فصل: تفسير الآية رقم (28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

أخبر- سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصَّى عليه مقدورٌ لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقُدْرَتُه عامَّةُ التعلق‏:‏ فلا المشقة تجوز في صفته ولا الرفاهية‏.‏ فالخلْقُ الأول والإعادة عليه سِيَّان؛ لا مِنْ هذا عائدٌ إليه ولا من ذاك، لأن قِدَمَه يمنع تأثير الحدوث فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون‏.‏ فالحمد بمعنى الشكر، وإنما يشكر العبدُ على النعمة والآية تدل على أنهم- وهم في قبورهم- في نعمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

القولُ الحسنُ ما يكون للقائل أن يقوله‏.‏ ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحَسَنِ، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركُه‏.‏ ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه‏.‏ ويقال الأحسن من القول إقرار المُحِبَّ بعبودية محبوبه‏.‏

ويقال أحسنُ قولٍ من المذنبين الإقرارُ بالجُرْم، وأحسنُ قولٍ من العارفين الإقرارُ بالعجز عن المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سبحانك لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ وََكِيلاً‏}‏‏.‏

سَدَّ على كلِّ أحدٍ طريقَ معرفته بنفسه ليتعلَّق كُلُّ قلبه بربه‏.‏ وجَعَلَ العواقبَ على أربابها مشتبهةً، فقال ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ‏}‏ ثم قدَّمَ حديثَ الرحمةِ على حديث العذاب، فقال‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ‏}‏ وفي ذلك تَرَجِّ للأمل أَنْ يَقْوى‏.‏

ويوصف العبدُ بالعلم ويوصف الربُّ بالعلم، ولكن العبدَ يعلم ظاهرَ حاله، وعِلْمُ الرب يكون بحاله وبمآله ولهذا فالواجب على العبد أن يقول‏:‏ أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وهذا معنى‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ بِكُمْ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً‏}‏‏.‏

فَضَّل بعضَ الأنبياءِ على بعضِ في النبوةِ والدرجة، وفي الرسالة واللطائف والخصائص‏.‏ وجعل نبيَّنا- صلى الله عليه وسلم- أَفضلهم؛ فهم كالنجوم وهو بينهم بَدْرٌ، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموسٌ وهو شمسُ الشموس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

استعينوا فيما يستقبلكم بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادةُ شيءٍ من دون الله، ولا يضركم تَرْكُ ذلك، ولقد قيل في الخبر‏:‏ «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

يعني الذين يعبدونهم ويدعونهم- كالمسيح وعُزَيز والملائكة- لا يملكون نَفْعَاً لأنفسهم ولا ضَرَّاً، وهم يطلبون الوسيلةَ إلى الله أيْ يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاءَ إحسانَ الله، وطمعاً في رحمته، ويخافون العذاب من الله *** فكيف يرفعون عنكم البَلاءَ وهم يرجون الله ويخافونه في أحوال أنفسهم‏؟‏

ويقال في المَثَلِ‏:‏ تعلُّقُ الخَلْقِ بالخَلْق تعلُّقُ مسجونٍ بمسجون‏.‏

ويقال‏:‏ إذا انضمَّ الفقيرُ إلى الفقيرِ ازداد فاقةً‏.‏

ويقال إذا قاد الضريرُ ضريراً سقطا معاً في البئر، وفي معناه أنشدوا‏:‏

إذا التقى في حَدَبٍ واحدٍ *** سبعون أعمى بمقادير

وسَيَّروا بعضَهم قائداً *** فكُلُّهم يسقط في البير

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

العذاب على أقسام‏:‏ فالألم الذي يَرِدُ على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى مَا يَرِدُ على القلوب والسرائر؛ قعذابُ القلوبُ لأصحابِ الحقائقِ أَحَدُّ في الشِّدَّةِ مِما يُصيب أصحابَ الفقر والقلة‏.‏

ثم إن الحقَّ سبحانه أجرى سُنَّتَه بأن مَنْ وصلت منه إلى غيره راحةٌ انعكست الراحةُ إلى موصلها، وبخلاف ذلك مَنْ وصلت منه إلى غيره وَحْشَةٌ عادت الوحشةُ إلى موصلها‏.‏ ومَنْ سام الناس ظُلْماً وخَسْفَاً فَبِقَدْرِ ظُلْمِه يَعذِّبُه اللَّهُ- سبحانه وتعالى- في الوقت بتنغيص العَيْشِ، واستيلاءِ الغضب مِنْ كلِّ أحدٍ عليه، وتَتَرَجَّمُ ظنونُه وتتقسَّمُ أفكاره في أحواله وأشغاله، ولو ذاق من راحة الفراغ حلاوة الخلوة شظية لَعَلِمَ ما طعم الحياة‏.‏‏.‏ ولكنْ حُرِموا النِّعَم، وما علموا ما مُنُوا به من النِّقَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالأَيَاتِ إِلاَّ أَن كّذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا‏}‏‏.‏

أجرى الله سُنَّتَه أنه إذا أظهر آية اقْتَرَحَتْها أُمَّةٌ من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أَنْ يُعَجِّلَ لها العقوبة، وكان المعلومُ والمحكومُ به ألا يجتاحَ العذابُ القومَ الذين كانوا في وقت الرسول- عليه السلام- لأَجْلِ مَنْ في أصلابهم مِنَ الذين عَلِمَ أنهم يؤمِنُون؛ فلذلك أَجَّرَ عنهم العذاب الذي تعجّلوه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ بِالأَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً‏}‏‏.‏

التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله؛ فإنْ لم يخافوا وَقَعَ عليهم العذاب ثم إنه عَلِمَ أنه لا يفوته شيءٌ بتأخير العقوبة عنهم فَأَخَّر العذابَ‏.‏ وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حُكْمِه وعِلْمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

الإيمانُ بما خَصَصْنَاكَ به امتحان لهم وتكليفٌ، ليتميزَ الصادقُ من المنافقِ، والمؤمنُ من الجاحد؛ فالذين تَدَارَكَتْهُم الحمايةُ وقفوا وثبتوا، وصَدَّقوا بما قيل لهم وحققوا‏.‏ وأما الذين خَامَر الشكُّ قلوبهم، ولم تباشِرْ خلاصةُ التوحيد أسرارَهم، فما إزدادوا بما امتُحِنُوا به إلا تحيُّراً وضلالاً وَتَبَلُّداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

امتنع الشقيُّ وقال‏:‏ لا أسجد لغيرك بوجهٍ سَجَدْتُ لَكَ به، وكان ذلك جهلاً منه، ولو كان بالله عارفاً لكان لأمره مؤثِراً، ولمحيط نفسه تاركاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

لو علقت به ذرَّةٌ من المعرفة والتوحيد لم يحطب على نفسه بالإضلال والإغواء، لكنَّه أقامه الحقُّ بذلك المقام، وأنطقه بماهو لقلوبِ أهلِ التحقيق مُتَّضِح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويتٍ، ولو أَخرَّ عقوبةَ قومٍ فإن ذلك إمهالُ لا إهمال، ومكرٌ واستدراجٌ لا إنعامٌ وإكرامٌ‏.‏

‏{‏وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصًوْتِكَ‏}‏‏:‏ أي افعل ما أمكنكَ، فلا تأثيرَ لفعلك في أحد، فإنَّ المنشئَ والمُبْدِعَ هو الله‏.‏‏.‏ وهذا غاية التهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

السلطان الحجة، فالآية تدل على العموم، ولا حجة للعذر على أحد، بل الحجة لله وحده‏.‏

ويقال السلطان هو التَّسَلُّط، وليس لإبليس على أحدٍ تسلط؛ إذ المقدور بالقدرة ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير في أحد، وعلى هذا أيضاً فالآية للعموم‏.‏

ويقال أراد بقوله‏:‏ ‏{‏عِبَادِى‏}‏ الخواصَ من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قِبَلَ الله، فإن وساوسَ الشيطان لا تضرُّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإن الشيطان إذا قَرُبَ من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم‏.‏

ويقال إنّ فرار الشيطان من المؤمنين أشدُّ من فرار المؤمنين من الشيطان‏.‏

والخواص من عباده هم الذين لا يكونون في أَسْرِ غيره، وأَمَّا مَنْ استعبده هواه‏.‏ واستمكنت منه الأطماع، واستَرقته كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه *** وفي الخبر «تَعِسَ عبد الدرهم تعس عبد الدينار»‏.‏ ويقال في ‏{‏عِبَادِى‏}‏ هم المُتَفَيِّئُون في ظلال عنايته، المُتَبَرُّون عن حَوْلهِم وقُوَّتِهم، المتفرِّدُون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلُّق به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

تعرَّف إلى عباده بخَلْقِه وإنعامه، فما من حادثٍ من عينٍ أو أثرٍ أو طَلَلٍ أو غََبَرٍ إلا وهو شاهِدٌ على وحدانيته، دالٌّ على ربوبيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

وجُبِلَ الإنسانُ على أنه إذا أصابته نقمةٌ، أو مَسَّتْه محنة فَزْعَ إلى الله لاستدفاعها، وقد يُعْتَقَدُ أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله، فإذا أزال اللَّهُ تلك النقمة وكَشَفَ تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا، كأنهم لم يكونوا في ضُرِّ مَسَّهم، وفي معناه أنشدوا‏:‏

فكم قد جهلتم ثم عُدْنا بِحِلْمِنا *** أحباءَنا كم تجهلون‏!‏ وَتَحْلمُ‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

الخوفُ ترقُّبُ العقوبات مع مجاري الأنفاس- كذلك قال الشيوخ‏.‏ وأعرفُهم بالله أخوفُهم من الله‏.‏ وصنوفُ العذابِ كثيرة؛ فكم من مسرورٍ أَوَّل ليْلهِ أصبح في شِدَّة‏!‏ وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النِّعم‏!‏ وفي معناه قالوا‏:‏ إِن من خاف البيان لا يأخذه السُّبات‏.‏ ووصفوا أهل المعرفة فقالوا‏:‏

مستوفزون على رِجْلٍ كأنهمو *** يريدون أن يمضوا ويرتحلوا

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

المراد من قوله‏:‏ ‏{‏بَنِى ءَادَمَ‏}‏ هنا المؤمنون لأنه قال في صفة الكفار‏:‏ ‏{‏وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِّن مُّكْرِمٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ والتكريم التكثير من الإكرام، فإذا حَرَمَ الكافرَ الإكرامَ *** فمتى يكون له التكريم‏؟‏

ويقال إنما قال‏:‏ ‏{‏كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ‏}‏ ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد توضيحاً بأن التكريم لا يكون مقابلَ فِعْلِ، أو مُعَلَّلاً بِعِلةٍ، أو مُسَبّباً باستحقاقٍ يوجب ذلك التكريم‏.‏

ومن التكريم أ، هم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة‏.‏

ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خَاطَبَه، وإذا أراد أن يسأل شيئاً سأله‏.‏

ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته، فلو تكرر منه جُرْمُه ثم توبته يضاعف له قبولَه التوبة وعفوَه‏.‏

ومن التكريم أنه إذا شَرَعَ في التوبة أَخَذَ بيده، وإذا قال‏:‏ لا أعود- يقبل قولَه وإِنْ عَلِمَ أنه ينقض توبته‏.‏

ومن التكريم أنه زَيَّنَ ظاهرَهم بتوفيق المجاهدة، وحَسَّنَ باطنَهم بتحقيق المشاهدة‏.‏

ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم، وغفر لهم قبل استغفارهم، كذا في الأثر‏:‏ «أعطيكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني»‏.‏

ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن‏.‏

وكما خَصّ بني آدم بالتكريم خصَّ أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- منهم بتكريم مخصوص، فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ و‏{‏رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ وقوله ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏

ومن التكريم قوله‏:‏

‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏

ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه‏.‏

ومن التكريم لقوم توفيقُ صِدْق القَدَم، ولقوم تحقيقُ علوِّ الهِمَم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَّرِ وَالبَحْرِ‏}‏‏:‏ سَّخر البحر لهم حتى ركبوا في السفن، وسَّخر البرَّ لهم حتى قال‏:‏ ‏{‏لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ويقال محمولُ الكرامِ لا يقع، فإنْ وَقَعَ وَجَدَ مَنْ يأخذ بيده‏.‏

ويقال الإشارة في حملهم في البرِّ ما أوصل إليهم جهراً، والإشارة بحديث البحر‏.‏ ما أفردهم به من لطائف الأحوال سِرَّا‏.‏

ويقال لمّا حَمَلَ بنو آدم الأمانة حملناهم في البر، فَحَمْلٌ هو جزاءُ حَمْلٍ، حَمْلٌ هو فِعْلُ مَنْ لم يكن وحَمْلٌ هو فَضْلُ من لم يَزَل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِيَاتِ‏}‏‏:‏ الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق؛ فَمَنْ لم يكن غائباً بقلبه ولا غافلاً عن ربَّه استطاب كُلَّ رزقٍ، وأنشدوا‏:‏

يا عاشقي إني سَعِدْتُ شراباً *** لو كان حتى علقماً أو صابا

قوله‏:‏ ‏{‏وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلْقْنَا تَفْضِيلاً‏}‏‏:‏ أي الذين فضلناهم على خلقِ كثير، وليس يريد أن قوماً بقوا لم يفضلهم عليهم، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلِّ مَنْ خَلَقْنا، وذلك التفضيل في الخِلْقة‏.‏ ثم فَاضَلَ بين بني آدم في شيء آخر هو الخُلق الحسن، فَجَمَعهم في الخُلقة- التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومَايَزَ بينهم في الخُلق‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ‏}‏‏:‏ هذا للفظ للعموم، والمراد منه الخصوص، وهم المؤمنون، وبذلك يفضل قومٌ على الباقين، ففَضَّل أولياءَه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاقَ الولاية‏.‏

ويقال فضَّلهم بألاَّ ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

إمامُ كلِّ أحدٍ مَنْ يَقْتَدِي به، ولكن *** مِنْ إمامٍ يهتدي به مُقْتَدِيه، وما إمام يتردَّى به مقتديه‏.‏

‏{‏فَمَنْ أُوتَىَ كِتَابَهُ بِيَمِنِهِ فَأَوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ‏}‏‏:‏ لكمالِ صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفِهم وتَرَدّدِهم لا يقرأون كتابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

في الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته‏.‏ في الآخرة عذابُه الفُرقة وتضاف إليها الحُرْقَة- لهذا فهو ‏{‏وَأَضَلُّ سَبِيلاً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

ضربنا عليك سرادقاتِ العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك، فالزَّلَّةُ منك محال، والافتراءُ في نعتك لايجوز *** ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ تشديداتُ البلاء، لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك؛ فإنَّ مَنْ كان أعلى درجةً فَذَنْبُه- لو حصل- أشدُّ تأثيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

لو وكلناكَ ونَْفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة لأَلَمَمْتَ بشيءٍ مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكننا أفردناكَ بالحفظ، فلا تتقاصر عنكَ آثارُه، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنوارُه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذاً لأَذَقْنَاكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية هبوطُ الأكابر على حسب صغودهم، ومِحَنُ الأَحِبَّةِ وإِنْ قَلَّتْ جَلَّتْ، وفي معناه أنشدوا‏:‏

أنت عيني وليس من حقِّ عيني *** غضٌّ أجفانها على الإقذاء

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

مَنْ ظنَّ أنه يستمتع بحياته بعد مضيّ الأَعِزَّة والأكابر غَلِطَ في حسابه، وإن الحسودَ لا يسود‏:‏

وفي تعبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشمسَ ضوءَها *** ويجهد أن يأتي لها بضريب

والأرض كلها مِلْكٌ لنا، ونُقَلِّب أولياءَنا في ترددهم في البلاد وتطوافهم في الأقطار، ترداً على بساطنا، وتقلباً في ديارنا؛ فالبقاع لهم سواء، وأنشدوا‏:‏

فَسِرْ أو أَقِمْ وَقْفٌ عليكَ محبتي *** مكانُكَ من قلبي عليك مصونُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

الحقُّ أمضى سُنَّتَه مع الأولياء بالإنعام، ومع أعدائه بالإدغام، فلا لهذه أو

هذه تحويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

الصلاةُ قَرْعُ باب الرزق‏.‏ والصلاةُ الوقوفُ في محل المناجاة‏.‏

والصلاةُ اعتكافُ القلبِ في مشاهد التقدير‏.‏

ويقال هي الوقوف على بساط النجوى‏.‏ وفَرَّقَ أوقات الصلاة ليكون للعبد عَوْدٌ إلى البساط في اليوم والليلة مراتٍ‏.‏

‏{‏إِنَّ قُرْءَانَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً‏}‏‏:‏ تشهده ملائكة الليل والنهار- على لسان العلم‏.‏ وأَمَّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح- الذي هو وقت إتيانه- يُبْعِدُ منَ النومِ وكَسَلِ النفس فله هذه المزية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

الليل لأحدِ أقوام‏:‏ لطالبي النجاة وهم العاصون مَنْ جَنَح منهم إلى التوبة، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يَجِدُّون في الطاعات، ويسارعون في الخيرات، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عندما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة‏.‏

ويقال الليل لأحد رجلين‏:‏ للمطيع والعاصي‏:‏ هذا في احتيال أعماله، وهذا في اعتذاره عن قبيح أفعاله‏.‏

والمقام المحمود هو المخاطبة في حال الشهود، ويقال الشهود‏.‏

ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر‏.‏ ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خُصَّ به- صلى الله عليه وسلم- بما لا يشاركه فيه أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

أي أدخلني إدخالَ صدقٍ وأَخرجني إخراجَ صدقٍ‏.‏ والصدق أن يكون دخولُه في الأشياء بالله لله لا لغيره، وخروجه عن الأشياء بالله صلى الله عليه وسلم لا لغيره‏.‏

‏{‏وَاجْعَل لِىّ مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً‏}‏‏:‏ فلا ألاحظ دخولي ولا خروجي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

أرد بالحقِّ ها هنا الإسلام والدين، وأراد بالباطل الكفر والشِّرْك، والحقُّ المطلق هو الموجود الحق، والحق المقيد ما كان حسناً في الاعتقاد والفعل والنطق، والباطل نقيض الحق‏.‏ واللَّهُ حقٌّ‏:‏ على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه مُحِقُّ الحق‏.‏

ويقال الحقُّ ماكان لله، والباطل ما كان لغير الله‏.‏

ويقال الحقُّ من الخواطر ما دعا إلى الله، والباطلُ ما دعا إلى غير الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

القرآن شفاءٌ من داء الجهل للعلماء، وشفاءٌ من داء الشِّرْكِ للمؤمنين، وشفاءٌ من داء النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا‏:‏

وكُتْبُكَ حَوْلِي لا تفارق مضجعي *** وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً‏}‏‏:‏ الخطاب خطابٌ واحد، الكتابُ كتابٌ واحد، ولكنه لقوم رحمةٌ وشفاء، ولقوم سخطٌ وشقاء، قومٌ أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشي على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

إذا نزعنا عنه موجباتِ الخوفِ، وأرخينا له حَبْلَ الإمهال، وهَيَّأْ له أسبابَ الرفاهية اعترته مغاليطُ النسيانِ، واستولت عليه دواعي العصيان، فأعرض عن الشكر، وتباعد عن بساط الوفاق‏.‏

ويقال إعراضُه في هذا الموضوع نسيانُه، ورؤية الفضل منه لا من الحقِّ، وتوهمه أنَّ ما به من النِّعم فباستحقاق طاعةٍ أخلصها أو شدةٍ قاساها‏.‏‏.‏ وهذا في التحقيقق شِرْكٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

كُلٌّ يترشح بمُودَع باطنه، فالأَسِرَّةُ تدل على السريرة، وما تُكِنُّه الضمائرُ يلوح على السرائر، فَمَنْ صفا مِنَ الكدورة جوهرهُ لا يفوح منه إلا نَشْرُ مناقبه، ومنْ طبِعَتْ على الكدورِة طينتُه فلا يشمُّ مَنْ يحوم حوله إلا ريحَ مثالبه‏.‏

ويقال حركات الظواهر تدُلُّ وتُخْبِرُ عن بواطنِ السرائر‏.‏

ويقال حَبُّ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ لا يُنْبِتُ غضَّ العود‏.‏

ويقال من عُجِنَتْ بماء الشِّقْوةِ طينتُه، وطُبِعَتْ على النَكرَةِ جِبِلَّتُه لا تسمح بالتوحيد قريحتُه، ولا تنطِقُ بالتوحيد عبارتُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

أرادوا أن يجادلوه ويُغَلِّطُوه فَأَمَرَه أن ينطق بلفظٍ يُفْصِحُ عن أقسام الروح؛ لأَنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظُ ‏{‏الرُّوحِ‏}‏ يدخل تحت قوله تعالى‏:‏

‏{‏قل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبّىَ‏}‏‏.‏

ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه في القالب، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة، ‏(‏وكما يصح أن يكون البَصَرُ محلَّ الرؤية والأذنُ محلَّ السمع‏.‏‏.‏ إلى آخره، والبصير والسامع إنما هو الجملة- وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح، ومحل الأوصاف المذمومة النَّفْس، والحكُم أو الاسمُ راجعٌ إلى الجملة‏)‏‏.‏

وفي الجملة الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأنيخلق الحياة للعبد ما دام الروح في جسده‏.‏

والروح لطيفة تقررت للكافة طهارتها ولطافتها، وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين‏.‏ وقيل إنه أدركها التكليف، وإن لها صفاء التسبيح، وصفاء المواصلات، والتعريف من الحق‏.‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏:‏ لأن أحداً لم يشاهد الروح ببصره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

سُنَّةُ الحقِّ- سبحانه- مع أحبائه وخواص عباده أن يُدِيمُ لهم افتقارهم إليه، ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين لجريانِ حُكْمِه، وألا يتحركَ فيهم عِرقٌ بخلافِ اختياره، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبَه- صلوات الله عليه- بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏‏:‏ فمن كان استقلاله بالله يقدِّم مرادَ سيده- في العزل والولاية- على مراد نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

والمقصودُ من هذا إدامةُ تَفَرُّدِ سِرَّهِ صلى الله عليه وسلم به- سبحانه- دونَ غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

سائر الأنبياء معجزاتُهم باقيةٌ حُكْماً، ونبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- معجزته باقيةٌ عيناً، وهي القرآن الذي نتلوه، والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا مِنْ خَلْفِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

لا شيءَ أَحْظَى عند الأحباب من كتاب الأحباب، فهو شفاء من داء الضنى، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البَلاَ، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وكتبك حولي لا تفارق مضجعي *** وفيها شفاء للذي أنا كاتم

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

اقترحوا الآيات تعد إزاحة العِلَة وزوالِ الحاجة، فَرَكَضُوا في مضمارِ سوءِ الأدب، وحُرِموا الوُصْلة والقُربة‏.‏ ولو أُجِيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جُحْدَاً ونَكرَةٌ، وقد قيل‏:‏

إنَّ الكريمَ إذا حباك بودِّه *** سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا

وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً *** مَلَّ الوصال وقال كان وكانا

‏{‏قُلْ سُبْحَانَ رَبّىِ هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً‏}‏‏:‏ قل يا محمد‏:‏ سبحان ربي‏!‏ مِنْ أين لي الإتيان بما سألتم من جهتي‏؟‏ فهل وَصْفِي إلا العبودية‏؟‏ وهل أنا إلا بَشَر‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

تعجَّبوا مما ليس بمحلِّ شُبهة، ولكن حَمَلَهم على ذلك فَرْطُ جَهْلِهم، ثم أصَرُّوا على تكذيبهِم وجحدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

الجنسُ إلى الجنسِ أميلُ، والشكلُ بالشكلِ آنَسُ، فقال سبحانه لو كان سكانُ

الأرضِ ملائكةُ لَجَعَلْنا الرسولَ إليهم مَلَكاً، فلمَّا كانوا بَشَرَاً فلا ينبغي أن يُسْتَبَعدَ إرسالُ

البشرِ إلى البشرِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

الحقُّ- سبحانه- هو الحاكم وهو الشاهد، ولا يُقَاسُ حُكْمَه على حُكْم الخَلْق، ولا يجوز في صفةِ المخلوقِ أَن يكونَ الحاكمُ هو الشاهد، فكما لا تشبه ذاته ذات الخَلْقِ لا تشبه صفتُه صفةَ الخَلْق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

مَنْ أراده بالسعادةِ في آزاله استخلصه في آباده بأفضاله، ومَنْ عَلِمَه في الأزل بالشقاء وَسمَه وفي أيده بِسِمةِ الأعداء‏.‏ فلا لِحُكْمِه تحويل، ولا لِقَوْلِهِ تبديل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

لمَّا أَصَرُّوا على تكذبيهم جازاهم الحقُّ بإدامة تعذيبهم، ولو ساعدهم التوفيقُ لَوُجِدَ منهم التحقيق، لكنهم عَدِمُوا التأييد فحُرِموا التوحيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

مَهَّدَ بهذه الآية طريق إثبات القياس، فلم يغادر في الكتاب شيئاً من أحكام الدَّين لم يؤيده بالدليل والبيان، فَعَلِمَ الكُلُّ أن الركونَ إلى التقليد عينُ الخطأ والضلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

إذ البُخْلُ غريزةُ الإنسان، والشحُّ سجيته ‏[‏‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ المعروف لا يعرف الخلقة‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ هي أمارات كرامته وعلامات محبته‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلآءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ بَصآئِرَ وإني لأَظُّنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً‏}‏‏.‏

أنت- يا فرعون- سلكتَ طريق الاستدلال فَعِلمْتَ أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا منْ قِبَلِ الله، ولكنَّكََ رَكَنْتَ إلى الغفلةِ في ظلمات الجهل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

أراد فرعونْ إهلاكَ بني إسرائيل واستئصالهم، وأراد الحقُّ- سبحانه- نصرتهم وبقاءهم، فكان ما أراد الحقُّ لا ما كاد اللعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

أورثهم منازلَ أعدائهم، ومكَّنهم من ذخائرهم ومساكنهم، واستوصى بهم شُكرَ نعمته، وعرَّفَهم أنهم إِنْ سلكوا في العصيان مَسْلَكَ مَنْ تَقَدَّمَهم ذاقوا من العقوبة مثلَ عقوبتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

القرآن حقٌ، ونزوله بحق، ومُنَزِّلهُ حق، والمُنَزَّلُ عليه حق، فالقرآن بحقِّ أنزل ومِنْ حقِِّ نزل وعلى حقِّ نزل‏.‏ وقد فَرَّق القرآنَ القرآنَ لِيُهَوِّنَ عيه- صلوات الله عليه- حِفَْظَه، وليكثر تردد الرسول من ربِّه عليه، وليكون نزوله في كل وقت وفي كل حادثة وواقعة دليلاً على أنه ليس مما أعان عليه غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

إنْ آمنتم حَصَلَ النفعُ لكم، وإنْ جَحَدْتُم ففي إيمان مَنْ آمن مِنْ أوليائنا عنكم خَلَفٌ، وإنَّ الضَّرَرَ عائدٌ عليكم‏.‏

وإنَّ مَنْ أَضأْنَا عليهم شموس إقبالنا لتُشْرِقُ أنوار معارفهم؛ فإذا تُليت عليهم آياتُنا سَجَدُوا بَدَل جحْدِهم، واستجابوا بدل تمردهم، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

تأثيره في قلوب قوم يختلف؛ فتأثير السماع في قلوب العلماء بالتبصُّر، وتأثير السماع في أنوار الموحِّدين بالتحير؛ تبصُّر العلماء بصحة الاستدلال، وتحيُّر الموحدين في شهود الجمال والجلال‏.‏

وبكاء كل واحدٍ على حسب حاله‏:‏ فالتائب يبكي لخوف عقوبته لما أَسْلَفَهُ من زَلَّته وحَوْبته، والمطيعُ يبكي لتقصيره في طاعته، ولكيلا يفوته ما يأمله من مِنَّتِه‏.‏

وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم‏.‏

وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين‏.‏ وآخرون يبكون تحسراً على مايفوتهم من الحق‏.‏

والبكاء عند الأكابر معلول، وهو في الجملة يدل على ضعف حال الرجل، وفي معناه أنشدوا‏:‏

خُلِقْنا رجالاً للتجلدِ والأَسَى *** وتلك الغواني للبُكا والمآتِم

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاًمَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَآءُ‏}‏‏.‏

مِنْ عظيم نعمته- سبحانه- على أوليائه تَنَزُّهُهم بأسرارهم في رِياض ذِكْرِه بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة، ومن مَأَنَسٍ إلى مأنس‏.‏

ويقال الأغنياءُ ترددهم في بساتينهم، والأولياءُ تنزههم في مشاهد تسبيحهم، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً‏}‏‏.‏

لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكُلِّها، وارفع صوتك في بعضها دون بعض‏.‏

ويقال ولا تجهر بها جهراً يَسْمَعهُ الأعداءُ، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء‏.‏

‏{‏وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً‏}‏‏:‏ يكون للأحباب مسموعاً، وعن الأجانب ممنوعاً‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ‏}‏‏:‏ بالنهار، ‏{‏وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏‏:‏ بالليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

احْمَدْه بذكر تقدسه عن الولد، وأنه لا شريك له؛ ولا ولي له من الذل؛ إما على أنه لم يَذَلَّ فيحتاج إلى ولي، أو على أنه لم يوالِ أحداً من أجل مذلة به فيدفعها بموالاته‏.‏ ويقال اشكره على نعمته العظيمة حيث عرَّفك بذلك‏.‏

ويقال له الأولياءُ ولكن لا يعتريهم بِذُلِّهم، إذ يصيرون بعبادته أَعِزَّةً‏.‏

‏{‏وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً‏}‏ بأَنْ تَعْلَمَ أَنَّك تصل إليه به لا بتكبيرك‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

إذ حُمِلَ ‏{‏الحَمْدُ‏}‏ هنا على معنى الشكر فإنزالُ الكتابِ من أَجَلِّ نِعَمِهِ، وكتابُ الحبيب لدى الحبيب أجلُّ مَوْقِع وأشرفُ محلِّ، وهو من كمال إنعامه عليه، وإن سمَّاه- عليه السلام- عَبْدَه فهو من جلائل نَعمه عليه لأَنَّ من سمَّاه عَبْدَهَ جَعَلَه من جملة خواصِّه‏.‏

وإذا حُمِلَ ‏{‏الحَمْدُ‏}‏ في هذه الآية على معنى المدح كان الأمر فيه بمعنى الثناء عليه- سبحانه، بأنَّه الملِكُ الذي له الأمرُ والنهيُ والحكمُ بما يريد، وأنه أعدَّ الأحكامَ التي في هذا الكتاب للعبيد، وسمَّاه صلى الله عليه وسلم عبدَه لمَّا كان فانياً عن حظوظه، خالصاً لله بقيامه بحقوقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ‏}‏‏.‏

‏{‏قَيِّماً‏}‏‏:‏ أي صانه عن التعارض والتناقض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز‏.‏

«واليأس الشديد»‏:‏ مُعَجَّلُه الفراق، ومؤجَّلُه الاحتراق‏.‏

ويقال هو البقاء عن الله تعالى، والابتلاء بغضب الله‏.‏

ومعنى الآية لينذرهم ببأس شديد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً‏}‏‏.‏

والعملُ الصالحُ ما يصلح للقبول، وهو ما يُؤدَّى على الوجه الذي أُمِرَ به‏.‏ ويقال العمل الصالح ما كان بنعت الخلوص، وصاحبُه صادقٌ فيه‏.‏

ويقال هو الذي يستعجل عليه صاحبه حَظَّاً في الدنيا مِنْ أَخذ عِوَضٍ، أو قَبُولِ جاهٍ، أو انعقادِ رِياسة *** وما في هذا المعنى‏.‏

وحصلت البشارةُ بأَنَّ لهم أجراً حسناً، والأجرُ الحَسَنُ ما لا يجري مع صاحبه استقصاءُ في العمل‏.‏

ويقال الأجر الحَسَنُ ما يزيد على مقدار العمل‏.‏

ويقال الأجر الحَسَنُ ما لا يُذَكِّر صاحبَه تقصيرَه، ويستر عنه عيوبَ عمله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

البشارة منه أَنَّ تلك النِّعم على الدوام غير منقطعة، وأعظم من البشارة بها قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قالتهُم القبيحةُ نتيجةُ جَهْلِهم بوحدانيةِ الله، ولقد توارثوا ذلك الجهلَ عن أسلافهم؛ والحيَّةُ لا تَلِدُ حَيَّةَ‏!‏

كُبَرتْ كلمتُهم في الإثم لمَّا خَصَّت في المعنى‏.‏ ومَنْ نطق بما لم يحصل له به إذنٌ لَحِقَه هذا الوصف‏.‏ ومَنْ تكلَّمَ في هذا الشأن قبل أوانه فقد دخل في غمار هؤلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

مِنْ فَرْطِ شفقته- صلى الله عليه وسلم- داخَلَه الحزنُ لامتناعهم عن الإيمان، فهوَّن الله- سبحانه- عليه الحالَ، بما يشبه العتابَ في الظاهر؛ كأنه قال له‏:‏ لِِمَ كل هذا‏؟‏ ليس في امتناعهم- في عَدِّنا- أثر، ولا في الدِّين من ذلك ضرر‏.‏‏.‏ فلا عليكَ من ذلك‏.‏

ويقال أشهده جريانَ التقدير، وعَرَّفَه أنه- وإنْ كان كُفْرِهم منْهِيَّاً عنه في الشرع- فهو في الحقيقة مُرَادُ الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا‏}‏‏.‏

ما علىلأرض زينة لها تُدْرَكُ بالأبصار، وممن على الأرض من هو زينة لها يُعْرَفُ بالأسرار‏.‏ وإنَّ قيمةَ الأوطانِ لقُطَّانها، وزينة المساكن في سُكَّانها‏.‏

ويقال العُبَّاد بهم زينة الدنيا، وأهلُ المعرفة بهم زينة الجنة‏.‏

ويقال الأولياءُ زينةُ الأرض وهم أَمانُ مَنْ في الأرض‏.‏

ويقال إذا تلألأت أنوار التوحيد في أسرار المرحدين أشرقت جميع الآفاق بضيائهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏‏.‏

أحسنهم عملاً أصدقهم نِيَّة، وأخلصهم طوية‏.‏

ويقال أحسنهم عملاً أكثرهم احتساباً؛ إذ لا ثوابَ لمن لا حسبة له، أعلى من هذا بل وأَوْلى من هذا فأحسنهم عملاً أشدُّهم استصغاراً لفعله، وأكثرهم استحقاراً لطاعته؛ لشجة رؤيته لتقصير فيما يعمله، ولانتقاصه أفعاله في جنب ما يستوجبه الحقُّ بحقِّ أمره‏.‏

ويقال أحسنُ أعمال المرءِ نَظَرُه إلى أعماله بعين الاستحقار والاستصغار، لقول الشاعر‏:‏

وأكبرهُ من فِعْله وأعظمُه *** تصغيرُه فِعْلَه الذي فَعَله‏.‏

معناه‏:‏ أكبرُ مِنْ فعلِه- الذي هو عطاؤه وبَذْلُه- تقليلُه واستصغارُه لِمَا يُعْطِيه ويجود به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

كَوْنُ ما على الأرض زينةً لها في الحال سُلِبَ قَدْرُه بما أخبر أنه سيُفْنِيهِ في المآل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

أزال الأعجوبةَ عن أوصافهم بما أضافه إلى ربِّه بقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ ءَايَآتِنَا‏}‏؛ فَقَلْبُ العادةِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ ولا مُبْتَدَعٍ‏.‏

ويقال مكثوا في الكهف مدةً فأضافهم إلى مُسْتَقَرِّهم فقال‏:‏ ‏{‏أَصْحَابَ الكَهْفِ‏}‏، وللنفوس مَحَالٌ، وللقلوب مَقَارٌّ، وللهمم مَجَال، وحيثما يعتكف يُطْلَبُ أبداً صاحبه‏.‏

ويقال الإشارة فيه ألا تَتَعَجَّبَ من قصتهم؛ فحالُكَ أعجبُ في ذهابك إلينا في شطر من الليل حتى قاب قوسين أو أدنى، وهم قد بقوا في الكهف سنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

آواهم إلى الكهف بظاهرهم، وفي الباطن فهو مُقِيلُهم في ظلِّ إقباله وعنايته، ثم أخذهم عنهم، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم‏.‏

وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيْئ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَداً‏}‏‏:‏ أي أنهم أَخّذُوا في التبرِّي مِنْ حَوْلِهم وقُوَّتِهم، ورجعوا إلى الله بِصِدْق فَافَتِهم، فاستجاب لهم دعوتَهم، ودفع عنهم ضرورتَهم، وبَوَّأَهم في كنف الإيواء مقيلاً حسناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

أخذناهم عن إحساسهم بأنفسهم، واختطفناهم عن شواهدهم بما استغرقناهم فيه من حقائقِ ما كاشفناهم به من شهود الاحدية، وأطلعناهم عليه من دوام نعت الصمدية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

أي رددناهم إلى حال صحوهم وأوصاف تمييزهم، وأقمناهم بشواهد التفرقة بعد ما محوناهم عن شواهدهم بما أقمناهم بوصف الجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

لمَّا كانوا مأخوذين عنهم تولَّى الحق- سبحانه- أَنْ قصَّ عنهم، وفَرْقٌ بين من كان عن نفسه وأوصافه قاصاً؛ لبقائه في شاهده وكونه غيرَ منتفٍ بجملته‏.‏‏.‏ وبين من كان موصوفاً بواسطة غيره؛ لفنائه عنه وامتحائه منه وقيام غيره عنه‏.‏

ويقال لا تُسَمعُ قصةُ الأحباب أعلى وأَجَلّ مما تُسْمعُ من الأحباب، قال عزَّ من قائل‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ‏}‏، وأنشدوا‏:‏

وحَدَّثْتَنِي يا سَعْدُ عنها فَزِدْتني *** حنيناً فَزِدْني من حديثكَ يا سعدُ

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ‏}‏‏:‏ يقال إنهم فتية لأنهم آمنوا- على الوهلة- بربِّهم، آمنوا من غير مهلة، لمَّا أتتهم دواعي الوصلة‏.‏

ويقال فتية لأنهم قاموا لله، وما استقروا حتى وصلوا إلى الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُُوبِهِمْ‏}‏‏.‏

لاَطفهم بإحضارهم، ثم كاشفهم في أسرارهم، بما زاد من أنوارهم، فلقَّاهم أولاً التبيين، ثم رقّاهم عن ذلك باليقين‏.‏

‏{‏وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏‏:‏ بزيادة اليقين حتى متع نهار معارفهم، واستضاءت شموسُ تقديرهم، ولم يَبْقَ للتردد مجالٌ في خواطرهم، و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في التجريد أسرارهم، وتَمَّتْ سكينةُ قلوبهم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏‏:‏ بأن أفنيناهم عن الأغيار، وأغنيناهم عن التفكُّر بما أوليناهم من أنوار التبصُّر‏.‏

ويقال ربطنا على قلوبهم بما أسكَنَّا فيها من شواهِدِ الغيب، فلم تسنح فيها هواجسُ التخمين ولا وساوس الشياطين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ قَامُوا فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ‏}‏‏.‏

قاموا لله بالله، ومَنْ قام بالله فُقِدَ عمَّا سوى الله‏.‏

ويقال من قام لله لم يقعد حتى يصلَ إلى الله‏.‏

ويقال قعدت عنهم الشهوات فَصَحَّ قيامُهم بالله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَن نَّدْعُوا مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطَاً‏}‏‏.‏

مَنْ أحال الشيءَ على الحوادث فقد أشرك بالله، ومَنْ قال إِنَّ الحوادث من غير الله فقد اتخذ إلهاً مِنْ دون الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

لمَّا لم يكن لهم حجة اتضح فيما ادعوه كذبُهم، فمن اكتفى بِنَفْي القالة دون ما يشهد لقوله من أدلته فهو معلول في نحلته‏.‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏‏؟‏ فمن ذَكَرَ في الدِّين قولاً لم يؤيَّد ببرهان عقلي أو نقلْي فهو مفترٍ، ومَنْ أظهر مِنْ نَفْسه حالاً لم يوجبه صدق مجاهدته أو منازلته فهو على الله مُفْتَرِ‏.‏ والذي يصدق في قوله- في هذه الطريقة- فهو الذي يسمع من الحق بسرِّه، ثم ينطق بلفظه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

العزلةُ عن غير الله توجِبُ الوصلة بالله‏.‏ بل لا تحصل الوصلةُ بالله إلا بعد العُزْلَةِ عن غير الله‏.‏

ويقال لما اعتزلوا ما عَبِدَ من دون الله آواهم الحقُّ إلى كنف رعايته، ومهد لهم مثوىً في كهف عنايته‏.‏

ويقال مَنْ تبرَّأ مِنَ اختياره في احتياله، وصَدَقَ رجوعه إلى الله في أحواله، ولم يستَعِنْ- بغير الله- من أشكاله وأمثاله آواه إلى كَنَفِ أفضاله، وكفاه جميعَ أشغاله، وهَّيأ له مَحَلاً يتفيؤ فيه بَرْدِ ظِلالِه، بكمالِ إقباله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَرىَ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَإذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

كانوا في ُتَّسَعٍ من الكهف، ولكن كان شعاعُ الشمس لا ينبسط عليهم مع هبوب الرياح عليهم‏.‏

ويقال أنوار الشمس تتقاصر وتتصاغر بالإضافة إلى أنوارهم‏.‏

إن نورَ الشمس ضياءُ يستضيءُ به الخَلْقُ، ونور معارفهم أنوار يُعْرَف بها الحق، فهذا نور يظهر في الصورة، وهذا نور يلوح في السريرة‏.‏ وبنور الشمس يدرك الخلْق وبنورهم كانوا يعرفون الحق‏.‏

وفي قوله- عَزَّ اسمه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ‏}‏ فيه دلالة على أن في الأمر شيئاً بخلاف العادة، فيكون من جملة كرامات الأولياء؛ ويحتمل أن يكون شعاعُ الشمسِ إذا انتهى إليهم ازورَّ عنهم، ومضى دونَهم بخلاف ما يقول أصحاب الهبة، ليكونَ فعلاً ناقضاً للعادة فلا يبعد أن يقال إن نور الشمس يُسْتَهْلَكُ في النور الذي عليهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً‏}‏‏.‏

فاللَّه يهْدِي قوماً بالأدلةِ والبراهين، وقوماً بكشف اليقين؛ فمعارفُ الأولين قضية الاستدلال، ومعارف الآخرين حقيقة الوصال، فهؤلاء مع برهان، وهؤلاء على بيان كأنهم أصحاب عيان‏:‏

‏{‏وَمَن يُضْلِلِِ اللَّهُ‏}‏‏:‏ أي مَنْ وَسَمه بِسِمَةِ الحرمان فلا عرفانَ ولا علمَ ولا إيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏‏.‏

هم مسلوبون عنهم، مُخْتَطَفُون منهم، مُستَهلَكون فيما كوشِفوا به من وجود الحق؛ فظاهرهم- في رأي الخَلْق- أنهم بأنفسهم، وفي التحقيق‏:‏ القائمُ عنهم غيرُهم‏.‏ وهم محوٌ فيما كوشفوا به من الحقائق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏‏:‏ وهذا إخبارٌ عن حُسْنِ إيوائه لهم؛ فلا كشفقةِ الأمهات بل أتم، ولا كرحمة الآباء بل أعزُّ *** وبالله التوفيق‏.‏

ويقال إن أهلَ التوحيد صفتهم ما قال الحقُّ- سبحانه- في صفة أصحاب الكهف‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ‏}‏ فَهُمْ بشواهد الفَرْقِ في ظاهرهم، لكنهم بعين الجمع بما كُوشِفوا به في سرائرهم، يُجْرِي عليهم أحوالِهم وهم غير متكلِّفين، بل هم يثبتون- وهم خمودٌ عما هم به- أن تصرفاتِهم القائمُ بها عنهم سواهم، وكذلك في نطقهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏‏.‏

كما ذَكَرَهُم ذَكَر كلبَهم، ومَنْ صَدَقَ في محبة أحدٍ أحبَّ مَنْ انتسب إليه وما يُنْسَبُ إليه‏.‏

ويقال كلبٌ خَطَا مع أحبائه خطواتٍ فإلى القيامة يقول الصبيان- بل الحق يقول بقوله العزيز-‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ‏}‏ فهل ترى أنَّ مُسْلِماً يصحب أولياءَه من وقت شبابه إلى وقت مشيبه يردُّه يوم القيامة خائباً‏؟‏ إنه لا يفعل ذلك‏.‏

ويقال في التفاسير إنهم قالوا للراعي الذي تبعهم والكلب معه‏:‏ اصرف هذا الكلب عنَّا‏.‏‏.‏ فقال الراعي‏:‏ لا يمكنني، فإني أنا ديته‏.‏

ويقال أنطق الله سبحانه- الكلبَ فقال لهم‏:‏ لِمَ تضربونني‏؟‏

فقالوا‏:‏ لِتَنْصَرِفَ عنَّا‏.‏

فقال‏:‏ لا يمكنني أن أنصرف‏.‏‏.‏ لأنه ربَّاني‏.‏

ويقال كلبٌ بَسَطَ يده على وصيد الأولياء فإلى القيامة يقال‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُم باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ *** فهل إذا رَفَعَها مسلمٌ إليه خمسين سنة ترى يرِدُّها خائبةً‏؟‏ هذا لا يكون‏.‏

ويقال لما صَحِبهَم الكلبُ لم تضره نجاسةُ صِفتِهِ، ولا خساسةُ قيمته‏.‏

ويقال قال في صفة أصحاب الكهف إن كانوا ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏، أو ‏{‏خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلُبُهُمْ‏}‏ فقد قال في صفة هذه الأمة‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةِ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وشتَّان ما هما‏!‏

ويقال كُلٌ يُعامَلُ بما يليق به من حالته ورتبته؛ فالأولياء قال في صفتهم‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِبُهُمْ ذَاتَ اليَمينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏، والكلب قال في صفته‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُم باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏‏.‏

ويقال كما كرَّر ذكرَهم، كرر ذكْرَ كلبِهم‏.‏

وجاء في القصة أن الكلبَ لما لم ينصرفْ عنهم قالوا‏:‏ سبيلنا إذا لم ينصرف عنَّا أَنْ نَحْمِلَه حتى لا يُسْتَدَّلَ علينا بأثر قَدَمِه فحملوه، فكانوا في الابتداء ‏(‏بل إياه‏)‏ وصاروا في الأنتهاء مطاياه‏.‏‏.‏ كذا مَنْ اقتفى أَثَرَ الأحباب‏.‏

ويقال في القصة إن الله أنطق الكلب معهم، وبِنُطْقِه رَبَطَ على قلوبهم بأَنْ أزدادوا يقيناً بسماع نطقه، فقال‏:‏ لِمَ تضربوني‏؟‏ فقالوا‏:‏ لتنصرف، فقال‏:‏ أنتم تخَافون بلاءً يصيبكم في المستقبل وأنتم بلائي في الحال‏.‏

ثم إنَّ بلاَءَكم الذي تخافون أنْ يصيبكم من الأعداء، وبلائي منكم وأنتم الأولياء‏.‏

ويقال لما لزم الكلبُ محلَّه ولم يجاوزْ حَدَّه فوضع يديه على الوصيد بقي مع الأولياء‏.‏‏.‏ كذا أدب الخدمة يوجب بقاءِ الوُصلة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏‏.‏

الخطاب له- صلى الله عليه وسلم- والمرادُ منه غيره‏.‏

ويقال لو اطلعتَ عليهم من حيث أنت لوليت منهم فراراً، ولو شاهدتَهم من حيث شهود تولِّي الحق لهم لبقيت على حالك‏.‏

ويقال لو اطلعتَ عليهم وشاهدْتَهم لَوَلَّيْت منهم فراراً مِنْ أنْ تُرَدَّ عن عالي منزلتك إلى منزلتهم؛ والغنيُّ إذا رُدَّ إلى منزلة الفقير فَرَّ منه، ولم تَطِبْ به نَفسًه‏.‏ ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏ بأن يُسْلَبَ عظيمُ ما هو حالك، وتُقَامَ في مثل حالهم النازلة عن حالك‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً‏}‏ لأنك لا تريد أن تشهد غيرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالَوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏

استقلوا مدة لُبْثهم وقد لَبِثُو ‏(‏طويلاً‏)‏، لكنهم كانوا مأخوذين عنهم، ولم يكن لهم عِلْمٌ بتفصيل أحوالهم، قال قائلهم‏:‏

لست أدري أطال لَيْلِي أم لا‏؟‏ *** كيف يدري بذاك من يتقلَّى‏؟‏

لو تَفَرَّغْتُ لاستطالةِ لَيْلِي *** ورغيت النجومَ كنتُ مُخِلاَّ

ويقال أيامُ الوصالِ عندهم قليلة- وإنْ كانت طويلة، ولو كان الحال بالضدِّ لكان الأمر بالعكس، وأنشدوا‏:‏

صَبَاحُكَ سُكْرٌ والمِساءُ خُمار *** نَعِمْتَ وأيامُ السرورِ قصارُ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَومٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏‏.‏

لأنه هو الذي خَصَّكُم بما به أقامكم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوِرِقِكُمْ هَِذهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامَاً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ‏}‏‏.‏

ما داموا مأخوذين عنهم لم يكن لهم طلبٌ لأكل ولا شربٍ ولا شيء من صفة النَّفْس، فلمَّا رُدُّوا إلى التمييز أخذوا في تدبير الأكل أَوَّلَ ما أحسوا بحالهم، وفي هذا دلالة على شدة ابتداء الخَلْق بالأكل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً‏}‏‏.‏

تَوَاصَوْا فيما بينهم بحسن التَّخَلقِ وجميل الترفُّقِ، أي ليتلطف مع من يشتري منه شيئاً‏.‏

ويقال أوصوا مَنْ يشتري لهم الطعامَ أَنْ يأتيهم بألطف شيءٍ وأطيبِه، ومن كان من أهل المعرفة لا يوافقه الخشن من الملبوس ولا المبتذل في المطعم من المأكول‏.‏

ويقال أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات طعامهم الخشن ولباسهم كذلك والذي بلغ المعرفة لا يوافقه إلا كل لطيف، ولا يستأنس إلا بكل مليح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

تواصوا فيما بينهم بكتمان الأسرار عن الأجانب وأخبر أنهم إن اطلعوا عليهم وعلى أحوالهم بالغوا في مخالفتهم إمَّا بالقتل وإما بالضرب وبما أمكنهم من وجوه الفعل، ولا يرضون إلى بردِّهم إللا ما منه تخلصوا، فمَنْ احترق كدسهُ فما لم يحترق كدس غيره لا تطيب نَفْسُه‏.‏

ويقال من شأن الأبرار حفظ الأسرار عن الأغيار‏.‏

ويقال مَنْ أظْهَر لأعدائه سِرَّه فقد جَلبَ باختياره ضُرَّه، وفََقَدَ ما سَرَّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

جعل أحوالَهم عِبْرةً لِمَنْ جاءَ بَعْدَهم حين كشف لأهل الوقت قصتهم، فعاينهم الناس، وازداد يقين مَنْ كان يؤمن بالله حين شاهدوا بالعيان ما كان نَقْضاً للعادة المستمرة‏.‏

ثم إن الله تعالى ردَّهم إلى ما كانوا عليه من الحالة، كانوا مأخوذين عن التمييز، متقلبين في القبضة على ما أراده الحق، مستودعين فيما كوشفوا، مستهلكين عنهم في وجود الحق- سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بَالغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏‏.‏

أخبر أنَّ علومَ الناسِ متقاصرةٌ عن عددهم؛ فالأحوالُ التي لا يطلع عليها إلا الله في أسرارهم وقلوبهم *** متى يكون للخَلْق عليها إشرافٌ‏؟‏

أشكل عليهم عددهم، وعددهم يُعْلَم بالضرورة، وهم لا يُدْرَكُون بالمشاهدة‏.‏

ويقال سَعِدَ الكلبُ حيث كَرَّرَ الحقُّ- سبحانه- ذِكْرَهم وذكَرَ الكلبَ معهم على وجه التكرار، ولمَّا ذَكَرَهم عَدَّ الكلب في جملتهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُل رَّبِىَ أَعَلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعَلَمُهُمْ إلاَّ قَلِيلٌ‏}‏‏.‏

لما كانوا من أوليائه فلا يعلمهم إلا خواص عباده، ومَنْ كان قريباً في الحال منهم؛ فهم في كتم الغَيْرَة وإيواء الستر لا يَطَّلعُ الأجانبُ عليهم؛ ولا يعلمهم إلا قليلٌ؛ لأنَّ الحق- سبحانه يستر أولياءه عن الأجانب، فلا يعلمهم إلا أهل الحقيقة، فالأجانب لا يعرفون الأقارب، ولا تشكل أحوال الأقارب على الأقارب‏.‏ كذلك قال شيوخ هذه الطائفة‏:‏ «الصوفية أهل بيتٍ واحدٍ لا يدخل فيهم غيرهم»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسْتفِتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً‏}‏‏.‏

كما لا يعرفهم من كان بمعزلٍ عن حالتهم، ولا يهتدي إلى أحكامهم من لا يعرفهم‏.‏‏.‏ فلا يصحُّ استفتاءُ مَنْ غاب علمهم عنه في حالهم‏.‏ ومَنْ لم يكن قلبُه محلاً لمحبة الأحباب لا يكون لسانُه مقراً لذكرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَائ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ‏}‏‏.‏

إذا كانت الحوادث صادرةً عن مشيئة الله فَمَنْ عَرَفَ الله لم يَعُدّ من نفسه ما علم أنه لا يتم إلا بالله‏.‏

ويقال مَنْ عَرَفَ الله سقط اختيارُه عند مشيتئته، واندرجت أحكامه في شهوده لحكم الله‏.‏

ويقال المؤمن يعزم على اعتناق الطاعةُ في مستقبله بقلبه، لكنه يتبرأ عن حَوْلِهِ وقُوََّتِهِ بسِرِّه، والشرعُ يستدعي منه نهوض قلبه في طاعته، والحقُّ يقف سِرَّه عند شهود ما منه لمحبوبه تحت جريان قسمته‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً‏}‏‏.‏

إنْ طَرأَتْ عليك طوارقُ النسيان- لا يتعهدك- فجرِّدْ بذكرك قَصْدَكَ عن أوطان غفلتك‏.‏

ويقال ‏{‏وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏‏:‏ في الحقيقة نَفْسُك تمنعك من استغراقك في شهود ذكرك‏.‏

ويقال واذكر ربك إذا نسيت ذكرك لربِّك‏:‏ فإن العبدَ إذا كان ملاحظاً لذكره كان ذلك آفة في ذكره‏.‏

ويقال واذكر ربك إذا نسيت حَظَّك منه‏.‏

ويقال واذكر ربَّك إذا نسيت غيرَ ربَّك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

كانوا مأخوذين عنهم في إحساسهم بأنفسهم لم يقفوا على تطاول مدتهم، وفي المثل‏:‏ أيام السرور قصار والدهور في السرور شهور، والشهور في المحن دهور، وفي معناه‏:‏

أَعُدُّ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ *** وقد كنت قبلاً لا أعد اللياليا

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

مَنْ لم يعد أيامَه لاشتغاله بالله أحصى اللَّهُ أنفاسَه التي الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْصَى كُلُّ شَئ عَددَاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ‏}‏‏.‏

تَسَلَّ- حينما تتنوع عليك الأحوال- بما نُطْلِعُكَ عليه من الأخبار؛ وإنَّ كُتُبَ الأحبابِ فيها شفاءٌ لأنها خطابُ الأحباب للأحباب‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً‏}‏‏.‏

أي لا تغيير لِحُكْمِه؛ فَمنْ أقصاه فلا قبولَ له، ومَنْ أدناه فلا وصولَ له، ومَنْ قَبِلَة فلا رَدَّ له، ومَنْ قَرَّ به فلا صَدَّ له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاوَةِ وَالعَشِىَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ‏}‏ ولم يقل‏:‏ «قلبك» لأن قلبه كان مع الحقِّ، فأمره بصحته جَهْرَاً بجهر، واستخلص قلبه لنفسه سِرَّاً بِسرِّ‏.‏

ويقال ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏:‏ معناها مريدين وجهه أي في معنى الحال، وذلك يشير إلى دوام دُعائِهم ربهم بالغداة والعشيّ وكون الإرادة على الدوام‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏:‏ فآويناهم في دنياهم بعظائمنا، وفي عقباهم بكرائمنا‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏:‏ فكشف قناعَهم، وأظهر صفَتهم، وشَهَرَهم بعدما كان قد سَتَرَهم، وأنشدوا‏:‏

وكشفنا لكَ القناعَ وقلنا *** نعم وهتكنا لك المستورا

ويقال لما زالت التُّهمُ سَلِمَتْ لهم هذه الإرادة، وتحرروا عن إرادةِ كلِّ مخلوقٍ وعن محبةِ كل مخلوق‏.‏

ويقال لمَّا تقاصَرَ لسانُهمِ عن السؤال هذه الجملة مراعاةً منهم لهيبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُرْمَةِ باب الحقِّ- سبحانه- أمَرَه بقوله‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ‏}‏ وبقوله‏:‏

‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏‏.‏

أي لا ترفع بصَرَك عنهم، ولا تُقلِعْ عنهم نظرك‏.‏

ويقال لما نظروا بقلوبِهم إلى الله أَمَرَ رسولَه- عليه السلام- بألا يرفعَ بَصَرَه عنهم، وهذا جزاء في العاجل‏.‏

والإشارة فيه كأنه قال‏:‏ جعلنا نظرك اليوم إليهم ذريعةً لهم إلينا، وخَلَفَاً عما يفوتهم اليوم من نظرهم إلينا، فلا تَقْطَعْ اليومَ عنهم نَظَرَكَ فإنا لا نمنع غداً نظرهم عنَّا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلَنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً‏}‏‏.‏

هم الذين سألوا منه- صلى الله عليه وسلم- أن يُخْلِيَ لهم مجلسَه من الفقراء، وأن يطردهَم يوم حضورهم من مجلسه- صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَغْفَلَنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا‏}‏‏:‏ أي شغلناهم بما لا يعنيهم‏.‏

ويقالك‏:‏ ‏{‏أَغْفَلَنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا‏}‏ أي شغلناهم حتى اشتغلوا بالنعمة عن شهود المِنْعِم‏.‏

ويقال هم الذين طوَّح قلوبَهم في التفرقة، فهم في الخواطر الرَّدِيّة مُثْبَتُون، وعن شهود مولاهم محجوبون‏.‏

ويقال أغفلنا عن ذكرنا الذين ابْتُلُوا بنسيان الحقيقة لا يتأسَّفُون على ما مُنُوا به ولا على ما فَاتَهُم‏.‏

ويقال الغفلةُ تزجيةُ الوقتِ في غيرِ قضاءِ فَرْضٍ أو أداء نَفْلٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقُلْ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏‏.‏

قُلْ يا محمد‏:‏ ما يأتيكم من ربِّكم فهو حقٌّ، وقوله صِدْقٌ ‏{‏فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏‏.‏‏.‏ هذا غاية التهديد، أي إنْ آمنتم ففوائدُ إيمانكم عليه مقصورة، وإنْ أَبَيْتُم فَعذَابُ الجحود موقوفٌ عليكم، والحقُّ- سبحانه- عزيز لا يعود إليه بإيمان الكافة-أذا وَحَّدُوا- زَيْنٌ، ولا مِنْ كُفْرِ الجميع- إنْ جحدوا- شَيْنٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإنِ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِى الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقَاً‏}‏‏.‏

العقوبة الكبرى لهم أن يشغلهم بالألم حتى لا يتفرغوا عنه إلى الحسرة على ما فاتهم من الحقِّ، ولو علموا ذلك لَعَلَّه كان يرحمهم‏.‏ والحقُّ- سبحانه- أكرم من أن يعذَبَ أحداً يُتَّهَمُ لأَجْلِه‏.‏

ويقال لو علموا مَنْ الذي يقول‏:‏ ‏{‏وَسَآءَتْ مُرْتَفَقَاً‏}‏ لعلَه كان لهم تَسَلَ ساعةً، ولكنهم لا يعرفون قَدْرَ مَنْ يقول هذا، وإلا فهذا شِبْهُ مرتبةٍ لهم، والعبارة عن هذا تدق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

أهلُ الجنة طابتْ لهم حدائقُها، وأهلُ النار أَحَاط بهم سُرادِقُها‏.‏

والحقُّ- سبحانه- مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يعودَ إليه من تعذيبِ هؤلاء عائدة ولا من تنعيم هؤلاء فائدةٌ *** جَلَّتْ الأحديةُ، وتَقَدَّسَتْ الصمدية‏!‏

ومَنْ وقَعَتْ عليه غَبَرَةٌ في طريقنا لم تَقَعَ عليه قَتَرَةُ فراقنا، ومَنْ خطا خطوةً إلينا وَجَدَ حظوةً لدينا، ومَنْ نَقَلَ قَدَمَه نحونا غفرنا له ما قَدَّمَه، ومَنْ رَفَعَ إلينا يَدَاً أَجْزَلْنا له رَغَداً، ومَنْ التجأ إلى سُدَّةِ كَرَمِنا آويناه في ظِلِّ نِعَمِنا، ومن شكا فينا غليلاً مَهَّدْنا له- في دار فضلنا- مقيلاً‏.‏

‏{‏أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً‏}‏‏:‏ العملُ أحسنُه ما كان مضبوطاً بشرائط الإخلاص‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً‏}‏ بأن غاب عن رؤية إحسانه‏.‏

ويقال مَنْ جَرَّدّ قَصْدَه عن كلِّ حظٍّ ونصيب‏.‏

ويقال الإحسان في العمل ألا ترى قضاء حاجتك إلا في فَضلِه، إذا أخلصتَ في تَوسِلكَ إليه بفضله، وتوصُّلِكَ غلى ما مَوَّلَكَ من طَوْلِهِ بِتَبرِّيكَ عن حَوْلِكَ وقُوَّتِك استوجبتَ حُسْنَ إقباله، وجزيل نواله‏.‏

قوله ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهْمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ‏}‏ أولئك هم أصحابُ الجنان، في رَغَدِ العيش وسعادة الجَد وكمال الرفِّد، يلبسون حُلَلَ الوُصلة، ويُتَوَّجُون بتاج القرُبة، ويُحْمَلون على المباسط، ويَتَّكِئون على الأرائك، ويشمون رياحينَ الأُنس، ويقيمون في مجال الزُّلفة، ويُسْقَْنَ شرابَ المحبة، ويأخَذُون بِيَدِ الزلفة ما يتحفهم الحقُّ به من غير واسطة، ويسقيهم شراباً طهوراً يُطَهِّر قلوبَهم عن محبة كلِّ مخلوقٍ‏.‏

‏{‏نِعْمَ الثَّوْابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقَاً‏}‏‏:‏ نِعْم الثوابُ ثوابُهم، ونعم الربُّ ربُّهم، ونعم الدارُ دارُهم، ونعم الجارُ جارُهم، ونعم الحالُ حالُهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 41‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

أخبر أنه خَلَقَ رجلين جعل لهما جنتين على الوصف الذي ذَكَرَه فَشَكَرَ أحدُهما لخالقِه وكَفَرَ الآخرُ برازقه، فأصبح الكافرُ وجنَّتُه أصابتها جائحةٌ، وندم على ما ضَيَّعَه من الشكر، وتوجَّه عليه اللومُ‏.‏

وفي الإشارة يخلق عَبْدَينَ يُطَيِّبُ لهما الوقت، ويُمَهِّدُ لهما بساط اللطف، ويمكَّن لهما من البسْط‏.‏‏.‏ فيستقيم أَحَدهُما في الترقي إلى النهاية من مقامات البداية بحُسْن المنازلة وصدق المعاملة، فتميز له المجاهدةُ ثمراتِ أحسن الأخلاق فيعالجها بحسنِ الاستقامة ثم يتحقق بخصائص الأحوال الصافية، ثم يُخْتَطَفُ عنها بما يُكاشفُ به من حقائق التوحيد، ويصبح مُنْتفىً عن جملته باستهلاكه في وجود ما بان له من الحقائق‏.‏

والثاني لا يُقَدِّرُ قَدْرَ ما أَهَّلَ له من حُسْن البداية فيرجِعُ إلى مألوفاتِه، فينتكِسُ أمرُه، بانحطاطه إلى ذميم عاداته، فيرتدُّ عن سلوك الطريقة ويتردّى في ظلْمَهِ الغفلة؛ فيصيرُ وقتُه ليلاً مظلماً، ويتطوحُ في أودية التفرقة، ويُوسَمُ الطرد، ويُسْقى شرابَ الإهانة، وينخرطُ في سلك الهَجْرِ *** وذلك جزاءُ مَنْ لم يَرَهُم الحقُّ لو صلته أَهْلاً، ولم يجعل لولائهم في التحقيق والقبول أَصْلاً‏:‏

تبدَّلَتْ وتبدلنا يا حسرةٌ لِمَنْ *** ابتغى عوضاً لسلمى فلم يَجِدِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

إذا ظَهَرَ خسرانُ مَنْ آثر حظَّه على حقِّ الله، قَرَع بابَ ندامته، ثم لا ينفعه‏.‏

ولو قرع باب كَرمِه في الدنيا- حين وقَعتْ له الفترةُ- لأشكاه عند ضرورته، وأنجاه من ورطته‏.‏‏.‏ ولكنه رُبِط بالخذلان، ولُبِّسَ عليه الأمرُ بحُكْمِ الاستدراج‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ‏}‏‏:‏ مَنْ اشْتَهَرَ أمرُهُ بِسُخْطِ السلطانِ عليه لم ينظر إليه أحدٌ من الجُنْدِ والرعية، كذلك مَنْ وَسمَه الحقُّ بكيِّ الهَجْرِ لم يَرْثِ له مَلَكٌ ولا نبيٌّ، ولم يَحْمِه صديقٌ ولا وليٌّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

هو الحقُّ المتفرِّدُ بنعتِ ملكوته، لا يشرك في جلال سلطانه من الحدثان أحداً، وإذا بدا من سلطان الحقيقة شظية فلا دعوى ولا معنى لبشر، ولا وزن فيما هنالك لحدثان ولا خطر، كلاَّ‏.‏‏.‏ بل هو الله الخلاَّق الواحد القهار‏.‏

هنالك الوِلاية لله أي القدرة- والواو هنا بالكسر‏.‏

وهنالك الوَلاية لله أي النصرة- والواو هنا بالفتح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

منْ وَطَّنَ النَّفْسَ على الدنيا وبهجتها غَرتْه بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها‏.‏ ثم إنها تُخْفى الصَّابَ في شرابها، والحنظل في عَسَلها، والسرابَ في مآربها؛ تَعِدُ ولا تفي بِعِدَاتِها، وتُوفِي آفاتُها على خيراتها‏.‏‏.‏ نِعمُها مشوبةً بِنِقَمِها، وبؤسُها مصحوبٌ بمأفوسها، وبلاؤها في ضمن عطائها‏.‏ المغرورُ مَنْ اغترَّ بها، والمغبونُ مَنْ انخدع فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏‏.‏

مَنْ اعتضد بعتاده، واغترَّ بأولاده، ونَسيَ مولاه في أوان غَفَلاَتِهِ‏.‏‏.‏ خَسِرَ في حاله، ونَدِمّ على ما فاته في مآله‏.‏

ويقال زينةُ أهل الغفلة في الدنيا بالمال والبنين، وزينة أهل الوصلة بالأعمال واليقين‏.‏‏.‏ فهؤلاء رُتَبُهم لظواهرهم *** وهؤلاء زينتهم لعبوديته، وأفتخارهم بمعرفة ربوبيته‏.‏

ويقال ما كان للنَّفْس فيه حُظُّ فهو منزينة الحياة الدنيا، ويدخل في ذلك الجاهُ وقبول المدح، وكذلك تدخل فيه جميع المألوفات والمعهودات على اختلافها وتفاوتها‏.‏

ويقال ما كان للإنسان فيه شِرْبٌ ونصيبٌ فهو معلول‏:‏ إن شئت في عاجله وإن شئت في آجله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏‏.‏

وهي الأعمال التي بشواهد الإخلاص والصدق‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏‏:‏ ما كان خالصاً لله تعالى غيرَ مُشوب بطمعٍ، ولا مصحوبٍ بِغَرَضٍ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏‏:‏ ما يلوح في السرائر من تحلية العبد بالنعوت، ويفوح نَشْرُه في سماءِ الملكوت‏.‏

ويقال هي التي سبقت من الغيب له بالقربة وشريف الزلفة‏.‏

ويقال هي ضياءُ شموسِ التوحيد المستكِنِّ في السرائر مما لا يتعرَّضُ لكسوف الحجبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

كما تُسيَّرُ جبالُ الأرض يوم القيامة فإنها تُقْتَلَعَ بموت الأبدال الذين يديم بهم الحقُّ- اليومَ- إمساك الأرض، فهؤلاء السادَة- في الحقيقة- أوتادُ العالَم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَاً‏}‏‏:‏ الإشارة منه أنه ما من أحد إلا ويُسْقَى كأسَ المنية، ولا يغادر الحقُّ أحداً اليوم على البسيطة إلا وينخرط عن نظامه، وإِنَّ شَرَفَهم في الدرجات في تَوَقِّيهم عن مساكنة الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً‏}‏‏.‏

يقيم كُلَّ واحدٍ يومَ العَرْضِ في شاهد مخصوص، ويُلْبِسُ كُلاً مايُؤَهِّله له؛ فَمِنْ لباسِ تقوى، ومن قميصِ هوى، ومن صِدَارِ وَجْدٍ، ومن صُدْرَةِ محبة، ومن رداءِ شوقٍ، ومن حُلَّة وُصْلَة‏.‏

ويقال يجرِّدهم عن كل صفة إلا ما عليه نظرهم يوم القيامة وينادي المنادي على أجسادهم‏:‏ هذا الذي أَتَى وَوَجَدَ، وهذا الذي أَبَى وَجَحَدَ وهذا الذي خالَفَ فأَصَرَّ، وهذا الذي أنعمنا عليه فَشَكَرَ، وهذا الذي أحْسَنَّا إليه فَذَكَرَ‏.‏ وهذا الذي أسقيناه شرابَنا، ورزقناه محابَّنا، وشَوَّقناه إلى لقائنا، ولَقَّيْنَاه خصائص رِعَائِنا‏.‏

وهذا الذي وَسَمْناه بحجتنا، وحرمناه وجُوُهَ قربتنا‏.‏ وألبسناه نطاق فراقنا، ومنعناه، توفيق وفاقنا، وهذا، وهذا‏.‏‏.‏‏.‏

واخجلتي من وقوفي وَسْطَ دارِهمُ‏!‏ *** وقال لي مُغْضَباً‏:‏ مَنْ أنت يا رجلُ‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداًً‏}‏‏.‏

جئتمونا بلا شفيعٍ ولا ناصر، ولا مُعينِ ولا مُظاهِر‏.‏

قوم يُقال لهم‏:‏ سلامٌ عليكم‏.‏ *** كيف أنتم‏؟‏ وكيف وَجَدَتُم مقيلَكم‏؟‏ وكم إلى لقائنا اشتقتم‏!‏

وقوم يُقال لهم‏:‏ ما صنعتُم، وما ضَيَّعْتُم‏؟‏ ما قدَّمتُم، وما أخرتم‏؟‏ ما أعلنتم، وما أسررتُم‏؟‏

قُلْ لي بألسنةِ التنفُّسِ *** كيف أنت وكيف حالك‏؟‏

ويقال يجيب بعضهم عند السؤال فيُفْصِحون عن مكنون قلوبهم، ويشرحون ما هم به من أحوالٍ مع محبوبهم‏.‏ وأخرون تملكهم الحيرة وتُسْكِتُهم الدهشة، فلا لهم بيان، ولا ينطق عنهم لسان‏.‏ وآخرون كما قيل‏:‏

قالت سكينةُ مَنْ هذا فقلتُ لها‏:‏ *** أنا الذي أنت ِ من أعدائه زَعمُوا

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ‏}‏‏.‏

إنما يصيبهم ما كُتِبَ في الكتاب الأول وهو المحفوظ، لا ما في الكتاب الذي هو كتاب أعمالهم نَسَخَه ما في اللوح المحفوظ‏.‏

ويقال إنْْْ عامَلَ عبداً بما في الكتاب الذي أثبته المَلَكَُ عليه فكثيرٌ من عباده يعاملهم بما في كتاب المَلِكِ- سبحانه، وفرقٌ بين من يُعَامَل بما في كتاب الحقِّ من الرحمة‏.‏ والشفقة وبين مَنْ يحاسبه بما كَتَبَ عليه المَلَكُ من الزَّلة‏.‏

ويقال إذا حسابهم في القيامة يتصور لهم كأنهم في الحال، ما فارقوا الزَّلَة، وإن كانت مباشرةُ الزَّلةِ قد مَضَت عليها سنون كثيرة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً‏}‏‏.‏

يملك الحزنُ قلبَه لأنه يرى في عمله سيئةٌ فهو في موضع الخجل لتقصيره وإنْ رأى حسنةٍ فهو في موضع الخجل أيضاً لِقِلَّةِ توقيره؛فَخَجْلَةُ أَهلِ الصدقِ عند شهود حسناتهم توفي وتزيد على خجلة أهل الغفلة إذا عثروا على زَلاَّتهم‏.‏

ويقال أصحابُ الطاعةِ إذا وجدوا ما قدَّموا من العبادات فمآلهم السرور والبهجة وحياة القلب والراحة، وأمَّا أصحاب المخالفات فإنما يجدون فيما قدَّموا مجاوزة الحدِّ ونقضَ العهْدِ، وما في هذا الباب من الزَّلة وسوء القصد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأدم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏‏.‏

أظْهَرَ للملائكة شَظِيَّة مما استخلص به آدم فسجدوا بتيسيرٍ من الله- سبحانه، وسَكَّرَ بَصَرَ اللعين فما شهد منه غير الْعَيْنِ ففسق عن أمر ربه، ولا صدق في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ‏}‏ لمَا فَسَقَ عن الأمر، ولكن أَدركته الشقَّاوة الأصيلة فلم تنفعه الوسيلة بالحيلة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلَيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً‏}‏‏.‏

في الآية إشارة إلى أَنَّ مَنْ يُفْرِدْه بالولاية فلا يقتفي غَيْرَه ولا يخافُ غيرَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً‏}‏‏.‏

أكذب المنجمين والأطباء الذين يتكلمون في الهيئات والطبائع بقوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَشَهَدتُّهُمْ خَلْقْ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏}‏‏:‏ وبّيَّنَ أن ما يقولونه من إِيجاب الطبائع لهذه الكائنات لا أصلَ له في التحقيق‏.‏

‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً‏}‏‏:‏ أي لم أجعل للذين يُضِلُّون الناسَ عن دينهم بِشُبَهِهِمْ في القول بالطبائع حجةً، ولم أعطهم لتصحيح ما يقولونه برهاناً‏.‏

ويقال إذا تقاصرت علومُ الخَلق عن العلم بأنفسهم فكيف تحيط علومُهم بحقائق الصمدية، واستحقاقِه لنعوته إلا بمقدار ما يخصُّهم به من التعريف على ما يليق برتبة كل أحد بما جعله له أهلاً‏؟‏

ويقال أخبر أَنَّ علومَهم تتقاصر عن الإحاطة بجميع أوصافهم وجميع أحوالهم وعن كُلِّ ما في الكون، ولا سبيلَ لهم إلى ذلك؛ ولا حاجةَ بهم إلى الوقوفَ على ما قَصَرَتْ علومهُم عنه، إذ لا يتعلَّق بذلك شيء من الأمور الدينية‏.‏ فالإشارة في هذا أن يَصْرِفُوا عنايتَهم إلى طلب العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإنه لا بُدَّ لهم- بحكم الديانة- من التحقق بها؛ إذ الواجبُ علىلعابد معرفة معبوده بما يزيل التردد عن قلبه في تفاصيل مسائل الصفات والأحكام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

عِلمَ الحقُّ- سبحانه- أَنَّ الأصنامَ لا تغني ولا تنفع ولا تضر، ولكن يعرِّفهم في العاقبة بما يُصَيِّر معارفَهم ضرورية حَسْماً لأوهام القوم؛ حيث توهموا أنّ عبادتهم للأصنام فيها نوع تقرب إلى الله على وجه التعظيم له كما قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرْبُونَا إِلَى اللَّه زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فإذا تحققوا بذلك صدقوا في الندم، وكان استيلاء الحسة عليهم، وذلك من أشد العقوبات لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

إذا صارت الأوهامُ منقطعة، والمعارفُ َ ضروريةً، والنارُ مُعَاينَةً استيقنوا أنهم واقعون في النار، فلا يُسْمَعُ لهم عُذْرٌ، ولا تنفع له حيلةٌ، ولا تُقْبَلُ فيهم شفاعة، ولا يؤخذ منهم فداء ولا عدل‏.‏‏.‏ لقد استمكنت الخيبةُ، وغَلَبَ اليأسُ، وحَصَلَ القنوط، وهذا هو العذاب الأكبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

أوضح للكافة الحججَ، ولكن لَبَّسَ على قوم النهج فوقعوا في العِوَج‏.‏

‏{‏وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شيءٍ جَدَلاً‏}‏ الجَدَلُ في الله محمود مع أعدائه، والجدل مع الله شِرْكٌ لأنه صَرْفٌ إلى مخالفةٍ تُوهِمُ أن أحداً يعارض التقدير، وتجويزُ ذلك انسلاخ عن الدِّين‏.‏ ومن أمارات السعادة للمؤمن فَتْحُ بابِ العملِ عليه، وإِغلاقُ بابِ الجدل دونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

لا عُذرَ لهم إذا لجأوا إلى ما تعاطوه من العصيان وترْكِ المبادرة إلى المأمور، ولا توفيقَ يساعدهم فيخرجهم عن حوار الداعي إلى عزم الفعل، فَهُمْ- وإن لم يكونوا بنعت الاستطاعة على ما ليسوا يفعلونه- ليسوا عاجزين عن ذلك؛ ولكنهم بحيث لو أن العبدَ منهم أراد ما أُمِرَ به لَتَأَبَّى منه ذلك، وتعذَّر عليه؛ ففي الحال ليس بقادرٍ على ما ليس يفعله ولا هو عاجزٌ عنه، وهذا يسميه القوم حال التخلية وهي واسطة بين القدرة والعجز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

أرسل الرسل- عليهم السلام- تترى، وأَيَّدَهم بالحجج والبراهين، وأمرهم بالإنذار والتخويف، والتشريف في عين التكليف، وتضمين ذلك بالتحقيق، ولكن سَعِدَ قومٌ باتباعهم، وشَقِيَ آخرون بخلافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

لا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكرِّ ووُعِظَ بما لوَّح له من الآيات، وبما شاهده وعرفه من أمرٍ أُصْلِحَ أو شُغِل كُفِيَ أو دعاءٍ أُجِيب له، أو سوءِ أدبٍ حصل منه، فأُدِّبَ بما يكون تنبيهاً له، أو حصلت منه طاعة وكوفئ في العاجل إمَّا بمعنى وَجَدَه في قلبه من بَسْطٍ أو حلاوةٍ أو أُنْسِ، وإما بكفاية شُغْلٍ أو إصلاح أمرٍ *** ثم إذا استقبله أمرٌ نَسِيَ ما عُومل به، أو أعرض عن تَذَكُّرِه، ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يداه من خيره وشرِّه، فوجدَ في الوقت موجبه *** ومَنْ كانت هذه صِفَتُه جعل على قلبه ستراً وغفلة وقسوة حتى تنقطع عنه بركاتُ ما وُهِبهَ‏.‏

ويقال مَنْ أظلم من يستقبله أمرٌ مجازاةً لما أسلفه من تَرْكِ أَرَبِه فَيَتَّهِمُ رَبَّه، ويشكو مِما يلاقيه، وَيْنسَى حُرْمة الذي بسببه أصابه ما أصابه‏؟‏ وكما قيل‏:‏

وعاجزُ الرأيِ مِضياعٌ لِفُرصته *** حتى إذا فاتَ أمرٌ عَاتَبَ القَدَرَا

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏الغَفُورُ‏}‏ لأنه ذو الرحمة، ورحمته الأزلية أوجَبَتْ المغفرة لهم‏.‏

ويقال ‏{‏الغَفُورُ‏}‏‏:‏ للعاصين من عباده، و‏{‏ذُو الرَّحْمَةِ‏}‏ بجميعهم فَيُصلح أحوالَ كافتهم‏.‏

‏{‏لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا‏}‏‏:‏ لعجَّل لهم العذابَ؛ أي عَامَلَهم بما استوجبوه من عصيانهم، فعجَّلَ لهم العقوبة، لكنه يؤخرها لمقتضى حكمته، ثم في العاقبة يفعل ما يفعل على قضية إرادته وحكمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

لمَّا لم يشكروا النِّعم ولم يصبروا في المحن عَجَّلنا لهم العقوبة‏.‏

ويقال لمَّا غَفَلُوا عن شهود التقدير، وحُرِمُوا رَوْح الرضا وَكَلْناهم إلى ظُلُماتِ تدبيرهم، فطاحوا في أودية غفلاتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

لما صَحَّتْ صحبة يوشع مع موسى عليهما السلام استحقَّ اسم الفتوة، ولذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ‏}‏ وهو اسم كرامة لا اسم علامة‏.‏

جعل دخول السمك الماء علامة لوجود الخضر هنالك، ثم أدخل النسيان عليهما ليكون أبلغَ في الآية، وأَبْعَدَ من اختيار البَشَر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

كان موسى في هذا السَّفرِ مُتَحَمِّلاً، فقد كان سَفَر تأديبٍ واحتمالٍ مشقةٍ، لأنه ذهب لاستكثار العلم‏.‏ وحالُ طلب العلم حالُ تأديبٍ ووقتُ تْحمُّلٍ للمشقة، ولهذا لَحِقَهُ الجوعُ، فقال‏:‏ ‏{‏لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً‏}‏‏.‏

وحين صام في مدة انتظار سماع الكلام من الله صبر ثلاثين يوماً، ولم يلحقه الجوعُ ولا المشقةُ، لأن ذهابَه في هذا السفر كان إلى الله، فكان محمولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

طال عليهما السفر لأنهما احتاجا إلى الانصرافٍ إلى مكانهما، ثم قال يوشع‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ‏}‏‏:‏ الله- سبحانه- أَدْخَلَ عليه النسيانَ ليكونَ الصَّيْدُ من تكلفِه، ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ‏}‏‏:‏ يعني دخول السمك الماء وكان مشوياً؛ فصار ذلك معجزة له، فلما انتهينا إلى الموضع الذي دخل السمك فيه الماء لَقِيَا الخضر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

إذا سَمَّى الله إنساناً بأنه عَبْدُه جَعَلَه من جملة الخواص؛ فإذا قال‏:‏ «عبدي» جعله من خاص الخواص‏.‏

‏{‏ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا‏}‏‏:‏ أي صار مرحوماً من قِبَلِنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا، فيكون الخضربتلك الرحمة مرحوماً، ويكون بها راحماً على عبادنا‏.‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً‏}‏‏:‏ قيل العلم من لدن الله ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتّطَلُّب‏.‏

ويقال ما يُعرَّف به الحقُّ- سبحانه- الخواصَ من عباده‏.‏

ويقال ما يعرَّف به الحق أولياءَه فيما فيه صلاح عباده‏.‏

وقيل هو ما لا يعود منه نَفْعٌ إلى صاحبه، بل يكون نفعُه لعباده مِمَّا فيه حقُّ الله- سبحانه‏.‏

ويقال هو ما لا يَجِد صاحبُه سبيلاً إلى جحده، وكان دليلاً على صحة ما يجده قطعاً؛ فلو سألتَه عن برهانه لم يجد عليه دليلاً؛ فأقوى العلوم أبعدها من الدليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

تلَطَّفَ في الخطاب حيث سَلَكَ طريق الاستئذان، ثم صَرَّح بمقصوده من الصحبة بقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً‏}‏‏.‏

ويقال إن الذي خُصَّ به الخضرُ من العلم لم يكن تَعَلَمّه من أستاذ ولا من شخص، فما لم يكن بتعليم أحد إياه‏.‏‏.‏ متى كان يعلمه غيره‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

سؤال بذلك العطف وجوابٌ بهذا العطف‏!‏

ثم ندارك قلبَه بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً‏}‏‏؟‏، فأجابه موسى‏:‏ ‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وعد من نفس موسى بشيئين‏:‏ الصبر، وبأن لا يعصيَه فيما يأمر به، فأمَّا الصبر فَقَرَنَه بالاستثناء بمشيئة الله فقال‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً‏}‏ فصبر حتى وُجِدَ صابراً، فلم يقبض على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل، والثاني قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَعْصِى لَكَ أَمْراً‏}‏‏:‏ أطلقه ولم يُقْرِنْه بالاستثناء، فما استنشأ لأَِجْله لم يخالفه فيه، وما أطلقه وقع فيه الخُلْفُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

فإنه ليس للمريد أن يقول «لا» لشيخه، ولا التلميذ لأستاذه، ولا العاميّ للعالمِ المفتي فيما يفتي ويحكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

لما ركبوا الفُلْكَ خرقها وكان ذلك إبقاءً على صاحبها لئلا يرغبَ في السفينةِ المخروقةِ المَلِكُ الطامعُ في السفن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا‏}‏ أي لتؤديَ عاقبةُ هذا الأمر إلى غَرَقِ أهلها؛ لأنه علم أنه لم يكن قَصَدَ إغراقَ أهلِ السفينة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

أي أنت تنظر إلى هذا من حيث العلم، وإنّا نُجْزِيه من حيث الحُكْم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

طالبَه بما هو شرط العلم حيث قال‏:‏ ‏{‏قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ‏}‏؛ لأن الناسيَ لا يدخل تحت التكليف، وأَيَّدَ ذلك بما قََرَنَ به قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً‏}‏ فالمُتَمَكِّنُ من حقه التكليف ومن لا يصحُّ منه الفعلُ والتَرْكُ لا يتوجه ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ والناس من جملتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

كان بِخُلُقِ العلم واجباً على موسى- عليه السلام- قَصْرُه حيث يرى في الظاهر ظُلْماً ولكن فيما عرف من حال الخضر من حقه التوقف ريثما يعلم أنه أَلَمَّ بمحظورٍ أو مُباحٍ، ففي ذلك الوقت كان قلب العادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

كرَّر قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لأنه واقف بشرط العلم، وأمَّا في محل الكشف فَشَرَطَ عليه موسى عليه السلام فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

بلغ عصيانه ثلاثاً؛ والثلاثةُ آخِرُ حَدِّ آخِرُ حَدِّ القِلَّة، وأوَّلٌ حَدِّ الكثرة، فلم يَجِدْ المُسامَحَةَ بعد ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

كان واجباً في ملتهم على أهل القرية إطعامهما، ولم يعلم موسى أنه لا جدوى من النكيرعليهم؛ ولو كان أَغْضَى على ذلك منهم لكان أحسن‏.‏

فلمَّا أقام الخضر جدارهم ولم يطلب عليه أجراً لم يقل موسى أنك قُمْتَ بمحظور، ولكنه قال له‏:‏ ‏{‏لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ أي إن لم تأخذ بسببك فلو أخذت بسببنا لكان أَخْذُكَ خيراً لنا من تركك ذلك، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللتَ بحقنا‏؟‏

ويقال إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديب فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقة، وإلاَّ فهو حين سقى لبنات شعيب فإنَّ ما أصابه من التعبِ وما كان فيه من الجوع كان أكثر، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلاً‏.‏ فلما قال موسى هذا قال له الخضر‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

أي بعد هذا فلا صحبة بيننا‏.‏

ويقال قال الخضر إِنَّك نبيٌّ‏.‏‏.‏ وإنما أؤاخذك بما قُلْتَ، فأنت شَرَطْتَ هذا الشرط؛ وقلتَ‏:‏ إِنْ سألتُك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، وإنما أعاملك بقولك‏.‏

ويقال لمّا لم يصبر موسى معه في تَرْكِ السؤال لم يصبر الخضرُ أيضاً معه في إدامة الصحبة فاختار الفراق‏.‏

ويقال ما دام موسى عليه السلام سأله لأجل الغير- في أمر السفينة التي كانت للمساكين، وقَتْلِ النَّفْس بغير الحق- لم يفارقه الخضر، فلمَّا صار في الثالثة إلى القول فيما كان فيه حَظٌ لنفسه من طلب الطعام ابْتُلِيَ بالفرقة، فقال الخضر‏:‏ ‏{‏هَذَا فِرَاقُ بِينِى وَبَيْنِكَ‏}‏‏.‏

ويقال كما أن موسى- عليه السلام- كان يحب صحبة الخضر لما له في ذلك من غرض الاستزاده من العلم فإن الخضر كان يحب تَرْكَ صحبة موسى عليه السلام إيثاراً للخلوة بالله عن المخلوقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

لما فارق الخضرُ موسى عليه السلام لم يُرِدْ أَنْ يبقى في قلب موسى شِبْهُ اعتراضٍ؛ فأَزَالَ عن قلبه ذلك بما أوضح له من الحال، وكشف له أنَّ السَّرَّ في قصده من خَرْقِ السفينة سلامتُها وبقاؤُها لأهلها حيث لن يطمعَ فيها المَلِكُ الغاصبُ، فبَقَاءُ السفينة لأهلها- وهي معيبةٌ- كان خيراً لهم من سلامتها وهي مغصوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

بيَّن له أَنَّ قَتْلَ الغلامِ لمَّا سَبَقَ به العلمُ مضى من الله الحُكْمُ أنَّ في بقائه فتنةًً لوالديه، وفي إبدال الخَلفِ عنه سعادةً لهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

أَما تسوية الجدار فلاستبقاءِ كنز الغلامين وترك طلب الرفق من الخَلْق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

أقوامٌ هم أهل مطلع الشمس الغالب عليهم طولُ نهارهم، وآخرون كانوا من أهل مغرب الشمس الغالب عليهم استتار شمسهم‏.‏‏.‏ كذلك الناس في طلوع شمس التوحيد‏:‏ منهم الغالب عليهم طلوع شموسهم، والحضور نعتهم والشهود وصفهم والتوحيد حقّهم، وآخرون لهم من شموس التوحيد النصيب الأقل والقسط الأرذل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

أي ما كانوا يهتدون إلا إلى لسانِ أنفسِهم، وما كانوا يفقهون فقهَ غيرِهم فلجؤوا إلى عَبَرَاتهم في شرح قصتهم، ورفعوا إليه- في باب ياجوج وماجوج- مظلمتَهم، وضمنوا له خراجاً يدفعونه إليه، فأجابهم إلى سؤلهم، وحقَّق لهم بُغْيَتَهم، ولم يأخذ منهم ما ضمنوا له من الجباية، لمَّا رأى أنَّ من الواجبِ عليه حق الحماية على حسب المُكْنَة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم من الإمداد بما قال‏:‏ ‏{‏ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ‏}‏ فلمَّا فعلوا ما أمرهم به، ونفخوا فيه النار جعل السد بين الصدفين أي جانبي الجبل‏.‏ ثم أخبر أنه إنما يبقى ذلك إلى أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ له في الخروج، وتندفعَ عن الناس عادية ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى الوقت المضروب لهم في التقدير‏.‏

وبعد ذلك يكون مِنْ شأنهم ما يريد الله‏.‏ وبيَّنَ- سبحانه- أَنَّ خروجَهم من وراء سَدِّهم مِنْ أشراط الساعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

نظروا بأعين رؤوسهم لأنهم فقدوا نظر القلب من حيث الاعتبار والاستدلال، ولم يكن لهم سمع الإجابة لِمَا فقدوا من التوفيق، فتوجه عليهم التكليف ولم يساعدهم التعريف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً‏}‏‏:‏ لأنهم فقدوا من قِبَلِه- سبحانه- الإسماع؛ فلم يستطيعوا لهم القبول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

أي توهموا أنه ينفعهم ما فعلوه حسب ظنهم، واعتقدوا في أصنامهم استحقاقَ التعظيم، وكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيَقْرِبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏‏.‏

ضلَّ سعيُهم لأنهم عَمِلُوا لغيرِ اللَّهِ‏.‏ وما كان لغيرِ الله فلا ينفع‏.‏

ويقال الذين ضلَّ سعيُهم هم الذين قَرَنُوا أعمالَهم بالرياء، ووصفوا أحوالَهم بالإعجاب، وأبطلوا إحسانهم بالملاحظات أو بالمَنِّ‏.‏

ويقال هم الذين يُلاحِظُون أعمالهم وما مِنْهُم بعينِ الاستكثار‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً‏}‏‏.‏

لم يكونوا أصحاب التحقيق، فعَمِلوا من غير عِلْمٍ، ولم يكونوا على وثيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

عموا عن شهود الحقيقة فبقوا في ظلمة الجحد، فتفرَّقَتْ بهم الأوهام والظنون، ولم يكونوا على بصيرة، ولم تستقر قلوبُهم على عقيدة مقطوع بها؛ فليس لهم في الآخرة وزنٌ ولا خَطَرٌ، اليومَ هم كالأَنْعام، وغداً واقعون ساقطونَ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الأقدام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

هم اليومَ في عقوبة الجحد، وغداً في عقوبه الردِّ‏.‏ اليوم هم في ذُلِّ الفراق، وغداً في أليمِ الاحتراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

لهم جنات مُعَجَّلة سراً، ولهم جنان مؤجلة جهراً‏.‏

اليوم جنان الوصل وغداً جنان الفضل‏.‏

اليوم جنان العرفان وغداً جنان الرضوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

عرَّفنا- سبحانه- أن ما يخوِّله لهم غداً يكون على الدوام، فهم لا ينفكون عن أفضالهم، ولا يخرجون عن أحوالهم؛ فهم أبداً في الجنة، ولا إخراج لهم منها‏.‏ وأبداً لهم الرؤية، ولا حجاب لهم عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

اي لا تُعَدُّ معاني كلمات الله لأنه لا نهاية لها؛ فإِنَّ متعلقاتِ الصفةِ القديمة لا نهاية لها؛ كمعلوماتِ الحق- سبحانه- ومقدوراته وسائر متعلقات صفاته‏.‏

والذي هو مخلوقٌ لا يَسْتَوْفِي ما هو غير مُتَنَاهٍ- وإنْ كَثُرَ ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَمَّآ إِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏‏.‏

أَخْبِرْ أَنَّكَ لهم من حيث الصورة والجنسية مُشاكِلٌ، والفَرْقُ بينكَ وبينهم تخصيصُ الله- سبحانه- إياكَ بالرسالة، وتَرْكِه إياهم في الجهالة‏.‏

ويقال‏:‏ قل اختصاصي بما لي من ‏(‏الاصطفاء‏)‏، وإن كنا- أنا وأنتم- في الصورة أكفاء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَ، كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَّبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً َلاَ يَشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا‏}‏‏.‏

حَمْلُ الرجاءِ في هذه الآية على خوف العقوبة ورجاء المثوبة حَسَنٌ، ولكنَّ تَرْكَ هذا على ظاهره أَوْلَى؛ فالمؤمنون قاطبةً يرجون لقاءَ الله‏.‏

والعارف بالله- سبحانه- يرجو لقاءَ الله والنظرَ إليه‏.‏

والعمل الصالح الذي بوجوده يصل إلى لقائه هو صَبْ رُه على لواعجِ اشتياقه، وأَنْ يُخْلِصَ في عمله‏.‏

‏{‏وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَاَدةِ رَبِهِ‏}‏‏:‏ أي لا يُلاحِظُ عَمَلَه، ولا يستكثر طاعته، ويتبرأ من حَوْلِه وقُوَّتِه‏.‏

ويقال العمل الصالح هنا اعتقاد وجود الصراط ورؤيته وانتظار وقته‏.‏

سورة مريم

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏‏}‏

تعريفٌ للأحباب بأسرارمعاني الخطاب، حروف خَصَّ الحقُّ المخَاطبَ بها بفهم معانيها، وإذا كان للأخيار سماعُها وذِكْرُها، فللرسول ِ- عليه السلام- فَهْمُها وسِرُّها‏.‏

ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي في الإنعام والانتقام، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحُكْم‏.‏

ويقال في الكاف تعريفٌ بكونه مع أوليائه، وتخويفٌ بخِّفي مَكْرِه في بلائه‏.‏

ويقال في الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نَفْسِه قبل كتابة الملائكة الزَّلَّةَ على عباده‏.‏

والهاءُ تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه، وما له ن الحق بحكم إحسانه‏.‏

والياء إشارة إلى يُسْر نِعَمِه بعد عُسْرِ مِحَنِه‏.‏ وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده‏.‏

والعين تشير إلى عِلْمِه بأحوالِ عَبْدِهِ في سِرَّه وجَهْرِهِ، وقُلِّه وكُثْرِه، وحالِه ومآلِه، وقدْرِ طاقته وحق فاقته‏.‏

وفي الصاد إلى أنه الصادق في وعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏‏}‏

تخصيصه إياه بإجابته في سؤال وَلَدِه، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏‏}‏

وإنما ذلك لئلا يَطَّلَع أحدٌ عبى سِرِّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه، والاعتقاد بالسُّوء في نفسه، ثم أخفى سِرَّهُ عن الخلْق لئلا يقعَ لأحدٍ إشرافٌ على حاله، ولئلا يَشْمَتَ بمقالته أعداؤه‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ العَظْمُ مِنّىِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً‏}‏‏.‏

أي لَقِيتُ بضعفي عن خدمتك ما لا أحِبُّه؛ فطعنتُ في السنِّ، ولا قوةَ بعد المشيب؛ فهَبْ لي ولداً ينوب عني في عبادتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيَاً‏}‏‏.‏

أي إني أسألك واثقاً بإجابتك؛ لعلمي بأني لا أشْقَى بدعائِك فإنَّك تحِبُّ أن تُسأل‏.‏

ويقال إنك عوَّدتني إجابة الدعاء، ولم ترُدَّني في سالف أيامي إذا دعوْتُك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏‏}‏

إني خِفْتُ أَنْ تذهبَ النبوة من أهل بيتي، وتنتقل إلى بني أعمامي فهبْ لي وَلَداً يعبدك، ويكون من نَسلِي ومن أهلي‏.‏

وهو لم يرِدْ الولدَ بشهوةِ الدنيا وأَخْذِ الحظوظِ منها، وإنما طلبَ الولدَ ليقومَ بحقِّ الله، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَرِثُنِى‏}‏ دليلٌ على أنه كما سأل الولدَ سأل بِقاء ولده؛ فقال‏:‏ ولداً يكون وارثاً لي؛ أي يبقى بَعْدِي، ويرث من آل يعقوب النبوةَ وتبليغ الرسالة‏.‏

واجعله ربِّ رضياً‏:‏ رَضِي فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مَرْضِيَّاً لك‏.‏ ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضياً منك، وراضياً بتقديرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏‏}‏

أي استجبنا لدعائِك، ونرزقك ولداً ذكَرَاً اسمُه يحيى؛ تحيا به عُقْرَةُ أُمِّه، ويحيا به نَسَبُكُ، يحيا به ذكْرُك، وما سألَته من أن يكون نائباً عنك؛ فيحيا به محلُّ العبادة والنبوة في بيتك‏.‏

‏{‏لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً‏}‏‏:‏ انفراده- عليه السلام- بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة؛ أي لم يكن له سَمِيٌّ قَبْله؛ فلا أحَدَ كُفْؤٌ له في استجماع أوصاف فَضْله‏.‏

ويقال لم تجعل له من قبل نظيراً؛ لأنه لم يكن أحد لا ذنبَ له قَبْلَ النبوة ولا بعدها غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏‏}‏

سأل الوَلدَ فلمَّا أُجِيب قال أَنَّى يكون لي غلام‏؟‏ ومعنى ذلك- على ما جاء في التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدةً طويلة؛ فكأنه سأل الولدَ في ابتداء حال سِنِّه، واستجيبت دعوتُه بعد ما تناهى في سِنَّه، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لِى غُلاَمٌ‏}‏‏؟‏‏.‏

ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد‏.‏‏.‏ أمِنْ هذه المرأة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفرشها‏؟‏ فالسؤال إنما كان لتعيين مَنْ منها يكون الولد‏.‏ فقال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ‏}‏‏.‏

معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة في هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرِّ العادة ولادة مثلِ هذه المرأة دلالةٌ ومعجزةٌ لك على قومك، فتكون للإجابة بالولد مِنْ وَجْهٍ معجزةٌ؛ ومن وجهٍ راحةٌ وكرامةٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً‏}‏‏.‏

دلَّت الآية على أن المعدومَ ليس بشيءٍ، لأنه نفي أن يكون قبل خَلْقِه له كان شيئاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏‏}‏

أراد علامةً على علوق المرأة بالولد؛ ولم يُرِدْ علامةَ يَسْتَدلُّ لها على صِدْق ما يقال له‏.‏ فأخبره تعالى‏:‏ «أُنْبِئُكَ علامةَ وقت إجابتك‏.‏‏.‏ إِنَّ لسانَك لا ينطق معهم بالمخاطبة- ولو اجتهدت كُلَّ الجهد- ثلاثةَ أيام، وعليكَ أن تخاطبني، وأن تقرأ الكتب المُنَزَّلَةَ التي كانت في وقتك‏.‏ فكان لا ينطق لسانه إذا أراد أن يُكلِّمَهم، وإذا أراد أن يقرأَ الكتبَ أو يسبِّحَ اللَّهَ انطلق مع الله لسانُه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏‏}‏

أي فلمَّا خرج عليهم عرَّفهم- من طريق الإشارة- أنَّ اللسانَ الذي كان يخاطبهم به ليس الآن منطلقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏‏}‏

أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة مِنَّا، خَصَصْنَاكَ بها *** لا قوةَ يدٍ ولكن قوة قلبٍ، وذلك خيرٌ خَصَّه اللَّهُ تعالى به وهو النبوة‏.‏

ودلَّت الآية على أنه كان من الله له كتاب‏.‏

‏{‏وَءَاتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً‏}‏ أي النبوة، بَعَثَه اللَّهُ بها إلى قومه، وأوحى إليه وهو صبيّ‏.‏

ويقال الحُكْمُ بالصوابِ والحقِّ بين الناس‏.‏

ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر‏.‏

قوله ‏{‏وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي آتيناه رحمةً من عندنا، وطهارةً وتوفيقاً لمجلوبات التقوى وتحقيقاً لموهوباتها؛ فإن التقوى على قسمين‏:‏ مجموع ومجلوب يتوصَّلُ إليه العبدُ بِتَكَلُّفِه وتَعَلُّمِه، وموضعوعٍ من الله تعالى وموهوبٍ منه يصلُ إليه العبدُ بِبَذْله سبحانه وبفضله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏براً بوالديه‏}‏ كأمر الله- سبحانه- له بذلك لا لمودَّةِ البَشَرِ وموجِبِ عادة الإنسانية‏.‏ ولم يكن متمرداً عن الحق، جاحداً لربوبيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏‏}‏

أي له مِنَّأ أمانٌ يوم القيامة، ويوم ولادته في البداية، ويوم وفاته في النهاية، وهو أن يصونَه عن الزَيْغِ والعِوَجِ في العقيدة بما يُشْهدُه على الدوام من حقيقة الإلهية‏.‏

وكذلك هو في القيامة له منه- سبحانه- الأمان؛ فهو في الدنيا معصومٌ عن الزَّلَّة، محفوظٌ عن الآفة‏.‏ وفي الآخرة معصومٌ عن البلاء والمحنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏‏}‏

اعتزلت عنهم لتحصيلٍ يطهرها، فاستترت عن أبصارهم‏.‏

فلمَّا أبصرت جبريلَ في صورةِ إنسانٍ لم تتوقعه أَحَسَّتْ في نفسها رُعْباً، ولم تكن لها حيلةٌ إلا تخويفه بالله، ورجوعها إلى الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏‏}‏

قالت مريمُ لجبريل- وهي لم تعرفه- إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يُخَافَ ويُتَقَّى منه؛ أي إنْ كنتَ تَقْصِد السوءَ‏.‏ ومعنى قولها ‏{‏بالرحمن‏}‏ ولم تقل‏:‏ «بالله»- أي بالذي يرحمني فيحفظني منك‏.‏

ويقال يحتمل أن يكون معناه‏:‏ إن كنتَ تعرف الله وتكون متقياً مخالفة أمره فإنِّي أعوذ بالله منك وأحذر عقوبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏‏}‏

تعرَّف جبريلُ إليها بما سكَّن رَوْعَها، وقَرَنَ مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏‏}‏

قالت أنى يكونُ لي وَلَدٌ ولم أُلِمّ بِزلَّةٍ ولا فاحشةٍ‏؟‏ فقال جبريلُ- عليه السلام-‏:‏ الأمرُ كما قلتُ لَكِ؛ فلا يتعّصى ذلك على الله تعالى؛ إذ هو أَقْدَرُ أَنْ يجعل هذا الوَلَدَ دلالةً على كمال قدرته، ويكون هذا الولدُ رحمةً منه- سبحانه- لِمَنْ آمَنَ، وسَبَبَ جهلٍِ للآخرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏‏}‏

لمَّا ظهر بها الحَمْلُ، وعَلِمَتْ أَنَّ الناسَ يستبعدون ذلك، ولم تَثِقْ بأحدٍ تُفْشِي إليه سِرَّها *** مَضَتْ إلى مكانٍ بعيد عن الخَلْق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏‏}‏

أَلَجَأَها وَجَعُ الولادةِ إلى الاعتماد إلى جِذْع النخلة‏.‏ ولمَّا أَخذها الطَلْقُ، ودَاخَلَهَا الخَجَلُ مِنْ قومِها نَطَقَتْ بلسانِ العَجزِ، وقالت‏:‏ ‏{‏يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏‏.‏

ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقاً من قومها، لأنها عَلِمَتْ أَنَّهم سيبسطون لسانَ الملامةِ فيها بسلانِ الفُجْر؛ وينسبونها إلى الفحشاء‏.‏

ويقال قالتها شفقةً على قومها لئلا تُصِيبَهم بِسبَبَها عقوبةٌ‏.‏

ويقال قالت‏:‏ ‏{‏يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏ حتى لم أسمع مَنْ قال في الله تعالى بسببي إن عيسى ابن الله وابن مريم، وإن مريمَ زوجتُه *** تعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً‏!‏

ويقال ‏{‏يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏‏:‏ في الوقت الذي كنتُ مرفوقاً بي، ولم تستقبلني هذه الخشونةُ في الحالةِ التي لَحِقَتْنِي‏.‏

ويقال ‏{‏يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏‏:‏ في الوقت الذي لم يكن قلبي متعلقاً بسبب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏‏}‏

في التفسير أن المَعْنِيَّ بقوله ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏‏:‏ جبريلُ عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام‏.‏ والمقصودُ منه تسكينُ ما كان بها من الوحشة، والبشارة بعيسى عليه السلام، أي يرزقك الله ولداً سرياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏‏}‏

وكان جِذْعاً يابساً أخرج اللَّهُ تعالى منه في الوقتِ الثمرةَ، وهي الرُّطبُ الجنيُّ، وكان في ذلك آية ودلالة لها؛ فالذي قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى- عليه السلام- من غير أبٍ‏.‏

ويقال عندما كانت مُجَرَّدَةً بلا علاقة، فقد كان زكريا- عليه السلام- يَجِدُ عندها رزقاً من غير أن أُمِرْتْ بتكليف، فلمَّا جاءَتْ علاقةُ الولدِ أُمِرَتْ بهزِّ النخلةِ اليابسةِ- وهي في أضعف حالها؛ زمان قرب عهدها بوضع الولد، لِيُعْلَمَ أَنَّ العلاقةَ توجِبُ العناءَ والمشقة‏.‏

ويقال بل أُمِرَتْ بهزِّ النخلة اليابسة، وكان تمكنُها من ذلك أوضحَ دلالة على صدقها في حالها‏.‏

ويقال لمّا لم يكن لها في هذه الحالة مَنْ يقوم بتعهدها تولَّى الله تعالى كفايتها؛ لِيَعْلَمَ العالمون أنه لا يضيع خواصَّ عِبادِه في وقت حاجتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏‏}‏

كفاها أسبابَ ما احتاجت إليه مِنْ أَكْلِهَا وشُرْبِها، وسَكَّنَ من خوفها، وطيَّبَ قلبَها‏.‏

‏{‏فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدا‏}‏‏:‏ فلا تخاطبيهم وعرِّفيهم- بالإشارة- أَنَّكِ نَذَرْتِ للرحمن الصمتَ مع الخَلْق، وتَرْكَ المخاطبةِ معهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏‏}‏

بسط قومُها فيها لسانَ الملامةِ لما رَأَوْها قد وَلَدَتْ- وظاهرُ الحالِ كان معهم- فقالوا لها على سبيل الملامة‏:‏ يا مَنْ كنا نَعُدُّكِ في الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح *** مِنْ أين لكِ هذه الحالة الشنعاء‏؟‏

ويقال كان أخوها اسمه هارون‏.‏ ويقال كان هارون رجلاً فاسقاً في قومهم، فقالوا‏:‏ يا شبيهته في الفساد‏.‏‏.‏ ما هذا الولد‏؟‏

ويقال كان هارون رجلاً صالحاً فيهم فقالوا‏:‏ يا أخت هارون، ويا مَن في حسابنا وظَنَنَّا ما كان أبواكِ فيهما سوء ولا فساد *** كيف أتيتِ بهذه الكبيرة الفظيمعة‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏‏}‏

في الظاهر أشارت إلى الولد، وفي الباطن أشارت إلى الله، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا‏:‏ كيف نكلِّم مَنْ هو أهل بأن يُنَوَّم في المهد‏؟‏‏!‏

ف «كان» ها هنا في اللفظ صلة *** وحملوا ذلك منها على الاستهانة بفعلتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏‏}‏

لما قالوا ذلك أنطق اللَّهُ عيسى حتى قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ‏}‏، فظهرت براءةُ ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثلُه‏.‏ وجرى على لسانه حتى قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ‏}‏؛ ليُقَال للنصارى إِنْ صَدَقَ عيسى أنه عبدُ الله بطل قولُكم إِنه ثالث ثلاثة، وإِن كذب فالذي يكذب لا يكون ابناً لله، وإنما يكون عبداً لله، وإذا لم يكن عَبْدَ هواه، ولا في أسْْرِ شيءِ سواه فَمَنْ تحرر مِنْ غيره فهو في الحقيقة عَبْدُه‏.‏

‏{‏ءَاتِانِىَ الكِتَابَ‏}‏ أي سيؤتيني الكتاب أو آتاني في سابق حكمه‏.‏

‏{‏وَجَعَلَنِي نَبِيّاً‏}‏ بفضله‏.‏ وفي الآية ردٌّ على من يقول إن النبوة تُسْتَحقُّ بكثرة الطاعة لأنه قال ذلك في حال ولادته؛ لم تَكُنْ منه بَعْدُ عبادةٌ وأخبر أن الله جعله نبياً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏‏}‏

أي نافعاً للخلْق يرشدهم إلى أمور دينهم، ويمنعهم من ارتكاب الزَّلّةِ التي فيها هلاكهم، ومَنْ استضاء بنوره نجا‏.‏‏.‏ فهذه بركاتُه التي كانت تصل إلى الخلْق‏.‏ ومَنْ بركاتِه إغاثةُ الملهوف، وإعانةُ الضعيف، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وإرشاد الضال، والنصيحة للخَلْق، وكفُّ الأذى عنهم وحَمْلُ الأذى منهم‏.‏

‏{‏وَبَرَّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً‏}‏ أي لم يجعلني غيرَ قابلٍ للنصيحة‏.‏

ويقال ‏{‏شَقِيّاً‏}‏‏:‏ أي متكبراً متجبراً‏.‏ ويقال مختوماً بكُفْرٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قال عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَالسَّلاَمُ عَلَىَّ‏}‏ وقال لنبينا عليه السلام ليلة المعراج‏:‏ «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»‏.‏‏.‏ فشتان ما هما‏!‏

والسلام بمعنى السلامة، أي سلامة لي يوم الولادة مما نسبوا إِليَّ من قول النصارى في مجاوزة الحدِّ في المدح، ومما وصفني به اليهود من الذمِّ، فَلَسْتُ كما قالت الطائفتان جميعاً‏.‏

وسلام عليَّ يوم أموت؛ ففي ذلك اليوم تكون لي سلامةٌ حتى تكون بالسعادة وفاتي‏.‏

وسلام عليّ يو أُبْعَثُ؛ أي سلامةٌ لي في الأحوالِ مِمَّا يُبْتَلَى به غيرُ أهل الوصال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

أي الذي قال ما أخبر الله عنه هو عيسى ابن مريم *** أيكون بقول إله‏؟‏

وقد شكَّ فيه أكثر الخَلْق فَرَدَّه قومٌ وَقِبَله قومٌ، والفَرق بينهم افي استحقاقه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَوْلَ الحَقِّ‏}‏ أي يكون بقوله الحق وهو‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

لا يجوز أن يكون له وَلَدٌ على الحقيقة؛ لأنه واحد، والوَلَدُ بعضُ والده‏.‏

ولأنه لا داعي له إلى صحبة زوجة فيكون له ولد على الحقيقة‏.‏ ولا يجوز عليه التبني لأحدٍ لَعَدَمِ الجنسية بينهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إذا أراد إحداثَ شيءٍ خَلَقَه بقدرته، وخاطَبَه بأمر التكوين، ولا يتعصَّى عليه- في التحقيق- مقدور‏.‏

‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ‏}‏ أي أمرني بأن تعلموا ذلك؛ وأمرني بتبليغ رسالتي، واتباع ما شَرَعَ اللَّهُ من العبادات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

فَمَنْ عُجِنَتْ بِماءِ السعادةِ طينتُه أَطَاعَ في عاجله وما ضاع في آجله، ومَنْ أَقْصَتْه القِسْمة السابقة لم تُدْنِه الخِدْمَةُ اللاحقة، وسَيَلْقَوْْنَ غِبَّ هذا الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

تصير معارفهم ضروريةً، وأحوالُهم كلُّها معكوسةًَ، الحُجَّة تتأكَّد عليهم، والحاجةُ لا تُسْمَعُ منهم، والرحمةُ لا تتعلَّق بهم، فلا تُرْحَم شكاتُهم، ولا يُسْمَعُ نِداؤُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

تقوم الساعةُ بغتةً، وتصادفهم القيامةُ وهم غيرُ مستعدين لها فيتحسَّرون على ما فاتهم‏.‏

ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سَبَقَتْ لقوم الشقاوةُ- وهم في محو العَدَم، ولآخرين السعادة- وهم بنعت العدم- ولم يكن من أُولئك جُرْم بَعْدُ، ولا مِنْ هؤلاء وِفَاقٌ بعدُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

يريد به إذا قَبَضَ أرواحَ بني آدم بجملتهم، ولم يبقَ على وجه الأرض منهم واحدٌ، وليس يريد به استحداث مُلْكِه، وهو اليومَ مالِكُ الأرض ومَنْ عليها، ومالكُ الكونِ وما فيه‏.‏

ويقال إن زكريا قال- لمَّا سأل الولد‏:‏ ‏{‏يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 6‏]‏ وقال تعالى في صفة بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏كّذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرآءِيلَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُررِثُهُا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏، ولما انتهى إلى هذه الأمة قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمنْ عَلَيْهَا‏}‏‏.‏‏.‏ فشتان بين مَنْ وارِثُه الوَلَدُ وبين مَن ْ وارِثُه الأَحَدُ‏!‏

ويقال هان على العبد المسلم إِذل مات إذا كان الحقُّ وارثَه‏.‏ *** وهذا مخلوق يقول في صفه مخلوق‏:‏

فإِنْ يكُ عتَّابٌ مضى لسبيله *** فما مات من يبقى له مِثْلُ خالدِ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 168‏]‏ لماذا‏؟‏ لأَِنَّ وارثَهم اللَّهُ‏.‏