فصل: تفسير الآيات (46- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (46- 69):

{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}
هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت. وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين. ومحور السورة كما أسلفنا هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء.. وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين؛ وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء. سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام. وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها.
وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب، وإقامة الصلاة لذكر الله، ومراقبة الله العليم بما يصنعون.
وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله. ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فبدلوا في كتابهم، وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها. فهي حق من عند الله مصدق لما معهم.
ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم، يخاطبهم به، ويحدثهم بكلام الله. ولم يكن يتلو من قبله كتاباً ولا يخطه بيمينه، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه!
ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة؛ يحضهم على الهجرة بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده. يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب؛ فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير.
وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله سبحانه يخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض الموات؛ وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين.. ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به.
ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق. وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة. ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين.
وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله، يريدون أن يخلصوا إليه، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق، وكثرة المعوقين.
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}..
إن دعوة الله التي حملها نوح عليه السلام والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو رد البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلها أمة واحدة، تعبد إلهاً واحداً. وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله. وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن. أو تبادل أو تجارة. ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان. ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان.
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر.. {إلا الذين ظلموا منهم} فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة. فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة.
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين. فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفاً كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه. فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله.
وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات.
{وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}..
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع، والجدل والنقاش. وكلهم يؤمنون بإله واحد، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم، وهو في صميمه واحد، والمنهج الإلهي متصل الحلقات.
{وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون}..
كذلك. على النهج الواحد المتصل. وعلى السنة الواحدة التي لا تتبدل. وعلى الطريقة التي يوحي بها الله لرسله {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب}.. فوقف الناس بإزائه في صفين: صف يؤمن به من أهل الكتاب ومن قريش، وصف يجحده ويكفر به مع إيمان أهل الكتاب وشهادتهم بصدقه، وتصديقه لما بين أيديهم.. {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون}.. فهذه الآيات من الوضوح والاستقامة بحيث لا ينكرها إلا الذي يغطي روحه عنها ويسترها، فلا يراها ولا يتملاها! والكفر هو التغطية والحجاب في أصل معناه اللغوي، وهو ملحوظ في مثل هذا التعبير.
{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون}..
وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بينهم فترة طويلة من حياته، لا يقرأ ولا يكتب؛ ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين. ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئاً كاتباً. فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم؟
ونقول: إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها. فحتى على فرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارئاً كاتباً، ما جاز لهم أن يرتابوا. فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر. فهو أكبر جداً من طاقة البشر ومعرفة البشر، وآفاق البشر. والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون. وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة، وبأن في عباراته سلطاناً، لا يصدران عن بشر!
{بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون}..
فهو دلائل واضحة في صدور الذين وهبهم الله العلم، لا لبس فيها ولا غموض، ولا شبهة فيها ولا ارتياب. دلائل يجدونها بينة في صدورهم، تطمئن إليها قلوبهم، فلا تطلب عليها دليلاً وهي الدليل. والعلم الذي يستحق هذا الاسم، وهو الذي تجده الصدور في قرارتها، مستقراً فيها، منبعثاً منها؛ يكشف لها الطريق، ويصلها بالخيط الواصل إلى هناك! {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون}.. الذين لا يعدلون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور، والذين يتجاوزون الحق والصراط المستقيم.
{وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين}.
يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية. والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها. بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه، والذي تتفتح كنوزه لجميع الأجيال؛ والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها، وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب!
{قل إنما الآيات عند الله}.. يظهرها عند الحاجة إليها، وفق تقديره وتدبيره. وليس لي أن أقترح على الله شيئاً. ليس هذا من شأني ولا من أدبي {وإنما أنا نذير مبين}. أنذر وأحذر وأكشف وأبين؛ فأؤدي ما كلفته. ولله الأمر بعد ذلك والتدبير.
إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة. وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار. فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار. ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية، حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات. ونشأت عنها الانحرافات.
وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن:
{أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}..
وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير. أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن؟ وهو يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم؛ ويشعرهم أن عين الله عليهم؛ وأنه معنيٌّ بهم حتى ليحدثهم بأمرهم. ويقص عليهم القصص ويعلمهم. وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير. وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم.. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله. والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم. ثم هم لا يكتفون!
{إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}..
فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل؛ ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير. وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور.
فأما الذين لا يشعرون بهذا كله، فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن! هؤلاء المطموسون الذين لا تتفتح قلوبهم للنور. هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم؛ وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله!
{قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}.
وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة. وهو الذي يعلم أنهم على الباطل:
{والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}..
الخاسرون على الإطلاق. الخاسرون لكل شيء. الخاسرون للدنيا والآخرة. الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور.
إن الإيمان بالله كسب. كسب في ذاته. والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله. إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الأحداث؛ وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة. وإن هذا في ذاته لهو الكسب؛ وهو هو الذي يخسره الكافرون. و{أولئك هم الخاسرون}..
ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين. عن استعجالهم بالعذاب. وجهنم منهم قريب:
{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون}..
ولقد كان المشركون يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين؛ فيستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم بالعذاب على سبيل التحدي. وكثيراً ما يكون إمهال الله استدراجاً للظالمين ليزدادوا عتواً وفساداً. أو امتحاناً للمؤمنين ليزدادوا إيماناً وثباتاً؛ وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات. أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيراً من أولئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى. أو استخراجاً لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين.. أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور..
ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئاً من حكمة الله وتدبيره، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي.. {ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب}.. وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه. مجيئه في حينه. ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه. وحيث يبهتون له ويفاجأون به: {وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون}..
ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر. وصدق الله. ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله. ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم؛ كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية. لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام؛ وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلاً بعد جيل، إلى أمد طويل. وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله.