فصل: تفسير الآيات (1- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل قبله. وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان.
ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة. حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد. وهي كفيلة أن تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين.. وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب..
على أنه بالقياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شئ بعيد وآخر قريب. فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار. حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود. تتجلى وحدة متصلة، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة. وهنا يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويجاب، بلا حاجز ولا حجاب. كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج.
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا. فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي. ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره، حين نهتدي إلى طرف من قانونه. وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات. فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شئ آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام!
وفي سياق تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا. تجيء حلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان، وتساؤله في فخر وخيلاء: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون}.. وانتفاخه على موسى عبد الله ورسوله وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.. واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}..
وكأنما هي نسخة تكرر، أو اسطوانة تعاد!
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى عليه السلام وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء.
ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين}..
وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون!
ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق.
كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون!
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون}..
هنا يعرض حلقة اللقاء الأول بين موسى وفرعون، في إشارة مقتضبة تمهيداً لاستعراض النقطة الرئيسية المقصودة من القصة في هذا الموضع وهي تشابه اعتراضات فرعون وقيمه مع اعتراضات مشركي العرب وقيمهم ويلخص حقيقة رسالة موسى: {فقال إني رسول رب العالمين}.. وهي ذات الحقيقة التي جاء بها كل رسول: أنه {رسول} وأن الذي أرسله هو {رب العالمين}..
ويشير كذلك إشارة سريعة إلى الآيات التي عرضها موسى، وينهي هذه الإشارة بطريقة استقبال القوم لها: {إذا هم منها يضحكون}.. شأن الجهال المتعالين!
يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى:
{وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}..
وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى عليه السلام مدعاة إيمان، وهي تأخذهم متتابعة. كل آية أكبر من أختها. مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلباً لم يتأهل للهدى؛ وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي!
والعجب هنا فيما يحكيه القرآن عن فرعون وملئه قولهم: {يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون}.. فهم أمام البلاء، وهم يستغيثون بموسى ليرفع عنهم البلاء. ومع ذلك يقولون له: {يا أيها الساحر} ويقولون كذلك: {ادع لنا ربك بما عهد عندك} وهو يقول لهم: إنه رسول {رب العالمين} لا ربه هو وحده على جهة الاختصاص! ولكن لا الخوارق ولا كلام الرسول مس قلوبهم، ولا خالطتها بشاشة الإيمان، على الرغم من قولهم: {إننا لمهتدون}:
{فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}..
ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة، وقد يجد الحق سبيلاً إلى قلوبها المخدوعة. وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه، وفي زخرفه وزينته، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان، المخدوعة بالأبهة والبريق:
{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}.
إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون، أمر قريب مشهود للجماهير، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه.
فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما ومصر لا تساوي هباءة فيه فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد!
والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها؛ ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد!
ومن ثم عرف فرعون كيف يلعب بأوتار هذه القلوب ويستغفلها بالبريق القريب!
{أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
وهو يعني بالمهانة أن موسى ليس ملكاً ولا أميراً ولا صاحب سطوة ومال مشهود. أم لعله يشير بهذا إلى أنه من ذلك الشعب المستعبد المهين. شعب إسرائيل. أما قوله: {ولا يكاد يبين} فهو استغلال لما كان معروفاً عن موسى قبل خروجه من مصر من حبسة اللسان. وإلا فقد استجاب الله سؤاله حين دعاه: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} وحلت عقدة لسانه فعلاً، وعاد يبين.
وعند الجماهير الساذجة الغافلة لابد أن يكون فرعون الذي له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته، خيراً من موسى عليه السلام ومعه كلمة الحق ومقام النبوة ودعوة النجاة من العذاب الأليم!
{فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب}..
هكذا. من ذلك العرض التافه الرخيص! أسورة من ذهب تصدق رسالة رسول! أسورة من ذهب تساوي أكثر من الآيات المعجزة التي أيد الله بها رسوله الكريم! أم لعله كان يقصد من إلقاء أسورة الذهب تتويجه بالملك، إذ كانت هذه عادتهم، فيكون الرسول ذا ملك وذا سلطان؟
{أو جاء معه الملائكة مقترنين}..
وهو اعتراض آخر له بريق خادع كذلك من جانب آخر، تؤخذ به الجماهير، وترى أنه اعتراض وجيه! وهو اعتراض مكرور، ووجه به أكثر من رسول!
{فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين}..
واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول:
{فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين}..
ثم انتهت مرحلة الابتداء والإنذار والتبصير؛ وعلم الله أن القوم لا يؤمنون؛ وعمت الفتنة فأطاعت الجماهير فرعون الطاغية المتباهي في خيلاء، وعشت عن الآيات البينات والنور؛ فحقت كلمة الله وتحقق النذير:
{فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين}.

.سورة الدخان:

.تفسير الآيات (1- 59):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
يشبه إيقاع هذه السورة المكية، بفواصلها القصيرة، وقافيتها المتقاربة، وصورها العنيفة، وظلالها الموحية.. يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة.
ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تشد إليه خيوطها جميعاً. سواء في ذلك القصة، ومشهد القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة. فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة، كما يبثها هذا القرآن في القلوب.
وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم، رحمة من الله بالعباد وإنذاراً لهم وتحذيراً. ثم تعريف للناس بربهم: رب السماوات والأرض وما بينهما، وإثبات لوحدانيته وهو المحيي المميت رب الأولين والآخرين.
ثم يضرب عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم: {بل هم في شك يلعبون}! ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم}.. ودعاءهم بكشف العذاب عنهم وهو يوم يأتي لا يكشف. وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد، وهو الآن عنهم مكشوف، فلينتهزوا الفرصة، قبل أن يعودوا إلى ربهم، فيكون ذلك العذاب المخوف: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}..
ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام؛ ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم، وناداهم: {أن أدوا إليَّ عباد الله إني لكم رسول أمين وألا تعلوا على الله}.. فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول. ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}..
وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة، وقولهم: {إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} ليذكرهم بمصرع قوم تبع، وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم.
ويربط بين البعث، وحكمة الله في خلق السماوات والأرض، {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون}..