فصل: باب حَرَمِ الْمَدِينَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب حَرَمِ الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - فضائل المدينة‏.‏

باب حرم المدينة‏)‏ كذا لأبي ذر عن الحموي، وسقط للباقين سوى قوله ‏"‏ باب حرم المدينة ‏"‏ وفي رواية أبي علي الشبوي ‏"‏ باب ما جاء في حرم المدينة‏"‏‏.‏

والمدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بها‏.‏

قال الله تعالى ‏(‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة‏)‏ فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد، وإذا أريد غيرها بلفظة المدينة فلا بد من قيد، فهي كالنجم للثريا، وكان اسمها قبل ذلك يثرب، قال الله تعالى ‏(‏وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب ‏"‏ ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به، قيل سميت بيثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري وقيل غير ذلك، ثم سماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة كما سيأتي في باب مفرد، وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم ذكر المصنف هنا أربعة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية عبد الواحد عن عاصم ‏"‏ قلت لأنس ‏"‏ وسيأتي في الاعتصام، وليزيد ابن هارون عن عاصم ‏"‏ سألت أنسا ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المدينة حرم من كذا إلى كذا‏)‏ هكذا جاء مبهما، وسيأتي في حديث على رابع أحاديث الباب ‏"‏ ما بين عائر إلى كذا ‏"‏ فعين الأول وهو بمهملة وزن فاعل، وذكره في الجزية وغيرها بلفظ ‏"‏ عير ‏"‏ بسكون التحتانية، وهو جبل بالمدينة كما سنوضحه‏.‏

واتفقت روايات البخاري كلها على إبهام الثاني‏.‏

ووقع عند مسلم ‏"‏ إلى ثور ‏"‏ فقيل إن البخاري أبهمه عمدا لما وقع عنده أنه وهم‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ المشارق ‏"‏ و ‏"‏ المطالع ‏"‏‏:‏ أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك مكانه بياضا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري‏:‏ ليس بالمدينة عير ولا ثور‏.‏

وأثبت غيره عيرا ووافقه على إنكار ثور، قال أبو عبيد‏:‏ قوله ‏"‏ ما بين عير إلى ثور ‏"‏ هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلا عندهم يقال له ثور وإنما ثور بمكة، ونرى أن أصل الحديث ‏"‏ ما بين عير إلى أحد‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني‏.‏

وقال عياض‏:‏ لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف، وقد جاء ذكره في أشعارهم، وأنشد أبو عبيد البكري في ذلك عدة شواهد، منها قول الأحوص المدني الشاعر المشهور‏:‏ فقلت لعمرو تلك يا عمرو ناره تشب قفا عير فهل أنت ناظر وقال ابن السيد في ‏"‏ المثلث ‏"‏‏:‏ عير اسم جبل بقرب المدينة معروف‏.‏

وروى الزبير في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ عن عيسى بن موسى قال‏:‏ قال سعيد بن عمرو لبشر بن السائب أتدري لم سكنا العقبة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ لأنا قتلنا منكم قتيلا في الجاهلية فأخرجنا إليها‏.‏

فقال‏:‏ وددت لو أنكم قتلتم منا آخر وسكنتم وراء عير، يعني جبلا‏.‏

كذا في نفس الخبر‏.‏

وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك‏:‏ ما منها تقدم، ومنها قول ابن قدامة يحتمل أن يكون المراد مقدار ما بين عير وثور لا أنهما بعينهما في المدينة، أو سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا‏.‏

وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد مختصرا ثم قال‏:‏ وقيل إن عيرا جبل بمكة، فيكون المراد أحرم من المدينة مقدار ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف‏.‏

وقال النووي‏:‏ يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أحد وإما غيره‏.‏

وقال المحب الطبري في ‏"‏ الأحكام ‏"‏ بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه‏:‏ قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب - أي العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال - فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، وتواردوا على ذلك‏.‏

قال فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه‏.‏

قال وهذه فائدة جليلة‏.‏

انتهي‏.‏

وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي في شرحه‏:‏ حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال‏:‏ فلما وصلنا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير، فسألته عنه فقال‏:‏ هذا يسمى ثورا‏.‏

قال فعلمت صحة الرواية‏.‏

قلت‏:‏ وكأن هذا كان مبدأ سؤاله عن ذلك‏.‏

وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلا صغيرا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورا، قال وقد تحققته بالمشاهدة‏.‏

وأما قول ابن التين أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدا لأنه غلط فهو غلط منه، بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في الجزية فسماه، والله أعلم‏.‏

ومما يدل على أن المراد بقوله في حديث أنس من ‏"‏ كذا إلى كذا جبلان ‏"‏ ما وقع عند مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعا ‏"‏ اللهم إني أحرم ما بين جبليها ‏"‏ لكن عند المصنف في الجهاد وغيره من طريق محمد بن جعفر ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك كلهم عن عمرو بلفظ ‏"‏ ما بين لابتيها ‏"‏ وكذا في حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب، وسيأتي بعد أبواب من وجه آخر، وكذا في حديث رافع بن خديج وأبي سعيد وسعد وجابر وكلها عند مسلم، وكذا رواه أحمد من حديث عبادة الزرقي والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف والطبراني من حديث أبي اليسر وأبي حسين وكعب ابن مالك كلهم بلفظ ‏"‏ ما بين لابتيها ‏"‏ واللابتان جمع لابة بتخفيف الموحدة وهي الحرة وهي الحجارة السود، وقد تكرر ذكرها في الحديث‏.‏

ووقع في حديث جابر عند أحمد ‏"‏ وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها ‏"‏ فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ما بين جبليها وفي رواية ما بين لابتيها وفي رواية مأزميها، وتعقب بأن الجمع بينهما واضح وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية ‏"‏ ما بين لابتيها ‏"‏ أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر، وأما رواية ‏"‏ مأزميها ‏"‏ فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد، والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين وقد يطلق على الجبل نفسه‏.‏

واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير ما فعل النغير قال‏:‏ لو كان صيدها حراما ما جاز حبس الطير، وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل‏.‏

قال أحمد‏:‏ من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير، وهذا قول الجمهور‏.‏

لكن لا يرد ذلك على الحنفية، لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم، واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حراما ما فعله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحا في أول المغازي، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد وفي غزوة أحد من المغازي واضحا‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة ‏"‏ فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ يحرم صيد المدينة وقطع شجرها وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم‏.‏

وقال أبو حنيفة لا يحرم، ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئا أثم ولا جزاء عليه في رواية لأحمد، وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم‏.‏

وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك‏.‏

وقال القاضي عبد الوهاب أنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء وهو كما في حرم مكة، وقيل الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص‏.‏

وفي رواية لأبي داود ‏"‏ من وجد أحدا يصيد في حرم المدينة فليسلبه‏"‏‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم‏.‏

قلت‏:‏ واختاره جماعة معه وبعده لصحة الخبر فيه، ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة‏.‏

ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم ‏"‏ ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف ‏"‏ ولأبي داود من طريق أبي حسان عن علي نحوه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ في حديث أنس دلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانا مثلا فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه‏.‏

قال‏:‏ وقيل بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه، كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة‏.‏

وعلى هذا يحمل قطع صلى الله عليه وسلم النخل وجعله قبلة المسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يقطع شجرها‏)‏ في رواية يزيد بن هارون ‏"‏ لا يختلي خلاها ‏"‏ وفي حديث جابر عند مسلم ‏"‏ لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها ‏"‏ ونحوه عنده عن سعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أحدث فيها حدثا‏)‏ زاد شعبة وحماد بن سلمة عن عاصم عند أبي عوانة ‏"‏ أو آوى محدثا ‏"‏ وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصما لم يسمعها من أنس كما سيأتي بيان ذلك في كتاب الاعتصام قوله‏:‏ ‏(‏فعليه لعنة الله‏)‏ فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين‏.‏

وفيه أن المحدث والمؤوى للمحدث في الإثم سواء‏.‏

والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك‏.‏

قال عياض‏:‏ واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله‏.‏

قال‏:‏ والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي فَقَالُوا لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في بناء المسجد، أورد منه طرفا، وقد مضى في الصلاة، وسيأتي بتمامه في أول المغازي إن شاء الله تعالى، وقد بينت المراد بإيراده هنا في الكلام على الحديث الأول وهو أن ذلك كان قبل التحريم، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي قَالَ وَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي حَارِثَةَ فَقَالَ أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل بن عبد الله‏)‏ هو ابن أبي أويس، وأخوه اسمه عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، وقد سمع إسماعيل منه وروى كثيرا عن أخيه عنه، والإسناد كله مدنيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعيد المقبري عن أبي هريرة‏)‏ قال الإسماعيلي‏:‏ رواه جماعة عن عبيد الله هكذا‏.‏

وقال عبدة بن سليمان‏:‏ عن عبيد الله عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة زاد فيه ‏"‏ عن أبيه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حرم ما بين لابتي المدينة‏)‏ كذا للأكثر بضم أول حرم على البناء لما لم يسم فاعله‏.‏

وفي رواية المستملي ‏"‏ حرم ‏"‏ بفتحتين على أنه خبر مقدم وما بين لابتي المدينة المبتدأ، ويؤيد الأول ما رواه أحمد عن محمد ابن عبيد عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث بلفظ ‏"‏ إن الله عز وجل حرم على لساني ما بين لابتي المدينة ‏"‏ ونحوه للإسماعيلي من طريق أنس بن عياض عن عبيد الله، وقد تقدم القول في اللابتين في الحديث الأول، وزاد مسلم في بعض طرقه ‏"‏ وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى ‏"‏ وروى أبو داود من حديث عدي ابن زيد قال ‏"‏ حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، لا يخبط شجره ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بنى حارثة‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة ‏"‏ أي في الجانب المرتفع منها، وبنو حارثة بمهملة ومثلثة بطن مشهور من الأوس، وهو حارثة ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وكان بنو حارثة في الجاهلية وبنو عبد الأشهل في دار واحدة، ثم وقعت بينهم الحرب فانهزمت بنو حارثة إلى خيبر فسكنوها، ثم اصطلحوا فرجع بنو حارثة فلم ينزلوا في دار بني عبد الأشهل وسكنوا في دارهم هذه وهي غربي مشهد حمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بل أنتم فيه‏)‏ زاد الإسماعيلي ‏"‏ بل أنتم فيه ‏"‏ أعادها تأكيدا‏.‏

وفي هذا الحديث جواز الجزم بما يغلب على الظن، وإذا تبين أن اليقين على خلافه رجع عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَقَالَ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَدْلٌ فِدَاءٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الرحمن‏)‏ هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو يزيد بن شريك بن طارق التيمي، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين كوفيون في نسق، وهذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي، أخرجه أحمد والنسائي‏.‏

قال الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏‏:‏ والصواب رواية الثوري ومن تبعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما عندنا شيء‏)‏ أي مكتوب، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب، أو المنفي شيء اختصوا به عن الناس‏.‏

وسبب قول على هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قيادة عن أبي حسان الأعرج ‏"‏ أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال له‏:‏ قد فعلناه‏.‏

فيقول‏:‏ صدق الله ورسوله‏.‏

فقال له الأشتر‏:‏ إن هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ ما عهد إلي شيئا خاصة دون الناس، إلا شيئا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها ‏"‏ فذكر الحديث وزاد فيه ‏"‏ المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم‏.‏

ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده ‏"‏ وقال فيه ‏"‏ إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين حرتيها وحماها كله، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، ولا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال ‏"‏ والباقي نحوه‏.‏

وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن قتادة عن أبي حسان عن الأشتر عن علي، ولأحمد وأبي داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة ‏"‏ عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال‏:‏ انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا‏:‏ هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلا ما في كتابي هذا‏.‏

قال وكتاب في قراب سيفه، فإذا فيه‏:‏ المؤمنون تتكافأ دماؤهم ‏"‏ فذكر مثل ما تقدم إلى قوله في عهده ‏"‏ من أحدث حدثا - إلى قوله - أجمعين‏"‏‏.‏

ولم يذكر بقية الحديث‏.‏

ولمسلم من طريق أبي الطفيل ‏"‏ كنت عند علي فأتاه رجل فقال‏:‏ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك‏؟‏ فغضب ثم قال‏:‏ ما كان يسر إلي شيئا يكتمه عن الناس، غير أنه حدثني بكلمات أربع ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ ما خصنا بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة مكتوبا فيها‏:‏ لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا ‏"‏ وقد تقدم في كتاب العلم من طريق أبي جحفية ‏"‏ قلت لعلي‏:‏ هل عندكم كتاب‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة‏.‏

قال قلت‏:‏ وما في هذه الصحيفة‏؟‏ قال‏:‏ العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر‏"‏‏.‏

والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها، وأتمها سياقا طريق أبي حسان كما ترى، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المدينة حرم‏)‏ كذا أورده مختصرا، وسيأتي في الجزية بزيادة في أوله قال فيها ‏"‏ الجراحات وأسنان الإبل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أحدث فيها حدثا‏)‏ يقيد به مطلق ما تقدم في رواية قيس بن عباد، وأن ذلك يختص بالمدينة لفضلها وشرفها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل منه صرف ولا عدل‏)‏ بفتح أولهما، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري، وعن الحسن البصري بالعكس، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية، وعن يونس مثله لكن قال‏:‏ الصرف الاكتساب، وعن أبي عبيدة مثله لكن قال‏:‏ العدل الحيلة وقيل المثل، وقيل الصرف الدية والعدل الزيادة عليها، وقيل بالعكس، وحكى صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ الصرف الوزن والعدل الكيل، وقيل الصرف القيمة والعدل الاستقامة، وقيل الصرف الدية والعدل البديل، وقيل الصرف الشفاعة والعدل الفدية لأنها تعادل الدية وبهذا الأخير جزم البيضاوي، وقيل الصرف الرشوة والعدل الكفيل، قاله أبان بن ثعلب وأنشد‏:‏ لا نقبل الصرف وهاتوا عدلا فحصلنا على أكثر من عشرة أقوال، وقد وقع في آخر الحديث في رواية المستملى ‏"‏ قال أبو عبد الله‏:‏ عدل فداء ‏"‏ وهذا موافق لتفسير الأصمعي، والله أعلم‏.‏

قال عياض‏:‏ معناه لا يقبل قبول رضا وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري‏.‏

وفي الحديث رد لما تدعيه الشيعة بأنه كان عند علي وآل بيته من النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة أعلمه بها سرا تشتمل على كثير من قواعد الدين وأمور الإمارة‏.‏

وفيه جواز كتابة العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذمة المسلمين واحدة‏)‏ أي أمانهم صحيح فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له‏.‏

وللأمان شروط معروفة‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ الذمة العهد، سمي بها لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها‏.‏

وقوله يسعى بها أي يتولاها ويذهب ويجئ، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد، لأن المسلمين كنفس واحدة، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجزية والموادعة‏.‏

وقوله ‏"‏فمن أخفر ‏"‏ بالخاء المعجمة والفاء أي نقض العهد، يقال خفرته بغير ألف‏:‏ أمنته، وأخفرته‏:‏ نقضت عهده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن يتولى قوما بغير إذن مواليه‏)‏ لم يجعل الأذن شرطا لجواز الادعاء، وإنما هو لتأكيد التحريم، لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ذلك، قاله الخطابي وغيره، ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله ‏"‏ من ادعى إلى غير أبيه ‏"‏ والجمع بينهما بالوعيد، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب، فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة‏.‏

ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم وقال‏:‏ ليس هو للتقييد، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه‏.‏

فأورد الكلام على ما هو الغالب‏.‏

وسيأتي البحث في ذلك في كتب الفرائض إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا، ففي حديث أنس التصريح بكون المدينة حرما، وفي حديثه الثاني تخصيص النهي عن قطع الشجر بما لا ينبته الآدميون، وفي حديث أبي هريرة بيان ما أجمل من حد حرمها في حديث أنس حيث قال كذا وكذا، فبين في هذا أنه ما بين الحرتين، وفي حديث على زيادة تأكيد التحريم وبيان حد الحرم أيضا‏.‏

*3*باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس‏)‏ أي الشرار منهم، وراعى في الترجمة لفظ الحديث، وقرينة إرادة الشرار من الناس ظاهرة من التشبيه الواقع في الحديث، والمراد بالنفي الإخراج، ولو كانت الرواية تنقي بالقاف لحمل لفظ الناس على عمومه‏.‏

وقد ترجم المصنف بعد أبواب ‏"‏ المدينة تنفي الخبث‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى بن سعيد‏)‏ هو الأنصاري وشيخه أبو الحباب بضم المهملة وبالموحدتين الأولى خفيفة، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، قال ابن عبد البر‏:‏ اتفق الرواة عن مالك على إسناده إلا إسحاق بن عيسى الطباع فقال ‏"‏ عن مالك عن يحيى عن سعيد بن المسيب ‏"‏ بدل سعيد بن يسار، وهو خطأ‏.‏

قلت‏:‏ وتابعه أحمد بن عمر عن خالد السلمي عن مالك، وأخرجه الدار قطني في ‏"‏ غرائب مالك ‏"‏ وقال هذا وهم والصواب عن يحيى عن سعيد بن يسار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمرت بقرية‏)‏ أي أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تأكل القرى‏)‏ أي تغلبهم‏.‏

وكنى بالأكل عن الغلبة لأن الآكل غالب على المأكول‏.‏

ووقع في ‏"‏ موطأ ابن وهب ‏"‏‏:‏ قلت لمالك ما تأكل القرى‏؟‏ قال‏:‏ تفتح القرى‏.‏

وبسطه ابن بطال فقال‏:‏ معناه يفتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم ويسبون ذراريهم‏.‏

قال‏:‏ وهذا من فصيح الكلام‏.‏

تقول العرب‏:‏ أكلنا بلد كذا إذا ظهروا عليها‏.‏

وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضا‏.‏

وقال النووي‏:‏ ذكروا في معناه وجهين، أحدهما هذا والآخر أن أكلها وميرتها من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما‏.‏

قلت‏:‏ والذي ذكره احتمالا ذكره القاضي عبد الوهاب فقال‏:‏ لا معنى لقوله تأكل القرى إلا رجوح فضلها عليها وزيادتها على غيرها، كذا قال‏.‏

ودعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير‏:‏ وقد سميت مكة أم القرى، قال‏:‏ والمذكور للمدينة أبلغ منه لأن الأمومة لا تنمحي إذا وجدت ما هي له أم، لكن يكون حق الأم أظهر وفضلها أكثر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقولون يثرب وهي المدينة‏)‏ أي أن بعض المنافقين يسميها يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة‏.‏

وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب وقالوا‏:‏ ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين‏.‏

وروى أحمد من حديث البراء بن عازب رفعه ‏"‏ من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة ‏"‏ وروى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب ‏"‏ ولهذا قال عيسى بن دينار من المالكية‏:‏ من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة‏.‏

قال‏:‏ وسبب هذه الكراهة لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح‏.‏

وذكر أبو إسحاق الزجاج في مختصره وأبو عبيد البكري في ‏"‏ معجم ما استعجم ‏"‏ أنها سميت بترب باسم يثرب بن قانية ابن مهلايل بن عيل بن عيص بن إرم بن سام بن نوح لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر فسميت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تنفي الناس‏)‏ قال عياض‏:‏ وكأن هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه‏.‏

وقال النووي‏:‏ ليس هذا بظاهر، لأن عند مسلم ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد ‏"‏ وهذا والله أعلم زمن الدجال‏.‏

انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمنين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي الآتية بعد أبواب فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللا به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضا في آخر الزمان عندما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه كما سيأتي بعد أبواب أيضا، وأما ما بين ذلك فلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كما ينفي الكير‏)‏ بكسر الكاف وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ‏.‏

قال ابن التين‏:‏ وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد‏.‏

ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ بإسناد له إلى أبي مودود قال‏:‏ رأى عمر بن الخطاب كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه‏.‏

والخبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده‏.‏

ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها‏.‏

واستدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد‏.‏

قال المهلب‏:‏ لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى ‏(‏ومن أهل المدينة مردوا على النفاق‏)‏ والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ لو فتحت بلد من بلد فثبت بذلك الفضل للأولى للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما مما فتح من جهة البصرة وليس كذلك، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الاعتصام‏.‏

*3*باب الْمَدِينَةُ طَابَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المدينة طابة‏)‏ أي من أسمائها إذ ليس في الحديث أنها لا تسمى بغير ذلك، وذكر فيه طرفا من حديث أبي حميد الساعدي وقد مضى مطولا في أواخر الزكاة، ووقع في بعض طرقه طابة وفي بعضها طيبة، وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا ‏"‏ أن الله سمى المدينة طابة ‏"‏ ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن سماك بلفظ ‏"‏ كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة ‏"‏ وأخرجه أبو عوانة، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيبها لساكنها، وقيل من طيب العيش بها‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية، لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها‏.‏

وقرأت بخط أبي على الصدفي في هامش نسخته من صحيح البخاري بخطه‏:‏ قال الحافظ أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب‏.‏

وللمدينة أسماء غير ما ذكر، منها ما رواه عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ من رواية زيد بن أسلم قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ للمدينة عشرة أسماء، هي‏:‏ المدينة، وطابة، وطيبة، والمطيبة، والمسكينة، والدار، وجابرة، ومجبورة، ومنيرة، ويثرب‏"‏‏.‏

ومن طريق محمد بن أبي يحيى قال ‏"‏ لم أزل أسمع أن للمدينة عشرة أسماء، هي‏:‏ المدينة، وطيبة، وطابة، والمطيبة، والمسكينة، والمدري، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، والمحبوبة‏"‏‏.‏

ورواه الزبير في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ من طريق ابن أبي يحيى مثله وزاد ‏"‏ والقاصمة ‏"‏ ومن طريق أبي سهل بن مالك عن كعب الأحبار قال‏:‏ نجد في كتاب الله الذي أنزل على موسى‏:‏ أن الله قال للمدينة يا طيبة ويا طابة ويا مسكينة لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على القرى‏.‏

وروى الزبير في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ من حديث عبد الله بن جعفر قال‏:‏ سمى الله المدينة الدار والإيمان‏.‏

ومن طريق عبد العزيز الدراوردي قال‏:‏ بلغني أن لها أربعين اسما‏.‏

*3*باب لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لابتي المدينة‏)‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ لو رأيت الظباء ترتع - أي تسعى أو ترعى - بالمدينة ما ذعرتها ‏"‏ أي ما قصدت أخذها فأخفتها بذلك، وكنى بذلك عن عدم صيدها‏.‏

واستدل أبو هريرة بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ما بين لابتيها - أي المدينة - حرام ‏"‏ لأن المراد بذلك المدينة لأنها بين لابتين شرقية وغربية، ولها لابتان أيضا من الجانبين الآخرين إلا أنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما‏.‏

والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك، وقد تقدم شرح الحديث في الباب الأول‏.‏

وقوله ‏"‏ترتع ‏"‏ أي ترعى وقيل تنبسط، وفي قول أبي هريرة هذا إشارة إلى قوله في الحديث الماضي ‏"‏ لا ينفر صيدها‏"‏، ونقل ابن خزيمة الاتفاق على أن الإجزاء في صيد المدينة بخلاف صيد مكة‏.‏

*3*باب مَنْ رَغِبَ عَنْ الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من رغب عن المدينة‏)‏ أي فهو مذموم، أو باب حكم من رغب عنها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِ يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تتركون المدينة‏)‏ كذا للأكثر بتاء الخطاب، والمراد بذلك غير المخاطبين، لكنهم من أهل البلد أو من نسل المخاطبين أو من نوعهم، وروى ‏"‏ يتركون ‏"‏ بتحتانية ورجحه القرطبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على خير ما كانت‏)‏ أي على أحسن حال كانت عليه من قبل، قال القرطبي تبعا لعياض‏:‏ قد وجد ذلك حيث صارت معدن الخلافة ومقصد الناس وملجأهم، وحملت إليها خيرات الأرض وصارت من أعمر البلاد، فلما انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ثم إلى العراق وتغلبت عليها الأعراب تعاورتها الفتن وخلت من أهلها فقصدتها عوافي الطير والسباع‏.‏

والعواني جمـع عافية وهي التي تطلب أقواتها، ويقال للذكر عاف‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ اجتمع في العوافي شيئان أحدهما أنها طالبة لأقواتها من قولك عفوت فلانا أعفوه فأنا عاف والجمع عفاة، أي أتيت أطلب معروفه، والثاني من العفاء وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه‏.‏

وقال النووي‏:‏ المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، ويؤيده قصة الراعيين فقد وقع عند مسلم بلفظ ‏"‏ ثم يحشر راعيان ‏"‏ وفي البخاري أنهما آخر من يحشر‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده ما روى مالك عن ابن حماس بمهملتين وتخفيف عن عمه عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الذئب فيعوي على بعض سواري المسجد أو على المنبر‏.‏

قالوا‏:‏ فلمن تكون ثمارها‏؟‏ قال‏:‏ للعوافي الطير والسباع ‏"‏ أخرجه معن بن عيسى في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن مالك ورواه جماعة من الثقات خارج الموطأ، ويشهد له أيضا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال ‏"‏ بعثني النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة فأخذ بيدي حتى أتينا أحدا، ثم أقبل على المدينة فقال‏:‏ ويل أمها قرية يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون‏.‏

قلت يا رسول الله من يأكل ثمارها‏؟‏ قال‏:‏ عافية الطير والسباع‏"‏‏.‏

وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال ‏"‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ثم نظر إلينا فقال‏:‏ أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عاما للعوافي، أتدرون ما العوافي‏؟‏ الطير والسباع‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لم يقع قطعا‏.‏

وقال المهلب‏:‏ في هذا الحديث أن المدينة تسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات لقصد الراعيين بغنمهما إلى المدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وآخر من يحشر راعيان من مزينة‏)‏ هذا يحتمل أن يكون حديثا آخر مستقلا لا تعلق له بالذي قبله، ويحتمل أن يكون من تتمة الحديث الذي قبله، وعلى هذين الاحتمالين يترتب الاختلاف الذي حكيته عن القرطبي والنووي، والثاني أظهر كما قال النووي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينعقان‏)‏ بكسر المهملة بعدها قاف، النعيق زجر الغنم، يقال نعق ينعق بكسر العين وفتحها نعيقا ونعاقا ونعقانا إذا صاح بالغنم، وأغرب الداودي فقال‏:‏ معناه يطلب الكلأ، وكأنه فسره بالمقصود من الزجر لأنه يزجرها عن المرعى الوبيل إلى المرعى الوسيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيجدانها وحوشا‏)‏ أو يجدانها ذات وحش، أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشا، وهذا على أن الرواية بفتح الواو أي يجدانها خالية وفي رواية مسلم ‏"‏ فيجدانها وحشا ‏"‏ أي خالية ليس بها أحد، والوحش من الأرض الخلاء، أو كثرة الوحش لما خلت من سكانها‏.‏

قال النووي‏:‏ الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال‏:‏ وقد يكون وحشا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان وجمعه وحوش، وقد يعبر بواحده عن جمعه‏.‏

وحكى عن ابن المرابط أن معناه أن غنم الراعيين المذكورين تصير وحوشا إما بأن تنقلب ذاتها وإما أن تتوحش وتنفر منهما، وعلى هذا فالضمير في يجدانها يعود على الغنم والظاهر خلافه‏.‏

قال النووي‏:‏ الصواب الأول‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ القدرة صالحة لذلك‏.‏

انتهى‏.‏

ويؤيده أن في بقية الحديث أنهما يخران على وجوههما إذا وصلا إلى ثنية الوداع، وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شك، فيدل على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة فيقوى أن الضمير يعود على غنمهما وكأن ذلك من علامات قيام الساعة‏.‏

ويوضح هذا رواية عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ من طريق عطاء بن السائب عن رجل من أشجع عن أبي هريرة موقوفا قال ‏"‏ آخر من يحشر رجلان رجل من مزينة وآخر من جهينة، فيقولان‏:‏ أين الناس‏؟‏ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس‏"‏‏.‏

قوله ‏"‏وآخر من يحشر ‏"‏ في رواية مسلم من طريق عقيل عن الزهري ‏"‏ ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ‏"‏ لم يذكر في الحديث حشرهما، وإنما ذكر مقدمته، لأن الحشر إنما يقع بعد الموت، فذكر سبب موتهما والحشر يعقبه‏.‏

وقوله على هذا ‏"‏ خرا على وجوههما ‏"‏ أي سقطا ميتين، أو المراد بقوله خرا على وجوههما أي سقطا بمن أسقطهما، وهو الملك كما تقدم في رواية عمر بن شبة‏.‏

وفي رواية للعقيلي ‏"‏ أنهما كانا ينزلان بجبل ورقان‏"‏، وله من حديث حذيفة ابن أسيد ‏"‏ أنهما يفقدان الناس فيقولان‏:‏ ننطلق إلى بني فلان، فيأتيانهم فلا يجدان أحدا فيقولان‏:‏ ننطلق إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، فينطلقان إلى البقيع فلا يريان إلا السباع والثعالب ‏"‏ وهذا يوضح أحد الاحتمالات المتقدمة، وقد روى ابن حبان من طريق عروة عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة‏"‏، وهو يناسب كون آخر من يحشر يكون منها‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أنكر ابن عمر على أبي هريرة تعبيره في هذا الحديث بقوله ‏"‏ خير ما كانت ‏"‏ وقال‏:‏ إن الصواب أعمر ما كانت، أخرج ذلك عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ من طريق مساحق بن عمرو أنه كان جالسا عند ابن عمر ‏"‏ فجاء أبو هريرة فقال له‏:‏ لم ترد على حديثي‏؟‏ فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منها أهلها خبر ما كنت‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ أجل ولكن لم يقل خير ما كانت، إنما قال أعمر ما كانت، ولو قال خير ما كانت لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة‏:‏ صدقت والذي نفسي بيده‏"‏‏.‏

وروى مسلم من حديث حذيفة أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يخرج أهل المدينة من المدينة، ولعمر بن شبة من حديث أبي هريرة ‏"‏ قيل يا أبا هريرة من يخرجهم‏؟‏ قال أمراء السوء‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو عروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير أخوه‏.‏

وفي الإسناد صحابي عن صحابي وتابعي عن تابعي لأن هشاما قد لقي بعض الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سفيان بن أبي زهير‏)‏ كذا للأكثر ورواه حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه كذلك وقال في آخره ‏"‏ قال عروة ثم لقيت سفيان بن أبي زهير عند موته فأخبرني بهذا الحديث ‏"‏ وذكر علي بن المديني أنه اختلف فيه على هشام اختلافا آخر، فقال وهيب وجماعة كما قال مالك‏.‏

وقال ابن عيينة عن هشام بسنده‏:‏ عن سفيان بن الغوث‏.‏

وقال أبو معاوية عن هشام بسنده‏:‏ عن سفيان بن عبد الله الثقفي قلت‏:‏ قد رواه الحميدي عن سفيان على الصواب، ورواه أبو خيثمة عن جرير فقال‏:‏ سفيان بن أبي قلابة، كأنه عرف خطأ جرير فكني عنه، واسم أبي زهير القرد بفتح القاف وكسر الراء بعدها مهملة وقيل نمير، وهو الشنوئي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة مفتوحة وفي النسب كذلك، وقيل بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو، وشنوءة هو عبد الله بن كعب بن مالك بن نضر ابن الأزد، وسمي شنوءة لشنآن كان بينه وبين قومه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتح اليمن‏)‏ قال ابن عبد البر وغيره‏:‏ افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر، وافتتحت الشام بعدها، والعراق بعدها‏.‏

وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرا لهم‏.‏

وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه‏.‏

وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يبسون‏)‏ بفتح أوله وضم الموحدة وبكسرها من بس يبس‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ في رواية يحيى بن يحيى بكسر الموحدة، وقيل إن ابن القاسم رواه بضمها، قال أبو عبيد‏:‏ معناه يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل تقول بس بس عند السوق وإرادة السرعة‏.‏

وقال الداودي‏:‏ معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطؤونه من الأرض من شدة السير فيضير غبارا‏.‏

قال تعالى ‏(‏وبست الجبال بسا‏)‏ أي سالت سيلا، وقيل معناه سارت سيرا‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ البس المبالغة في الفت ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن بسيس، وأنكر ذلك النووي وقال إنه ضعيف أو باطل‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ وقيل معنى يبسون يسألون عن البلاد ويستقرئون أخبارها ليسيروا إليها‏.‏

قال‏:‏ وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة‏.‏

وقيل معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكناها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه‏:‏ هلم إلى الرخاء، والمدينة خبر لهم لو كانوا يعلمون ‏"‏ وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ وروى يبسون بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي من أبس إبساسا ومعناه يزينون لأهلهم البلد التي يقصدونها، وأصل الإبساس للتي تحلب حتى تدر باللبن، وهو أن يجري يده على وجهها وصفحة عنقها كأنه يزين لها ذلك ويحسنه لها، وإلى هذا ذهب ابن وهب، وكذا رواه ابن حبيب عن مطرف عن مالك يبسون من الرباعي وفسره بنحو ما ذكرنا، وأنكر الأول غاية الإنكار‏.‏

وقال النووي‏:‏ الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة في هذا الحديث بلفظ ‏"‏ تفتح الشام، فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ‏"‏ ويوضح ذلك ما روى أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء، ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏"‏‏.‏

وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات، وهو يوضح ما قلناه، والله أعلم‏.‏

وروى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصة أخرجها من طريق بشر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون ‏"‏ أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في بعث بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إليه يستحمله، فخرج معه يبتغي له بعيرا فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي، فسامه له، فقال له أبو جهم‏:‏ لا أبيعكها يا رسول الله، ولكن خذه فاحمل عليه من شئت‏.‏

ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال‏:‏ يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان، ويوشك الشام أن يفتح، فيأتيه رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه، والمدينة خير لهم ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو كانوا يعلمون‏)‏ أي بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي وثواب الإقامة فيها وغير ذلك، ويحتمل أن يكون ‏"‏ لو ‏"‏ بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها، قالوا والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها، وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث‏.‏

قال الطيبي‏:‏ الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل ما لا يعلمون منزلة اللازم لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلى التمني لكان أبلغ، لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله، أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ المعنى أنه يفتح اليمن فيعجب قوما بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهلهم حتى يخرجوا من المدينة، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها‏.‏

وقواه الطيبي لتنكير قوم ووصفهم بكونهم يبسون، ثم توكيده بقوله ‏"‏ لو كانوا يعلمون ‏"‏ لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول، ولذلك كرر قوما ووصفه في كل قرينة بقوله يبسون استحضارا لتلك الهيئة القبيحة، والله أعلم‏.‏