فصل: تفسير الآية رقم (208)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 183‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

الصوم على ضربين‏:‏ صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوباً بالنية، وصوم باطن وهو صَوْنُ القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السِّرِّ عن الملاحظات‏.‏

ويقال صوم العابدين شرطه- حتى يَكْمُلَ- صونُ اللسان عن الغيبة، وصون الطَرْف عن النظر بالريبة كما في الخبر‏:‏ «مَنْ صام فَلْيَصُمْ سمعه وبصره‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏» الخبر، وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره‏.‏

وإن من أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صوموا وأفطروا لرؤيته» الهاء في قوله عليه السلام- لرؤيته- عائدة عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه، فالعلماءُ يقولون معناه عندهم صوموا إذا رايتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله، والذي هم به محو- الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 184‏]‏

‏{‏أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرُ‏}‏‏.‏

من شهد الشهر صام لله، ومن شهد خالق الشهر صام بالله، فالصوم لله يوجب المثوبة، والصوم بالله يوجب القربة‏.‏ الصوم لله تحقيق العبادة والصوم بالله تصحيح الإرادة‏.‏ الصوم لله صفة كل عابد والصوم بالله نعت كل قاصد‏.‏ الصوم لله قيام بالظواهر والصوم بالله قيام بالضمائر‏.‏ الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة‏.‏

من شهد الشهر أمسك عن المفطرات ومن شهد الحق أمسك في جميع أوقاته عن شهود المخلوقات‏.‏

من صام بنفسه سُقِيَ شرابَ السلسبيل والزنجبيل، ومن صام بقلبه سُقِيَ شراب المحاب بنعمة الإيجاب‏.‏

ومن صام بِسِرِّهِ فهم الذين قال فيهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏‏.‏

شراب يا له من شراب‏!‏‏!‏ شراب لا يُدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف‏.‏

شراب استئناس لا شراب كأس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك‏.‏ الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة فليُمْهَل حتى تقوى عزيمته وتستد إرادته، فعند ذلك يُسْتَدْرَك منه ما رُخِّص له بالأخذ بالتأويل، وتلك سُنَّةُ الله سبحانه وتعالى في التسهيل على أهل البداية، ثم استيفاءُ ذلك منهم واجبٌ في آخر الحال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

الإشارة منه أَنَّ مَنْ فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجرداً للواحد‏.‏

فصل‏:‏

ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضي المشقة خففه عليك ذلك بأن قلَّل أيام الصوم في قلبك فقال‏:‏ ‏{‏أَيّامًا مَّعْدُودَاتٍ‏}‏ أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ أي لا يلحقكم كثير مشقة في القيام بحق جهاده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

رمضان يُرْمِضُ ذنوب قوم ويرمض رسوم قوم، وشتان بين من تحرِق ذنوبَه رحمتُه وبين من تحرِق رسومَه حقيقتُه‏.‏

شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب‏.‏ شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة، شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة‏.‏ شهر النجاة، شهر المناجاة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ‏}‏‏.‏

أراد بك اليسر ‏(‏وأنت تظن‏)‏ أنه أراد بك العسر‏.‏

ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه ‏(‏أقامه‏)‏ بطلب اليسر؛ ولو لم يُرِدْ به اليسر لَمَا جعله راغباً في اليسر، قال قائلهم‏:‏

لو لم تُرِدْ نَيْلَ ما أرجو وأطلبهُ *** من فيضِ جودِك ما علمتني الطلبا

حقَّق الرجاء وأكَّد الطمع وأوجب التحقيق حيث قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ‏}‏ لينفيَ عن حقيقة التخصيص مجوزاتِ الظنون‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُو العِدَّةَ‏}‏‏.‏

على لسان العلم تكملوا مدة الصوم‏.‏

وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال ‏(‏وفاء‏)‏ ‏(‏المآل‏)‏‏.‏

‏{‏وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ في النَّفَسِ الأخير، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم‏.‏ والتوفيق في أن تكمل صوم شهرك عظيم لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة- أعظم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 186‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ‏}‏‏.‏

سؤال كل أحدٍ يدلُّ على حاله؛ لم يسألوا عن حكم ولا عن مخلوق ولا عن دين ولا عن دنيا ولا عن عقبى بل سألوا عنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى‏}‏‏.‏ وليس هؤلاء من جملة من قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105‏]‏، ولا من جملة من قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ ولا من جملة من قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، ولا من جملة من قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ‏}‏ ‏[‏الإٍسراء‏:‏ 85‏]‏، ولا من جملة من قال‏:‏ و‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، و‏{‏يَسْئَلُونَكَ عِنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

هؤلاء قوم مخصوصون‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ *** عِبَادِى عَنِّى‏}‏‏.‏

أي إذا سألك عبادي عني فبماذا تجيبهم‏؟‏ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد، فأنت وإنْ كنتَ السفير بيننا وبين الخلْق فهذا الجواب أنا أتولاه ‏{‏فَإِنِّى قَرِيبٌ‏}‏ ‏(‏رَفَعَ الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يَقُل قل لهم إني قريب بل قال جل شأنه‏:‏ ‏{‏فَإِنِّى قَرِيبٌ‏}‏‏)‏‏.‏

ثم بَيَّن أن تلك القربة ما هي‏:‏ حيث تقدَّس الحقُّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال‏:‏ ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ‏}‏ وإن الحق سبحانه قريب- من الجملة والكافة- بالعلم والقدرة والسماع والرؤية، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة، وجلَّ وتقدَّس عن أن يكون قريباً من أحد بالذات والبقعة؛ فإنه أحديٌّ لا يتجهَ في الأقطار، وعزيز لا يتصف بالكُنْهِ والمقدار‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتِجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏‏.‏

لم يَعِدْ إجابة من كان باستحقاق زهد أو في زمان عبادة بل قال دعوة الداعي متى دعاني وكيفما دعاني وحيثما دعاني ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى‏}‏ هذا تكليف، وقوله‏:‏ ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ‏}‏ تعريف وتخفيف، قدَّم التخفيف على التكليف، وكأنه قال‏:‏ إذا دعوتني- عبدي- أَجَبْتُك، فأَجِبنِي أيضاً إذا دَعَوْتُك، أنا لا أرضى بِرَدِّ دعائِك فلا تَرْضَ- عبدي- بردِّي من نفسك‏.‏ إجابتي لك بالخير تحملك- عبدي- على دعائي، ولا دعاؤك يحملني على إجابتك‏.‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى‏}‏‏:‏ وليثقوا في، فإني أجيب من دعاني، قال قائلهم‏:‏

يا عَزُّ أُقْسِم بالذي أنا عبده *** وله الحجيج وما حوت عرفات

لا أبتغي بدلاً سِواكِ خليلة *** فشقِي بقولي والكرامُ ثِقات

ثم قال في آخر الآية‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ أي ليس القصد من تكليفك ودعائك إلا وصولك إلى إرشادك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 187‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةُ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ‏}‏‏.‏

أخبر أنه- في الحقيقة- لا يعود إليه عائد من أوصاف الخَلْق؛ إنْ كُنتَ في العبادة التي هي حق الحق أو في أحكام العادة من صحبة جِنْسِك التي هي غاية النفس والحظ، فَسِيَّان في حالك إذا أورد فيه الإذن‏.‏

نزلت الآية في زَلَّةٍ بَدَرَتْ من الفاروق، فَجَعَلَ ذلك سببَ رُخْصةٍ لجميع المسلمين إلى القيامة‏.‏ وهكذا أحكام العناية‏.‏

ويقال علم أنه لا بُدَّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظِّك، فقال أما حقي ‏{‏أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ‏}‏، وأما حظك ‏{‏وَكَلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

أخبر أن محل القدرة مقدَّس عن اجتلاب الحظوظ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بِكُم فيكم، وإذا كنتم قائمين بِنَا فلا تعودوا منَّا إليكم‏.‏

ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يُمزَجَ الجدُّ بالهزلِ، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك فقال عليه السلام‏:‏ «ذريتي يا ابنة أبي أبكر أتعبد ربي» وقال صلى الله عليه وسلم «لي وقت لا يسعني غير ربي»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 188‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

إذا تحاكمتم إلى المخلوقين فاعلموا أن الله مطلع عليكم، وعِلْمه محيط بكم، فراقبوا موضع الاستحياء من الحق سبحانه، ولئن كان المخلوقون عالمين بالظواهر فالحق- سبحانه وتعالى- متولي بالسرائر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ‏}‏‏.‏

الأهلة- جمعُ هلال- مواقيت للناس؛ لأشغالهم ومحاسباتهم‏.‏

وهي مواقيت لأهل القصة في تفاوت أحوالهم؛ فللزاهدين مواقيت أورادهم، وأما أقوام مخصوصون فهي لهم مواقيت لحالاتهم، قال قائلهم‏:‏

أعد الليالي ليلةً بعد ليلةٍ *** وقد كنت قدماً لا أعد اللياليا

وقال آخر‏:‏

ثمانٍ قد مضَيْنَ بِلا تلاقٍ *** وما في الصبر فضل عن ثمانٍ

وقال آخر‏:‏

شهورٌ يَنْقُضَين وما شعرنا *** بأنصافٍ لهن ولا سِرار

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

يعني ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 190‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

لتكن نفوسُكم عندكم ودائعَ الحق؛ إنْ أَمَر بإِمساكها أَمْسِكُوها وصونوها، وإنْ أَمَرَ بتسليمها إلى القتل فلا تدَّخروها عن أمره، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُوا‏}‏ وهو أن تقف حيثما أُوقِفْتَ، وتفعل ما به أُمِرْتَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 191‏]‏

‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏‏}‏

قوله جلَّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاقْتُلُواهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏‏.‏

يعني عليكم بنصب العداوة مع أعدائي- كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائي- فلا تُشْفِقُوا عليهم وإن كان بينكم واصد الرحم ووشائج القرابة‏.‏

‏{‏وأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏‏:‏ أولاً أَخْرِجُوا حبَّهم وموالاتهم من قلوبكم، ثم ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جارياً عليهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ‏}‏‏.‏

والإشارة‏:‏ أنَّ المحنةَ التي تَرِدُ على القلوب من طوارق الحجب أشد من المحنة التي تَرِدُ على النفوس مِنْ بذل الروح، لأن فوات حياة القلب أشد من فوات حياة النَّفْس، إذ النفوس حياتها بمألوفاتها، ولكن حياة القلب لا تكون إلا بالله‏.‏

ويقال الفتنة أشد من القتل‏:‏ أن تنأى عن الله أعظم من أن تنأى عن روحك وحياتك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلَكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

الإشارة منه‏:‏ لا تشوش وقتك مع الله إذا كان بوصف الصفات بما تدخله على نفسك وإنْ كانت نوافل من الطاعات، فإن زاحمك مزاحم يشغلك عن الله فاقطع مادة ذلك عن نفسك بكل ما أمكنك لئلا تبقى لك علاقة تصدك عن الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 192‏]‏

‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

الإشارة منه‏:‏ إذا انقطعت عنك غاغة خواطرك وأعداء نفسك، مما يخرجك عنه ويزاحمك، فَلُمْ حديثَ النفس ودَعْ مجاهداتها؛ فَإنَّ مَنْ طولب بحفظ الأسرار لا يتفرغ إلى مجاهدات النفوس بفنون المخالفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏193- 193‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

الإشارة من الآية إلى مجاهدات النفوس؛ فإنَّ أعدى عدوِّك نَفْسُك التي بين جنبيك‏.‏ أي استوفِ أحكام الرياضات حتى لا يبقى للآثار البشرية شيء، وتُسلِم النَّفْسَ والقلبَ لله، فلا يكون مُعارِض ولا مُنازعُ منك لا بالتوقي ولا بالتلقي، لا بالتدبير ولا بالاختيار- بحالٍ من الأحوال؛ تجري عليك صروفه كما يريد، وتكون محواً عن الاختيارات، بخلاف ما يرد به الحكم، فإذا استسلمت النفس فلا عدوان إلا على أرباب التقصير، فأمّا من قام بحق الأمر تقصى عن عهدة الإلزام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏194- 194‏]‏

‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

الإشارة فيه‏:‏ إذا تقابل حقان كلاهما لله فَسَلِّم الوقت بحكم الوقت، ودَلْ مع إشارات الوقت، وإياك أن ترجح أحدهما على الآخر بمالَكَ من حظ- وإنْ قَلَّ- فتُحَجَب عن شهود الحق، وتَعْمَى بصيرةُ قلبك‏.‏ وكلُّ ما كان إلى خلاف هواكَ أقرب، وعن استجلابِكَ وسكونكَ إليه أبعد- كان ذلك في نفسه أصوبَ‏.‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ‏}‏‏:‏ الذين اتقوا إيثار هواهم على ما فيه رضاه، فإذا قاموا لله- فيما يأتون- لا لَهُم فإن الله تعالى بالنصرة معهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 195‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏‏}‏

إنفاق الأغنياء من أموالهم، وإنفاق العابدين بنفوسهم لا يدخرونها عن العبادات والوظائف، وإنفاق العارفين بقلوبهم لا يدخرونها عن أحكامه، وإنفاق المحبين بأرواحهم لا يدخرونها عن حُبِّه‏.‏

إنفاق الأغنياء من النِّعم وإنفاق الفقراء من الهِمَم‏.‏

إنفاق الأغنياء إخراج المال من الكيس، وإنفاق الفقراء إخراج الروح عن أنفس النفيس، وإنفاق الموحِّدين إخراج الخَلْق من السِّر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ الإشارة فيه ألى إمساك يدك عن البذل؛ فمن أمسك يده وادَّخر شيئاً لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة‏.‏ ويقال‏:‏ إلى إيثار هواك على رضاه‏.‏

ويقال ‏{‏وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ أي الغفلة عنه بالاختيار‏.‏

ويقال تَوَهُّمُ أنك تعيش من دون لطفه وإقباله لَحْظَةً‏.‏

ويقال الرضا بما أنت فيه من الفترة والحجاب‏.‏

ويقال إمساك اللسان عن دوام الاستغاثة في كل نَفَسٍ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ‏}‏ الإحسان أن ترفق مع كل أحد إلا معك؛ فإحسانُك إلى نفسك في صورةٍ إساءتُك إليها في ظن الاعتماد، وذلك لارتكابك كل شديدة، ومقاساتك فيه كل عظيمة‏.‏ والإحسان أيضاً ترك جميع حظوظك من غير بقية، والإحسان أيضاً تفرغك إلى قضاء حق كل أحد علَّق عليك حديثه‏.‏ والإحسان أن تعبده على غير غفلة‏.‏ والإحسان أن تعبده وأنت بوصف المشاهدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للهِ‏}‏‏.‏

إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تدب فيها ‏(‏دون‏)‏ التقصير في بعض أحوالها‏.‏

وفي التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك‏.‏

وعلى لسان الإشارة الحج هو القَصْد؛ فَقَصْدٌ إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص‏.‏

وكما أن الذي يحج بنفسه يُحْرِمُ ويَقِفُ ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه؛ فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى، وإطلاق خواطر المنى، وما في هذا المعنى‏.‏ ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك‏.‏

وأفضل الحج الشُّج والعجَّ؛ الشَّجُّ صَبُّ الدَّم والعجُّ رفع الصوت بالتلبية، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين الخلاف، ورفع أصوات السِّر بدوام الاستغاثة، وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة‏.‏ وموقف النفوس عَرَفات وموقف القلوب الأسامي والصفات لِعِزِّ الذات ‏(‏عند‏)‏ المواصلات‏.‏ ثم طواف القلوب حول ‏(‏مشاهدة‏)‏ العز، والسعي بالأسرار بين صَفَّيِّ كشف الجلال ولطف الجمال‏.‏

ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات، والمنى والمعارضات‏:‏ بكل وجه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ‏}‏‏.‏

الحصر بأمرين بعدو أو مرض‏.‏

والإشارة فيه إنْ استولى عدو النفس فلم تجد بداً من الإناخة بعقوة الرُّخَص وتأويلات العلم فعند ذلك تتحلل بموجب العذر والاضطرار إذ لا مزاحمة مع الحُكمْ‏.‏ ‏{‏الهَدْىِ‏}‏ الذي يهدي به عند التحلل بالعذر، والخروج عن المعلوم، وتسليمه للفقراء، وانتظار أن يزول الحصر فيستأنف الأمر‏.‏ وإن مَرِضَتْ الواردات وسَقِمتْ القصود وآل الأمرُ إلى التكليف فليجتهد ألا ينصرف كما أنه في الحج الظاهر يجتهد بألا ينصرف لكل مرض أو إن احتاج إلى اللبس والحلق وغير ذلك- بشرط الفدية‏.‏

ثم إن عجز، اشترط أن محله حيث حسبه فكذلك يقوم ويقعد في أوصاف القصد وأحكام الإرادة، فإِن رجع- والعياذ بالله- لم يُقابَلْ إلا بالردِّ والصد، وقيل‏:‏

فلا عن قِلى كان التقرب بيننا *** ولكنه دهر يُشِتُّ ويجمع

وقال الآخر‏:‏

ولستُ- وإنْ أحببتُ مَنْ يَسْكُن الفضا *** بأولِّ راجٍ حاجة لا ينالها

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏‏.‏

يبذل ما أمكنه، ويخرج عن جميع ما يملكه، وعليه آثار الحسرة، واستشعار أحزان الحجبة‏.‏

فمن كان منكم مريضاً *** الخ‏:‏ الإشارة منه أن يبتهل ويجتهد بالطواف على الأولياء، والخدمة للفقراء، والتقرب بما أمكنه من وجود الاحتيال والدعاء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِى الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ‏}‏‏.‏

فإذا تجلت أقمار القصود عن كشوف التعزز، وانجلت غيابة الحجبة عن شموس الوصلة وأشرف نون الإقبال في تضاعيف أيام الوقفة، فليستأنِف للوصلة وقتاً، وليفرش للقربة بساطاً، وليجدد للقيام بحق السرور نشاطاً، ولَيَقُلْ‏:‏ حَيِّ على البهجة فقد مضت أيام المحنة‏.‏

وليُكْمِل الحج والعمرة، وَلْيَسْتَدِم القِيَام بأحكام الصحبة والخدمة‏.‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ‏}‏ بالحجاب لمن لم يُرِه أَهِلَّة الوصلة والاقتراب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏197‏]‏

‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏‏.‏

كما أن الحج بالنفوس أَشْهُرٌ معلومات لا ينعقد الإحرام به إلا فيها، ولا يجوز فعل الحج في جميع السَّنَةِ إلا في وقت مخصوص، من فاته ذلك الوقت فاته الحج- فكذلك حج القلوب له أوقات معلومة لا يصح إلا فيها، وهي أيام الشباب؛ فمن لم تكن له إرادة في حال شبابه فليست له وصلة في حال مشيبه، وكذلك من فاته وقت قصده وحال إرادته فلا يصلح إلا للعبادة التي آخرها الجنة، فأما الإرادة التي آخرها الوصلة‏.‏‏.‏ فلا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الحَجِّ‏}‏‏.‏

كذلك الإشارة لمن سلك طريق الإرادة ألا يُعرِّج على شيء في الطريق، ولا يمزج إرادته بشيء‏.‏ فمن نَازَعه أو عَارَضَهُ أو زاحمه- سَلَّم الكل للكل، فلا لأجل الدنيا مع أحدٍ يخاصم، ولا لشيء من حظوظ النَّفْس والجاه مع أحد يزاحم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ‏}‏‏.‏

تكتفي بِعِلْمِه وحُكْمِه عن شهود خَلْقِه وحُكْم خلْقِه وعلم خلْقِه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

تقوى العامة مُجانبة الزلات، وتقوى الخواص مجانبة الأغيار بالسرائر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَبِّكُمْ‏}‏‏.‏

الإشارة فيه أن ما تبتغي من فضل الله مما يُعينك على قضاءِ حقِّه، ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدين- فهو محمود‏.‏ وما تطلبه لاستيفاء حظك أو لما فيه نصيب لنفسك- فهو معلول‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعِرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ‏}‏‏.‏

الإشارة فيه إذا وقفت حتى فمت بحق طلبه فاذكر فضله معك؛ فلولا أنه أَرَادَكَ لما أَرَدْتَهُ، ولولا أنه اختارك لما آثرتَ رضاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏‏}‏

الإشارة فيه ألا تعلم نفسك بما تمتاز عن أشكالك في الظاهر؛ لا بلبسة ولا بخرقة ولا بصفة، بل تكون كواحد من الناس، وإذا خطر ببالك أنك فعلت شيئاً، أو بك أو لك أو معك شيء فاستغفرْ اللهَ، وجَدِّدْ إيمانك فإنه شِرْكٌ خَفِيٌّ خَامَرَ قلبَك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أشَدَّ ذِكْرًا‏}‏‏.‏

‏{‏قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمٍ‏}‏ إشارة إلى القيام بحق العبودية‏.‏

‏{‏فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ‏}‏ إشارة إلى القيام بحق المحبة‏.‏

قضاء المناسك قيامٌ بالنفس‏.‏

‏{‏فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ‏}‏ قيامٌ له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر‏.‏

ويقال كما أنَّ الأغيار يفتخرون بآبائهم، ويستبشرون بأسلافهم فَلْيَكُنْ افتخاركم بنا واستبشاركم بنا‏.‏

ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقُّ التربية فحقُّنا عليكم أوجب، وأفضالنا عليكم أتم‏.‏

ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال‏.‏

ويقال إنك لا تملُّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك، فاسْتَدِمْ ذِكرنا، ولا تَعْترِضَنَّكَ ملالة أو سآمة أو نسيان‏.‏

ويقال إنْ طَعَنَ في نَسَبِكَ طاعِنٌ لم ترضَ فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبِدَعِ فَذُبَّ عنَّا‏.‏

ويقال الأبُ يُذكَرُ بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية‏.‏

وقال ‏{‏كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ‏}‏ ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يُذكَر احتراماً والأم تُذكَر شفقةً عليها، والله يَرْحَم ولا يُرْحَم‏.‏

‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ لأن الحقَّ أحقُّ، ولأنك قد تستوحش كثيراً عن أبيك، والحقُّ سبحانه مُنَزَّهٌ عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضي الواجب حتى إن كان ذرة‏.‏ وقوله ‏{‏كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ‏}‏ الأب علىما يستحقه والرب على ما يستحقه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ‏}‏‏.‏

خطاب لو قاله مخلوقٌ لَكَ كان شاكراً، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة، ولكن بفضله أَحَلَّكَ محل أن يشكو إليك فقال‏:‏ مِنَ الناس من لا يجنح قلبه إلينا، ويرضى بدوننا عنَّا، فلا يبصر غير نفسه وحظِّه، ولا يمكن إيمان له بربه وحقِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏201‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏‏}‏

إنما أراد بها حسنة تنتظم بوجودها جميع الحسنات، والحسنةُ التي بها تحصل جميع الحسنات في الدنيا- حفظُ الإيمان عليهم في المآل؛ فإِنَّ مَنْ خرج من الدنيا مؤمناً لا يخلد في النار، وبفوات هذا لا يحصل شيء‏.‏ والحسنة التي تنتظم بها حسنات الآخرة- المغفرة، فإذا غفر فبعدها ليس إلا كل خير‏.‏

ويقال الحسنة في الدنيا العزوف عنها، والحسنة في الآخرة الصون عن مساكنتها‏.‏ والوقاية من النار ونيران الفُرقة إذ اللام في قوله ‏{‏النَّارَ‏}‏ لام جنس فتحصل الاستغاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة جميعاً‏.‏

ويقال الحسنة في الدنيا شهود بالأسرار وفي الآخرة رؤية بالأبصار‏.‏

ويقال حسنة الدنيا ألا يُغنيك عنك وحسنة الآخرة ألا يردك إليك‏.‏

ويقال حسنة الدنيا توفيق الخدمة وحسنة الآخرة تحقيق الوصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏202‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا‏}‏‏.‏

إن كان خيراً فخير وإن كان غيراً فغير‏.‏ ‏{‏واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ‏}‏ للعوام في الفرصة، وللخواص في كل نَفَس‏.‏

ويقال ذكر فريقين‏:‏ منهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا، والثاني يقول في الدنيا والعقبى، وثالث لم يذكرهم وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لأمره، الساكنون عن كل دعاء واقتضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

هذه صفة أواخر النسك، وهو الرمي في أيام مِنًى لما قدموا بأركان الحج خَفَّفَ عنهم بأن خَيَّرهم في المقام والإفاضة والتعجيل في التفريق‏.‏

والإشارة منه أَنَّ مَنْ خمدت نفسهُ، وَحى قلبُه واستدام بحقائق الشهود ‏(‏سِرُّه‏)‏‏.‏

فإنْ سَقطَ عنه شيء من فروع الأوراد ففيما هو له مستديمُ من آداب الحضور عِوَضٌ عن الذي يفوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏‏}‏

أخبر أن قوماً أعرض الحق سبحانه وتعالى عن قلوبهم فأعطاهم في الظاهر بَسْطَةً في اللسان ولكن ربط على قلوبهم أسباب الحرمان؛ فَهُمْ في غطاء جهلهم، ليس وراءهم معني، ولا على قولهم اعتمادٌ، ولا على إيمانهم اتِّكَالٌ، ولا بهم ثقةٌ بوجهٍ‏.‏

والإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم تساعدهم أنوار البصيرة فهم مربوطون بأحكام الظاهر؛ لا لهم بهذا الحديث إيمان، ولا بهذه الجملة استبصار، فالواجبُ صونُ الأسرار عنهم فإنهم لا يقابِلون هذا الحديث إلا بالإنكار، وإن أهل الوداعة من العوام الذين في قلوبهم تعظيم لهذه الطريقة، ولهم إيمان على الجملة بهذا الحديث لأقرب إلى هذه الطريقة من كثيرٍ ممن عدَّ نفسه من الخواص وهو بمعزل عن الإيمان بهذا الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

الإشارة لِمَنْ سَعْيُه مقصورٌ على استجلاب حظوظه، فهو لا يبالي بما يَنْحَلُّ من عُرى الدين، ويهيئ من أسباب الإسلام، بعدما تَشتد حبال دنياهم، وتنتظم أسباب مناهم، من حرام جمعوه، وحُطام حَصلَّوه‏.‏ فإذا خَلَوْا لوساوسهم وقصودهم الردية سَعَوْا بالفساد بأحكام أسباب الدنيا، واستعمالهم مَنْ يستعينون بهم في تمشية أمورهم مِنَ القوم الذين نزع الله البصيرة من قلوبهم‏.‏

‏{‏وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ‏}‏‏:‏ ما كان فيه خراب الأمور الدينية ونظام الأحوال الدنيوية فهو الفاسد الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏‏}‏

هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبُّر، وزال عنهم خضوعُ الإنصاف؛ فَشَمَخَتْ آنافُهم عن قبول الحق فإِذا أمرته بمعروف قال‏:‏ ألمثلى يقال هذا‏؟‏‏!‏

وأنا كذا وكذا‏!‏ ثم يكبر عليك ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فيقول‏:‏ وأنت أَوْلى بأن تؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا‏.‏

أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلَّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء وصفه، لم يطوِ على نصيحة جنبيه وتبقى في القلب- إلى سنين- آثارها‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ يعني ما هو فيه في الحال من الوحشة وظلمات النَّفْس وضيق الاختيار حتى لا يسعى في شيء غير مراده، فيقع في كل لحظة غير مرة في العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏207‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم، والله رؤوف بالعباد‏:‏ ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏208‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏‏}‏

كلَّف المؤمِنَ بأن يُسالِمَ كل أحدِ إلا نَفْسَه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده؛ فإن مَنْ سَالَم نَفْسَه فَتَرَ عن مجاهداته، وذلك سبب انقطاع كل قاصد، وموجِبُ فترةِ كل مريد‏.‏

و ‏{‏خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ‏}‏ ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وتركِ نزعاتٍ لا عِبْرة بها، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليها، بل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلقِيهِ فِى اليَمِّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ ثم أَبْصِرْ ما الذي فعل به حين أَلْقَتْه، وكيف ردَّه إليها بعدما نجَّاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏209‏]‏

‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏‏}‏

الزَّلةُ الواحدةُ بعد كشف البرهان أقبحُ من كثيرٍ منها قبل ذلك، ومَنْ عُرِفَ في الخيانة لا يُعْتَمد عليه في الأمانة‏.‏ ومحنة الأكابر إذا حلَّت كان فيها استئصالهم بالكلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةِ‏}‏‏.‏

استبطأ القومُ قيامَ الساعةِ فإُخبروا عن شدة الأمر إذا قامت الساعة بتفصيل ما ذكر‏.‏

وتلك أفعال في معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال في علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد‏.‏ ‏{‏وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ‏}‏ أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق‏.‏ ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها إذ الحق سبحانه مُنَزَّهُ عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

فائدة السؤال ليقرر عليهم بالسؤال الحجة، لا ليُقرِر للرسول صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ما أشكل عليهم من واضح المحبة‏.‏

‏{‏وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ‏}‏ بزوال تلك النعمة‏.‏ وعند ذلك يعرفون قدرها، ثم يَنْدُبُونَها ولا يصلون إليها قط، قال قائلهم‏:‏

ستهجرني وتتركني *** فتطلبني فلا تَجَدِ

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

مكروا فلم يشعروا، وحملهم اشتداد الظلمة على بصائرهم على الوقيعة في أوليائه سبحانه، والسخرية منهم، وحين تقشعت غواية الجهل عن قلوبهم ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ علموا مَنْ الخاسر منهم مِن الذي كان في ضلال بعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

يعني الغيبة عن الحق جمعتهم، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رُزقوا من أنوار البصيرة وحُرِموها‏.‏ ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم، وبمجيء الرسل تهود قوم وتَنَصَّر قوم، ثم في العاقبة يُرَدُّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير، وإن الناس اجتمعوا كلهم في علمه سبحانه ثم تفرَّقوا في حكمه، فقوم هداهم وقوم أغواهم، وقوم حجبهم وقوم جذبهم، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان، فلا مِنْ المقبولين أمر مكتسب، ولا لمردِّ المردودين سبب، بل هو حُكْمُ بُتَّ وقضاءٌ جُزِم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

خلق الله الجنة وحفَّها بالمصاعب، وخلق النار وحفَّها بالشهوات والرغائب، فَمنْ احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال‏.‏ ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنونٍ من مقاساة الشدائد، وكلُّ من أُلحِقَ بهم من خلف الأولياء أدخلهم في سِلْكِهِمْ، وأدرجهم في غمارهم، فمن ظنَّ غير ذلك فَسَرَابٌ ظَنَّه ماءً، وحكم لم يحصل على ما ظَنه تأويلاً‏.‏ ولقد مضت سُنَّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا يُنيخُونَ بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم التَرَقُّبُ صَادَفَهم اللطفُ بغتةً وتحقق لهم المُبْتَغَى فجأة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏‏}‏

علموا أن العبد غير منفردٍ بالفاعلية أن يفعل، فإنَّ العبد ليس له فعل شيء إلا بإذن مولاه فتوقفوا في الإنفاق على ما يشير إليه تفصيل الإذن، لأنَّ العبوديَة الوقوفُ حيثما أوقفك الأمر‏.‏

ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى‏.‏ وإنَّ ما طالعوه تفاصيلُ الأمر وإشارات الشرع‏.‏ والواو في هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى‏}‏ تشير إلى نوعٍ من الترتيب؛ فالأوْلى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

صعبت على النفوس مباشرة القتال، فبيَّن أن راحات النفوس مؤجلة لأنها في حكم التأديب، وبالعكس من هذا راحات القلوب فإنها معجلة إذ هي في وصف التقريب، فالسعادة في مخالفة النفوس؛ فمن وافقها حاد عن المحبة المثلى، كما أن السعادة في موافقة القلوب فمن خالفها زاغ عن السُنَّة العليا‏.‏

وبشرى ضمان الحق باليُسْر أَوْلَى ان تُقْبَل من محذرات هواجس النفوس في حلول العسر وحصول الضر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ‏}‏‏.‏

من المعاصي ما يكون أشد من غيره وأصعب في المعنى، فسوء الأدب على الباب لا يُوجِب ما يُوجبه على البساط؛ فإذا حصلت الزلة بالنَّفْس فأثرها بالعقوبة المؤجلة وهي الاحتراق، وإذا زلّ القلب فالعقوبة معجلة وهي بالفراق، وأثر الغفلة على القلوب أعظم من ضرر الزلة على النفوس، فإن النفس عن الحظ تبقى، والقلب عن الحق يبقى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عِن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

الإشارة من هذا أن أهل الغفلة إذا راودوك أرادوا صَرْفَكَ إلى ما هم عليه من الغفلة، فلا يرضون إلا بأن تفسخ عقد إرادتك بما تعود إليه من سابق حالتك، ومَنْ فسخ مع الله عهده مَسخَ قلبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

إن الذين صدقوا في قصدهم، وأخلصوا في عهدهم، ولم يرتدوا في الإرادة على أعقابهم، أولئك الذين عاشوا في رَوْحِ الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏219- 220‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَسْئِلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا‏}‏‏.‏

الخمر ما خامر العقول، وكما أن الخمر حرام بعينها بالسُكْر حرام بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حُرِّمت الخمر بعينها، والسُكْر من كل شراب»، فمن سَكِرَ من شراب الغفلة استحق ما يستحق شارب الخمر من حيث الإشارات، فكما أنَّ السكران ممنوع من الصلاة فصاحب السُكْر بالغفلة محجوب عن المواصلات وأوضح شواهد الوجود، فمَنْ لم يُصَدِّقُ فَلْيُجَرِّب‏.‏

ومعنى القمار موجود في أكثر معاملات أهل الغفلة إذا سلكوا طريق الحِيَل والخداع والكذب في المقال‏.‏ وبذلُ الصدقِ والإنصاف عزيزٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏‏.‏

قيل العفوُ ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص يخرجون من فاضل أموالهم عن قدر كفاياتهم، فأمَّا خواص الخواص فطريقهم الإيثار وهو أن يُؤثِر به غيرَه على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثِر به غيباً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏‏.‏

إصلاح حالهم بما يكون في تأديبهم أتَمّ من إصلاح مالهم، ثم الصبر على الاحتمال عنهم مع بذل النصح، و‏(‏مفارقة المال مَنْ مِنْ إرشادهم خير من الترخص بأن يقول إنه لا يتوجه على فرضيهم‏)‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

فيُعاملُ كلاً على سواكن قلبه من القُصُود لا على ظواهر كَسْبِه من جميع الفنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

صلة حبل الدين والتمسك بعصمة المسلمين أتم من الرضا بأن تنتهي إلى أحدٍ يسلك إلى الكفر، ولئن كانت رخصة الشريعة حاصلة في فعله فإشارة الحقيقة مانعة من حيث التبرئة عن اختياره، هذا في الكتابيات اللاتي يجوز مواصلتهن، فأما أهل الشِرْك فحرامٌ مواصلتهم قطعاً، وأوجهُ مباينتهم في هذا الباب حُكْمٌ جَزْمٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏222‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ اَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِى المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ‏}‏‏.‏

ليس كل ما يكون موجب الاستحياء والنفور مما هو باختيار العبد، فقد يكون من النقائص ما ليس للعبد فيه كسب، وهو ابتداءً حكمُ الحق، فمن ذلك ما كتب الله على بنات آدم من تلك الحالة، ثم أُمِرْنَ باعتزال المُصَلَّى في أوان تلك الحالة، فالمصلِّى مناجٍ ربَّه، فَيُحيِّن عن محل المناجاة حكماً من الله لا جُرْماً لهن‏.‏ وفي هذا إشارة فيقال‏:‏ إنهن- وإنْ مُنِعْنَ عن الصلاة التي هي حضور بالبدن فلم يحجبن عن استدامة الذكر بالقلب واللسان، وذلك تعرض بساط القرب، قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عنه تعالى‏:‏ «أنا جليس من ذكرني»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ‏}‏‏.‏

يقال يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب‏.‏

ويقال التوابين من الزلة، والمتطهرين من التوهم أن نجاتهم بالتوبة‏.‏

ويقال التوّابين من ارتكاب المحظورات، والمتطهرين من المساكنات والملاحظات‏.‏

ويقال التوّابين بماء الاستغفار والمتطهرين بصوب ماء الخجل بنعت الانكسار‏.‏

ويقال التوَّابين من الزلة، والمتطهرين من الغفلة‏.‏

ويقال التوَّابين من شهود التوبة، والمتطهرين من توهم أن شيئاً بالزلة بل الحكم ابتداء من الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏223‏]‏

‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

لمَّا كانت النفوس بوصف الغيبة عن الحقيقة أباح لها السكون إلى أشكالها إذا كان على وصف الإذن، فلمَّا كانت القلوب في محل الحضور حرم عليها المساكنة إلى جميع الأغيار والمخلوقات‏.‏

‏{‏وَقَدِّموا لأَنْفُسِكُمْ‏}‏ من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال‏:‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُّلاقُوهُ‏}‏ فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏224‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏‏}‏

نزهوا ذكْرَ ربكم عن ابتذاله بأي حظ من الحظوظ‏.‏

ويقال لا تجعلوا ذكر الله شركاً يُصْطَاد به حطام الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏225‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏‏}‏

ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطرٍ في الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيراً فجزاءٌ جميل، وإن كان شراً فعناءٌ طويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏226‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

إذا كان حق صحبة الأشكال محفوظاً عليك- حتى لو أَخْلَلْتَ به- وأخَذَكَ بحكمه‏:‏ فحقُّ الحقِّ أَحَقُّ بأن تجب مراعاته‏.‏ «فإن فاؤوا» أي رجعوا إلى إحياء ما أماتوا، واستدراك ما ضيَّعوا ف ‏{‏إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ فلما تقاصر لسان الزوجة- لكونها أسيراً في يد الزوج- تَوَلَّى الله- سبحانه- الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏227‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏‏}‏

إنْ ملَّ حق صحبتها، وأكَّد العزم على مفارقتها فإن الله مطلع على حاله وسره، فإن بدا له بادٍ من ندم فلا يُلبِس بأركان الطلاق فإن الله سبحانه عليم أنه طلَّقها‏.‏

ولمَّا كان الفراق شديداً عَزَّى المرأة بأن قال إنه ‏{‏السَّمِيعُ‏}‏ أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏228‏]‏

‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ‏}‏‏.‏

أمَرَ المطلقات بالعِدَّة احتراماً لصحبة الأزواج، يعني إنْ انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سَلَفَ من الصحبة، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة؛ فاصبروا حتى يمضي مقدار من المدة‏.‏ ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة‏؟‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ‏}‏‏.‏

يعني إنْ انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النَّسَبِ‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ‏}‏‏.‏

يعني مَنْ سَبَقَ له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع في النكاح من الثلمة‏.‏

‏{‏فِى ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا‏}‏‏.‏

يعني أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعدما أرجعها‏.‏

‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ‏}‏‏.‏

يعني إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال‏.‏ ‏{‏وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

في الفضيلة، ولهن مزية في الضعف وعجز البشرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏229‏]‏

‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مّرَّتَانِ‏}‏‏.‏

ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تسارع إلى إتمام الفراق، وقيل في معناه‏:‏

إنْ تَبْيَنْتُ أَنَّ عَزْمَكِ قتلى *** فذريني أضني قليلاً قليلا

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏‏.‏

إمَّا صحبة جميلة أو فُرْقة جميلة‏.‏ فأمَّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مَرَْضِيٍ في الطريقة، ولا محمود في الشريعة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً‏}‏‏.‏

فإِن في الخبر «العائد في هبته كالعائد في قَيْئِه» والرجوع فيما خرجتَ عنه خِسَّة‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏}‏‏.‏

يعني إنْ أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنَّ النفس تساوي لصاحبها كل شيء، والرجال إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئاً فلا أقلَّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شيء من المال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏

هذه آداب يُعَلِّمكمها الله ويَسُنُّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏230‏]‏

‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏‏.‏

الرجلُ يَشُقُّ عليه أن ينكحَ زوجتَه غيرُه فمنعه عن اختيار الفراق بغاية الفراق بُغْية المنع لما بيَّن أنها لا تحل له إن فارقها إلا بأن تفعل غاية ما يشق عليه وهو الزواج الثاني لِيَحْذَرَ الطلاق ما أمكنه‏.‏ ثم قال‏:‏ «فإنْ طَلَّقَها» يعني الزوج ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ يعني تتزوج بالزوج الأول‏.‏

والإشارة فيه أن استيلاء المحبة على القلب يُهَوِّن مُقاساة كلِّ شديدة؛ فلو انطوى الزوجان بعد الفرقة على التحسُّر على ما فاتهما من الوصلة، وندما على ذلك غاية الندامة فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمرأة في هذه الحالة كأنها ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ من الزوج الأول بمكان الزوج الثاني والزوج كالآتي على نفسه في احتمال ذلك‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

يعني لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانياً إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه، قال قائلهم‏:‏

ولقد حلفت لئن لقيتك مرةً *** ألا أعود إلى فراقك ثانية

تفسير الآية رقم ‏[‏231‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏‏}‏

تضمنت الآية الأمر بحسن العِشْرة، وتَرْكِ المغايظَة مع الزوجة، والمحك على وجه اللجاج؛ فإِمَّا تخلية سبيلٍ من غير جفاء أو قيامٌ بحق الصحبة على شرط الوفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏232‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

تضمنت الآية نهي الأولياء عن مضارتهن، وتركَ حمية الجاهلية، والانقيادَ لحكم الله في تزويج النساء إنْ أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية‏.‏

بل إذا رضيت بكفوٍ يخطبها فحرام عليكم ظلمها‏.‏ والتذويبُ عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشَدُّ مجاهدةً وأصدقُ معاملة لله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏}‏‏.‏

غايةُ الرحمة التي يُضْرب بها المَثَلُ رحمةُ الأمهات؛ فأَمَرَ الله سبحانه الأمهاتِ بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حَوْلَين كاملين، وقطعُ الرضاعة عنه قبل الحولين إشارةٌ إلى أن رحمة الله بالعبد أتمُّ من رحمة الأمهات‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ‏}‏‏.‏

يعني الأب عليه رزقهن وكسوتهن- أي المرضعات- بالمعروف‏.‏ لمَّا يَنُبْن عنك وَجَبَ حَقَّهُن عليك، فإِنَّ مَنْ لك كله فعليك كله‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏.‏

ادخارُ المستطاع بُخْلٌ، والوقوفُ- عند العجز- عذر‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا‏}‏‏.‏

في الإرضاع وما يجب عليه‏.‏

‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ‏}‏‏.‏

يعني الوالد بولده يعني فيما يلزم من النفقة والشفقة‏.‏ فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود‏.‏

ثم قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَّا آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

يعني فطاماً قبل الحولين، فلا جناح بعدما كان القصد الصلاح‏.‏ اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة، وتعليم محاسن الأخلاق في أحكام العسرة وإن من لا يَرْحَم لا يُرْحَم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يُقَبِّل أولاده‏:‏ «إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏234‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

لمّا كان حق الميت أعظم لأن فراقه لم يكن بالاختيار كانت مدة الوفاء له أطول‏.‏ وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام سَنَةً، ثم رُدت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتتحقق براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوجٍ آخر‏.‏ والميت لا يستديم وفاءه إلى آخر العمر أحدٌ كما قيل‏:‏

وكما تَبْلى وجوهٌ في الثرى *** فكذا يَبْلَى عليهن الحَزَن

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِى أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏‏.‏

أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة‏.‏ وحُرِّمَ منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عِدةٌ بِجُزْمٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏‏.‏

أي تنقضي عدة الأول فإِن حُرْمة الماضي لا تضيع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏236‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏‏}‏

إنْ ابتلاءَ تَمَّ بوصيلة أشكالكم ثم بدالكم فلا جناح عليكم في اختيار الفرقة- إذا أردتم- فإن الذي لا يجوز اختيار فرقته- واحد؛ فأَما صحبة الخَلْق بعضهم مع بعض فليس بواجب، بل غاية وصفة أنه جائز‏.‏

ولمَّا وقع عليهن اسمكم فنصف المسمَّى يجب لهن، فإِن الفراق- كيفما كان- فهو شديد، فجعل ما يستحق من العوض كالخَلفِ لها عند تجرع كأس الفرقة‏.‏

فإن لم يكن مسمًّى فلا يخلو العقد من متعة؛ فإن تجرع الفرقة- مجرداً عن الراحة- بلاء عظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏237‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏}‏‏.‏

ثم ذكر أن العفو أتم وأحسن، إمَّا من جهة المرأة في النصف المستحق لها، أو من قِبَل الزوج في النصف العائد إليه‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل بالفرض‏.‏

ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل، وإن من سُنَّةِ الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم في اقتناء أسباب الفضل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏238‏]‏

‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏‏}‏

المحافظة على الصلاة أن يدخلها بالهيبة، ويخرج بالتعظيم، ويستديم بدوام الشهود بنعت الأدب، والصلاة الواسطى أيهم ذكرها على البيت لتراعي الجميع اعتقاداً منك لكل واحدة أنها هي لئلا يقع منك تقصير في شيء منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏239‏]‏

‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏‏}‏

أي لا تُخِلُّوا بمناجاتي لأوقاتها على الوصف الذي أمكنكم فإن ما تحسونه من أعدائكم أنا سلّطتُهم عليكم، فإذا خلوتم بي بقلوبكم قصرت أيديهم عنكم، وجعلت لكم الظفر عليهم، ثم إذا زال عنكم الخوف وأمنتم فعودوا إلى استقراركم باستفراغ أوقاتكم في الاعتكاف بحضرتي سراً وجهراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏240‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏‏}‏

كانت عِدَّةُ الوفاة في ابتداء الإسلام سَنَةً مستديمة كقول العرب وفعلهم ذلك حيث يقول قائلهم‏:‏

إلى الحول ثم اسم السلام عليكم *** ومَنْ لبَّاك حولاً كاملاً فقد اعتذر

ثم نُسِخَ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بد من انتهاء مدة الحداد ولقد قال قائلهم‏:‏

قال‏:‏ لو مِتَّ لم أَعِشْ *** قلتُ‏:‏ نافقتَ فاسْكُتِ

أي حيٍ رأيْتَه *** ماتَ وَجْداً بِمَيِّتِ‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏241‏]‏

‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلِلمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

الإشارة ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏242‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏‏}‏

الدلائلَ، فتتأدبوا بما أشير عليكم، وتفلحوا بما تعقلون من إشارات حكمي‏.‏