فصل: تفسير الآية رقم (118)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

كلُّ حِزْبٍ يُمَهِّد الأملَ لنفسه، ويظنُّ النجاة لحاله، ويدعي الوسل من سهمه‏.‏

ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتي بحاصل، ولا يجوز بطائل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

أسلم وجهه أي أخلص لله قصده، وأفرد لله وجهه، وطهَّر عن الشوائب عقله‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏‏.‏ عالِمٌ بحقيقة ما يفعله وحقيقة ما يستعمله، وهو محسن في المآل كما أنه مسلم في الحال‏.‏

ويقال‏:‏ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» فتكون مستسلماً بظاهرك، مشاهداً بسرائرك، في الظاهر جهد وسجود وفي الباطن كشف ووجود‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏ بالتزام الطاعات، ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ قائمٌ بآداب الخدمة بحسن آداب الحضور، فهؤلاء ليس عليهم خوف الهجر، ولا يلحقهم خفيُّ المكر، فلا الدنيا تشغلهم عن المشاهدة ولا الآخرة تشغلهم غداً عن الرؤية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

الإشارة في هذه الآية على العكس من حكم الظاهر؛ فالأعداء يتبرأ بعضهم من بعض اليوم، والأولياء من وجه كذلك، ولذا قالوا‏:‏ لا زالت الصوفية بخبرٍ ما تنافروا، ولا يَقْبَلُ بعضهم بعضاً لأنه لو قَبِل بعضُهم بعضاً بقي بعضُهم مع بعض‏.‏

لكنّ الأعداء كلهم على الباطل‏:‏ عند تَبَرِّي بعضهم من بعض أمَّا الأولياء فكُلُّهم على الحق- وهذه ما ذكرنا من حكم العكس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

الإشارة فيه أن الظالم مَنْ خَرَّبَ أوطان العبادة بالشهوات، وأوطان العبادة نفوس العابدين‏.‏ وخَرّبَ أوطان المعرفة بالمُنى والعلاقات، وأوطان المعرفة قلوب العارفين‏.‏ وخَرَّب أوطان المحبة بالحظوظ والمُسَاكنات، وهي أرواح الواجدين‏.‏ وخرَّب أوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات وهي أسرار الموحدين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

لأهل الإشارة خزي الدنيا بذل الحجاب، وعذاب الآخرة الامتناع بالدرجات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

الإشارة منها إلى مشارق القلوب ومغاربها‏.‏ وللقلوب شوارق وطوارق‏.‏ وطوارقها هواجس النفوس تطرق في ظلمات المنى والشهوات‏.‏

وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف‏.‏

فما دامت الشوارق طالعة فَقِبلْةُ القلوب، واضحة ظاهرة، فإذا استولت الحقائق خَفَى سلطانُ الشوارق، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر، فلا شهود رسم، ولا بقاء حِسِّ وفَهْم، ولا سلطان عقل وعلم، ولا ضياء عرفان‏.‏ فإن وجدان هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية، وإذا صار الموصوف محواً فأنَّى لهم ببقاء الصفة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ‏}‏ ما دام يبقى من الإحساس والتمييز بقية- ولو شظية- فالقِبْلة مقصودة، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة‏.‏ وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائلُ بكلِّ وِجْهَةٍ، ولا معرفةَ بالقِبْلة تَسَاوَتْ الجهاتُ في جواز الصلاة إلى كل واحدٍ منها إذا لم يكن للنية ترجيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ‏}‏‏.‏

مَكَرَ بهم لم يُفْنِهم- من الإفناء- في الحال، بل جعل موجب اغترارهم طول الإمهال، فنطقوا بعظيم الفِرْية على الله، واستنبطوا عجيب المِرْية في وصف الله، فوصفوه بالولد‏!‏ وأنَّى بالولد وهو أحدي الذات‏؟‏‏!‏ لا حدَّ لذاتِه، ولا تجوز الشهوة في صفاته‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏بَل لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏‏.‏

أي ليس في الكون شيء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادي عليه آثار الحِلْقَة، وتفصح منه شواهد الفطرة، وكل صامتِ منها ناطق، وعلى وحدانيته- سبحانه- دليلٌ وشاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏‏}‏

البديع عند العلماء مُوجِد العين لا على مِثْل، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شيء مِثله‏.‏ فهذا الاسم يشير إلى نفي المثل عن ذاته، ونفي المثال عن أفعاله، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه، والصمد الذي لا أَمَدَ يقطعه، والحق الذي لا وهم يصوِّره، والموجود الذي لا فهم يقدره‏.‏ وإذا قضى أمراً فلا يعارض عليه مقدور، ولا ينفكُ من حكمه محظور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

كلام الله سبحانه متعلق بجميع المخلوقات بأعيانها وآثارها، وأمر التكوين ‏(‏يتناول المكلفين وأفعال المكلفين‏)‏، لكن من عَدم سمع الفهم تصامم عن استماع الحق، فإنه- سبحانه- خاطب قوماً من أهل الكتاب، وأسمعهم خطابه، فلم يطيقوا سماعه، وبعدما رأوا من عظيم الآيات حرَّفوا وبدَّلوا‏.‏ وفي الآيات التي أظهرها ما يزيح العِلَّة من الأغيار، ويشفي الغُلَّة من الأخيار، ولكن ما تُغْنِي الدلائل- وإنْ وَضُحَتْ- عمن حُقَّتْ لهم الشقاوة وسبقت‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 119‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

أفردناكَ بخصائص لم نُظْهِرْها على غيرك؛ فالجمهور والكافة تحت لوائك، والمقبول من وافَقَك، والمردود من خالفَك، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال، ولا عنك لأحدٍ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 120‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏‏}‏

لا تبالِ برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا، فإنهم لا يرضون عنك إلا بمتابعة أديانهم، ودون ذلك لهم حظ القتال فَأَعْلِنْ التبري منهم، وأظهر الخلاف معهم، وانصب العداوة لهم، واعلم أن مساكنتهم إلى ما يرضون سبب الشقاوة المؤبدة، فاحرص ألا يخطر ذلك بِبالِك، وادعُ- إلى البراءةِ عنهم وعن طريقتهم- أُمَّتَكَ، وكُنْ بِنا لَنَا، مٌتَبرِّياً عمن سوانا، واثقاً بنصرتنا، فإنَّكَ بِنَا وَلَنَا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

الذين فتحنا أبصارهم بشهود حقنا وَكَلْنَا أسماع قلوبهم بسماع خطابنا، وخصصناهم بإسبال نور العناية عليهم، وأيَّدناهم بتحقيق التعريف في أسرارهم، يقومون بحق التلاوة، ويتصفون بخصائص الإيمان والمعرفة فهم أهل التخصيص، ومَنْ سِواهم أصحابُ الرد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

جرت سُنتُه- سبحانه- في الخطاب مع قوم موسى عليه السلام أن يناديهم بنداء العلامة فيقول‏:‏ يا بني إسرائيل اذكروا، أي يا بني يعقوب، ومع هذه الأُمة أن يخاطبهم بنداء الكرامة فيقول‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 123‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

أَمَّا الأعداء فلا يَقْبَلُ منهم شيئًا، وأمَّا الأولياء فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة»، والكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين فهذا حكم كل أمةٍ مع نبيِّها، وأمَّا المؤمنون- فعلى التخصيص- تنفعهم شفاعة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكلُّ أحدٍ يقول يومئذٍ نفسي نفسي ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أمتي أمتي»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏‏.‏

البلاء تحقيق الولاء، فأصدقهم ولاءً أشدُّهم بلاء‏.‏

ولقد ابتلى الحق- سبحانه- خليلَه عليه السلام بما فرض عليه وشرع له، فقام بشرط وجوبها، ووَفَّى بحكم مقتضاها، فأثنى عليه سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏- من التوفيه- أي لم يُقَصِّر بوجهٍ ألبتة‏.‏

يقال حملَّه أعباء النبوة، وطالبه بأحكام الخُلَّة، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شيء، فقام بتصحيح ذلك مختليًا عن جميع ما سواه، سِرًّا وعَلَنًا‏.‏

كذلك لم يلاحظ جبريلَ عليه السلام حين تعرض له وهو يُقْذف في لُجة الهلاك، فقال‏:‏ هل من حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ أمَّا إِليكَ *** فلا‏.‏

ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السلام في تلك الحالة، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنًا من كان‏؟‏‏!‏

وفي هذا إشارة دقيقة إلى الفَرْقِ بين حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وحال إبراهيم عليه السلام، لأنه تعرض جبريل للخليل وعَرَضَ عليه نفسه‏:‏

فقال‏:‏ أمَّا إليكَ *** فَلاَ‏.‏ ولم يُطِقْ جبريل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فنطق بلسان العجز وقال‏:‏

لو دنوتُ أنملة لاحترقتُ‏.‏

وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السلام من قُوَّتِه بحيث يعرض للخليل عليه السلام نفسه، وبين حالةٍ يعترف للحبيب- صلوات الله عليه- فيها بعجزه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا‏}‏‏.‏

الإمام مَنْ يُقْتَدى به، وقد حقَّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال‏:‏ ‏{‏مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ أي اتبعوا ملة إبراهيم يعني التوحيد، وقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى‏}‏‏.‏

هذا هو تحقيق الإمامة‏.‏ ورتبة الإمامة أن يَفْهَم عن الحق ثم يُفْهِمَ الخَلق؛ فيكون واسطة بين الحق والخَلْق، يكون بظاهره مع الخَلْق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدًا للحق، لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلْق ما يقوله له الحق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِى‏}‏‏.‏

نطق بمقتضى الشفقة عليهم، فطلب لهم ما أُكرِم به‏.‏ فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نَسَب، أو باستيجاب سبب، وإنما هي أقسام مضت بها أحكام فقال له‏:‏ ‏{‏لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ‏}‏ وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها، فهي لا ادِّخَار لها عن أحد وإن كان كافرًا، ولذلك قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَارزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ‏}‏‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

يعني ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار، ولكن عهدي لا يناله إلا مَنْ اخترته مِنْ خواص عبادي‏.‏

أمَّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد‏.‏

أمَّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا‏}‏‏.‏

واذكر يا محمد حين جعلنا البيت- يعني الكعبة- مثابة للناس إليه يثوبون، ومأمنًا لهم إليه يرجعون، وإياه من كل نحوٍ يقصدون‏.‏

هو بيت خلقتُه من الحجر ولكن أضفته إلى الأزل؛ فمن نظر إلى البيت بعين الخِلْقَة انفصل، ومن نظر إليه بعين الإضافة وصل واتصل، وكلُّ من التجأ إلى ذلك البيت أَمِنَ من عقوبة الآخرة إذا كان التجاؤه على جهة الإعظام والاحترام، والتوبة عن الآثام‏.‏

ويقال بُنيَ البيتُ من الحجر لكنه حجر يجذب القلوب كحجر المغناطيس يجذب الحديد‏.‏

بيتٌ من وقع عليه ظِلُّه أناخ بعَقْوَةِ الأمن‏.‏

بيتٌ مَنْ وقع عليه طَرْفُه بُشِّرَ بتحقيق الغفران‏.‏

بيتٌ مَنْ طاف حَوْلَه طافت اللطائف بقلبه، فطَوْفَة بطوفة، وشَوْطة بشوطة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏.‏

بيتٌ ما خَسِرَ مَنْ أنفق على الوصول إليه مَالَه‏.‏

بَيت ما ربح مَنْ ضَنَّ عليه بشيءٍ؛ مَنْ زاره نَسِيَ مزارَه، وهجر ديارَه‏.‏

بيت لا تُسْتَبْعَدُ إليه المسافة، بيت لا تُنْرَك زيارته لحصول مخافة، أو هجوم آفة، بيت ليس له بمهجة الفقراء آفة‏.‏

بيت من قعد عن زيارته فَلِعدَمِ فُتَوَّتِه، أو لقلة محبته‏.‏

بيتٌ من صَبِرَ عنه فقلبه أقسى من الحجارة‏.‏ بيت من وقع عليه شعاعُ أنواره تَسَلَّى عن شموسه وأقماره‏.‏

بيت ليس العجب ممن بقي ‏(‏عنه‏)‏ كيف يصبر، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى‏}‏‏.‏

عَبْدٌ رفع لله سبحانه قَدمًا فإلى القيامة جعل أثر قَدَمِه قِبْلَةً لجميع المسلمين إكرامًا لا مدى له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

الأمر في الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلب‏.‏

وتطهير البيت بِصَوْنه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار‏.‏

وطوافُ الحجاج حول البيت معلومٌ بلسان الشرع، وطوافُ المعاني معلومٌ لأهل الحق؛ فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحدين الحقائق فيها عاكفة، فهؤلاء أصحاب التلوين وهؤلاء أرباب التمكين‏.‏

وقلوبُ القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدًا واقفة‏.‏

وقلوب الموحدِّين على بساط الوصل أبدًا راكعة‏.‏

وقلوب الواجدين على بساط القرآن أبدًا ساجدة‏.‏

ويقال صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدًا واقفة، وسوامي قصود المريدين بمشهد الجود أبدًا طائفة، ووفود هِمَمِ العارفين بحضرة العِزِّ أبداً عاكفة‏.‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا‏}‏‏.‏

السؤال إذا لم يكن مشوبًا بحظِّ العبد كان مستجابًا، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظِّ نفسه، وإنما كان لِحقِّ ربِّه عزَّ وجلَّ‏.‏

ولمَّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم وفي الذين لم يؤمنوا‏.‏ ولمَّا قال في حديث الإمامة‏:‏ «ومن ذُرِّيتي» من غير إذن مُنِعَ وقيل له‏:‏ ‏{‏لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏‏}‏

نجْحُ السؤال في صدق الابتهال؛ فلما فزعا إلى الخضوع في الدعاء أتاهما المدد، وتحقيق السؤال‏.‏

‏{‏إنك أنت السميع‏}‏ لأقوالنا ‏{‏العليم‏}‏ بأحوالنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏‏}‏

«مسلمين»‏:‏ منقادين لحكمك حتى لا يتحرك مِنّا عرْق بغير رضاك، واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك لتقوم بعدنا مقامنا في القيام بحقوقك، وشتان بين من يطلب وارثاً لماله، وبين من يطلب نائباً بعده يقوم بطاعته في أحواله‏.‏

‏{‏وأرنا مناسكنا‏}‏ إذ لا سبيل إلى معرفة الموافقات إلا بطريق التوفيق والإعلام‏.‏

‏{‏وتب علينا‏}‏‏:‏ بعد قيامنا بجميع ما أَمَرْتَنَا حتى لا نلاحظ حركاتِنا وسكناتِنا، ونرجع إليه عن شهود أفعالنا لئلا يكونَ خطرُ الشِّرْك الخفيِّ في توهُّمِ شيءِ مِنّا بِنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

إن الواجبات لمّا كانت من قِبَلِ الرسل دون مجرد المعقول سأل ألا يتركهم سُدّى، وألا يخليهم عن رسول وشرع‏.‏ وطلب في ذلك الموقف أن يكون الرسول «منهم» ليكونوا أَسْكَنَ إليه وأَسْهَلَ عليهم، ويصحُّ أن يكون معناه أنه لما عَرَّفَهُ- سبحانه- حالَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم سأل إنجاز ما وعده على الوجه الذي به ‏(‏أمره‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

أخبر أنه آثر الخليل صلوات الله عليه على البرية، فجعل الدينَ دينَه، والتوحيدَ شِعارَه والمعرفةَ صِفته؛ فمن رَغِبَ عن دينه أو حاد عن سُنَّتِه فالباطل مطرحه، والكفر مهواه؛ إذ ليست الأنوار بجملتها إلا مقتبسة من نوره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

الإسلام هو الإخلاص وهوا الاستسلام، وحقيقته الخروج عن أحوال البشرية بالكلية من منازعات الاختيار ومعارضات النفس، قال‏:‏ ‏{‏أسلمت لرب العالمين‏}‏‏:‏ قابلت الأمر بالسمع والطاعة، واعتنقت الحكم على حسب الاستطاعة‏.‏ ولم يدخل شيئًا من ماله وبدنه وولده، وحين أُمِرَ بذبح الولد قصد الذبح، وحين قال له خلِّه من الأسر ‏(‏عمل‏)‏ ما أُمِرَ به، فلم يكن له في الحالين «اختيار» ولا تدبير‏.‏

ويقال إن قوله‏:‏ ‏{‏أسلمتُ‏}‏‏:‏ ليس بدعوى من قِبَلِه لأن حقيقة الإسلام إنما هو التَّبري من الحَوْل والقوة، فإذا قال‏:‏ ‏{‏أسلمت‏}‏ فكأنه قال أَقِمْني فيما كلفتني، وحَقِّق مني ما بِه أمرتني‏.‏ فهو أحال الأمر عليه، لا لإظهار معنى أو ضمان شيء من قِبَلِ نفسه‏.‏

ويقال أَمَرَه بأن يستأثر بمطالبات القدرة؛ فإن من حلَّ في الخلَّة محلَّه يحل به- لا محالة- ما حَلَّ به‏.‏

ويُسأَلُ ها هنا سؤال فيقال‏:‏ كيف قال إبراهيم صلوات الله عليه‏:‏ ‏{‏أسلمت‏}‏ ولم يَقُلْ نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم حينما قيل له اعْلم «علمت»‏؟‏‏.‏

والجواب عن ذلك من وجوه‏:‏ منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا أعلمكم بالله» ولكن لم يَرِد بعده شرع فكان يخبر عنه بأنه قال علمت‏.‏

ويقال إن الله سبحانه أخبر عن الرسول عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏آمن الرسول‏}‏ لأن الإيمان هو العلم بالله سبحانه وتعالى، وقول الحق وإخباره عنه أتمُّ من إخباره- عليه السلام- عن نفسه‏.‏

والآخر أن إبراهيم لما أخبر بقوله‏:‏ ‏{‏أسلمت‏}‏ اقترنت به البلوى، ونبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- يتحرز عما عو صورة الدعوى فَحُفِظَ وكُفِيَ‏.‏

والآخر أن إبراهيم عليه السلام أُمِرَ بما يجري مجرى الأفعال، فإن الاستسلامَ به إليه يشير‏.‏ ونبينا صلى الله عليه وسلم أُمِر بالعلم، ‏(‏ولطائف العلم أقسام‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبَ يَا بَنِىَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

أخبر أن إبراهيم عليه السلام وصَّى بنيه، وكذلك يعقوب عليه السلام قال لبنيه لا يصيبنكم الموت إلا وأنتم بوصف الإسلام‏.‏ فشرائعهم- وإن اختلفت في الأفعال- فالأصل واحد، ومشرب التوحيد لا ثاني- له في التقسيم- وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى لكم الدين‏}‏ بِشارة بما تقوي به دواعيهم على الرغبة فيما يكلفهم من الإسلام، لأنهم إذا تحققوا أن الله سبحانه اصطفى لهم ذلك علموا أنه لا محالة يعينهم فيسهل عليهم القيام بحق الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ‏}‏‏.‏

جروا كلهم- صلوات الله عليهم- على منهاج واحد في التوحيد والإسلام، وتوارثوا ذلك خَلَفًا عن سَلَف، فهم أهل بيت الزلفة، ومستحقو القربة، والمُطَهَّرون من قِبَل الله- على الحقيقة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

لم يقولوا إلهنا مراعاة لخصوصية قَدْره، حيث سلموا له المزية، ورأوا أنفسهم ملحقين بمقامه، ثم أخبروا عن أنفسهم أنهم طُيَّع له بقولهم ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

أنزل الحقُّ- سبحانه- كُلاًّ بمحلِّه، وأفرد لكل واحدٍ قَدْراً بموجِبِ حكمه، فلا لهؤلاء عن أشكالهم خبر، ولا بما خَصَّ به كل طائفة إلى آخرين أثر، وكلُّ في إقليمه مَلِك، ولكلٍ يدور بالسعادة فَلَك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

معناه إذا تجاذبتك الفِرَق، واختلف عليك المطالبات بالموافقة، فاحكم بتقابل دعاواهم، وأَزِد من توجهك إلينا، جارياً على منهاج الخليل عليه السلام في اعتزال الجملة، سواء كان أباه، أو كان ممن لا يوافق مولاه، ولذا قال ‏{‏وَأَعْتَّزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 48‏]‏ للحق بالحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

لمَّا آمن نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بجميع ما أُنْزِلَ من قَبْلهِ أُكْرِمَ بجميع ما أَكْرَمَه من قبله، فلمَّا أظهر موافقة الجميع أَمَرَ الكُلَّ بالكَوْنِ تحت لوائه فقال‏:‏ «آدمُ ومَنْ دونه تحت لوائي يوم القيامة»‏.‏

ولمَّا آمنت أُمتَّهُ بجميع ما أَنزل الله على رسله، ولم يفرقوا بين أحدٍ فهم ضربوا في التكريم بالسَّهم الأعلى فتقدموا على كافة الأمم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏‏}‏

إن سلكوا طريقتكم، وأخذوا بسبيلكم، أُكرِموا بما أُكْرمتم، ووصلوا إلى ما وصلتم، وإنْ أبَوْا إلا امتيازاً أبَيْنَا إلا هوانهم، فإنَّ نَظَرَنا لمن خدمك يا محمد بالوصلة، وإعراضنا عمن بَايَنَك وخالفك ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، من خالفك فهو في شق الأعداء، ومن خَدَمَك فهو في شق الأولياء‏.‏

‏{‏فسيكفيكم الله وهو السميع العليم‏}‏‏:‏ كفاية الله متحققة لأن عناية الله بكم متعلقة، فمن نابذكم قصمته أيادي النصرة، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم ‏(‏منا‏)‏ خصائص اللطف والإكرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

معناه الزموا صبغةَ الله، فهو نصب بإضمار فعل‏.‏

والإشارة أن العبرة بما وضع الحق لا بما جمع العبد، فما يتكلفه الخلْقُ فإلى الزوال مآله، وما أثبت الحقُّ عليه الفطرة فإثباته العبرة‏.‏

وللقلوب صبغة وللأرواح صبغة وللأسرار صبغة وللظواهر صبغة‏.‏ صبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

كيف تصحُّ محاجة الأجانب وهم تحت غطاء الغيبة، وفي ظلال الحجبة‏.‏ والأولياء في ضياءُ الكشف وظُهْر الشهود‏؟‏

ومتى يستوي حال من هو بنعت الإفلاس بِغَيْبَتهِ مع حال من هو حكم الاختصاص والإخلاص لانغراقه في قُرْبَتِه‏؟‏ هيهات لا سواء‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

مَنْ نظر مِنْ نفسه إلى الخَلْقِ يتخيَّل كُلاًّ بِرَقمِه، ويحسب الجميع بنعت مثله؛ فلمَّا كانوا بحكم الأجنبِيَّة حَكَم الأنبياء- عليهم السلام- بمثل حالتهم، فردَّ الحقُّ- سبحانه- عليهم ظنَّهم و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فيهم رأيهم‏.‏ وهل يكون المجذوب عن شاهده كالمحجوب في شاهده‏؟‏ وهل يتساوى المختطف عن كُلِّه بالمردود إلى مثله‏؟‏

ذلك ظن الذين كفروا فتعساً لهم‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

حالت بينكم وبينهم حواجز من القِسمةِ؛ فهم على الفُرقة والغفلة أسسوا بنيانهم، وأنتم على الزلفة والوصلة ضربتم خيامكم‏.‏ وعتيق فضلنا لا يشبه طريد قهرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمْ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا‏}‏‏.‏

سقمت بصائر الكفار فلم يَلُحْ لهم وجهُ الصواب في جميع أحوال المؤمنين، فطالعوها بعين الاستقباح، وانطلقت ألسنتهم بالاعتراض في كل ما كان ويكون منهم، فلم يروا شيئاً جديداً إلا أَتَوْا عليه باعتراض جديد‏.‏

فمن ذلك تغير أمر القِبْلة حينما حُوِّلَتْ إلى الكعبة قالوا إن كانت قبلتهم حقاً فما الذي ولاَّهم عنها‏؟‏ فقال جلّ ذكره‏:‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ للهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

يتعبَّد العباد إلى قطرٍ و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ونحو شاؤوا، وكذلك أصحابُ الغيبة والحُجبة- عن شهود تصريف الحق لأوليائه- يطلبون وجوهاً من الأمر، يحملون عليها أحوالهم، ولو طالعوا الجميع من عين واحدة لتخلصوا عن ألمِ تَوَزُّع الفِكْر، وشِغْل تَرَجُّم الخاطر، ومطالبات تَقَسُّم الظنون، ولكنَّ الله يهدي لنوره من شاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏‏.‏

الوسط الخيار، فجعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار‏.‏ فكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم في القيامة فهذه الطائفة هم الأصول، وعليهم المدار، وهم القطب، وبهم يحفظ الله جميع الأمة، وكلُّ من قَبِلَتْهُ قلوبهم فهو المقبول، ومن رَدَّتْه قبولهم فهو المردود‏.‏ فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم عصم جميع الأمة ‏(‏عن‏)‏ الاجتماع عن الخطأ، وعصم هذه الطائفة عن الخطأ في النظر والحكم، والقبول والرد، ثم إن بناءَ أمرهم مُسْتَنِدٌ إلى سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكل ما لا يكون فيه اقتداءٌ بالرسول عليه السلام فهو عليه ردٌّ، وصاحبه على لا شيء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانِت لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

بيَّن أن الحكم في تقرير أمر القبلة إلى وقت التحويل، وتحويلها من وقت التبديل كان اختباراً لهم من الحق ليتميز الصادق من المارق، ومَنْ نَظر إلى الأم بعين التفرقة لكبُر عليه أمر التحويل، ومن نظر بعين الحقيقة ظهرت لبصيرته وجوه الصواب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلبٍ واحد فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواءٌ غيَّر أو قرَّر، وأثبت أو بدَّل، وحقَّق أو حوَّلَ فَهُمْ بِهِ لَهُ في جميع الأحوال، قال قائلهم‏:‏

كيفما دارت الزجاجة دُرْنا *** يحسب الجاهلون أنَّا جُنِنَّا

فإنْ قابلوا شرقاً أو واجهوا غَرْباً، وإنْ استقبلوا حجراً أو قارباً مدراً، فمقصودُ قلوبهم واحدٌ، وما كان للواحد فحُكْمُ الجميع فيه واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏‏.‏

حَفِظَ- صلوات الله عليه- الآدابَ حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنَّاه من أمر القبلة بقلبه، فَلاَحَظَ السماءَ لأنها طريق جبريل عليه السلام، فأنزل الله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ أي علمنا سؤلك عمَّا لم تُفْصِحْ عنه بلسان الدعاء، فلقد غيَّرنا القِبْلَةَ لأجلك، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب‏.‏

كلَّ العبيد يجتهدون في طلب رضائي وأنا أطلب رضاك ‏{‏فلنولينك قِبْلَةً ترضاها‏}‏ ‏{‏فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏‏:‏ ولكن لا تُعَلِّقْ قلبَكَ بالأحجار والآثار، وأَفْرِد قلبك لي، ولتكن القِبلةُ مقصودَ نَفْسِك، والحقُّ مشهودَ قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أَخْلِصوا قلوبَكم لي وأَفرِدوا شهودكم بي‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏

ولكنه عِلْمٌ لا يكون عليهم حجة، ولا تكون لهم فيه راحة أو منه زيادة، ‏{‏وما اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ تهويلاً على الأعداء، وتأميلاً على الأولياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

سبق لكم من قديم الحكم ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ انفرادٌ بطريق الحق، ووقوع أعدائكم في شق البُعْد، فبينكما برزخٌ لا يبغيان، فما هم بِتَابعي قبلتكم وإنْ أريتهم من الآثار ما هو أظهر من الشموس والأقمار، ولا أنت- بتابعٍ قبلتهم وإن أتَوا بكل احتيال، حُكْماً من الله- سبحانه- بذلك في سابق الأزل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

حَمَلَتْهُمْ مُسْتَكنَّاتُ الحَسَدِ على مكابرة ما علموه بالاضطرار، فكذلك المغلوب في ظلمات نفسه، ألقى جلباب الحياء فلم ينْجع فيه مَلاَم، ولم يَرْدَعْه عن انهماكه كلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

أي بعدما طلعت لك شموس اليقين فلا تَذْعَنْ إلى مجوزات التخمين‏.‏ والخطاب له والمراد به الأمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏148‏)‏‏}‏

الإشارة منه‏:‏ أنَّ كل قوم اشتغلوا عنَّا بشيءٍ حَالَ بينهم وبيننا، فكونوا أنتم أيها المؤمنون لنا وبنا، وأنشد بعضهم‏:‏

إذا الأشغالُ أَلْهَوْني عنك بشُغْلِهم *** جعلتك أشغالي فأَنْسَيْتَني شُغْلي

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏149‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ‏}‏‏.‏

كما تستقبلون أينما كنتم القِبْلَة- قَرُبتُم منها أم بَعُدْتُم- فكذلك أَقْبَلُوا علينا بقلوبكم كيفما كنتم،؛ حَظَيتم منا أو مُنِيتُم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

إذا أردت ألا يكون لأحد عليك سبيلٌ، ولا يقع لمخلوق عليك ظِلٌّ، ولا تصل إليك بالسوءِ يَدٌ، فحيثما كنتَ وأينما كنتَ وكيفما كنت كن لَنَا وكُن مِنّا، فإِنَّ من انقطع إلينا لا يتطرق إليه حدثان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى‏}‏‏.‏

إذا كانوا محوا عن كونهم رسوماً تجري عليهم أحكامنا- فأنَّى بالخشية منهم‏!‏‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

إتمام النعمة إضافة الكشف إلى اللطف، فإن من كفاه بمقتضى جوده دون من أغناه بحق وجوده، وفي معناه أنشدوا‏:‏

نحن في أكمل السرورِ ولكنْ *** ليس إلا بكم يَتمُّ السرور

عيبُ ما نحن فيه- يا أهلَ وُدِّي- *** أنّكم غُيَّبٌ ونحن الحُضُور

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

إرسال الرسول مفاتحة لأبواب الوصول، فكان في سابق علمه- سبحانه- أن قلوب أوليائه متعطشة إلى لقائه‏.‏ ولا سبيل لأحد إليه إلا بواسطة الرسل؛ فأقوام ألزمهم- بإرسال الرسل إليهم- الكُلَف، وآخرون أكرمهم- بإرسال الرسل إليهم- بفنون القُرَب والزُّلَف، وشَتّان بين قوم وقوم‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ‏(‏152‏)‏‏}‏

الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور، ثم استهلاكه في وجود المذكور، حتى لا يبقى منك أثر يذكر، فيقال قد كان مرةً فلان‏.‏

‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ أي كونوا مستهلكين في وجودنا، نذكركم بعد فنائكم عنكم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 16‏]‏ كانوا وقتاً ولكنهم بانوا دائماً‏:‏

أناس حديث حسن *** فكن حديثاً حسناً لمن وعنى

وطريقة أهل العبارة ‏{‏فاذكروني‏}‏ بالموافقات ‏{‏أذكركم‏}‏ بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة ‏{‏فاذكروني‏}‏ بِتَرْكِ كل حظ ‏{‏أذكركم‏}‏ بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ مكتفين بي عن عطائي وأفضالي ‏{‏أذكركم‏}‏ راضياً بكم دون أفعالكم‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بذكري لكم ما تذكرون، ولولا سابق ذكري لما كان لاحِقُ ذكركم‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بقطع العلائق ‏{‏أذكركم‏}‏ بنعوت الحقائق‏.‏

ويقال اذكرني لكل مَنْ لَقِيتَه أذكرك لمن خاطَبتُه، «فمن ذكرني في مَلأٍ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم»‏.‏

ويقال ‏{‏واشكروني‏}‏ على عظيم المِنَّةِ عليكم بأن قُلْتُ‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ‏}‏‏.‏

ويقال الشكر من قبيل الذكر، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكفرون‏}‏ النهي عن الكفران أمرٌ بالشكر، والشكر ذكر، فكرر عليك الأمر بالذكر، والثلاث أول حدِّ الكثرة، والأمر بالذكر الكثير أمر بالمحبة لأنَّ في الخبر‏:‏ «من أحب شيئاً أكثر ذكره» فهذا- في الحقيقة- أمرٌ بالمحبة أي أحْبِبْني أحبك؛ ‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ أي أحبوني أحببكم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏فاذكروني‏}‏ بالتذلل ‏{‏أذكركم‏}‏ بالتفضُّل‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بالانكسار ‏{‏أذكركم‏}‏ بالمبار‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ باللسان ‏{‏أذكركم‏}‏ بالجِنان‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بقلوبكم ‏{‏أذكركم‏}‏ بتحقيق مطلوبكم‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ على الباب من حيث الخدمة ‏{‏أذكركم‏}‏ بالإيجاب على بساط القربة بإكمال النعمة‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بتصفية السِّر ‏{‏أذكركم‏}‏ بتوفية البرِّ‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بالجهد والعناء ‏{‏أذكركم‏}‏ بالجود والعطاء‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بوصف السلامة ‏{‏أذكركم‏}‏ يومَ القيامة يومَ لا تنفع الندامة‏.‏

‏{‏فاذكروني‏}‏ بالرهبة ‏{‏أذكركم‏}‏ بتحقيق الرغبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

استعينوا بالصبر على الصلاة أي بصبركم- عند جريان أحكام الحق عليكم- استحقاقكم صلاة ربكم عليكم، ولذا فإنه تعالى بعد ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏ يقول‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏‏.‏

ويقال استوجب الصابرون نهاية الذخر، وعلو القدر حيث نالوا معَيَّة الله قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

فاتتهم الحياة في الدنيا ولكن وصلوا إلى الحياة الأبدية في العُقْبَى، فهم في الحقيقة أحياء، يجدون من الله فنون الكرامات‏.‏

ويقال هم أحياء لأن الخَلَفَ عنهم اللهُ ومَنْ كان الخلفُ عنه الله لا يكون ميتاً، قال قائلهم في مخلوق‏:‏

إن يكن عنَّا مضى بسبيله فما *** مات من يبقى له مثل خالد

ويقال هم أحياء بذكرِ الله لهم، والذي هو مذكور الحق بالجميل بذكره السرمدي ليس بميت‏.‏

ويقال إنَّ أشباحهم وإنْ كانت متفرقة، فإنَّ أرواحهم- بالحق سبحانه- متحققة‏.‏

ولئن فَنِيَتْ بالله أشباحُهم فلقد بَقِيَتْ بالله أرواحهم لأنَّ من كان فناؤه بالله كان بقاؤه بالله‏.‏

ويقال هم أحياء بشواهد التعظيم، عليهم رداء الهيبة وهُمْ في ظلال الأُنْس، يبسطهم جَمَالُه مرةً، ويستغرقهم جلاله أخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 156‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏(‏155‏)‏ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

ابتلاهم بالنعمة لِيُظْهِرَ شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم في الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قَسَمَه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، ‏(‏ابتلاهم‏)‏ بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال تزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏ يعني الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه‏.‏

ويقال طالبهم بالخوف ‏(‏ابتعاداً‏)‏ عن عقوبته ثم بمقاساة الجوع ابتغاء قربته وكرامته، ونقصٍ من الأموال بتصَدُّقِ الأموال والخروج عنها طلباً للخير منه بحصول معرفته‏.‏

«والأنفس» تسليماً لها إلى عبادته «والثمرات» القول بترك ما يأملونه من الزوائد في نعمته ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏ على استحسان قضيته، والانقياد لجريان قدرته‏.‏

ومطالبات الغيب إما أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب؛ فمن أوقف المال لله فله النجاة، ومن بذل لحكمه النَّفْسَ فله الدرجات، ومن صبر عند مصائب الأقارب فله الخلف والقُرُبات، ومن لم يدخر عنه الروح فله دوام المواصلات‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ‏}‏ *** الآية‏.‏

قابلوا الأمر بالصبر لا بل بالشكر لا بل بالفرح والفخر‏.‏

ومن طالع الأشياء مِلْكاً للحق رأى نفسه أجنبياً بينه وبين حكمه؛ فمِنشِئُ الخَلْقِ أولى بالخَلْق من الخَلْق‏.‏

ويقال من شهد المصائب شهد نفسه لله وإلى الله، ومن شاهد المُبْلِي عَلِمَ أن ما يكون من الله فهو عبد بالله، وشتان بين من كان لله وبين من كان بالله؛ الذي كان لله فصابرٌ واقفٌ، والذي هو بالله فساقط الاختيار والحكم، إنْ أثبته ثَبَتَ، وإنْ محاه انمحى، وإنْ حرَّكه تحرك، وإن سَكَّنَه سَكَن، فهو عن اختياراته فانٍ، وفي القبضة مُصْرَّفٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

بصلواته عليهم ابتداءً وصلوا إلى صبرهم ووقوفهم عند مطالبات التقدير، لا بصبرهم ووقوفهم وصلوا إلى صلواته، فلولا رحمته الأزلية لما حصلت طاعتهم بشرط العبودية، فعنايته السابقة أوجبت لهم هداية خالصة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ‏}‏ لما رحمهم في البدية اهتدوا في النهاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ‏}‏‏.‏

تلك المشاهد والرسوم، وتلك الأطلال والرقوم، تُعَظَّم وتُزَار، وتُشدُّ إليها الرحال لأنها أطلال الأحباب، وهنالك تلوح الآثار‏:‏

أهوى الديار لمن قد كان ساكنها *** وليس في الدارِ همٌّ ولا طَرَبُ

وإن لتُرابِ طريقهم بل لغبار آثارهم- عند حاجة الأحباب- أقداراً عظيمة، وكل غبرة تقع على ‏(‏حافظات طريقهم‏)‏ لأعزُّ من المِسْك الأذفر‏:‏

وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمةٌ *** في ترِبها وجرَّت به بُردا

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

حَظَى الصفا والمروة بجوار البيت فَشُرعَ السعي بينهما كما شرع للبيت الطواف، فكما أن الطواف ركن في النُّسك فالسعي أيضاً ركن، والجارُ يُكْرَمُ لأجل الجار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

الإشارة في هذا الآية لمن كاشفه الحقُّ سبحانه بعلم من آداب السلوك ثم ضنّ بإظهاره للمريدين على وجه النصيحة والإرشاد استوجب المقت في الوقت، ويخشى عليه نزع البركة عن علمه متى قصَّر فيه لما أخَّر من تعليم المستحِق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 160‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏‏}‏

تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحسن الرُّجْعَى، والقيام للمريدين على وجه النصيحة، وبيَّنوا لهم- بجميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون- حسنَ قيامهم بمعاملاتهم‏.‏ فإنَّ أظهرَ الحجَج لبيانِ أفعالك وأصدقَ الشهادةِ لتصحيح ما تدعو به الخلْق إلى الله- ألا يُخالِفَ بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

الإشارة فيه أن الذين بدا لهم بعدما سلكوا طريق الإرادة ‏(‏أنْ‏)‏ يرجعوا إلى أحوال العادة، ثم في تلك الوحشة قُبضوا، وعلى تلك الحالة من الدنيا خرجوا، أولئك أصحاب الفُرقة، فلا على أرواحهم إقبال ولا لمصيبتهم جبران، ولا لأحد عليهم ترحم، خسروا في الدنيا والآخرة، يلعنهم البقُّ في الهواء والنقعُ على الماء‏.‏

‏{‏خَالِدِينَ‏}‏ أي مقيمين أبداً في هوانهم وصغرهم، لا تخفيف ولا إسعاف ولا رفق ولا ألطاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 163‏]‏

‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏‏}‏

شَرَّفهم غايةَ التشريف بقوله ‏{‏وَإِلَهُكُمْ‏}‏‏.‏ وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا‏:‏ علامةُ من يَعُدُّه من خاصَّ الخواص أن يقول له‏:‏ عبدي، وذلك أتمُّ من هذا بكثير لأن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ‏}‏‏:‏ وإضافة نَعْتِهِ أتمُّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لَكَ بلا عِلَّة، وكونُك له عبد يُعوِّض كل نقصك وآفتك‏.‏ ومتى قال لكم ‏{‏وَإِلَهُكُمْ‏}‏‏.‏

حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حِينَ، ولا أوَانَ، ولا رسم ولا حدثان‏.‏

و ‏{‏الوَاحِدُ‏}‏ من لا مِثْلَ له يدانيه، ولا شكل يلاقيه‏.‏ لا قسيم يجانسه ولا نديم يؤانسه‏.‏ لا شريكَ يعاضده ولا مُعِين يساعده ولا منازعَ يعانده‏.‏

أحديُّ الحق صمديُّ العين ديموميُّ البقاء أبديُّ العز أزليُّ الذات‏.‏

واحدٌ في عز سنائه فَردٌ في جلال بهائه، وِتْرٌ في جبروت كبريائه، قديم في سلطان عِزِّه، مجيد في جمال ملكوته‏.‏ وكل مَنْ أطنب في وصفه أصبح منسوباً إلى العمى ‏(‏ف‏)‏ لولا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبدُ إذا تعرَّض لعرفانه عند أول ساطعٍ من بادياتِ عزِّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

تَعَرَّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته، وأمارات وجوده، وسمات ربوبيته التي هي أقسام أفعاله‏.‏ ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهينَ تلطف عن العبارة، ووجوهٍ من الدلالات تَدِقُّ عن الإشارة، فما من عينٍ من العدم محصولة- من شخصٍ أو طلل، أو رسم أو أثر، أو سماء أو فضاء، أو هواء أو ماءٍ، أو شمسٍ أو قمر، أو قَطْرٍ أو مطر، أو رَمل أو حجرٍ، أو نجم أو شجرٍ- إلا وهو على الوحدانية دليل، ولِمَنْ يقصد وجوده سبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 166‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يّتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏‏.‏

هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة، فَشَغَلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هَوَتَهْ أنفسهم، فرضوا بمعمولٍ لهم أن يعبدوه، ومنحوت- من دونه- أن يحبوه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ‏}‏‏.‏

ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام، ولكن من أحبَّ حبيباً استكثر ذكره، بل استحسن كل شيء منه‏.‏

ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن ‏(‏هذه‏)‏ محبة الجنس للجنس، وقد يميل الجنس إلى الجنس، وتلك محبةُ من ليس بجنسٍ لهم فذلك أعزُّ وأحق‏.‏

ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود، وأمَّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حَالَ بينهم وبين ‏(‏شهوده‏)‏ رداء الكبرياء على وجهه‏.‏

ويقال الذين آمنوا أشد حباً لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإنْ عَذَّبَهُم‏.‏ والكافر تبرأ من الصنم والصنمُ من الكافر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا‏}‏ الآية‏.‏

ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهي أتم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم‏.‏

ويقال محبة المؤمنين أتمُّ وأشدُّ لأنها على موافقة الأمر، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناماً أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك في حال فقرهم؛ فكانوا يتخذون من الفضة- عند غناهم- أصناماً ويهجرون ما كان من الحديد *** وعلى هذا القياس‏!‏ وأمَّا المؤمنون فأشَدُّ حباً لله لأنهم عبدوا إلهاً واحداً في السّراء والضراء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّاَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ‏}‏‏.‏

إذا بَدَتْ لهم أوائلُ العذاب اتضح أنهم لم يقفوا من الصدق على قَدَم، وأمّا المؤمنون فيسلبهم أرواحهم وأملاكهم وأزواجهم وأولادهم، ويُسْكِنُ ‏(‏أولئكَ‏)‏ في القبور سنين ثم يبتليهم في القيامة بطول الآجال وسوء الأعمال ثم يلقيهم في النار‏.‏

‏(‏أما المؤمنون‏)‏ فيأتي عليهم طول الأيام والأعمال فلا يزدادون إلا محبة ‏(‏على محبة‏)‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 167‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

عند ذلك يعرفون مرارة طعم صحبة المخلوقين ولكن لا يحصلون إلا على حسرات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 168‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏‏}‏

الحرام- وإنْ اسْتُلِذَّ في الحال- فهو وبيء في المآل، والحلال- وإن اسْتُكْرِه في الحال- فهو مريء في المآل‏.‏

والحلال الصافي ما لم ينسَ مُكْتَسِبُه الحقَّ في حال اكتسابه‏.‏

ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق في كل حال‏.‏

وكلُّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 169‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

لاجترائه على الله يدعوك به إلى افترائك على الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 170‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

لا ترفع أبصارهم عن أشكالهم وأصنافهم، من أضرابهم وأسلافهم، فَبَنَوْا على منهاجهم، فلا جَرَمَ انخرطوا في النار، وانسلكوا في سلكهم، ولو عَلِمُوا أن أسلافهم لا عقل يردعهم، ولا رشد يجمعهم لنابذوهم مناصبين، وعائدوهم مخالفين، ولكن سلبوا أنوار البصيرة، وحُرِموا دلائل اليقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 171‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

عدموا سمع الفهم والقبول، فلم ينفعهم سمع الظاهر، فنزلوا منزلة البهائم في الخلوِّ عن التحصيل، ومَنْ رضي أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 172‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏‏}‏

الحلال ما لا تَبِعَه عليه، والطيب الذي ليس لمخلوقٍ فيه مِنَّة، وإذا وجد العبد ‏(‏طعا‏)‏ ماً يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب‏.‏

وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس في غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 173‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

حرَّم على الظواهر هذه المعدودات وهي ما أهل به لغير الله، وحرَّم على السرائر صحبة غير الله بل شهود غير الله، فمن اضطر- أي لم يجد إلى الاستهلاك في حقائق الحق وصولاً- فلا يَسْلكَنَّ غير سبيل الشرع سبيلاً، فإما أن يكون محواً في الله، أو يكون قائماً بالله، أو عاملاً لله، والرابع همجٌ لا خَطَرَ له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 174‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏‏}‏

العلماء مُطَالَبُون بنشر دلائل العلم، والأولياء مأمورون بحفظ ودائع السِّر فإنْ كَتَم هؤلاء براهين العلوم ألجموا بلجام من النار، وإن أظهر هؤلاء شظية من السر عُوجِلُوا ببعاد الأسرار، وسَلْبِ ما أوتوا من الأنوار‏.‏ ولكُلٍ جدٌّ، وعلى كل أمرٍ قطيعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 176‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

إن الذين آثروا الغَيْرَ على الغيب، والخَلْقَ على الحقِّ، والنَفْسَ على الأُنْسِ، ما أقسى قلوبهم، وما أوقح محبوبهم ومطلوبهم، وما أخس قدرهم، وما أفضح لذوي الأبصار أمرهم‏!‏ ذلك بأن الله نَزَّل الكتاب بالحق، وأمضى القضاء والحكم فيه بالصدق، وأوصلهم إلى مَالَهُ أَهَّلَهُمْ، وأثْبَتَهُم على الوجه الذي عليه جَبَلَهُمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 177‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

والإشارة أن الظواهِرَ ليس لها كثيرُ اعتبار إنما الخبر عن الله عزيز‏.‏

وكثرة الأوراد- وإن جلَّت- فحرفة العجائز، وإخلاص الطاعات- وإن عزَّ- فصفة العوام، وَوَصْلُ الليل بالنهار في وظائف كثيرة ومجاهدات غزيرة عظيم الخطر في استحقاق الثواب، ولكنَّ معرفة الحق عزيزة‏.‏

وما ذُكِر في هذه الآية من فنون الإحسان، ووجوه قضايا الإيمان، وإيتاء المال، وتصفية الأعمال، وصلة الرحم، والتمسك بفنون الذّمم والعِصَم، والوفاء بالعهود، ومراعاة الحدود- عظيم الأثر، كثير الخطر، محبوب الحق شرعاً، ومطلوبه أمراً لكنّ قيام الحق عنك بعد فنائك، وامتحائك مِنْ شاهِدِك، واستهلاكك في وجود القِدَم، وتعطل رسومك عن مساكنات إحساسك- أتمُّ وأعلى في المعنى؛ لأن التوحيد لا يُبقِي رسماً ولا أثراً، ولا يغادر غَيْراً ولا غَبَراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 178‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

حق القِصاص مشروع، والعفو خير، فمن جنح إلى استيفاء حقه فمُسَلَّمٌ له، ومن نزل عن ابتغاء حقه فمحسن، فالأول صاحب عبادة بل عبودية، والثاني صاحب فتوة بل حرية‏.‏

والدم المراق يجري فيه القِصاص على لسان أهل العلم، وأمَّا على لسان الإشارة لأهل القصة فدماؤهم مطلولة وأرواحهم هدرة قال‏:‏

وإن فؤداً رعته لَكَ حامدٌ *** وإنَّ دماً أجريته بِكَ فاخِرُ

وسفك دماء الأحباب ‏(‏فوق‏)‏ بِساط القرب خلوف أهل الوصال، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللونُ لونُ الدم والريحُ ريح المِسك»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 179‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

في استيفاءِ القصاص حياة لأنه إذا عَلِمَ أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ أمْسَكَ عن القتل وفي ذلك حياة القاتل والمقتول‏.‏

ولكن ترك القصاص- على بيان الإشارة- فيه أعظم الحياة لأنه إذا تَلِفَ فيه ‏(‏سبحانه‏)‏ فهو الخَلَفُ عنه، وحياته عنه أتم له من بقائه بنفسه‏.‏ وإذا كان الوارثَ عنهم الله والخَلَفَ عنهم اللهُ فبقاءُ الخلفِ أعزُّ مِنْ حياةِ مَنْ ورد عليه التلف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 180‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

مَنْ تَرَكَ مالاً فالوصية له مالِه مُسْتَحبةٌ، ومَنْ لم يترك شيئاً فأنَّى بالوصية‏!‏‏!‏ في حالة الأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث، أمّا الأولياء فيخرجون في حياتهم عن الكُلِّ، فلا تبقى منهم إلا همةٌ انفصلت عنهم ولم تتصل بشيءٍ؛ لأن الحق لا سبيل للهمة إليه، والهمة لا تَعَلُّقَ لها بمخلوق، فبقيت وحيدة منفصلة غير متصلة، وأنشدوا‏:‏

أحبكُم ما دمتُ حياً فإنْ أمُتْ *** يُحبكم عظمى في التراب رميم

هذه وصيتهم‏:‏ وقال بعضهم‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** لا بل كما قال قائلهم‏:‏

وأتىلرسول فأخبر أنهم رحلوا قريبا *** رجعوا إلى أوطانهم فجرى له دمعي صبيبا‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 181‏]‏

‏{‏فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏‏}‏

من حرّف نُطْقَاً جرى بِحقِّهِ لِحَقَه شؤمُ ذلك ووباله‏.‏

وعقوبته أن يُحرَم رائحة الصدق أن يشمه‏.‏ فمن أعان الدينَ أعانه الله، ومن أعان على الدين خذله الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏182- 182‏]‏

‏{‏فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏‏}‏

الإشارة فيه‏:‏ أن من تَفرسَ في بعض المريدين ضعفاً، أو رأى في بعض أهل البداية رخاوةَ قصدٍ أو وجد بعض الناصحين يتكلم بالصدق المحض على من لم يحتمله- فرأى أن يرفق بذلك المريد بما يكون ترخيصاً له أو استمالة له أو مداراة أو رضا بتعاطي مباح- فلا بأسَ به فإن حَمْلَ الناس على الصدق المحض مما لم يثبت له كثيرُ أجر‏.‏ فالرِّفق بأهل البداية- إذا لم يكن لهم صارم عزم، ولا صادق جهد- ركْنٌ في ابتغاء الصلاح عظيم‏.‏