فصل: تفسير الآيات رقم (16- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السُّوءِ وَكُنتُمْ قَوْمَاً بُوراً‏}‏‏.‏

حسبتم أن لن يرجعَ الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى اهليهم أبداً، وزَيَّنتْ لكم الأماني ألا يعودوا، وأنَّ الله لن ينصرهم‏.‏ ‏{‏وَكُنتُمْ قَوْمَا بُوراً‏}‏ أي هالكين فاسدين‏.‏

ويقال‏:‏ إنَّ العدوَّ إذا لم يقدر أن يكيدَ بيده يتمنَّى ما تتقاصر عنه مُكنتُهُ، وتلك صفةُ كلِّ عاجز، ونعتُ كلّ لئيم، ثم إن الله- سبحانه- يعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ من العقوبات الشديدة التي يعاقِبُ اللَّهُ بها المُبْطِل أنْ يتصوَّرَ شيئاً يتمنَّاه يوطّن نَفَسْه عليه لفرط جَهْله‏.‏ ويُلقى الحقُّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسهُ أن ذلك كالكائن‏.‏‏.‏ ثم يعذبه الله بامتناعه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرينَ سَعِيراً‏}‏‏.‏

وما هوآتٍ فقريب *** وإنَّ الله ليرخي عنانَ الظَّلَمةِ ثم لا يفلتون من عقابه‏.‏ وكيف- وفي الحقيقة- ما يحصل منهم هو الذي يجريه عليهم‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏‏.‏

يغفرُ- وليس له شريك يقول له‏:‏ لا تفعل، ويعذّب من يشاء- وليس هناك مانعٌ عن فعله يقول له‏:‏ لا تفعل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انَطَلْقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا‏}‏‏.‏

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم اللَّهُ خيبرَ، وأنَّ فيها سيظفرُ بأعدائه، فلمَّا هَمَّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة، فقال النبي صلى الله عليه ويسلم‏:‏ «إنما يخرج معي إلى خيبر من خرج إلى الحديبية والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا»‏.‏

فقال المتخلفون‏:‏ إنما يقول المؤمنون ذلك حَسداً لنا؛ وليس هذا من قول الله‏!‏ فأنزل اللَّهُ تعالى ذلك لتكذيبهم، ولبيان حكمه ألا يستصحبَهم فهم أهل طمع، وكانت عاقبتُهم أنهم لم يجدوا مرادَهم ورُدُّوا بالمذلة وافتضح أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

جاء في التفاسير انهم أهلُ اليمامة أصحاب مسيلمة- وقد دعاهم أبو بكر وحاربهم، فالآية تدل على إمامته *** وقيل هم أهل فارس- دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم؛ فالآيةُ تدل عل صحة إمامته‏.‏ وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبي بكر‏.‏ ‏{‏أُوْلِى بَأسٍ شَدِيدٍ‏}‏ أولى شدَّة‏.‏ فإنْ أطعتُم استوجبتم الثواب، وإن تخلَّفْتم استحقَقْتُم العقاب‏.‏ ودلت الآيةُ على أن يجوز ان تكون للعبد بدايةٌ غيرُ مُرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح- كما كان لهؤلاء وأنشدوا‏:‏

إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه *** فَرِّج له عَوْدَ الصلاح‏.‏‏.‏ لعلَّه

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهّارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏‏.‏

وهؤلاء اصحاب الأعذار *** رفع عنهم الحَرَج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين‏.‏

وكذلك مَنْ كان لهُ عذرٌ في المجاهدة مع النفس‏.‏ «فإنَّ الله يحُبُّ أن تؤتى رُخصَهُ كما يحب أن تؤتى عزائمه»

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏19‏)‏ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنينَ إِذْ يُبَايِعُونكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏‏.‏

هذا بيعة الرضوان، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عِنِ *** الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

وكانوا ألفاً وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة‏.‏ وكانوا قصدوا دخولَ مكة، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادِّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجاً لحرب، فقصده المشركون، ثم صالحوه على أن ينصرفَ هذا العام، ويقيم بها ثلاثاً ثم يخرج، ‏(‏وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا‏)‏ وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشر بذلك أصحابه، فلما صدهم المشركون خامر قلوبَهم، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمةٌ حتى قال الصَّدِّيقُ‏:‏ لم يَقُلْ العام‏!‏ فسكنت قلوبهم بنزول الآية؛ لأن الله سبحانه علم في قلوبهم من الاضطراب والتشكك‏.‏ فأنزل السكينة في قلوبهم‏.‏ وثبَّتهم باليقين‏.‏ ‏{‏وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ هو فتحُ خيبر بعد مدة يسيرة، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرةٍ من خيبر‏.‏ وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة‏.‏

وفي الآية دليلٌ على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطرُ مُشكِّكة، وفي الرَّيب موقعة ولكن لا عبرة بها؛ فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً لازم التوحيدُ قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه فلا يضرُّه كيدُ الشيطان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّن الشَّيَطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏

‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ ويدخل في ذلك جميعُ ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجَّل لكم هذه- يعني خيبر، وقيل‏:‏ الحديبية‏.‏

‏{‏وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ‏}‏ لما خرجوا من المدينة حرسهم اللَّهُ، وحفظ عيالهم، وحمى بَيْضَتهم حين هبَّ اليهود في المدينة بعد خروج المسلمين، فمنعهم اللَّهُ عنهم‏.‏ أويقال‏:‏ كفَّ أيدي الناس من أهل الحديبية‏.‏

‏{‏وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً‏}‏‏.‏

لتكون هذه آيةٌ للمؤمنون وعلامةٌ يَسْتدلُّون بها على حراسة الله لهم‏.‏

‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً‏}‏‏:‏ في التوكل على الله والثقة به‏.‏

ويقال‏:‏ كفُّ أيدي الناس عن العبد هو أنْ يَرْزُقَه من حيث لا يحتسب، لئلا يحتاجَ إلى أن يتكفَّفَ الناس‏.‏

ويقال‏:‏ أنْ يَرْفَعَ عنه أيدي الظَّلَمة‏.‏

ويقال‏:‏ ألا تحمله المطالبةُ بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه؛ فيأخذ من الأشياء- برخصة التأويل- ما ليس بطيِّبٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيراً‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ فتح الروم وفارس‏.‏ وقيل‏:‏ فتح مكة‏.‏

وكان الله على كل شيءٍ قديراً‏:‏ فلا تُعلِّقوا بغيره قلوبكم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ خيبر وأسد وغطفان وغيرهم- لو قاتلوكم لانهزموا، ولا يجدون من دون الله ناصراً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً‏}‏‏.‏

أي سُنَّةُ اللَّهِ خذلانُهم ولن تَجد لسنة الله تحويلاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وََأيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏‏.‏

قيل إن سبعين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله ‏(‏فأخذناهم سِلْماً فاستحييناهم‏)‏ فأنزل اللَّهُ هذه الآيةَ في شآنهم‏.‏

وقيل أخذ اثنى عشر رجلاً من المشركين- بلا عَهْدٍ- فَمنَّ عليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين، وحصل ترامي الأحجار بينهم؛ فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، فأنزل اللَّهُ هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدي بعضهم عن بعض عن قدرة المسلمين، لا من عجزٍ؛ فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعْباً وخوفاً؛ وأمَّا المسلمون فَنَهياً مِنْ قِبَلِ الله، لما في أصلابهم من المؤمنين_ أراد الله أن يخرجوا، أو لِمَا عَلِمَ أن قوماً منهم يؤمنون‏.‏

والإشارة فيه‏:‏ أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يَسْلَم الناسُ منك، وتسلم منهم‏.‏ وإن الله يفعل بأولياءه ذلك، فلا من أَحد عليهم حَيف، ولا منهم على أحد حيفٌ ولا حسابٌ ولا مطالبة ولا صلحٌ ولا معاتبة، ولا صداقة ولا عداوة‏.‏ وكذا من كان بالحق- وأنشدوا‏:‏

فلم لي يبْقَ وقتٌ لِذكرِ مُخَالِفٍ *** ولم يبق لي قلبٌ لذكر موافق

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏‏.‏

‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ وحجدوا، ‏{‏وَصَدُّكُمْ‏}‏ ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية‏.‏

‏{‏وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً‏}‏‏:‏ أي منعوا الهَدْيَ أن يبلغَ مَنحرَه، فمعكوفاً حالٌ من الهدي أي محبوساً‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق تلك السَّنَة سبعين بَدَنَةٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدخِلَ اللّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ‏}‏‏.‏

لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرَّة منكم بغير علم لَسَّلْطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم‏.‏ وفي هذا تعريفٌ للعبد بأن أموراً قد تنغلق وتَتَعَسّر فيضيق قلب الإنسان‏.‏‏.‏ ولله في ذلك سِرُّ، ولا يعدم ما يجري من الأمر أن يكون خيراً للعبد وهو لا يدري *** كما قالوا‏:‏

كم مرة حفَّت بك المكاره *** خير لك اللَّهُ *** وأنت كاره

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمْيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِليَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أحقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيماً‏}‏‏.‏

يعني الأنفة؛ أي دَفَعْتهم أنفةُ الجاهليه أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سَنَةَ الحديبية، فأنزل اللَّهُ سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحِلْم‏.‏

‏{‏وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى‏}‏ وهي كلمة ُ التوحيد تَصْدُرُ عن قلبِ صادق‏:‏ فكلمةُ التقوى يكون معها الاتقاءُ من الشَّرْك‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا‏}‏ حسب سابق حُكْمِه وقديم علمه *** ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيماً‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ الإلزامُ في الآية هو إلزامُ إكرامٍ ولطف، لا الإلزام إكراهٍ وعُنْفٍ؛ وإلزامُ برِّ لا إلزام جبر‏.‏‏.‏‏.‏

وكم باسطين إلى وَصْلنا *** أكفهمو‏.‏‏.‏ لم ينالوا نصيبا‏!‏

ويقال كلمة التقوى‏:‏ التواصي بينهم بحفظ حق الله‏.‏

ويقال‏:‏ هي أن تكون لك حاجةٌ فتسأل الله ولا تُبديها للناس‏.‏

ويقال‏:‏ هي سؤالك من الله أن يحرُسَك من المطامع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدُخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏‏.‏

أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه؛ صدقه فيما أره من دخول مكة ‏{‏ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ‏}‏ كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأَخبر أصحابه‏.‏ فوطَّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة‏.‏ فلمَّا كان من امر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شيء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أَذن الله في العام القابل، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَّقَدَ صََدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ‏}‏ فكان ذلك تحقيقاً لما أراه، فرؤياه صلوات الله حق؛لأن رؤيا الأنبياء حق‏.‏

وكان في ذلك نوعُ امتحانٍ لهم‏:‏ ‏{‏فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ أنتم من الحكمة في التأخير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن شَآءَ اللَّهُ‏}‏ معناه إذا شاء الله كقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

وقيل قالها على جهة تنبيههم إلى التأدُّب بتقديم المشيئة في خطابهم‏.‏

وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى‏:‏ إن شاء الله آمنين أو غير آمنين‏.‏

وقيل‏:‏ يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلِّهم أو دخول بعضهم؛ فإنْ الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قومٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً‏}‏‏.‏

أرسل رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين؛ فما من دينٍ لقوم إلا ومنه في أيدي المسلمين سِرُّ؛ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات‏.‏ وقيل‏:‏ ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام‏.‏

وقيل‏:‏ في القيامة حيث يظهر الإسلامُ على كل الأديان‏.‏

وقيل‏:‏ ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَشِدَّآءُ‏}‏ جمع شديد، أي فيهم صلابةٌ مع الكفار‏.‏

‏{‏رُحَمَآءُ‏}‏ جمع رحيم، وصَفَهَم بالرحمة والتوادِّ فيما بينهم‏.‏

‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً‏}‏‏.‏

تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان‏.‏

‏{‏سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ‏}‏‏.‏

أي علامة التخشع التي على الصالحين‏.‏

ويقال‏:‏ هي في القيامة يوم تَبْيَضُّ وجوهٌ، وأنهم يكونون غداً محجلين‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كثرت صلاته بالليل حَسُنَ وجههُ بالنهار»

ويقال في التفسير‏:‏ «معه» أبو بكر، و‏{‏أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ‏}‏ عمر؛ و‏{‏رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ عثمان، و‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً‏}‏ عليُّ رضي الله عنهم‏.‏

وقيل‏:‏ الآيةُ عامةٌ في المؤمنين‏.‏

‏{‏ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَطَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏‏.‏

هذا مثلهم في التوراة، وأما مثلهم في الإنجيل فكزرع أخرج شطأه أي‏:‏ فراخه‏.‏

يقال‏:‏ أشطأ الزرعُ إذا أخرج صغاره على جوانبه‏.‏ ‏{‏فَئَازَرَهُ‏}‏ أي عاونه‏.‏

‏{‏فَاسْتَغْلَظَ‏}‏ أي غلظُ واستوى على سوقه؛ وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض‏.‏ يعجب هذا الزرعُ الزرَّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار؛ شَبَّهَ النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين‏.‏

فمَنْ حمل الآية على الصحابة‏:‏ فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال‏:‏ ‏{‏لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏ أي بأصحابه الكفارَ‏.‏ ومَنْ حمله على لمسلمين ففيه حُجَّة على الإجماع، لأنَّ من خالف الإجماع- فالله يغايظ به الكفارَ- فمخالفُ الإجماع كافرٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ وَعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجراً عظيماً في الجنه فقوله‏:‏ «منهم» للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان‏.‏

سورة الحجرات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إن الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ شهادةٌ للمنادَى بالشَّرف‏.‏

‏{‏لاَ تُقَدِّمُواْ‏}‏ أَمْرٌ بتحمُّل الكُلَف‏.‏ قدَّمَ الإكرام بالشرف على الإلزام بالكُلَف أي لا تقدموا بحكمكم ‏{‏بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏:‏ أي لاتقضوا أمراً من دون الله ورسوله أي لا تعملوا من ذات أنفسِكم شيئاً‏.‏

ويقال‏:‏ فقوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، وكنوا أصحابَ الاقتداءِ والاتّباع‏.‏‏.‏ لا أربابَ الابتداءِ والابتداع‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى وَلاَ تَجْهَرواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

أَمرَهم بحفضِ حرمته ومراعاةِ الأدب في خدمته وصحبته، وأَلاَّ ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم‏.‏ وأنه إذا كان بخُلُقهِ يُلاينُهم فينبغي ألا يتبسَّطوا معه مجاسرين، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به مِنْ تَخَلُّقِه عن حدودِهم زائدين‏.‏

ويقال‏:‏ لا تبدأوه بحديثٍ حتى يُفَاتِحَكم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفَرةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

هم الذين تقع السكينةُ عليهم من هيبة حضرته، أولئك هم الذين امتحن اللَّهُ قلوبَهم للتقوى بانتزاع حُبِّ الشهوات منها، فاتقوا سوءَ الأخلاقِ، وراعوا الأدبَ‏.‏

ويقال‏:‏ هم الذين انسلخوا من عادات البشرية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَاُدُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

أي لو عرفوا قَدْرَكَ لَمَا تركوا حُرْمَتَك، والتزموا هَيبَتَك‏.‏

ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيراً لهم‏.‏

أمَّا أصحابه- صلواتُ الله عليه وسلامه- الذين يعرفون قدْره فإنَّ احدهم- كما في الخبر‏:‏ «كانه يَقْرَعُ بابَه بالأظافر»

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوآ أَن تُصِيبواْ قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ‏}‏‏.‏

دلَّت الآية على تَرْكِ السكون إلى خَبَرِ الفاسق إلى أن يظهر صِدْقُه‏.‏

وفي الآية إشارة إلى تَركِ الاستماعِ إلى كلام الساعي والنَّمامِ والمغتابِ للناس‏.‏

والآيةُ تَدُلُّ على قبول خبرِ والواحدِ إذا كان عَدْلاً‏.‏

والفاسقُ هو الخارجُ عن الطاعة‏.‏ ويقال هو الخارج عن حدِّ المروءة‏.‏

ويقال‏:‏ هو الذي ألقى جِلبابَ الحياء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهُ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُؤلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏}‏‏.‏

أي لو وافقكم محمدٌ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في كثير مما تطلبون من لوقعتم في العَنَتِ- وهو الفساد‏.‏ ولو قَبِلَ قولَ واحدٍ ‏(‏قَبْلَ وضوحِ الأمر‏)‏ لأَصابتكم من ذلك شدة‏.‏

والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم يَرَ في ذلك مصلحة لكم وللدين‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ‏}‏‏:‏ الإسلام والطاعة والتوحد، وزيَّنَها في قلوبكم‏.‏

‏{‏وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ‏}‏‏:‏ هذا من تلوين الخطاب‏.‏

وفي الآية دليلٌ على صحة قول أهل الحقِّ في القَدَر، وتخصيص المؤمنين بألطافٍ لا يشترك فيها الكفارُ‏.‏ ولولا أنَّه يوفِّر الدواعي للطاعات لَحَصَلَ التفريط والتقصير في العبادات‏.‏

‏{‏فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً‏}‏‏:‏ أي فَعَلَ هذا بكم فضلاَ منه ورحمةً ‏{‏وَاللَّهُ عَليمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِئ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِِن فَآءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهِ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ‏}‏‏.‏

تدل الآية على أن المؤمن بفسقه- والفسق دون الكفر- لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين- لا محالة- فاسقة إذا اقتتلا‏.‏

وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم؛ حيث قال‏:‏ ‏{‏فَإِِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى‏}‏‏.‏

الإشارة فيه‏:‏ أن النفس إذا ظَلَمتْ القلب بدعائه إلى شهواتها، واشتغالها في فسادها فيجب أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة، فإن استجابت إلى الطاعة يُعْفَى عنها لأنها هي المطيَّةُ إلى باب الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ إيقاعُ الصلح بين المتخاصمين مِنْ أوْكَد عزائم الدِّين‏.‏

وإذا كان ذلك واجباً فإنه يدل على عِظَمِ وِزْرِ الواشي والنَّمام؛ والمصْدَرِ في إفساد ذات البَيْن‏.‏

‏(‏ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صِدْق هِمةِ عبدٍ في إصلاح ذات البيْن‏)‏ فإنه يرفع عنهم تلك العصبيَّة‏.‏

فأما شرط الأخوة‏:‏ فمِنْ حقِّ الأُخُوةِ في الدِّين إلا تُحُوِجَ أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك، وألا تُقصِّر في تَفَقُّدِ أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك‏.‏

ومن حقِّه ألا تُلْجِئَه إلى الاعتذار لك بل تبسط عُذْرَه؛ فإنْ أُشْكِل عليكَ وَجْهُه عُدْت باللائمة على نفسك في خفاء عُذْرِه عليك ومن حقه أنْ تتوبَ عنه إذا أذْنَبَ، وتَعودَه إذا مرض‏.‏ وإذا أشار عليك بشيءٍ فلا تُطَالِبْه بالدليل عليه وإبراز الحُجَّة- كما قالوا‏:‏

إذا اسْتَنْجِدُوا لم يسألوا مَنْ دعاهم *** لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأي مكان

ومِنْ حقِّه أَنْ تَحفَظَ عَهْدَه القديم، وأَنْ تُراعِيَ حقَّه في أهله المتصلين به في المشهد المغيب، وفي حال الحياة وبعد الممات- كما قيل‏:‏

وخليل إن لم يكن *** منصفاً كُنْتَ منصفا

تتحسَّى له الأمَرَّ *** يْن وكُنْ ملاطفا

إنْ يَقُل لكَ استوِ احترفْ *** ت رضًى لا تكلُّفا

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِنْ نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏

نهى اللَّهُ- سبحانه تعالى- عن ازدارءِ الناس، وعن الغَيْبَةِ، وعن الاستهانةِ بالحقوق، وعن تَرْكِ الاحترام‏.‏

‏{‏وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏:‏ أي لا يَعِيبَنَّ بعضُكم بعضاً، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ ما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلِّطَ عليه‏.‏ ولا ينبغي أن يُعْتَبَر بظاهر أحوال الناس فإنَّ في الزوايا خبايا‏.‏ والحقُّ يستر أولياءَه في حجابِ الضّعَة؛ وقد جاء في الخبر‏:‏

«رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤْبَهُ له لو أقسم على الله لأَبَرَّه»

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

النَّفْسُ لا تَصْدُقُ، والقلبُ لا يَكْذِبُ‏.‏ والتمييز بين النفس والقلب مُشْكِلٌ ومَنْ بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيَّةٌ- وإنْ قَلَّتْ- فليس له أن يَدعَّى بيانَ القلب بل هو بنفسه ما دام عليه شيءٌ من نَفْسِه، ويجب أن يَتَّهِمَ نَفْسَهُ في كل ما يقع له من نقصان غيره‏.‏‏.‏ هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يخطب‏.‏ «كلُّ الناس أفقهُ من عمر *** أمرأةٌ أفقهُ من عمر»‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُواْ‏}‏ والعارف لا يتفرغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخَلْق‏.‏‏.‏ فكيف يتفرغ إلى تجَسُّسِ أحوالهم‏؟‏ وهو لا يتفرغ إلى نَفْسِه فكيف إلى غيره‏؟‏ ‏{‏وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضاً‏}‏‏:‏ لا تحصل الغيبة للخَلق إلاَّ من الغيبةِ عن الحقِّ‏.‏

‏{‏أَيَحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً‏}‏ جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية‏.‏ وأَخَسُّ الكفّار وأَقَلُّهم قَدْراً مَنْ يأَكل الميتةَ‏.‏‏.‏ وعزيزٌ رؤيةُ مَنْ لا يغتاب أحداً بين يديك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكّرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

إنَّا خلقناكم أجمعكم من آدمَ وحواء، ثم جعناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا لا لتُكَاثروا ولا لتنافسوا‏.‏ فإذا كانت الأصولُ تربةً ونطفةً وعَلَقَةً‏.‏‏.‏ فالتفاخر بماذا‏؟‏ أبا لحمأ المسنون‏؟‏ أم بالنطفة في قرار مكين‏؟‏ أم بما ينطوي عليه ظاهرك مما تعرفه‏؟‏‏!‏ وقد قيل‏:‏

إِنَّ آثارَنا تَدُل علينا *** فانْظُروا بَعْدَنا إلى الآثارِ

أم بأفعالك التي هي بالرياء مَشُوبة‏؟‏ أم بأحوالك التي هي بالإعجاب مصحوبة‏؟‏ أم بمعاملاتك التي هي ملأى بالخيانة‏؟‏

‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِند اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏‏؟‏ أتقاكم أي أَبْعَدكم عن نَفْسِه، فالتقوى هي التحرُّر من النفس وأطماعها وحظوظها‏.‏ فأكرمُ العبادِ عند اللَّهِ مَنْ كان أَبْعد عن نَفْسِه وأَقرَبَ إلى الله تعالى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنَ قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏‏.‏

الإيمانُ هو حياة القلب، والقلب لا يحيا إلا بعد ذَبْح النَّفس، والنفوسُ لا تموت ولكنها تغيب، ومع حضورها لا يَتمُّ خيرٌ، والاستسلامُ في الظاهر إسلام‏.‏ وليس كلُّ مَنْ استسلَمَ ظاهراً مخلصٌ في سِرِّه‏.‏

‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏‏.‏

في هذا دليلٌ على أن محلَّ الإيمانِ القلبُ‏.‏ كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى‏:‏ ‏{‏فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ ومَرَضُ القلبِ والإيمانُ ضدان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بَأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُؤْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏.‏

جَعَلَ اللَّهُ الإيمانَ مشروطاً بخصالٍ ذَكَرَها، ونَصَّ عليها بلفظ ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ وهي للتحقيق الذي يقتضي طَرْدَ العِكْسِ؛ فمَنْ خَرَج عن هذه الشرائط التي جَعَلَها للإِيمان فمردودٌ عليه قَوْلُه‏.‏

والإيمانُ يوجِبُ للعبد الأَمان، فما لم يكن الإيمان موجِباً للأَمانِ فصاحبُه بغيره أَوْلَى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَاللّهُ بِكُلْ شَئ علٍيمٌ‏}‏‏.‏

تدل الآية على أَنَ الوقوف في المسائل الدينية يُعْتَبرُ واجباً؛ فالأسامي منه تَؤْخَذ، والأحكامُ منه تُطْلَب، وأوامره مُتَّبعة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

مَنْ لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإنْ رآها مِنْ نَفْسه كان شِرْكاً، وإنْ رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمن العبد بما هو شِرْكٌ أو بما هو مكر‏؟‏‏!‏

والذي يجب عليه قبول المِنَّة‏.‏‏.‏ كيف يرى لنفسه على غيره مِنَّة‏؟‏‏!‏ هذا لعمري فضيحةّ‏!‏ بل المِنَّةُ لله؛ فهو وليُّ النعمة‏.‏ ولا تكون المةُ منةً إلا إذا كان العبدُ صادقاً في حله، فأمَّا إذا كان معلولاً في صفة من صفاته فهي محنةٌ لصاحبها لا مِنَّة‏.‏

والمِنَّةُ نُكَدَّرُ الصنيعَ إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمِنَّةِ تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ومَنْ وُقِف ها هنا تكدَّرَ عليه عِيْشُه؛ إذ ليس يدري ما غيبه فيه، وفي معنى هذا قول القائل‏:‏

أبكي *** وهل تدرين ما يبكيني‏؟‏ *** أبكي حذاراً أن تفارقيني *** وتقطعي وَصْلي وتهجريني‏.‏‏.‏‏.‏

سورة ق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ق وَالقُرْءَانِ المَجِيدِ‏}‏‏.‏

ق مقتاح أسمائه‏:‏ «قوي وقادر وقدير وقريب» *** أقسم بهذه الأسماءِ وبالقرآن المجيد‏.‏

وجوابُ القسَم محذوف ومعناه لَتُبْعَثُنَّ في القيامة‏.‏

ويقال جوابه‏:‏ ‏{‏قَدْ عِلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مْنْهُمْ وَعِندَنَا كتابٌ حَفِيُظ‏}‏ أي لقد علينا‏.‏‏.‏ وحفت اللام لمَّا تطاول الخطاب‏.‏

ويقال‏:‏ جوابه قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَئ عَجِيبٌ‏}‏‏.‏

‏{‏مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ‏}‏‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والتعجُّبُ نوعٌ من تعبير النَّفْسِ عن استبعادها لأمرٍ خارج العادة لم يقع به عِلْمٌ من قَبْل‏.‏ وقد مضى القولُ في إنكارهم للبعث واستبعادهم ذلك‏:‏

‏{‏أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ‏}‏‏.‏

أي يَبْعُدُ عندنا أَنْ نُبْعثَ بعد ما مَتْنا‏.‏ فقال جل ذكره‏:‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ‏}‏‏.‏

في هذا تسليةٌ للعبد فإنه إذا وُسِّدَ التراب، وانصرف عنه الأصحاب، واضطرب لوفاته الأحباب‏.‏ فَمَنْ يَتَفَقَّدُه ومَنْ يَتَعَهَّدُه *** وهو في شفيرقبره، وليس لهم منه شيءُ سوى ذكرِه، ولا أحدَ منهم يدري ما الذي يقاسيه المسكين في حُفْرته‏؟‏ فيقول الحقُّ- سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا‏}‏ ولعلَّه يخبر الملائكة قائلاً‏:‏ عَبدي الذي أخْرَجته من دنياه- ماذا بقي بينه مَنْ يهواه هذه أجزاؤه قد تَفرَّقَتْ، وهذه عِظامُه بَلِيَتْ، وهذه أعضاؤه قد تَفَتَّتَتْ‏!‏

‏{‏وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ‏}‏‏:‏ وهو اللَّوحُ المحفوظ؛ أَثْبَتنا فيه تفصيل أحوالِ الخَلْقِ من غير نسيانٍ، وبيَّنَّا فيه كلَّ ما يحتاج العبدُ إلى تَذكُّره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمرٍ مَّرِيجٍ‏}‏‏.‏

‏{‏مَّريجٍ‏}‏ أي مختلط ومُلتبس؛ فهم يتردَّدون في ظُلُمات تحيُّرهم، ويضطربون في شكَّهم‏.‏

وقوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنُظُرُواْ إلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏‏.‏

أَوَلَمْ يعتبروا‏؟‏ أَوَ لَمْ يَسْتَدِلُّوا بما رفعنا فوقهم من السماء، رفعنا سَمْكها فَسَوَّيْناها، وأثبتنا فيها الكواكبَ وبها زَيَّناها، وأَدَرْنا فيها شَمْسَها وقمرَها‏؟‏ أو لم يروا كيف جَنَّسْناعَيْنَها ونَّوعْنا أَثَرَها‏؟‏

‏{‏وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَ رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ‏}‏‏.‏

والأرض مددناها؛ فجعناها لهم مِهاداً، وجَعَلْنا لها الجبالَ أوتاداً، وأَنْبَتْنا فيها أشجاراً وأزهاراً وأنواراً *** كل ذلك‏:‏

‏{‏تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏‏.‏

علامةً ودلالةً لكل من أناب إلينا، ورجع من شهودِ أفعالنا إلى رؤية صفاتنا، ومن شهود صفاتنا إلى شهودِ حقِّنا وذاتنا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ‏}‏‏.‏

أنزلنا من السماء ماءً مباركاً كثيرَ النفعِ والزيادة، فأنبتنا به ‏{‏جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ‏}‏‏:‏

أي الذي يُحْصَد- كما تقول مسجد الجامع‏.‏

الأجزاء متجانسة‏.‏‏.‏ ولكنَّ أوصافَها في الطعوم والروائحِ والألوانِ والهيئاتِ والمقادير مختلفة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ‏}‏‏.‏

والنخلُ باسقاتٌ‏:‏ طويلاتٌ، لها طَلْعٌ منضود بعضُه فوق بعض لكثرة الطَّلْع أو لما فيها مِن الثمار‏.‏ وكيف جعلنا بعض الثمار متفرقة كالتفاح والكمثرى وغيرهما، وكيف جعلنا بعضها مجتمعة كالعنب والرطب وغيرهما‏.‏‏.‏ كلًَّ ذلك جعلناه رزقاً للعباد ولكي ينتفعوا به‏.‏

‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏‏.‏

وكما سقنا هذا الماء إلى بلدةٍ جفَّ نباتُها، وكما فَعلْنا كُلَّ هذه الأشياء ونحن قادرون على ذلك- كذلك نجمعكم في الحشر والنشر، فليس بَعْثُكُم بأبعدَ من هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 17‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏‏.‏

إنا لم نَعْجزْ عن هؤلاء- الذين ذكر أسماءَهم- وفيه تهديدٌ لهم وتسلةٌ للرسول‏.‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُم فِى لَبْسِ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏‏.‏

أي إنَا لم نعجز عن الخَلْق الأول‏.‏‏.‏ فكيف نعجز عن الخلق الثاني- وهو الإعادة‏؟‏ لم يعتص علينا فعلُ شيءٍ، ولم نتعب من شيء‏.‏‏.‏ فكيف يشق علينا أمر البعث‏؟‏ أي ليس كذلك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏‏.‏

نعلم ما توسوس به نَفْسُه من شهواتٍ تطلب استنفاذها، مثل التصنُّع مع الخَلْق، وسوءِ الخُلُق، والحقد‏.‏‏.‏ وغير ذلك من آفات النَّفْس التي تُشَوِّش على القلب والوقت‏.‏

‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ فَحَبْلُ الوريد أقربُ أجزاءِ نَفْسِه إلى نَفْسِه، والمرادُ من ذلك العلم والقدرة، وأنه يسمع قولهم، ولا يشكل عليه شيءٌ من امرهم‏.‏

وفي هذه الآية هَيْبَةٌ وفَزَعٌ وخوفٌ لقومٍ، ورَوْحٌ وسكونٌ وأُنْسُ قلبٍ لقومٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏‏.‏

خوَّفَهم بشهود الملائكة وحضور الحَفَظَة، وبكتابتهم عليهم أعمالَهم، فهما قَعيدا كلِّ احدٍ‏:‏ ويقال‏:‏ إذا كان العبدُ قاعداً فواحدٌ عند رأسِه وواحد عند قَدَمِه، وإذا كان ماشياً فواحدٌ قائم بين يديه وآخرُ خَلْقَه‏.‏

ويقال‏:‏ هما اثنان بالليل لكلِّ واحدٍ، واثنان بالنهار‏.‏

ويقال‏:‏ بل الذي يكتب الخيراتِ اليومَ يكون غيره غداً، وأمَّا الذي يكتب الشر والمعصية بالأمس فإنه يكون كاتباً للطاعة غداً حتى يشهد طاعتك‏.‏

ويقال‏:‏ بل الذي يكتب المعصية اثنان؛ كل يوم اثنان آخران وكل ليلةٍ اثنان آخران لئلا يُعْلَمَ من مساويك إلا القليل منها، ويكون عِلْمُ المعاصي متفرقاً بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

إذا أشرفت النَّفْسُ على الخروج من الدنيا فأحوالُهم مختلفة؛ فمنهم مَنْ يزداد في ذلك الوقت خوفُه ولا يَتَبيَّنُ إلا عند ذهابِ الروح حالَه‏.‏ ومنهم مَنْ يُكاشَفُ قبلَ خروجه فَيسكن رَوْعُه، ويُحْفَظُ عليه عَقْلُه، ويتم له حضورُه وتمييزُه، فيُسْلِمَ الرُّوحَ على مَهَلٍ مِنْ غير استكراهٍ ولا عبوس *** ومنهم، ومنهم *** وفي معناه يقول بعضهم‏:‏

أنا إنْ مِتُّ- والهوى حشو قلبي- *** فبِداءِ الهوى يموت الكرامُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 27‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏‏.‏

سائقٌ يسوقها إمّا إلى الجنة أو إلى النار، وشهيدٌ يشهد عليها بما فعلت من الخير والشرِّ‏.‏

ويقال له‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حِدِيدٌ‏}‏‏.‏

المؤمنون- اليومَ بَصَرُهم حديد؛ يُبصرون رُشْدَهم ويحذرون شرَّهم‏.‏

والكافر يقال له غداً‏:‏ ‏{‏فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ ها أنت عَلِمْتَ ما كنتَ فيه من التكذيب؛ فاليومَ لا يُسْمَعُ منكَ خطابٌ، ولا يُرْفَعُ عنكَ عذابٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ‏}‏‏.‏

لا يَخْفَى من أحوالهم شيءٌ إلى ذُكِرَ، إنْ كان خيراً يُجَازون عليه، وإن كان غير خيرٍ يُحَاسَبونَ عليه‏:‏ إِمَّا برحمةٍ منه فيغفر لهم وينجون، وإمَّا على مقدار جُرْمِهم يُعَذَّبون‏.‏

‏{‏أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ‏}‏‏.‏

منَّاعٍ للزكاة المفروضة‏.‏

ويقال‏:‏ يمنع فَضْلَ مائِه وفَضْلَ كَلَئِه عن المسلمين‏.‏

ويقال‏:‏ يمنع الناسَ من الخيرِ والإحسان، ويسيءُ القول فيهما حتى يُزَهّدُ الناسَ فيهما‏.‏

ويقال‏:‏ المناعُ للخير هو المِعْوانُ على الشَّرِّ‏.‏

ويقال‏:‏ هو الذي قيل فيه‏:‏ ‏{‏وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 7‏]‏‏.‏

‏{‏مُرِيبٍ‏}‏‏:‏ أي يُشَكِّكُ الناسَ في أمره لأنه غير مخلص، ويُلَبِّسُ على الناس حالَه لأنه منافق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِى ضَلاَلٍ بَعَيدٍ‏}‏‏.‏

يقول المَلَكُ من الحَفظَةِ المُوَكَّلُ له‏:‏ ما أَعْجَلْتُه على الزَّلَّة‏.‏

وإنمنا كَتَبْتُها بعدما فَعَلَها- وذلك حين يقول الكافر‏:‏ لم أفعلْ هذا، وإنما أعجلني بالكتابة عليّ، فيقول المَلكُ‏:‏ ربَّنا ما أعجلته‏.‏

ويقال‏:‏ هو الشيطانُ المقرونُ به، وحين يلتقيان في جهنم يقول الشيطانُ‏:‏ ما أكرهته على كفره، ولكنه فعل- باختياره- ما وسوسْتُ به إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ‏(‏30‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‏(‏31‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

فيقول جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏

لا تختصموا لديَّ اليومَ وقد أَمَرْتُكم بالرُّشْدِ ونَهَيْتُكم عن الغَيّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مَن مَّزِيدٍ‏}‏‏.‏

‏{‏نَقُولُ لِجَهَنَّمَ‏}‏ ‏{‏وَتَقُولًُ‏}‏‏:‏ القولُ هنا على التوسُّع؛ لأنه لو كانت جهنم ممن يجيب لقالت ذلك بل يُحْييها حتى تقولَ ذلك‏.‏

‏{‏هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏‏:‏ على جهة التغليظ، والاستزداة من الكفار‏.‏

ويقال‏:‏ بل تقول‏:‏ ‏{‏هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏‏:‏ أي ليس فيَّ زيادة كقوله عليه السلام لمَّا قيل له‏:‏

يومَ فتح مكة‏:‏ هل ترجع إلى دارك‏؟‏ فقال‏:‏ «وهل ترك لنا عقيل داراً»‏؟‏‏!‏ أي لم يترك، فإن الله- تعالى- يملأ جهنمَ من الكفارِ والعصاةِ، فإذا ما أُخرِجَ العصاةُ من المؤمنين ازدادَ غيظُ الكفارِ حتى تمتلئ بهم جهنم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏‏.‏

يقال‏:‏ أنَّ الجنَّةَ تُقَرَّبُ من المتقين، كما أَنَّ النّار تُجَرُّ بالسلاسل إلى المحشر نحو المجرمين‏.‏

ويقال‏:‏ بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين حشرهم إليها *** وهم خواص الخواص‏.‏

ويقل‏:‏ هم ثلاثةُ أصناف‏:‏ قوم يُحْشَرون إلى الجنة مشاةً وهم الذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏- وهم عوام المؤمنين وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصوَّرة لهم بصورة حيوان، وهم الذين قال فيهم جَلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إلَى الرَّحْمَانِ وَفداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85‏]‏- وهؤلاء هم الخواص وأمَّا خاص الخاص فهم الذين قال عنهم‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقَينَ‏}‏ أي تُقَرَّبُ الجنةُ منهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏‏:‏ تأكيدٌ لقوله‏:‏ «وأزلفت»‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏‏:‏ من العاصين تطييباً لقلوبهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ‏}‏‏.‏

الأوَّابُ‏:‏ الراجعُ إلى الله في جميع أحواله‏.‏

‏{‏حَفِيظُ‏}‏‏:‏ أي محافظ على أوقاته، ‏(‏ويقال محافظ على حواسه في الله حافظ لأنفاسه مع الله‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏(‏33‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ‏(‏34‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‏(‏35‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقْلبٍ مُّنِيبٍ‏}‏‏.‏

الخشيةُ من الرحمنِ هي الخشية من الفراق ‏(‏والخشية من الرحمن تكون مقرونة‏)‏ بالأُنْس؛ ولذلك لم يقل‏:‏ من خشي الجبَّار ولا من خشي القهَّار «‏.‏

ويقال الخشية من الله تقتضي العلم بأنه يفعل ما يشاء وأنه لا يسْأَلُ عمَّا يفعل‏.‏

ويقال‏:‏ الخشيةُ ألطفُ من الخوف، وأنها قريبةٌ من الهيبة‏.‏

‏{‏وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ‏}‏‏:‏ لم يقل بَنَفْسٍ مطيعة بل قال‏:‏ بقلبٍ منيب ليكونَ للعصاةِ في هذا أملٌ؛ لأنهم- وإن قَصَّروا بنفوسهم وليس لهم صِدْقُ القَدَمِ- فلهم الأسفُ بقلوبهم وصدق الندَّم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏}‏‏.‏

أي يقال لهم‏:‏ ادخلوها بسلامةٍ من كل آفةٍ، ووجودِ رضوان ولا يسخطُ عليكم الحقُّ أبداً‏.‏

ومنهم مَنْ يقول له المَلَكُ‏:‏ ادخلوها بسلامٍ، ومنهم من يقوله له‏:‏ لكم ما تشاؤون فيها- قال تعالى‏:‏

‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏‏.‏

لم يقل‏:‏» لهم ما يسألون «بل قال‏:‏ ‏{‏لَهُمُ مَّا يَشَآءُونَ‏}‏‏:‏ فكلُّ ما يخطر ببالهم فإنَّ سؤلَهم يتحقق لهم في الوَهْلة، وإذا كانوا اليوم يقولون‏:‏ ما يشاء الله فإنَّ لهم غداً منه الإحسان *** وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏؟‏

‏{‏وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏‏:‏ اتفق أهل التفسير على أنه الرؤية، والنظر إلى الله سبحانه وقومٌ يقولون‏:‏ المزيد على الثواب في الجنة- ولا منافاة بينهما‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطَشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ‏}‏‏.‏

أي عْتَبِروا بالذين تَقَدَّموكم؛ انهمكوا في ضلالتهم، وأَصَرُّوا، ولم يُقْلِعوا‏.‏‏.‏ فأهلكناهم وما أَبْقَيْنَا منهم أحداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ‏(‏38‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ ‏{‏لِمَن كَانَ لُهُ قَلْبٌ‏}‏‏:‏ أي من كان له عقل‏.‏ وقيل‏:‏ قلب حاضر‏.‏ ويقال قلبٌ على الإحسان مُقْبِل‏.‏ ويقال‏:‏ قَلْبٌ غيرُ قُلَّب‏.‏

‏{‏أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ‏}‏‏:‏ استمع إلى ما يَنادى به ظاهرُه من الخَلْق وإلى ما يعود إلى سِرِّه من الحق‏.‏ ويقال‏:‏ لمن كان له قلبٌ صاح لم يَسْكر من الغفلة‏.‏ ويقال قلبٌ يعد أنفاسَه مع الله‏.‏ ويقال‏:‏ قلبٌ حيٌّ بنور الموافقة‏.‏ ويقال‏:‏ قلبٌ غيرُ مُعْرِضٍ عن الاعتبار والاستبصار‏.‏

ويقال‏:‏ «القلبُ- كما في الخبر- بين إصبعين من أصابع الرحمن»‏:‏ أي بين نعمتين؛ وهما ما يدفعه عنه من البلاء، وما ينفعه به من النَّعماء، فكلُّ قلب مَنَعَ الحقُّ عنه الأوصافَ الذميمَةَ وأَلْزَمَه النعوتَ الحميدةَ فهو الذي قال فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ‏}‏‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «إن لله أوانيَ ألاَ وهي القلوب، وأقربها من الله مارقَّ وصفا» شبَّه القلوب بالأواني؛ فقلبُ الكافرِ منكوسٌ لا يدخل فيه شيء، وقلبُ المنافقِ إناء مكسور، ما يُلْقى فيه من أوَّله يخرج من أسفله، وقلبُ المؤمنِ إناءٌ صحيح غير منكوس يدخل فيه الإيمانُ ويَبْقَى‏.‏

ولكنَّ هذه القلوبَ مختلفةٌ؛ فقلبٌ مُلَطَّخٌ بالانفعالات وفنون الآفات؛ فالشرابُ الذي يُلْقَى فيه يصحبه أثر، ويتلطخ به‏.‏

وقلبٌ صفا من الكدورات وهو أعلاها قَدْراً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏‏.‏

وأَني يَمَسُّه اللُّغوبُ‏.‏ وهو صَمَدٌ لا يحدث في ذاته حادث‏؟‏‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏}‏‏.‏

إِنْ تَأذَّ سَمْعُكَ بما يقولون فيَّ من الأشياء التي يتقدَّس عنها نَعْتي فاصبِرْ على ما يقولون، واستروِحْ عن ذلك بتسبيحك لنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 45‏]‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ‏(‏40‏)‏ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ‏(‏42‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ‏(‏43‏)‏ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ‏(‏44‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ‏}‏‏.‏

فالليلُ وقتُ الخلوة- والصفاءُ في الخلوة أتَمُّ وأصْفى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ‏}‏‏.‏

النداءُ من الحق- سبحانه- واردٌ عليهم، كما انَّ النجوى تحصل دائماً بينهم‏.‏ والنداءُ الذي يَردُ عليهم يكون بغتةً ولا يكون للعبد في فِعْلِه اختيارٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِِنَا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

إلينا مَرْجِعُ الكُلِّ ومصيرُهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ‏}‏‏.‏

هذا يسيرٌ علينا‏:‏ سواء خلقناهم جملةً أو فرادى؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسِ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنْتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏‏.‏

ما انت عليهم بُمتَسَلِّطٍ تُكْرِههم‏.‏

وإنما يُؤَثِّرُ التخويفُ والإنذارُ والتذكيرُ في الخائفين، فأمّا مَنْ لا يخاف فلا ينجحُ فيه التخويف- وطيرُ السماء على أُلاَّفها تقعُ‏.‏

سورة الذاريات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

والذارياتُ‏:‏ أي الرياح الحاملات ‏{‏وِقْراً‏}‏ أي السحاب ‏{‏فَالْجَارِياتِ‏}‏ أي السفن‏.‏ ‏{‏فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً‏}‏ أي الملائكة *** بربِّ هذه الأشياء وبقدرته عليها‏.‏ وجواب القسم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والإشارة في هذه الأشياء أن من جملة الرياح‏.‏ الرياح الصيحية تحمل أنينَ المشتاقين إلى ساحات العزَّةِ فيأتي نسيمُ القربةِ إلى مَشَامِّ أسرارِ أهل المحبة *** فعندئذٍ يجدون راحةً من غَلَبَات اللوعة، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وإني لأستهدي الرياحَ نسيمكم *** إذا أقبلَتْ من أرضكم بهبوب

وأسألُها حمْلَ السلام إليكمو *** فإنْ هي يوماً بَلَّغتْ‏.‏‏.‏ فأجيبي

ومن السحاب ما يُمطر بعتاب الغيبة، ويُؤْذن بهواجم النَّوى والفُرْقة‏.‏ فإذا عَنَّ لهم من ذلك شيء أبصروا ذلك بنور بصائرهم، فيأخذون في الابتهال، والتضرُّع في السؤال استعاذةً منها *** كما قالوا‏:‏

أقول- وقد رأيتُ لها سحاباً *** من الهجران مقبلة إلينا

وقد سحَّت عزاليها بِبَيْنٍ *** حوالينا الصدودُ ولا علينا

وكما قد يَحْملُ الملاَّحُ بعضَ الفقراء بلا أجرة طمعاً في سلامة السفينة- فهؤلاء يرْجُون أن يُحمَلُوا في فُلْكِ العناية في بحار القدرة عند تلاطم الأمواج حول السفينة‏.‏ ومِنَ الملائكةِ مَنْ يتنزَّلُ لتفقد أهل الوصلة، أو لتعزية أهل المصيبة، أو لأنواعٍ من الأمور تتصل بأهل هذه القصة، فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم‏:‏ هل عندهم خيرٌ عن فراقهم ووصالهم- كما قالوا‏:‏

بربِّكما يا صاحبيَّ قِفَا بيا *** أسائلكم عن حالهم وآسألانيا

‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ‏}‏‏:‏ الحقُّ- سبحانه- وَعَدَ المطيعين بالجنة، والتائبين بالرحمة، والأولياءَ بالقربة، والعارفين بالوصلة، ووَعَدَ أرباب المصائب بقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 157‏:‏ 156‏]‏، وهم يتصدون لاستبطاء حُسْنِ الميعاد- واللَّهُ رؤوقٌ بالعباد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏والسَّمَآءِ ذَاتِ الحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏‏.‏

‏{‏ذَاتِ الْحُبُكِ‏}‏ أي ذات الطرائق الحسنة- وهذا قَسَمٌ ثانٍ، وجوابه‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ‏}‏ يعني في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم فأحدهم يقول‏:‏ إنه ساحر، وآخر يقول‏:‏ مجنون، وثالث يقول‏:‏ شاعر‏.‏ *** وغير ذلك‏.‏

والإشارة فيه إلى القسم بسماء التوحيد ذات الزينة بشمس العرفان، وقمر المحبة، ونجوم القُرب *** إنكم في باب هذه الطريقة لفي قولٍ مختلف؛ فَمِنْ مُنْكِرٍ يجحد الطريقة ومِنْ مُعترِضٍ يعترض علىأهلها يتوهَّم نقصانهم في القيام بحق الشريعة، ومن متعسِّفٍ لايخرج من ضيق حدود العبودية ولا يعرف خبراً عن تخصيص الحقِّ أولياءَه بالأحوال السنية، قال قائلهم‏:‏

فد سَحبَ الناسُ أذيال الظنون بنا *** وفَرَّقَ الناسُ فينا قولهم فِرقَا

فكاذبٌ قد رمى بالظنِّ غَيْرتكم *** وصادقٌ ليس يدري أنه صَدَقَا

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يُؤْفَكُ عَنْهُ مِنْ أُفِكَ‏}‏‏.‏

أي يُصْرَفُ عنه مَنْ صُرِف، وذلك أنهم كانوا يصدُّون الناسَ عنه ويقولون‏:‏ إنه لمجنون‏.‏

‏{‏قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ‏}‏‏.‏

لُعِنَ الكذَّابون الذين هم في غمرة الضلالة وظلمة الجهالة ساهون لاهون‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينَ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏‏.‏

يسألون أيان يومُ القيامة‏؟‏؛ يستعجلون بها، فلأَجْلِ تكذيبهم بها كانت نفوسُهم لا تسكن إليها‏.‏ ويوم هم على النار يُحْرَقون ويُعَذَّبون يقال لهم‏:‏ قاسوا عقوبتكم، هذا الذي كنتم به تَسْتَعْجِلُونَ‏.‏

والإشارة فيه إلى الذين يَكْذِبون في أعمالهم لِمَا يتداخلهم من الرياء، ويكذبون في أحوالهم لِمَا يتداخلهم من الإعجاب، ويكذبون على الله فيما يدَّعونه من الأحوال *** قُتِلُو ولُعِنوا *** وسيلقون غِبَّ تلبيسهم بما يُحْرَمون من اشتمام رائحة الصدق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ المُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنينَ‏}‏‏.‏

في عاجلهم في جنَّتِ وَصْلِهم، وفي آجلهم في جنّاتِ فَضْلِهم؛ فغداً درجات ونجاة، واليومَ قرُبات ومناجاة، فما هو مؤجَّلٌ حظُّ أنفسِهم، وما هو معجّلٌ حقُّ ربِّهم‏.‏ هم آخذين اليوم ما آتاهم ربهم؛ يأخذون نصيبه منه بِيَدِ الشكر والحمد، وغداً يأخذون ما يعطيهم ربُّهم في الجنة من فنون العطاء والرِّفد‏.‏

ومَنْ كان اليومَ آخذه بلا وساطة من حيث الإيمان والإتقان، وملاحظة القسمة في العطاء والحرمان‏.‏ كان غداً آخذه بلا وسطة في الجنان عند اللقاء والعيان‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَالِكَ مُحْسِنِينَ‏}‏؛ كانوا ولكنهم اليوم بانوا ولكنهم بعد ما أعدناهم حصلوا واستبانوا *** فهم كما في الخبر‏:‏ «أعبد الله كأنك تراه‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَانُواْ قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏‏.‏

المعنى إمَّا‏:‏ كانوا قليلاً وكانوا لا ينامون إلا بالليل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ أو‏:‏ كان نومُهم بالليل قليلاً، أو‏:‏ كانوا لا ينامون بالليل قليلاً‏.‏

‏{‏وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرونُ‏}‏‏:‏ أخبر عنهم أنهم- مع تهجدهم ودُعائهم- يُنْزِلون انفسَهِم في الأخار منزلةَ العاصين، فيستغفرون استصغاراً لِقدْرِهم، واستحقاراً لِفِعْلهم‏.‏

والليلُ *** للأحباب في أُنْس المناجاة، وللعصاة في طلب النجاة‏.‏ والسهرُ لهم في ليلايهم دائماً؛ إمّا لفَرْظِ أَسَفٍ أولِشدَّةِ لَهَفٍ، وإمَّا لاشتياقٍ أو لفراقٍ- كما قالوا‏:‏

كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها *** افنْيَتُهَا قابضاً على كبدي

قد غُصَّت العينُ بالدموعِ وقد *** وَضَعْتُ خدي على بنان يدي

وإمّ لكمال أُنْسٍ وطيب روح- كما قالوا‏:‏

سقى اللَّهُ عيشاً قصيراً مضى *** زمانَ الهوى في الصبا والمجون

لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ *** لَعْينِيَ عند ارتداد الجفون

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌ لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ‏}‏ السائلُ هوالمُتكفِّف، والمحرومُ هو المتعفِّف- ويقال هو الذي يحرم نفسه بترك السؤال‏.‏‏.‏ هؤلاء هم الذين يُعْطُون بشرط العلم، فأمَّا أصحابُ المروءة‏:‏ فغير المستحق لمالهم أَوْلَى من المستحق‏.‏ وأما أهل الفترة فليس لهم مالٌ حتى تتوجه عليهم مطالبة؛لأنهم أهل الإيثار- في الوقت- لكلِّ مايُفْتَحُ عليهم به‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَفِى الأَرْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏

كما أَنَّ الأرضَ تحمل كلَّ شيء فكذلك العارف يتحمَّل كلَّ أحد‏.‏

ومَنْ استثقل أحداً أو تبرَّمَ برؤية أحدٍ فلِغَيْبته عن الحقيقة، ولمطالعته الخَلْقَ بعين التفرقة- وأهلُ الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة‏.‏

ومن الآيات التي في الأرض أنها يُلْقَى عليها كلُّ قذارةٍ وقمامة- ومع ذلك تُنْبِتُ كلَّ زَهْرٍ ونَوْرٍ *** كذلك العارفين يتشرب كلَّ ما يُسْقَى من الجفاء، ولا يترشح إلاَّ بكل خُلُقٍ عَلِيّ وشيمةٍ زكيَّة‏.‏

ومن الآيات التي في الأرضِ أنّ ما كان منها سبخاً يُتْرَكُ ولا يُعَمَّر لأنه لا يحتمل العمارة- كذلك الذي لا إيمانَ له بهذه الطريقة يُهْمَل، فمقابلته بهذه الصفة كإلقاء البذر في الأرض السبخة‏.‏

‏{‏وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏‏:‏ أي وفي أنفسكم أيضاً آيات، فمنها وقاحتها في همتها، ووقاحتها في صفاتها، ومنها دعواها العريضة فيما ترى منها وبها، ومنها أحوالها المريضة حين تزعم أَنَّ ذَرّةً أو ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بها أومنها‏.‏

‏{‏وَفِىلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏‏:‏ أي قسمة أرزاقكم في السماء، فالملائكة الموَكَّلون بالأرزاق ينزلون من السماء‏.‏

ويقال‏:‏ السماء ها هنا المطر، فبالمطر ينبت الحَبُّ والمرعى‏.‏

ويقال‏:‏ على رب السماء أرزاقكم لأنه ضَمنَها‏.‏

ويقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَفِى السَّمَآءَِ رِزْقُكُمْ‏}‏ وها هنا وقف ثم تبتدئ‏:‏ ‏{‏وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنَّ البعثَ والنشرَ لَحَقٌّ‏.‏

ويقال‏:‏ إنَّ نصري لمحمدٍ ولديني، وللذي أتاكم به من الأحكام- لحقٌّ مثل ما أنَّكم تنطقون‏.‏

كما يقال‏:‏ هذا حقٌّ مثل ما أنك ها هنا‏.‏

ويقال‏:‏ معناه‏:‏ «إنَّ اللَّهَ رازقُكم»- هذا القولُ حقٌّ مثلما أنكم إذا سُئِلْتُم‏:‏ مَنْ رَبُّكم‏؟‏ ومَنْ خالقكم‏؟‏ قلتم‏:‏ الله *** فكما أنكم تقولون‏:‏ إن الله خالق- وهذا حقٌّ *** كذلك القولُ أَنَّ اللَّهَ رازقٌ- هو أيضاً حقٌّ‏.‏

ويقال‏:‏ كما أنَّ نُطْقَكَ لا يتكلم به غيرُك فرزقُكَ لا يأَكلُه غيرك‏.‏

ويقال‏:‏ الفائدة والإشارة في هذه الآية أنه حال بزرفك على السماء، ولا سبيلَ لك إلى العروج إلى السماء لتشتغلَ بما كلفك ولا تعنَّى في طلب ما لا تصل إليه‏.‏

ويقال‏:‏ في السماء رزقكم، وإلى السماء يُرْفَعُ عَمَلُكُم *** فإنْ أرَدْتَ أنْ ينزلَ عليكَ رزقُك فأَصْعِدْ إلى السماءِ عمَلَكَ- ولهذا قال‏:‏ الصلاةُ قَرْعُ باب الرزق، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ‏}‏‏.‏

قيل في التفاسير‏:‏ لم يكن قد أتاه خبرُهم قبل نزول هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ كان عددُهم اثني عشر مَلَكاً‏.‏ وقيل‏:‏ جبريل وكان معه سبعة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثلاثة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الْمُكْرَمِينَ‏}‏ قيل لقيامه- عليه السلام- بخدمتهم‏.‏ وقيل‏:‏ اكرم الضيفَ بطلاقة وجهه، والاستبشار بوفودهم‏.‏

وقيل‏:‏ لم يتكلَّف إِبراهيمُ لهم، وما اعتذر إليهم- وهذا هو إكرام الضيف- حتى لا تكون من المضيف عليه مِنَّةٌ فيحتاج الضيف إلى تحملها‏.‏

ويقال‏:‏ سمّاهم مكرمين لأن غير المدعوِّ عند الكرام كريم‏.‏

ويقال‏:‏ ضيفُ الكرام لا يكون إلا كريماً‏.‏

ويقال‏:‏ المكرمين عند الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 38‏]‏

‏{‏إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏‏.‏

أي سلَّمنا عليك ‏{‏سَلاَماً‏}‏ فقال إبراهيم‏:‏ لكم مني ‏{‏سَلاَمَاً‏}‏‏.‏

وقولُهم‏:‏ ‏{‏سَلاماً‏}‏ أي لك منّا سلام، لأنَّ السلامَ‏:‏ الأمانُ‏.‏

‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏‏:‏ أي أنتم قوم منكرون؛ لأنه لم يكن يعرف مِثْلَهم في الأضياف ويقال‏:‏ غُرَبَاء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ‏}‏‏.‏

أي عَدَلَ إليهم من حيث لا يعلمون وكذلك يكون الروغان‏.‏

‏{‏فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ فشواه، وقرَّبه منهم وقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ تأْكُلُونَ‏؟‏‏}‏ وحين امتنعوا عن الأكل‏:‏

‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ‏}‏‏.‏

تَوَهَّمَ أنهم لصوص فقالوا له‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ‏}‏‏:‏ أي بَشَّروه بالوَلد، وببقاء هذا الوَلَدِ إلى أن يصير عليماً؛ والعليم مبالغة من العلم، وإنما يصير عليماً بعد كبره‏.‏

‏{‏فََأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏فِى صَرَّةٍ‏}‏ أي في صيحة شديدة، ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏ أي فضربت وجهها بيدها كفعل النساء ‏{‏وَقَالَتْ عُجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏‏:‏ أي أنا عجوز عقيم‏.‏ وقيل‏:‏ إنها يومَها كانت ابنةَ ثمانٍ وتسعين سنة، وكان إبراهيمُ ابنَ تسع وتسعين سنة‏.‏

‏{‏قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

أي قلنا لكِ كما قال ربُّكِ لنا، وأنْ نُخْبِرَكِ أنَّ اللَّهَ هو المُحْكِمُ لأ فعالِه، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ الذي لا يخفى عليه شيء‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ‏؟‏‏}‏‏.‏

سألهم‏:‏ ما شأنُكم‏؟‏ وما أمرُكم‏؟‏ وبماذا أُرْسِلْتُم‏؟‏

‏{‏قَالُوآ إِنَّا أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حَجَارَةً مِّن طِينٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

هم قوم لوط، ولم نجد فيها غيرَ لوطٍ ومَنْ آمن به‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ‏}‏‏.‏

تركنا فيها علامةً يعتبر بها الخائفون- دون القاسية قلوبهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

أي بحجة ظاهرة باهرة‏.‏

*** إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏:‏ أي جعنا بينهما وبين الأرض سعة، «وإنا لقادرون»‏:‏ على أن نزيد في تلك السعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 55‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ‏}‏‏.‏

أي جعلناها مهاداً لكم ثم أثنى على نَفْسه قائلاً‏:‏ ‏{‏فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ‏}‏‏.‏

دلَّ بهذا كلَّه على كمال قدرته، وعلى تمام فضله ورحمته‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِن كُلِّ شَئ خَلَقْنَا زَوْجَينِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

أي صنفين في الحيوان كالذَّكَرِ والأنثى، وفي غير الحيوانِ؛ كالحركة والسكون، والسواد والبياض، وأصناف المتضادات‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

أي فارجِعوا إلى الله- والإنسان بإحدى حالتين؛ إِمَّا حالة رغبةٍ في شيءٍ، أو حالة رهبة من شيء، أو حال رجاء، أو حال خوف، أو حال جَلْبِ نَفْعٍ أو رفع ضُرٍّ *** وفي الحالتين ينبغي أَنْ يكونَ فِرارُه إلى الله؛ فإنَّ النافعَ والضارَّ هو اللَّهُ‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ صَحَّ فِرارُه إلى اللّهِ صَحَّ قَرارُه مع الله‏.‏

ويقال‏:‏ يجب على العبد أَنْ يفرَّ من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التُّقَى، ومن الشّكِّ إلى اليقين، ومن الشيطانِ إلى الله‏.‏

ويقال‏:‏ يجب على العبد أَنْ يفرَّ من فعله- الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه- حيث قال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ إلى نفسه حيث قال‏:‏ ‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِِلَهاً ءَاخَرَ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

أُخَوِّفُكم أليمَ عقوبته إنْ أَشركْتُم به- فإِنَّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به‏.‏

ثم بيَّنَ أنه على ذلك جرَت عادتُهم في تكذيب الرُّسُل، كأنهم قد توصوا فيما بينهم بذلك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏‏.‏

فأَعْرِضْ عنهم فليست تلحقك- بسوء صنيعهم- ملامةٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنٍَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

ذَكِّر العاصين عقوبتي ليرجعوا عن خالفةِ أمري، وذَكِّر المطيعين جزيلَ ثوابي ليزدادوا طاعةً وعبادةً، وذَكِّرْ العارفين ما صرَفْتُ عنهم من بلائي، وذكِّرْ الأغنياءَ ما أَتَحْتُ لهم من إحساني وعطائي، وذَكِّر الفقراء ما أوجبْتُ لهم من صَرْفِ الدنيا عنهم وأَعْدَدْتُ له من لقائي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِّنْهُم مِّن رِّزقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏‏.‏

الذين اصطفُْهم في آزالي، وخصَصْتُهم- اليومَ- بحسْنِ إقبالي، ووعدْتُهم جزيلُ أفضالي- ما خَلَقْتُهم إِلاَّ ليعبدونِ‏.‏

والذين سخطت عليهم في آزالي، وربطتهم- اليوم- بالخذلان فيما كلَّفتهم من أعمالي، وخَلَقْتُ النارَ لهم- بحُكْم إليهتي ووجوب حُكْمي في سلطاني- ما خلقتهم إلا لعذابي وأنكالي، وما أَعْدَدْتُ لهم من سلاسلي وأغلالي‏.‏

ما أريد منهم أَنْ يُطْعِموا أو يرزفوا أحداً من عبادي فإنَّ الرزَّاقَ أنا‏.‏

وما أريد أن يطعمونِ فإِنني أنا اللَّهُ ‏{‏ذُو الْقُوَّةِ‏}‏‏:‏ المتينُ القُوَى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏‏.‏

لهم نصيبٌ من العذابِ مثلَ نصيبِ مَنْ سَلَفَ من أصحابهم من الكفار فلِمَ استعجالُ العذابِ- والعذابُ لن يفوتَهم‏؟‏‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِيِنَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُون‏}‏‏.‏

وهو يوم القيامة‏.‏