم للروث وذلك حرام علف الإنس، وكذلك روى أحمد والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ خرج رجل من خيبر فتبعه رجلان آخر يتلوهما يقول ارجعا حتى ردهما، ثم لحقه فقال له إن هذين شيطانان فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرأ عليه السلام وأخبره أنا في جمع صدقاتنا، ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه‏.‏

فلما قدم الرجل المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنهى عن الخلوة، أي السفر منفردا ‏"‏ واختلف أيضا هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا‏؟‏ فقيل بالنفي وقيل بمقابله، ثم اختلفوا فقيل أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لا مضغ ولا بلع، وهو مردود بما رواه أبو داود من حديث أمية بن مخشى قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يأكل ولم يسم ثم سمي في آخره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمي استقاء ما في بطنه وروى مسلم من حديث ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكلن أحدكم بشماله ويشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ‏"‏ وروى ابن عبد البر عن وهب بن منبه أن الجن أصناف فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك ومنهم السعالي والغول والقطرب، وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين الأولين، ويؤيده ما روى ابن حبان والحاكم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الجن على ثلاثة أصناف‏:‏ صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب وصنف يحلون ويظعنون ‏"‏ وروى ابن أبي الدنيا من حديث أبي الدرداء مرفوعا نحوه لكن قال في الثالث‏:‏ ‏"‏ وصنف عليهم الحساب والعقاب ‏"‏ وسيأتي شيء من هذا في الباب الذي يليه، وروى ابن أبي الدنيا من طريق يزيد بن يزيد بن جابر أحد ثقات الشاميين من صغار التابعين قال‏.‏

ما من أهل بيت إلا وفي سقف بيتهم من الجن، وإذا وضع الغداء نزلوا فتغدوا معهم والعشاء كذلك‏.‏

واستدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان‏)‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني‏)‏ والدلالة من ذلك ظاهرة‏.‏

واعتل من أنكر ذلك بأن الله تعالى أخبر أن الجان خلق من نار، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد‏.‏

والجواب أن أصلهم من النار كما أن أصل الآدمي من التراب، وكما أن الآدمي ليس طينا حقيقة كذلك الجني ليس نارا حقيقة، وقد وقع في الصحيح في قصة تعرض الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ فأخذته فخنقته حتى وجدت برد ريقه على يدي ‏"‏ قلت‏:‏ وبهذا الجواب يندفع إيراد من استشكل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏)‏ فقال كيف تحرق النار النار‏؟‏ وأما قول المصنف‏:‏ ‏"‏ وثوابهم وعقابهم ‏"‏ فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون علي المعاصي، واختلف هل يثابون‏؟‏ فروى الطبري وابن أبي حاتم من طريق أبي الزناد موقوفا‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال الله لمؤمن الجن وسائر الأمم أي من غير الإنس‏:‏ كونوا ترابا، فحينئذ يقول الكافر‏:‏ يا ليتني كنت ترابا ‏"‏ وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال‏:‏ ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا وروى عن أبي حنيفة نحو هذا القول‏.‏

وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم، ثم اختلفوا هل يدخلون مدخل الإنس‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ نعم، وهو قوله الأكثر، وثانيها‏:‏ يكونون في ربض الجنة وهو منقول عن مالك وطائفة، وثالثها‏:‏ أنهم أصحاب الأعراف، ورابعها‏:‏ التوقف عن الجواب في هذا‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف قال‏:‏ قال ابن أبي ليلى في هذا لهم ثواب، قال‏:‏ فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولكل درجات مما عملوا‏)‏ قلت‏:‏ وإلى هذا أشار المصنف بقوله قبلها ‏(‏يا معشر الجن ألم يأتكم رسل منكم‏)‏ فإن قوله‏:‏ ‏(‏ولكل درجات مما عملوا‏)‏ يلي الآية التي بعد هذه الآية، واستدل بهذه الآية أيضا ابن عبد الحكم‏.‏

واستدل ابن وهب بمثل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس‏)‏ الآية، فإن الآية بعدها أيضا‏:‏ ‏(‏ولكل درجات مما عملوا‏)‏ وروى أبو الشيخ في تفسيره عن مغيث بن سمي أحد التابعين قال‏:‏ ما من شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب‏.‏

ونقل عن مالك أنه استدل على أن عليهم العقاب ولهم الثواب بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏)‏ والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بخسا نقصانا‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى‏:‏ حكاية عن الجن ‏(‏فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا‏)‏ قال يحيى الفراء‏:‏ البخس النقص، والرهق الظلم، ومفهوم الآية أن من يكفر فإنه يخاف، فدل ذلك على ثبوت تكليفهم قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا إلخ‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به وفيه‏:‏ ‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ ممن أمهاتهم‏؟‏ قالوا‏:‏ بنات سروات الجن إلخ ‏"‏ وفيه‏:‏ ‏"‏ قال علمت الجن أنهم سيحضرون للحساب ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا الكلام الأخير هو المتعلق بالترجمة، وسروات بفتح المهملة والراء جمع سرية بتخفيف الراء أي شريفة، ووقع هنا في رواية أبي ذر ‏"‏ وأمهاتهن ‏"‏ ولغيره ‏"‏ وأمهاتهم ‏"‏ وهو أصوب، ووقع أيضا لغير الكشميهني ‏(‏جند محضرون‏)‏ بالأفراد وروايته أشبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جند محضرون عند الحساب‏)‏ وصله الفريابي أيضا بالإسناد المذكور عن مجاهد‏.‏

ثم ذكر المصنف حديث أبي سعيد ‏"‏ لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له ‏"‏ وقد تقدم مشروحا في كتاب الأذان، والغرض منه هنا أنه يدل على أن الجن يحشرون يوم القيامة، والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ إِلَى قَوْلِهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

مَصْرِفًا مَعْدِلًا صَرَفْنَا أَيْ وَجَّهْنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله عز وجل‏:‏ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن - إلى قوله - أولئك في ضلال مبين‏)‏ سيأتي القول في تعيينهم وتعيين بلدهم في التفسير إن شاء الله تعالى، قوله‏:‏ ‏(‏صرفنا أي وجهنا‏)‏ هو تفسير المصنف، وقوله‏:‏ ‏(‏مصرفا معدلا‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة، واستشهد بقول أبي كبير بالموحدة الهذلي‏:‏ أزهير هل عن ميتة من مصرف أم لا خلود لباذل متكلف ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏‏:‏ لم يذكر المصنف في هذا الباب حديثا، واللائق به حديث ابن عباس الذي تقدم في صفة الصلاة في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ واستماع الجن لقراءته، وسيأتي شرحه بتمامه في التفسير إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد أشار إليه المصنف بالآية التي صدر بها هذا الباب‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا يُقَالُ الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي وَالْأَسَاوِدُ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ يُقَالُ صَافَّاتٍ بُسُطٌ أَجْنِحَتَهُنَّ يَقْبِضْنَ يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ وبث فيها من كل دابة‏)‏ كأنه أشار إلى سبق خلق الملائكة والجن على الحيوان، أو سبق جميع ذلك على خلق آدم، والدابة لغة ما دب من الحيوان، واستثنى بعضهم الطير لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏)‏ والأول أشهر لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏)‏ ، وعرفا ذوات الأربع، وقيل‏:‏ يختص بالفرس وقيل‏:‏ بالحمار، والمراد هنا المعنى اللغوي‏.‏

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ إن خلق الدواب كان يوم الأربعاء ‏"‏ وهو دال على أن ذلك قبل خلق آدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ الثعبان الحية الذكر‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريقه، وقيل‏:‏ الثعبان الكبير من الحيات ذكرا كان أو أنثى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال الحيات أجناس، الجان والأفاعي والأساود‏)‏ في رواية الأصيلي ‏"‏ الجان أجناس ‏"‏ قال عياض‏:‏ الأول هو الصواب، قلت هو قول أبي عبيدة قاله في تفسير سورة القصص، قال في قوله‏:‏ ‏(‏كأنها جان‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏(‏حية تسعى‏)‏ كأنها جان من الحيات أو من حية الجان، فجرى على أن ذلك شيء واحد، وقيل‏:‏ كانت العصا في أول الحال جانا وهي الحية الصغيرة ثم صارت ثعبانا، فحينئذ ألقى العصا، وقيل‏:‏ اختلف وصفها باختلاف أحوالها‏:‏ فكانت كالحية في سعيها وكالجان في حركتها وكالثعبان في ابتلاعها، والأفاعي جمع أفعى وهي الأنثى من الحيات، والذكر منها أفعوان بضم الهمزة والعين، وكنية الأفعوان أبو حيان وأبو يحيى لأنه يعيش ألف سنة، وهو الشجاع الأسود الذي يواثب الإنسان، ومن صفة الأفعى إذا فقئت عينها عادت ولا تغمض حدقتها البتة، والأساود جمع أسود قال أبو عبيد هي حية فيها سواد‏.‏

وهي أخبث الحيات‏.‏

ويقال له أسود سالخ لأنه يسلخ جلده كل عام‏.‏

وفي سنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر مرفوعا ‏"‏ أعوذ بالله من أسد وأسود ‏"‏ وقيل‏:‏ هي حية رقيقة رقشاء دقيقة العنق عريضة الرأس وربما كانت ذات قرنين والهاء في الحية للوحدة، كدجاجة، وقد عد لها ابن خالويه في ‏"‏ كتاب ليس ‏"‏ سبعين اسما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آخذ بناصيتها في ملكه وسلطانه‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏)‏ أي في قبضته وملكه وسلطانه، وخص الناصية بالذكر على عادة العرب في ذلك تقول‏:‏ ناصية فلان في يد فلان إذا كان في طاعته، ومن ثم كانوا يجزون ناصية الأسير إذا أطلقوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال صافات‏:‏ بسط أجنحتهن‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يقبضن‏:‏ يضربن بأجنحتهن‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات‏)‏ أي باسطات أجنحتهن و ‏(‏يقبضن‏)‏ يضربن بأجنحتهن، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏صافات‏)‏ قال‏:‏ بسط أجنحتهن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لِأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ لَا تَقْتُلْهَا فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ قَالَ إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَهِيَ الْعَوَامِرُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَالزُّبَيْدِيُّ وَقَالَ صَالِحٌ وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَابْنُ مُجَمِّعٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ

الشرح‏:‏

حديث أبي لبابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واقتلوا ذا الطفيتين‏)‏ تثنية طفية بضم الطاء المهملة وسكون الفاء وهي خوصة المقل، والطفي خوص المقل، شبه به الخط الذي على ظهر الحية‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ يقال أن ذا الطفيتين جنس من الحيات يكون على ظهره خطان أبيضان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والأبتر‏)‏ هو مقطوع الذنب، زاد النضر بن شميل أنه أزرق اللون لا تنظر إليه حامل إلا ألقت، وقيل‏:‏ الأبتر الحية القصيرة الذنب، قال الداودي‏:‏ هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلا، وقوله‏:‏ ‏"‏ والأبتر ‏"‏ يقتضي التغاير بين ذي الطفيتين والأبتر؛ ووقع في الطريق الآتية ‏"‏ لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طفيتين ‏"‏ وظاهره اتحادهما، لكن لا ينفي المغايرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنهما يطمسان البصر‏)‏ أي يمحوان نوره‏.‏

وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر ‏"‏ ويذهب البصر ‏"‏ وفي حديث عائشة ‏"‏ فإنه يلتمس البصر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويستسقطان الحبل‏)‏ هو بفتح المهملة والموحدة الجنين‏.‏

وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر الآتية بعد أحاديث ‏"‏ فإنه يسقط الولد ‏"‏ وفي حديث عائشة الآتي بعد أحاديث‏:‏ ‏"‏ ويصيب الحبل ‏"‏ وفي رواية أخرى عنها ‏"‏ ويذهب الحبل ‏"‏ وكلها بمعنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبد الله‏)‏ هو ابن عمر‏.‏

وفي رواية يونس عن الزهري التي يأتي التنبيه عليها ‏"‏ قال ابن عمر‏:‏ فكنت لا أترك حية إلا قتلتها، حتى طاردت حية من ذوات البيوت ‏"‏ الحديث، وقوله‏:‏ ‏"‏ أطارد ‏"‏ أي أتبع وأطلب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فناداني أبو لبابة‏)‏ بضم اللام وبموحدتين صحابي مشهور اسمه بشير بفتح الموحدة وكسر المعجمة وقيل‏:‏ مصغر وقيل‏:‏ بتحتانية ومهملة مصغر وقيل‏:‏ رفاعة وقيل‏:‏ بل اسمه كنيته ورفاعة وبشير أخواه، واسم جده زنبر بزاي ونون وموحدة وزن جعفر، وهو أوسي من بني أمية بن زيد، وشذ من قال اسمه مروان، وليس له في الصحيح إلا هذا الحديث، وكان أحد النقباء وشهد أحدا، ويقال شهد بدرا، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وكانت معه راية قومه يوم الفتح، ومات في أول خلافة عثمان على الصحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت‏)‏ أي اللاتي يوجدن في البيوت، وظاهره التعميم في جميع البيوت، وعن مالك تخصيصه ببيوت أهل المدينة، وقيل‏:‏ يختص ببيوت المدن دون غيرها، وعلى كل قول فتقتل في البراري والصحاري من غير إنذار، وروى الترمذي عن ابن المبارك أنها الحية التي تكون كأنها فضة ولا تلتوي في مشيتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهي العوامر‏)‏ هو كلام الزهري أدرج في الخبر، وقد بينه معمر في روايته عن الزهري فساق الحديث وقال في آخره ‏"‏ قال الزهري وهي العوامر ‏"‏ قال أهل اللغة عمار البيوت سكانها من الجن، وتسميتهن عوامر لطول لبثهن في البيوت مأخوذ من العمر وهو طول البقاء، وعند مسلم من حديث أبي سمعيد مرفوعا ‏"‏ إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليه ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه ‏"‏ واختلف في المراد بالثلاث فقيل ثلاث مرات، وقيل ثلاثة أيام، ومعنى قوله حرجوا عليهن أن يقال لهن أنتن في ضيق وحرج إن لبثت عندنا أو ظهرت لنا أو عدت إلينا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الرزاق عن معمر‏:‏ فرآني أبو لبابة أو زيد بن الخطاب‏)‏ يريد أن معمر رواه عن الزهري بهذا الإسناد على الشك في اسم الذي لقي عبد الله بن عمر، وروايته هذه أخرجها مسلم ولم يسق لفظها، وساقه أحمد والطبراني من طريقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتابعه يونس‏)‏ أي ابن يزيد، وابن عيينة أي سفيان، وإسحاق الكلبي والزبيدي، أي إن هؤلاء الأربعة تابعوا معمرا على روايته المذكورة‏.‏

فأما رواية يونس فوصلها مسلم ولم يسق لفظها وساقه أبو عوانة، وأما رواية ابن عيينة فأخرجها أحمد والحميدي في مسنديهما عنه، ووصلها مسلم وأبو داود من طريقه‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ وكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها، فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر أو زيد بن الخطاب ‏"‏ وأما رواية إسحاق وهو ابن يحيى الكلبي فرويناها في نسخته، وأما رواية الزبيدي وهو محمد بن الوليد الحمصي فوصلها مسلم، وفي روايته ‏"‏ قال عبد الله بن عمر‏:‏ فكنت لا أترك حية أراها إلا قتلتها ‏"‏ وزاد في روايته ‏"‏ قال الزهري ونرى ذلك من سميتها‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقال صالح وابن أبي حفصة وابن مجمع إلخ‏)‏ يعني أن هؤلاء الثلاثة رووا الحديث عن الزهري فجمعوا فيه بين أبي لبابة وزيد بن الخطاب، فأما رواية صالح وهو ابن كيسان فوصلها مسلم ولم يسق لفظها وساقه أبو عوانة، وأما رواية ابن أبي حفصة واسمه محمد فرويناها في نسخته من طريق أبي أحمد بن عدي موصولة، وأما رواية ابن مجمع وهو إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بالجيم وتشديد الميم الأنصاري المدني فوصلها البغوي وابن السكن في ‏"‏ كتاب الصحابة ‏"‏ قال ابن السكن لم أجد من جمع بين أبي لبابة وزيد بن الخطاب إلا ابن مجمع هذا وجعفر بن برقان، وفي روايتهما عن الزهري مقال‏.‏

انتهى‏.‏

وغفل عما ذكره البخاري وهو عنده عن الفربري عنه فسبحان من لا يذهل، ويحتمل أنه لم تقع له موصولة من رواية ابن أبي حفصة وصالح، فصار من رواه بالجمع أربعة، لكن ليس فيهم من يقارب الخمسة الذين رووه بالشك إلا صالح بن كيسان، وسيأتي في الباب الذي يليه من وجه آخر أن الذي رأى ابن عمر هو أبو لبابة بغير شك، وهو يرجح ما جنح إليه البخاري من تقديمه لرواية هشام بن يوسف عن معمر المقتصرة على ذكر أبي لبابة، والله أعلم‏.‏

وليس لزيد بن الخطاب - أخي عمر - رواية في الصحيح إلا في هذا الموضع، وزعم الداودي أن الجن لا تتمثل بذي الطفيتين والأبتر، فلذلك أذن في قتلهما‏.‏

وسيأتي التعقب عليه بعد قليل‏.‏

وفي الحديث النهي عن قتل الحيات التي في البيوت إلا بعد الإنذار، إلا أن يكون أبتر أو ذا طفيتين فيجوز قتله بغير إنذار، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم الإذن في قتل غيرهما بعد الإنذار، وفيه‏:‏ ‏"‏ فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ والأمر في ذلك للإرشاد، نعم ما كان منها محقق الضرر وجب دفعه‏.‏

*3*بَاب خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد الخدري ‏"‏ يوشك أن يكون خير مال المسلم ‏"‏ الحديث، وقد تقدم في أوائل الإيمان، ويأتي شرحه في كتاب الفتن‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ الأول‏:‏ ذكر المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ تبعا لأبي مسعود أن البخاري أورد الحديث من هذه الطريق في الجزية، وهو وهم، وإنما هو في بدء الخلق‏.‏

الثاني‏:‏ وقع في أكثر الروايات قبل حديث أبي سعيد هذا ‏"‏ باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ‏"‏ وسقطت هذه الترجمة من رواية النسفي ولم يذكرها الإسماعيلي أيضا، وهو اللائق بالحال، لأن الأحاديث التي تلي حديث أبي سعيد ليس فيها ما يتعلق بالغنم إلا حديث أبي هريرة المذكور بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأس الكفر نحو المشرق‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ قبل المشرق ‏"‏ وهو بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهته، وفي ذلك إشارة إلى شدة كفر المجوس، لأن مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القسوة والتكبر والتجبر حتى مزق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرت الفتن من قبل المشرق كما سيأتي بيانه واضحا في الفتن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والفخر‏)‏ بالخاء المعجمة معروف، ومنه الإعجاب بالنفس، ‏(‏والخيلاء‏)‏ بضم المعجمة وفتح التحتانية والمد‏:‏ الكبر واحتقار الغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الفدادين‏)‏ بتشديد الدال عند الأكثر، وحكى أبو عبيد عن أبي عمرو الشيباني أنه خففها وقال‏:‏ إنه جمع فدان، والمراد به البقر التي يحرت عليها‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ الفدان آلة الحرث والسكة، فعلى الأول فالفدادون جمع فدان وهو من يعلو صوته في إبله وخيله وحرثه ونحو ذلك، والفديد هو الصوت الشديد، وحكى الأخفش ووهاه أن المراد بالفدادين من يسكن الفدافد جمع فدفد وهي البراري والصحاري، وهو بعيد‏.‏

وحكى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الفدادين هم أصحاب الإبل الكثيرة من المائتين إلى الألف، وعلى ما حكاه أبو عمرو الشيباني من التخفيف فالمراد أصحاب الفدادين على حذف مضاف، ويؤيد الأول لفظ الحديث الذي بعده ‏"‏ وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل‏.‏

وقال أبو العباس‏:‏ الفدادون هم الرعاة والجمالون‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ إنما ذم هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم وذلك يفضي إلى قساوة القلب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أهل الوبر‏)‏ بفتح الواو والموحدة، أي ليسوا من أهل المدر، لأن العرب تعبر عن أهل الحضر بأهل المدر وعن أهل البادية بأهل الوبر، واستشكل بعضهم ذكر الوبر بعد ذكر الخيل وقال‏:‏ إن الخيل لا وبر لها، ولا إشكال فيه لأن المراد ما بينته‏.‏

وقوله في آخر الحديث‏:‏ ‏"‏ في ربيعة ومضر ‏"‏ أي الفدادين منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والسكينة‏)‏ تطلق على الطمأنينة والسكون والوقار والتواضع‏.‏

قال ابن خالويه لا نظير لها أي في وزنها إلا قولهم على فلان ضريبة أي خراج معلوم، وإنما خص أهل الغنم بذلك لأنهم غالبا دون أهل الإبل في التوسع والكثرة وهما من سبب الفخر والخيلاء، وقيل‏:‏ أراد بأهل الغنم أهل اليمن لأن غالب مواشيهم الغنم، بخلاف ربيعة ومضر فإنهم أصحاب إبل، وروى ابن ماجه من حديث أم هانئ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها اتخذي الغنم فإن فيها بركة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ فَقَالَ الْإِيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا أَلَا إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ

الشرح‏:‏

حديث أبي مسعود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال‏:‏ الإيمان‏)‏ فيه تعقب على من زعم أن المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ يمان ‏"‏ الأنصار، لكون أصلهم من أهل اليمن لأن في إشارته إلى جهة اليمن ما يدل على أن المراد به أهلها حينئذ لا الذين كان أصلهم منها، وسبب الثناء على أهل اليمن إسراعهم إلى الإيمان وقبولهم وقد تقدم قبولهم البشرى حين لم تقبلها بنو تميم في أول بدء الخلق، وسيأتي بقية شرحه في أول المناقب، وبيان الاختلاف بقوله‏:‏ ‏"‏ الإيمان يمان ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ قرنا الشيطان ‏"‏ أي جانبا رأسه، قال الخطابي‏:‏ ضرب المثل بقرني الشيطان فيما لا يحمد من الأمور، وقوله‏:‏ ‏"‏ أرق أفئدة ‏"‏ أي إن غشاء قلب أحدهم رقيق، وإذا رق الغشاء أسرع نفوذ الشيء إلى ما وراءه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن جعفر بن ربيعة‏)‏ هذا الحديث مما اتفق الأئمة الخمسة أصحاب الأصول على إخراجه عن شيخ واحد وهو قتيبة بهذا الإسناد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم صياح الديكة‏)‏ بكسر المهملة وفتح التحتانية جمع ديك وهو ذكر الدجاج، وللديك خصيصة ليست لغيره من معرفة الوقت الليلي، فإنه يقسط أصواته قيها تقسيطا لا يكاد يتفاوت، ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده لا يكاد يخطئ، سواء أطال الليل أم قصر، ومن ثم أفتى بعض الشافعية باعتماد الديك المجرب في الوقت، ويؤيده الحديث الذي سأذكره عن زيد بن خالد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنها رأت ملكا‏)‏ بفتح اللام، قال عياض‏:‏ كان السبب فيه رجاء تأمين الملائكة على دعائه واستغفارهم له وشهادتهم له بالإخلاص، ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركا بهم، وصحح ابن حبان - وأخرجه أبو داود وأحمد - من حديث زيد بن خالد رفعه ‏"‏ لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلى الصلاة ‏"‏ وعند البزار من هذا الوجه سبب قوله صلى الله عليه وسلم ذلك وأن ديكا صرخ فلعنه رجل فقال ذلك، قال الحليمي‏:‏ يؤخذ منه أن كل من استفيد منه الخير لا ينبغي أن يسب ولا أن يستهان به، بل يكرم ويحسن إليه‏.‏

قال‏:‏ وليس معنى قوله‏:‏ ‏"‏ فإنه يدعو إلى الصلاة ‏"‏ أن يقول بصوته حقيقة صلوا أو حانت الصلاة، بل معناه أن العادة جرت بأنه يصرخ عند طلوع الفجر وعند الزوال فطرة فطره الله عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا سمعتم نهاق الحمير‏)‏ زاد النسائي والحاكم من حديث جابر ‏"‏ ونباح الكلاب ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏فإنها رأت شيطانا‏)‏ روى الطبراني من حديث أبي رافع رفعه ‏"‏ لا ينهق الحمار حتى يرى شيطانا أو يتمثل له شيطان، فإذا كان ذلك فاذكروا الله وصلوا علي ‏"‏ قال عياض‏:‏ وفائدة الأمر بالتعوذ لما يخشى من شر الشيطان وشر وسوسته، فيلجأ إلى الله في دفع ذلك‏.‏

قال الداودي‏:‏ يتعلم من الديك خمس خصال‏:‏ حسن الصوت، والقيام في السحر، والغيرة، والسخاء، وكثرة الجماع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ مَا أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث جابر أورده من وجه آخر، وسيأتي شرحه في أثناء هذا الباب، والقائل ‏"‏ قال وأخبرني عمرو ‏"‏ هو ابن جريج، وإسحاق المذكور في أوله هو ابن راهويه كما عند أبي نعيم، ويحتمل أن يكون ابن منصور، وقد أهمل المزي في الأطراف تبعا لخلف عزوه إلى هذا الموضع

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَارَ إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ فَحَدَّثْتُ كَعْبًا فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لِي مِرَارًا فَقُلْتُ أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن خالد‏)‏ هو الحذاء، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون إلى أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإني لا أراها إلا الفأر‏)‏ بإسكان الهمزة، وعند مسلم من طريق أخرى عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ الفأرة مسخ، وآية ذلك أنه يوضع بين يديها لبن الغنم فتشربه، ويوضع بين يديها لبن الإبل فلا تشربه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحدثت كعبا‏)‏ قائل ذلك هو أبو هريرة، ووقع في رواية مسلم ‏"‏ فقال له كعب أنت سمعت هذا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت أفأقرأ التوراة‏)‏ هو استفهام إنكار‏.‏

وفي رواية مسلم أفأنزلت علي التوراة، وفيه أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب، وأن الصحابي الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه يكون للحديث حكم الرفع، وفي سكوت كعب عن الرد على أبي هريرة دلالة على تورعه، وكأنهما جميعا لم يبلغهما حديث ابن مسعود، قال‏:‏ ‏"‏ وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم القردة والخنازير فقال‏:‏ إن الله لم يجعل للمسخ نسلا ولا عقبا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك ‏"‏ وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا أراها إلا الفأر ‏"‏ وكأنه كان يظن ذلك ثم أعلم بأنها ليست هي، قال ابن قتيبة‏:‏ إن صح هذا الحديث وآلا فالقردة والخنازير هي الممسوخ بأعيانها توالدت‏.‏

قلت‏:‏ الحديث صحيح، وسيأتي مزيد لذلك في أواخر أحاديث الأنبياء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْوَزَغِ الْفُوَيْسِقُ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَزَعَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للوزع فويسق ولم أسمعه أمر بقتله ‏"‏ هو قول عائشة رضي الله عنها، قال ابن التين‏:‏ هذا لا حجة فيه، لأنه لا يلزم من عدم سماعها عدم الوقوع، وقد حفظ غيرها كما ترى‏.‏

قلت‏:‏ قد جاء عن عائشة من وجه آخر عند أحمد وابن ماجه أنه كان في بيتها رمح موضوع، فسئلت فقالت‏:‏ نقتل به الوزع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقى في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها انتهى‏.‏

والذي في الصحيح أصح، ولعل عائشة سمعت ذلك من بعض الصحابة‏.‏

وأطلقت لفظ أخبرنا مجازا أي أخبر الصحابة، كما قال ثابت البناني ‏"‏ خطبنا عمران ‏"‏ وأراد أنه خطب أهل البصرة، فإنه لم يسمع منه، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزعم سعد بن أبي وقاص‏)‏ قائل ذلك يحتمل أن يكون عروة فيكون متصلا فإنه سمع من سعد، ويحتمل أن تكون عائشة فيكون من رواية القرين عن قرينه، ويحتمل أن يكون من قول الزهري فيكون منقطعا، وهذا الاحتمال الأخير أرجح فإن الدار قطني أخرجه في الغرائب من طريق ابن وهب عن يونس ومالك معا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للوزغ فويسق ‏"‏ وعن ابن شهاب عن سعد بن أبي وقاص ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ ‏"‏ وقد أخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبان حديث عائشة من طريق ابن وهب، ليس عندهم حديث سعد، وقد أخرج مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبان من طريق معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا ‏"‏ وكأن الزهري وصله لمعمر وأرسله ليونس، ولم أر من نبه على ذلك من الشراح ولا من أصحاب الأطراف فلله الحمد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ

الشرح‏:‏

حديث أم شريك ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ ‏"‏ هكذا أورده مختصرا وسيأتي بأتم من هذا في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وقد تقدم في الذي قبله حديث عائشة بأتم منه، وأم شريك اسمها غزية بالمعجمتين مصغر، وقيل‏:‏ غزيلة، يقال هي عامرية قرشية، ويقال أنصارية ويقال دوسية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ وَيُصِيبُ الْحَبَلَ تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَبَا أُسَامَةَ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قتل ذي الطفيتين والأبتر، أورده بإسنادين إليها في كل واحد منهما قوله في أول طريقي حديث عائشة‏:‏ ‏(‏تابعه حماد بن سلمة‏)‏ يريد أن حمادا تابع أبا أسامة في روايته إياه عن هشام، واسم أبي أسامة أيضا حماد، ورواية حماد بن سلمة وصلها أحمد عن عفان عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ ثُمَّ نَهَى قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَمَ حَائِطًا لَهُ فَوَجَدَ فِيهِ سِلْخَ حَيَّةٍ فَقَالَ انْظُرُوا أَيْنَ هُوَ فَنَظَرُوا فَقَالَ اقْتُلُوهُ فَكُنْتُ أَقْتُلُهَا لِذَلِكَ فَلَقِيتُ أَبَا لُبَابَةَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ فَاقْتُلُوهُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في ذلك عن أبي لبابة أورده من وجهين، وقد تقدم من وجه آخر في أول الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي يونس القشيري‏)‏ هو حاتم بن أبي صغيرة، وهو بصري ومن دونه، وأما من فوقه فمدني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن ابن عمر كان يقتل الحيات ثم نهى‏)‏ هو بفتح النون، وفاعل نهى هو ابن عمر، وقد بين بعد ذلك سبب نهيه عن ذلك‏.‏

وكان ابن عمر أولا يأخذ بعموم آمره صلى الله عليه وسلم بقتل الحيات‏.‏

وقد أخرج أبو داود من حديث عائشة مرفوعا ‏"‏ اقتلوا الحيات، فمن تركهن مخافة ثأرهن فليس مني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن النبي صلى الله عليه وسلم هدم حائطا له فوجد فيه سلخ حية‏)‏ هو بكسر السين المهملة وسكون اللام بعدها معجمة وهو جلدها، كذا وقع هنا مرفوعا، وأخرجه مسلم من وجه آخر موقوفا فأخرج من طريق الليث عن نافع ‏"‏ أن أبا لبابة كلم ابن عمر ليفتح له بابا في داره يستقرب بها إلى المسجد، فوجد الغلمان جلد جان‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ التمسوه فاقتلوه، فقال أبو لبابة‏:‏ لا تقتلوه ‏"‏ ومن طريق يحيى بن سعيد وعمر بن نافع عن نافع نحوه‏.‏

ويحتمل أن تكون القصة وقعت مرتين‏.‏

ويدل لذلك قول ابن عمر في هذه الرواية ‏"‏ وكنت أقتلها لذلك ‏"‏ وهو القائل ‏"‏ فلقيت أبا لبابة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تقتلوا الجنان إلا كل ذي طفيتين‏)‏ إن كان الاستثناء متصلا ففيه تعقب على من زعم أن ذا الطفيتين والأبتر ليس من الجنان، ويحتمل أن يكون منقطعا، أي لكن كل ذي طفيتين فاقتلوه والجنان بكسر الجيم وتشديد النون جمع جان وهي الحية الصغيرة، وقيل‏:‏ الرقيقة الخفيفة، وقيل الدقيقة البيضاء، الحادي عشر حديث عائشة وابن عمر في الخمس التي لا جناح على المحرم في قتلهن، وقع في حديث عائشة ‏"‏ الحديا ‏"‏ وفي حديث ابن عمر ‏"‏ الحدأة ‏"‏ والحديا بصيغة التصغير، وقد أنكر ثابت في الدلائل هذه الصيغة وقال الصواب الحديأة أو الحدية أي بهمزة وزيادة هاء أو بالتشديد بغير همز، قال‏:‏ والصواب أن الحدياه ليس من هذا، وإنما هو من التحدي يقولون‏:‏ فلان يتحدى فلانا أي ينازعه ويغالبه، وعن ابن أبي حاتم، أهل الحجاز يقولون لهذا الطائر الحديا ويجمعونه الحدادي، وكلاهما خطأ‏.‏

وأما الأزهري فصوبه وقال‏:‏ الحدياه تصغير الحدي‏.‏

وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الحج‏.‏