فصل: تفسير الآيات رقم (22- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

أرسلنا نوحاً بالنبوَّةِ والرسالة‏.‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ‏}‏ أي بأن أنذرهم وإرسالُ الرُّسُل من الله فضلٌ، وله بحق مُلْكه ان يفعل ما أراد، ولم يجبْ عليه إرسالُ الرُّسُلِ لأن حقيقته لا تقبل الوجوب‏.‏

وإرسالُ الرسلِ إلى مَنْ عَلِمَ أنه لا يَقْبَل جائز، وتكليفُهم من ناحية العقل جائز فنوحٌ- عَلِمَ منهم أَنهم لا يقبلون‏.‏‏.‏ ومع ذلك بَلَّغ الرسالة وقال لهم‏:‏ ‏{‏إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ مِنْ هنا للجنس لا للتبعيض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُواْ الرِّجسَ مِنَ الأَوْثَانِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ ما عملوه دون ما هو معلوم أنهم سيفعلونه؛ لأنه لو أخبرهم بأنه غفر لهم ذلك كان إغراءً لهم‏.‏‏.‏ وذلك لا يجوز‏.‏ فأبوا أن يَقْبَلوا منه، فقال‏:‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً‏}‏‏.‏

بَيّنَ أَنّ الهداية ليست إليه، وقال‏:‏ إنْ أَرَدْتَ إِيمانَهم فقلوبُهم بقدرتك- سبحانك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً‏}‏‏.‏

وإِنِّي ما ازدَدْتُ لهم دعاءً إلا ازدادوا إصراراً واستكباراً‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا دام بينهم إصرارُهم تَولَّدَ من الإصرار استكبارُهم، قال تعالى‏:‏

‏{‏فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 13‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدرَاراً وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏‏.‏

ليعلمَ العالِمون‏:‏ أَنًَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة، فمن وقعت له إلى اللَّهِ حاجةُ فلن يَصِلَ إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ أراد التَّفَضُّل فعليه بالعُذْرِ والتنصُّل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُرْسِلِ السَّمَآءَ عََلَيْكُمْ‏}‏‏:‏ كان نوح عليه السلام كلمّا ازداد في بيان وجوه الخير والإحسان زادوا هم في الكفر والنسيان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏‏.‏

ما لَكْم لا تخافون للَّهِ عَظَمَةً‏؟‏ وما لكم لا ترجون ولا تؤمِّلون على توقيركم للأمرِ من اللَّهِ لُطْفاً ونعمة‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

ثم نَبَّهَهُم إلى خَلْقِ السموات والأرض وما فيهما من الدلالات على أنها مخلوقة، وعلى أنَّ خالقَها يستحقُّ صفاتِ العُلُوِّ والعِزَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

ثم شكا نوحٌ إلى الله وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَونِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً‏}‏ يعني كبراءَهم وأغنياءَهم الذين ضلُّوا في الدنيا وهلكوا في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

وذلك بتعريفِ اللَّهِ تعالى إيَّاه أَنَّه لن يؤمِنَ من قومك إلاّ من قد آمن‏.‏ فاستجاب الله فيهم دعاءَه وأهلكهم‏.‏

سورة الجن

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ إن الجنَّ كانوا يأتون السماءَ فيستمعون إلى قولِ الملائكة، فيحفظونه، ثم يلقونه إلى الكهنة، فيزيدون فيه وينقصون *** وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام‏.‏ فلمَّا بُعِثَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ورُجِمُوا بالشُّهُبِ عَلِمَ إبليس أنه وقع شيءٌ ففرَّ جنوده، فأتى تسعةٌ منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم آتوا قومهم وقالوا‏:‏ إنَّا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به *** إلى آخر الآيات‏.‏

‏(‏وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً‏}‏ الجَدَّ العظمة، والعظمةُ استحقاقُ نعوتِ الجلال‏.‏‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً‏}‏‏.‏

أراد بالسفيه الجاهل بالله يعني إبليس‏.‏ والشطط السَّرَف‏.‏

‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏‏.‏

في كفرهم وكلمتهم بالشِّرك‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً‏}‏‏.‏

أَي ذِلة وصغاراً؛ فالجنُّ زادوا للإنس ذِلَّةً ورهقاً فكانوا إذا نزلوا يقولون‏:‏ نعوذ بربِّ هذا الوادي فيتوهم الجنُّ انهم على شيء ‏{‏فَزَادُوهُمْ رَهَقاً‏}‏ حيث استعاذوا بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدَاً‏}‏‏.‏

أي ظنُّوا كما ظنَّ الكفارُ من الجن أَلاّ بعثَ ولا نشور- كما ظننتم إيها ألإنس‏.‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيدَاً وَشُهُباُ‏}‏‏.‏

يعني حين منعوا عن الاستماع‏.‏

‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمَعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الأَنَ يَجِدْ لَهُ شَهَاباً رَّصَداً‏}‏‏.‏

فالآن قد مُنِعْنا‏.‏

‏{‏وَأَنَّا لاَنَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رُشَداً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

الاستقامة على الطريقة تقتضي إكمالَ النعمةِ وإكثارَ الراحةِ‏.‏ والإعراضُ عن الله يُوجِب تَنَغُّصَ العَيْشِ ودوامَ العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً‏}‏ للمسجد فضيلة، ولهذا خصَّه الله سبحانه وأفرده بالذكر من بين البقاع؛ فهو محلُّ العبادة‏.‏‏.‏ وكيف يُحلُّ العابد عنده إذا حلَّ محلَّ قَدَمِه‏؟‏‏!‏‏.‏

ويقال‏:‏ أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها، أخبر أنها لله، فلا تعبدوا بما للَّهِ غَيْرَ الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَََّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً‏}‏‏.‏

لما قام عبد الله يعني محمداً عليه السلام يدعو الخَلْقَ إلى الله كاد الجنُّ والإنس يكونون مجتمعين عليه، يمنعونه عن التبليغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

قل يا محمد‏:‏

‏{‏قُلْ إِنِّى لآَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مَنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً‏}‏‏.‏

لا أقدر أن أدفع عنكم ضرّاً، أو أسوق لكم خيراً *** فكل شيء من الله‏.‏ ولن أجد من دونه ملتجأ‏:‏

‏{‏إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ‏}‏‏.‏

فلن يُنَجِّينِي من الله إلا تبليغي رسالاته بأمره‏.‏

‏{‏وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

أَي‏:‏ لا أَدْري ما تُوعَدون من العقوبة، ومن قيام الساعة أَقريب أم بعيد‏؟‏ فكونوا على حذرٍ‏.‏ ويجب أنْ يتوقَّع العبدُ العقوبات أبداً مع مجاري الأنفاس ليَسلم من العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الغَيْبَ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ‏}‏‏.‏

فيطلعه بقَدْرِ ما يريده‏.‏

‏{‏لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَلاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَئ عَدَدَا‏}‏‏.‏

أرسل مع الوحي ملائكةً قُدَّامه وخَلْفه‏.‏‏.‏ هم ملائكةٌ حَفَظَه، يحفظون الوحيَ من الكهنة والشياطين، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالاتِ التي يحملها *** واللَّه يعلم ذلك، وأحاط عِلْمُه به‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ المتزمل المتلفِّف في ثيابِه‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مِرْطُ من شَعْرٍ وَبَرٍ، وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ نصفُه عليَّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله وهو يُصَلِّي، وطولُ المِرْطِ أربعةُ عشر ذراعاً»‏.‏

‏{‏نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّل الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً‏}‏‏.‏

‏{‏قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ نصفَه بَدَلٌ منه؛ أي‏:‏ قم نصف الليل، وأَنْقِصْ من النصف إلى الثلث أوزِدْ على الثلث، فكان عليه الصلاة والسلام في وجوب قيام الليل مُخَيَّراً ما بين ثلث الليل إلى النصف وما بين النصف إلى الثلث‏.‏ وكان ذلك قبل قَرْضِ الصلوات الخمس، ثم نُسِخَ بعد وجوبها على الأمة- وإن كانت بقيت واجبة على الرسول صلى الله عليه سلم‏.‏

ويقال‏:‏ يا أيها المتزمل بأعباء النبوَّة‏.‏‏.‏ ‏{‏قُمِ الَّيْلَ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ يا أيها الذي يُخْفِي ما خصصناه به قُمْ فأنذِرْ‏.‏‏.‏ فإنّا نصرناك‏.‏

ويقالك قُمْ بنا‏.‏‏.‏ يا مَنْ جعلنا الليل ليسكن فيه كلُّ الناس‏.‏‏.‏ قُمْ أنت‏.‏

فليسكنْ الكلُّ‏.‏‏.‏ ولْتَقُمْ انت‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا فَرَضَ عليه القيام بالليل أخبر عن نَفْسِه لأجل أُمَّته إكراماً لشأنه وقدرة‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «أنه ينزل كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏» ولا يُدْرَى التأويل للخبر، أو أنَّ التأويل معلوم‏.‏‏.‏ وإلى أن ينتهي إلى التأويل فللأحبابِ راحاتٌ كثيرة، ووجوهٌ من الإحسان موفورة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً‏}‏‏.‏

ارْتَعْ بِسِرِّك في فَهْمِه، وَتأَنَّ بلسانِك في قراءته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ هو القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ كلمة لا إلَهَ إلا الله‏.‏

ويقال‏:‏ الوحي؛ وسمَّاه ثقيلاً أي خفيفاً على اللسان ثقيلاً في الميزان‏.‏

ويقال‏:‏ ثقيل أي‏:‏ له وزن وخطر‏.‏ وفي الخبر «كان إذا نزل عليه القرآن- وهو على ناقته- وضعت جِرانها، ولا تكاد تتحرك حتى يُسرَّى عنه»‏.‏

وروى ابن عباس‏:‏ أنَّ سورة الأنعامِ نَزَلَتْ مرةَ واحدةٍ فَبَركَت ناقةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل القرآن وهيبته‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏ثَقِيلاً‏}‏ سماعه على مَنْ جحده‏.‏

ويقال‏:‏ «ثقيلاً بِعِبْئِه- إلاَّ على من أُيِّدِ بقوةٍ سماوية، ورُبِّي في حِجْرِ التقريب»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ساعات الليل، فكلُّ ساعةٍ تحدث فهي ناشئة، وهي أشد وطئاً أي‏:‏ مُوَطَّأة أي‏:‏ هي أشدُّ موافقةً للسانِ والقلبِ، وأشدُّ نشاطاً‏.‏

ويحتمل‏:‏ هي أشدُ وأغلظُ على الإنسان من القيام بالنهار‏.‏

‏{‏وَأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏ أي‏:‏ أَبْيَنُ قولاً‏.‏

ويقال‏:‏ هي أشدُّ موطأةً للقلب وأقوم قيلاً لأنها أبعدُ من الرياء، ويكون فيها حضورُ القلبِ وسكونُ السِّرِّ أبلغَ وأتمِّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ سبحاً في أعمالك، والسبح‏:‏ الذهب والسرعة، ومنه السباحة في الماء‏.‏

فالمعنى‏:‏ مذاهبُك في النهار فيما يَشْغَلُك كثيرةٌ- والليلُ أَخْلَى لك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 18‏]‏

‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ انقَطِعْ إليه انقطاعاً تاماً‏.‏

‏{‏رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً‏}‏‏.‏

الوكيلُ مَنْ تُوكَلُ إليه الأمورُ؛ أي‏:‏ تَوَكَّلْ عليه وكِلْ أمورَك إليه، وثِقْ به‏.‏

ويقال‏:‏ إنك إذا اتخذْتَ من المخلوقين وكيلاً اختزلوا مالَكَ وطالبوك بالأجرة، وإذا اتخذتني وكيلاً أُوَفِّرُ عليكَ مَالَكَ وأُعطيكَ الأجر‏.‏

ويقال‏:‏ وكيلُك ينفق عليك من مالِك، وأنا أرزقك وأنفق عليك من مالي‏.‏

ويقال‏:‏ وكيلُك مَنْ هو في القَدْرِ دونَك، وأنت تترفَّعُ أن تكلِّمَه كثيراً‏.‏ وأنا ربُّكَ سَيِّدُك وأحبُّ أنْ تكَلمَني وأُكلِّمَك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً‏}‏‏.‏

الهَجْرُ الجميل‏:‏ أن تعاشرَهم بظاهرك وتُباينَهم بِسِرِّك وقلبك‏.‏

ويقال‏:‏ الهجرُ الجميل ما يكون لحقِّ ربِّك لا بِحَظِّ نَفْسِك‏.‏

ويقال‏:‏ الهجرُ الجميلُ ألا تُكلِّمَهم، وتكلمني لأجْلهم بالدعاء لهم‏.‏

وهذه الآية منسوخة بآية القتال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أُولِي التَّنَعُّم وأنْظِرْهم قليلاً، ولا تهتم بشأنهم، فإني أكفيكَ أمرَهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً‏}‏‏.‏

ثم ذكر وصف القيامة فقال‏:‏

‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏

‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عِلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ أرسلنا إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً عليكم ‏{‏كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً‏}‏، ‏{‏فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏ ثقيلاً‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً‏}‏ من هَوْلُه يصير الولدانُ شيباً- وهذا على ضَرْبِ المثل‏.‏

‏{‏السَّمَآءُ مُنفَطِرُ بِهِ‏}‏ أي بذلك‏:‏ اليوم لهوله‏.‏

ويقال‏:‏ مُنْفَطِرٌ بالله أي‏:‏ بأمره‏.‏

‏{‏كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً‏}‏‏:‏ فما وَعَدَ اللَّهُ سيصدقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ‏}‏‏:‏ يعني هذه السورة، أو هذه الآيات مَوْعِظَةٌ؛ فَمَنْ اتعظ بها سَعِدَ‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏يَعْلَمُ أَنََّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثِى الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ‏}‏ من المؤمنين‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ‏}‏ فهو خالقهما ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏ وتطيعوه‏.‏

‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خَفَّفَ عنكم ‏{‏فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ‏}‏ من خمس آيات إلى ما زاد‏.‏ ويقال‏:‏ من عَشْرِ آيات إلى ما يزيد‏.‏

‏{‏عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ‏}‏ يسافرون، ويعلم أصحاب الأعذار، فَنَسخَ عنهم قيامَ الليل‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏}‏ المفروضة‏.‏

‏{‏وَأَقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً‏}‏ مضى معناه‏.‏

‏{‏وَمَاتُقَدِّمُواْ لأَنِفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ‏}‏ أي‏:‏ ما تقدِّموا من طاعة تجدوها عند الله ثواباً هو خيرٌ لكم من كلِّ متاع الدنيا‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏‏.‏

يا أيها المتدثر بثوبه‏.‏

وهذه السورة من أول ما أُنْزِلَ من القرآن‏.‏ قيل‏:‏ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إلى حِرَاء قبل النُّبُوة، فَبَدا له جبريلُ في الهواء، فرجع الرسول إل بيت خديجة وهو يقول «دثِّروني دثِّروني» فَدُثِّرَ بثوبٍ فنزل عليه جبريل وقال‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأنذِرْ‏}‏ وقيل‏:‏ أيها الطالبُ صَرْفَ الأذى عنك بالدثار اطلبْه بالإنذار‏.‏

ويقال‏:‏ قُمْ بنا، وأَسْقِطْ عنك ما سوانا، وأَنذِر عبادَنا؛ فلقد أقمناك بأشرف المواقف، ووقفناك بأعلى المقامات‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا سَكَنَ إلى قوله ‏{‏قُمِ‏}‏ وقام قَطَعَ عن السُّكونِ إلى قيامِه، ومن الطمانينة في قيامه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏‏.‏

كَبِّرُه عن كلِّ طَلَبٍ، ووَصْلٍ وفَصْلٍ، وعِلَّةٍ وخَلْقٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 15‏]‏

‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏‏.‏

طَهِّرْ قلبك عن الخلائق أجمع، وعن كلِّ صفةٍ مذمومة‏.‏

وطَهِّرْ نَفْسَك عن الزَّلاَّت، وقلبَك عن المخالفات، وسِرَّك عن الالتفاتات‏.‏

ويقال‏:‏ أَهْلَكَ طَهِّرْهم بالوعظ؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، فيعبر عنهن- أحياناً- بالثياب واللِّباس‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ المعاصي‏.‏ ويقال‏:‏ الشيطان‏.‏ ويقال‏:‏ طهِّرْ قلبَك من الخطايا وأشغال الدنيا‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ لا يَصِحُّ جِسْمُه لا يجد شهوةَ الطعام كذلك مَنْ لا يَصِحُّ قلبُه لا يجد حلاوةَ الطاعة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏‏.‏

لا تُعْطِ عطاءَ تطلب به زيادةٍ على ما تعطيه‏.‏

ويقال‏:‏ لا تستكثِرْ الطاعةَ من نفسك‏.‏

ويقال‏:‏ لا تمنُنْ بعملك فتَسْتكثِرَ عملك، وتُعْجَبَ به‏.‏

‏{‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أنت تُؤَذَى في اللَّهِ‏.‏ فاصبرْ على مقاساةِ أذاهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ إذا قامت القيامةُ، فذلك يومٌ عسيرٌ على الكافرين غيرُ هيِّنٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا تهتمْ بشأنهم، ولاتَحْتَفِلْ؛ فإنِّي أكفيكَ أمرَهم‏.‏

إنِّي خَلَقْتُه وحدي؛ لم يشارِكْني في خلقي إيَّاه أحدٌ‏.‏

ويحتمل‏:‏ خَلَقْتُه وَحْدَه لا ناصرَ له‏.‏

قوله جلّ ذكرهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً‏}‏‏.‏

حضوراً معه لا يحتاجون إلى السَّفَرِ‏.‏

‏{‏وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً‏}‏‏.‏

أراد‏:‏ تسهيلَ التصرُّف، أي‏:‏ مكَّنْتُهُ من التصرُّف في الأمور‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ‏}‏‏.‏

يطمع أن أزيده في النعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 32‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏كَلآَّ إِنَّهُ كَانَ لأَيَاتِنَا عَنِيداً‏}‏‏.‏

جَحوداً‏.‏

‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏‏.‏

سأحمله على مشقَّةٍ من العذاب‏.‏

‏{‏إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لُعِنَ كيف فكَّر، وكيف قَدَّر، ويعني به‏:‏ الوليد بن المغيرة الذي قال في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنَّه ليس بشاعرٍ ولا بمجنونٍ ولا بكذَّاب، وإنه ليس ساحر، وما يأتي به ليس إلا سحرٌ يُرْوَى‏:‏

‏{‏ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ قُوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرٌ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبََشَرِ‏}‏‏.‏

لا تُبقي لَحْماً، ولا تَذَرُ عَظْماً، تحرق بشرة الوجه وتُسَوِّها، من لاحته الشمسُ ولوَّحته‏.‏

‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏‏.‏

قال المشركون‏:‏ نحن جَمْعٌ كثير *** فما يفعل بنا تسعة عشر‏؟‏‏!‏ فأنزل الله سبحانه‏:‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

فيزداد المؤمنون إيماناً، ويقول هؤلاء‏:‏ أي فائدة في هذا القَدْر‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏

‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تقاصرت علومُ الخَلْقِ فلم تتعلَّقْ إلا بمقدار دون مقدار، والذي أحاط بكل شيء علماً هو الله- سبحانه‏.‏

‏{‏كَلاَّ وَالْقَمَرِ‏}‏‏.‏

كلاّ- حرفُ ردعٍ وتنبيه؛ أي‏:‏؛ ارتدعوا عما أنتم عليه، وانتبهوا لغيرِه‏.‏

واقسم بهذه الأشياء ‏{‏كَلاَّ وَالْقَمَرِ‏}‏‏:‏ أي بالقمر، أو بقدرته على القمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 46‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ وقُرِئ «ودَبَرَ» أي‏:‏ مضى، ‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ‏}‏ أي‏:‏ تجلَّى‏.‏

‏{‏إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ النار لإحدى الدواهي الكُبَر‏.‏

ويقال في ‏{‏كَلاَّ وَالْقَمَرِ‏}‏ إشارةٌ إلى أقمار العلوم إذا أخذ هلالُها في الزياد بزيادة البراهين، فإنها تزداد، ثم إذا صارت إلى حدِّ التمام في العلم وبلغت الغاية تبدوا إعلام المعرفة، فالعلم يأخذ النقصان، وتطلع شمسُ المعرفة، فكما انه قَرُبَ القمرُ من الشمس يزداد نقصانه حتى إذا قرب من الشمس تماماً صار محاقاً- كذلك إذا ظَهَرَ سلطانُ العرفانِ تأخذ أقمارُ العلوم في النقصان لزيادة المعارف؛ كالسراج في ضوء الشمس وضياء النهار‏.‏ ‏{‏وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ أي إذا انكشفت ظُلَمُ البواطن، ‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ‏}‏ وتجلَّت أنوار الحقائق في السرائر *** إنها لإحدى العظائم‏!‏ وذلك من باب التخويف من عودة الظُّلَم إلى القلوب‏.‏

‏{‏نَذِيراً لِّلْبَشَرِ‏}‏‏.‏

في هذا تحذيرٌ من الشواغل التي هي قواطع عن الحقيقة، فيحذروا المساكنةَ والملاحظةَ إلى الطاعات والموافقات *** فإنّها- في الحقيقة- لا خطرَ لها‏.‏

‏{‏لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ عن الطاعات *** وهذا على جهة التهديد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ مرتهنة بما عملت، ثم استثنى‏:‏

‏{‏إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ‏}‏‏.‏

فقال‏:‏ إنهم غير مرتهنين بأعمالهم، ويقال‏:‏ هم الذين قال الله تعالى في شأنهم‏:‏ «هؤلاء في الجنة ولا أُبالي»‏!‏

وقيل‏:‏ أَطفال المؤمنين‏.‏

‏{‏فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عِنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَر قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏

هؤلاء يتساءلون عن المجرمين، ويقولون لأهل النار إذا حَصِلَ لهم إشرافٌ عليهم‏:‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏‏؟‏ ‏{‏قالوا ألم نك من المصلين‏}‏ ألم نكُ نُطْعِمُ المسكين‏؟‏

وهذا يدل على أنَّ الكفارَ مُخَاطَبون بتفصيل الشرائع‏.‏

‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ‏}‏‏:‏ نشرع في الباطل، ونكذَّب بيوم الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 56‏]‏

‏{‏حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ‏}‏‏.‏

وهو معاينة القيامة‏.‏

‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا تنالهم شفاعةُ مَنْ يشفع‏.‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ‏}‏‏.‏

والتذكرة‏:‏ القرآن‏:‏

‏{‏كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةِ‏}‏‏.‏

كأنهم حُمُرٌ نافرة فرَّت من أَسَدٍ‏.‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏‏.‏

بل يريد كلُّ منهم أن يُعْطَى كتاباً منشوراً‏.‏

‏{‏كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الأَخِرَةَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ كَلاَّ لا يُعْطَوْن ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ‏}‏‏.‏

إلاَّ أَنْ يشاءَ اللَّهُ- لا أَنْ تشاؤوا‏.‏

‏{‏هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى‏}‏‏.‏

أهل لأن يُتَّقى‏.‏

‏{‏وََأهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏‏.‏

وأهلٌ لأَنْ يغفِرَ لمن يَتَّقِي- إن شاء‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لآَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أقسم بيوم القيامة‏.‏

‏{‏وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أقسم بالنفس اللَّوَّامة، وهي النََّفْسُ التي تلوم صاحبَها، وتعرِف نقصانَ حالِها‏.‏

ويقال‏:‏ غداً *** كلُّ نَفْسِ تلوم نَفْسَها‏:‏ إمَّا على كُفْرِها، وإمَّا على تقصيرها- وعلى هذا فالقَسَمُ يكون بإضمار «الرَّب» أي‏:‏ أقسم بربِّ النفس اللوامة‏.‏ وليس للوم النَّفْسِ في القيامةِ خطرٌ- وإنْ حُمِلَ على الكُلِّ ولكنَّ الفائدة فيه بيان أنَّ كلِّ النفوس غداً- ستكون على هذه الجُملة‏.‏ وجوابُ القسَم قولُه‏:‏ ‏{‏بَلَى‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسَانُ ألَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏‏.‏

أيظن أنَّا لن نبعثَه بعد موته‏؟‏

‏{‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ‏}‏‏.‏

‏{‏قَادِرِينَ‏}‏ نصب على الحال؛ أي بلى، نسوي بنانه في الوقت قادرين، ونقدر أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير وظلف الشاة‏.‏‏.‏ فكيف لا نقدر على إعادته‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 18‏]‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏بَل يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏‏.‏

يُقدِّم الزّلّةَ ويؤخر التوبة‏.‏ ويقول‏:‏ سوف أتوب، ثم يموت ولا يتوب‏.‏ ويقال‏:‏ يعزم على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، وبهذا لا تَنْحَلُّ- في الوقت- عقدةُ الإصرار من قلبه، وبذلك لا تصحُّ توبتُه؛ لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعودَ إلى مثل ما عَمِلَ‏.‏ فإذا كان استحلاءُ الزلّةِ في قلبه، ويفكر في الرجوع إلى مثلها- فلا تصح ندامتُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏

على جهة الاستبعاد، فقال تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ‏}‏‏.‏

‏{‏بَرِقَ‏}‏ بكسر الراء معناها تحَيَّرَ، ‏{‏وَبَرْقٌ‏}‏ بفتح الراء شَخَصَ ‏(‏فلا يَطْرِف‏)‏ من البريق، وذلك حين يُقَاد إِلى جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، لها زفير وشهيق، فلا يَبْقى مَلَكٌ ولا رسول إلاَّ وهو يقول‏:‏ نفسي نفسي‏!‏

‏{‏وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ‏}‏ كأَنهما ثوران عقيران‏.‏

ويقال‏:‏ يجمع بينهما في ألاَّ نورَ لهما‏.‏

‏{‏يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيِنَ الْمَفَرُّ‏}‏‏؟‏ والمفرّ موضع الفرار إليه، فيقال لهم‏:‏

‏{‏كَلاَّ لاَ وَزَرَ‏}‏‏.‏

اليومَ، ولا مَهْربَ من قضاءِ الله‏.‏

‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا مَحِيدَ عن حُكْمِه‏.‏

‏{‏يُنَبَّؤُاْ الإِنَسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يَعْرِف ما أسْلَفَه من ذنوب أحصاها اللَّهُ- وإن كان العبدُ نسيَها‏.‏

‏{‏بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏‏.‏

للإِنسان على نفسه دليل علامة وشاهد؛ فأعضاؤه تشهد عليه بما عملِه‏.‏

ويقال‏:‏ هو بصيرةً وحُجّةً على نفْسه في إنكار البعث‏.‏

ويقال‏:‏ إنه يعلم أَنه كان جاحداً كافراً، ولو أَتى بكلِّ حجةٍ فلن تُسْمع منه ولن تنفعه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعَجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِع قُرْءَانَهُ‏}‏‏.‏

لا تستعجِلْ في تَلَقُّفِ القرآنِ على جبريل، فإنَّ عينا جَمْعَه في قلبك وحِفْظَه، وكذلك علينا تيسيرُ قرءاته على لسانك، فإذا قرأناه أي‏:‏ جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جَمْعَه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 30‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏‏.‏

نُبيِّنُ لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعجل في التلقفِ مخافةَ النسيان، فنُهِيَ عن ذلك، وضمن اللَّهُ له التيسير والتسهيل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الأَخِرَةَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا، أي‏:‏ يحبون البقاء في الدنيا‏.‏

‏{‏وَتَذَرُونَ الأَخِرَةَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ تتركون العملَ للآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ تكفرون بها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرةٌ‏}‏‏.‏

‏{‏نَّاضِرَةٌ‏}‏‏:‏ أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إلى ربها «ناظرة» أي رائية لله‏.‏

والنظر المقرون ب «إلى» مضافاً إلى الوجه لا يكون إلاَّ الرؤية، فالله تعالى يخلق الرؤية في وجوههم في الجنة على قَلْبِ العادة، فالوجوه ناظرة إلى الله تعالى‏.‏

ويقال‏:‏ العين من جملة الوجه فاسم الوجه يتناوله‏.‏

ويقال‏:‏ الوجهُ لا ينظر ولكنَّ العينَ في الوجهِ هي التي تنظر؛ كما أنَّ النهرَ لا يجري ولكنَّ الماءَ في النهر هو الذي يجري، قال تعالى‏:‏ ‏{‏جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا تتداخلهم حيرة ولا دَهَش؛ فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمُّ من اللقاء‏.‏

والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي، وعندهم استهلاكُ العبدِ في وجود الحقِّ أتمُّ؛ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏‏.‏

‏{‏بَاسِرَةٌ‏}‏‏:‏ أي كالحةٌ عابسة‏.‏ ‏{‏فَاقِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ داهية وهي بقاؤهم في النار عَلَى التأييد‏.‏ تظن أن يخلق في وجوههم النظر‏.‏

ويحتمل أن يكون معنى ‏{‏تَظُنُّ‏}‏‏:‏ أي يخلق ظنَّا في قلوبهم يظهر أَثَرُه على وجوههم‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقَي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ‏}‏‏.‏

أي ليس الأمر على ما يظنون؛ بل إِذا بلغت نفوسُهم التراقيَ، ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏‏.‏ أي يقول مَنْ حَولَه‏:‏ هل أحدٌ يَرْقِيه‏؟‏ هل طبيبٌ يداويه‏؟‏ هل دواءٌ يشفيه‏؟‏

ويقال‏:‏ مَنْ حَوْله من الملائكة يقولون‏:‏ مَنْ الذي يَرْقى برُوحه؛ أملائكةُ الرحمة أو ملائكة العذاب‏؟‏‏.‏

‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ‏}‏‏:‏ وعلم الميت أنه الموت‏!‏‏.‏

‏{‏وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ‏}‏‏:‏ ساقا الميت‏.‏ فتقترِنُ شِدَّةُ آخرِ الدنيا بشدَّة أوَّلِ الآخرة‏.‏

‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ‏}‏ أي الملائكةُ يسوقون روحَه إلى الله حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه‏:‏ إِمّا إلى عليين- ثم لها تفاوت درجَات، وإِمّا إلى سجِّين- ولها تفاوت دَرَكات‏.‏

ويقال‏:‏ الناسُ يُكَفًِّنون بَدنَ الميت ويغسلونه، ويُصَلُّون عليه‏.‏‏.‏ والحقُّ سبحانه يُلْبِسُ روحَه ما تستحق من الحُلَلِ، ويغسله بماء الرحمة، ويصلي عليه وملائكتُه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 39‏]‏

‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ الكافر ما صدٌّق اللَّهَ ولا صلَّى له، ولكن كذَّب وتولَّى عن الإيمان‏.‏ وتدل الآيةُ على أنَّ الكفارَ مُخَاطَبون بتفصيل الشرائع‏.‏

‏{‏ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يتبختر ويختال‏.‏

‏{‏أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى‏}‏‏.‏

العَربُ إذا دَعَتْ على أحدٍ بالمكروه قالوا‏:‏ ‏{‏أَوْلَى لَكَ‏}‏ وهنا أتبع اللفظَ اللفظَ على سبيل المبالغة‏.‏

ويقال‏:‏ معناه الويلُ لَكَ يومَ تَحيا‏.‏ والويلُ لكَ يوم تَموت، والويلُ لكَ يومَ تُبْعَث، والويلُ لكَ يومَ تدخل النار‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏‏.‏

مُهمَلاً لا يُكلَّفُ‏!‏‏؟‏‏.‏ ليس كذلك‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى‏}‏‏.‏

‏{‏مِّن مَّنِِىٍّ يُمْنَى‏}‏ أي تُلْقى في الرَّحم ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً‏}‏ أَي‏:‏ دماً عبيطاً، فسوَّى أَعضاءَه في بطن أُمه، ورَكَّبَ أجزاءَه على ماهو عليه في الخِلْقَة، وجعل منه الزوجين‏:‏ إن شاء خَلَقَ الذَّكَرَ، وإن شاء خَلَقَ الأنثى، وإن شاء كليهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

أَليس الذي قدر على هذا كلِّه بقادر على إحياء الموتى‏؟‏ فهو استفهام في معنى التقرير‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً‏}‏‏.‏

في التفسير‏:‏ قد أتى على الإِنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً له خَطَرٌ ومقدار‏.‏ قيل‏:‏ كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحاً جَسَدُه بين مكة والطائف‏.‏ ثم من صلصالٍ أربعين سنة، ثم من حملٍ مسنون أربعين سنة، فتمَّ خَلْقُه بعد مائة وعشرين سنةٍ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهَرِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ أي لم يأتِ عليه وقتٌ إلا كان مذكوراً إليَّ‏.‏

ويقال‏:‏ هل غَفلْتُ ساعةً عن حِفْظِك‏؟‏ هل ألقيتُ- لحظةً- حَبْلَكَ على غارِبِك‏؟‏ هل أخليتُك- ساعةً- من رعاية جديدة وحمايةٍ مزيدة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏مِن نُّطْفَةٍ‏}‏‏:‏ أي من قطرة ماءٍ، ‏{‏أَمْشَاجٍ‏}‏‏:‏ أَخلاط من بين الرجل والمرأة‏.‏

ويقال‏:‏ طوراً نطفة، وطوراً عَلَقَة، وطوراً عَظْماً، وطوراً لَحْماً‏.‏

‏{‏نَّبْتَلِيهِ‏}‏‏:‏ نمتحنه ونختبره‏.‏ وقد مضى معناه‏.‏

‏{‏فَجَعَلْنَهُ سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وإِمَّا كَفُوراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ عَرَّفْناه الطريقَ؛ أي طريقَ الخيرِ والشرِّ‏.‏

وقيل‏:‏ إمَّا للشقاوة، وإمَّا للسعادة، إمَّا شاكراً من أوليائنا، وإما ان يكون كافراً من أعدائنا؛ فإنْ شَكَرَ فبالتوفيق، وإنْ كَفَرَ فبالخذلان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلا وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ هَيَّأْنا لهم سلاسلَ يُسْحَبون فيها، ‏{‏وَأغْلاَلاً‏}‏ لأعناقهم يُهانون بها، ‏{‏وَسَعِيراً‏}‏‏:‏ ناراً مستعرة‏.‏

‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ البَرُّ‏:‏ الذي لا يُضْمِرُ الشَّرَّ، ولا يؤذي الذَّرّ‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏الأَبْرَارَ‏}‏‏:‏ هم الذين سَمَتْ هِمَّتهُم عن المستحقرات، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مُسَاكنةٍ الدنيا‏.‏

‏{‏يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ‏}‏ رائحتها كرائحة الكافور، أو ممزوجة بالكافور‏.‏

ويقال‏:‏ اختلفت مشاربهُم في الآخرة؛ فكلٌّ يُسْقَى ما يليق بحاله *** وكذلك في الدنيا مشاربهُم مختلفة؛ فمنهم مَنْ يُسقَى مَزْجاً، ومنهم من يُسقَى صِرْفاً، ومنهم من يسقى على النُّوَب، ومنهم من يُسقى بالنُّجُب ومنهم من يُسْقى وحدَه ولا يُسقي مما يُسقى غيره، ومنهم مَنْ يسقى هو والقوم شراباً واحداً *** وقالوا‏:‏

إن كنت من ندماي فبالأكبر اسْقِني *** ولا تَسْقِني بالأصغر المتثلم

وفائدة الشرابِ- اليومَ- أن يشغلهم عن كل شيءٍ فيريحُهم عن الإحساس، ويأخذهم عن قضايا العقل‏.‏‏.‏ كذلك قضايا الشراب في الآخرة، فيها زوالُ الأرَبِ، وسقوطُ الطلبِ، ودَوَامُ الطَّرَب، وذَهَابُ الحَرَب، والغفرة عن كلِّ سبب‏.‏

ولقد قالوا‏:‏

عاقِرْ عقارك واصْطبِحْ *** واقدَحْ سرورَك بالقَدحَ

واخلع عذارك في الهوى *** وأَرِحْ عذولَك واسترحْ

وافرَحْ بوقتِك إنما *** عُمْرُ الفتى وقتُ الفَرَح

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً‏}‏‏.‏

يُشَقَّقونها تشقيقاً، ومعناه أَن تلك العيون تجري في منازلهم وقصورهم على ما يريدون‏.‏ واليومَ- لهم عيونٌ في أسرارهم من عين المحبة، وعين الصفاء، وعين الوفاء، وعين البسط، وعين الروح‏.‏‏.‏ وغير ذلك، وغداً لهم عيون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏

‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ‏}‏‏.‏

ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال‏:‏ يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجهٍ مخصوص‏:‏

‏{‏وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً‏}‏‏.‏

قاسياً، منتشراً، ممتداً‏.‏

‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ على حُبِّهم للطعام لحاجتهم إليه‏.‏ ويقال‏:‏ على حُبِّ الله، ولذلك يُطْعِمون‏.‏

ويقال‏:‏ على حُبِّ الإطعام‏.‏

وجاء في التفسير‏:‏ أَن الأسير كان كافراً- لأنَّ المسلَم ما كان يُستأسَرُ في عهده- فطاف على بيت فاطمة رضي الله عنها وقال‏:‏ تأسروننا ولا تطعموننا‏!‏

‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً‏}‏‏.‏

إنما نطعمكم ابتغاءَ مرضاةِ الله، لا نريد من قبِلكُم جزاءً ولا شكراً‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم، ولكن كان ذلك بضمائرهم‏.‏

‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏فَوَقَهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَّاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعطاهم ‏{‏نَضْرَةً وَسُرُواً‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً‏}‏‏.‏

كافَأَهُم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنَّةً وحريراً‏.‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ‏}‏‏.‏

واحدها أريكة، وهي السرير في الحجال‏.‏

‏{‏لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا يتَأَذْون فيها بِحَرًٍّ ولا بَرْدٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً‏}‏‏.‏

يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة؛ فإِن كانوا قعوداً تُدلَّى لهم، وإن كانوا قياماً- وهي على الأرض- ارتقت إليهم‏.‏

‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِئَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ‏}‏‏.‏

الاسم فضة، والعين لا تشبه العين‏.‏

‏{‏وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيراْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ في صفاء القوارير وبياض الفضة *** قَدَّرَ ذلك على مقدار إرادتهم‏.‏

‏{‏وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً‏}‏‏.‏

المقصود منه الطِّيب‏.‏ فقد كانوا ‏(‏أي العرب‏)‏ يستطيبون الزنجبيل، ويستلذون نكهته، وبه يشبِّهون الفاكهة، ولا يريدون به ما يقرص اللسان‏.‏

‏{‏عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يُسْقَوْنَ من عين- أثبت المَسْقِيَّ وأَجْمَلَ مَنْ يسقيهم؛ لأنَّ منهم من يسقيه الحقُّ- سبحانه- بلا واسطة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنتُوراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يخدمهم ‏{‏وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ‏}‏ وصفا لا يجوز واحد منهم حدَّ الوصائف‏.‏

وجاء في التفسير‏:‏ لا يَهْرَمون ولا يموتون‏.‏ وجاء مُقَرَّطون‏.‏

إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤاً منثوراً‏.‏

وفي التفسير‏:‏ ما من إنسانٍ من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ‏}‏‏:‏ أي في الجنة‏.‏

‏{‏وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏‏:‏ في التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول‏.‏

وقيل‏:‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏ ويقال‏:‏ أي لا زوالَ له‏.‏

‏{‏عَالَيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً‏}‏‏.‏

يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار‏.‏ ويصح أن يكون للولدان وهو أَوْلَى، والاسم يوافق الاسم دون العين‏.‏

‏{‏شََراباً طَهُوراً‏}‏‏:‏ الشراب الطهورُ هو الطاهر في نفسِه المُطَهَّرُ لغيره‏.‏

فالشراب يكون طهوراً في الجنة- وإنْ لم يحصل به التطهيرُ لأن الجنة لا يُحتاجُ فيها إلى التطهير‏.‏

ولكنه- سبحانه- لمَّا ذَكَرَ الشرابَ- وهو اليومَ في الشاهد نجَسٌ- أخبر أنَّ ذلك الشرابَ غداً طاهرٌ، ومع ذلك مُطَهِّر؛ يُطَهِّرُهم عن محبة الأغيار، فمن يَحْسِ من ذلك الشرابِ شيئاً طَهَّرَه عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات‏.‏

ويقال‏:‏ يُطَهِّرُ صدورهم من الغِلِّ والغِشِّ، ولا يُبْقِي لبعضهم مع بعض خصيمة ولا عداوة ولا دَعْوَى ولا شيء‏.‏

ويقال‏:‏ يُطهِّرُ قلوبهم عن محبة الحور العين‏.‏

ويقال‏:‏ إن الملائكة تعرض علهيم الشرابَ فيأبون قبولَه منهم، ويقولون‏:‏

لقد طال أَخْذُنا مِنْ هؤلاء، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواهَهَم بغير أكُفٍّ؛ من غيبٍ إلى عَبْدٍ‏.‏

ويقال‏:‏ اليومَ شرابٌ وغداً شراب *** اليوم شرابُ الإيناس وغداً شرابُ الكاس، اليومَ شرابٌ من اللُّطْفِ وغداً شرابٌ يُدار على الكفّ‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ سقاه اليومَ شرابَ محبَّتهِ آنسَه وشَجَّعُه؛ فلا يستوحِش في وقته من شيء، ولا يَضِنُّ بروحه عن بَذْل‏.‏

ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كلِّ أحدٍ بالكونين من غير تمييز، ولا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار‏.‏

ومن آثارِ شُرْبِه تذلُّلُه لكلِّ أحدٍ لأجل محبوبه، فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم، لا يتحرَّكُ فيه للتكبُّر عرْقٌ‏.‏

وقد يكون من مقتضى ذلك الشارب أيضاً في بعض الأحايين أَنْ يَتِيه على أهل الدارين‏.‏

ومن مقتضى ذلك الشراب أيضاً أَنْ يمْلِكَه سرورٌ ولا يَتَمَالَكُ معه من خَلْعِ العذار وإلقاء قناع الحياء ويظهر ما هو به من المواجيد‏:‏

يخلع فيك العذارَ قومٌ *** فكيف مَنْ مالَه عذارُ‏؟‏

ومن موجِبات ذلك الشراب سقوط الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لفظ الشكوى، وبما لا يَستخرجُ منه- في حال صَحْوه- سفيه بالمناقيش *** وعلى هذا حَمَلُوا قول موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏

فقالوا‏:‏ سَكِرَ من سماع كلامه، فَنَطَقَ بذلك لسانُه‏.‏ وأمَّا مَنْ يسقيهم شرابَ التوحيد فَيَنْفي شهودَ كلِّ غَيْرِ فَيهيمون في أودية العِزِّ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء، وتتلاشى جملتهُم في هوء الفرادنية *** فلا عقلَ ولا تمييزَ ولا فَهْمَ ولا إدراك *** فكلُّ هذه المعاني ساقطة‏.‏

فالعبدُ يكون في ابتداء الكَشْفِ مُستوْعَباً ثم يصير مستغْرقاً ثم يصيرُ مُسْتَهْلَكا *** ‏{‏وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً‏}‏‏.‏

يقال لهم‏:‏ هذا جزاءٌ لكم، ‏{‏مَّشْكُوراً‏}‏‏:‏ وشُكْرُه لسعيهم تكثيرُ الثوابِ على القليل من العمل- هذا على طريقة العلماء، وعند قومٍ شُكْرُهم جزاؤهم على شكرهم‏.‏

ويقال‏:‏ شُكْرُه لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً‏}‏‏.‏

في مُدَّةٍ سنين‏.‏

‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفَوراً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ارْضَ بقضائه، واستسلمْ لِحُكْمِه‏.‏

‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ولا كفوراً، وهذا أمرٌ له بإفرادِ ربِّه بطاعته‏.‏

‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدُ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً‏}‏‏.‏

الفَرْضُ في الأول، ثم النَّفْل‏.‏

‏{‏إِنَّ هَؤءُلآَءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

أي كفَّار قريش‏:‏

‏{‏يُحِبُّونَ الْعَاجِلََةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِِيلاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا يعلمون ليوم القيامة‏.‏

قوله جلّ ذكر ه‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً‏}‏‏.‏

أعدمناهم، وخلقنا غيرَهم بدلاً عنهم‏.‏ ويقال‏:‏ أخذنا عنهم الميثاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

أي‏:‏ القرآن تذكرة‏.‏

‏{‏فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً‏}‏‏.‏

بطاعته‏.‏

‏{‏وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ عَذَاباً أَلِيمَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ عذاباً أليماً موجِعاً يخلص وَجَعُه إلى قلوبهم‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفاً‏}‏‏.‏

‏{‏المرسلات‏}‏‏:‏ الملائكة ‏{‏عرفاً‏}‏ أي‏:‏ أرسلوا بالمعروف من الأمر، أو كثيرين كعُرْفِ الفَرس‏.‏

‏{‏فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً‏}‏‏.‏

الرياحُ الشديدة ‏(‏العوصف تأتي بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه‏)‏‏.‏

‏{‏وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً‏}‏‏.‏

الأمطار ‏(‏لأنها تنشر النبات‏.‏ فالنشر بمعنى الإحياء‏)‏‏.‏ ويقال السُّحُبُ تنشر الغيث‏.‏ ويقال‏:‏ الملائكة‏.‏

‏{‏فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً‏}‏‏.‏

الملائكة؛ تفرق بين الحلال والحرام‏.‏

‏{‏فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً‏}‏‏.‏

الملائكة‏:‏ تُلقِي الوحي على الأنبياء عليهم السلام؛ إعذاراً وإنذاراً‏.‏ وجوابُ القَسَم‏:‏

‏{‏إِنَّمَا تُوَعَدُونَ لَوَاقعٌ‏}‏‏.‏

فأقسم بهذه الأشياء‏:‏ إنَّ القيامة لحقُّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذٍَا النُّجُومُ طُمِسَتَ‏}‏‏.‏

إنما تكون هذه القيامة‏.‏ و‏{‏طمست‏}‏‏:‏ ذهب ضَوؤُها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 17‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ‏}‏‏.‏

ذَهَبَ بها كلِّها بسرعة، حتى لا يَبْقَى لها أَثَرٌ‏.‏

‏{‏وَإِذَا الرُّسُلُ أُقَّتَتْ لاَّيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ جَعَلَ لها وقتاُ وأَجَلاً لفَصْلِ القضاءِ يومَ القيامة‏.‏

ويقال‏:‏ أُرْسِلَتْ لأوقاتٍ معلومة‏.‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ‏}‏‏.‏

على جهة التعظيم له‏.‏

‏{‏وَيْلٌ يَؤْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏‏.‏

مضى تفسيرُ معنى الويل‏.‏

ويقال في الإشارات‏:‏ فإذا نجومُ المعارف طمست بوقوع الغيبة‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ‏}‏ القلوبُ الساكنة بيقين الشهود حُرِّكَتْ عقوبةً على ما هَمَّتْ بالذي لا يجوز‏.‏ فويلٌ يومئذٍ لأرباب الدعاوَى الباطلِة الحاصلةِ من ذوي القلوب المُطبقة الخالية من المعاني‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأَخِرِينَ‏}‏‏.‏

الذين كذَّبوا رُسُلَهم، وجحدوا آياتنا؛ فمثلما أهلكنا الأولين كذلك نفعل بالمجرمين إذا فعلوا مثلَ فِعْلِهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ الذين لا يستوي ظاهرُهم وباطنهم في التصديق‏.‏

وهكذا كان المتقدمون من أهل الزَّلَّة والفَترة في الطريقة، والخيانة في أحكام المحبة فعُذِّبوا بالحرمان في عاجلهم، ولم يذوقوا من المعاني شيئاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ حقير‏.‏ وإذ قد علمتم ذلك فلِمَ لم تقيسوا أمر البعث عليه‏؟‏

ويقال‏:‏ ذَكَّرَهم أصلَ خلقتم لئلا يُعْجَبوا بأحوالهم؛ فإنه لا جِنْسَ من المخلوقين والمخلوقاتِ أشدَّ دعوى من بني آدم‏.‏ فمن الواجب أَنْ يَتَفَكَّرَ الإنسان في أَصلِه *** كان نطفةً وفي انتهائه يكون جيفة، وفي وسائط حالِه كنيفٌ في قميص‏!‏‏!‏ فبالحريِّ ألاَّ يُدِلَّ ولا يفتخر‏:‏

كيف يزهو مَنْ رجيعهُ *** أَبَدَ الدهرِ ضجيعُه

فهو منه وإليه *** وأَخوه ورضيعُه

وهو يدعوه إلى الحُ *** شِّ بصغر فيطيعه‏؟‏‏!‏‏!‏

ويقال‏:‏ يُذكِّرهم أصلَهم‏.‏‏.‏ كيف كان كذلك *** ومع ذلك فقد نقلهم إلى أحسن صورة، قال تعالى‏:‏

‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏، والذي يفعل ذلك قادِرٌ على أن يُرقِّيَكَ من الأحوال الخسيسة إلى تلك المنازل الشريفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضِ كِفاتاً أَحْيَآءً وَأَمْوَاتاً‏}‏‏.‏

‏{‏كِفَاتاً‏}‏ أي‏:‏ ذات جَمْعٍ؛ فالأرض تضمهم وتجمعهم أحياءً وأمواتاً؛ فهم يعيشون على ظهرها، ويُودَعون بعد الموت في بطنها‏.‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ جبالاً مرتفعات، وجعلنا بها الماء سقياً لكم‏.‏ يُذكِّرهم عظيم مِنَّتهِ بذلك عليهم‏.‏ والإشارةُ فيه إلى عظيم مِنَّته أنَّه لم يخسف بكم الأرض- وإن عملتم ما عملتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

يقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى النار التي كذَّبتم بها‏.‏

‏{‏انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلاَثِ شُعَبٍِ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ‏}‏‏.‏

كذلك إذا لم يعرفْ البعدُ قَدْرَ انفتاح طريقه إلى الله بقلْبه، وتعزُّرِه بتوكله *** فإذا رجع إلى الخَلْقِ عند استيلاء الغفلة نَزَعَ اللَّهُ عن قلبه الرحمةَ، وانسدَّت عليه طُرُقُ رُشْدِه، فيتردد من هذا إلى هذا إلى هذا‏.‏

ويقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى ما كنتم به تكذِّبون‏.‏ والاستقلالُ بالله جنّة المأوى، والرجوعُ إلى الخَلْقِ قَرْعُ باب جهنم‏.‏‏.‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

ولم أرَ قبلي مَنْ يُفارِقُ جنَّةً *** ويقرع بالتطفيل بابَ جهنم

ثم يقال لهم إذا أخذوا في التنصُّل والاعتذار‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

فإلى أنْ تنتهيَ مُدّةُ العقوبة فحينئذٍ‏:‏ إنْ استأنَفْتَ وقتاً استؤنِفَ لك وقتٌ‏.‏ فأمَّا الآن‏.‏‏.‏ فصبراً حتى تنقضِيَ أيامُ العقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

فعلنا بكم ما فعلنا بهم في الدنيا من الخذلان، كذلك اليوم سنفعل بكم ما نفعل بهم من دخول النيران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

اليومَ‏.‏‏.‏ في ظلال العناية والحماية، وغداً‏.‏‏.‏ هم في ظلال الرحمة والكلاءة‏.‏

اليومَ‏.‏‏.‏ في ظلال التوحيد، وغداً‏.‏‏.‏ في ظلال حُسْن المزيد‏.‏

اليومَ‏.‏‏.‏ في ظلال المعارف، وغداً‏.‏‏.‏ في ظلال اللطائف‏.‏

اليومَ‏.‏‏.‏ في ظلال التعريف، وغداً‏.‏‏.‏ في ظلال التشريف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

اليومَ تشربون على ذِكْره‏.‏‏.‏ وغداً تشربون على شهوده، اليوم تشربون بكاسات الصفاء وغداً تشربون بكاسات الولاء‏.‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

والإحسانُ من العبد تَرْكُ الكلِّ لأَجله‏!‏ كذلك غداً‏:‏ يجازيك بترك كلِّ الحاصل عليك لأجْلِك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

هذا خطابٌ للكفار، وهذا تهديد ووعيد، والويل يومئذٍ لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

كانوا يُصُرُوُّن على الإباء والاستكبار فسوف يقاسون البلاء العظيم‏.‏

‏[‏ذكر في التفسير‏:‏ أن المتقين دائماً في ظلال الأشجار، وقصور الدرِّ مع الأبرار، وعيون جارية وأنهار، وألوانٍ من الفاكهة والثمار‏.‏‏.‏ من كل ما يريدون من المِلك الجبَّار‏.‏ ويقال لهم في الجنة‏:‏ كلوا من ثمار الجنات، واشربوا شراباً سليماً من الآفات‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الطاعات‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَجْزْى الْمُحْسِنِينَ‏}‏ من الكرامات‏.‏ قيل‏:‏ كلوا واشربوا ‏{‏هَنِيئَا‏}‏‏:‏ لا تبعة عليكم من جهة الخصومات، ولا أذيَّة في المأكولات والمشروبات‏.‏

وقيل‏:‏ الهنيء الذي لا تَبِعَةَ فيه على صاحبه، ولا أَذِيَّةَ فيه من مكروهٍ لغيره‏.‏