فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


الجزء الثاني

سورة التوبة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الفراقُ شديدٌ، وأشدُّه ألا يَعْقُبَه وصال، وفراقُ المشركين كذلك لأنه قال‏:‏ ‏{‏إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

ويقال مَنْ مُنِيَ بفراق أحبائه فبئست صحبته‏.‏ وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد، ولا شكَّ أنهم كانوا قد وطَّنوا نفوسَهم عليه، فنزل الخبرُ من الغيب بغتةً، وأتاهم الإعلامُ بالفرقةِ فجأةً، فقال‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏، أي هذه براءة من الله ورسوله، كما قيل‏:‏

فَبِتَّ بخيرٍ- والدُّنَى مطمئنةٌ *** وأصبحتَ يوماً والزمانُ تَقَلَّبَا

وما أشدَّ الفُرقةَ- لا سيَّما إذا كانت بغتةً على غير تَرَقُّبٍ- قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 39‏]‏ وأنشدوا‏:‏

وكان سراجُ الوصلِ أزهر بيننا *** فهبَّتْ به ريحٌ من البَيْن فانطفا

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

إِنْ قَطَعَ عنهم الوصلةَ فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فَأَمَّنْهُم في الحالِ ليتأهبوا لِتَحَمُّلِ مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ‏.‏

والإشارةُ فيه‏:‏ أنهم إِنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال، وإِنْ أَبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏واعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الكَافِرِينَ‏}‏ والإشارة فيه‏:‏ إنْ أصررتم على قبيح آثاركم سعَيْتُم إلى هلاككم بِقَدَمِكُم‏.‏ وندمتم في عاجلكم على سعيكم، وحَصُلْتُم في آجِلِكم على خسرانكم؛ وما خَسِرْتُم إلا في صفقتكم، وما ضَرَّ جُرْمُكم سواكم وأنشدوا‏:‏

تبَدَّلَتْ وتبدَّلْنا واحسرتا *** مَنْ ابتغى عِوَضاً لليلى فلم يَجِدِ

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ‏}‏‏.‏

أي لِيَكُنْ إعلامٌ من الله ورسوله للناس بنقض عهدهم، وإِعلانٌ عنهم بأنهم ما انقطعوا عن مألوفهم من الإهمال ومعهودهم، وقد برح الخفاء من اليوم بأنهم ليس لهم ولاءٌ، ولم يكن منهم بما عقدوا وفاءٌ، فَلْيَعْلَمْ الكافةُ أنهم أعداءٌ، وأنشدوا‏:‏

أشاعوا لنا في الحيِّ أشنعَ قصةٍ *** وكانوا لنا سِلْماً فصاروا لنا حربا

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللهَ بَرِئٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ‏}‏‏.‏

مَنْ رأى من الأغيار- شظيةً من الآثار، ولم يَرَ حصولَهَا بتصريفِ الأقدار فقد أشرك- في التحقيق- واستوجب هذه البراءة‏.‏

ومَنْ لاَحَظَ الخلْق تَصَنُّعاً، أو طالَعَ نَفْسَه إعجاباً فقد جعل ما للهِ لغير الله، وظنَّ ما لله لغير الله، فهو على خطرٍ من الشِّرْكِ بالله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أليمٍ‏}‏‏.‏

إنْ عادوا إلى البابِ لم يقطعْ رجاءهم، ومدَّ إلى حدِّ وضوحِ العُذْرِ إرجاءَهم‏.‏ وبيَّن أنهم إِنْ أَصَرُّوا على عُتُوِّهم فإلى ما لا يُطِيقون من العذاب مِنْقَلبهُم، وفي النار مثواهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

منْ وَفَّى الحقَّ في عقدِه فَزِدْه على حفظِ عهدهِ؛ إذ لا يستوي مَنْ وفَّاه ومنْ جفاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ‏}‏‏.‏

يريد إذا انسلخ الحُرُمُ فاقتلوا مَنْ لا عهدَ له من المشركين، فإنَّهم- وإن لم يكن لهم عهد وكانوا حُرُماً- جعل لهم الأمانَ في مدة هذه المُهلَة، ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فكرتم يأمر بترك قتال مَنْ أَبَى كيف يرضى بقطع وصال مَنْ أَتَى‏؟‏‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏‏.‏

أَمَرَهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء‏.‏

وأَعْدَى عدوِّك نَفْسُكَ التي بين جَنْبَيْك؛ فسبيلُ العبدِ في مباشرة الجهاد الأكبر مع النَّفْس بالتضييق عليها بالمبالغة في جميع أنواع الرياضات، واستفراغ الوسع في القيام بصدق المعاملات‏.‏ ومِنْ تلك الجملة ألا ينزلَ بساحات الرُّخَصِ والتأويلات، ويأخذَ بالأشقِّ في جميع الحالات‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

حقيقة التوبة بالرجوعُ بالكلية من غير أن تتركَ بقية‏.‏ فإِذا أَسْلَم الكافرُ بعد شِرْكه، ولم يُقَصِّرْ في واجبٍ عليه من قِسْمَىْ فِعله وتَرْكِه، حَصَلَ الإذنُ في تَخْلِيَةِ سبيله وفكِّه‏:‏

إن وَجَدْنَا لِمَا ادَّعَيْتَ شهوداً *** لم تَجدْ عندنا لحقٍّ حدودا

وكذلك النَّفْسُ إذا انخنست، وآثارُ البشرية إذا انْدَرَسَتْ، فلا حَرَجَ- في التحقيق- في المعاملات في أوان مراعاة الخطرات مع الله عند حصول المكاشفات‏.‏ والجلوسُ مع الله أَوْلَى من القيام بباب الله تعالى، قال تعالى فيما ورد به الخبر‏:‏ «أنا جليس مَنْ ذكرني»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

إِذا استجار المُشْرِكُ- اليوم- فلا يُردُّ حتى يسمَع كلام الله، فإِذا استجار المؤمنُ طول عمره من الفراق- متى يُمْنَعُ من سماع كلام الله‏؟‏ ومتى يكون في زمرة مَنْ يقال لهم‏:‏ ‏{‏اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وإذ قال- اليوم- عن أعدائه‏:‏ ‏{‏فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ‏}‏ فإِن لم يؤمن بعد سماع كلامه نُهِيَ عن تعرضه حيث قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏- أترى أنه لا يُؤَمِّنُ أولياءَه- غداً- مِنْ فراقه، وقد عاشوا اليومَ على إيمانه ووفائه‏؟‏‏!‏ كلا‏.‏‏.‏ إنه يمتحنهم بذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإذا كان هذا بِرَّه بِمَنْ لا يَعْلَم فكيف بِرُّه بِمَنْ يعلم‏؟‏

ومتى نُضَيِّعُ مَنْ يَنِيخُ بِبَابِنَا *** والمُعْرِضون لهم نعيمٌ وافِرُ‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

كيف يكون المُفْلِسُ من عرفانه كالمخلص في إيمانه‏؟‏

وكيف يكون المحجوبُ عن شهوده كالمستهلَكِ في وجوده‏؟‏

كيف يكون مَنْ يقول «أنا» كمن يقول «أنت»‏؟‏ وأنشدوا‏:‏

وأحبابُنا شتَّان‏:‏ وافٍ وناقِصٌ *** ولا يستوي قطٌّ مُحِبٌّ وباغِضُ

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لِهُمْ‏}‏، إنْ تَمَسْكُوا بحبل وفائنا أحللناهم ولاءنا، وإِنْ زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدِّنا، ثم لم يَرْبَحُوا في بُعْدِنا‏.‏

‏{‏إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ‏}‏‏:‏ المُتَّقي الذي يستحق محبةَ مَنْ يُتَّقَى؛ وذلك حين يتقي محبَّةَ نَفْسِه، وذلك بِتَرْكِ حظِّه والقيام بِحقِّ ربِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

وَصَفَهم بلؤم الطبع فقال‏:‏ كيف يكونون محافظين على عهودهم مع ما أضمروه لكم من سوء الرضا‏؟‏ فلو ظَفِرُوا بكم واستولوا عليكم لم يُراعوا لكم حُرْمةً، ولم يحفظوا لكم قرابةً أو ذِمِّةً‏.‏

وفي هذا إشارة إلى أنَّ الكريمَ إذا ظَفِرَ غَفَرَ، وإذا قدر ما غَدَرَ، فيما أَسرَّ وَجَهَرَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي لا عَجَبَ مِنْ طَبْعِهِمْ؛ فإنهم في حقِّنا كذلك يفعلون‏:‏ يُظْهِرُون لباسَ الإِيمان ويُضْمِرُون الكفر‏.‏ وإنهم لذلك يعيشون معكم في زِيِّ الوفاق، ويستبطنون عين الشِّقاق وسوءَ النِّفاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

مَنْ رَضِيَ مِنَ الله بغير الله أرخص في صفقته ثم إنه خسر في تجارته؛ فَلاَ لَهُ- وهو عن الله- أثر استمتاع، ولا له- في دونه سبحانه- اقتناع؛ بَقِيَ عن الله، ولم يستمتع عن الله‏.‏ وهذا هو الخسران المبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

كيف يراعي حقَّ المؤمنين مَنْ لا يراعي حقَّ الله في الله‏؟‏ أخلاقُهم تَشَابهت في تَرْكِ الحُرْمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

معناه‏:‏ وإن قبلناهم وصَلُحُوا لولائنا فَلُحْمَةُ النّسَبِ في الدِّين بينكم وبينهم وشيجة، وإلا فليكن الأجانبُ مِنا على جانبٍ منكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

إذا جنحوا إلى الغَدْرِ، ونكثوا ما قدَّموه من ضمان الوفاء بالعهد، وبسطوا ألسنتَهم فيكم باللوم فاقصدوا مَنْ رحى الفتنةِ عليه تدور، وغُصْنُ الشَّرِّ مِنْ أَصْلِه يَتَشَعَّبُ، وهم سادةُ الكفار وقادتهم‏.‏

وحقُّ القتالِ إعدادُ القوةِ جهراً، والتبرِّي عن الحول والقوة سِرَّاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

حَرَّضَهم على القتال- على ملاحظة أمرِ الله بذلك- لا على مقتضى الانطواء على الحقد لأحد، فإِنَّ مَنْ غَضِبَ لنَفْسِه فمذمومُ الوصف، ومَنْ غَضِبَ لله فإنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ‏}‏‏:‏ فالخشية من الله بشير الوَصْلة، والخشية من غير الله نذير الفُرقة‏.‏ وحقيقة الخشية نَفْضُ السِّرِّ عن ارتكاب الزَّجر ومخالفة الأمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

هوَّن عليهم كلفةَ المخاطرة بالمهجة بما وَعَدَهُم مِن الظّفَرِ والنصرة، فإنَّ شهودَ خِزْيِ العدوِّ مما يُهَوِّنُ عليهم مقاساة السوء‏.‏ والظَّفَرُ بالأَرَب يُذْهِبُ تَعَبَ الطَّلَب‏.‏

وشفاءُ صدور المؤمنين على حسب مراتبهم في المقام والدرجات؛ فمنهم مَنْ شفاءُ صدره في قَهْرِ عدوِّه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدره في نَيْلِ مَرْجُوِّه‏.‏ ومنهم مَنْ شفاء صدره في الظَّفَر بمطلوبه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدرِه في لقاء محبوبه‏.‏ ومنهم من شفاء صدره في درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره في البقاء بمعبوده‏.‏

وكذلك ذهابُ غيظِ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوَّعُ أبوابُه، وفيما ذَكَرْنَا تلويحٌ لِمَا تركنا‏.‏

‏{‏وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ‏}‏ حتى يكون استقلاله بمحوِّل الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

مَنْ ظَنَّ أنه يُقْنَعَ منه بالدعوى- دون التحقق بالمعنى- فهو على غَلَطٍ في حسبانه‏.‏ والذي طالبهم به من حيث الأمر صِدْقُ المجاهدةِ في الله، وتَرْكُ الركونِ إلى غير الله، والتباعدُ عن مساكَنَةِ أعداءِ الله‏.‏‏.‏ ثِقةً بالله، واكتفاءً بالله، وتبرِّياً من غير الله‏.‏

وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجةً فالمعنى فيه‏:‏ ألا يُفْشُوا في الكفارِ أسرارَ المؤمنين‏.‏

وأولُ مَنْ يهجره المسلمُ- لئلا تَطَّلِعَ على الأسرار- نَفْسُه التي هي أعدى عدوِّه، وفي هذا المعنى قال قائلهم‏:‏

كتابي إليكم بعد موتي بليلةٍ *** ولم أدرِ أَنِّي بعد مَوْتِيَ أكتب

ويقال‏:‏ إن أبا يزيد- فيما أُخْبِرَ عنه- أنه قال للحقِّ في بعض أوقات مكاشفاته‏:‏ كيف أطلبك‏؟‏ فقال له‏:‏ فَارِقْ نَفْسَكَ‏.‏

ويقال إن ذلك لا يتمُّ، بل لا تحصل منه شظيَّة إلا بكَيِّ عُرُوقِ الأطماعِ والمطالباتِ لِمَا في الدنيا ولِمَا في العُقبى ولِمَا في رؤية الحال والمقام- ولو بِذَرَّةٍ‏.‏ والحريةُ عزيزةٌ *** قال قائلهم‏:‏

أتمنى على الزمانِ مُحَالاً *** أَنْ ترى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

عمارةُ المساجد بإقامة العبادة فيها، والعبادةُ لا تُقْبَلُ إلا بالإخلاص، والمشرِكُ فاقِدُ الإخلاص، وشهادتُهم على أنفسهم بالكفر دعواهم حصول بعض الحدثان بتأثير الأسباب، فمن أثبت في عقده جوازَ ذَرَّة في العالم من غير تقديره- سبحانه- شارَكَ أربابَ الشِّرْكِ في المعنى الذي لزمَتْهم به هذه السِّمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

لا تكون عمارةُ المساجد إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يُعَمِّرها بتخريب أوطان شهوته، والزاهدُ يعمرها بتخريب أوطان مُنْيته، والعارف يعمرها بتخريب أوطان علاقته، والموَحِّدُ يعمرها بتخريب أوطان ملاحظته ومُسَاكتِه‏.‏ وكلُّ واحدٍ منهم واقفٌ في صفته؛ فلصاحب كلِّ موقفٍ منهم وصفٌ مخصوص‏.‏

وكذلك رَتْبتهُم في الإيمان مختلفة؛ فإيمانٌ من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتان ما هم‏!‏ قال قائلهم‏:‏

لا تعْرِضَنَّ بِذِكْرِنا في ذِكْرِهِم *** ليس الصحيح- إذا مشى- كالمُقْعَدِ

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ليس مَن قام بمعاملة ظاهره كمن استقام في مواصلة سرائره، ولا مَنْ اقتبس من سراج علومه كمن استبصر بشموس معارفه، ولا من نُصِبَ بالباب من حيث الخدمة كمن مُكِّنَ من البِسَاط من حيث القربة وليس نعْتُ مَنْ تَكلَّفُ نِفَاقاً كوصفِ مَنْ تَحقَّقَ وِفَاقاً، بينهما بَوْن بعيدٌ‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏آمَنُوا‏}‏ أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبقَ في سماءِ يقينهم سحابُ رَيْبٍ، ولا في هواءِ معارفهم ضبابُ شك‏.‏

‏{‏وَهَاجَرُوا‏}‏‏:‏ فلم يُعَرِّجُوا في أوطان التفرقة؛ فَتَمَحَّضَتْ حركاتُهم وسكناتهم بالله لله‏.‏

‏{‏وَجَاهَدُوا‏}‏‏:‏ لا على ملاحظة غَرَض أو مطالعة عِوَضٍ؛ فلم يَدَّخِرُوا لأنفسِهم- مِنْ ميسورهم- شيئاً إلا آثروا الحقَّ عليه؛ فَظَفِروا بالنعمة؛ في قيامهم بالحقِّ بعد فنائهم عن الخَلْق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

البشارة من الله تعالى على قسمين‏:‏ بشارة بواسطة المَلَكِ، عند التوفي‏:‏

‏{‏تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وبشارة بلا واسطة بقول المَلَك، إذ يُبَشِّرهم ربُّهم برحمةٍ منه، وذلك عند الحساب‏.‏ يبشرهم بلا واسطة بِحُسْنِ التولِّي؛ فعاجِلُ بشارتهم بنعمة الله، وآجِل بشارتهم برحمة الله، وشتان ما هما‏!‏

ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان، فأصحاب الإحسان صَلُحَ أمرهم للشهرة فأَظْهَرَ أَمَرَهُم للمَلَكِ حتى بَشَّروهم جَهْراً، وأهلُ العصيان صلح حالهم لِلسَتْرِ فتولَّى بشارتهم- من غير واسطة سِرَّاً‏.‏

ويقال إِنْ كانت للمطيع بِشارةٌ بالاختصاص فإنَّ للعاصي بشارة بالخلاص‏.‏ وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصي بشارة بالنجاة‏.‏

ويقال إنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبة من يُبَشِّر بالخير؛ فأراد الحقُّ- سبحانه- أن تكون محبةُ العبد له- سبحانه- على الخصوص؛ فتولَّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة، فقال‏:‏ ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

لولا تَمتُّعُ مُقْلتي بلقائه *** لَوَهَبْتُها بُشْرَى بقرب إيابه

ويقال بَشَّرَ العاصِيَ بِالرحمة، والمطيعَ بالرضوان، ثم الكافةَ بالجنة؛ فَقَدَّمَ العاصِيَ في الذكر، وقدَّم المطيع بالبرِّ، فالذَّكر قوْلُه وهو قديم والبِرُّ طَوْلُه وهو عميم‏.‏ وقولُه الذي لم يَزَلْ أعَزُّ مِنْ طوْله الذي حصَلَ‏.‏ قدَّم العصاة على المطيعين لأنَّ ضَعْفَ الضعيف أَوْلى بالرِّفق من القوي‏.‏

ويقال قدَّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يومُ العَرْضِ وحضورِ الجمعِ لا يفتضح العاصي‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ‏}‏ يُعَرِّفُهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات بسعيهم وطاعتهم، ولكن برحمته- سبحانه- وصلوا إلى نعمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما منكم من أحدٍ يُنَجِّيه عمله‏.‏ قالوا‏:‏ ولا أنتَ يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ولا أنا، إِلا أن يتغمدني الله برحمته»‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ‏}‏‏:‏ قومٌ نعيمُهم عطاءُ ربِّهم على وصف التمام، وقومٌ نعيمُهم لقاءُ ربهم على نعت الدوام؛ فالعابدون لهم تمام عطائه، والعارفون لهم داوم لقائه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا‏}‏ والكناية في قوله «فيها» كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة، سيما وقد ذكر الأجر بعدها؛ فكما لا يَقْطَعُ عطاءَه عنهم في الجنة لا يمنع عنهم لقاءَه متى شاءوا في الجنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 33‏]‏ أي لا مقطوعةٌ عنهم نعمتُه، ولا ممنوعةٌ منهم رؤيتُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

مَنْ لم يَصْلُحْ بطاعته لربه لا تَسْتَخْلِصْه لصحبة نَفْسِك‏.‏

ويقال من آثر على الله شيئاً يُبَارِكْ له فيه؛ فيَبْقى بذلك عن الله، ثم لا يُبْقِي ذلك معه، فإنْ استبقاه بجهده- كيف يستبقي حياته إذا أَذِنَ الله في ذهاب أَجَلِه‏؟‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

مَنْ لم تَزُلْ نعمتُه قَبْلَهُ *** زَالَ مع النعمة بالموتِ

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ليس هذا تخييراً لهم، ولا إذْناً لهم، ولا إذْناً في إيثارِ الحظوظِ على الحقوقِ، ولكنه غاية التحذير والزَّجر عن إيثار شيءٍ من الحظوظ على الدِّين، ومرورُ الأيام حَكَمٌ عَدْلٌ يَكْشِفُ في العاقبة عن أسرار التقدير، قال قائلهم‏:‏

سوف ترى إذا انجلى الغبارُ *** أَفَرَسٌ تحتك أم حمار‏؟‏

ويقال علامةُ الصدقِ في التوحيد قطعُ العلاقات، ومفارقهُ العادات، وهجران المعهودات والاكتفاءُ بالله في دوام الحالات‏.‏

ويقال مَنْ كَسَدَت سوقُ دِينِه كَسَدَتْ أسواقُ حظوظه، وما لم تَخْلُ منك مَنَازِلُ الحظوظ لا تعْمُرُ بك مَشَاهِدُ الحقوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرةٍ‏}‏‏.‏

النصرة من الله تعالى في شهود القدرة، والمنصورُ مَنْ عَصَمه الله عزَّ وجلَّ عن التوهُّم والحسبان، ولم يَكِله إلى تدبيره في الأمور، وأثبته الحقُّ- سبحانه- في مقام الافتقار متبرياً عن الحَوْل والمُنَّة، مُتَحَقِّقاً بشهود تصاريف القدرة، يَأْخُذُ الحقُّ- سبحانه- بيدِه فيخرجه عن مهواة تدبيره‏.‏ ويوقفه على وصف التصبُّر لقضاء تقديره‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بشمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏‏.‏

يعني نَصَرَكم يومَ حُنَيْن حين تَفَرَّقَ أكثرُ الأصحاب، وافترت أنياب الكَرَّةِ عن نِقاب القَهْر فاضطربت القلوبُ، وخانت القوى أصحابَها، ولم تُغْنِ عنكم كَثْرتُكم، فاستخلص اللهُ أسرارَكم- عند صدق الرجوع إليه- بِحُسْنِ السكينةِ النازلة عليكم، فَقَلَبَ اللهُ الأمرَ على الأعداء، وخَفَقَتْ راياتُ النصرة، ووقعت الدائرةُ على الكفار، وارتدَّتْ الهزيمةُ عليهم فرجعوا صاغرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

السكينةُ ثَلَجُ القلب عند جريان حُكْم الربِّ بنعت الطمأنينة، وخمودُ آثار البشرية بالكلية، والرضاءُ بالبادي من الغيب من غير معارضةِ اختيارٍ‏.‏

ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة، وبلا تحرُّكِ عِرْقٍ لمعارضةِ حُكْم‏.‏ والسكينة المنزلةُ على ‏{‏المُؤْمِنِينَ‏}‏ خمودُهم تحت جريان ما وَرَدَ من الغَيْبِ من غير كراهةِ بنوازع البشرية، واختطافُ الحقِّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهبةٌ من مخلوق؛ فَسَكَنَتْ عنهم كلُّ إرادةٍ واختيار‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ من وفور اليقين وزوائد الاستبصار‏.‏

‏{‏وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ بالتطوح في متاهات التفرقة، والسقوط في وهدة ضيق التدبير، ومِحنَةِ الغَفْلَةِ، والغَيْبَةِ عن شهود التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ردهم من الجهل إلى حقائق العلم، ثم نَقَلَهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين، ثم رقَّاهم عن تلك الجملة بما لقَّاهم به من عين الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏‏.‏

فقدوا طهارة الأسرار بماءِ بالتوحيد؛ فبقوا في قذورات الظنون والأوهام، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجدِ التي هي مشاهدُ القرب‏.‏ وأمَّا المؤمنون فطهَّرَهم عن التدنُّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقَّ فَرْداً فيما يُبَيِّنهُ مِنَ الأمرِ ويُمضِيه من الحُكْم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عِيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

تَوَقُّعُ الأرزاقِ من الأسبابِ من قضايا انغلاق باب التوحيد، فَمَنْ لم يفْرِدْ معبودَه بالقسمة بَقِيَ في فقرٍ مُسَرْمَدٍ‏.‏

ويقال مَنْ أنَاخَ بعُقْوةِ كَرَم مولاه، واستمطر سحَابَ جودِه أغناه عن كل سبب، وكفاه كلَّ تَعَبٍ، وقضى له كلَّ سُؤْلٍ وأرَب، وأعطاه من غير طلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

مَنْ استوجب الهوانَ لا ينْجِيكَ مِنْ شَرِّه غير ما يستحقه من الإذلال على صغره، ومَنْ دَاهَن عدوَّه فبالحريِّ أنْ يلقى سوءَه‏.‏

وَمِنْ أشدِّ الناس لَكَ عداوة، وأبعدهِم عن الإيمان- نَفْسُكَ المجبولةُ على الشرِّ فلا تُقْلِعُ إلاَّ بذبحها بِمُدْيَةِ المجاهدات‏.‏ وهي لا تؤمِن بالتقدير، ولا يزول شَكها قط، وكذلك تَخَلدُ إلى التدبير، ولا تسكن إلا بوجود المعلوم، ولا تقبل منك إلا كاذِبَ المواعيد، ولذلك قالوا‏:‏

وأَكْذِبْ النَّفْسَ إذا حَدَّثْتَها *** فإِنَّ صِدْقَ القول يذري بالأمل

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏‏.‏

لو كان هذا في تخاطب المخلوقين لكان عينَ الشكوى؛ والشكوى إلى الأحباب تشير إلى تحقق الوصلة‏.‏

شكا إليهم ما حصل من قبيح أعمالهم، وكم بين مَنْ تشكو منه وبين مَنْ تشكو إليه‏!‏‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

الكفار قبلهم جحدوا الربوبية، وهؤلاء أقروا بالله، ثم لما أثبتوا له الوَلَدَ نقضوا ما أقروا به من التوحيد، فصاروا كالكفار قَبْلَهم‏.‏

ويحتمل أن تكون مضاهاةُ قولهم في وصف المعبود بأنَّ عيسى ابنه وعزيراً ابنه كقولِ الكفار قَبْلَهم إنَّ الملائكة بناتُ الله‏.‏

ويقال لمَّا وصفوا المعبود بما يتعالى عن قولهم لم ينفَعُهم صِدْقُهم في الإقرار بربوبيته مما أضافوا إليه من سوء القالة‏.‏ وكلُّ مَنْ أطلق في وصفه ما يتقدَّسُ- سبحانه- عنه فهو للأعداء مُشَاكِلٌ في استحقاق الندم والتوبيخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

كما لا تجوز مجاوزة الحد في وَضْع القدْرِ لا تجوز مجاوزة الحد في رَفْع القَدْر، وفي الخبر‏:‏ «أُمِرْنا أَنْ نُنْزِلَ الناسَ منازِلَهم»‏.‏

فَمَنْ رأى من المخلوقين شظيةً من الإبداع أنْزَلَهم منزلةَ الأرباب، وذلك- في التحقيق- شِرْك، وما أخلص في التوحيد مَنْ لم يَرَ جميعَ الحادثات بصفاتها ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ من الله‏.‏

‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا‏}‏‏:‏ فمن رفع في عقده مخلوقاً فوق قدره فقد أشرك بربِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

من رام أن يستر شعاع الشمس بدخان يوجهه من نيرانه، أو عالج أنْ يمنع حكم السماء بحيلته، وتدبيره، أو يُسْقِطَ نجوم الفَلَكِ بسهام قوسِه- أظهرَ رُعونَته ثم لم يَحْظَ بمراده‏.‏ كذلك مَنْ توهَّم أن سُنَّةَ التوحيد يعلوها وَهَجُ الشُّبَه فقد خاب في ظنِّه، وافتضح في وهمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

أزاحَ العِلَل بما ألاح من الحُجَج، وأزال الشُّبَهَ بما أفصح من النهج؛ فشموسُ الحقِّ طالِعةٌ، وأدلة الشرع لامعة، كما قالوا‏:‏

هي الشمسُ إلا للشمس غيبةً *** وهذا الذي نعنيه ليس يَغيب

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

العالِمُ إذا ارتفق بأموال الناس عِوَضاً عما يُعلِّمُهم زالَتْ بركاتُ عِلْمِه، ولم يَطِبْ في طريق الزهد مَطْعَمُه‏.‏

والعارِفُ إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشيءٍ من أحواله وأعماله زالت آثارُ هِمَّتِه، ولم تُجْدِ في حكْمِ التوحيد حالتُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَها فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

لهم في الآجل عقوبةٌ‏.‏ والذين لا يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فلهم في العاجل حجبة‏.‏ وقليلٌ مِنْ عبادهِ مَنْ سَلِمَ من الحجاب في مُحتَضَرِه والعقاب في مُنْتَظرِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لمَّا طلبوا الجاهَ عند الخلْقِ بمالِهم، وَبَخُلوا بإخراج حقِّ الله عنه شَانَ وجوهَهم‏.‏ ولمَّا أسندوا ظهورَهم إلى أموالهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا ‏(‏عبسوا‏)‏ في وجوه العفاة وعقدوا حواجِبَهم وُضِعَتْ الكيَّةُ على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمَّا طَوَوْا كَشْحَهُم دون الفقراء- إذا جالسوهم- وَضَعَ المِكوَاةَ على جُنُوبِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْهَا أَرْبَعَةُ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ‏}‏‏.‏

لمَّا عَلِم أنهم لا يُداوِمُون على مُلازَمَةِ القُرْبِ أَفْرَدَ بعضَ الشهور بالتفضيل، ليخُصُّوها باستكثار الطاعة فيها‏.‏ فأمَّا الخواصُ مِنْ عبادِه فجميعُ الشهورِ لهم شعبانُ ورمضانُ، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة، وجميع البقاع لهم مسجد *** وفي معناه أنشد بعضهم‏:‏

يا ربُّ إنَّ جهادي غيرُ مُنْقَطِعٍ *** وكُلُّ أرضٍ لي ثَغْرُ طرسوس

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

قال للعوام‏:‏ لا تَظْلِموا في بعض الشهور أَنْفُسَكُم، يعني بارتكاب الزَّلَّة‏.‏ وأَمَّا الخواص فمأمورون ألا يَظْلِمُوا في جميع الشهور قلوبَهم باحتقاب الغفلة‏.‏

ويقال‏:‏ الظلم على النَّفْس أن يجعلَ العبدُ زمامَه بيد شهواته، فَتُورِدُه مَواطِنَ الهلاك‏.‏

ويقال‏:‏ الظلم على النَّفْس بخدمة المخلوقين بَدَل طاعة الحقِّ‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ ظَلَم على قلبه بالمضاجعات امْتُحِنَ بِعَدمِ الصفوة في مرور الأوقات‏.‏

‏{‏وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً‏}‏‏:‏ ولا سِلاحَ أمضى على العدوِّ مِن تَبَرِّيكَ عن حَوْلِكَ وقُوَّتِك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

الدِّينُ ملاحظةُ الأمر ومجانَبَةُ الوِزر وتركُ التقدم بين يدي الله سبحانه- في جميع أحكام الشرع، فالآجالُ في الطاعاتِ مضروبة، والتوفيقُ في عرفانه متَّبع، والصلاح في الأمور بالإقامة على نعت العبودية؛ فالشهرُ ما سمَّاه الله شهراً، والعامُ والحوْلُ ما أعْلمَ الخَلْقَ أنه قَدْرُ ما بَيَّنه شرعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

عاتَبهم على تَركِ البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فُرْصَةِ الرُّخصَة‏.‏

وأَمَرَهم بالجد في العزم، والقَصْدِ في الفعل؛ فالجنوحُ إلى التكاسل، والاسترواحُ إلى التثاقل أماراتُ ضعفِ الإيمان إذ الإيمان غريمٌ مُلازِمٌ لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشْقِّ، وملابسة الأحَقِّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏‏:‏ وهل يَجْمُل بالعابِد أَنْ يختارَ دنياه على عقْباه‏؟‏

وهل يحسُن بالعارف أَنْ يُؤْثِرَ هواه على رضا مولاه‏؟‏ وأنشدوا‏.‏

أيجملُ بالأحبابِ ما قد فعلوا *** مضَوْا وانصرفوا يا ليتهم قَفَلُوا

إنَّ غيبةَ يوم للزاهد عن الباب تَعْدِل شهوراً، وغيبةُ لحظةٍ للعارف عن البِساط تعدل دهوراً، وأنشدوا‏:‏

الإلْفُ لا يصْبِرُ عن إِلْفِه *** أَكْثَرَ من طَرْفَةِ عَيْنِ

وقد صبَرْنا عَنكُمُ ساعةً *** ما هكذا فِعْلُ مُحِبيْنِ

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

العذابُ الأليمُ إذا أعرض العَبْدُ عن الطاعةِ ألا يبعث وراءه من جنود التوفيق ما يردُّه إلى الباب‏.‏

العذابُ الأليمُ أنْ يَسْلُبَه حلاوةَ النَّجوى إذا آب‏.‏

العذابُ الأليمُ الصدُودُ يومَ الورود، وقيل‏:‏

واعدوني بالوصال- والوصالُ عَذْبٌ- *** ورَمَوني بالصُّدودِ والصدُّ صعبُ

العذابُ الأليمُ الوعيدُ بالفِراق، فأمَّا نَفْسُ الفِراق فهو تمامُ التَّلَفِ، وأنشدوا‏:‏

وزَعَمْتَ أَنَّ البَيْنَ مِنْكَ غداً *** هَدِّدْ بذلك مَنْ يعيش غدا

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ يصرف ما كان مِنْ إقباله عليه إلى غيره من أشكاله، وليس كلُّ مَنْ حَفَرَ بئراً يشربُ مِنْ معِينها، وأنشدوا‏:‏

تَسْقِي رَيَاحِينَ الحِفَاظِ مدامعي *** وَسِوَايَ في رَوْضِ التواصُل يَرْتَع

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏‏.‏

مِنْ عزيزِ تلك النصرة أنه لم يستأنِسْ بثانية الذي كان معه بل رد الصِّدِّيقَ إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقالَ‏:‏ «ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما‏؟‏»‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا‏}‏‏.‏

ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه في كشوفاته في تلك الحالة، ولولا نصرتُه لتلاشى تحت سطواتِ كَشْفِه‏.‏

ويقال كان- عليه السلام- أمانَ أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، وجعله- في الظاهر- في أمان العنكبوت حين نَسَجَ خَيْطَه على باب الغار فَخَلَّصَه من كيدهم‏.‏

ويقال لو دخل هذا الغار لا تشقَّ نسيج العنكبوت *** فيا عجباً كيف سَتَرَ قصةَ حبيبه- صلوات الله عليه وعلى آله وسلم‏؟‏‏!‏‏.‏

ويقال صحيحٌ ما قالوا‏:‏ للبقاع دول، فما خَطَرَ ببالِ أحدٍ أنَّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيِّد- صلى الله عليه وسلم ‏!‏ ولكنه يختص بقسمته ما يشاء ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏‏.‏

ويقال ليست الغِيران كلها مأوى الحيَّاتِ، فمنها ما هو مأوى الأحباب‏.‏ ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول‏:‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا‏}‏ فهو سبحانه- وإن تقدَّس عن كل مكان- ولكن في هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا‏:‏

يا طالبَ الله في العرشِ الرفيعِ به *** لا تطلب العرشَ إن المجد في الغار

وفي الآية دليل على تحقيق صحبة الصدِّيق- رضي الله عنه- حيث سمَّاه الله سبحانه صاحبَه، وعَدَّه ثانِيه، في الإيمان ثانية، وفي الغار ثانيه ثم في القبر ضجيعه، وفي الجنة يكون رفيقه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

الكناية في الهاء من «عليه» تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدةٌ إلى الصديق رضي الله عنه، فإن حُمِلَتْ على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال للصدِّيق- على التخصيص- فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلَّى لأبي بكر خاصة»‏.‏

وإنما كان حزنُ الصديقِ ذلك اليوم لأجل الرسول- صلى الله عليه وسلم إشفاقاً عليه‏.‏‏.‏ لا لأجل نَفْسِه‏.‏ ثم إنه- عليه السلام- نفى حزنه وسلاّه بأن قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا‏}‏، وحُزْنٌ لا يذهب لِمَعِيَّة الحقِّ لا يكون إلاَّ «لحقِّ الحق»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

يريد به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتلك الجنودُ وفودُ زوائد اليقين على أسراره بتجلِّي الكشوفات‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى‏}‏ بإظهار حُجج دينه، وتمهيد سُبُل حقِّه ويقينه؛ فراياتُ الحقِّ إلى الأبدِ عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحِزْبُ الحقِّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون‏.‏

ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام في الغار، وأشرقت على سِرِّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاعُ أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفَقْدِ قراره- أزال عنه لواعِجه بما أخبره مِنْ قُرْبه- سبحانه- فاستبدل بالقلق سكوناً، وبالشوق أُنساً، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة‏.‏

ويقال كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ثاني اثنين في الظاهر بشبه ولكن كان مُسْتَهْلَكَ الشاهد في الواحِد بِسِرِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره في جميع أحوالهم‏.‏

«خفافاً» يعني في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات‏.‏

«وثقالا» إذا رُدِدْتُم إليك في مقاساة تعب المكابدات‏.‏ فإنَّ البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

ويقال «خفافا» إذا تحررتم من رِقِّ المطالبات والاختيار، «وثقالا» إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمِّلُون قضاءَ الحقِّ مآرِبَكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يريد به المتخلفين عنه في غزوة «تبوك»، بيَّنَ سبحانه أنه لو كانت المسافةُ قريبةً، والأمرُ هيِّناً لَمَا تخلَّفوا عنك؛ لأنَّ مَنْ كان غيرَ متحقِّقٍ في قَصْدِه كان غيرَ بالغ في جهده، يعيش على حَرْفٍ، ويتصرَّف بحرف، فإِنْ أصابه خيرٌ اطمأنَّ به وإنْ أصابَتْه فتنةٌ انقلبَ على وجهه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 21‏]‏‏.‏

فإذا رأيتَ المريدَ يتبعُ الرُّخَصَ ويَجْنَحُ إلى الكسل، ويتعلَّلُ بالتأويلاتِ‏.‏‏.‏ فاعلَمْ أنه مُنْصَرِفٌ عن الطريق، متخلِّفٌ عن السلوك، وأنشدوا‏:‏

وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعةً *** مَلَّ الوصال وقال‏:‏ كان وكانا

ومَنْ جَدَّ في الطلب لم يُعَرِّج في أوطان الفشل، ويواصل السير والسُّرى، ولا يحتشم من مقاساة الكدِّ والعناء، وأنشدوا‏:‏

ثم قطعتُ الليلَ في مهمهٍ *** لا أسداً أخشى ولا ذئبا

يغلبني شوقي فأطوي السُّرى *** ولم يَزَلْ ذو الشوقِ مغلوبا

قوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 42‏]‏‏:‏ يمين المتعلِّلِ والمُتَأَوِّلِ يمينٌ فاجرةٌ تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

لم يكن منه صلى الله عليه وسلم خرْقُ حَدٍّ أو تعاطي محظورٍ، وإنما نذر منه ترك ما هو الأَوْلى‏.‏ قَدَّم الله ذِكْرَ العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب بقوله‏:‏ ‏{‏لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏‏.‏

أو مِنْ جواز الزَّلة على الأنبياء- عليهم السلام- إذ لم يكن ذلك في تبليغ أمر أو تمهيد شرع بقول قائله‏:‏ أنشدوا بالعفو قبل أن وقف للعذر وكذا سُنَّة الأحباب مع الأحباب، قال قائلهم‏:‏

ما حطَّك الواشون عن رتبة *** عندي ولا ضَرَّك مُغْتَابُ

كأنهم أَثْنَوْا- ولم يعلموا- *** عليكَ عندي بالذي عابوا

ويقال حسناتُ الأعداء- وإن كان حسنات- فكالمردودة، وسيئات الأحباب- وإن كانت سيئات- فكالمغفورة‏:‏

مَنْ ذا يؤاخِذُ مَنْ يحبُّ بِذَنْبِه *** وله شفيعٌ في الفؤاد مُشَفِّع

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

المخلصُ في عقده غيرُ مُؤثِرٍ شيئاً على أمره، ولا يدَّخر مستطاعاً في استفراغ وُسْعِه، وبَذْلِ جُهْدِه، ومقاساة كَدِّه، واستعمال جِدِّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

مَنْ رام عن عهدة الإلزام خروجاً انتهز للتأخير والتخلُّف فرصةً لِعَدمِ إيمانه وتصديقه، ولاستمكان الريبة في قلبه وسِرِّه‏.‏ أولئك الذين يتقلبون في ريبهم، ويترددون في شكِّهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً‏}‏‏.‏

أي لو صدقوا في الطاعة لاستجابوا ببذل الوسع والطاقة، ولكن سَقِمَتْ إرادتُهم، فحصلت دون الخروج بَلادَتُهم، وكذلك قيل‏:‏

لو صحَّ منكَ الهوى أُرْشِدْتَ للحِيَلِ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَكِن كَرِهَ الله انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ‏}‏‏.‏

ألْزَمَهم الخروجَ من حيث التكليف، ولكن ثبَّتهم في بيوتهم بالخذلان؛ فبالإلزام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

أخبر عن سابق علمه بهم، وذكر ما علم أنه لا يكون أَنْ لو كان كيف يكون، فقال‏:‏ ولو ساعدوكم في الخروج لكان ما يلحقكم من سوء سيرتهم في الفتنة بينكم، والنميمة فيكم، والسعي فيما يسوؤكم أكثر مما نالكم بتخلُّفِهم من نقصان عددكم‏.‏ ومَنْ ضررُه أكثرُ من نفعِه فَعَدَمَهُ خيرٌ مِنْ وجودِه، ومَنْ لا يحصل منه شيء غيرُ شرورهِ فتخَلُّفُه أَنْفَعُ مِنْ حضوره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

إنَّهم وإِنْ أظهروا وِفاقَكم فقد استبطنوا نِفاقكم؛ أعلنوا أنهم يؤازرونكم ولكن راموا بكيْدِهم تشويشَ أموركم، حتى كَشَفَ اللهُ عوراتِهم، وفَضَحَهم، حتى تَحَذَّرْتم منهم بما تحققتم من أسرارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

أبرزوا قبيحَ فِعالِهم في مَعْرِض التخرج، وراموا أَنْ يُلَبِّسُوا على الرسول- صلى الله وسلم وعلى آله- وعلى المسلمين خبث سيرتهم وسريرتهم، فَبَيَّنَ الله أَنَّ الذين ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بزعمهم سقطوا فيه بفعلهم، وكذلك المتجلِّدُ بما يهواه متطوح في وادي بلواه، وسَيَلْقَى في الآخرة من الهَوَان ما يَغْنِي عن الحاجة إلى البرهان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

هكذا صفة الحسود، يتصاعد أنينُ قلبه عند شهود الحسنى، ولا يَسُرُّ قلبَه غيرُ حلولِ البلوى، ولا دواءَ لجروح الحسود؛ فإنه لا يرضى بغير زوال النعمة ولذا قالوا‏:‏

كلُّ العداوةِ قد تُرْجَى إماتَتُها *** إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ

وإنَ اللهَ تعالى عَجَّلَ عقوبةَ الحاسد، وذلك‏:‏ حزنُ قلبِه بسلامة محسوده؛ فالنعمة للمحسود نقد والوحشة للحاسد نقد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

المؤمن لا تلحقُه شماتةُ عدوِّه لأنه ليس يرى إلا مُرادَ وليِّه، فهو يتحقق أنَّ ما ينالُه مرادُ مولاه فيسقطُ عن قلبِه ما يهواه، ويستقبله بروح رضاه فَيَعْذُبُ عنده ما كان يَصْعُبُ مِنْ بلواه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

إنْ كان سَرَّكُمُ ما قال حاسدُنا *** فما لِجُرْحٍ- إذا أَرْضَاكُم- أَلمُ‏.‏

ويقال شَهودُ جريانِ التقدير يخفف على العبد تَعَبَ كلِّ عسير‏.‏

قوله ‏{‏هُوَ مَوْلاَنَا‏}‏‏:‏ تعريفٌ للعبد أن له- سبحانه- أن يفعل ما يريد، لأنه تصرفُ مالكِ الأعيانِ في مُلْكِه، فهو يُبْدِي ويُجْرِي ما يريد بحقِّ حُكْمِه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ‏}‏‏:‏ وأولُ التوكلِ الثقةُ بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيانُ أمورِك بما يغْلِبُ على قلبك من أذكاره‏.‏

ويقال التوكل سكونُ السِّرِّ عند حلول الأمر ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوُ والمرُّ، والنعمةُ والمحنةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

بَيَّنَ اللهُ في هذه الآية الفَرْقَ بين المؤمنين وبين الكفار، فقال قُلْ للذين ينتظرون‏:‏ أيها الكفار إن كان من شأن المؤمنين وقوعُ الدائرة عليهم في القتال، أَو أنَّ القَتْلَ ينالهُم فأيُّ واحدٍ من الأمْرَيْن ينالهم فهو لهم من الله نعمة؛ لأنَّا إنْ ظَفِرْنا بكم فَنَصْرٌ وغنيمة، وعِزٌّ للدِّين ورفعة، وإنْ قُتلْنَا فشهادةٌ ورحمة، ورضوانٌ من الله وزُلْفَى‏.‏ وإنْ كان الذي يصيبنا في الدنيا هزيمة ونكبةٌ، فذلك مُوجِبٌ للأجْرِ والمثوبة، فإذاً لن يستقبِلَنا إلا ما هو حُسْنَى ونعمة‏.‏

وأمَّا أنتم، فإنْ ظَفِرْنَا بكم فتعجيلُ لذُلِّكم ومحنة، وإن قُتِلتُم فعقوبةٌ من اللهِ وسخطه، وإن كانت اليد لكم في الحال فخذلانٌ من اللهِ، وسببُ عذابٍ وزيادةُ نقمة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ‏}‏ أمَّا قيامُ بحقّ الله في الحال فنكون بوصف الرضاء وهو- في التحقيق- الجنَّةُ الكبرى، وإمَّا وصولٌ إلى الله تعالى في المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى في العقبى وهو الكرامة العظمى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

المردودُ لا يقبلُ منه توصُّل، ولا يُغَيَّر حُكمُ شقاوته بتكثير التكلُّف والتعمل‏.‏

ويقال تقُرُّبُ العدوِّ يوجِبُ زيادةَ المقت له، وتحبُّبُ الحبيب يقتضي زيادةَ العطف عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

فقدوا الإخلاص في أموالهم فعدموا الاختصاص في أحوالهم، وحُرِموا الخلاصَ في عاجلهم وفي مآلهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى‏}‏‏:‏ مَنْ أَطَاعَ من حيث العادة- مِنْ غَيْرِ أن تحملَه عليها لوعةُ الإرادة- لم يَجِدْ لطاعته راحةً وزيادة‏.‏

ويقال مَنْ لاَحظَ الخَلْقَ في الجهر من أعماله، ورَكَنَ إلى الكسلِ في السِّرِّ من أحواله فقد وُسِمَ بالخذلان، وخُتِمَ بالحرمان، وهذه هي أمارة الفرقة والقطيعة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

بَيَّنَ أن ما حسبوه نعمة واعْتَدُّوه من الله مِنَّةٌ فهو- في التحقيق- مِحْنَةٌ، وسببُ شقاءٍ وفُرْقة، وإنما دَسَّ التقديرُ لهم سُمومَ الصَّابِ، فيما استلذوه من الشرابِ؛ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالِ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 56‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

التَّقَرُّبُ بالأَيْمانِ الفاجِرةِ لا يوجِبُ للقلوب إلا بُعْداً عن القُبول‏.‏

ويقال إنَّ إظهارَ التلبيس لا ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الأسرارَ بَرَدِّ السكون، ولا يَشْفِي البصائر بِرَدِّ الثقة واليقين‏.‏‏.‏ فما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ أبداً، وما هو كائنٌ سيكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

إن المماذِق في الخُلَّة ينسلُّ عن سِلْكِها بأضعف خلَّة، وإنْ وَجَدَ مهرباً آوَى إليه، ويأمل أن ينال فرصةً ما يتعللُ بها عند ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

أولئك أصحاب الأطماع؛ يتملقون في الظاهر ما دامت الأرفاقُ واصلةً إليهم، فإنْ انقطَعَتْ انقلبوا كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة‏.‏

ويقال مَنْ كان رضاؤه بوجدان سبب، وسُخْطُه في عدم ما يوصِّله إلى نصيبه فهو ليس من أهل الولاء، إنما هو قائم بحظِّه، غيرُ صالحٍ للصحبة، وأمَّا المتحقِّقُ فكما قيل‏:‏

فَسِرْتُ إليكَ في طلبِ المعالي *** وسَارَ سِوَايَ في طلب المعاش

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

لو وقفوا مع الله بِسِرِّ الرضا لأَتَتْهُم فنونُ العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله- عند الوجدان- مالهم من الأدب، من غير معاناة تَعبٍ، ولا مُقاساة نَصَبٍ‏.‏‏.‏ ولكنهم عَرَّجُوا في أوطانِ الطمعِ فوقعوا في الذُّلِّ والحَرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَألمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ‏}‏‏.‏

تكلَّم الفقهاءُ في صفةِ الفقيرِ، والفرقِ بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه في قسمة الزكاة المفروضة‏.‏‏.‏ فأبو حنيفة رحمة الله عليه- يقول‏:‏ المسكينُ الذي لا شيء له‏.‏ والفقيرُ الذي له بُلْغَةٌ من العيش‏.‏

ويقول الشافعي رحمة الله عليه‏:‏ الفقير الذي لا شيء له، والمسكين الذي له بُلْغَةٌ من العيش- أي بالعكس‏.‏

وأهل المعرفة اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء؛ وذلك لأن كلَّ واحدٍ منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه‏.‏ فَمِنْ أهل المعرفة مَنْ رأى أَنَّ أَخْذَ الزكاةِ حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه‏.‏ فَمِنْ أهل المعرفة مَنْ رأى أَنَّ أَخْذَ الزكاةِ المفروضة أَوْلى، قالوا إلى الله تعالى جعل ذلك مِلْكا للفقير، فهو أَحَلُّ له مما يُتَطَوَّعُ به عليه‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أوْلى من أن يزاحموا أرباب السهمان- مع احتياجهم أخذ الزكاة- وقالوا‏:‏ نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً‏.‏‏.‏ فَلِمَ نأخذ الزكاة المفروضة‏؟‏

ثم على مقتضى أصولهم في الجملة- لا في أخذ الزكاة- للفقر مراتب‏:‏

أوَّلُها الحاجةُ ثم الفقرُ ثم المسكنةُ؛ فذو الحاجة مَنْ يرضى بدنياه وتسدُّ الدنيا فقرَه، والفقير مَنْ يكتفي بعقباه وتجبُرُ الجنة فقرُه‏.‏ والمسكين مَنْ لا يرضى بغير مولاه؛ لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني سكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» وقال صلى الله عليه وسلم «أعوذ بك من الفقر» لأن عليه بقية؛ فهو ببقيته محجوبٌ عن ربِّه‏.‏

ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شيء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بُلْغَةٌ ليتفرَّغَ بوجود تلك البلغة إلى العبادة؛ لأنه إذا لم تكن له بلغة شَغَلَه فَقْرُه عن أداء حقِّه، ولذلك استعاذ منه‏.‏

وقوم سَمَتْ هِمَمهُم عن هذا الاعتبار- وهذا أَوْلى بأصولهم- فالفقير الصادق عندهم مَنْ لا سماءَ تُظِله ولا أرضَ تُقِلُّه ولا معلومَ يشغله، فهو عبدٌ بالله لله، يردُّه إلى التمييز في أوان العبودية، وفي غير هذا الوقت فهو مُصطَلَم عن شواهده، واقِفٌ بربِّه، مُنْشَقٌّ عن جملته‏.‏

ويقال الفَقِيرُ من كُسِرَتْ فقاره- هذا في العربية‏.‏

والفقير- عندهم- مَنْ سَقَطَ اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست- لاستيلاء مَنْ اصْطَلمَه- آثارُه، فكأنه لم تبقَ منه إلا أخبارُه، وأنشدوا‏:‏

أَمَّا الرسومُ فَخَبَّرتْ أنهم رحلوا قريباً *** ويقال المسكين هو الذي أسكنه حالُه بباب مقصوده، لا يبرح عن سُدَّتِه، فهو مُعْتَكِفٌ بقلبه، ولا يغفل لحظةً عن ربِّه‏.‏

وأمَّا ‏{‏وَالعَالَمِينَ عَلَيْهَا‏}‏ فعلى لسان العلم‏:‏ مَنْ يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة‏.‏ وعلى لسان الإشارة‏:‏ أَوْلَى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة مَنْ صَدَقَ في أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عِوَضاً، ولا يتطلبون في مقابلة أحوالهم عَرَضا، وأنشدوا‏:‏

وما أنا بالباغي على الحب رِشْوَةٌ *** قبيحٌ هوىً يُرجَى عليه ثواب

وأمّا المؤلَّفة قلوبهم- على لسان العلم- فمَنْ يُسْتَمَالُ قلبه بنوع إرفاقٍ معه، ليتوفَّر في الدين نشاطُه؛ فلهم من الزكاة سهمٌ استعطافاً لهم، وبيان ذلك مشهورٌ في مسائل الفقه‏.‏

وحاشا أن يكون في القوم مَنْ يكون حضورُه بسبب طَمَع أو لنَيْل ثوابٍ أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال‏.‏‏.‏ فذلك في صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا‏.‏

من لم يكن بك فانياً عن حظه *** وعن الهوى والإنْسِ والأحباب

أو تيمته صبابة جمعت له *** ما كان مفترقاً من الأسباب

فلأنَّ بين المراتب واقفٌ *** لِمَنَالِ حظٍّ أو الحُسْنِ مآبِ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَفِى الرِّقَابِ‏}‏‏.‏

وهم على لسان العلم‏:‏ المكاتَبُون، وشرحه في مسائل الفقه معلوم‏.‏

وهؤلاء لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم في الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزُّهم طلب، فَمَنْ كان به بقية من هذه الجملة فهو عبدٌ لم يتحرر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏:‏ «المكاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه درهم» وأنشد بعضهم‏:‏

أتمنى على الزمان مُحَالاً *** أَنْ ترى مقلتاي طَلْعَةَ حُرِّ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالغَارِمِينَ‏}‏‏.‏

وهم على لسان العلم‏:‏ مَنْ عليهم دَيْنٌ في غير معصية‏.‏

وهؤلاء القوم لا يقضى عنهم ما لزمهم امتلاك الحق، ولهذا قيل المعرفة غريم لا يُقْضَى دَيْنُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَفِى سَبِيلِ اللهِ‏}‏‏.‏

وعلى لسان العلم‏:‏ مَنْ سلك سبيلَ الله وَجبَ له في الزكاة سهمٌ على ما جاء بيانُه في مسائل الفقه‏.‏

وفي هذه الطريقة‏:‏ مَنْ سلك سبيلَ الله تتوجَّبُ عليه المطالبات؛ فيبذل أولاً مالَه ثم جاهَه ثم نَفْسه ثم روحَه‏.‏‏.‏ وهذه أول قَدَمٍ في الطريق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏‏.‏

وهو على لسان العلم‏:‏ مَنْ وقع في الغُربة، وفارَقَ وطَنه على أوصاف مخصوصة‏.‏

وعند القوم‏:‏ إذا تَغَرَّبَ العَبدُ عن مألوفات أوطانه فهو في قِرَى الحقِّ؛ فالجوعُ طعامُه، والخلوةُ مجلسُه، والمحبةُ شرابُه، والأُنْسُ شهوده، والحقُّ- تعالى- مشهودُه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏‏:‏ لقوم وَعْدٌ في الجنة، ولآخرين نَقْدٌ في الوقت؛ اليوم شرابُ المحابِّ وغداً شراب الثواب، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وَمُقعدِ قومٍ قد مشى من شرابنا *** وأعمى سقيناه ثلاثاً فأَبْصَرَا

وأخرسَ لم ينطِقْ ثلاثين حِجَّةً *** أَدِرْنا عليه الكأسَ يوماً فأخبرا

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ‏}‏‏.‏

عين العداوة بالمساوئ مُوَكَّلَة، وعين الرضا عن المعايب كليلة‏.‏

بسطوا اللائمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله، فقالوا‏:‏ إنه بحسن خُلُقِه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام‏:‏ «المؤمِن غِرٌّ كريم والمنافق خَبٌّ لئيم»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ مَنْ العاقلُ‏؟‏ قالوا‏:‏ الفَطِنُ المُتَغافِل‏.‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

وإذا الكريمُ أتيْتَه بخديعةٍ *** ولقِبتَه فيما ترومُ يُسارعُ

فاعلمُ بأنَّكَ لم تُخادِعْ جاهلاً *** إنَّ الكريم- بفضله- يتخادع

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

أخبر أنَّ من تزيَّن للخَلْق، وتقرَّب إليهم وأَدامَ رضاهم، واتَّبَعَ في ذلك هواهم، فإن اللهَ سبحانه يُسْقِط به عن الخَلْق جاهَهُم، ويُشِينُهم فيما توهَمُّوا أنه يزينهم، والذي لا يَضِيعُ ما كان الله، فأمَّا ما كان لغير الله فَوَبَالٌ لِمَنْ أصابه، ومُحالٌ ما طَلَبَه‏.‏

ويقال إنَّ الخَلْق لا يصدقونك وإنْ حَلَفْت لهم، والحقُّ يَقْبَلُكَ وإِنْ تخَلَّفْتَ عنه؛ فالاشتغالُ بالخلْقِ محنةٌ أنت غيرُ مأجورٍ عليها، والإقبالُ على الحقِّ نعمةٌ أنت مشكورٌ عليها‏.‏ والمغبونُ مَنْ تَرَكَ ما يُشْكَرُ عليه ويُؤثِر ما لا يؤجرُ عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

مَنْ كَفرَ بالله واشرك في توحيده بإثباتِ موهوم استحق ما هو حقٌّ لله‏:‏ تعَجَّلُ عقوبته في الحال بالفُرقة، وفي المآلِ بالخلود في الحرقة‏.‏

فليس كلُّ مَنْ مُنِي بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا‏:‏

غَداً يَتَفَرَّقُ أهلُ الهوى *** ويكْثُر باكٍ ومُسْتَرْجِع

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

ظَنُّوا أَنَّ الحقَّ- سبحانه- لا يفضحهم، فَدَلَّسُوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى الله- سبحانه- عنانَ إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم؛ فَفَضَحَهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بِخِمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامنَ الاعتبار‏.‏ ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار‏!‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

مَنْ استَهانَ بالدِّين، ولم يَحْتَشِمْ مِنْ تَرْكِ حُرْمةِ الإسلام جعله الله في الحال نكالاً، وسامَه في الآخرة صِغَراً وإذلالاً، والحقُّ- سبحانه- لا يرضى دون أن يذيق العُتَاةَ بَأْسَه، ويَسْقِيَ كُلاًّ- على ما يستوجبه- كأسَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

جَرَّدَ العفوَ والعذابَ من عِلَّة الجُرْمِ، وسببَ الفِعْل مِنْ حُجّةِ العبد؛ حيث أَحالَ الأمر على المشيئة‏.‏‏.‏ إذ لو كان الموجِبُ لعفوِه أو تعذيبِه صفةَ العبد لَسَوَّى بينهم عند تساويهم في الوصف، فَلَمَّا اشتركوا في الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذَّب بعضَهم دَلَّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصُّ من يشاء بما يشاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ‏}‏‏.‏

المؤمِنُ بالمؤمِن يَتَقَوَّى، والمنافقُ بالمنافق يتعاضد، وطيور السماء على أُلاَّفِها تَقَعُ‏.‏ فالمنافِقُ لصاحبه أسٌّ به قوامه، وأصلٌ به قيامه؛ يُعِينُه على فساده، ويُعَمِّي عليه طريقَ رشادِه‏.‏

والمؤمِنُ ينصر المؤمنَ ويُبَصِّره عيوبَه، ويُبغضُ لديه ويُقَبِّحُ- في عينيه- ذنوبَه، وهو على السدادِ يُنْجِدُه، وعن الفسادِ يُبْعِده‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏‏.‏

عن طلب الحوائج من الله تعالى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏‏.‏

جازاهم على نسيانهم، فسمَّى جزاءَ النسيانِ نسياناً‏.‏ تركوا طاعتَه، وآثروا مُخالَفَته، فَتَرَكَهُم وما اختاره لأنفسهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

وَعَدَهم النارَ في الآخرة، ولهم العذابُ المقيمُ في الحاضرة، فمؤجَّلُ عذابِهم الحُرقَةُ، ومُعَجَّلُه الفُرْقةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

يقال‏:‏ سلكتم طريقَ مَنْ قَبْلَكم من الكفار وأهل النفاق وأهل النفاق وقد كافأناهم‏.‏ ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق؛ في كثرة المدَّةِ وقوةِ العُدَّةِ، والاستمتاع في الدنيا، والاغترار بالانخراط في سِلْك الهوى‏.‏‏.‏ ولكن لم تَدُمْ في الراحة مُدَّتُهم، ولم تُغْنِ عنهم يومَ الشِدَّةِ عُدَّتُهم، وعما قريبٍ يَلْحَقُ بِكُم ما لَحِقَ بالذين هم قبلكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

ألم يَنْتَهِ إليهم خبرُ القرون الماضية، ونبأُ الأمم الخالية كيف دَمَّرْنا عليهم جَمْعَهُم، وكيف بَدَّدْنَا شمْلَهم‏؟‏ قَضَيْنَا فيهم بالعدْل، وحَكَمْنَا باستئصالِ الكُلِّ، فلم يَبْقَ منهم نافخُ نار، ولم يحصلوا إلاَّ على عارٍ وشنار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

يُعين بعضُهم بعضاً على الطاعات، ويتواصَوْن بينهم بترك المحظورات؛ فَتَحَابُّهم في الله، وقيامُهم بحقِّ الله، وصحبتُهم لله، وعداوتُهم لأجْلِ الله؛ تركوا حظوظَهم لحقِّ الله؛ وآثروا على هواهم رِضاءَ الله‏.‏ أولئك الذين عَصَمَهم اللهُ في الحالِ، وسيرحمهم في المآل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

وَعَدَهُم جميعاً الجنةَ، ومساكنَ طيبة، ولا يطيب المَسْكَنُ إلا برؤيةِ المحبوبِ، وكلُّ مُحِبٍ يطيب مَسْكَنُه برؤية محبوبه، ولكنهم مختلفون في الهمم؛ فَمِنْ مربوطٍ بحظِّ مردودٍ إلى الخَلْق، ومِنْ مجذوب بحقِّ موصول بالحق، وفي الجملة كما يقال‏:‏

أجيرانَنَا ما أوحشَ الدارَ بَعْدَكُم *** إذا غِبْتُمُ عنها ونحن حضورُ‏!‏

ويقال قومٌ يطيب مسكنُهم بوجودِ عَطَائِه، وقومٌ يطيب مسكنُهم بشهود لقائه، وأنشدوا‏:‏

وإنِّي لأَهْوى الدارَ لا يستقرُّ لي *** بها الودُّ إلا أَنَّها من دِيارِكا

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ‏}‏‏:‏ وأمارةُ أهلِ الرضوانِ وجدانُ طَعْمِه؛ فهم في روْح الأُنْسِ، وروْح الأنْسِ لا يتقاصر عن راحة دار القُدْس بل هو أتمُّ وأعظم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

دعا نَبِيُّنا- صلى الله عليه وسلم- كافةَ الخَلْقِ إلى حُسْن الخُلُق‏.‏

قال لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقال لنبيِّنا- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏{‏واغلُظْ عليهم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 9‏]‏ ويقال إنما هذا بعد إظهار الحجج، وبعد أن أزاح عُذْرَهُم بأيام المهلة؛ ففي الأول أَمَرَه بالرِّفق حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏، فلما أصروا واستكبروا أَمَرَه بالغِلظة عليهم‏.‏ والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إنْ حَصَلَ من العدوِّ جُحْدٌ بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إنْ لم ينجعْ الكلامُ ولم ينفع الملامُ فالقتالُ والحربُ وبَذْلُ الوسعِ في الجهاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلََقدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ‏}‏‏.‏

تَسَتَّروا بأَيْمانِهم فَهتَكَ اللهُ أستارهم وكشف أسرارهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ‏}‏‏:‏ وهي طَعْنُهُم في نُبوَّةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكلُّ مَنْ وَصَفَ المعبودَ بصفاتِ الخَلْق أو أضاف إلى الخلْق ما هو من خصائص نعت الحقِّ فقد قال كلمة الكفر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

أي أظهروا من شعار الكفر ما دَلَّ على جُحْدِهم بقلوبهم بعد ما كانوا يُظْهِرون الموافقة والاستسلامَ، وهمُّوا بما لم ينالوا من قتلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوَّلت أنفسهم أنه يُخْرِج الأَعَزُّ منها الأذلَّ، وغير ذلك‏.‏

يقال تمنوا زوالَ دولةِ الإسلام فأبى اللهُ إلا إعلاء أمْرِها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ‏}‏‏:‏ أي ما عابوه إلا بما هو أَجَلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأَرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

وأقوى أركان التوبة حلُّ عقْدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقِّ الأمر على وجه الاستقصاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مَنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخَلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه‏.‏

ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه‏.‏

وحدُّ البخل- على لسان العلم- مَنْعُ الواجب‏.‏ وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث‏.‏ ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحيائه‏.‏ والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

أعقبهم ببخلهم نفاقاً في قلوبهم، ويصحُّ أعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم، وفي الجملة‏:‏ مَنْ نَقَضَ عهده في نفسه رفض الودَّ من أصله، وكلُّ من أظهر في الجملة خيراً واستبطن شراً فقد نافق بقسطه‏.‏ والمنافق في الصف الأخير في دنياه، وفي الدَرْكِ الأسفل من النار في عقباه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

خوَّفَهم بعلمه كما خوَّفهم بفعله في أكثر من موضعٍ من كتابه‏.‏

و ‏{‏سِرَّهُمْ‏}‏ ما لا يطلع عليه غير الله‏.‏

و ‏{‏نَجْوَاهُمْ‏}‏ ما يتسارون بعضهم مع بعض‏.‏ ويحتمل أن يكونَ ما لنفوسهم عليه إشرافٌ من خواطرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

عابوا الذين قَصُرَتْ أيديهم عن الإكثار في الصَدَقة وجادوا بما وصَلَتْ إليه أيديهم، فَشَكَرَ اللهُ سَعْيَ من أخلص في صدقته بعدما عَلمَ صِدْقَه فيها‏.‏ وقليلُ أهلِ الإخلاص أفضلُ مِنْ كثيرِ أهلِ النفاقِ‏.‏

ولمَّا أوجدوا المسلمين بسخريتهم وَصَفَ اللهُ- سبحانه وتعالى- نفْسَه بما يستحيل في وصفه- على التحقيق- هو السخرية بأحدِ‏.‏‏.‏ تطيباً لقلوبِ أوليائه، فقد تقدَّس عن ذلك لعِزَّة ربوبيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

خَتَمَ القضايا بأنَّه لا يغفر لأهل الشِرْكِ والنفاق، فلا تنفعهم الوسائل، ولا ينتعش منهم الساقط‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ غَلَبَتْه شِقْوتُنا لم ينفعه تضرعه ودعوته‏.‏

ويقال‏:‏ صريعُ القدرة لا يُنْعِشُه الجُهد والحيلة‏.‏