فصل: سورة القصص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهذه هي الرحمة في أشمل صورها ومعانيها..
وبعد هذه اللمحة إلى فضل الله على القوم بهذا القرآن الذي يفصل بين بني إسرائيل في اختلافاتهم ويقود المؤمنين به إلى الهدى ويسبغ عليهم الرحمة.. يقرر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ربه سيفصل فيما بينه وبين قومه، ويحكم بينهم حكمه الذي لا مرد له. حكمه القوي المبني على العلم اليقين:
{فتوكل على الله إنك على الحق المبين}..
وقد جعل الله انتصار الحق سنة كونية كخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار. سنة لا تتخلف.. قد تبطئ. تبطئ لحكمة يعلمها الله، وتتحقق بها غايات يقدرها الله. ولكن السنة ماضية. وعد الله لا يخلف الله وعده. ولا يتم الإيمان إلا باعتقاد صدقه وانتظار تحققه. ولوعد الله أجل لا يستقدم عنه ولا يستأخر.
ويمضي في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد وإصرارهم على الكفر بعد الجهد الشاق في النصح والبيان، وبعد مخاطبتهم بهذا القرآن.. يمضي في تسليته والتسرية عنه من هذا كله؛ فهو لم يقصر في دعوته. ولكنه إنما يسمع أحياء القلوب الذين تعي آذانهم فتتحرك قلوبهم، فيقبلون على الناصح الأمين. فأما الذين ماتت قلوبهم، وعميت أبصارهم عن دلائل الهدى والإيمان، فما له فيهم حيلة، وليس له إلى قلوبهم سبيل؛ ولا ضير عليه في ضلالهم وشرودهم الطويل:
{إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}..
والتعبير القرآني البديع يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة. حالة جمود القلب، وخمود الروح، وبلادة الحس، وهمود الشعور. فيخرجهم مرة في صورة الموتى، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو، وهم لا يسمعون الدعاء، لأن الموتى لا يشعرون! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي، لأنهم لا يسمعون! ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم؛ لا يرون الهادي لأنهم لا يبصرون! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة، فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور!
وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون. فهم الأحياء، وهم السامعون، وهم المبصرون.
{إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}..
إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله، بالحياة والسمع والبصر. وآية الحياة الشعور. وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور. والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم. وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يسمعهم، فيدلهم على آيات الله، فيستسلمون لتوهم ولحظتهم {فهم مسلمون}.
إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة؛ فما يكاد القلب السليم يعرفه، حتى يستسلم له، فلا يشاق فيه.
وهكذا يصور القرآن تلك القلوب، القابلة للهدى، المستعدة للاستماع، التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله، فتؤمن لها وتستجيب.
بعد ذلك يجول بهم جولة أخرى في أشراط الساعة، وبعض مشاهدها، قبل الإيقاع الأخير الذي يختم به السورة.. جولة يذكر فيها ظهور الدابة التي تكلم الناس الذين كانوا لا يؤمنون بآيات الله الكونية. ويرسم مشهداً للحشر والتبكيت للمكذبين بالآيات وهم واجمون صامتون. ويعود بهم من هذا المشهد إلى آيتي الليل والنهار المعروضتين للأبصار وهم عنها غافلون. ثم يرتد بهم ثانية إلى مشهد الفزع يوم ينفخ في الصور، ويوم تسير الجبال وتمر مر السحاب؛ ويعرض عليهم مشهد المحسنين آمنين من ذلك الفزع، والمسيئين كبت وجوههم في النار:
{وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}. {ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون}.
{ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
{ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}..
وقد ورد ذكر خروج الدابة المذكورة هنا في أحاديث كثيرة بعضها صحيح؛ وليس في هذا الصحيح وصف للدابة. إنما جاء وصفها في روايات لم تبلغ حد الصحة. لذلك نضرب صفحاً عن أوصافها، فما يعني شيئاً أن يكون طولها ستين ذراعاً، وأن تكون ذات زغب وريش وحافر، وأن يكون لها لحية! وأن يكون رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل. وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير... إلخ هذه الأوصاف التي افتن فيها المفسرون!
وحسبنا أن نقف عند النص القرآني والحديث الصحيح الذي يفيد أن خروج الدابة من علامات الساعة، وأنه إذا انتهى الأجل الذي تنفع فيه التوبة؛ وحق القول على الباقين فلم تقبل منهم توبة بعد ذلك؛ وإنما يقضى عليهم بما هم عليه.. عندئذ يخرج الله لهم دابة تكلمهم. والدواب لا تتكلم، أولا يفهم عنها الناس. ولكنهم اليوم يفهمون، ويعلمون أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة. وقد كانوا لا يؤمنون بآيات الله، ولا يصدقون باليوم الموعود.
ومما يلاحظ أن المشاهد في سورة النمل مشاهد حوار وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه السلام. فجاء ذكر الدابة وتكليمها الناس متناسقاً مع مشاهد السورة وجوها، محققاً لتناسق التصوير في القرآن، وتوحيد الجزئيات التي يتألف منها المشهد العام.
ويعبر السياق من هذه العلامة الدالة على اقتراب الساعة، إلى مشهد الحشر!
{ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون}..
والناس كلهم يحشرون. إنما شاء أن يبرز موقف المكذبين {فهم يوزعون} يساقون أولهم على آخرهم، حيث لا إرادة لهم ولا وجهة لا اختيار.
{حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أم ماذا كنتم تعملون}.
والسؤال الأول للتخجيل والتأنيب. فمعروف أنهم كذبوا بآيات الله. أما السؤال الثاني فملؤه التهكم، وله في لغة التخاطب نظائر: أكذبتم؟ أم كنتم تعملون ماذا؟ فما لكم عمل ظاهر يقال: إنكم قضيتم حياتكم فيه، إلا هذا التكذيب المستنكر الذي ما كان ينبغي أن يكون.. ومثل هذا السؤال لا يكون عليه جواب إلا الصمت والوجوم، كأنما وقع على المسؤول ما يلجم لسانه ويكبت جنانه:
{ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون}..
وحق عليهم القضاء بسبب ظلمهم في الدنيا، وهم واجمون صامتون! ذلك على حين نطقت الدابة قبيل ذلك. وها هم الناس لا ينطقون! وذلك من بدائع التقابل في التعبير القرآني، وفي آيات الله التي يعبر عنها هذا القرآن.
ونسق العرض في هذه الجولة ذو طابع خاص، هو المزاوجة بين مشاهد الدنيا ومشاهد الآخرة، والانتقال من هذه إلى تلك في اللحظة المناسبة للتأثر والاعتبار.
وهو هنا ينتقل من مشهد المكذبين بآيات الله، المبهوتين في ساحة الحشر إلى مشهد من مشاهد الدنيا، كان جديراً أن يوقظ وجدانهم، يدعوهم إلى التدبر في نظام الكون وظواهره، ويلقي في روعهم أن هناك إلهاً يرعاهم، ويهيء لهم أسباب الحياة والراحة، ويخلق الكون مناسباً لحياتهم لا مقاوماً لها ولا حرباً عليها ولا معارضاً لوجودها أو استمرارها:
{ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
ومشهد الليل الساكن، ومشهد النهار المبصر، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجداناً دينياً يجنح إلى الاتصال بالله، الذي يقلب الليل والنهار، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان، ولكنهم لا يؤمنون.
ولو لم يكن هناك ليل فكان الدهر كله نهاراً لانعدمت الحياة على وجه الأرض؛ وكذلك لو كان الدهر كله ليلاً. لا بل إنه لو كان النهار أو الليل أطول مما هما الآن عشر مرات فقط لحرقت الشمس في النهار كل نبات، ولتجمد في الليل كل نبات. وعندئذ تستحيل الحياة. ففي الليل والنهار بحالتهما الموافقة للحياة آيات.
ولكنهم لا يؤمنون.
ومن آيتي الليل والنهار في الأرض، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله. ما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار؛ وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير، ومن عقاب بالفزع والكب في النار:
{ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}..
والصور البوق ينفخ فيه. وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أن يأمن ويستقر.. قيل هم الشهداء.. وفيها يصعق كل حي في السماوات والأرض إلا من شاء الله.
ثم تكون نفخة البعث. ثم نفخة الحشر. وفي هذه يحشر الجميع: {وكل أتوه داخرين} أذلاء مستسلمين.
ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك، وتضطرب دورتها. ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره. ومشهد الجبال هكذا يتناسق مع ظل الفزع، ويتجلى الفزع فيه؛ وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين، مفزوعة مع المفزوعين، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار!
{صنع الله الذي أتقن كل شيء}.
سبحانه! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود. فلا فلتة ولا مصادفة، ولا ثغرة ولا نقص، ولا تفاوت ولا نسيان. ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب. في الصغير والكبير، والجليل والحقير. فكل شيء بتدبير وتقدير، يدير الرؤوس التي تتابعه وتتملاه.
{إنه خبير بما تفعلون}..
وهذا يوم الحساب عما تفعلون. قدره الله الذي أتقن كل شيء. وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر؛ ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير؛ وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين، {صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون}.
في هذا اليوم المفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدينا، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر:
{من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون}.
والأمن من هذا الفزع هو وحده جزاء. وما بعده فضل من الله ومنة. ولقد خافوا الله في الدنيا فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة.

.سورة القصص: