فصل: تفسير الآيات رقم (155- 155)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

جعل طاعة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- مفتاحَ الوصول إلى مقامات النبيين والصيديقين والشهداء على الوجه الذي يصحُّ للأُمة وكفى له عليه السلام بذلك شرفاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ‏}‏‏:‏ جرَّد عليهم محلّهم عن كل علة واستحقاق وسبب؛ فإن ما لاح لهم وأصابهم صرفُ فضله وابتداء كرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

الفرار إلى الله من صفات القاصدين، والفرار مع الله من صفات الواصلين؛ فلا يجد القرار مع الله إلا من صدق في الفرار إلى الله‏.‏ والفرارُ من كل غَيْرٍ شأنُ كل مُوَحِّد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِئَنَّ‏}‏ الآية‏:‏ أي لم تستقر عقائدهم على وصفٍ واحد، فكانوا مرتبطين بالحظوظ؛ فإذا رأوا مكروهاً يظِلُّ المسلمين شكروا وقالوا‏:‏ الحمد لله الذي حفظنا من متابعتهم فكان يصيبنا ما أصابهم، وإن كانت لكم نعمة وخير سكنوا إليكم، وتمنوا أن لو كانوا معكم، خسروا في الدنيا والآخرة‏:‏ فَهُمْ لا كافرٌ قبيحٌ ولا مؤمنٌ مخلصٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كََأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏‏:‏ يعني طرحوا حشمة الحياة فلم يراعوا حرمتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

مَن لم يَقْتُلْ نَفْسَه في نَفْسِه لا يصحُّ جهادُه بنفسِه؛ فأولا ‏(‏إخراج خطر الروح‏)‏ من القلب ثم تسليم النفس للقتل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ يعني بقاؤنا بعده خيرٌ له من حياته بنفسه لنفسه، قال قائلهم‏:‏

ألست لي عِوَضاً مني‏؟‏ كفى شَرَفاً *** فما وراءك لي قصدٌ ومطلوب

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

أي شيء يمنعكم عن القتال في سبيل الله‏؟‏ وما الذي لا يُرَغِّبُكُم في بذل المهجة لله‏؟‏ وماذا عليكم لو بذلتم أرواحكم في الله ولله‏؟‏ أتخافون أن تخسِرُوا على الله‏؟‏ أم لا تعلمون أنكم تُحشَرُونَ إلى الله‏؟‏ فلم لا تكتفون ببقائه بعد فنائكم في الله‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

المخلصَون لله لا يؤثِرُون شيئاً على الله، ولا يضنون بشيء عن الله، فهم أبداً على نفوسهم لأجل الله، والذين كفروا على العكس من أحوال المؤمنين‏.‏ ثم قوَّاهم وشجعهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي لا تُضْمِرُوا لهم مخافة، فإني متوليكم وكافيكم على أعدائكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏‏.‏

أخْرِجُوا أيديَكُمْ عن أمورِكم، وكِلُوها إلى معبودكم‏.‏

ويقال اقصروها عن أخذ الحرام والتصرف فيه‏.‏

ويقال امْتَنِعُوا عن الشهوات‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ‏}‏ إلا عن رَفْعِها إلى الله في السؤال بوصف الابتهال‏.‏

فلمَّا كتب عليهم القتال استثقلوا أمره، واستعجلوا لطفه‏.‏ والعبودية في تَرْكِ الاستثقال، ونفي الاستعجال، والتباعد عن التبرم والاستثقال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاُ‏}‏‏.‏

مَكَّنَكَ من الدنيا ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ‏}‏ فلم يَعُدَّها شيئاً لك ثم لو تَصَدَّقْتَ منها بِشقِّ تمرةٍ لتَخَلَّصْتَ من النار، وحظيت بالجنة، وهذا غاية الكرم‏.‏

واستقلالُ الكثير من نفسك- لأجل حبيبك- أقوى أمارات صُحْبتك‏.‏

ويقال لما زَهَّدَهم في الدنيا قلَّلَها في أعينهم ليهون ‏(‏عليها‏)‏ تركها‏.‏

ويقال قل متاعُ الدنيا بجملتها قليلٌ، والذي هو نصيبك منها أقلُّ من القليل، فمتى يناقشك لأجلها ‏(‏بالتخليل‏)‏، ولو سَلِم عهدك من التبديل‏؟‏

وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخَسُّ من الخسيس مَنْ رَضِيَ بالخسيس بدلاً عن النفيس‏.‏

وقد اخْتَلَعَ المؤمن من الكون بالتدريج‏.‏ فقال أولاً‏:‏ ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ‏}‏ ‏(‏فاحفظهم‏)‏ عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله‏:‏ ‏{‏وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 73‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

الموت فرح للمؤمن، فالخبرُ عن قرْبه بِشارةٌ له، لأنه سببٌ يوصله إلى الحق، ومن أحبَّ لقاء الله أحبَّ اللهُ لقاءه‏.‏

ويقال إذا كان الموت لا بد منه فالاستسلام لحكمه طوعاً خيرٌ من أن يحمل كرهاً‏.‏

ثم أخبر أنهم- لضَعْفِ بصائرهم ومرض عقائدهم- إذا أصابتهم حَسَنَةٌ فَرِحُوا بها، وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئة لم يهتدوا إلى الله فجرى فيهم العرْقُ المجوسي فأضافوه إلى المخلوق، فَرَدَّ عليهم وقال‏:‏ قل لهم يا محمد كلُّ من عند الله خلقاً وإبداعاً، وإنشاء واختراعاً، وتقديراً وتيسيراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

ما أصابك من حسنة فمن الله فضلاً، وما أصابك من سسيئة فمن نفسك كسباً وكلاهما من الله سبحانه خَلْقاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

هذه الآية تشير إلى الجَمْع لحال الرسول- صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه طاعته طاعتنا، فمن تقرَّبَ منه تقرَّبَ منا، ومقبولُه مقبولُنا، ومردودُه مردودنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

يعني إذا حضروك استسلموا في مشاهدتك، فإذا خرجوا انقطع عنهم نور إقبالك، فعادوا إلى ظلمات، كما قالوا‏:‏

إذا ارعوى عاد إلى جهله *** كذي الضنى عاد إلى نكسه

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

تدبرُ إشارة المعاني بغوص الأفكار، واستخراجُ جواهر المعاني بدقائق الاستنباط‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ‏}‏‏:‏ لمَّا كانوا غافلين عن الحق لم يكن لهم من ينقل إليه أسرارهم فأظهروا السرَّ بعضُهم لبعض‏.‏ فأمَّا المؤمنون فعالِمُ أسرارهم مولاهم، وما يسنح لهم خَاطَبُوه فيه فلم يحتاجوا إلى إذاعة السِّر لمخلوق؛ فسامِعُ نجواهم الله، وعالِم خطابهم الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ‏}‏ أي لو بَثوا أسرارهم عند من هو ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ومَنْ هو من أهل القصد لأزالوا عنهم الإشكال، وأمدوهم بنور الهداية والإرشاد‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ‏}‏ مع أوليائه لهاموا في كل وادٍ من التفرقة كأشكالهم في الوقت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

اسْتَقِمْ معنا بتسليم الكُلِّ مِنْكَ إلى أمرنا؛ فإنَّك- كما لا يقارنُكَ أحَدٌ في رتبتك لعلوِّك على الكل- فنحن لا نكلِّف غيرك بمثل ما تكلفت، ولا نُحَمِّل غيرك ما تحملت لانفرادك عن أشكالك في القدوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

الشفيع يخلِّص للمشفوع له حاله‏.‏ ويستوجب الشفيعُ- من الله سبحانه على شفاعته- عظيمَ الرتبة، ومَنْ سعى في أمرنا بالفساد تحمَّل الوِزْرَ واحتقب الإثم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

تعليم لهم حُسْنَ العِشْرة وآداب الصحبة‏.‏ وإن من حمَّلَكَ فَضلاً صار ذلك- في ذمتك- له قرضاً، فإمَّا زِدْتَ على فِعله وإلاَّ فلا تنقص عن مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

هذا الخطاب يتضمن نفياً وإثباتاً؛ فالنفي يعود إلى الأغيار ويستحيل لغيره ما نفاه، والإثبات له بالإلهية ويستحيل له النفي فيما أثبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ العهد فيهم أنهم أعدائي، لا ينالون مِنِّي في الدنيا والعقبى رضائي، وإنكم لا تُنْقِذون بهممكم من أقمته بقسمتي فإن المدار على القُسَم دون ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

الإشارة إلى أرباب التخليط والأحوال السقيمة يتمنون أن يكون الصديقون منهم، وهيهات أن يكون لمناهم تحقيق‏!‏ وما دام المخالفون لكم غير موافقين فبائنوهم وخالفوهم ولا تطابقوهم بحال، ولا تعاشروهم، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً؛ وموافِقٌ لك في قصدِك خيرٌ لك من مخالفٍ على الكره تعاشره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ‏}‏ الإشارة من هذه الآية أن عند الأعذار أذِن في معاشرة في الظاهر رفقاً بالمستضعفين‏.‏

‏{‏فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ‏}‏ الإشارة منه أنه إذا عاشركم من ليس من أهل القصة معرجين في أوطان نصيبهم فلا تدعوهم إلى طريقتكم وسلِّموا لهم أحوالهم‏.‏ فإن أمكنكم أن تلاحظوهم بعين الرحمة بحيث تؤثر فيهم همتكم وإلا فسلِّموا لهم أحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

إن من رام الجمع بين الضدين خاب سعيُه، ولم يرتفع عزمُه، فكما لا يكون شخص واحد منافقاً وملسماً لا يكون شخص واحد مريداً للحق ومقيماً على أحكام أهل العادة‏.‏ فإن الإرادة والعادة ضدان، والواجب مباينة الأضداد، ومجانبة الأجانب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

خفَّف أمْرَ الخطأ على فاعله حتى حَمَّل موجب قتل الخطأ على العاقلة؛ فالخواص عاقلة المستضعفين من الأمة، وأهل المعرفة عاقلة المريدين، والشيوخ عاقلة الفقراء؛ فسبيلُهم أن يحْمِلوا أثقال المستضعفين فيما ينوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

كما يُحرَّم قتلُ غيرك يحرَّمُ قتلُ نفسك عليك، ومن اتَّبعَ هواه سعى في دَمِ نفسه، ومن لم ينصح مريداً بحسنِ وعظِه ولم يُعِنْه بهمته فقد سعى في دمِه، وهو مأخوذ بحاله وخليق بأن تكون له عقوبة الأذية بألا يتمتع بما ضنّ به على المريدين من أحواله‏:‏ ولقد قال- سبحانه-‏:‏ يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له ‏(‏خادماً‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

عَاشِرُوا الناسَ على ما يُظْهِرُون من أحوالهم، ولا تَتَفَرَّسوا فيهم بالبطلان؛ فإنَّ مُتَوَلِّيَ الأسرار الله‏.‏ هذا إذا كان غرضٌ فاسدٌ يحملكم عليه من أحكام النَفْس، فأمَّا من كان نظرُه بالله ولم يَنْسَتِرْ عليه شيءٌ فَلْيَحْفَظْ سِرَّ الله فيما كوشِفَ به، ولا يظهر لصاحبه ما أراد الله فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

الحقُّ سبحانه جمع جميع أوليائه في أفضاله لكنه غَايَرَ بينهم في الدرجات، فَمِنْ غنيٍّ ومن عبدٍ هو أغنى منه، ومِنْ كبيرٍ ومن هو أكبر منه، هذه الكواكب دُرِّية ولكن القمرَ فوقها، وإذا طلعت الشمسُ بهرت الجميع بنورها‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

الإشارة منه إلى من أدركه الأجلُ وهو في أسْر نَفْسه وفي رِقِّ شهواته- ليس له عذر حيث لم يهاجر إلى ظِلِّ قُربته ليتخلَّصَ مِنْ هوى نفسِه إذ لا حجابَ بينك وبين هذا الحديث إلا هواك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

الإشارة منه إلى الذين مَلَكَتْهُم المعاني فأفنتهم عنهم، فَبَقُوا مُصَرَّفِين له، لا لهم حَوْلٌ ولا قوة، يبدو عليهم ما يُجْرِيه- سبحانه- عليهم، فهم بعد عود نفوسهم بحق الحقّ محوٌ عنهم، فلا يهتدون إلى غيره سبيلاً، ولا يتنفَّسون لغيره نَفَساً‏.‏

ويقال على موجب ظاهر الآية إن الذين أقعدتهم الأعذار عن الاختيار فعسى أن يتفضَّل الحقُّ- سبحانه- عليهم بالعفو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

مَنْ هَاجَرَ في الله عما سوى الله، وصحح قَصَده إلى الله وَجَدَ فسحة في عقوة الكَرَم، ومقيلاً في ذرى القبول، وحياة وَسَعةً في كنف القرب‏.‏

والمهاجر- في الحقيقة- من هجر نَفْسَه وهواه، ولا يصحُّ ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته، ومَنْ قَصَدَه ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محطُّ روحه إلا أوطان قربه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

القَصْرُ في الصلاة سُنَّةٌ في السفر، وكان في ابتداء الشرع عند الخوف، فأقرَّ ذلك مع زوال الخوف رفقاً بالعباد، فلما دخل الفرضَ القَصرُ لأجل السفر عوضوا بإباحة النَّفل في السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي؛ ليُعْلَم أنَّ الإذنَ في المناجاة مستديمٌ في كل وقت؛ فإن أردْتَ الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصاً فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سُنَّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

تدل هذه الآية على أن الصلاة لا ترتفع عن العبد ما دام فيه نَفَسٌ من الاختيار لا في الخوف ولا في الأمن، ولا عند غلبات أحكام الشرع إذا كنت بوصف التفرقة، ولا عند استيلاء سلطان الحققة إذا كنتَ بعين الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

الوظائف الظاهرة مُوَقته وحضور القلب بالذكر مسرمد غير منقطع؛ أمَّا بالرسوم فوقتاً دون وقت، وأمَّا بالقلوب فإياكم والغيبة عن الحقيقة لحظة كيفما اختلفت بكم الأحوال‏.‏‏.‏ الذكرُ كيفما كنتم وكما كنتم، وأما الصلاةُ فإذا اطمأننتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوموا بالله وليكن استنادكم في جهادكم إلى الله‏.‏

‏{‏إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ‏}‏‏:‏ القومُ شاركوكم في إحساس الألم، ولكن خالفوكم في شهود القلب، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون، فلا ينبغي أن تستأخروا عنهم في الجد والجهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

لم يأمرُك بالحكم بينهم على عمًى ولكن بما أراك الله أي كاشفك به من أنوار البصيرة حتى وقفت عليه بتعريفنا إياك وتسديدنا لك، وكذلك من يحكم بالحق من أمتك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا‏}‏‏:‏ أي لا تناضِل عن أرباب الحظوظ ولكن مع أبناء الحقوق، ومن جنح إلى الهوى خان فيما أودع نفسه من التقوى، ومَنْ رَكَنَ إلى أنواع نوازع المنى خان فيما طولب به من الحياء لاطلاع المولى‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللهَ‏}‏ لأمتك؛ فإنا قد كفيناك حديثك بقولنا‏:‏ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

هم المؤثرون حظوظهم على حقوقه، والراضون بالتعريج في أوطان هواهم دون النقلة إلى منازل الرضا، إن الله لا يحب أهل الخيانة فيذلهم- لا جَرَم- ولا يكرمهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ الغالب على قلوبهم رؤية الخلق ولا يشعرون أنَّ الحق مُطَّلِعٌ على قلوبهم أولئك الذين وَسَمَ الله قلوبهم بوسم الفرقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

أي ندفع عنهم- بحرمتك- لأنك فيهم، فكيف حالهم يوم القيامة إذ زالت عنهم بركاتكم أيها المؤمنون‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

«ثم»‏:‏ حرفٌ يدل على التراخي؛ أي يزجون عمرهم في البطالات والمخالفات ثم في آخر أعمارهم يستغفرون الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَجِدِ اللهَ‏}‏‏:‏ الوجود غاية الحديث، والعاصي لا يطلب غير الغفران، ولكن الله- سبحانه يوصله إلى النهاية بفضله- إذا شاء، فسُنَّتُه تحقيق ما فوق المأمول لمن رجاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

الحَقُّ غنيٌّ عن طاعة المطيعين، وزلة العاصين، فمن أطاع فحظُّه حَصَّلَ، ومن عصى فحظه أخذ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏‏}‏

من نسب إلى بريء ما هو صفته من المخازي عكس الله عليه الحال، وألبس ذلك البريء ثواب محاسن راميه، وسحب ذيل العفو على مساويه، وقَلَبَ الحال على المتعدِّي بما يفضحه بين أشكاله، في عامة أحواله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

الفضلُ إحسانٌ غيرُ مستحق، والإشارة ههنا- من الفضل- إلى عصمته إياه، فالحقُّ- سبحانه- عَصَمَه تخصيصاً له بتلك العصمة، وكما عصمه عن تَرْكِ حقه- سبحانه- عصمته بأن كفَّ عنه كيد خلقه فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ الآية‏.‏

كلاَّ، لن يكونَ لأحدٍ سبيلُ إلى إضلالك فأنت في قبضة العزة، وما يُضِلُّونَ إلا أنفسهم، وما يضرونك بشيء، إذ المحفوظ منا محروس عن كل غير، وإنَّ الله سبحانه قد اختصك بإنزال الكتاب، واستخلصك بوجوه الاختصاص والإيجاب، وعلَّمك ما لم تكن تعلم، ولم يمن عليك بشيءٍ بمثل ما مَنَّ به على من خصَّه به من العلم‏.‏ ويحتمل أنه أراد به علمه- صلى الله عليه وسلم- بالله وبجلاله، وعلمه بعبودية نَفْسه، ومقدار حاله في استحقاق عِزِّه وجماله‏.‏

ويقال علَّمك ما لم تكن تعلم من آداب الخدمة إذ لم تكن ملتبساً عليك معرفة الحقيقة‏.‏

ويقال أغناك عن تعليم الأغيار حتى لا يكون لأحدٍ نور إلا مُقْتَبَساً مِنْ نورِك، ومَنْ لم يمشِ تحت رايتك لا يصل غلى جميع برِّنا، ولا يحظى بقربنا وَوصْلنا‏.‏

‏{‏وَكَان فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏‏:‏ في الآباد؛ أنَّكَ كنت- لنا بشرف العز وكرم الربوبية في الآزال- معلوماً‏.‏ ويقال وعلَّمك ما لم تكن تعلم من عُلُوِّ رُتْبَتِكَ على الكافة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ‏}‏ أنَّ أحَداً لا يُقَدِّرُ قَدْرَنا إلا بمقدار مُوافَقَتِه لأمْرِنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبَه إلى غيره؛ ففضيلة الصَدَقَة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه، والفُتُوةُ أن يكون سعيك لغيرك، ففي الخبر‏:‏ «شَرُّ الناسِ مَنْ أكَلَ وَحْدَه» وكلُّ أصناف الإحسان ينطبق عليها لفظ الصدقة‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم في قَصْرِ الصلاة في السفر‏:‏ «هذه صدقة تصدَّقها الله عليكم فاقبلوا صَدَقَته»‏.‏

والصدقة على أقسام‏:‏ صدقتك على نفسك، وصدقتك على غيرك؛ فأمَّا صدقتك ‏(‏على نفسك فَحْملُها على أداء حقوقه تعالى، ومَنْعُها عن مخالفة أمره، وقصرُ يدها عن أذية الخَلْق وصَوْنُ خواطرها وعقائدها عن السوء‏.‏ وأمَّا صدقتك‏)‏ على الغير فَصَدقةٌ بالمال وصدقة بالقلب وصدقة بالبدن‏.‏

فصدقة بالمال بإنفاق النعمة، وصدقة بالبدن بالقيام بالخدمة، وصدقة بالقلب بحسن النية وتوكيد الهمة‏.‏

والصدقة على الفقراء ظاهرة لا إشكالَ فيها، أمَّا الصدقة على الأغنياء فتكون بأن تجود عليهم بهم، فتقطع رجاءك عنهم فلا تطمع فيهم‏.‏

وأمّا المعروف‏:‏ فكلُّ حَسَنٍ في الشرع فهو معروف، ومن ذلك إنجاد المسلمين وإسعادهم فيما لهم فيه قربة إلى الله، وزلفى عنده، وإعلاء النواصي بالطاعة‏.‏

ومن تصدَّق بنفسه على طاعة ربه، وتصدَّقَ بقلبه على الرضا بحكمه، ولم يخرج بالانتقام لنفسه، وحثَّ الناس على ما فيه نجاتهم بالهداية إلى ربه، وأصلح بين الناس بِصِدْقه في حاله- فإنَّ لسان فعله أبلغ في الوعظ من لسان نطقه، فهو الصِّدِيق في وقته‏.‏ ومن لم يؤدِّبْ نَفْسَه لم يتأدبْ به غيرُه، وكذلك من لم يهذِّب حالَه لم يتهذَّبْ به غيره‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ‏}‏ غيرَ سائلٍ به مالاً أو حائزٍ لنفسه به حالاً فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة في طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود في هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

خواطر الحق سفراؤه تعالى إلى العبد، فمن خَالَفَ إشارات ما طولب به مِنْ طريق الباطن استوجب عقوبات القلوب، ومنها أنْ يَعْمَى عن إبصار رشده‏.‏ وكما أن مخالفَ الإجماع عن الدين خارجٌ فمخالِفُ ما عرف من الحقيقة بعد ما تبين له الطريق- ساقط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 119‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏‏:‏ إثبات الغير في توهم ذرة من الإبداع عين الشِرْك، فلا للعفو فيه مساغ‏.‏ وما دون الشرك فللعفو فيه مساغ، ومن توسَّل إليه سبحانه بما توهَّم من نفسه فقد أشرك من حيث لم يعلم‏.‏ كلاّ، بل هو الله الواحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا‏}‏‏:‏ أوقعوا على الجماداتِ تسمياتٍ، وانخرطوا في سلك التوهم، وركنوا إلى مغاليط الحسبان، فَضَلُّوا عن الحقيقة‏.‏

‏{‏وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللهُ‏}‏، أي ما يدعون إلا إبليس الذي أبعده الحقُّ عن رحمته، وأسحقه بِبُعده، وما إبليس غلا مُقَلَّبٌ في القبضة على ما يريده المنشئ، ولو كان به ذرة من الإثبات لكان به شريكاً في الإلهية‏.‏ كلاَّ، إنما يُجرِي الحقُّ- سبحانه- على الخلْقِ أحوالاً، ويخلق عقيب وساوسه للخلق ضلالاً، فهو الهادي والمُضِل، وهو- سبحانه- المُصَرِّفُ للكل، فيخلق ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في قلوبهم عُقَيْبَ وساوسه إليهم طول الآمال، ويُحَسِّن في أعينهم قبيح الأعمال، ثم لا يجعل لأمانيِّهم تحقيقاً، ولا يعقب لما أمَّلُوه تصديقاً، فهو تعالى مُوجِد تلك الآثار جملةً، ويضيفها إلى الشيطان مرةً، وإلى الكافر مرة، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ‏}‏ *** الآية ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 121‏]‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏‏}‏

الذين قسم لهم الضلالة في الحال حكم عليهم بالعقوبة في المآل، ولولا أنه أظهر ما أظهر بقدرته وإلا متى كانت شظية من الضلالة والهداية لأربابها‏؟‏‏!‏ والوقوفُ على صدق التوحيد عزيزٌ، وأربابُ التوحيد قليلٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

الذين أسعدناهم حكماً وقَوْلاً، أنجدناهم حين أوجدناهم كرماً وطَوْلاً، ثم إنَّا نُحقِّق لهم الموعودَ من الثواب، بما نُكْرِمُهم به من حسن المآب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 124‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏‏}‏

مَنْ زَرَعَ الحنظل لم يجتْنِ الورد والعبهر، ومن شرب السُّمَّ الزَّعاف لم يجد طعم العسل، كذلك مَنْ ضيَّعَ حقَّ الخدمة لم يستمكِنْ على بساط القربة، وَمَنْ وُسِمَ بالشِّقوة لم يُرْزَقْ الصفوة، ومَنْ نَفَتْه القضية فلا ناصرَ له من البَريَّة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ الآية‏.‏ مَنْ تَعَنَّي في خدمتنا لم يبق عن نَيْلِ نعمتنا، بل من أغنيناه في طلبنا أكرمناه بوجودنا، بل من جرَّعْنَاه كأسَ اشتياقنا أنلناه أُنْسَ لقائنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 126‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

لا أحدَ أحسنُ ديناً ممن أسلم وجهه لله؛ يعني أفرد قصده إلى الله، وأخلص عقده لله عما سوى الله، ثم استسلم في عموم أحواله لله بالله، ولم يدَّخِرْ شيئاً عن الله؛ لا من ماله ولا من جَسَدِه، ولا من روحه ولا من جَلَدِه، ولا من أهله ولا من وَلَدِه، وكذلك كان حال إبراهيم عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏‏:‏ الإحسان- بشهادة الشرع- أن تعبد الله كأنك تراه، ولا بد للعبد من بقية من عين الفرق حتى يصحّ قيامه بحقوقه- سبحانه- لأنه إذا حصل مستوفيّ بالحقيقة لم يصح إسلامه ولا إحسانه، وهذا اتِّباع إبراهيم عليه السلام الحنيف الذي لم يبق منه شيء على وصف الدوام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏‏:‏ جرَّد الحديث عن كل سعي وكدٍ وطلبٍ وجهدٍ حيث قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ فعُلِمَ أَنَّ الخلَّة لُبسةٌ يُلبِسها الحقُّ لا صفةٌ يكتسبها العبد‏.‏

ويقال الخليل المحتاج بالكلية إلى الحق في كل نَفَسٍ ليس له شيء منه بل هو بالله لله في جميع أنفاسه وأحواله، اشتقاقاً من الخُلَّة التي هي الخَصَاصة وهي الحاجة‏.‏

ويقال إنه من الخلة التي هي المحبة، والخلة أن تباشِر المحبةُ جميع أجزائه، وتتخلل سِرَّه حتى لا يكون فيه مساغ للغير‏.‏

فلمَّا صفَّاه الله- سبحانه- ‏(‏عليه السلام‏)‏ عنه، وأخلاه منه نَصَبَه للقيام بحقه بعد امتحائه عن كل شيء ليس لله سبحانه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ لا يلبي الحاج إلا لله، وهذه إشارة إلى جمع الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

نهاهم عن الطمع الذي يحملهم على الحيف والظلم على المستضعفين من النِّسْوان واليتامى، وبَيَّنَ أنَّ المنتقِمَ به لهم الله، فَمَنْ راقب الله فيهم لم يخسر على الله بل يجد جميل الجزاء، ومن تجاسر عليهم قاسى لذلك أليمَ البلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏‏}‏

صحبة الخلق بعضهم مع بعض إن تجردت عن حديث الحق فإنها تتعرض للوحشة والملامة، وممازجة النفرة والسامة‏.‏ فمَنْ أعرض عن الله بقلبه أعرض الخلْقُ عن مراعاة حقه، وخرج الكافة عليه باستصغار أمره واستحقار قَدْرِه‏.‏ ومَنْ رجع إلى الله بقلبه، استوى له- في الجملة والتفصيل- أمرُه، واتسع لاحتمال ما يستقبل من سوء خُلُقِ الخَلْق صدرُه فهو يسحب ذيلَ العفو على هَنَاتِ جميعهم، ويُؤثِرُ الصلح بترك نصيبه وتسليم نصيبهم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏‏.‏

واتضاعك في نفسك عن منافرة مَنْ يخاصمك أجدى عليك، وأحرى لك من تطاولك على خصمك باغياً الانتقام، وشهودِ مَالَكَ في مزية المقام‏.‏ وأكثر المنافقين في أسْرِ هذه المحنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ‏}‏‏:‏ وشُحُّ النَفْس قيام العبد بحظِّه‏.‏

فلا محالة مَنْ حُجِبَ عن شهود الحق رُدَّ إلى شهود النَّفْس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُحْسِنُوا‏}‏‏:‏ يعني يكن ذلك خيراً لكم‏.‏ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏.‏

‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏‏:‏ يعني عن رؤيتكم مقامَ أنفسكم، وشهود قَدْرِكم، يعني وأنْ تروا ربَّكم، وتفنوا برؤيته عن رؤية قدْرِكم‏.‏

‏{‏إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ يعني إذا فنيتم عنكم وعن عملكم، فكفى بالله عليماً بعد فنائكم، وكفى به موجداً عقب امتحائكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏‏}‏

يعني أنْكم إذا ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في أموركم انعكس الحال عليكم، وانعكس صلاح ذات بينكم فساداً لكم، فإذا قمتم بالله في أموركم استوى العيشُ لكم، وصفا عن الكدر وقتكم‏.‏

ويقال مَنْ حَكَم الله بنقصان عقله في حاله فلا تقتدرون أن تجبروا نقصانهم بكفايتُكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ‏}‏‏:‏ يعني لا تزيغوا عن نهج الأمر‏.‏

قِفوا حيثما وُقْفتم، وأنفذوا فيما أُمِرْتُم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ‏}‏ يعني أنكم إذا منعتموهن عن صحبة أغياركم ثم قطعتم عنهن ما هو حظوظهن منكم أضررتم بهن من الوجهين؛ لا منكم نصيب، ولا إلى غيركم سبيل، وإن هذا الحيف عظيم‏.‏ والإشارة من هذا أنه إذا انسد عليك طريق حظوظك فَتَحَ- سبحانه- عليك شهود حقه، ووجود لطفه؛ فإنَّ من كان في الله تلَفُه فالحق- سبحانه- خَلَفُه، وإنْ تُصْلِحوا ما بينكم وبين الخَلْق، وتثقوا فيما بينكم وبين الحق فإن الله غفور لعيوبكم، رحيم بالعفو عن ذنوبكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏

الصحبة التي لا بُدَّ منها صحبةُ القلب مع دوام افتقارٍ إلى الله؛ إذ الحقُّ لا بُدَّ منه‏.‏ فأمَّا الأغيار فلا حاجة لبعضهم إلى بعض إلا من حيث الظاهر، وذلك في ظنون أصحاب التفرقة، فأمَّا أهل التحقيق فلا تحرية لهم أن حاجة الخلق بجملتها إلى الله سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏‏}‏

كلَّف الكافة بالرجوع إليه، ومجانبة مَنْ سِواه، والوقوف على أمره، ولكن فريقاً وُفِّق وَفَرِيقًا خُذِل‏.‏ ثم عَرَّفَ أهلَ التحقيق أنه غَنِيٌّ عن طاعة كلِّ وليِّ، وبريء عن زلة كل غويٍّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏‏}‏

قَطَعَ الأسرار عن التَّعلُّق بالأغيار بأن عرَّفهم انفراده بمُلْكِ ما في السموات والأرض، ثم أطمعهم في حسن تولِّيه، وقيامه بما يحتاجون إليه بجميل اللطف وحسن الكفاية بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً‏}‏ يصلح يملك حالك ولا يختزل مالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏‏}‏

من استغنى عنه في آزاله فلا حاجة له إليه في آباده‏.‏ ويقال لا يحتاج إلى أحدٍ والعبد لا يستغني عنه في نَفَسٍ‏.‏

ويقال لا نهاية للمقدورات فإن لم يكن عمرو فَزَيْدٌ، وإن لم يكن عبدٌ فعبيد، والذي لا بَدَلَ عنه ولا خَلَفَ فهو الواحد أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

لمَّا علَّقوا قلوبهم بالعاجل من الدنيا ذكَّرهم حديث الآخرة، فقال‏:‏ ‏{‏فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ تعريفاً لهم أنَّ فوق هممهم من هذه الخسيسة ما هو أعلى منها من نعيم الآخرة، فلمَّا سَمَتْ إلى الآخرة قصودُهم قطعهم عن كل مرسوم ومخلوق بقوله‏:‏ ‏{‏وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 73‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏‏}‏

القسط العدل، والقيام بالله العدل بإيفاء حقوقه من نفسك، واستيفاء حقوقه مِنْ كلِّ مَنْ هو لَكَ عليه أمر، وإلى تحصيل ذلك الحق سبيل إمَّا أمر بمعروف أو زجر عن مكروه أو وعظ بنصح أو إرشاد إلى شرع أو هداية إلى حق‏.‏

ومَنْ بقي لله عليه حق لم يباشر خلاصة التحقيق سره لله‏.‏

وأصل الدِّين إيثار حق الحق على حق الخلق، فمن آثر على الله- سبحانه أحداً إمَّا والداً أو أُمّاً أو وَلَداً أو قريباً أو نسيباً، أو ادَّخر عنه نصيباً فهو بمعزل عن القيام بالقسط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏

يا أيها الذين آمنوا من حيث البرهان آمِنوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث الكشف والعيان‏.‏

ويقال يا أيها الذين آمنوا تصديقاً آمنوا تحقيقاً بأن نجاتكم بفضله لا بإيمانكم‏.‏

ويقال يا أيها الذين آمنوا في الحال آمنوا باستدامة الإيمان إلى المآل‏.‏

ويقال يا أيها الذين آمنوا وراء كل وصل وفصل ووجد وفقد‏.‏

ويقال يا أيها الذين آمنوا باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا أنختم بعقوة الوصول، واستمكنت منكم حيرة البديهة وغلبات الذهول ثم أفقتم عن تلك الغيبة فآمنوا أن الذي كان غالباً عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات فإن الصمدية منزهة متقدسة عن كل قرب وبعد، ووصل وفصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 138‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏‏}‏

الذين تبدَّلَتْ بهم الأحوال فقاموا وسقطوا ثم انتعضوا ثم ختم بالسوء أحوالهم، أولئك الذين قصمتهم سطوة العزة حكماً، وأدركتهم شقاوة القسمة خاتمة وحالاً- فالحقُّ سبحانه لا يهديهم لقصد، ولا يدلهم على رشد، فبَشِّرْهم بالفُرْقة الأبدية، وأخبرهم بالعقوبة السرمدية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 140‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏‏}‏

من اعتصم بمخلوقٍ فقد التجأ إلى غير مُجير، واستند إلى غير كهفٍ، وسقط في مهواة من الغلط بعيد قعرها، شديد مكرها‏.‏ أيبتغون العِزَّ عند الذي أصابه ذلّ التكوين‏؟‏‏!‏ متى يكون له عزٌّ على التحقيق‏؟‏ ومَنْ لا عزَّ له يلزمه فكيف يكون له عز يتعدَّى إلى غيره‏؟‏

ويقال لا ندري أي حالتهم أقبح‏:‏ طلب العز وهم في ذل القهر وأسر القبضة أم حسبان ذلك وتوهمه من غير الله‏؟‏

ويقال مَنْ طَلَبَ الشيء من غير وجهه فالإخفاق غاية جهده، ومن رام الغنى في مواطن الفاقة فالإملاق قصارى كدِّه‏.‏

ويقال لو هُدُوا بوجدان العِزِّ لما صُرِفَتْ قُصُودُهم إلى من ليس بيده شيء من الأمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا‏}‏ العزُّ على قسمين‏:‏ عزٌّ قديمٌ فهو لله وصفاً، وعزٌّ حادثٌ يختص به سبحانه من يشاء فهو له- تعالى- مِلْكاً ومنه لطفاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكِتَابِ‏}‏ الآية‏:‏ لا تجاوروا أرباب الوحشة فإن ظلماتِ أنفسِهم تتعدى إلى قلوبكم عند استنشاقكم ما يَرُدُّون من أنفاسهم، فمن كان بوصفٍ ما متحققاً شاركه حاضروه فيه؛ فجليسُ مَنْ هو في أُنْسٍ مستأنِسِ، وجليسُ من هو في ظلمةٍ مستوحِش‏.‏

ويقال هجرانُ أعداء الحقِّ فرضٌ، ومخالفة الأضداد ومفارقتهم دين، والركون إلى أصحاب الغفلة قَرْعُ بابِ الفرقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ‏}‏‏:‏ أوضحُ برهانٍ على سريرة ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ صحبة من يقارنه وعِشْرة مَنْ يخادنه؛ فالشكل مقيد بشكله، والفرعُ منتشِرٌ عن أصله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏

لمّا عَدِمُوا الإخلاص في الحقيقة، وما ذقوا فيما استشعروا من العقيدة، امتازوا عن المسلمين في الحُكْم، وباينوا الكافرين في الاسم، وواجبٌ على أهل الحقِّ التحرُّزُ عنهم والتحفُّظ منهم، ثم ضمن لهم- سبحانه- جميلَ الكفاية بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً‏}‏ وهذا على العموم؛ فإن وبال كيدهم إليهم مصروف، وجزاء مَكْرِهم عليهم موقوف، والحقُّ- من قِبَلِ الحقِّ سبحانه- منصورٌ أهلُه، والباطلُ- بنصر الحقِّ سبحانه- مُجْتثٌ أصلُه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏‏}‏

خداع المنافقين‏:‏ إظهار الوفاق في الطريقة واستشعار الشِرْك في العقيدة‏.‏

وخداع الحق إياهم‏:‏ ما توهموه من الخلاص، وحكموا به لأنفسهم من استحقاق الاختصاص، فإذا كُشِفَ الغطاء أيقنوا أن الذي ظنُّوه شراباً كان سراباً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا‏}‏ الآية‏:‏ علامة النفاق وجود النشاط عند شهود الخلق، وفتور العزم عند فوات رؤية الخلق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ الآية‏:‏ أخَسُّ الخَلْقِ من يَدَعُ صدار العبودية، ولم يجد سبيلاً إلى حقيقة الحرية، فلا بد له من العز شظية، ولا في الغفلة عيشة هنية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏‏}‏

كرَّر عليهم الوعظ، وأكَّد بمباينة الأعداء عليهم الأمر، إبلاغاً في الإنذار، وتغليظاً في الزجر، وإلزاماً للحجة ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ موضع العذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا‏}‏‏:‏ تَوَعَّدَهم على موالاتهم للكفار بما لم يتوعَّد على غيره من المخالفات، لما فيه من إيثار الغير على المعبود؛ وإيثارُ الغير على المحبوب من أعظم الكبائر في أحكام الوداد‏.‏ فإذا شَغَلَ من قلبه محلاً- كان للمؤمنين- بالأغيار استوجب ذلك العقوبة فكيف إذا شغل محلاً من قلبه- هو للحق- بالغير‏؟‏‏!‏

والعقوبة التي تَوَعَّدَهم بها أنْ يَكِلهَم وما اختاروه من موالاة الكفار، وبئس البدل‏!‏

كذلك مَنْ بقي عن الحق تركه مع الخَلْق؛ فيتضاعف عليه البلاءُ للبقاء عن الحق والبقاء مع الخلق، وكلاهما شديدٌ مِنَ العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏‏}‏

دلَّت الآية على أنَّ المنافق ليس بمُسْتأمنٍ لأنَّ الإيمان ما يوجب الأمان، فالمؤمن يتخلَّص بإيمانه من النار، فما يكون سبب وقوعه في الدرك الأسفل من النار لا يكون إيماناً، ويقال هذا تحقيق قوله‏:‏ ‏{‏وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54، والأنفال‏:‏ 30‏]‏ أي مَكْرُه فوق كل مَكْرٍ‏.‏ لمَّا أظهر المنافق ما هو مكر مع المؤمنين كانت عقوبتهم أشد من عقوبة من جاهر بكفره‏.‏

ويقال نقلهم في آجلهم إلى أشد ما هم عليه في عاجلهم، لِمَا في الخبر‏:‏ «من كان بحالةٍ لقي الله بها» فالمنافق- اليومَ- في الدرك- الأسفل من الحجر- فكذلك ينقلون إلى الدرك الأسفل من النار‏.‏ والدرك الأسفل من الحجر- اليوم- لهم ما عليهم من اسم الإيمان وليس لهم من الله شظية وهذا هو البلاء الأكبر‏.‏

ويقال استوجبوا الدرك الأسفل من النار لأنهم صحبوا اليوم اسم الله الأعظم لا على طريقة الحرمة‏.‏ ويقال استوجبوا ذلك لأنهم أساءوا الأدب في حال حضورهم بألسنتهم، وسوءُ الأدبِ يوجِبُ الطردَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏‏}‏

لم يشترط كل هذه الشرائط في رجوع أحدٍ عن جُرْمِه ما اشترط في رجوع المنافقين عن نفاقهم لصعوبة حالهم في كفرهم‏.‏ وبعد تحصيلهم هذه الشروط قال لهم‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ‏}‏ ولم يقل من المؤمنين، وفي هذا إشارة أيضاً إلى نقصان رتبتهم وإن تداركوا بإخلاصهم ما سبق من آفتهم، وفي معناه أنشدوا‏:‏

والعُذر مبسوطٌ ولكنما *** شتان بين العذر والشكر

ويقال إن حرف ‏(‏مع‏)‏ للمصاحبة، فإذا كانوا مع المؤمنين استوجبوا ما يستوجب جماعة المؤمنين، فالتوبة ههنا أي رجعوا عن نفاقهم، وأصلحوا- بصدقهم في إيمانهم، واعتصموا بالله بالتبرؤ من حولهم وقوتهم، وشاهدوا المِنَّة لله عليهم حيث هداهم، وعن نفاقهم نجَّاهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ‏}‏‏:‏ ونجاتهم بفضل ربهم لا بإيمانهم في الحال، ورجوعهم عن نفاقهم فيما مضى عليهم من الأحوال‏.‏

ويقال أخلصوا دينهم لله وهو دوام الاستعانة بالله في أن يثبتهم على الإيمان، ويعصمهم عن الرجوع إلى ما كانوا عليه من النفاق‏.‏

ويُقال‏:‏ تابوا عن النفاق، وأصلحوا بالإخلاص في الاعتقاد، واعتصموا بالله باستدعاء التوفيق وأخلصوا دينهم لله في أن نجاتهم بفضل الله ولطفه لا بإتيانهم بهذه الأشياء- في التحقيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏

هذه الآية من الآيات التي توجب حُسْنَ الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين‏:‏ الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان؛ فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوَّن السبيل على العبد حين رضي منه بقالته وحالته‏.‏ والشكر لا يصح إلا من المؤمنين فأمَّا الكافر فلا يصح منه الشكر؛ لأن الشكر طاعته والطاعة لا تصح من غير المؤمن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَآمَنتُمْ‏}‏ يعني في المآل؛ فكأنه بيَّن ان النجاة إنما تكون لمن كانت عاقبته على الإيمان، فمعنى الآية لا يعذبكم الله عذاب التخليد، إن شكرتم في الحال وآمنتم في المآل‏.‏

ويقال‏:‏ إن شكرتم وآمنتم صدقتم بأن نجاتكم بالله لا بشكركم وبإيمانكم‏.‏

ويقال الشكر شهود النعمة من الله والإيمان رؤية الله في النعمة، فكأنه قال‏:‏ إن شاهدتم النعمة من الله فلا يقطعنَّكم شهودها عن شهود المُنْعِم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا‏}‏ أي والله شاكر عليم، ومعنى كونه شاكراً أنه مادِحٌ للعبد ومُشْهِدٌ عليه فيما يفعله لأن حقيقة الشكر وحَدَّه الثناء على المُحْسِن بذكر إحسانه؛ فالعبد يشكر الله أي يثني عليه بذكر إحسانه إليه الذي هو نعمته عليه، والربُّ يشكر للعبد أن يثني عليه بذكر إحسانه الذي هو طاعته له، فإن الله يثني عليه بما يفعله من الطاعة مع علمه بأن له ذنوباً كثيرة‏.‏

ويقال يشكره- وإنْ عِلِمَ أنه سيرجع في المستأنف إلى قبيح أعماله‏.‏

ويقال يشكره لأنه يعلم ضعفه، ويقال يشكره لأنه يعلم أنه لا يعصي وقَصْدُه مخالفةُ ربِّه ولكنه يُذْنِبُ لاستيلاء أحوال البشرية عليه من شهوات غالبة‏.‏

ويقال يشكره لأن العبد يعلم في حالة ذنوبه أنه له ربّاً يغفر له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏‏}‏

قول المظلوم في ظالمه- على وجه الإذن له- ليس بسوءٍ في الحقيقة، لكنه يصح وقوع لفظة السوء عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاؤاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ والجزاء ليس بسيئة‏.‏

ويقال مَنْ عَلِمَ أن مولاه يسمع استحيا من النطق بكثيرٍ مما تدعو نفسه إليه‏.‏

ويقال الجهر بالسوء هو ما تسمعه نفسك منك فيما تُحدِّثُ في نفسك من مساءة الخلق؛ فإن الخواص يحاسبون على ما يتحدثون في أنفسهم بما ‏(‏يعد‏)‏ لا يُطالَب به كثيرٌ من العوام فيما يَسمعُ منهم الناس‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ مَن ظُلِمَ‏}‏‏:‏ قيل ولا من ظُلِمَ‏.‏ وقيل معناه ولكن مَنْ ظُلِمَ فله أنْ يذكرَ ظالمَه بالسوء‏.‏

ويقال من لم يُؤثِرْ مدحَ الحقِّ على القَدْحِ في الخَلْق فهو المغبون في الحال‏.‏

ويقال من طَالَعَ الخلْقَ بعين الإضافة إلى الحق بأنهم عبيد الله لم يبسط فيهم لسان اللوم؛ يقول الرجل لصاحبه‏:‏ «أنا أحْتَمِل من ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ خدمتك لك ما لا أحتمله من ولدي»، فإذا كان مثل هذا معهوداً بين الخلق فالعبد بمراعاة هذا الأدب- بينه وبين مولاه- أوْلى‏.‏

ويقال لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من العوام، ولا يحب ذلك بخطوره من الخواص‏.‏

ويقال الجهر بالسوء من القول من العوام أن يقول في صفة الله ما لم يَرِدْ به الإذن والتوفيق‏.‏

والجهر بالسوء من القول في صفة الخَلْق أن تقول ما ورد الشرع بالمنع منه، وتقول في صفة الحق ما لا يتصف به فإنك تكون فيه كاذباً، وفي صفة الخلق عن الخواص ما اتصفوا به من النقصان- وإن كنت فيه صادقاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا‏}‏‏:‏ سميعاً لأقوالكم، عليماً بعيوبكم، يعني لا تقولوا للأغيار ما تعلمون أنكم بمثابتهم‏.‏

ويقال سميعاً لأقوالكم عليماً ببراءةِ ساحةِ مَنْ تَقَوَّلْتُم عليه، فيكون فيه تهديد للقائل- لبرئ الساحة- بما يتقوَّلُ عليه‏.‏

ويقال سميعاً‏:‏ أيها الظالم، عليمًا‏:‏ أيها المظلوم؛ تهديدٌ لهؤلاء وتبشيرٌ لهؤلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تُبْدُوا خَيْرًا‏}‏ تخلقاً بآداب الشريعة، وتخفوه تحققاً بأحكام الحقيقة‏.‏

‏{‏أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ‏}‏ أخذاً من الله ما ندبكم إليه من محاسن الخُلُق‏.‏

‏{‏فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا‏}‏ لعيوبكم ‏{‏قَدِيرًا‏}‏ على تحصيل محبوبكم وتحقيق مطلوبكم‏.‏

ويقال إن تبدوا خيراً لتكونوا للناس قدوة فيما تُسِنُّون وما تعينون غيركم على ما يُهَدْون به من سلوك سُنَّتكم، وإن تخفوه اكفاءً بعلمه، وصيانة لنفوسكم عن آفات التصنَّع، وثقةً بأن من تعملون له يرى ذلك ويعلمه منكم، وإن تعفوا عن سوءٍ أي تتركوا ما تدعوكم إليه نفوسكم فالله يجازيكم بعفوه على ما تفعلون، وهو قادر على أن يبتليكم بما ابتلى به الظالم، فيكون تحذيراً لهم من أن يغفلوا عن شهود المنَّة، وتنبيهاً على أن يستعيذوا أن يُسلَبوا العصمة، وأنْ يُخْذَلُوا حتى يقعوا في الفتنة والمحنة‏.‏

ويقال إنْ تبدوا خيراً فتحسنوا إلى الناس، أو تخفوه بأن تدعوا لهم في السرِّ، أو تعفوا عن سوءٍ إنْ ظُلِمْتم‏.‏

ويقال من أحسن إليك فأبْدِ معه خيراً جهراً، ومن كفاك شرَّه فأخلِصْ بالولاء والدعاء له سِرَّاً، ومن أساء إليك فاعفُ عنه كرمًا وفضلاً؛ تجِدْ من الله عفوَه عنك عما ارتكبت، فإن ذنوبَك أكثرُ، وهو قادرٌ على أنْ يُعطيَك من الفضل والإنعام ما لا تصل إليه بالانتصاف من خصمك، وما تجده بالانتقام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 151‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏‏}‏

أخبر عنهم أنهم أضافوا إلى قبيح كفرهم ما عُدَّ من ذميم فعلهم، ثم بَيَّنَ أنه ضاعف من عذابهم ما كان جزاء جرمهم، لِتَعْلَمَ أنه لأهل الفساد بالمرصاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏‏}‏

لما أمنوا بجميع الرسل، وصَدَقُوا في جميع ما أُمِروا به استوجبوا القبول وحسن الجزاء‏.‏ وتقاصر الإيمان عن بعض الأعيان كتقاصره عن بعض الأزمان، فكما أنه لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر ما له- كذلك لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع من أُمِرَ بالإيمان به؛ إذ جعل ذلك شرط تحقيقه وكماله‏.‏ فالإشارة في هذا أن من لم يخرج عن عهدة الإلزام بالكلية فليس له من حقيقة الوصل شظية، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحجُّ عرفة» فمن قطع المسافة- وإن كان من فج عميق- ثم بقي عن عرفات بأدنى بقية لم يُدْرِك الحج‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المكاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه درهم»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏‏}‏

اشتملت الآية على جنسين من قبيح ما فعلوه‏:‏ أحدهما سؤالهم الرؤية والثاني عبادة العجل بعدما ظهرت لهم الآيات الباهرة‏.‏

فأمّا سؤالهم الرؤية فَذُمُّوا عليه لأنهم اقترحوا عليه ذلك بعد ما قطع عذرهم بإقامة المعجزات، ثم طلبوا الرؤية لا على وجه التعليم، أو على موجب التصديق به، أو على ما تحملهم عليه شدة الاشتياق، وكل ذلك سوء أدب‏.‏

الإشارة فيه أيضاً أنْ مَنْ يكتفي بأن يكون العجلُ معبودَه- متى- يسلم له أن يكون الحقُّ مشهودَه‏؟‏

ويقال القومُ لم يباشِرْ العرفانُ أسرارَهم فلذلك عكفوا بعقولهم على ما يليق بهم من محدودٍ جوَّزوا أنْ يكون معبودَهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا‏}‏‏.‏

حجةً ظاهرةً، بل تفرداً صَانَه من التمثيل والتعطيل‏.‏

والسلطان المبين التحصيل والتنزيه المانع من التعطيل والتشبيه‏.‏

ويقال السلطان المبين القوة بسماع الخطاب من غير واسطة‏.‏

ويقال السلطان المبين لهذه الأمة غداً، وهو بقاؤهم في حال لقائهم- قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تضامون في رؤيته»- في خبر الرؤية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏‏}‏

ما زادهم في الظاهر آيةً إلا زادوا في قلوبهم جحداً ونُكْراً، فلم تنفعهم زيادة نصيب الإعلام؛ لمَّا لم تنفتح لشهودها بصائرُ قلوبهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنَّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 155‏]‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏‏}‏

معناه لارتكابهم هذه المناهي، ولاتصافهم بهذه المخازي، أحللناهم منازل الهوان، وأنزلنا بهم من العقوبة فنون الألوان‏.‏

ويقال لَحِقَهُمْ شؤم المخالفات حالة بعد حالة، لأن من عقوبات المعاصي الخذلان لغيرها من ارتكاب المناهي؛ فَبِنَقْضِهم الميثاق، ثم لم يتوبوا، جرَّهم إلى كفرهم بالآيات، ثم لشؤم كفرهم خذِلُوا حتى قتلوا أنبياءهم- عليهم السلام- بغير حقٍ، ثم لشؤم ذلك تجاسروا حتى ادَّعوا شدةَ التفَهُّم، وقالوا‏:‏ قلوبنا أوعية العلوم، فَرَدَّ الله عليهم وقال‏:‏ ‏{‏بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ‏}‏ فحَجَبَهُمْ عن محلِّ العرفان، فعمهوا في ضلالتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 158‏]‏

‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏‏}‏

مجاوزةُ الحدِّ ضلالٌ، كما أن النقصانَ والتقاصرَ عن الحقِّ ضلالٌ، فقومٌ تَقَوَّلُوا على مريم ورموها بالزنا، وآخرون جاوزوا الحدَّ في تعظيمها فقالوا‏:‏ ابنُها ابنُ الله، وكلا الطائفتين وقعوا في الضلال‏.‏

ويقال مريم- رضي الله عنها- كانت وليَّةَ الله، فَشَقِيَ بها فرقتان‏:‏ أهل الإفراط وأهل التفريط‏.‏ وكذلك كان أولياؤه- سبحانه- فمُنْكِرُهَم يَشْقَى بِتَرْكِ احترامهم، والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبونه يَشْقَوْن بالزيادة في إعظامهم، وعلى هذه الجملة دَرَجَ الأكثرون من الأكابر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ‏}‏ ‏{‏عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ قيل أوقع الله شَبَهَهُ على الساعي به فقُتِلَ وصُلِبَ مكانه، وقد قيل‏:‏ مَنْ حفر بئراً لأخيه وقع فيها‏.‏

وقيل إن عيسى عليه السلام قال‏:‏ مَنْ رَضِيَ بأن يُلْقَى عليه شَبَهِي فيُقتَل دوني فله الجنة، فرضي به بعضُ أصحابه، فيقال لمَّا صبر على مقاساة التلف لم يعدِم من الله الخلف، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ويقال لمَّا صَحَّتْ صحبةُ الرجل مع عيسى- عليه السلام- بِنَفْسِهِ صَحِبَه بروحه، فلمَّا رُفِعَ عيسى- عليه السلام- إلى محل الزلفة، رفع روح هذا الذي فداه بنفسه إلى محل القربة‏.‏