فصل: تفسير الآيات رقم (92- 93)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏‏}‏

إذ خَلَقْنا آدمَ من التراب، وإذ أخْرَجْناكم من صُلبه *** فقد خَلْقْنَاكم من الترابِ أيضاً‏.‏ والأجشادُ قوالِبُ والأرواحُ ودائعُ، والقوالب نسبتها التُّربة، والودائع صفتها القُرْبة، فالقوالب يزِّينها بأفضاله، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله‏.‏ وللقوالب اليوم اعتكافٌ على بِساط عبادته، وللودائع اتصافٌ بدوام معرفته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏‏}‏

امره بجهره، وأعماه عن شهود ذلك بِسِره، فما نَجَعَ فيه كلامهُ، وما انتفعَ بما حذّره من انتقامه، ويَسَّرَ من إنعامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏‏}‏

دعاهم موسى إلى الله، وخاطَبَهُم في حديث الآخرة من تبشيرٍ بثواب، وإنذارٍ بعذاب فلم يُجِيبُوا إلاَّ من حيث الدنيا، وما زادهم تذكيراً إلا ازدادوا غفلة وجهالة‏.‏

كذلك صفةُ مَنْ وَسَمه الحقُّ بالإبعاد، لم يكن له عرفان، ولا بما يقال إيمان، ولا يتأسَّفُ على ما يفوته، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نَخْلِفُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ تأَهَّبُوا لِمُنَاصَبَةِ الحقيقة، وتَشَمَّرُوا للمُخَالَفة، فَقَصَمْتُهُم المشيئةُ؛ وكَبَسَتْهُم؛ القدرة، وما قيل‏:‏

استقبلني وسيفُه مسلول *** وقال لي واحدنا معذول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏‏}‏

فكان في ذلك اليوم افتضاحهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 64‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتَى‏}‏‏.‏

كادَ فرعونَ فَكِيد لَه، وأراد فارتدَّ إليه، ودعا للاستعداد فأُذِلَّ وأَذِيقَ البأسَ‏.‏ ولم يَدَعْ موسى شيئاً من الوعظ والرِّفْقِ، ولم يغادِرْ فرعونَ شيئاً من البَلَهِ والحُمْقِ ولكن‏:‏ ‏{‏قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كّذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَد خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُم وَأسَرُّوا النَّجْوَى‏}‏‏.‏

اعلموا أنه لا طاقةَ لأحدٍ مع الله- سبحانه- إذا عذَّبَه، فحملوا مقالته على الإفك، ورَمَوْا معجزته بالسجر فقالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى‏}‏‏.‏

هما في دعواهما كاذبان يَقْصِدان إلى إخراجِكم من بَلَدِكم، والتشويشِ عليكم في مُعْتَقَدِكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 71‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى‏}‏‏.‏

أظهروا من أنفسهم التجلَّدَ ظنَّا بأَنَّ النصرةَ لهم، وإخلاداً إلى ما كان السَّحَرَةُ يُسوِّلون لهم، فَخَيَّروا موسى في الابتداء بناءً على ما توهموا من الإلقاء، فقال لهم موسى‏:‏ ‏{‏قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهْم أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ ءَامَنتُمْ لًهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّْحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيِْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُم فِى جُذُوعِ النَّخْل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عّذَاباً وَأَبْقَى‏}‏‏.‏

قال لهم موسى بل ألقوا أنتم، وليس ذلك إذْناً لهم في السحر، ولكن أراد الحقُّ إظهارَ تمويههم، فلمَّا خَيَّلوا للناس بإلقاءِ الحِبال أنها حياتٌ ابتَلَعَتْ عصا موسى جُمْلَةَ أوقار الحِبَال، وصار الثعبانُ عَصَاً كما كان، فسجدوا لله مؤمنين، وانقلب فرعونُ وقومُه خائِبين، وتَوَعَّدَهم بالقتل والصَّلْب، وفنونٍ من العذابِ الصعب، وبعدما كانوا يقْسِمُون بِعِزَّةِ فرعونَ صاروا يَحْلِفُونَ بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏‏}‏

أي بالله الذي فطرنا إنَّا لن نُؤْثِرَكَ على ما جاءَنا من البينات‏.‏ ولما طلعت في أسرارهم شموسُ العرفان، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقَّ سبحانه بأسرارهم، فنطقوا ببيان التصديق، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة، ورأوا ذلك من الله فاستعذبوا البلاء، وتحملوا اللأواء، فكانوا في الغَدَاةِ كُفَّاراً سَحَرَةً، وأَمْسَوْا أَخياراً بَرَرَةَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ عَلِمُوا أَنَّ البَلاَءَ في لدنيا يَنْقَضي- وإنْ تمادى، وينتهي وإن تناهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏

أَهمُّ الأشياء- على مَنْ عرَفه- مغفرتُه لخطاياه؛ فهذا آدمُ- عليه السلام- لما استكشف من حاله، وحلَّ به ما حلَّ قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏ وقال لنبينا- صلى الله عليه وسلم- ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» ومَنَّ عليه بقوله‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 200‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏‏}‏

لما عَبَرَ موسى ببني إسرائيل البحر، وقرب منه فرعون، ورأى البحرَ منفلقاً والطريقَ فيه يَبَساً عَيَّرَ قَوْمَه بتلبيسه فقال‏:‏ «إنه بحشمتي انفلق، فأنا ربُّكم الأعلى‏!‏» وحصل- كما في القصة- من دخوله بعَسْكَرِه البحرَ حتى دخل آخرهم، وهمَّ أن يخرج أَوَّلُهم، فأمر اللَّهُ البحرَ حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعون لما ظهر له اليأسُ، ولم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏‏}‏

يُذَكِّرُهم آلاءَه، ويعدُّ عليهم نعماءَه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لِمَا أسبغ عليهم من فنون النِّعم، ثم يذكرهم ما مَنَّ به على أسلافهم من إنزال المنَّ والسلوى، وضروب المِحَنِ وفنون البلوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِن طَيِبَّاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوا فِيهِ‏}‏ الطيبُ ما كان حلالاً‏.‏ ويقال الطيب من الرزق ما لا يَعْصِي اللَّهَ مُكْتَسِبهُ‏.‏ ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق‏.‏ ويقال الطيب من الرزق ما حَصَل منه الشكرُ‏.‏ ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبدُ من اللَّهِ، فما لأهل الجنةِ مُؤَجَّلٌ في عقباهم جهراً، معجّلٌ لأصفيائه في دنياهم سِرّاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 16‏]‏‏.‏

والأرزاقُ مختلفةٌ؛ فلأقوام حظوظُ النفوس ولآخرين حقوقُ القلوب، ولأقوام شهودُ الأسرار؛ فرزق النفوس التوفيق، ورزق القلوب التصديق، ورزق الأرواح التحقيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ‏}‏‏:‏ بمجاوزة الحلالِ إلى الحرام‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ‏}‏‏:‏ بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه مما زاد على سدِّ الرمق‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ‏}‏‏:‏ بالأكل على الغفلة والنسيان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَيَحِلَّ عَلْيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى‏}‏‏.‏

فيحل عليكم غضبي بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة‏.‏

ويقال فيحل عليكم غضي لِفَقْدِكم التأسُّفَ على ما فاتكم‏.‏

ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏‏}‏

الغفَّار كثيرُ المغفرة؛ فَمِنْك التوبةُ عن زَلَّةٍ واحدةٍ ومنه المغفرة لذنوب كثيرةٍ، ومنه السِّرِّيةُ التي لا اطلاع لأحدٍ غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع‏.‏ وهو يغفر لِمَنْ عَمِلَ مثل عَمَلِكَ، وهو يغفر لِمنْ قَلْبُكَ مُرِيدٌ له بالخير والنعمة، وكما قالوا‏:‏

إني- على جَفَواتها- فبِرَبِّها *** وبكل مُتَّصِلٍ بها متوسِّلُ

وأُحِبُّها وأُحِبَّ منزلَها الذي *** نَزَلَتْ به وأُحِبُّ أهلَ المنزلِ

قوله‏:‏ ‏{‏وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ‏}‏‏:‏ فلا تَصِحُّ التوبةُ إلا لمن يكون مؤمناً‏.‏

وقوله هنا‏:‏ ‏{‏وَءَامَنَ‏}‏‏:‏ أي آمن في المآلِ كما هو مؤمِنٌ في الحال‏.‏

ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته، إنما نجاتُه برحمته‏.‏

ويقال ‏{‏وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ‏}‏‏:‏ مِنَ الزَّلَّة ‏{‏وَءَامَنَ‏}‏‏:‏ فلم يَرَ أعماله من نَفْسه، وآمن بأن جميع الحوادثِ من الحقِّ- سبحانه- ‏{‏وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏‏:‏ فلم يُخِلْ بالفرائض ثم اهتدى للسُّنَّةِ والجماعة‏.‏

ويقال ‏{‏ثُمَّ‏}‏‏:‏ للتراخي؛ أي آمن في الحال «ثم» اهتدى في المآل‏.‏

ويقال مَنْ سَمِعَ منه ‏{‏وَإِنّىِ‏}‏ لا يقول بعد ذلك‏:‏ «إِنِّي»‏.‏

ويقال من شَغَلِه سماعُ قوله‏:‏ ‏{‏وإِنِّى‏}‏ اسْتُهْلِكَ في استيلاءِ ما غَلَبَ عليه من ضياء القربة، فإذا جاءت ‏{‏لَغَفَّارٌ‏}‏ صار فيه بعين المحو، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتني بشأنه‏.‏

ويقال ‏{‏إني لغفار‏}‏ كثير المغفرة لمن تاب مرةً؛ فيغفر له أنواعاً من ذنوبه التي لم يَتُبْ منه سِرَّها وجَهْرِها، صغيرها وكبيرِها، وما يتذكر منها وما لا يتذكر‏.‏ ولا ينبغي أَنْ يقولَ‏:‏ علمت «عملاً صالحاً»‏:‏ بل يلاحظُ عَمَلَه بعينِ الاستصغارِ، وحالته بغير الاستقرار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏‏:‏ أي اهتدى إلينا بنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏‏}‏

أخَرْجَهُمْ مع نَفْسِه لمَّا استصحبهم، ثم تقدَّمَهم بخطواطِ فتأخروا عنه، فقيل له في ذلك مراعاةٌ لحقِّ صحبتهم‏.‏

ويقال قومٌ يُعاتَبون لتأخرهم وآخرون لتقدمهم *** فشتان ما هما‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏‏}‏

أي عَجِلْتُ إليكَ شوقاً إليك، فاستخرج منه هذا الخطاب، ولولا أنه استنطقه لما أخبر به وموسى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ أُوْلآءِ عَلَى أَثَرِى‏}‏ أي ما خَلَّفْتُهم لتضييعي أيامي، ولكني عَجِلْتُ إليك لترضى‏.‏ يا موسى إنَّ رضائي في أن تكون مَعهم وأَلاَّ تَسْبِقَهم، فكونُكَ مع الضعفاءِ الذين استصحبتَهم- في معاني حصول رضائي- أبلغَ مِنْ تَقَدُّمِكَ عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ‏}‏‏.‏

فَتَّنا قومَك فَضَلُّوا وعبدوا العِجْلَ؛ فأخبر الحقُّ- سبحانه- أنَّ ذلك منه تقدير، وفي هذا تكذيبٌ لُمَنْ جَحَدَ القولَ بالقَدَرِ‏.‏

ويقال طَلَبَ موسى- عليه السلام- رِضَاءَ الحق، وقدَّر الحقُّ- سبحانه- فتنةَ قَوْمِه فقال‏:‏ ‏{‏إنا قد فتنا قومك من بعدك‏}‏، ثم الحُكْمُ لله، ولم يكن بُدٌّ لموسى عليه السلام من الرضاء بقضاء الله- فلا اعتراضَ على الله- ومِنَ العلم بِحقِّ اللَّهِ في أنْ يفعلَ ما يشاء، وأنشدوا‏:‏

أُريد وَصَالَه ويريد هجري *** فأتركُ ما أُؤيد لما يُريد

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ‏}‏‏.‏

بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وهو نوع من التعزير، وحصل ما حصل، وظهر ما ظهر من ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً‏}‏‏.‏

ورجع نبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- من المعراج بنعت البسط، وجاء بالنجوى لأصحابه فيما أوجب الله عليهم من الصلاة، وأكرمهم به من القربة بالزلفة‏.‏‏.‏ فشتان ما هما‏!‏

ورجع موسى إلى قومه بوصف الغضب والأسف، وخاطبهم ببيان العتاب‏:‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَلَم يَعِدْكُمْ رَبُّكُم وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِن رَّبِّكُمْ فَأخْلَفْتُمُ موْعِدِى‏}‏‏.‏

ظنوا بنبيِّهم ظنَّ السَّوْءِ في خلقه الوعد، فَلَحِقَهُمْ شؤمُ ذلك حتى زاغوا عن العهد، وأشركوا في العقد *** وكذلك يكون الأمر إذا لم يفِ المرء بعقده، فإنه ينخرط في هذا السِّلْكِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قالوا لم نكن في ابتداءِ حالِنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا، ولا عالمين بما آلتْ إليه عاقبةُ حالِنَا، وإن الذي حملنا من حُلِيِّ القبط صاغَ السامريُّ منه العجلَ *** وكذلك الحرامُ من حطام الدنيا لا يخلو من شؤم أثره‏.‏ فلقد كانت الغنيمة وأموال المشركين حراماً عليهم، فاستعاروا الحليَّ من القبط، وآل إليهم ما كان في أيديهم من الملْكِ، فكان سبب عبادتهم العِجْل *** كذلك مَنْ انهمك في طلب الدنيا من غير وجهِ حلالٍ يكون على خَطَرٍ من رِقَّةِ دينهِ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

يقال إنهم لمَّا مَرُّوا على قوم يعبدون أصناماً لهم قالوا لموسى‏:‏ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وكان ذلك الصنم على صورة العجل فكان مَيْلُهم إلى عبادته مُسْتَكِنَّاً في قلوبهم، فصاغ السامريُّ العجل على تلك الصورة‏.‏ وفي هذه إشارة إلى أن خفايا الهوى إذا استكنَّت في القلب فَمَا لم يُنْقَش ذلك الشرك بمنقاش المنازلة يُخْشَى أن يَلْقَى صاحبه ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

ويقال إن موسى- عليه السلام- خرج من بين أمته أربعين يوماً برَضِيَ قومهُ بعبادة العجل، ونبيُّنا- عليه السلام- خرج من بين أمته وأتت سنون كثيرة ولو ذَكَرَ واحدٌ عند مَنْ أخلص مِنْ أمته في التوحيدِ حديثاً في التشبيه لعدوا ذلك منه كبيرةً ليس له منها مَخْلَصٌ‏.‏

كذلك فإنهم استحفظوا كتابهم فبدَّلوه تبديلاً، بينما ضَمَنَ الحقُّ- سبحانه- إعزازَ هذا الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنًّا نَحْنُ نَزًّلْنَا الذِّكْرَ وأِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ ألاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لا قول له لا يتكلم، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة، وفيه رَدٌ على مَنْ لم يُثْبِتْ له في الأزَل القول، ولم يَصِفْه بالقدرة على الخير والشر‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏‏}‏

إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون، والإشارة في هذا أن من لم يحفظ أمر مَنْ هو أعلى رتبةً يحفظ كيف أمر من هو أدنى منزلةً‏؟‏ فَمَنْ تَرَكَ أَمْرَاً الحقِّ *** كيف يُطْمَعُ فيه أن يحترم الشيوخَ وأكلَ الناس‏؟‏ لهذا قيل‏:‏ لا حُرْمَةَ لفاسق؛ لأنه إذا تَرَكَ حقَّ الحقَّ فمتى يحفظ حَقَّ الخَلْقِ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏‏}‏

كان ذلك تَعَلُّلاً منهم بالباطل، فقالوا إنهم كانوا عازمين على تَرْكِ عبادة العجل‏؟‏ إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيدِ وتَرْكِ عبادةِ غير اللَّهِ *** ولكنْ كلُّ مُتَعلِّلٍ يَسْتَنِدُ إلى ما يحتج به من الباطل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏‏}‏

ضاق قلبُ موسى- عليه السلام- لمَّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل‏.‏ ولقد كان سمع من الله أَنَّ السامريّ أظلَّهم حين قال‏:‏ ‏{‏إنَّا قد فتنا قومك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 85‏]‏، ولكن قديماً قيل‏:‏ ليس الخبر كالعيان، فلمَّا عايَنَ ذلك ضاق قلبهُ، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر، وقيل‏:‏ مَنْ ضاق قلبُه استع لسانُه‏.‏ ولما ظهر لموسى- عليه السلام- ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المدارة‏.‏‏.‏ وكذلك الواجب في الصحبة لئلا يرتقي الأمرُ إلى الوحشة، فاستلطفه في الخطاب واستعطفه بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏‏}‏

أنت أمَرْتَنِي أَلاَّ أُفارِقَهم‏.‏ وقد يُقال إن هارون لو قال لموسى‏:‏ في الوقتِ الذي احتَجْتَ أنْ تَمْضِيَ إلى فرعون قلتَ‏:‏ ‏{‏وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 34‏]‏، وقلت‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْهُ مَعِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 34‏]‏، وقلت حين مضيتَ إلى سماع كلام الحق‏:‏ ‏{‏أخْلُفْنِى فِى قَوْمِى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ فما اكتفيت بأَنْ لم تستصحبني‏.‏ وخَلَّفْتَنِي‏!‏ وقد عَلِمْتَ أَني بريءُ الساحةِ مما فعلوا فأخذتَ بلحيتي وبرأسي *** ألم ترضَ بما أنا فيه حتى تزيدني حَرْياً على حَرْي‏؟‏‏!‏‏.‏ *** لو قال ذلك لكان مَوْضِعَه، ولكنْ لِحلْمِه، ولِعِلْمِه- بأنَّ ذلك كُلَّه حُكْمُ ربِّهم- فقد قابَلَ كلَّ شيءٍ بالرضا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏‏}‏

سأل موسى كلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ آخر، وإن معاتبته مع قومه، ومطالبته لأخيه، وتَغَيُّرَه في نَفْسِه، واستيلاَءَ الغضب عليه- لم يغيِّرْ التقدير، ولم يُؤَخِّرْ المحكوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏‏}‏

عَلِمْتُ ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيتُ جبريلَ، فَقَبضْتُ الترابَ من موضع حافرِ دابته، وأُلقِي في رَوْعي أن ذلك سببُ حياةِ العجل فطرحتُها في جوفه *** هكذا زَيَّنَتْ لي نفسي فاتَّبَعْتُ هواها‏.‏

ثم كان هلاكُه *** لئلا يأْمَنَ أحدٌ خفي مَكْرِ التقدير، ولا يركنَ إلى ما في الصورة من رِفْقٍ فَلَعَلَّه- في الحقيقة- يكون مكراً، ولقد أنشدوا‏:‏

فأَمِنتُه فأَتَاحَ لي من مَأْمَنِي *** مَكْراً، كذا مَنْ يَأْمَنُ الأحبابا

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏‏.‏

لم يَخْفَ على موسى- عليه السلام- تأثيرُ التقدير وانفرادُ الحقِّ بالإبداع، فلقد قال في خطابه مع الحق‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، ولكنه لم يدع- مع ذلك- بإحلال العقوبةِ بالسامري والأمر في بابه بما يستوجبه؛ ليُعْلَمَ أن الحُكمَ في الإبداع والإيجاد- وإنْ كان لله- فالمعاتبةُ والمطالبة تتوجهان على الخَلْقِ في مقتضى التكليف، وإجراءُ الحقِّ ما يُجْرِيه ليس حُجَّةً للعبد ولا عُذْراً له‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَ لَنَنَسِفَنَّهُ فى اليَمِ نَسْفاً‏}‏‏.‏

كلُّ ما تَعَلَّقَ به القلبُ من دون الله يَنْسِفُه الحقُّ- سبحانه بمُجِبِّه ولهذا يُلْقي الأصنامَ غداً في النار مع الكفار، وليس له جُرْمٌ، ولا عليهم تكليف، ولا لها عِلْمٌ ولا خبر *** وإنما هي جماداتٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

أي إلهكم الذي تجب عليكم عبادتُه بحقِّ أمره هو اللًّهُ الذي لا إله إلا هو، وهو بوصف الجلال، والذي لا يخفى عليه شيءٌ من المعلومات هو الله، وليس مِثْلَ الذي هو جماد لا يَعْلَمْ ولا يَقْدِرُ، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر‏.‏ ويمكنه أن يَسْحَقَ هذه الجماد ويحرقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

نعرِّفك أحوالَ الأولين والآخرين لئلا يَلْتَبِسَ عليكَ شيءٌ من طُرُقِهم؛ فتتأدبَ بآدابهم وتجتمعَ فيك مُتَفَرِّقَات مناقِبهم‏.‏‏.‏ ولكن اعلمْ أَنَّا لم نُبلِغْ أحداً مَبْلَغَكَ، ولم يكن لأحدٍ منَّا مالَكَ؛ آتيناك من عندنا شَرَفاً وفخراً لم يشركك فيهما أحدٌ، وذكَّرناك ما سَلَفَ لَكَ من العهد معنا، وجَدَّدْنا لك بينهم تخصيصنا إياك، وكريمَ إقبالِنا عليك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً‏}‏‏.‏

المُعْرضُون عنه شركاءُ يحملون غداً وزِرْاً وِثقْلاً، أولئك بعُدُوا عن محلِّ الخصوصية، ولم يكن لهم خَطَرٌ في التحقيق؛ فعقوبتُهم لا تزيد على آلام نفوسِِهم وإحراقِ أشباحهم، وأمَّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعةً ونَسَوْه لحظةً لدَار- في الحال- على رؤوسهم البلاءُ بحيث تتلاشى في جَهنَّم عقوبةُ كلِّ أحدٍ ‏(‏بالإضافة إلى هذه العقوبة‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 104‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قومٌ يومُ القيامة لهم مُؤجَّل، وهو بعد النفخ في الصُّور على ما وَرَدَ في الكتاب وفي الخبر المأثور‏.‏

وللآخرين قيامةٌ مُعَجَّلةٌ؛ فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة، وهوان حاضر وعذاب حاصل، فكما تَرِدُ على ظواهرِ قوم في الآخرة عقوباتٌ، تَرِدُ على سرائر آخرين عقوباتٌ في لاحياة الحاضرة، والمعاملةُ مع كلِّ أحدٍ تخالف المعاملةَ مع صاحبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ مَنْ تَفَرَّغَ لِعَدِّ الأوقاتِ والتمييز بين اختلاف الحالات فنوعٌ غير مستوفٍ في بلائه، وأمره سهلٌ *** ومَنْ كان يُرَادُ المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال؛ فالأحوال تخبر عنه وهو لا يُسْأَلُ عن الخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

كما أنَّ في القيامةِ الموعودةِ تُغَيَّرُ الجبالُ عن أحوالِها فهي كالعِهْن المنفوش فكذلك في القيامة الموجودة *** فلا يخبرك عنها إلا الأكابر الذين هم كالرواسي ثباتاً؛ فإنه يُدْخِلُ عليهم من الأحوال مايمحقهم عن شواهدهم، ويأخذهم عن أقرانهم *** كذا سُنَّتُه سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، وتنخنس العقول، وتندرِِس العلومُ، وتتحير المعارفُ، ويتلاشى ما هو نَعْتُ الخَلْق، ويستولي سلطانُ الحقيقة *** فعند ذلك لا عينٌ ولا أَثَرٌ، ولا رسم ولا طلل ولا غَبَرٌ، في الحضور خَرَسٌ، وعلى البِساط فَنَاءٌ، وللرسوم امتحاءُ، وإنما الصحة على الثبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

دليلُ الخطابِ أَنَّ مَنْ أَذِنَ له في الشفاعةِ تنفعه الشفاعةُ، وإذا قُبلَتْ شفاعة أحدٍ بإذن الرحنم فَمِنَ المُحالِ ألاَّ تُقْبَلَ شفاعةُ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الكافة، وشفاعةُ الأكابر من صفوته مقبولةٌ في الأصاغر في المُؤجَلِّ وفي المُعَجّل‏.‏ والحقُّ سبحانه يُشَفَّعُ الشيوخَ في مريديهم اليوم‏.‏

ويقال شفاعة الرسول عليه السلام غداً للمطيعين بزيادة الدرجة، وللعاصين بغفران الزَّلَّة، كذلك شفاعة الشيوخ- اليوم- للمريدين على قسمين‏:‏ للذين هم أصحاب السلوك فبزيادة التحقيق والتوفيق، وللذين هم أصحاب التَّخَبُّطِ والغِرَّة فبالتجاوز عنهم، وعلى هذا يُحْمَلُ قولُ قائلهم‏:‏

إِذَا مَرِضْتُم أَتْيْناكُم نعودُكُم *** وتُذْنِبُون فنأتيكم ونعتَذِرُ‏!‏

وحكاياتُ السَّلفِ من الشيوخ مع مريديهم في أوقات فترتهم معروفة، وهي مُشَاكِلةٌ لهذه الجملة، وإن شفاعتَهم لا تكون إلا بتعريفٍ من قِبَلِ الله في الباطن، ويكون ذلك أدباً لهم في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

لا يخفى على الحق شيءٌ مما مضى من أحوالهم ولا مِنْ آتيها، ولا يحيطون به عِلْماً‏.‏ والكناية في قوله‏:‏ «به» يحتمل أن يعود إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، ويحتمل أن يعود إلى الحقِّ- سبحانه-، وهو طريقة السَّلَف؛ يقولون‏:‏ يعلم الخلْقَ ولا يحيط به العلم، كما قالوا‏:‏ إنه يَرَى ولا يُدْرَك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

ذلَّتْ له الرقاب واستسلم لحُكْمه الخلْقُ، وخَضَعَت له الجبابرةُ، ومَنْ اقترف الظلمَ بقي في ظُلُماته، وعلى حسب ذلك في الزيادة والنقصان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏‏}‏

العمل الصالح ما يصلح للقبول، وفاعِلُه هو المتجرِّدُ عن الآفات الواقفة لحقيقة الأمر‏.‏

ويقال العمل الصالح ما لم يستعجل عليه صاحبُه أجراً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏‏:‏ أي في المآل كما هو مؤمن في الحال‏.‏

ويقال هو مؤمنٌ مصدِّق لربِّه أنه لا يعطي المؤمنَ لأَجْلِ إيمانه شيئاً، ولكن بفضله، وإيمانُه أمارةٌ لذلك لا موجِبٌ له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

أَتْبَعْنا دليلاً بعد دليل، وبعثنا رسولاً بعد رسول، وحَذَّرْناهم بوجوهٍ من التعريفات، وإظهارِ كثيرٍ من الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ‏}‏‏.‏

تعالى اللَّهُ في كبريائه؛ وكبرياؤه‏:‏ سناؤه وعُلاه ومَجْدُه ورِفْعَتُه وعظَمَتُه، كل ذلك بمعنى واحد، وهو استحقاقه لأوصاف الجلال والتعظيم‏.‏

و ‏{‏المَلِكُ‏}‏‏:‏ مبالغةً من المالك، وحقيقة الملك القدرة على الإيجاد، والانفراد بذلك‏.‏

و ‏{‏الحَقُّ‏}‏‏:‏ في وصفه- سبحانه- بمعنى الموجود، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «العين حق» أي موجود‏.‏

ويكون الحق بمعنى ذي الحقِّ، ويكون بمعنى مُحِقِّ الحق *** كل ذلك صحيح‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلماً‏}‏‏.‏

كان يتعجل بالتلقف من جبريل مخافَة النسيان، فأَمَرَه بالتثبت في التلقين، وأَمَّنَه من طوارِق النسيان، وعرَّفه أن الذي يحفظ عليه ذلك هو الله‏.‏

والآية تشير إلى طَرَفٍ من الاحتياط في القضاء بالظواهر قبل عرضها على الأصول، ثم إنْ لم يوجد ما يُوجَبُ بالتحقيق أجراه على مقتضى العموم بحقِّ اللفظ، بخلاف قول أهل التوقف‏.‏

فالآية تشير إلى التثبت في الأمور وضرورة التمكث واللبث قصداً للاحتياط‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏‏:‏ فإذا كان أَعْلَمُ البَشَرِ، وسيِّدُ العرب العجم، ومَنْ شهد له الحقُّ بخصائص العلم حين قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏ يقال له‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏- عُلِمَ أَنَّ ما يخصُّ به الحقُّ أولياءَه من لطائف العلوم لا حَصْرَ له‏.‏

ويقال أحاله على نفسه في استزادة العلم‏.‏ وموسى عليه السلام أحاله على الخضر حتى قال له‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 66‏]‏ فشتان بين عبدٍ أحيل على عبدٍ في ذلك ثم قيل له‏:‏ ‏{‏إنَّكَ لَن تَسْتَطِيِعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 72‏]‏ ثم كل ذلك التطلف قال له في آخر الأمر‏:‏ ‏{‏هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ وبين عبدٍ أَمَرَه عند استزادة العلم بأن يطلبه من قِبَلِ ربه فقال‏:‏ قُلْ يا محمد‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏‏.‏

ويقال لما قال عليه السلام‏:‏ «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له» قال له‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ لِيُعْلَمَ أَنَّ أشرف خِصالِ العبدِ الوقوفُ في محلِّ الافتقار، والاتصاف بنعت الدعاء دون الوقوف في مَعْرِضِ الدعوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

لم تجد له قوةً بالكمال، وانكماشاً في مراعاة الأمر حتى وقعت عليه سِمةُ العصيان بقوله‏:‏ ‏{‏وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏لم نَجد له عزماً‏}‏‏:‏ على الإصرار على المخالفة‏.‏

ويقال لم نجد عزماً في القصد على الخلاف، وإن كان‏.‏‏.‏ فذلك بمقتضى النسيان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ على خلاف ألأمر، وإنْ كان منه اتباعُ لبعض مطالبات الأمر‏.‏

ويقال شرح قصة آدم- عليه السلام- لأولاده على حجة التسكين لقلوبهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله؛ فإن آدم عليه السلام وقع عليه هذا الرقم، واستقبلته هذه الخطيئة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ من النسيان، ولم يكن في وقته النسيان مرفوعاً عن الناس‏.‏

ويقال عاتبه بقوله‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ ثم أظهر عُذْرَه فقال‏:‏ ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏‏}‏

السجود نوع من التواضع وإكبار القَدْر، ولم تتقدم من آدم عليه السلام طاعة ولا عبادة فَخَلَقه الحقُّ بيده، ورَفَعَ شأنهَ بعدما علَّمه، وحُمِلَ إلى الجنة، وأمَرَ الملائكةَ في كل سماءٍ أن يسجدوا له تكريماً له على الابتلاء، واختباراً لهم‏.‏ فسجدوا بأجمعهم، وامتنع إبليسُ من بينهم، فَلَقِيَ من الهوان من سبق له في حكم التقدير‏.‏ والعَجَبُ ممن يخفى عليه أنَّ مثل هذا يجري من دون إرادة الحقِّ ومشيئته وهو عالِمٌ بأنه كذلك يجري، واعتبروا الحكمةَ في أفعاله وأحكامه، ويزعمون أنه علم ما سيكون من حال إبليس وذريته، وكثرة مخالفات أولاد آدم، وكيف أن الشيطان يوسوس لهم *** ثم يقولون إن الحقَّ سبحانه أراد خلاف ما عَلِمَ، وأجرى في سلطانه ما يكرهه وهو عالِمٌ، وكان عالماً بما سيكون‏!‏ ثم خلق إبليس ومكَّنه من هذه المعاصي مع إرادته ألا يكون ذلك‏!‏ ويدَّعُون حُسْنَ ذلك في الفعل اعتباراً إنما هو الحكمة *** فسبحانَ مَنْ أَعْمَى بصائِرَِهم، وعَمَّى حقيقةَ التوحيد عليهم‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏‏}‏

وما كان ينفعهم النُّصْحُ وقد أراد بهم ما حذَّرَهم، وعَلِم أنهم سيلقون ما خوَّفهم به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى‏}‏‏:‏ علم أنهم سيلقون ذلك الشقاء؛ وأَمَّا إنَّه أضاف الشقاءَ إلى آدم وحدَه- وكلاهما لحقَهَ شقاءُ الدنيا- فذلك لمضارعة رؤؤس الآي، أو لأن التعبَ على الرجال دون النساء‏.‏ ومَنْ أصغى إلى قول عدوِّه فإِنه يتجَرَّعُ النَّدَمَ ثم لا ينفعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏‏}‏

لا تصديقَ اممُّ من تصديقِ آدم، ولا وعظَ أشدُّ رحمةً من الله، ولا يقينَ أقوى من يقينه *** ولكن ما قاسى آدمُ الشقاءَ قبل ذلك، فلمَّا استقبله الأمرُ وذاق ما خُوِّف به من العناءِ والكدِّ نَدِمَ وأطال البكاء، ولكن بعد إبرام التقدير‏.‏

‏{‏وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُوا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى‏}‏ أُوْثِرَ بكل وجه؛ فلم يعرف قَدْرَ العافيةِ والسلامةِ، إلى أن جرى ما هو محكواً به من سابقِ القسمة‏.‏

ويقال تنعَّمَ آدمُ في الجنة ولم يعرف قدر ذلك إلى حين استولى في الدنيا عليه الجوعُ والعطشُ، والبلاء من كل ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

وكان آدم عليه السلام إذا تجدَّد له نوعٌ نم البلاء أخذ في البكاء، وجبريل عليه السلام- يأتي ويقول‏:‏ ربُّك يُقْرِئِكُ السلامَ ويقول‏:‏ لِمَ تبكي‏؟‏ فكان يُذَكِّر جبريلَ عليه السلام وهو يقول‏:‏ أهذا لاذي قُلْتَ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلآَ تَضْحَى‏}‏ *** ‏!‏ وغير هذا من وجوه الضمان والأمن‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 120‏]‏

‏{‏فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏‏}‏

وسوس إليه الشيطان وكان الحقُّ يعلم ذلك ولم يذكُرْ آدمُ في الحال أن هذا من نزعات مَنْ قال له- سبحانه-‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 117‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ لو عَمَّى على إبليس تلك الشجرة حتى لم يعرفها بعينها، ولو لم يكن ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ حتى دلَّه على تلك الشجرة إيش الذي كان يمنعه منه إلا أَنَّ الحُكمَ منه بذلك سَبَقَ، والإرادةَ به تعلَّقت‏؟‏

ويقال إن الشيطان ظهر لآدم عليه السلام بعد ذلك فقال له‏:‏ يا شقيُّ، فعلتَ وصنعتَ‏.‏‏.‏ ‏!‏

فقال إبليس لآدم‏:‏ إنْ كنتُ شيطانَك فَمَنْ كان شيطاني‏؟‏

ويقال سُمِّي الشيطان شيطاناً لبعده عن طاعة الله، فكلُّ بعيدٍ عن طاعة الله يُبْعِدُ الناسَ عن طاعة الله فهو شيطان، ولذلك يقال‏:‏ شياطين الإِنْسِ، وشياطين الإِنْسِ شرٌّ من شياطين الجن‏.‏

ويقال لما طمع آدم في البقاء خالداً وَجَدَ الشيطان سبيلاً إليه بوسوسَتِه‏.‏

والناسُ تكلموا في الشجرة‏:‏ ما كانت‏؟‏ والصحيحُ أَنْ يقالَ إنها كانت شجرة المحنة‏.‏

ويقال لو لم تُخْلَقْ في الجنة تلك الشجرة لَمَا كان في الجنة نقصانٌ في رتبتها‏.‏

ويقال لولا أنه أراد لآدم ما كان لطالت تلك الشجرة حتى ما كانت لِِتَصلَ إليها يَدُه، ولكنه- كما في القصة- كانت لا تصل لى أوراقها يده- بعد ما أكل منها- حينما أراد أَنْ يأخذَ منها لِيَسْتُرَ عورتَه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏‏}‏

لمَّا ارتكبا المنهيَّ عنه ظهر ما يُسْتَحْيَي مِنْ ظهوره، ولكنَّ اللَّهَ- سبحانه- أَلْطَفَ معهما في هذه الحالة بقوله‏:‏ فَبَدَتْ لهما سوآتهما، ولم يَقُلْ- مُطْلَقاً- فبدت سَوْءَتُهما؛ أي أنه لم يُطْلِع على سوءتهما غيرَهما‏.‏

ويقال لَمَّا تجرَّدَا عن لِباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ‏}‏‏.‏

أولُ الحِرَفِ والصناعات- على مقتضى هذا- الخياطةُ، وخياطةُ الرّقاع بعضها على بعض للفقراء ميراثٌ من أبينا آدم- عليه السلام‏.‏

ويقال كان آدمُ- عليه السلام- قد أصبح وعليه من حُلَلِ الجنة وفنونِ اللِّباس ما اللَّهُ به أعلمُ، ثم لم يُمس حتى كان يخصف على نفسه من ورق الجنة، وهكذا كان في الابتداء ما هو موروثٌ في أولاده من هناء بعده بلاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنِ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ عند ذلك وقعت عليهما الخَجْلَةُ لمَّا وَرَدَ عليهما خطاب الحقِّ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَنْهَكُمَا‏.‏ *** عن‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ ولهذا قيل‏:‏ كفى للمُقَصِّر الحياء يو اللقاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالاََ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ لم يتكلما بلسان الحجة فقالا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، ولم يقولا‏:‏ بظلمنا صرنا من الخاسرين، بل قالا‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ ليُعْلَم أَنَّ المدارَ على حُكْم الربِّ لا على جُرْمِ الخَلْق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏‏.‏

لَمَّا وَقَعَتْ عليه سِمَةُ العصيان- وهو أَوَّلُ البشرِ- كان في ذكر هذا تنفيسٌ لأولاده؛ أن تجري عليهم زَلَّةٌ وهم بوصف الغيبة في حين الفترة‏.‏

ويقال كانت تلك الأكلةُ شيئاً واحداً، ولكن قصتها يحفظها ويرددها الصبيانُ إلى يوم القيامة‏.‏

وعصى آدم ربَّه ليُعْلَم أن عِظَمَ الذنوبِ لمخالفةِ الآمِرِ وعِظَمِ قَدْرِه *** لا لكثرة المخالفة في نفسها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏‏}‏

أخبر أنه بعدما عصى، وبعد كلِّ ما فَعَلَه اجتباه ربُّه؛ فالذي اصطفاه أولاً بلا عِلَّة اجتباه ثانياً بعد الزَّلَّة، فَتَابَ عليه، وغَفَر ذنبَه، ‏{‏وَهَدَى‏}‏‏:‏ أي هداه إليه حتى اعتذر واستغفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 123‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏‏}‏

أوقع العداوة بين آدم وإبليس والحية، وقد توالت المحنُ على آدم وحواء بعد خروجهما من الجنة بسمة العصيان، ومفارقة الجنة، ودخول الدنيا، وعداوة الشيطان والابتلاء بالشهوات‏.‏ ثم قال‏:‏

‏{‏فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وترَكَ هواه، ولم يعمل بوسوسة العدوِّ فله كُلُّ خير، ولا يلحقه ضَيْر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 126‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وََمنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏‏.‏

الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك في الدنيا، وفي القبر، وفي النار، وبالقلب من حيث وحشة الكفر، وبالوقتِ من حيث انغلاق الأمور‏.‏

ويقال مَنْ أعرض عن الانخراط في قضايا الوفاق انثالت عليه فنون الخذلان، ومن أعرض عن استدامة ذكره- سبحانه- بالقلب توالت عليه من تفرقة القلب ما يسلب عنه كلَّ رَوْحٍ‏.‏

ومَنْ أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوسُ الشيطان وهواجسُ النَّفس بما يوجِب له وحشةَ الضمير، وانسداد أبواب الراحة والبسط‏.‏

ويقال مَنْ أعرض عن ذِكْرِ الله في الخلوةِ قَيَّضَ اللَّهُ له في الظاهر من القرينِ السوءِ ما توجِبُ رؤيتُه له قَبْضَ القلوبِ واستيلاَءَ الوحشة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى‏}‏‏.‏

في الخبر‏:‏ «مَنْ كان بحالةٍ لَقِيَ اللَّهِ بها» فَمَنْ كان في الدنيا أعمى القلب يُحْشَرُ على حالته، ومَنْ يَعِشْ على جهلٍ يحشر على جهلٍ، ولذا يقولون‏:‏ ‏{‏مَنْ بَعَثَنَا مِن مَرْقَدِنَا‏}‏‏؟‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ إلى أَنْ تصيرَ معارفُهم ضروريةً‏.‏

وكما يَتْرُِكُون- اليومَ- التَدبُّرَ في آياتِه يُتْرَكُون غداً في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏

جَرَتْ سُنَّتُه بأَنْ يُجازِيَ كُلاً بما يليق بحاله، فما أسلفه لنفسِه سيلقى غِبَّه؛ على الخبر خيراً، وعلى الشرِّ شَرَّاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏‏}‏

أي أفلا ينظرون فيتفكرون‏؟‏ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون‏؟‏ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون‏؟‏ أم على وجوههم- في ميادين غَفَلاتِهِم يركضون، وعن سوءِ معاملاتهم لا يرجعون‏؟‏ أَلا ساء ما يعملون‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏‏}‏

لولا أَنَّ كلمةً اللَّهِ سَبَقَتْ بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وأنه لا يستأصلهم لأنَّ جماعةً من الأولياء في أصلابهم لَعَجَلَّ عقوبتَهم، ولكن *** كما ذَكَرَ من الأحوال أمهلهم مدةً معلومة، ولكنه لم يهملهم أصلاً‏.‏

وإذا كانت الكلمةُ بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت، والعلمُ بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى- فالسعيُ والجهدُ، والأنكماشُ والجدُّ‏.‏‏.‏ متى تنفع‏؟‏ لكنه من القسمة أيضاً ما ظهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏‏}‏

سماعُ الأذى يوجِب المشقة، فأزال عنه ما كان لَحِقَه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون، وأَمَرَهُ‏:‏ إنْ كان سماعُ ما يقولون يُوحشُكَ فتسبيحُنا- الذي تُثْنِي به علينا- يُرَوِّحُك‏.‏

‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ‏}‏‏:‏ أي في صدر النهار؛ ليُبُارِكَ لكَ في نهارِك، ويَنْعَمَ صباحُك‏.‏

‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ أي عند نقصان النهار؛ ليطيبَ لَيْلُكَ، وينعم رَواحُك‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءَانَآئ الَّيْلِ‏}‏ أي في ساعات الليل؛ فإن كمال الصفوة في ذكر الله حال الخلوة‏.‏

‏{‏وَأَطْرَافَ النَّهَارِ‏}‏ أي اسْتَدِمْ ذِكْرَِ اللَّهِ في جميع أحوالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏‏.‏

فضل الرؤية فيما لا يُحْتَاجُ إليه معلولٌ كفَضْلِ الكلامِ، والذي له عند الله مَنْزِلٌ وقَدْرٌ فَلِلْحَقٌ على جميع أحواله غَيْرَةٌ، إذ لا يَرْضَى منه أنْ يبذل شيئاً من حركاته وسكناته وجميع حالاته فيما ليس الله- سبحانه- فيه رِضاءٌ، وفي معناه أنشدوا‏:‏

فعيني إذا اسْتَحْسَنتْ غَيرَكم *** أَمَرْتُ الدموعَ بتأديبها

ويقال لمّا أَدَّبَه في ألا ينظرَ إلى زينة الدنيا بكمال نظره وَقَفَ على وجه الأرض بِفَرْدِ قَدَمٍ تصاوناً عنها حتى قيل له «طه» أي طَأْ الأرضَ بِقَدَمِك‏.‏‏.‏ ولِمَ كلُّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفَرْدٍ قَدَمٍ‏؟‏ طَأْ الأرض بقدميك‏.‏

‏{‏زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الفتنة ما يُشْغَل به عن الحقِّ، ويستولي حُبُّه على القلب، ويُجَسِّر وجودُه على العصيان، ويحمل الاستمتاع به على البَطَر والأشَر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَرِزْقُ رَبِِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏‏.‏

القليلُ من الحلال- وفيه رضاءُ الرحمن- خيرٌ من الكثير من الحرام والحطام‏.‏‏.‏ ومعه سُخْطُه‏.‏ ويقال قليلٌ يُشْهِدُكَ ربَّكَ خيرٌ مِنْ كثير يُنْسِيكَ ربَّك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا‏}‏‏.‏

الصلاةُ استفتاحُ بابِ الرزق، وعليها أحال في تيسير الفتوح عند وقوع الحاجة إليه‏.‏ ويقال الصلاة رزق القلوب، وفيها شفاؤها، وإذا استأخر قُوتُ النَّفْس قَوِيَ قُوتُ القلب‏.‏

وأَمرَ- الرسولَ- عليه السلام- بأن يأمرَ أهلَه بالصلاةِ، وأَنْ يَصْطَبِرَ عليها وللاصطبار مزية على الصبر؛ وهو أَلاَّ يَجِدَ صاحبهُ الألمَ بل يكون محمولاً مُرَوَّحاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً‏}‏‏.‏

أي لا نكلفك برزق أحدٍ، فإنَّ الرازقَ اللَّهُ- سبحانه- دون تأثير الخَلْق، فنحن نرزقك ونرزق الجميع‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ‏}‏‏.‏

هما شيئان‏:‏ وجود الأرزاق وشهود الرزاق؛ فوجود الأرزاق يوجب قوة النفوس، وشهود الرزاق يوجب قوة القلوب‏.‏

ويقال استقلال العامة بوجود الأرزاق، واستقلال الخواص بشهود الرزَّاق‏.‏

ويقال نَفي عن وقته الفَرْقَ بين أوصاف الرزق حين قال‏:‏ ‏{‏نََّحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏؛ فإنَّ مَنْ شَهِدَ وتحقق بقوله‏:‏ ‏{‏نََّحْنُ‏}‏ سقط عنه التمييز بين رزقٍ ورزقٍ‏.‏

ويقال خففَّفَ على الفقراءِ مقاساةَ قِلَّةِ الرزقِ وتأخُّرِه عن وقتٍ إلى وقتٍ بقوله‏:‏ ‏{‏نََّحْنُ‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى‏}‏‏:‏ أي العاقبة بالحسنى لأهل التقوى‏.‏

ويقال المراد بالتقوى المُتّقِي، فقد يسمَّى الموصوف بما هو المصدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏‏}‏

عَمِيَتْ بصائرهم وادَّعوا أنه لا برهانَ معه، ولم يكن القصورُ في الأدلة بل كان الخَلَلُ في بصائرهم، ولو جمع اللَّهُ لهم كلَّ آيةٍ اقْتُرِحَتْ على رسولٍ ثم لم يُرِد‏}‏ اللَّهُ أَنْ يؤمِنوا لَمَا ازدادوا إلا طغياناً وكفراً وخسراناً *** وتلك سُنَّةُ أسلافهم في تكذيب أنيبائهم، ولذا قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏‏}‏

إنْ أرسلنا إليهم الرسلَ قابلوهم بفنونٍ من الجحد، ووجوهٍ من العلل؛ مرةً يقولون فما بالُ هذا الرسول بَشَر‏؟‏ هلاَّ أرسله مَلَكاً‏؟‏ ولو أرسلنا مَلَكاً لقالوا هلاَّ أرسل إلينا مثلنا بَشَراً‏؟‏ ولو أظهر عليهم آيةً لقالوا‏:‏ هذا سِحْرٌ مُفْتَرَى‏!‏ ولو أخليناهم من رسولٍ وعاملناهم بما استوجبوه من نكير لقالوا‏:‏

هلاَّ بَعَثَ إلينا رسولاً حتى كنا نُؤْمِن‏؟‏ فليست تنقطع أعلالُهم، ولا تنفك- عما لا يُرْضَى- أحوالُهم‏.‏ وكذلك سبيلُ مَنْ لا يجنح إلى الوصال ولا يرغَب في الوداد، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وكذا إذا الملولُ قطيعةً *** مَلَّ الوِصال وقال كان وكانا

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

الكل واقفوان على التجويز غير حاصلين بوثيقة، ينتظرون ما سيبدو في المستأنف، إلاَّ أَنَّ أربابَ التفرقة ينتظرون ماسيبدو مِمَّا يقتضيه حُكْمُ الأفلاك، وما الذي توجبه الطبائعُ والنجومُ‏.‏ والمسلمون ينتظرون ما يبدو من المقادير فهم في رَوْحِ التوحيد، والباقون في ظُلُمَاتِ الشَّرْكِ‏.‏

سورة الأنبياء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

فالمطيعون منهم عَظُمَ لدينا ثوابُهم، والعاصون منهم حَقَّ مِنَّا عقابُهم‏.‏

‏{‏فِى غَفْلَةٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ يقال الغفلة على قسمين‏:‏ غافلٍ عن حسابه باستغراقه في دنياه وهواه، وغافلٍ عن حسابه لاستهلاكه في مولاه؛ فالغفلة الأولى سِمَةُ الهجر والغفلة الثانية صِفَةُ الوَصْل؛ فالأَولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا من سكرة الموت، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبدِ لفنائهم في وجود الحق تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

لم يجدد إليهم رسولاً إذا ازدادوا نفوراً، ولم يُنِّزلْ عليهم خِطاباًَ إلا ردُّوه جحداً وتكذيباً، وما زدناهم فصلاً إلا عدُّوه هَزْلاً، وما جددنا لهم نعمةً إلا فعلوا ما استوجبوا نقمة، فكان الذي أكرمناهم به محنةً بها بلوناهم *** وهذه صفة مَنْ أساء مع الله خُلُقَه، وخَسِرَ عند الله حقَّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

عَمِيَتْ بصائرُهم وعامت أفهامهم، فهم في غباوة لا يستبصرون، وفي أكنة عمَّا اقيم لهم من البرهان فهم لا يعلمون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوا النَّجْوَى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لَمَّا عجزوا عن معارضته، وسقطوا عن التحدي، وظهرت عليهم حُجَّتُهُ رَجَّمُوا فيه الفِكْرَ، وقَسَّمُوا فيه الظن، فمرةً نسبوه إلى السحر، ومرةً وصفوه بقول الشعر، ومرة رَمَوْه بالجنونِ وفنونٍ من العيوب‏.‏ وقبل ذلك كانوا يقولون عنه‏:‏ هو محمدٌ الأمين، كما قيل‏:‏

أشاعوا لنا في الحيِّ أشنعَ قصةٍ *** وكانوا لنا سِلْماً فصاروا لنا حَرْباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

الأقاويل التي يسمعها الحقُّ- سبحانه- مختلفة؛ فَمِنْ خطابِ بعضهم مع بعض، ومن بعضهم مع الحق‏.‏ والذين يخاطِبون الحقَّ‏:‏ فَمِنْ سائلٍ يسأل الدنيا، ومِِنْ داعٍ يطلب كرائمَ العُقْبَى، ومِنْ مُثْنٍ يثني على الله لا يقصد شيئاً من الدنيا والعقبى‏.‏

ويقال يسمع أنينَ المُذْنبين سِراً عن الخَلْق حَذَراً أن يفتضحوا، ويسمع مناجاةَ العابدين التسبيح إذا تهجدوا، ويسمع شكوى المحبين إذا مَسَّتْهم البُرَحاء فَضَجُّوا من شدة الاشتياق‏.‏

ويقال يسمع خطابَ مَنْ يناجيه سِرَّا بسرِّ، وكذلك تسبيح مَنْ يمدحه ويثني عليه بلسان سِرِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

نَوَّعُوا ما نسبوا إليه- بعدما نزَّلنا إليه الأمر- من حيث كانوا، ولم يشاهدوا هِمَمَه على الوصف الذي كانوا يصفونه به من صدق في الحال والمقال، وكما قيل‏:‏

رمتني بداءها وانسلت‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

أخبر أن الله تعالى أجرى سُنَّتَه أن يُعَذِّبَ من كان المعلوم من شأنه أنه لا يؤمن لا في الحال ولا في المآل‏.‏ وإنَّ هؤلاء الذين كفروا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثالُهم في الكفران، وقد حَكَم الحقُّ لهم بالحرمان والخذلان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

لمَّا قالوا لولا أَنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يُرْسِلْ إلى الناس رسولاً فيما سَبَقَ من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بَشراً، وذَكَرَ أنَّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ الخطاب للكلِّ والمراد منه الأمة، وأهلُ الذكر العلماءُ من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين في محل الإعلام من الحقِّ- سبحانه- أو من يُحْسِنُ الإفهامَ عن الحق‏.‏

ويقال العالم يرجع إلى الله في المعاملات والعبادات، وإذا اشتكلت الواقعةُ فيخبر عن اجتهاده، وشرطه ألا يكون مقلداً، ويكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يخالف النصَّ وأدى اجتهاده إلى شيء ولم يخالف أصلاً مقطوعاً بصحته وجب قبول فتواه، وأمَّا الحكيم فإذا تكلم في المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يُفْتَى به فإن لم تتقدم له من قِبَله المنازلة ففتواه في هذا الطريق كفتوى المقلِّد في مسائل الشرع‏.‏

فأمَّا العارف فيجب أن يتكلم في هذا الطريق عن وَجْدِه- إنْ كان- وإلا فلا تُقْبَلُ فتواه ولا تُشْمَع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لمَّا عَيَّروا الرسولَ- عليه السلام- بقولهم‏:‏ ما لهذا الرسول يأكل الطعام‏؟‏‏.‏‏.‏ أخبر أن أَكْلَ الطعام ليس بقادح في المعنى الذي يختص به الأكابر، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تُكِنُّه القلَوبُ والسرائر من وجوه التعريف‏.‏

ويقال‏:‏ النفوس لا خبر لها مما به القلوب، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرُّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ‏}‏‏:‏ أي إنهم على ممرٍ ومعْبرٍ، ولا سبيلَ اليومَ لمخلوقٍ إلى الخُلْد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

الحقُّ- سبحانه- يُحَقِّق وعْدَه وإنْ تباطأ بتحقيقه الوقتُ فيما أخبر أنه يكون‏.‏ والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدِّين، وإرغام مَنْ نَابَذَ الحقَّ مِنَ الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ الشبهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يريد بالكتاب القرآن، وقوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏‏:‏ أي شرفُكم ومحلُّكم، فَمَنْ استبصَر بما فيه من النور سَعِدَ في دنياه وأخراه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

إنَّ اللَّهَ يُمْهِل الظالمَ حيناً لكنه يأخذه أَخْذَ قهر وانتقام، وقد حَكَمَ اللَّهُ بخرابِ مساكنِ الظالمين، وقد جاء الخبر‏:‏ «لو كان الظلم بيتاً في الجنة لَسُلِّطَ عليه الخراب» فإذا ظلم العبدُ نَفْسَه حَرَّمَ اللَّهُ أَنْ يقطنها التوفيقُ وجعلها موطنَ الخذلان، فإذا ظَلَمَ قلبَه بالغفلة سَلَّط عليه الخواطرَ الردية التي هي وساوس الشيطان ودواعي الفجور‏.‏ وعلى هذا القياس في القلة والكثرة؛ إنَّ الروح إذا خربت زايلتها الحقائقُ والمحابُّ واستولت عليها العلائقُ والمساكنات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

لمَّا ذاقوا وبالَ أفعالهم اضطربوا في أحوالهم فلم ينفعهم نَدَمُهم، ولم تَعْدُ إلى محالِّها أقدامُهم، وبعد ظهور الخيانة لا تُقْبَلُ الأمانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وللخيانة سراية، فإذا حصلت الخيانة لم تقف السراية، وإذا غرقت السفينةُ فليس بيد المَلاَّحِ إلا إظهار الأسف، وهيهات أن يُجْدِي ذلك‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

للإقرار زمانٌ؛ فإِذا فات وقتُه فكما في المَثَل‏:‏ يسبق الفريض الحريصُ‏.‏ ووَضْعُ القوسِ بعد إرسال السهم لا قيمة له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

إنّ مِنَ البلاءِ أَنْ يشكوَ المرءُ فلا يُسْمَع، ويبكي فلا يَنْفَع، ويدنو فَيُقْصَى، ويمرض فلا يُعادَ، ويعتذر فلا يُقْبَل *** وغايةُ البلاءِ التَّلَفُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

اللَّعِبُ نعتُ من زَالَ عن حَدِّ الصواب، واستجلب بفعله الالتذاذ، وانجرَّ في حَبْلِ السَّفَهِ‏.‏ وحَقُّ الحقِّ مُتَقَدِّسٌ عن هذه الجملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يخاطبهم على حسب أَفهامهم؛ وإلا‏.‏‏.‏ فالذي لا يعتريه سهوٌ لا يستفِزُّه لَهْوٌ، والحقُّ لا يعتريه ولا يضاهيه كُفْؤٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأَوهام فينقشع سحابُ الغيبة، وينجلي ضبابُ الأوهام، وتنير شمسُ اليقين، وتصحو سماءُ الحقائق عن كلِّ غُبار التٌّهَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الحادثات له سبحانه مِلْكاً والكائنات له حُكماً، وتعالى اللَّهُ عن أنْ يَتَجَمَّلَ بوِفاقٍ أو ينقض بخلاف، وبالقَدَرِ ظهورُ الجميع، وعلى حسب الاختيار تنصرف الكلمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

المطيعُ بالمختارُ يُسِّبحه بالقول الصدق، والكلُّ من المخلوقات تسبيحها بدلالة الخِلْقَة، وبرهان البَيِّنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

تفرَّد الحقُّ بالإبداع والإيجاد، وتقدَّس عن الأمثال والأنداد، فالذين يُعْبَدُون مِنْ دونه أمواتٌ غيرُ أحياءٍ‏.‏ وهم بالضرورة يعرفون *** أفلا يَعْتَبِرُون وألا يَزْدَجِرُون‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

أخبر أَنَّ كلَّ أمر يُنَاطُ بجماعةٍ لا يجري على النظامِ؛ إذ ينشأ بينهم النزاعُ والخلافُ‏.‏ ولمَّا كانت أمورُ العالَم في الترتيب مُنَسَّقَة فقد دلَّ ذلك على أنها حاصلةٌ بتقديرِ مُدَبِّرٍ حكيم؛ فالسماءُ في علوِّها تدور على النظام أفلاكُها، وليس لها عُمُدٌ لإمساكها، والأرضُ مستقرةٌ بأقطارها على ترتيب تعاقب ليلها ونهارها‏.‏ والشمسُ لتقديرِ العزيزِ العليمِ علامةٌ، وعلى وحدانيته دلالةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لِكَوْنِ الخلْق له، وهم يُسأَلون للزوم حقه عليهم‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

دلت الآيةُ على فسادِ القولِ بالتقليد، ووجوبِ إقامة الحجة والدليل‏.‏

ودلَّت الآية على توحيد المعبود، ودلَّت الآية على إثبات الكسب للعبيد؛ إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللومُ والعَتْبُ‏.‏ وكلُّ مَنْ علَّقَ قلبه بمخلوقٍ، أو تَوَهَّمَ من غير الله حصولَ شيءٍ فَقَد دَخَلَ في غمار هؤلاء لأنَّ الإله مَنْ يصحُّ منه الإيجاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى‏}‏‏:‏ الإشارة منه أن الدِّينَ توحيدُ الحق، وإفرادُ الربِّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر، ولو وضعوا النظر موضعه لوَجَبَ لهم العلم لا محالة، والأمر يدل على وجوب النظر، وأنَّ العلومَ الدينية كُلَّها كسبية‏.‏