فصل: تفسير الآية رقم (108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

السجود لا يكون عبادة لِعَيْنهِ ولكن لموافقة أمره سبحانه، فكأن سجودَهم لآدم عبادةٌ لله؛ لأنه كان بأمره، وتعظيماً لآدم لأنه أمرهم به تشريفاً لشأنه، فكأن ذلك النوعَ خضوعٌ له ولكن لا يسمى عبادة، لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصحُّ لغيره سبحانه‏.‏

ويقال بَيَّن أن تقدُّسَه- سبحانه- بجلاله لا بأفعالهم، وأن التَجمُّلَ بتقديسهم وتسبيحهم عائدٌ إليهم، فهو الذي يجل من أَجَلَّه بإجلاله لا بأفعالهم، ويعز من أعزَّ قدره سبحانه بإعزازه، جَلَّ عن إجلال الخلق قدْرُه، وعزّ عن إعزاز الخَلْق ذِكْرُه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ أبى بقلبه، واستكبر عن السجود بنفسه، وكان من الكافرين في سابق حكمه وعلمه‏.‏ ولقد كان إبليس مدةً في دلال طاعته يختال في صدار موافقته، سلَّموا له رتبة التقدم، واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص، فصار أمره كما قيل‏:‏

وكان سراج الوصل أزهر بيننا *** فهبَّت به ريحٌ من البيْن فانطفا

كان يحسب لنفسه استيجاب الخيرية، ويحسب استحقاق الزلفة والخصوصية‏:‏

فبات بخير والدني مطمئنة *** وأصبح يوماً والزمان تقلبا

فلا سالِفَ طاعةٍ نَفَعَه، ولا آنِفَ رجعةٍ رفعه، ولا شفاعةَ شفيعٍ أدركتهْ، ولا سابقَ عنايةٍ أَمْسكتهْ‏.‏ ومن غَلَبَه القضاء لا ينفعه العناء‏.‏

ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية، فتداركتهْ رحمة أحدية، وأما إبليس فأدركته شقوة أزلية، وغلبته قسمة وقضية‏.‏ خاب رجاؤه، وضلَّ عناؤه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

أسْكَنَه الجنةَ ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة، ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولاً، وبالخضرة يبساً، وبالوجود فقداً، وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه- ويقع منه ما يقع‏.‏

ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدَّها لم يقع في شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم‏.‏

ولا مكانَ أفضل من الجنة، ولا بَشَرَ أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قوله إشارة الحق عليه، ولا غريبة ‏(‏منه‏)‏ قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته- ولكنَّ القدرةَ لا تُكابَرَ، والحُكْمَ لا يُعَارض‏.‏

ويقال لما قال له‏:‏ ‏{‏اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً‏}‏ كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخَلْق السكون إلى الخَلْق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السلام وَحْدَه كان بكل خير وكل عافية، فلمَّا جاء الشكلُ والزوجُ ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة؛ فحين سَاكَنَ حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل‏:‏

داءٌ قديمٌ في بني آدم *** صبوةُ إنسان بإنسان

فصل‏:‏

وكلُّ ما منِع منه ابن آدم توفرت دواعيه إلى الاقتراب منه‏.‏

فهذا آدم عليه السلام أبيحت له الجنة بجملتها ونُهِيَ عن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مدَّ يده إلى شيء من جملة ما أبيح، وكان عِيلَ صبره حتى واقع ما نُهِيَ عنه- هكذا صفة الخَلْق‏.‏

فصل‏:‏

وإنما نبَّه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها حين قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ فإذا أخبر أنه جاعله خليفته في الأرض كيف يمكن بقاؤه في الجنة‏؟‏

ويقال أصبح آدم عليه السلام محمود الملائكة، مسجود الكافة، على رأسه تاج الوصلة، وعلى وسطه نطاق القُرَبة، وفي جيده ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الزلفة، لا أحد فوقه في الرتبة، ولا شخص مثله في الرفعة، يتوالى عليه النداء في كل لحظة يا آدم يا آدم‏.‏ فلم يُمْسِ حتى نُزِعَ عنه لباسهُ، وسُلِبَ استئناسه، والملائكة يدفعونه بعنف أن اخْرج بغير مُكْثٍ‏:‏

وأَمِنْتُهُ فأتاح لي من مَأْمني *** مكراً، كذا من يأمن الأحبابا

ولمّا تاه آدم عليه السلام في مِشيته لم يلبث إلا ساعة حتى خرج بألف ألف عتاب، وكان كما قيل‏:‏

لله دَرُّهُمُ من فِتْيةٍ بَكَرُوا *** مثلَ الملوكِ وراحوا كالمساكين

فصل‏:‏

نهاه عن قرب الشجرة بأمره، وألقاه فيما نهاه عنه بقهره، ولبَّس عليه ما أخفاه فيه من سِرِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ‏}‏‏.‏

أزلَّهما أي حَمَلَهما على الزَّلة، وفي التحقيق‏:‏ ما صَرَّفَتْهُما إلا القدرة، وما كان تقلبهما إلا في القضية، أخرجهما عما كانا فيه من الرتبة والدرجة جهراً، ولكن ما ازداد- في حكم الحق سبحانه- شأنُهما إلا رفعةً وقدراً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ‏}‏‏.‏

أوقع العداوة بينهما وبين الشيطان، ولكن كان سبحانه مع آدم ‏(‏وحرب وهو معهم محالهم بالظفر‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات، فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

فصل‏:‏

لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره لكان له إمكانٌ في هداية نفسه، وكيف يكون ذلك‏؟‏ والتفرد بالإبداع لكل شيء من خصائص نعته سبحانه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏‏.‏

مشهد الأشباح ومألفها أقطار الأرض، ومعهد الأرواح ومرتعها رداء العرش، ولفظ الرداء استعارة وتوسع فكيف يكون للهمم بالحِدْثان تَعَلُّق، ولصعود القصود إلى الحقائق على الأغيار وقوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

جرت على لسان آدم مع الحق- سبحانه- كلماتٌ، وأسمع الحقُّ- سبحانه- آدمَ كلماتٍ، وأنشدوا‏:‏

وإذا خِفْنا من الرقباء عينا *** تكلمت السرائر في القلوب

وأجمل الحقُّ سبحانه القولَ في ذلك إجمالاً ليُبْقي القصة مستورة، أو ليكون للاحتمال والظنون مساغ، ولما يحتمله الحال من التأويل مطرح‏.‏

ويحتمل أن تكون كلمات آدم عليه السلام اعتذاراً وتنصلا، وكلمات الحق سبحانه قبولاً وتفضلاً‏.‏ وعلى لسان التفسير أن قوله تعالى له‏:‏ أفراراً منا يا آدم‏؟‏ كذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 230‏]‏ وقوله‏:‏ أمخرجي أنت من الجنة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، فقال أتردني إليها‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

ويقال حين أمر بخروجه من الجنة جعل ما أسمعه إياه من عزيز خطابه زاداً، ليكون له تذكرة وعتاداً‏:‏

وأذكر أيام الحمى ثم انْثَني على *** على كبدي من خشية أن تَقطَّعا

ومخاطبات الأحباب لا تحتمل الشرح، ولا يحيط الأجانب بها علماً، وعلى طريق الإشارة لا على معنى التفسير والتأويل، والحكم على الغيب بأنه كان كذلك وأراد به الحق سبحانه ذلك يحتمل في حال الأحباب عند المفارقة، وأوقات الوداع أن يقال إذا خرجت من عندي فلا تنسَ عهدي، وإن تَقَاصَر عنك يوماً خبري فإياك أن تؤثر عليّ غيري، ومن المحتمل أيضاً أن يقال إن فاتني وصولك فلا يتأخَّرَنَّ عني رسولُك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

سوء الأدب على البساط يوجب الرد إلى الباب، فلما أساء آدم عليه السلام الأدب في عين القربة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ‏}‏ بعد أن كان لكم في محل القربة قرار ومتاع إلى حين، يستمتعون يسيراً ولكن ‏(‏في‏)‏ آخرهم يعودون إلى الفقر، وأنشدوا‏:‏

إذا افتقروا عادوا إلى الفقر حسبة *** وإن أيسروا عادوا سراعاً إلى الفقر

وحين أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض بَشَّره بأنه يردَّه إلى حاله لو جنح بقلبه إلى الرجوع فقال‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

والذين قابلوا النعمة بغير الشكر، وغفلوا عن التصديق والتحقيق فلهم عذاب أليم مؤجَّل، وفراق معجَّل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا بَنِى إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

حقيقة النعمة على لسان العلماء لذة خالصة عن الشوائب، وما يوجب مثلها فهي أيضاً عندهم نعمة، وعند أهل الحقيقة النعمة ما أشهدك المُنْعم أو ما ذكرَّك بالمنعم أو ما أوصلك إلى المنعم أو ما لم يحجبك عن المنعم‏.‏

وتنقسم إلى نعمة أَبشار وظواهر، ونعمة أرواح وسرائر، فالأولى وجوه الراحات والثانية صنوف المشاهدات والمكاشفات‏.‏ فمن النعم الباطنة عرفان القلوب ومحاب الأرواح ومشاهدات السرائر‏.‏

فصل‏:‏

ويقال أمَرَ بني إسرائيل بذكر النِّعَم وأمَرَ أَمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم بذكر المُنعِم، وفرق بين من يقال له‏:‏ ‏{‏اذْكُرْ نِعْمَتِى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ وبين من يقال له‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ‏}‏‏.‏

عهدهُ- سبحانه- حفظ المعرفة وعهدنا اتصال المغفرة، عهده حفظ محابه وعهدنا لطف ثوابه، عهده حضور الباب وعهدنا جزيل المآب‏.‏

أوفوا بعهدي بحفظ السر أوفِ بعهدكم بجميل البِر، أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوفِ بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق، أوفوا بعهدي في ألا تؤثروا عليّ غيري أوف بعهدكم في ألا أمنع عنكم لطفي وخيري، أوفوا بعهدي برعاية ما أثبتُّ فيكم من الودائع أوفِ بعهدكم بما أُديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع، أوفوا بعهدي بحفظ أسراري أوف بعهدكم بجميل مَبَارِّي، أوفوا بعهدي باستدامة عرفاني أوفِ بعهدكم في إدامة إحساني، أوفوا بعهدي في القيام بخدمتي أوفِ بعهدكم في المِنَّةِ عليكم بقبولها منكم، أوفوا بعهدي في القيام بحسن المجاهدة والمعاملة أوفِ بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة، أوفوا بعهدي بالتبري عن الحوْل والمُنَّة أوف بعهدكم بالإكرام بالطول والمِنَّة، أوفوا بعهدي بالتفضيل والتوكل أوفِ بعهدكم بالكفاية والتفضل، أوفوا بعهدي بصدق المحبة أوفِ بعهدكم بكمال القربة، أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوفِ بعهدكم أرضي بكم عنكم، أوفوا بعهدي في دار الغيبة على بساط الخدمة بشدِّ نطاق الطاعة، وبذل الوسع والاستطاعة أوفِ بعهدكم في دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأُنْس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة، أوفوا بعهدي في المطالبات بترك الشهوات أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات، أوفوا بعهدي بأن تقولوا أبداً‏:‏ ربي ربي أوفِ بعهدكم بأن أقول لكم عبدي عبدي‏.‏ وإياي فارهبون، أي أَفْرِدُوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا مِنَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

الإشارة أن يقرن ‏(‏العبد‏)‏ إيمانه من حيث البيان بإيمانه من حيث البرهان، وجمهور المؤمنين لهم إيمان برهان بشرط الاستدلال، وخواص المؤمنين لهم إيمان من حيث البيان بحق الإقبال، وأقبل الحق سبحانه عليهم فآمنوا بالله، وآخر أحوالهم الإيمان من حيث العيان، وذلك لخواص الخواص‏.‏

ولا تكونوا أول كافرٍ به، ولا تَسُنُّوا الكفر سُنَّةً فإن وِزْرَ المبتدئ فيما يَسُنُّ أعظم من وزر المقتدي فيما يتابع‏.‏

‏{‏وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ لا تؤثروا على عظيمِ حقي خسيسَ حظِّكم‏.‏ ‏{‏وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ‏}‏ كثيرٌ من يتقي عقوبته وعزيز من يهاب اطلاعه ورؤيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لا تتوهموا أن يلتئم لكم جمع الضدين، والكون في حالة واحدة في محلين، ‏(‏فالعبد‏)‏ إما مبسوط بحق أو مربوط بحظ، وأمّا حصول الأمْرَيْن فمحالٌ من الظن‏.‏

‏{‏وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ‏}‏ تدنيس، ‏{‏وَتَكْتُمُوا الحَقَّ‏}‏ تلبيس، ‏{‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن حق الحق تقديس، وأنشدوا‏:‏

أيها المنكح الثريا سهيلا *** عمرك الله، كيف يلتقيان‏؟‏‏!‏

هي شامية إذا ما استهلت *** وسهيلٌ إذا استهل يماني‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

احفظوا آداب الحضرة؛ فحفظ الآداب أتمُّ في الخدمة من الخدمة، والإشارة في إيتاء الزكاة إلى زكاة الهِمَم كما تؤدَّى زكاةُ النِّعم، قال قائلهم‏:‏

كلُّ شيءٍ له زكاةٌ تُودّى *** وزكاةُ الجمال رحمةُ مثلى

فيفيض من زوائد هممه ولطائف نظره على المُتَبِّعين والمَربين بما ينتعشون به و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، ‏{‏وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏‏:‏ تقتدي بآثار السلف في الأحوال، وتجتنب سنن الانفراد فإن الكون في غمار الجمع أسلم من الامتياز من الكافة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

أتُحَرِّضون الناس على البِدار وترضَوْن بالتخلُّف‏؟‏ ويقال أتدعون الخلْقَ إلينا وتقعدون عنَّا‏؟‏ أتسرحون الوفود وتقصرون في الورود‏؟‏ أتنافسون الخلق وتنافرونهم بدقائق الأحوال وترضون بإفلاسكم عن ظواهرها‏؟‏

ويقال أتبصرون من الحق مثقالَ الذَّرِ ومقياسَ الحَبِّ وتساهمون لأنفسكم أمثال الرمال والجبال‏؟‏ قال قائلهم‏:‏

وتبصر في العين مني القذى *** وفي عينك الجذع لا تبصر‏؟‏‏!‏

ويقال أَتُسْقَوْنَ بالنُّجُب ولا تشربون بالنُّوَب‏؟‏

‏{‏وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ‏}‏ ثم تعاندون بخافايا الدعاوى وتجحدون بما شام قلوبكم من فضيحات الخواطر وصريحات الزواجر‏.‏

‏{‏أفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ إن ذلك ذميمٌ من الخِصال وقبيحٌ من الفِعال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

الصبر فطم النفس عن المألوفات، والصلاة التعرُّض لحصول المواصلات، فالصبر يشير إلى هجران الغَيْر، والصلاة تشير إلى دوام الوقوف بحضرة الغيب، وإن الاستعانة بهما لخصلة شديدة إلا على من تجلَّى الحق لِسِرِّه فإِن في الخبر المنقول‏:‏ «إن الله تعالى إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له» وإذا تجلَّى الحق، خَفَّ وسَهُلَ ما توقَّى الخلْق؛ لأن التوالي للطاعات يوجب التكليف بموجب مقاساة الكلفة، والتجلي بالمشاهدات- بحكم التحقيق- يوجب تمام الوصلة ودوام الزلفة‏.‏

ويقال استعينوا بي على الصبر معي، واستعينوا بحفظي لكم على صلاتكم لي، طحتى لا تستغرقكم واردات الكشف والهيبة، فلا تقدرون على إقامة الخدمة‏.‏

وإن تخفيف سطوات الوجود على القلب في أوان الكشف حتى يقوى العبد على القيام بأحكام الفرق لِمَنَّةٌ عظيمة من الحق‏.‏

وأقسام الصبر كلها محمودة الصبر في الله، والصبر لله، والصبر بالله والصبر مع الله إلا صبراً واحداً وهو الصبر عن الله‏:‏

والصبر يحسن في المواطن كلها *** إلا عليك فإنه مذموم

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

الظن يُذكَر، ويقال المراد به اليقين، وهو الأظهر ها هنا‏.‏

ويذكر ويراد به الحسبان فَمَنْ ظنَّ ظن يقين فصاحب وصلة‏.‏

ومن ظنَّ ظن تخمين فصاحب فرقة‏.‏ ومُلاقو ربهم، صيغة تصلح لماضي الزمان والحاضر وهم ملاقون ربهم في المستقبل‏.‏ ولكن القوم لتحققهم بما يكون من أحكام الغيب صاروا كأن الوعدَ لهم تَقَرَّرَ، والغيب لهم حضور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

أشْهَدَ بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وأشهد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فضل نفسه فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فِبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏

فشتّان بين مَنْ مشهودُه فضلُ نفسه، وبين مَنْ مشهودُه فضل ربه؛ فشهود العبد فضل نفسه يوجب له الشكر وهو خطر الإعجاب، وشهود العبد فضل الحق- الذي هو جلاله في وصفه وجماله في استحقاق نعته- يقتضي الثناء وهو يوجب الإيجاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

العوام خوَّفهم بأفعاله فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْماً‏}‏ «واتقوا النار»‏.‏

والخواص خوَّفهم بصفاته فقال‏:‏ ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 105‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وخاص الخاص خوَّفهم بنفسه فقال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏

والعدل‏:‏ الفداء‏.‏

يوم القيامة لا تسمع الشفاعة إلا لمن أمر الحق بالشفاعة له، وأَذِنَ فيه، فهو الشفيع الأكبر- على التحقيق- وإن كان لا يطلق عليه لفظ الشفيع لعدم التوقيف‏.‏ وفي معناه قيل‏:‏

الحمد لله شكرا *** فكلُّ خيرٍ لديه

صار الحبيب شفيعاً *** إلى شفيع إليه

والذين أصابتهم نكبة القسمة لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وما لهم من ناصرين، فلا يُقْبَل منهم فداء، ولو افتدوا بملء السموات وملء الأرضين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

من صبر في الله على بلاء أعدائه عوَّضه الله صحبة أوليائه، وأتاح له جميل عطائه؛ فهؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياءهم، وجعلهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏.‏ ‏{‏وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏‏:‏ قيل نعمة عظيمة وقيل محنة شديدة‏.‏ وفي الحقيقة ما كان من الله- في الظاهر- محنةً فهو- في الحقيقة لمن عرفه- نعمةٌ ومِنَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

تقاصرت بصائر بني إسرائيل فأراهم المعجزات عياناً، ونفذت بصائر هذه الأمة فكاشفهم بآياته سراً، وبذلك جرت سُنَّتُه سبحانه، وكل من كان أشحذَ بصيرةً كان الأمر عليه أغمض، والإشارات معه أوفر، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً»‏.‏

وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر وإغراق آل فرعون- دَاخَلَهُمْ ريبٌ؛ فقالوا‏:‏ إنه لم يغرق حتى قذفهم البحر، فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون‏.‏ وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقوة بصائرهم ‏(‏أن‏)‏ قال واحد من أفتاء الناس‏:‏ «كأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني أنظر عرش ربي بارزاً» فشتَّان بين من يُعاين فيرتاب مع عيانه، وبين مَنْ يسمع فكالعيان حالُه من قوة إيمانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

شتَّان بين أمة وأمة؛ فأُمَّةُ موسى عليه السلام- غاب نبيُّهم عليه السلام أربعين يوماً فاتخذوا العِجْلَ معبودَهم، ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبوداً، فقالوا‏:‏ ‏{‏هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ وأمة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم مضى من وقت نبيِّهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحداً يذكر في وصف معبودهم ما يوجب تشبيهاً لما أبْقَوْا على حشاشتهم ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم‏.‏

ويقال إن موسى- صلوات الله عليه- سلَّم أمته إلى أخيه فقال‏:‏ اخلفني في قومي، وحين رجع وجدهم وقعوا في الفتنة، ونبيُّنا- صلوات الله عليه- توكَّل على الله فلم يُشِرْ على أحَدِ في أمر الأمة وكان يقول في آخر حاله‏:‏ الرفيق الأعلى‏.‏ فانظر كيف تولَّى الحق رعاية أمته في حفظ التوحيد عليهم‏.‏ لعمري يُضَيِّعون حدودَهم ولكن لا ينقضون توحيدَهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

سرعة العفو على عظيم الجُرْم تدل على حقارة قدرة المعفو عنه، يشهد لذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏مخاطباً أمهاتِ المسلمين‏)‏‏:‏ ‏{‏من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ هؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏، وقال لهذه الأمة ‏(‏يقصد أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

فرقان هذه الأمة الذي اخْتَصُّوا به نورٌ في قلوبهم، به يُفَرِّقون بين الحق والباطل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة‏:‏ «استفتِ قلبك»‏.‏

وقال‏:‏ «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ وذلك الفرقان ميراث ما قدَّموه من الإِحسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ‏}‏‏.‏

أي ما أضررتم إلا بأنفسكم فيما ارتكبتم من ذنوبكم، فأمَّا الحق سبحانه فعزيز الوصف، لا يعود إلى عِزِّه من ظلم الظالمين شيء، ومن وافق هواه واتَّبع مناه فَعِجْلُه ما علَّق به همَّه وأفرد له قصده‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ‏}‏‏.‏

الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاقتُلُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

التوبة بقتل النفوس غير ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلا أن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سراً، فأَوَّلُ قَدَمِ في القصد إلى الله الخروجُ عن النفس‏.‏

فصل‏:‏

ولقد توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا؛ فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمَّا أهل الخصوص من هذه ‏(‏الأمة‏)‏ ففي كل لحظة قتل، ولهذا‏:‏

ليس من مات فاستراح بميتٍ *** إنما الميت ميت الأحياء

وقتل النفس في الحقيقة التبري عن حوْلِها وقوتها أو شهود شيءٍ منها، ورد دعواها إليها، وتشويش تدبيرها عليها، وتسليم الأمور إلى الحق- سبحانه- بجملتها، وانسلاخها من اختِيارها وإرادتها، وانمحاء آثار البشرية عنها، فأمَّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطرَ له ولا عبرةَ به‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

كونه لكم عنكم أتمُّ من كونكم لأنفسكم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

التعرض بمطالعة الذات على غير نعمة إلهية إفصاحٌ بِتَرْكِ الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقوة‏.‏

وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقروناً بملاطفات القربة من علامات الوصلة ودلالات السعادة‏.‏

فلا جَرَمَ لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

أعادهم إلى حال الإحساس بعد ما استوفتهم سطوات العذاب إملاء لهم بمقتضى الحكم، وإجراء للسنَّةِ في الصفح عن الجُرْم، ومن قضايا الكرم إسبال الستر على هناتِ الخَدَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

لمّا طرحهم في متاهات الغُربة لم يرضَ إلاَّ بأن ظلَّلَهُم، وبلبسة الكفايات جَلَّلَهُم، وعن تكلف التكسُّب أغناهم، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولاَّهم؛ فلا شُعُورُهم كانت تَطُول، ولا أظفارهم كانت تنبُت، ولا ثيابهم كانت تتسِخ، ولا شعاعُ الشمس عليهم كان ينبسط‏.‏ وكذلك سُنَّتُه لمن حال بينه وبين اختياره، يكون ما يختاره سبحانه له خيراً مما يختاره لنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بنو إسرائيل على تضييع ما كانوا يُؤْمَرون، حتى قالةٍ أُوصُوا بحفظها فَبَدّلوها، وحالةٍ من السجود أُمروا بأن يدخلوا عليها فحوّلوها، وعَرَّضوا أنفسَهم لِسهام الغيب‏.‏ ثم لم يطيقوا الإصابة بقَرْعِها، وتعرضوا المفاجآت العقوبة فلم يثبتوا عند صدمات وَقْعِها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

لم يمكنهم أن يردوا باب السماء باحتيالهم، أو يصدوا مِنْ دونهم أسبابَ البلاء بما ركنوا إليه من أحوالهم، فزعوا من الندم لما عضّهم ناب الألم، وهيهات أن ينفعهم ذلك لأنه محال من الحسبان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

إن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمَّاء كان قادراً على إروائهم بغير ماء ولكن لإظهار المعجزة فيه، وإيصال محل الاستغاثة إليه، وليكون على موسى عليه السلام- أيضاً في نقل الحجر- مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا مقاساةُ نوعٍ من معالجةِ ما أمضى حكمه عند استسقائه لقومه‏.‏

ثم أراد الحق سبحانه أن يكون كل قوم جارياً على سُنَّتْ، ملازماً لحَدّه، غير مُزَاحِمٍ لصاحبه فأفرد لكل سبطة علامةً يعرفون بها مشربهم، فهؤلاء لا يَرِدُون مشرب الآخرين، والآخرون لا يَرِدُون مشرب الأولين‏.‏

وحين كفاهم ما طلبوا أمرَهُم بالشكر، وحِفْظِ الأمرِ، وتَرْكِ اختيار الوِزر، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْا فِى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

والمناهل مختلفة، والمشارب متفاوتة، وكلٌّ يَرِدَ مَشْرَبه فمشربٌ عَذْبٌ فُرات، ومشربٌ مِلْح أُجاج، ومشربٌ صافِ زلال، ومشرب رتق أوشال‏.‏ وسائقُ كلِّ قوم يقودهم، ورائد كُلِّ طائفة يسوقهم؛ فالنفوس تَرِدُ مناهل المنى والشهوات، والقلوب ترد مشارب التقوى والطاعات، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف عن الكون والمرسومات، ثم عن الإحساس والصفات ثم بالاستهلاك في حقيقة الوجود والذات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

لم يرضَوْا بحسن اختياره لهم، ولم يصبروا على قيامه بتولي ما كان يَهُمُّهُم من كفاية مأكولهم وملبوسهم، فنزلوا في التحير إلى ما جرت عليه عاداتهم من أكل الخسيس من الطعام، والرضا بالدون من الحال، فردَّهم إلى مقاساة الهوان، وربطهم بإدامة الخذلان، حتى سفكوا دماء الأنبياء وهتكوا حرمة الأمر بِقِلَّة الاستحياء، وتَرْكِ الاروعاء، فعاقبهم على قبيح فعالهم، وردَّهم إلى ما اختاره لأنفسهم من خسائس أحوالهم، وحين لم تنجح فيهم النصيحة، أدركتهم النقمة والفضيحة‏.‏ ويقال كان بنو إسرائيل متفرقي الهموم مُشَتَّتِي القصود؛ لم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد، ولم يكتفوا في تدينهم بمعبود واحد، حتى قالوا لموسى عليه السلام- لمَّا رأوا قَوماً يعبدون الصنم- يا موسى‏:‏ اجعل لنا إلهًا كما لهم إله، وهكذا صفة أرباب التفرقة‏.‏ والصبر مع الواحد شديد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

اختلاف الطريق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدَّق الحق سبحانه في آياته، وآمن بما أخبر من حقه وصفاته، فتبايُن الشرع واختلاف وقوع الاسم غيرُ قادح في استحقاق الرضوان، لذلك قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذَِينَ هَادُوا‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏}‏‏.‏ أي إذا اتفقوا في المعارف فالكُلُّ لهم حُسْنُ المآب، وجزيلُ الثواب‏.‏ والمؤمن مَنْ كان في آمان الحق سبحانه، ومَنْ كان في أمانه- سبحانه وتعالى- فَبالحريِّ ‏{‏أَلاَّ خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 170‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

أخذ سبحانه ميثاقَ جميع المُكَلَّفِين، ولكنَّ قوماً أجابوا طوعاً لأنه تعرَّف إليهم فوَحَّدوه وقوماً أجابوه كرهاً لأنه ستر عليهم فجحدوه، ولا حُجَّة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور- وهو الجبل- ولكن عَدِموا نورَ البصيرة، فلا ينفعهم عيانُ البصر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏، أي رجعتم إلى العصيان بعد ما شاهدتم تلك الآيات بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحِلْمُه بأفضاله لعَاجَلكُم بالعقوبة، وأحلَّ عليكم عظيمَ المصيبة ولخَسِرَتْ صفقتُكم بالكُلِّيَة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

مسْخُ هذه الأمة حصل على القلوب، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما أُلزموا به من الشرع- عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النَّصُّ، فهذه الأمة مِنْ نَقْضِ العهدِ ورفض الحدِّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس، وفي معناه أنشدوا‏:‏

يا سائلي‏:‏ كيف كنتَ بَعْده‏؟‏ *** لقيتُ ما ساءني وسَرَّه

ما زلت أختال في وِصالي حتى *** أمِنت من الزمانِ مَكره

طال عليَّ الصدود حتى *** لم يُبْقِ مما شَهِدَت ذرَّه

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

هكذا مَنْ مُنِيَ بالهجران، ووُسِمَ بالخذلان؛ صارت أحوالُه عِبْرة، وتجرَّع- مِنْ مُلاحَظته لحاله- عليه الحسرة، وصار المسكين- بعد عِزِّه لكلِّ خسيسٍ سُخْرَة‏.‏ هكذا آثار سُخْطِ الملوك وإعراض السادة عن الأصاغر‏:‏

وقد أحدق الصبيان بي وتَجمعوا *** عليَّ وأشلوا بالكلاب ورائيا

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏‏.‏

كان الواجب عليهم استقبال الأمر بالاعتناق ولكنهم تعللوا ببقاء الأشكال توهماً بأن يكون لهم ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ تُفضِي بالإخلاد إلى الاعتدال عن عهدة الإلزام فتضاعفت عليهم المشقة وحل بهم ما حَذِرُوه من الافتضاح‏.‏

فصل‏:‏

ولما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ أي ليست بِفَتيَّةٍ ولا مُسِنَّة بل هي بين السِّنَّيْنِ‏.‏ حصلت الإشارة أن الذي يصلح لهذه الطريقة مَنْ لا يستهويه نَزَقُ الشباب وسُكْره، ولم يُعَطِّلْه عجزُ المشيب وضعفُه، بل هو صاحٍ استفاق عن سُكْرِه، وبقيت له- بَعْدُ- نضارةٌ من عمره‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِىَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة يستغرق شاهدُه القُلوبَ لِمَا أُلبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب حتى أن من لاحَظَه تناسى أحوال البشرية واستولى عليه ذكر الحق، كذا في الخبر المنقول‏:‏ «أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله»

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

كما أنَّ تلك البقرة لم يُذلِلْها العملُ، ولم تُبْتَذَلُ في المكاسب، لا لونَ فيها يخالف عِظَمَ لَوْنِها فالإشارة منه أن أهل الولاية الذين لم يتبذلوا بالأغيار لتحصيل ما طلبوا من الأسباب، ولم يركنوا بقلوبهم إلى الأشكال والأمثال، ولم يتكلوا على الاختيار والاحتيال، وليسوا نهباً لمطالبات المنى، ولا صيداً في مخلب الدنيا، ولا حكمَ للشهوات عليهم، ولا سلطان للبشرية تَمَلَّكهم، ولم يسعَوْا قط في تحصيل مرادهم، ولم يشقوا لدرك بُغيتهم، وليس عليهم رقم الأغيار، ولا سِمَةُ الأسباب- فَهُمْ قائمون بالله، فانون عما سوى الله، بل هم محو، مُصْرِّفُهم الله‏.‏ والغالب- على قلوبهم- الله‏.‏

وكما أن معبودَهم الله كذلك مقصودهم الله‏.‏

وكما أن مقصودهم الله كذلك مشهودهم الله، وموجودهم الله، بل هم محو بالله و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ عنهم الله، وأنشد قائلهم‏:‏

إذا شِئتِ أن أرْضَى وترضي وتملكي *** زِمَامِيَ- ما عشنا معاً- وعناني

إذن فارمُقي الدنيا بعيني واسمعي *** بأذني وانطقي بلساني

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

طلبوا الحيلة ما أمكنهم فلما ضاقت بهم الحِيَل استسلموا للحكم فتخلصوا من شدائد المطالبات، ولو أنهم فعلوا ما أمِروا به لما تضاعفت عليهم المشاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

الخائن خائف، ولخشية أن يظهر سرُّه يركن إلى التلبيس والتدليس، والإنكار والجحود ولا محالة ينكشف عوارُه، وتتضح أسرارُه، وتهتك عن شَيْنِ فعله أستارُه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

أراد الله سبحانه أن يحي ميتهم ليفضح بالشهادة على قاتله فأمر بقتل حيوان لهم فجعل سبب حياة مقتولهم قتل حيوان لهم، صارت الإشارة منه‏:‏

أن من أراد حياة قلبه لا يصل إليه إلا بذبح نفسه؛ فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حَيِيَ قلبُه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد الله حياةَ ذِكْرِه في الأبدال أمات في الدنيا ذكره بالخمول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

بَيَّن أنهم- وإن شاهدوا عظيم الآيات وطالعوا واضح البينات- فحين لم تساعدهم العناية ولم يخلق الله ‏(‏لهم‏)‏ الهداية، لم تزدهم كثرة الآيات إلا قسوة، ولم تبرز لهم من مكامن التقدير إلا شقوة ‏(‏على شقوة، وشبَّه قلوبهم بالحجارة لأنها لا تنبت ولا تزكو، وكذلك قلوبهم لا تفهم، ولا تغنى‏.‏ ثم بيَّن أنها أشد ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ من الحجارة، فإنَّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، ومنها ما تظهر عليه آثار خشية الله، وأمَّا قلوبهم فخالية عن كل خير، وكيف لا وقد مُنِيَتْ بإعراض الحقِّ عنها، وخُصَّتْ بانتزاع الخيرات منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

أنبأهم عن إيمانهم، وذكر أنهم بعد سماع الخطاب من الله- سبحانه- حرَّفوا وبدّلوا فكيف يؤمنون لكم وإنما يسمعون بواسطة الرسالة، ومن لم يَبقَ على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان، والذي لم يصلح للحق لا يصلح لكم، ومن لم ‏(‏يحتشم من الحق‏)‏ فكيف يحتشم منكم‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

تواصوا فيما بينهم بإنكار الحق، وإخفاء الحال على المسلمين، ولم يعلموا أن الله يُطْلِعُ رسولَه عليه السلام على أسرارهم، وأن نوراً أظهره الغيب لا ينطفئ بمزاولة الأغيار‏.‏ وموافقةُ اللِّسانِ مع مخالفة العقيدة لا يزيد إلا زيادة الفُرقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلاَّ أمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏‏.‏

أخبر أنهم متفاوتون في نقائص كفرهم، فقومٌ منهم أخَسُّ درجةً وأكثر جهلاً ركنوا إلى التقليد، ولم يملكهم استيلاء شبهة بل اغتروا بظنِّ وتخمين، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها، دون معرفة معانيها‏.‏ ومنهم مَنْ أكثرُ شأنه ما يتمناه في نفسه، ولا يساعده إمكان، ولا لظنونه قط تحقيق‏.‏ ثم أخبر عن سوء عاقبتهم بقوله جل ذكره‏:‏

‏{‏فَوَيْلُ لَّهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

أي خَسِروا في الحال والمآل، والإشارة في هذه الآية لمن عَدِم الإخلاص في الصحبة في طريق الحق؛ يَنْضَمُّ إلى الأولياء ظاهراً ثم لا تَصْدُقُ له إرادة فهو مع أهل الغفلة مُصَاحِب، وله مع هذه الطريقة جانب، كلما دَعَتْهُ هواتف الحظوظ تَسَارَعَ إلى الإجابة طوعاً، وإذا قادته دواعي الحق- سبحانه- يتكلف شيئاً، فَبِئْسَتْ الحالة حين لم يخلص، وما أشد ندمه فيما ادَّخَرَ عن الله ثم لا يُفْلحْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

الإشارة في هذه الآية لمن مرت على قلبه دعاواه العريضة، وغلب عليه حسبانه، فحكم لنفسه- لفرط غفلته- بأنه من أهل القصة ويَخْلَدُ إلى هواجس مناه، فيحكم على الغيب بأنه يُتَجاوز عنه؛ نَسِيَ قبائح ما أسلفه، ويذكر مغاليط ما ظنَّه، فهو عَبْدُ نَفْسِه يغلب عليه حسن ظنه، وفي الحقيقة تعتريه نتائج غفلته ومكره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَم ظَنُّكُمْ الَّذِى ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 23‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

الذي أحاطت به خطيئته هو الكافر- على لسان العلم‏.‏

ولكنّ الإشارة منه إلى مَنْ سكن قلبُه على استغاثاته على وجه الدوام، فإن أصحاب الحقائق كالحب على المَقْلَى- في أوقات صحوهم، فَمَنْ سَكَنَ فَلِفَرْطِ عَزّتِه- لا يفترون‏.‏

ومَنْ استند إلى طاعة يتوسَّلُ بها ويَظن أنه يقرب بها ينبغي أن يتباعد عن السكون إليها ومَنْ تَحَقَّقَ بالتوحيد علِمَ ألا وسيلة إليه إلا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

في الحال جنان الوصل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ‏}‏‏.‏

*** أضرابكم وقرنائكم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، الإشارة فيه أن نصرتكم لإخوانكم على ما فيه بلاؤهم نصرة عليهم بما فيه شقاؤهم، فالأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏‏.‏

أي كما تراعون- بالفداء عنهم- حقوقهم، فكذلك يُفْتَرَضُ عليكم كَفُّ أيديكم عنهم، وتَرْكُ إزعاجهم عن أوطانهم، فإذا قُمتم ببعض ما يجب عليكم فما الذي يقعدكم عن الباقي، حتى تقوموا به كما أُمِرْتُم‏؟‏ أما علمتم أن مَنْ فَرّقَ بين ما أُمِرَ به فآمن ببعضٍ وكَفَرَ ببعضٍ فقط حبط- بما ضيَّعه- أجرُ ما عَمِلَهُ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

أي ظنوا أن ما فعلوه نَفَعهم، فانكشف لهم في الآخرة أن جميع ما فعلوه- لمَّا مزجوه بالآفات وجرَّدُوه عن الصدق والإخلاص- غيرُ مقبولٍ منهم‏.‏

والأُسَرَاء أصناف‏:‏ فَمِنْ أسير غَرِقَ في بحار الهوى فإنقاذُه بأن تدلَّه على الهُدَى‏.‏ ومِنْ أسيرٍ بقي في أيدي الوساوس فافتداؤه أن ترشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذَه من الشك والتخمين، وتخرجه عن ظلمات التقليد فيما تقوده إلى اليقين‏.‏ ومن أسيرٍ تجده في أسر هواجسه استأسرته غاغة نفسه، فَفَكُّ أسْرهِ بأن تدلَّه على شهود المِنن، بِتَبَرِّيه عن حسبانِ كلِّ حَوْلٍ بِخلْقٍ وغَيْر‏.‏ ومن أسيرٍ تجده في ربيطة ذاته ففكُّ أسره إنشاده إلى إقلاعه، وإنجاده على ارتداعه‏.‏ ومن أسير تجده في أسر صفاته فَفَكُّ أسْرِه أن تدله على الحق بما يحل عليه من وثائق الكون، ومن أسيرٍ تجده في قبضة الحق فتخبره أنه ليس لأسرائهم فداء، ولا لقتلاهم عَوْد، ولا لربيطهم خلاص، ولا عنهم بُدُّ، ولا إليهم سبيل، ولا مِنْ دونهم حيلة، ولا معَ سِواهم راحة، ولا لحكمهم رَدٌّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

إن الذين آثروا عليه شيئاً خسروا في الدنيا والآخرة كما قالوا‏:‏

أناسٌ أعرضوا عنَّا *** بلا جُرْمٍ ولا معنى

فإن كانوا قد استَغْنَوْا *** فإنَّا عنهم أغنى

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

الإشارة‏:‏ أوصلنا لهم الخطاب، وأردفنا رسولاً بعد رسول، والجميع دَعَوْا إلى واحد‏.‏ ولكنهم أضغَوْا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قَبلُوه، وما استثقلته أهواؤهم جحدوه، فإذا كان الهوى صفتهم ثم عبدوه، صارت للمعبود صفات العابد، فلا جَرَمَ الويل لهم ثم الويل‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

لو كان منهم شيء بمجرد الدعوى لهان وجود المعاني، ولكن عند مطالبات التحقيق تَفْتَرُّ أنيابُ المُتَلَبِّسِين عن أسنانٍ شاحذة بل ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وقيل‏:‏

إذا انسكبت دموعٌ في خدود *** تبيَّن مَنْ بكى ممن تباكى

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الإشارة فيه لمن عزم على الصفاء، ووعد من نفسه تحقيق الوفاء، ونشر أعلام النشاط عند البروز إلى القتال، تنادى بالنِّزال وصدق القتال- انهدم عند التفات الصفوف، وانجزل عن الجملة خشية هجوم المحذور، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

أنزلهم التحاسُد عن مقر العِزِّ إلى حضيض الخزي، وسامهم ذُلَّ الصّغِرَ حين لم يَرْضُوا بمقتضى الحُكْم، فأضافوا استيجاب مقتٍ آنفٍ إلى استحقاق مَقْتٍ سالف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

الإشارة فيه‏:‏ إذا قيل لهم حَقِّقُوا ما أظهرتم من حكم الوفاق بتحقيق الحال وإقامة البرهان سَمَحَتْ نفوسُهم ببعض ما التبس عندهم لما يوافق أهواءهم، ثم يكفرون بما وراء حظوظهم، ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بُعداً عن زمرة الخواص، غير معدودين في جملة أرباب الاختصاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

أي دعاكم إلى التوحيد، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عِجْلٍ اتخذتموه، وصنمٍ تمنيتموه‏.‏ فرفع ذلك من بين أيديهم، ولكن بقيت آثاره في قلوبهم وقلوب أعقابهم، ولذلك يقول أكثرُ اليهود بالتشبيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

كرَّرَ الإخبار عن غُلُوِّهم في حُبِّ العجل، ونُبُوِّهم عن قبول الحق، و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وتعريفهم معاجلتهم بالعقوبة على ما يسيئون من العمل، فلا النصحُ نَجَعَ فيهم، ولا العقوبةُ أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلو، ولا بموجب الأمر عملوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

من علامات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافي؛ فمن وَثِقَ بأن له الجنة قطعاً- فلا محالةَ- يشتاق إليها، ولمَّا لم يتمنوا الموت- وأخبر الله سبحانه أنهم لن يتمنوهُ أبداً- صار هذا التعريف معجزةً للرسول صلوات الله عليه وعلى آله إذ كان كما قال‏.‏

وفي هذا بشارة للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة، وقديماً قيل‏:‏ كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمِتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

حُبُّ الحياة في الدنيا نتيجة الغفلة عن الله، وأشد منه غفلة أَحبُّهم للبقاء في الدنيا‏.‏‏.‏ وحالُ المؤمن من هذا على الضدِّ‏.‏ وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم؛ فالعبد الآبِق لا يريد رجوعاً إلى سَيِّده‏.‏ والانقلابُ إلى مَنْ هو خيرُه مَرجوٌ خيرٌ للمؤمنين من البقاء مع مَنْ شَرُّه غيرُ مأمون، ثم إن امتداد العمر مع يقين الموت ‏(‏لا قيمة له‏)‏ إذا فَاجَأ الأمرُ وانقطع العُمْرُ‏.‏ وكلُّ ما هو آتٍ فقريب، وإذا انقضت المُدَّةُ فلا مردَّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

زعمت اليهود أن جبريل لا يأتي بالخير، وأنهم لا يحبونه، ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به، فأكذبهم الحقُّ سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ‏}‏ لأنه لا يأتي بالخير فأي خير أعظم مما نزل به من القرآن‏؟‏‏!‏

ثم قال إن مَنْ عادى جبريل وميكائيل فإِن الله عدو له، فإنَّ رسولَ الحبيبِ إلى الحبيبِ العزيزِ المَوْرِد- كريمُ المنزلة، عظيم الشرف‏.‏ وما ضرَّتْ جبريلَ- عليه السلام- عداوةُ الكفار، والحق سبحانه وتعالى وليُّه، ومَنْ عَادَى جبريلَ فالحقُّ عَدُوُّه، وما أَعْزِزِ بهذا الشرف وما أَجَلَّه‏!‏ وما أكبر علوه‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

لم يكفر بواضح آياته إلا من سُدَّتْ عن الإدراك بصائرُه، وسبقت من الله بالشقاوة قِسْمَتُه، ولا عقلَ لِمَنْ يجحدُ أنَّ النهارَ نهار، وكذلك لا وَصْلَ لمن لم تساعده من الحق أنوارٌ واستبصار‏.‏ أوَ كُلَّما عاهدوا عهداً سابقُ التقدير لهم كان يشوِّش عليهم، وينقض عَهْدَهُم لاحِقُ التدبيرُ منهم، والله غالبٌ على أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

جحدوا رُسلَ الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر، وكذَّبوا رسلهم الذين أتوهم في الظاهر، فيا جهلاً ما فيه شظية من العرفان‏!‏ ويا حرماناً قَارَنَه خِذلان‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِّنْ أحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقْ‏}‏‏.‏

مَنْ فرَّقَتْه الأهواء وقع في كل مطرح من مطارح الغفلة، فيستقبله كل جنس من قضايا الجهالة، ثم إن مَنْ طالت به الغيبة صار للناس عِبْرة، ولِمَنْ سلك طريقه فتنة، فمن اقتدى به في غيِّه انخرط في سِلْكِه، والتحق بجنسه، هكذا صفة هاروت وماروت فيما استقبلهما، صارا للخلْق فتنة بل عبرة، فمَنْ أصغى إلى قيلهما، ولم يعتبر بجهلهما تعلَّق به بلاؤهما، وأصابه في الآخرة عناؤهما‏.‏

والإشارة من قصتهما إلى مَنْ مآلَ في هذه الطريقة إلى تمويهٍ وتلبيس، وإظهار دعوى بتدليس، فهو يستهوي مَنْ اتّبعه، ويلقيه في جهنم بباطله، ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتكت أستارُه، وظهر لذوي البصائر عوارُه‏.‏ وإن هاروت وماروت لما اغتَّرا بحاصل ما اعتاداه من المعصية بَسَطَا لسان الملامة في عُصاة بني آدم، فَلِمَا رُكِّب فيهما من نوازع الشهوات، ودواعي الفتن والآفات، اقتحما في العصيان، وظهر منهما ما انتشر ذِكْرُه على ألسنة القصاص، وهما مُنَكَّسَان إلى يوم القيامة ولولا الرفق بهما وبشأنهما لَمَا انتهى في القيامة عذابُهما، ولكنَّ لطفَ الله مع الكافة كثيرٌ‏.‏ ولَمَّا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ‏}‏ عَلِم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم- وإن كان صفةَ مدح- ففيه غيرُ مرغوبٍ فيه، بل هو مستعاذٌ منه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعوذ بك من علم لا ينفع»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

لو علم المغبونُ ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسراتٍ، ولكن سيعلم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 9‏]‏ الذي فاته من الكرائم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

ولو آثروا الإقبالَ على الله على اشتغالهم عن الله، لحصَّلُوا ذُخْرَ الداريْن، ووصلوا إلى عِزِّ الكَوْنَيْن، ولكن كَبَسَتْهُمْ سطواتَ القهر، فأثبَتَهُمْ في مواطن الهجر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قصودُ الأعداء في جميع أَحوالهم- من أعمالهم وأقوالهم- قصودٌ خبيثة؛ فهم- على مناهجهم- يبنون فيما يأتون ويَذَرُون‏.‏ فسبيلُ الأولياء التَّحرزُ عن مشابهتهم‏.‏ والأخذ في طريق غير طريقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏‏}‏

كراهية الأعداء لانتظام صلاح الأولياء متصِلَةٌ مُستَدامةٌ، ولكن الحسود لا يسود، ولا يحصُل له مقصود‏.‏ وخصائص الرحمة للأولياء كافية- وإنْ زَعَمَ مِنَ الأعداء أفَّاكٌ أنه انهدمت من أوطان فرحهم أكناف وأطراف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

النسخُ الإزالة أي ما ينقلك من حال إلى ما هي فوقها وأعلى منها، فغُصنُ وَصْلِك أبداً ناضر، ونجمُ عِزِّكَ أبداً ظاهر، فلا ننسخُ من آثار العبادةِ شيئاً إلا وأبدلنا عنه أشياء من أنوار العبودية، ولا نسخنا من أنوار العبودية أشياء إلا أقمنا مكانها أشياء من أقمار العبودةِ‏.‏

فأبداً سِرُّك في الترقي، وقدرك في الزيادة بحسن التَوَلِّي‏.‏

وقيل ما رقَّاكَ عن محل العبودية إلا سَلكَكَ بساحات الحرية، وما رَفَعَ شيئاً من صفات البشرية إلا أقامك بشاهدٍ من شواهد الألوهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

سُنَّتُه- سبحانه- أن يجذب أولياءه عن شهود مُلْكِه إلى رؤية مِلْكِه، ثم يأخذهم من مُطالعةِ مِلْكه إلى شهود حقِّه، فيأخذهم من رؤية آياته إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى شهود ذاته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

إنَّ بني إسرائيل آذَوْا موسى عليه السلام، فنُهِيَ المسلمون عن فِعْل ما أسلفوه، وأُمِروا بمراعاة أن حشمة الرسول صلى الله عليه وسلم بغاية ما يتسع في الإمكان‏.‏ فكانوا بحضرته كأنَّ على رؤوسهم الطير‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 9‏]‏ وحسنُ الأدب- في الظاهر- عنوانُ حسن الأدب مع الله في الباطن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏‏}‏

مَنْ لَحِقَه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودَّ أَلاّ يطلع لأحدٍ بالسلامة نجمٌ، ومَنْ اعتراه الحسد أراد ألاتنبسط على محسوده شمسٌ‏.‏

وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم اللهُ أَنْفَهُم، وكبَّهم على وجوههم‏.‏

والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة في البداية إذا رغبوا في السلوك، فمن لم يساعده التوفيق ‏(‏في الصحبة، وعاشر أناساً متمرِّسين بالظواهر‏)‏ فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة، أولئك أعداء الله حقاً، أدركهم مقت الوقت‏.‏ وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئاً من روائح الصدق‏.‏

‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا‏}‏ فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سِرَّه، ويستعمل مع كل أحدٍ ضلة، ويبذل في الطلب رفعة، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

الواجب على المريد إقامة المواصلات، وإدامة التوسل بفنون القُربات، واثقاً بأن ما يقدمه من صدق المجاهدات تُدرك ثمرته في أواخر الحالات‏.‏