فصل: تفسير الآيات رقم (43- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة فاطر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الْحَمدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ‏}‏‏.‏

استحق المدحَ والثناءَ على انفراده بالقدرة على خلق السموات والأَرض‏.‏

‏{‏جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوِْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثُ وَرُبَاعُ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ‏}‏‏:‏

تَعَرَّف إلى العباد بأفعاله، ونَدَبَهم إلى الاعتبار بها، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينةً كالسموات والأرض وغيرها، ومنها ما سبيلُ الإيمانِ به الخبرُ والنقلُ- لا بدليل العقل- والملائكةُ مِنْ ذلك؛ فلا نتحقق كيفيّة صُوَرِهم وأجنحتهم، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته، وصِدْقَ كلمته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَزِيدُ فِى الخَلْقِ مَا يَشَاءُ‏}‏‏:‏ قيل الخُلُقُ الَحَسَنُ، وقيل الصوتُ الحَسَنُ، وقيل الصوتُ الحَسَنُ وقيل مَلاَحَةُ العينين، وقيل الكياسة في الخِيَرَة، وقيل الفصاحة في المنطق، وقيل الفهم عن الله، ويقال السخاء والجود، ويقال الرضا بالتقدير، ويقال علو الهمة، ويقال التواضع، ويقال العفة عند الفقر، ويقال الظرف في الشمائل، ويقال أن تكون مُحَبَّباً إلى القلوب، ويقال خفة الروح، ويقال سلامة الصدر من الشرور، ويقال المعرفة بالله بلا تأمُّل برهان، ويقال الشوق إلى الله، ويقال التعطُّف على الخَلْقِ بجملتهم، ويقال تحرُّر القلوب من رِقِّ الحدثنان بجملته، ويقال ألا يَطْلُبَ لنفسه منزلةً في الدارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

المُوَسَّعُ عليه رِزْقهُ لا يُضَيَّقُ عليه غيرُ الله، والمحرومُ لا يُوَسعُ عليه غيرُ الله‏.‏

ويقال‏:‏ ما يلج في قلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحابَ يستره، ولا ضياءَ يقهره‏.‏

ويقال‏:‏ ما يلزم قلوبَ أوليائه من اليقين فلا مُزِيلَ له، وما يُغْلَق على قلوب الأَعداء من أبواب الذكر فلا فاتحَ له غيره- سبحانه‏.‏

ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمْسِكَ له، والذي يمنعه عن أعدائه- بما يُلْقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا مُيَسِّرَ له من دونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

مَنْ ذَكَرَ النِّعمةَ فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَنْ ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادةٍ، ونائِلُ زيادة *** ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادة؛ ذل زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه‏:‏ اليوم سِرَّاً بِسِرٍّ من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ من حيث المعاينة‏.‏

والنعمة على قسمين‏:‏ ما دَفَعَ عنه من المِحَن، وما نَفَعَ به من المِنَن؛ فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجِبُ دوامَ العصمة، وذكره لم نَفَعَه به يوجب تمام النعمة‏.‏

‏{‏هَلْ مِنَ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏؟‏ وفائدة هذا التعريف أنه إذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره لم يُعلِّقْ قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ، ولم يتذلل في ارتفاقٍ لمخلوقٍ، وكما لا يرى رِزْقَه من مخلوقٍ لا يراه من نفسه أيضاً؛ فيتخلَّصُ من ظلمات تدبيره واحتياله، ومن تَوَهُّم شيءٍ من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هذه تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، وتسهيلٌ للصبر عليه؛ فإذا عَلِمَ أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثلما استقبله، وأنَّهم صَبَرُوا وأنَّ اللَّهَ كفاهم، فهو يسلك سبيلَهم ويقتدي بهم، وكما كفاهم عَلِمَ أنه أيضاً يكفيه‏.‏ وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامِّ والأجانبِ عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، بينما أهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم‏.‏

والعوامُّ أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتقشفين، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وَعْدُ اللَّهِ حقٌّ في كل ما أخبر به أنه يكون، فَوعْدُه في القيامة حقٌ، ووعده لِمَنْ أطاعه بكفاية الأمور والسلامة حقٌّ، ووعده للمطيعين في الآخرة بوجود الكرامة حقٌّ، وللعاصين بالندامة حقٌّ، فإذا عَلِمَ العبدُ ذلك استعدَّ للموت، ولم يهتم بالرزق، فيكفيه اللَّهُ شُغْلَه، فينشط العبدُ في استكثار الطاعة ثقةً بالوعد، ولا يُلِمُّ بالمخالفات خوفاً من الوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عدواةُ الشيطان بدوام مخالفته؛ فإنَّ مِنَ الناس مَنْ يعاونه بالقول ولكن يوافقه بالفعل، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربِّ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة‏.‏ والشيطانُ لا يفتر في عداوتك، فلا تَغْفَلْ أنت عن مولاك لحظةً فيبرز لك عدوُّك؛ فإنه أبداً متمكِّنٌ لك‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ‏}‏ وحِزْبه هم المُعرِضون عن الله، المشتغلون بغير الله، والغافلون عن لله‏.‏ ودليلُ هذا الخطاب‏:‏ إن الشيطانَ عدوُّكم فأبغضوه واتخذوه عدواً، وأنا وَلِيُّكُم‏.‏ وحبيبُكم فأَحِبُّوني وارْضَوْا بي حبيباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الذين كفروا لهم عذابٌ مُعَجَّلٌ وعذابٌ مُؤَجَّلٌ، فَمُعَجَّلُه تفرقةُ قلوبهم وانسداد بصائرهم ووقاحة هِمَّتِهم حتى أنهم يرضون بأن يكون الصنمُ معبودَهم‏.‏ وأمَّا عذاب الآخرة فهو ما لا تخفى على مسلم- على الجملة- صعوبتُه‏.‏

وأَمَّا ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ فلهم مغفرةٌ أي سَتْرٌ لذنوبهم اليومَ، ولولا ذلك لافتضحوا، ولولا ذلك لَهَلَكُوا‏.‏

‏{‏وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏‏:‏ والأجرُ الكبيرُ اليومَ سهولةُ العبادةِ ودوامُ المعرفة، وما يناله في القلب من زوائد اليقين وخصائص الأحوال‏.‏ وفي الآخرة‏:‏ تحقيقُ السُّؤْلِ ونَيْلُ ما فوق المأمول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

معنى الآية‏:‏ أفمن زين له سوءُ عمله فرآه حسناً كمن ليس كذلك‏؟‏ لا يستويان‏!‏

ومعنى ‏{‏زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏}‏ أن الكافرَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عملَه حَسَنٌ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَحْسِنُونَ صُنْعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏‏.‏

ثم الراغبُ في الدنيا يجمع حلالَها وحرامَها، ويحوّش حُطَامها، ولا يفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها؛ فلقد زين له سوء عمله‏.‏ وإن الذي يُؤَثِرُ على ربِّه شيئاً من المخلوقات لَهُوَ من جملتهم‏.‏ والذي يتوهَّمُ أنه إذا وَجَدَ نجاتَه ودرجاتِه في الجنة- وأنَّ هذا يكفيه‏.‏‏.‏ فقد زُيِّن له سوءُ عمله حيث يتغافل عن حلاوة المناجاة‏.‏ والذي هو في صحبة حظوظه ولا يُؤْثِرُ حقوق اللهِ فلقد زين له سوء عمله فرآه حسناً‏.‏

‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ‏}‏‏:‏ يعني إذا عَرَفْتَ حقَّ التقدير، وعَلِمْتَ أنهم سقطوا من عين الله، ودَعَوْتَهم جَهْراً، وَبذلَتْ لهم نُصْحاً، فاستجابتُهم ليست لك، فلا تَجْعَلْ على قلبك من ذلك مشقةً ولا عناءً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

أجرى سُنَّتَه بأنه يُظْهِرُ فَضْلَه في إحياء الأرض بالتدريج؛ فأولاً يرسل الرياح ثم يأتي بالسحاب، ثم يوجِّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي له تخصيصاً كيف يشاء، ويُمْطِرُ هناك كيف يشاء‏.‏ كذلك إذا أراد إحياءَ قلبِ عبدٍ بما يسقيه وينزل عليه من أَمطار عنايته، فيُرْسِلُ أولاً رياحَ الرجاء، ويزعج بها كوامنَ الإرادة، ثم ينشئ فيها سُحُبَ الاهتياج، ولوعةَ الانزعاج، ثم يجود بمطرٍ يُنْبِتُ في القلب أزهارَ البَسْطِ، وأَنوارَ الرَّوْح، فيطيب لصاحِبه العَيْشُ إلى أن تمَّ لطائفُ الأنْسِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

مَنْ كان يريد العزة بنفسه فَلْيَعْلَمْ أَنَّ العزةَ بجملتها لله، فليس للمخلوق شيءٌ من العِزَّة‏.‏ ويقال مَنْ كان يريد العزةَ لنفسه فللَّه العِزَّةُ جميعاً، أي فليطلبها من الله، وفي آية أخرى أثبت العزة للَّهِ ولرسوله وللمؤمنين، وقال ها هنا ‏{‏فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً‏}‏؛ وَوَجْهُ الجميع بينها أن عِزَّ الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلاً من الله ولطفاً؛ فإذاً العِزَّةُ لله جميعاً‏.‏ وعزُّه سبحانه- قُدْرتَُه‏.‏ أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يُقْهَرُ؛ فيكون من صفات فعله على أول القولين‏.‏‏.‏ ومن صفات ذاته على القول الآخر‏.‏ ويقال العزيز هو الذي لا يُوصَلُ إليه مِنْ قولِهم‏:‏ أرضٌ عَزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه‏.‏

ويقال العزيز الذي لا مِثْلَ له؛ من قولهم؛ عَزَّ الطعام في اليد‏.‏ فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏‏:‏ الكلم الطيب هو الصادرُ عن عقيدةٍ طيبةٍ- يعني الشهادتين- عن إخلاص‏.‏ وأراد به صعودَ قَبُولٍ، لأنَّ حقيقةَ الصعود في اللغة بمعنى الخروج- ولا يجوز في صفة الكلام‏.‏

‏{‏وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏:‏ أي يقبله‏.‏ ويقال العملُ الصالحُ يرفع الكَلِمَ الطيب‏.‏ ويقال الكَلِمُ الطيبُ ما يكون موافقاً للسُّنَّة، ويقال هو ما يشهد بِصِحَّتِه الإذنُ والتوقيف‏.‏ ويقال هو نُطْقُ القلبِ بالثناء على ما يستوجبه الربُّ‏.‏ ويقال هو ما يكون دُعاءً للمسلمين‏.‏ ويقال ما يتجرد حقاً للحقِّ ولا يكون فيه حَظٌّ للعبد‏.‏ ويقال ما هو مُسْتَخْرَجٌ من العبد وهو فيه مفقود‏.‏ ويقال هو بيانُ التنصُّل وكلمة الاستغفار‏.‏

ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يُطْلَبُ عليه عِوَضٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ‏}‏‏.‏

أي يَقْلِبُ عليهم مَكْرَهم فيما يتوهمونه من خيرٍ لهم يَقْلِبُه محنةً عليهم‏.‏ ويقال‏:‏ تَخْلِيَتُه إياهم ومَكْرَهم- مع قدرته علىعصمتهم، وكَوْنُه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ذَكَّرَهم نِسْبَتَهم لئلا يُعْجَبوا بحالتهم، ثم إن ما يُتَّخَذُ من الطين سريعُ التغيُّر، قليلُ القوة في المُكث، لكنه يَقْبَلُ الانجبار بالماء إذ تنجبر به طينته؛ فإذا جاد الحقُّ عليه بماء الجودِ أعاده بعد انكساره بالذنوب‏.‏

وإذا كان لا يَخْفى عليه- سبحانه- شيءٌ من أحوالهم في ابتداء خَلْقَتِهِم، فَمَنْ يُبالِ أَنْ يَخْلُقَ مَنْ يعلم أنه يَعْصي فلا يبالي أَنْ يغفِرَ لِمَنْ رآه يعصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

لا تستوي الحالتان‏:‏ هذه إقبالٌ على الله، واشتغالٌ بطاعته، واستقلال بمعرفته *** وهذه إِعْراضٌ عن الله، وانقباضٌ عن عبادته، واعتراض- على الله- في قسمته وقبضته‏.‏ هذه سبب وصاله، وهذه سببُ هَجْرِه وانفصاله، وفي كلِّ واحدةٍ من الحالتين يعيش أهلها، ويُزْجِي أصحابُها وقتَها‏.‏ ولا يستوي الوقتان‏:‏ هذا بَسطٌ وصاحبُه في رَوْح، وهذا قبضٌ وصاحبه في نَوْح‏.‏ هذا خوفٌ وصاحبه في اجتايح، وهذا رجاءٌ وصاحبه في ارتياح‏.‏ هذا فَرْقٌ وصاحبُه بوصف العبودية، وهذا جَمْعٌ وصاحبُه في شهود الربوبية‏.‏

‏{‏وَمِن كُلٍّ تأْكُلُونَ لَحْماً طَريًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏‏:‏ كذلك كُلٌّ يتقرَّبُ في حالته لربِّه، ويتزَيَّنُ على بابه، وهو حِلْيَتُه التي بها يتحلّى من طَرَبٍ أو حَرَبٍ، من شَرَفٍ أو تَلْفٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

تغلب النَّفْسُ مرةً على القلب، ويغلب القلبُ مرةً على النَّفْس‏.‏ وكذلك القبضُ والبسط فقد يستويان، ومرةً يغلب القبضُ على البسطَ، ومرةً يغلب البسطُ على القبض، وكذلك الصحو والسُّكْرُ، وكذلك الفناء والبقاء‏.‏

وسَخّرَ شموسَ التوحيد وأقمارَ المعرفة على ما يريد من إظهاره على القلوب‏.‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ‏}‏‏:‏ فأروني شظيةً من النفي أو الإثبات لما تدعونه من دونه‏!‏ وإِذْ لم يُمْكِنْكُم ذلك‏.‏‏.‏ فَهَلاَّ أَقْرَرْتُم، وفي عبادته أخلصتم، وعن الأَصنام تَبَرَّأْتُم‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

إنْ استعنْتُم بأصنامكم لا يُعينوكم، وإنْ دَعَوْتُموهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سَمِعُوا على جهة ضَرْبَ المَثَلِ لا يستجيبون لكم؛ لأنهم لا يَمْلِكُون نَفْعَ أنفسِهم‏.‏ فكيف يَمْلِكون نَفْعَ غيرهم‏؟‏‏!‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‏}‏‏:‏ لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت، ولكن لا ينفعهم الإيمانُ بعد زوال التكليف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

الفقر على ضربين‏:‏ فقر الخِلْقة وفقر الصفة؛ فأمَّا فقر الخِلْقَة فهو عامٌّ لكلِّ أحدٍ؛ فكلُّ مخلوقٍ مفتقرٌ إلى خالقه، فهو قد حَصَلَ من العَدَمَ، فهو مفتقر إليه ليبديه وينْشيه، ثم بعد ذلك مفتقرٌ- في حال بقائه إليه- لِيُديمَه ويقيه‏.‏ فاللَّهُ- سبحانه- غنيٌّ، والعبدُ فقير؛ العبدُ فقيرٌ بعينه واللَّهُ غنيٌّ بعينه‏.‏

وأمَّا فقر الصفة فهو التجرُّد، ففقرُ العوامِ التجرُّدُ من المال، وفقر الخواص التجرد من الأعلال لِيَسْلَمَ لهم الفقر‏.‏

والفقر على أقسام‏:‏ فقر إلى الله، وفقر إلى شيء هو من الله، معلوم أو مرسوم وغير ذلك‏.‏ ومَنْ افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء؛ فالفقيرُ إلى اللَّه هو الغنيُّ بالله، والافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله، فالمفتقر إلى الله مُسْتَغْنٍ بالله، والمستغني بالله مفتَقِرٌ إلى الله‏.‏

ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخضوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكُّبر، وشَرَفُ العبد في فقره، وكذلك ذُلُّه في توهمه أنه غنيٌّ‏:‏-

وإِذا تذلَّلَتْ الرِّقابُ تَقَرُّباً *** مِنَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها

ومن الفقر المذموم، أن يَسْتُرَ الحقُّ على صاحبه مواضعَ فقره إلى ربِّه، ومن الفقر المحمود أن يُشْهِدَه الحقُّ مواضعَ فَقْرِه إليه‏.‏

ومن شرط الفقير المخلص ألا يملكَ شيئاً ويملك كلَّ شيءٍ‏.‏

ويقال‏:‏ الفقير الصادق الذي لا يملكه شيء‏.‏

ومن آداب الفقير الصادق إظهارُ التَّشَكُّرِ عند كمالِ التكَسُّر‏.‏ ومن آداب الفقر كمال المعنى وزوال الدعوى‏.‏ ويقال الشكر على البلوى والبعد عن الشكوى‏.‏

وحقيقة الفقر المحمود تجرُّد السِّرِّ عن المعلولات وإفراد القلب بالله‏.‏

ويقال‏:‏ الفقر المحمود العَيْشُ مع الله براحة الفراغ على سَرْمَدِ الوقتِ من غير استكراه شيءٍ منه بكلِّ وجْهٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ‏}‏‏:‏ الإشارة منه أن يُعْطِي حتى يُحْمَد‏.‏

ويقال الغنيُّ إذا أظهر غِنَاه لأحدٍ فإمَّا للمفاخرة أو للمكاثرة- وجَلَّ قَدْرُ الحقِّ عن ذلك- وإمَّا ليجود ويتفضَّل على أحدٍ‏.‏

ويقال‏:‏ لا يقول لنا أَنتم الفقراءُ للإزرار بنا- فإنَّ كَرَمَه يتقدَّسُ عن ذلك- وإنما المقصود أنه إذا قال‏:‏ والله الغني، وأنتم الفقراء أنه يجود علينا‏.‏

ويقال إذا لم تَدَّعِ ما هو صفته- من استحقاق الغِنَى- أولاك ما يُغْنِيك، وأعطاكَ فوق ما يكفيك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

عَرَّفَكَ أنه غنيٌّ عنك، وأشهدك موضع فقرك إليه، وأَنه لا بُدَّ لك منه، فما القصد من هذا لا إرادته لإكرامك وإيوائك في كَنَفِ إنعامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏‏.‏

كُلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، وكلٌّ محاسَبٌ عن ديوانه، ولكلِّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن‏.‏ ومن العبادات ما تجري فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجري النيابة؛ فلو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ وألفُ صَفِيِّ تلك الصلاةَ الواحدةَ عن كل ركعةًٍ ألفَ ركعةٍ لم تُقْبلْ منه إِلاَّ أنْ يجيءَ هو‏:‏ معاذ الله أن نأخذ إلا مِمَّن وجدنا متاعنا عنده‏!‏ فعتابُك لا يجري مع غيرِك والخطابُ الذي معك لا يسمعه غيرُك‏:‏

فَسِرْ أو أَقِمْ وَقْفٌ عليكَ محبتي *** مكانُكَ من قلبي عليكَ مصونُ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة، والخشيةُ هي المخافة؛ فمعنى الآية، لا ينفع التخويف إلاَّ لمن صَاحَبَ الخوفَ- وطيرُ السماءِ على أشكالها تَقَعُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

كما لا يستوي الأعمى والبصير لا تستوي الظلمات والنور، ولا يستوي الظلُّ والحرور، ولا الأحياء والأموات‏.‏‏.‏ وكذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا، والمحجوبُ عنَّا، ولا يستوي مَنْ اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوي من أشهدناه حقَّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا‏:‏

أحبابنا شتان‏:‏ وافٍ وناقِضُ *** ولا يستوي قطُّ مُحِبٌّ وباغِضُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

أي وما من أمةٍ ممن كانوا من قبلك إلاَّ بعثنا فيهم نذيراً، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافةً بالحقِّ‏.‏

‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏‏:‏ تضمنت الآية بيانَ أنه لم يُخْلِ زماناً ولا قوماً مِنْ شَرْعٍ‏.‏ وفي وقته صلى الله عليه وسلم أَفرده بأَنْ أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سُنّتُهم مع كلِّ نبىٍّ؛ وأن أَصَرُّوا على سُنَّتِهم في الغيِّ فلن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبدِيلاً في الانتقام والخزي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهِ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَراتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدُ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏‏.‏

بيَّنَ في هذه الآية وأمثالها أن تخصيصَ الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقانِ الفعلِ وإِحكامه شهادة على عِلْمِ الصانِع وأعلامِه‏.‏

وكذلك ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ‏}‏‏:‏ بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت مُنْشِيها بنعت الجلال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العْلَمَآؤاْ‏}‏‏.‏

«إنما» كلمة تحقيق تجري من وجهٍ مجرى التحديد أي التخصيص والقَصْر، فَمَنْ فَقَدَ العِلْمَ بالله فلا خشيةَ له من الله‏.‏

والفرق بين الخشية والرهبة أنَّ الرهبةَ خوفٌ يوجِبُ هَرَبَ صاحبه فيجري في هربه، والخشية إذا حصلت كَبَحَت جماحَ صاحبها فيبقى مع الله، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة‏.‏

والخوف قضية الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏ فالخشية فضية العلم، والهيبة توجب المعرفة‏.‏

ويقال خشية العلماء من تقصيرهم في أداء حقِّه‏.‏ ويقال من استيحائهم من اطلاع الحق‏.‏

ويقال حَذَراً من أن يحصلِ لهم سوءُ أدبٍ وتَرْكُ احترامٍ، وانبساطٌ في غير وقته بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرَخُّصٍ بِتَرْكِ الأَوْلى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

الذين يستغرق جميعَ أوقاتِهم قيامُهم بذكر الله وبحقِّه، وإتيانُهم بأنواع العبادات وصنوف القُرَبِ فَلَهم القَدْرُ الأجَلُّ من التقريب، والنصيبُ الأوفر من الترحيب‏.‏ وأما الذين أحوالهم بالضدِّ فَمَنَالُهم على العكس‏.‏ أُولئك هم الأَولياءُ الأعِزَّةُ، وهؤلاء هم الأعداءُ الأذِلَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ما عَرًَّفْنَاك- من اختارنا لك وتخصيصنا إياك، وتقديمنا لك على الكافة- فعلى ما أخبرناك، وأنشدوا‏:‏

لا أبتغي بَدَلاً سواكِ خليلةً *** فَثِقِي بقولي والكِرَامُ ثِقَاتُ

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْرَثْنَا‏}‏‏:‏ أي أعطينا الكتاب- أي القرآن- الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاءَ بلفظِ الإِرثِ توسُّعاً‏.‏

‏{‏اصْظَفَيْنَا‏}‏‏:‏ أي اخترنا‏.‏ ثم ذكر أقسامَهم، وفي الخبر أنه لمَّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام‏:‏ «أمتي وربِّ الكعبة» ثلاث مرات‏.‏

وفي الآية وجوهٌ من الإشارة‏:‏ فمنها أنه لمَّا ذكر هذا بلفظ الميراثِ فالميراثُ يقتضى صحة النَّسَبِ على وجهٍ مخصوص، فَمَنْ لا سبَبَ له فلا نَسَبَ له، ولا ميراثَ له‏.‏

ومحلُّ النَّسبِ ها هنا المعرفة، ومحلُّ السبب الطاعة‏.‏ وإن قيل محلُّ النَّسبِ فَضْلُه، ومحل السبب فِعْلُك؛ فهو وَجْهٌ‏.‏ ويصحُّ أن يقال محلُّ النسبِ اختياره لك بدءاً ومحلُّ السببِ إحسانُه لك تالياً‏.‏

ويقال أهلُ النسب على أقسام‏:‏- الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق‏.‏

ويقال جميع وجوه التملُّك لا بُدَّ فيها من غِعْل للعبد كالبيع، أَمَّا ما يُمْلَك ُ بالهِبَةَ فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك‏.‏ والوصية لا تُسْتَحقُّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لا بُدَّ من قبول أهل السُّهْمَانِ، والميراث لا يكون فيه شيء من جهة الوارث وفعله، والنَّسبُ ليس من جملة أفعاله‏.‏

ويقال الميراث يُسْتَحقُّ بوجهين‏:‏ بالفرض والتعصيب، والتعصيبُ أقوى من الفرض؛ لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعَصَبَةِ‏.‏

‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏‏:‏ تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأَفضل، وأرادوا به من ظَلَمَ نَفْسَه لكثرة ما حَمَّلَها من الطاعة‏.‏

والأَكثرون‏:‏ إنَّ السابقَ هو الأفضل، وقالوا‏:‏ التقديم في الذكر لا يقتضي التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة‏.‏

ويقال قَرَنَ باسم الظالم قرينةً وهي قوله‏:‏ «لنفس»، وقرن باسم السابق قرينةً وهي قوله‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏؛ فالظالمُ كانت له زَلَّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رَفَعَ زلَّتَه بقوله‏:‏ لنفسه، والسابق كَسَرَ صولتَه بقوله‏:‏ بإذن الله‏.‏

كأنه قال‏:‏ يا ظالمُ ارفعْ رأسَك، ظَلَمْتَ ولكن على نفسك، ويا سابقُ اخفض رأسَك؛ سَبَقْتَ- ولكن بإذن الله‏.‏

ويقال إنَّ العزيزَ إذا رأى ظالماً قَصَمَه، والكريمَ إذا رأى مظلوماً أَخَذَ بيده، كأنه قال‏:‏ يا ظالم، إِنْ كان كونُكَ ظالماً يوجِبُ قَهْرَك، فكوْنُكَ مظلوماً يوجِبُ الأخذَ بيدك‏.‏

ويقال الظالمُ مَنْ غَلَبَتْ زَلاَّتُه، والمقتصدُ مَنْ استوت حالاته، والسابقُ مَنْ زادت حسناته‏.‏

ويقال الظالمُ مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ مَنْ رغب في عقباه، والسابقُ مَنْ آثر على الدارين مولاه‏.‏

ويقال الظالمُ مَنْ نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصدُ مَنْ طَلَعَ بَدْرُ عِلْمه، والسابقُ من ذَرَّتَ شمسُ معرفته‏.‏

ويقال الظالمُ مَنْ طَلَبَه، والمقتصدُ مَنْ وَجَدَه، والسابق مَنْ بقي معه‏.‏

ويقال الظالِمُ مَنْ تَرَكَ المعصية، والمقتصد مَنْ تَرَكَ الغفلة، والسابق مَنْ تَرَك العلاقة‏.‏

ويقال الظالمُ مَنْ جاد بمالِه، والمقتصد مَنْ لم يبخلْ بِنفْسِه، والسابق مَنْ جاد بروحه‏.‏

ويقال الظالمُ مَنْ له علم اليقين، والمقتصد مَنْ له عين اليقين، والسابق مَنْ له حق اليقين‏.‏

ويقال الظلم صاحب المودة، والمقتصد الخلّة، والسابق صاحب المحبة‏.‏

ويقال الظالم يترك الحرام، والمقتصد يترك الشُّبهة، والسابق يترك الفضل في الجملة‏.‏

ويقال الظالمُ صاحبُ سخاء، والمقتصد صاحب جود، والسابق صاحب إيثار‏.‏

ويقال الظالم صاحب رجاء، والمقتصدُ صاحبُ بَسْط، والسابق صاحب أُنْس‏.‏

ويقال الظالم صاحب خوف، والمقتصد صاحب خشية، والسابق صاحب هيبة‏.‏

ويقال الظلم له المغفرة، والمقتصد له الرحمة والرضوان، والسابق له القربة والمحبة‏.‏

ويقال الظالم صاحب الدنيا، والمقتصد طالب العُقْبى، والسابق طالب المولى‏.‏

ويقال الظالم طالب النجاة، والمقتصد طالب الدرجات، والسابق صاحب المناجاة‏.‏

ويقال الظالم أَمِنَ من العقوبة، والمقتصد فاز بالمثوبة، والسابق متحقق بالقربة‏.‏

ويقال الظالم مضروبٌ بسَوْطِ الحِرْصِ، مقتولٌ بسيف الرغبة، مضطجع على باب الحسرة‏.‏ والمقتصدُ مضروبٌ بسوط الندامة، مقتولٌ بسيف الأسف، مضطجع على باب الجود‏.‏

والسابقُ مضروبٌ بسوط التواجد، مقتول بسيف المحبة، مُضْطَجِعٌ على باب الاشتياق‏.‏

ويقال الظالم صاحب التوكل، والمقتصد صاحب التسليم، والسابق صاحب التفويض‏.‏

ويقال الظالم صاحب تواجد، والمقتصد صاحب وَجْد، والسابق صاحب وجود‏.‏

ويقال الظالم صاحبُ المحاضرة، والمقتصد صاحب المكاشفة، والسابق صاحب المشاهدة‏.‏

ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرةَ، والمقتصد يراه في كل يوم مرةً، والسابق غر محجوبٍ عنه ألبتةَ‏.‏

ويقال الظالم مجذوبٌ إلى فِعْلِه الذي هو فضله، والمقتصد مكاشَفٌ بوصفه الذي هو عِزُّه، والسابقُ المستهلَكُ في حقِّه الذي هو وُجُودُه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‏}‏ لأنه ذكر الظالم مع السابق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

نَبّهَ على أن دخولهم الجنة لا باستحقاقٍ بل بفضله، وليس في الفضل تمييز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

تحققوا بحقائق الرضا، والحَزَنُ سُمِّي حَزَناً لُحزُونةِ الوقتِ على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضاً واستبشار‏.‏

ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة‏.‏ ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوءُ الأدب‏.‏ ويقال هو سياسة النفس‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ‏}‏ للعصاة، ‏{‏شَكُورٌ‏}‏ للمطيعين‏.‏ قَدَّمَ ما للعاصين رفقاً بهم لضعف أحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏دَارَ الْمُقَامَةِ‏}‏‏:‏ أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجاً‏.‏

‏{‏لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏‏:‏ إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْع مسافةٍ، بل غُرَفِهم يلقون فيها تحيةً وسلاماً، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقةٍ أَو تحديق مقلة في جهة؛ يَرَتوْنه كما هُمْ بلا كيفية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

لا حياة يَتَمَتَّعُون بها، ولا موتَ يستريحون به، وهم مقيمون في العذاب والحجاب، لا يفتر عنهم العذاب، وتُرْفَعُ عنهم العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

أي عالِم بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجَحْدِ الكافرين‏.‏

عالِمٌ بِمَنْ يريد بالناس السوءَ وبمَنْ يُحْسِنُ باللَّهِ الظنَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

أهلُ كلِّ عصرٍ خليفٌ عَمَن تقدمهم؛ فَمٍنْ قومٍ هم لِسَلَفِهم حَمَال، ومِنْ قوم أراذل وأنذال؛ فالأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة‏.‏ وقد قالوا‏:‏

يومٌ وحَسْبُ الدهرِ من أَجْلِه *** حَيَّا غدٌ والْتَفَتَ الأمسُ

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

كَرّرَ إشهادَهم عَجْزَ أصنامهم، ونَقْصَ مَنْ اتخذوهم آلهة من أوثانهم؛ ليُسَفِّهَ بذلك آراءَهم، وليُنَبِّهَهُم إلى ذميم أحوالِهم وأفعالِهم، وخِسَّةِ هِمَمِهم، ونُقْصانِ عقولهم‏.‏

ثم أخبرأنهم لا يأتون بشيءٍ مما به يُطَالَبُونَ، وليس لهم صواب عمَّا يُسْأَلُون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

أمسكها بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتَّبهما بمشيئته، وخلَقَ أهلَهما على موجب قضيته، فلا شبيهَ في أبقائها وإفنائهما يُسَاهِمُه، ولا شريكَ في وجودِهما ونظامهما يُقَاسمُه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِى الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏‏.‏

ليس لقولهم تحقيق، ولا لِعَهدْهِم وضمانهم توثيق، وما يَعِدُون من أَنفسهم فصريحُ زُورٍ، وما يُوهِمُون مِنْ وفائهم فَصِرْفُ تغريرٍ‏.‏‏.‏ وكذلك المريدُ في أوان نشاطه تُمَنِّيه نَفْسُه فتظاهر أمام مَنْ تقدِّمه حالاً بأنه عاهد الله، وأنه أَكَّدَ عقده مع الله‏.‏‏.‏ فإذا عَضَتْه شهوتُه، وأراد الشيطانُ أن يكذبه صَرَعَه بكيده، وأركسه في هوة غَيِّة، ومُنْيَةِ نَفْسِه؛ فيسودُّ وَجْهُه، وتذهب عند اللَّهِ وجاهتُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

في الجملة ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدوٌّ، ولا ينال الحقيقةَ مَنْ انعكس قَصْدُه، بل يرتدُّ عليه كَيْدُه؛ وهو سبحانه يُدَمِّر عل أعدائه تدميراً ويوسع لأوليائه فضلاً كبيراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

لو عَجَّلَ لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ به، وما اتسعت أيامُهم القصيرة له، فأَخَّرَ ذلك ليومِ الحَشْرِ *** فإِنَّه طويلٌ‏.‏ واللَّهُ على كل شيءٍ قديرٌ، وبأمورِ عبادِه خبيرٌ بصير‏.‏

سورة يس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

يقال معناه‏:‏ يا سيد‏.‏ ويقال‏:‏ الياء تشير إلى يوم الميثاق، والشين تشير إلى سِرِّه مع الأحباب؛ فيقال بحقِّ يم الميثاق وسِرِّي مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

إي إِنَّكَ- يا محمد لَمِنََ المرسلين، وإِنَّكَ لَعَلَى صراطٍ مستقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أي هذا الكتاب تنزيل ‏(‏العزيز‏)‏‏:‏ المتكبر الغني عن طاعة المطيعين، ‏(‏الرحيم‏)‏‏:‏ المُتَفَضِّل على عباده المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

أي خَصَصْنَاكَ بهذا القرآن، وأنزلنا عليكَ هذا الفُرقان لِتُنْذِرَ به قوماً حصلوا في أيام الفترة، وانقرض أسلافُهم على هذه الصِّفَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أي حقَّ القول بالعقوبة على أكثرهم لأنهم أصرُّوا على جَحْدِهم، وانهمكوا في جهلهم، فالمعلومُ منهم والمحكومُ عليهم أنَّهم لا يُؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

سَنَجُرُّهُم إلى هوانهم وصغرهم، وسنذيقهم وبالَ أمرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

أغرقناهم اليومَ في بحار الضلالة وأحْطنا بهم سرادقات الجهالة‏.‏ وفي الآخرة سنُغْرِقُهم في النار والأنكال، ونضيِّقُ عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال‏.‏

‏{‏فَأَغْشَيْنَاهُمْ‏}‏‏:‏ أعميناهم اليومَ عن شهود الحُجَّة، ونُلَبِّسُ في الآخرة سبيلَ المَحَجَّة، فَيتَعَثَّرُون في وَهَدَاتِ جهنم داخرين، ويبقون في حُرُقَاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نَقْطَعُ عنهم ما به يُعَذَّبُون، ولا نَرْحمهم مما منه يَشْكُون؛ تَمَادَى بهم حِرْمانُ الكفر، وأحاطت بهم سرادقاتُ الشقاء، وَوقعت عليهم السِّمَةُ بالفراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

مهجورُ الحقِّ لا يَصِلُه أحدٌ، ومردودُ الحقِّ لا يَقْبَلُه أحد‏.‏ والذي قَصَمَتْه المشيئةُ وأقْمَتْهُ القضيةُ لا تنجعُ فيه النصيحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

أي إنما ينتفع بإنذارك مَنْ اتَّبَعَ الذِكْرَ؛ فإنَّ إنذارك- وإِن كان عاماً في الكُلِّ وللكُلَّ- فإنَّ الذين كفروا على غيِّهم يُصِرُّون‏.‏‏.‏ ألاَ سَاء ما يحْكُمون، وإن كانوا لا يعلمون قُبْحَ ما يفعلون‏.‏ أمَّا الذين اتبعوا الذكر، واستبصروا، وانتفعوا بالذي سمعوه منك، وبه عملوا- فقد استوجبوا أنْ تُبَشِّرَهم؛ فَبَشِّرْهُم، وأخبِرْهم على وجهٍ يظهر السرور بمضمون خبرك عليهم‏.‏

‏{‏وَأَجْرٌ كَرِيمٍ‏}‏‏:‏ كبير وافر على أعمالهم- وإن كان فيها خَلَلٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَرَهُمْ‏}‏‏.‏

نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة بما نُمْطِرُ عليها من صَوْبِ الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدَّموا‏.‏

‏{‏وَءَاثَارَهُمْ‏}‏‏:‏ خُطَاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وتَرَقْرُق دموعهم على عَرَصَات خدودهم، وتَصاعُدَ أنفاسهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ شَيءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

أثبتنا تفصيله في اللوح المحفوظ‏.‏‏.‏ لا لتناسينا لها- وكيف وقد أحصينا كل شيءٍ عدداً‏؟‏- ولكننا أحْبَبْنا إثبات آثار أحبائنا في المكنون من كتابنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

انقرض زمانُهم ونُسِيَ أوانُهم وشأنُهم‏!‏ ولكننا نتذكر أحوالهم بعد فوات أوقاتهم، ولا نرضى بألا يجري بين أحبائنا وعلى ألْسِنَةِ أوليائنا ذِكْرُ الغائبين والماضين، وهذا مخلوقٌ يقول في صفة مخلوق‏:‏

إذا نَسِيَ الناسُ إخوانَهم *** وخَانَ المودَّةَ خِلاَّنُها

فعندي لإخوانِيَ الغائبين *** صحائفُ ذِكْرُكَ عنوانُها

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قال الرسل‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ‏}‏ وليس عِلْمُنا إلاَّ بما أُمِرْنا به من التبليغ والإنذار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

لنرجمنَّكم، ولنَصْنَعَنَّ، ولنفْعَلَنٍَّ‏.‏‏.‏ فأجابهم الرسل‏:‏ إنكم لجهلكم ولجحدكم سوف تَلْقَوْنَ ما تُوعَدُون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

في القصة أنه جاءُ من قرية فسمَّاها مدينة، وقال من أقصى المدينة، ولم يكن أقصاها وأدناها لِيَتَفَاوَتَا بكثيرٍ، ولكنه-سبحانه- أجرى سُنَّتَه في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِهِ إذا كان يرضاه، ويستنزِرُ الكثيرَ من فَضْلِه إذا بَذَلَه وأعطاه‏.‏

‏{‏اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً‏}‏ فأبْلَغَ الوَعْظَ وَصَدَقَ النُّصْحَ‏.‏ ولكن كما قالوا‏:‏

وكم سُقْتُ في آثارِكم من نصيحةٍ *** وقد يستفيد البغضةَ المتنصِّحُ

فلمَّا صَدَقَ في حاله، وصَبَرَ على ما لَقِيَ من قومه، ورجع إلى التوبة، لقَّاه حُسْنَ أفضالِه، وآواه إلى كَنَفِ إقبالِه، ووَجَدَ ما وَعَدَه ربُّه من لُطْفِ أفضالِه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

تَمَنَّى أن يعلم قومُه حاله، فَحَقَّقَ اللَّهُ مُنَاه، وأخبر عن حاله، وأنزل به خطابه، وعَرَفَ قومُه ذلك‏.‏ وإنما تمنَّى وأراد ذلك إشفاقاً عليهم، ليعملوا مثلما عَمِلَ لِيَجدُوا مثلما وَجَدَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ما كانت إلا قضية مِنَّا بعقوبتهم، وتغييراً لِمَا كانوا به من السلامة إلى وصف البلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

إن لم يتحسَّروا هم اليوم فَلَهُم موضع التحسُّر؛ وذلك لانخراطهم في سِلكٍ واحد من التكذيب ومخالفة الرسل، ومناوءة أوليائه- سبحانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏31‏)‏ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ألم يروا ما فعلنا بمن قبلهم من القرون الماضية، وما عاملنا به الأمم الخالية، فلم يرجع إليهم أحد، فكلُّهم في قبضة القدرة، ولم يَفُتنا أحدٌ، ولم يكن لواحدٍ منهم علينا عونٌ ولا مَدَدٌ، ولا عن حكمنا ملتحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لمَّا كان أمرُ البعث أعظمَ شُبَهِهِمْ، وكَثُرَ فيه إنكارُهم كان تكرارُ الله سبحانه لحديث البعث، وقد ضَرَبَ- سبحانه- المَثَلَ له بإحياء الأرض بالنبات في الكثيرمن الآيات‏.‏ والعَجَبُ مَمَّنْ يُنْكِر علومَ الأصول ويقول ليس في الكتاب عليها دليل‏!‏ وكيف يشكل ذلك وأكثر ما في القرآن من الآيات يحث على سبيل الاستدلال، وتحكيم أدلة العقول‏؟‏ ولكن يَهْدِي اللَّهُ لنوره من يشاء‏.‏ ولو أنهم أنصفوا من انفسهم، واشتغلوا بأهم شيءٍ عندهم لَمَا ضَيَّعوا أصول الدِّين، ولكنهم رضوا فيها بالتقليد، وادَّعَوْا في الفروع رتبةَ الإمامة والتصَدُّر‏.‏‏.‏ ويقال في معناه‏:‏

يا مَنْ تَصَدَّرَ في دستَ الإمامة في *** مسائل الفقه إملاءً وتدريسا

غَفَلْتَ عن حججِ التوحيد تُحْكِمها *** شيَّدتَ فرعاً وما مَهَّدَتَ تأسيسا

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

تُنَبِه هذه الآيةُ على التفكُّرِ في بديع صُنْعِه؛ فقال‏:‏ تنزيهاً لِمَنْ خَلَقَ الأَشياء المتشاكلةَ في الأجزاء والأعضاء، من النبات، ومن أنفسهم، ومن الأشياء الأخرى التي لا يعلمون تفصيلها، كيف جعل أوصافَها في الطعوم والراوئح، في الشكل والهيئة، في اختلاف الأشجار في أوراقها وفنون أغصانها وجذوعها وأصناف أنوارها وأَزهارها، واختلاف أشكال ثمارها في تفرُّقِها واجتماعها، ثم ما نيط بها من الانتفاع على مجرى العادة مما يسميه قومٌ‏:‏ الطبائع؛ في الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، واختلاف الأحداث التي يخلقها اللَّهُ عقيب شراب هذه الأدوية وتناول هذه الأطعمة على مجرى العادة من التأثيرات التي تحصل في الأبدان‏.‏ ثم اختلاف صور هذه الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، فالأوقات متجانسة، والأزمان، متماثلة، والجواهر متشاكلة‏.‏‏.‏ وهذه الأحكام مختلفة، ولولا تخصيصُ حُكْم اللَّهُ لكل شيءٍ بما اختصَّ به لم يكن تخصيصٌ بغير ذلك أولى منه‏.‏ وإنَّ مَنْ كحَّلَ اللَّهُ عيونَ بصيرته بيُمْن التعريف، وقَرَنَ أوقاته بالتوفيق، وأتَمَ نَظَره، ولم يصده مانع‏.‏ فما أقوى في المسائل حُجَّتَه‏!‏ وما أوْضَحَ في السلوكِ نَهْجَه‏!‏‏.‏

إنَّها لأقْسَامٌ سَبَقَت على مَنْ شاءَه الحقُّ بما شاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

نُبْطِلُ ضوءَ النهارِ بهجومٍ الليلِ عليه، وتزِيلُ ظلامَ الليل بهجومِ النهار عليه، كذلك نهارُ الوجود يدخل على ليالي التوقف، ويقود بيد كَرَمِه عصاَ مَنْ عَمِيَ عن سلوك رُشْدِه فيهديه إلى سَوَاءَ الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُستَقَرٍّ لَّهَا‏}‏‏.‏ على ترتيبٍ معلوم لا يتفاوت في فصول السنة، وكل يومٍ لها مشرِقٌ جديد ولها مغرِبٌ جديد‏.‏‏.‏ وكل هذا بتقدير العزيز العليم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏(‏39‏)‏ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الإشارة منه أن العبد في أَوان لطلب رقيقُ الحال، ضعيفٌ، مختصرُ الفَهْم‏.‏ ثم يُفَكِّر حتى تزداد بصيرته‏.‏‏.‏ أَنه كالقمر يصير كاملاً، ثم يتناقَصُ، ويدنو من الشمس قليلاً قليلاً، وكُلَّمَا ازداد من الشمس دُنُوَّا ازداد في نفسه نقصاناً حتى يتلاشى ويختفي ولا يُرَى‏.‏‏.‏ ثم يَبْعُدُ عن الشمس فلا يزال يتباعد ويتباعد حتى يعود بدراً- مَنْ الذي يُصَرِّفه في ذلك إلا أَنه تقدير العزيز العليم‏؟‏ وشبيهُ الشمسِ عارِفٌ أبداً في ضياء معرفته، صاحبُ تمكين غيرُ مُتَلَوِّنٍ، يشرق من برج سعادته دائماً، لا يأخذه كسوفٌ، ولا يستره سحابٌ‏.‏

وشبيهُ القمر عبدٌ تتلون أحوالُه في تنقله؛ فهو في حال من البسط يترقَّى إلى حَدِّ الوصال، ثم يُرَدُّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته، ثم يجود الحقُّ- سبحانه- فيُوَفِّقُه لرجوعه عن فترته، وإفاقته عن سَكْرَتِه، فلا يزال يصفوا حاله إلى أنْ يَقْرُبَ من الوصال، ويرزقَ صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال‏.‏‏.‏ كذلك حاله إلى أن يُحَقَّ له بالمقسوم ارتحاله، كما قالوا‏:‏

ما كنت أشكو ما على بَدَني *** من كثرة التلوين من بُدَّتِه

وأنشدوا‏:‏

كُلَّ يوم تتلون *** غيرُ هذا بِكَ أجمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

الإشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة في بحار التقدير عند تلاطم أمواجها بفنونٍ من التغيير والتأثير‏.‏ فكَمْ من عبدٍ غرق في اشتغاله في ليلة ونهاره، لا يستريح لحظةً من كَدِّ أفعاله، ومقاساةِ التعب في أعماله، وجَمْع ماله‏.‏

فَجَرَّه ذلك إلى نسيان عاقبته ومآلِه، واستيلاء شُغْلِه بوَلَدِه وعيالِه على فِكْرِه وبالِه- وما سَعْيُه إلاَّ في وَبَالِه‏!‏

وكم من عِبْدٍ غرق في لُجَّةِ هواه، فجَرَّته مُناه إلى تَحمُّلِ بلواه، وخسيس من أمر مطلوبه ومُبْتَغَاه‏.‏‏.‏ ثم لا يَصَلُ قط إلى منتهاه، خَسِرَ دنياه وعقباه، وبَقِيَ عن مولاه‏!‏ ومن أمثال هذا وذالك ما لا يُحْصَى، وعلى عقلِ مَنْ فكَّرَ واعتبر لا يَخْفَى‏.‏

أمَّا إذا حفظ عبداً في سفينة العناية أفرده- سبحانه- بالتحرُّرِ من رِقِّ خسائس الأمور‏.‏ وشَغَلَه بظاهره بالقيام بحقِّه، وأكرمه في سرائره بفراغ القلب مع ربَّه، ورقَّاه إلى ما قال‏:‏ «أنا جليسُ مَنْ ذكرني»‏.‏‏.‏ وقُلْ في عُلُوِّ شأنِ مَنْ هذه صفته‏.‏‏.‏ ولا حَرَجَ‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

لولا جُودُه وفَضْلُه لحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه بِحُسْنِ الأفضال، يحفظهم في جميع الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذه صفاتُ مَنْ سَيَّبَهم في أودية الخذلان، وَوَسَمهم بِسِمَةِ الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوكِ القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاقِ والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإن يَشَأْ نَظَرَ إليهم بالإنعام‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يستعجلون هجومَ الساعة، ويستبطئون قيامَ القيامة- لا عن تصديقٍ يُريحهم من شَكِّهم، أو عن خوفٍ يمنعهم عن غَيِّهم، ولكن تكذيباً لدعوة الرسل، وإنكاراً لِصِحة النبوة، واستبعاداً للنشر والحشر‏.‏

ويومَ القيامةِ هم في العذاب مُحْضَرُون، ولا يُكْشَفُ عنهم، ولا يُنْصَرُون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

يموتون قَهْراً، ويُحْشَرُونَ جَبْراً، ويلقون أمراً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً‏.‏

‏{‏قَالُواْ يَاوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ يموتون على جهلٍ، لا يعرفون ربَّهم، ويُبْعَثُون على مِثْلِ حالِهم، لا يعرفون مَنْ بَعَثَهم، ويعدون ما كانوا فيه في قبولهم من العقوبة الشديدة-بالإضافة إلى ما سَيَلْقَوْنَ من الآلام الجديدة- نوماً ورقاداً، وسيطئون من الفراق المبرح والاحتراق العظيم الضخم مهاداً، لا يذوقون بَرْداً ولا شراباً إلا حميماً وغَسَّاقاً، ولقد عوملوا بذلك استحقاقاً‏:‏ فقد قال جل ذكره‏:‏-

‏{‏فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا َتُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

إنما يضافُ العبدُ إلى ما كان الغالبَ عليه ذِكْرُه بمجامع قلبِه، فصاحبُ الدنيا مَنْ في أسْرِها، وأصحابُ الجنة مَنْ هم طُلاّبُها والساعون لها والعاملون لِنَيْلِها؛ قال تعالى مخبراً عن أقوالهم وأحوالهم‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وهذه الأحوال- وإن جَلَّتْ منهم ولهم- فهي بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أكثر أهل الجنة البُلْه» ومَنْ كان في الدنيا عن الدنيا حُرَّاً فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حراً، والله يختص برحمته من يشاء‏.‏

وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين، فيقول لهم‏:‏ ‏{‏إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ وهم أهل الحضرة والدنو، لا تشغلهم الجنة عن أُنس القربة، وراحات الوصلة، والفراغ للرؤية‏.‏

ويقال‏:‏ لو عَلِمُوا عمَّن شُغِلُوا لَمَا تَهنَّأوا بما شُغِلُوا‏.‏

ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة‏:‏ ‏{‏إنَّ أًَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏ كأنه يخاطبهم مخاطبة المُعاينة إجلالاً لهم كما يقال‏:‏ الشيخ يفعل كذا، ويُرَادُ به‏:‏ أنت تفعل كذا‏.‏

ويقال‏:‏ إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار، ولم يدخلوا الجنة بَعْدُ لِعِصْيانِهِم؛ فيقول الحق‏:‏ عبدي‏.‏‏.‏ أهلُ النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليومَ في شُغْلٍ عنك لأنهم في لذَّاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم؛ فليس لك اليوم إلا نحن‏!‏

وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم، وذلك من أتم الأشغال، وهي أشغالٌ مؤنِسَةٌ مريحةٌ لا مُتْعِبَةٌ موحِشَةٌ‏.‏

ويقال‏:‏ الحقُّ لا يتعلَّق به حقُّ ولا باطل؛ فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم، وشهودهم مولاهم، كما أنهم اليومَ مشغولون مستديمون لمعرفته بأي حالةٍ هم، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم- باستيفاء حُظُوظِهم- في معارفهم‏.‏

ويقال شَغَلَ نفوسهم بشهواتها حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبةٍ من إحساس النَّفْس الذي هو أصعب الرُّقباء، ولا شيء أعلى من رؤية الحبيب مع فَقْدِ الرقيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَزْوَاجُهُمْ‏}‏‏:‏ قيل أشكالهم في الحال والمنزلة، كقوله‏:‏ ‏{‏احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ وقيل حَظَاياهم من زوجاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ‏}‏‏:‏ أي نصيب أنفسهم‏.‏ ويقال الإشارة فيها إلى راحات الوقت دون حظوظ النفس‏.‏

‏{‏وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ‏}‏‏:‏ ما يريدون، ويقال تسلم لهم دواعيهم، والدعوى-إذا كانت بغير حقٍّ- معلولة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

يسمعونَ كلامَه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد ذلك بقوله‏:‏ «قولاً»‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏مِّن رَّبٍّ‏}‏ ليعلم أنه ليس سلاماً على لسان سفير‏.‏

‏{‏مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ‏}‏ والرحمةُ في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال ما يُسَلِّم عليهم لِتَكْمُلُ لهم النعمة‏.‏ ويقال الرحمة في ذلك الوقت أن يُنَقٍّيَهم في حال سماع السلام وحال اللقاء لئلا يصحبهم دهش، ولا تلحقهم حيرة‏.‏

ويقال إنما قال‏:‏ ‏{‏مِّن رَّبٍّ رَّحيمٍ‏}‏ ليكون للعصاة من المؤمنين فيه نَفَسٌ، ولرجائهم مساغ؛ فإن الذي يحتاج إلى الرحمة العاصي‏.‏

ويقال‏:‏ قال ذلك ليعلم العبدُ أنه لم يصل إليه بفعله واستحقاقه، وإنما وصل إليه برحمة ربه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

غيبةُ الرقيب أتمُّ نعمةٍ، وإبعادُ العدوِّ مِنْ أجَلِّ العوارف؛ فالأولياءُ في إيجاب القربة، والأعداء في العذاب والحجبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

لو كان هذا القول من مخلوقٍ إلى مخلوقٍ لَكَانَ شِبْهَ اعتذار؛ أي لقد نصحتُكم ووعظتُكم، ومن هذا حَذَّرْتُكم، وكم أوصلتُ لكم القولَ، وذكَّرْتُكُم فلم تقبلوا وَعْظِي، ولم تعملوا بأمري، فأنتم خالَفْتُم، وعلى أنفسكم ظَلَمْتُم، وبذلك سبَقَت القضيةُ مِنَّا لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

اليومَ سَخَّرَ الله أعضاءَ بَدَنِ الإنسان بعضها لبعض، وغداً ينقض هذه العادة، فتخرج بمضُ الأعضاء على بعض، وتجري بينها الخصومة والنزاع؛ فأمَّا الكفار فشهادةُ أَعضائهم عليهم مُبيدةٌ، وأمَّا العُصَاةُ من المؤمنين فقد تشهد عليهم بعضُ أعضائهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضاً بالإحسان، وكما قيل‏:‏

بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ *** والحاكم العَدْلُ الجوادُ المُنْصِفُ

وفي بعض الأخبار المرويةِ المُسْنَدَةِ أنَّ عَبْداً تشهد عليه أعضاؤه بالزَّلَّةَ فيتطاير شَعره من جفن عينيه، فيستأذن بالشهادة له فيقول الحق‏:‏ تكلمي يا شعرة جَفْنِ عبدي واحتَجِّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادي منادٍ‏:‏ هذا عتيقُ الله بِشَعْرَة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

يَرُدُّه إذا استوى شبابُه وقُوَّتُه إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر في السن فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف‏.‏ ثم لا يَبْقَى بعد النقصان شيءٌ، كما قيل‏:‏

طوى العصران ما نشراه مني *** وأبلى جدتي نَشْرٌ وطيُّ

أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ *** ولا يَبْقَى مع النقصان شيءُ

هذا في الجثث والمباني دون الأحوال والمعاني؛ فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حَدَّ الخَرَفِ فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه‏.‏ وأهل الحقائق تشيب ذوائبُهم ولكنَّ محابَّهم ومعانيَهم في عنفوان شبابها، وطراوة جدَّتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

كلامه صلى الله عليه وسلم، كان خارجاً عن أوزان الشِّعر، والذي أتاهم به من القرآن لم يكن من أنواع الشعر، ولا من طرق الخطباء‏.‏

تَحَيَّرَ القومُ في بابه؛ ولم تكتحل بصائرهم بكحل التوحيد فعموا عن شهود الحقائق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

ذَكَرَ عظيمَ مِنَّتِه عليهم، وجميلَ نعمته لديهم بما سخر لهم من الأنعام التي ينتفعون بها بوجوه الانتفاع‏.‏

ولفظ ‏{‏أَيْدِينَا‏}‏ تَوَسُّع؛ أي مما عملنا وخلقنا، وذلك أنهم ينتفعون بركوبها وبأكل لحومها وشحومها، وبشرْبِ ألبانها، وبالحَمْلِ عليها، وقَطَعَ المسافاتِ بها، ثم بأصوافها وأوبارها وشَعْرِها ثم بِعَظْمِ بعضها‏.‏‏.‏ فطَالَبَهم بالشكر عليها، ووصَفَهم بالتقصير في شُكْرِهم‏.‏

ثم أظْهَرَ- ما إذا كان في صفة المخلوقين لكان شكاية- أنهم مع كل هذه الوجوه من الإحسان‏:‏-

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

اكتفوا بأمثالهم معبوداتٍ لهم، ثم سَلَّى نبيَّه- صلى الله عليه وسلم بأنْ قال له‏:‏-

‏{‏فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏

وإذا عَلِمَ العبدُ أنّه بمرأى من الحقّ هَانَ عليه ما يقاسيه، ولا سيما إذا كان في الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

أي شَدَدْنا أسْرَهم، وجمعنا نَشْرَهم، وسَوَّينا أعضاءهم، ورَكَّبْنَا أجزاءهم، وأودعناهم العقل والتمييزَ *** ثم إنه ‏{‏خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏‏:‏ ينازعنا في خطابه، ويعترض علينا في أحكامنا بِزَعْمِه واستصوابه، وكما قيل‏:‏

أُعَلِّمُه الرمايةَ كُلَّ يومٍ *** فلمَّا اشتدَّ ساعِدُه رماني

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 80‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

مَهَّد لهم سبيل الاستدلال، وقال إن الإعادة في معنى الإبداء، فأي إشكالٍ بقي في جواز الإعادة في الانتهاء‏؟‏ وإنَّ الذي قدر على خَلْقِ النارِ في الأغصان الرَّطبة من المرْخ والعَفَار قادرٌ على خَلْقِ الحياةِ في الرِّمة البالية، ثم زاد في البيان بأن قال‏:‏ إن القدرة على مِثْلِ الشيء كالقدرة عليه لاستوائهما بكلِّ وجه، وإنه يحيي النفوسَ بعد موتها في العرصة كما يُحْيي الإنسانَ من النطفة، والطيرَ من البيضة، ويحيي القلوبَ بالعرفان لأهل الإيمان كما يميت نفوسَ أهل الكفر بالهوى والطغيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا أرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونَ‏}‏ يَخْلِقه وقدرته‏.‏ وأخبرنا أنه تتعلَّق بالمكوَّن كلمتُه على ما يجب في صفته، وسيَّان عنده خَلْقُ الكثيرِ في كثرته والقليلِ في قِلَّته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

أي بقدرته ظهورُ كلِّ شيء‏:‏ فلا يحدث شيء- قَلَّ أو كَثُرَ- إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شيءٌ إلا بإبقائه، فمنه ظهور ما يُحْدِث، وإليه مصير ما يخلق‏.‏