فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏‏}‏

تولَّى عن الجميع- وإن كانوا أولادَه- ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ لا تُبْقي ولا نَذَر‏.‏

ويقال أراد إخوةُ يوسفَ أن يكونَ إقبال يعقوب عليهم بالكليَّة فأَعْرَضَ، وتولَّى عنهم، وفَاتَهُم ما كان لهم، ولهذا قيل‏:‏ مَنْ طَلَبَ الكُلَّ فاته الكلُّ‏.‏

ويقال لم يَجِدْ يعقوبُ مُساعِداً لنفسِه على تأسفه على يوسف فتولَّى عن الجميع، وانفرد بإظهار، أسفه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

فريدٌ عن الخِلاَّنِ في كل بلدةٍ *** إذا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ المُساعِدُ

ويقال كان بكاءُ داود عليه السلام أكثرَ من بكاء يعقوب عليه السلام، فلم يذهب بَصَرُ داود وذهْب بَصَرُ يعقوب؛ لأن يعقوب عليه السلام بكى لأَجْلِ يوسف ولم يكن في قدْرةِ يوسف أن يحفظَ بصره من البكاء لأجله، وأمَّا داود فقد كان يبكي لله، وفي قدرة الله- سبحانه- ما يحفظ بَصَرَ الباكي لأَجْلِه‏.‏

سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله- يقول ذلك، وقال رحمه الله‏:‏ إن يعقوبَ بكى لأجل مخلوقٍ فذهب بَصَرَهُ، وداود بكى لأَجْل الله فبقي بَصَرُه‏.‏

وسمعته- رحمه الله- يقول‏:‏ لم يقل الله‏:‏ «عَمِيَ يعقوب» ولكن قال‏:‏ ‏{‏وَاْبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ‏}‏، لأنه لم يكن في الحقيقة عَمَىً، وإنما كان حجاباً عن رؤية غير يوسف‏.‏

ويقال كان ذهابُ بصرِ يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شيءَ أشدُّ على الأحبابِ من رؤية غير المحبوب في حال فراقه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

لما تَيَقَّنْتُ أني لَسْتُ أُبْصرِكم *** أغمضتُ عيني فلم أنظر إلى أحد

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول‏:‏ كان يعقوب عليه السلام يتسلَّى برؤية بنيامين في حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال‏:‏ ‏{‏ياأسفى عَلَى يُوسُفَ‏}‏ أي أنه لما مُنِعَ من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمَّا بقي عن النظر قال‏:‏ يا أسفا على يوسف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

هددوه بأن يصير حرضاً- أي مريضاً مشفياً على الهلاك- وقد كان، وخوفُّوه مما لم يبالِ أن يصيبه حيث قالوا ‏{‏أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ‏}‏‏.‏

ويقال أطيب الأشياء في الهلاك ما كان في حكم الهوى- فكيف يُخَوَّف بالهلاكِ من كان أحبُّ الأشياءِ إليه الهلاَك‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

شكا إلى الله ولم يَشْكُ مِنَ اللَّهِ، ومَنْ شكا إلى الله وَصَلَ، ومن شكا من الله انفصل‏.‏

ويقال لمَّا شكا إلى الله وَجَدَ الخَلَفَ من الله‏.‏

ويقال كان يعقوبُ- عليه السلام- مُتَحَمِّلاً بنفسه وقلبه، ومستريحاً محمولاً بِسِرِّه وروحه؛ لأنه عَلِمَ من الله- سبحانه- صِدقَ حالِه فقال‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

إذا ما تمنَّى الناسُ روْحاً وراحةً *** تمنَّيْتُ أن أشكو إليكَ فَتَسْمَعَا

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

كان يعقوب عليه السلام يبعث بنيه في طلب يوسف، وكان الإخوة يخرجون بطلب المسيرة وفي اعتقادهم هلاكُ يوسف *** وكلُّ إنسانٍ وهمُّه‏.‏

ويقال قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ أمرٌ بطلب يوسف بجميع حواسِّهم؛ بالبَصَرِ لعلَّهم تقع عليه أعينهم، وبالسَّمْع لعلَّهم يسمعون ذِكْرَه، وبالشمِّ لعلهم يجدون رِيحَه؛ وقد توهَّم يعقوبُ أنهم مثله في إرادةِ الوقوفِ على شأنه‏.‏ ثم أحالهم على فضل الله حيث قال‏:‏ ‏{‏لاَ يَاْيْئَسُ مِن رُّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

ويقال لم يكن ليعقوب أحدٌ من الأولاد بمكان يوسف، فَظَهَر من قِلَّةِ الصبر عليه ما ظهر، وآثَرَ غيْبَةَ الباقين من الأولاد في طلب يوسف على حضورهم عنده‏.‏‏.‏ فشتَّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف‏!‏ واحدٌ لم يَرَهْ فابْيَضَّتْ عيناه من الحزن بفرقته، وآخرون أَمرَهُم- باختياره- بِغَيْبَتِهم عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضُّرِّ، ومقاساة الجوع والفقر، ولم يذكروا حديث يوسف عليه السلام، وما لأجله وَجَّهَهُم أبوهم‏.‏

ويقال استلطفوه بقولهم‏:‏ ‏{‏مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ‏}‏ ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم‏.‏

ويقال لمَّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا‏:‏ وجئنا ببضاعة مزجاة- أي رديئة- ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا‏:‏ ‏{‏فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ‏}‏‏.‏

ويقال قالوا كلنا كيلاً يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا‏:‏ ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏‏:‏ نَزَلَوا أوْضَعَ مَنْزلٍ؛ كأنهم قالوا‏:‏ إنْ لم نستوجِبْ معاملةَ البيع والشراء فقد استحققنا بَذْلَ العطاءِ، على وجه المكافأة والجزاء‏.‏

فإِنْ قيل كيف قالوا وتصدَّقْ علينا وكانوا أنبياء- والأنبياء لا تحل لهم الصدقة‏؟‏

فيقال لم يكونوا بعد أنبياء، أو لعلّه في شرعهم كانت الصدقةُ غيرَ مُحَرَّمةٍ على الأنبياء‏.‏

ويقال إنما أرادوا أنَّ مِنْ ورائنا مَنْ تَحِلُّ له الصدقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

افتضحوا بحضرة بوسف عليه السلام وقالوا‏:‏ ‏{‏فَأَوفِ لَنَا الكَيْلَ‏}‏ فعرفهم فعلمهم ووقفهم عند أحدهم فقال‏:‏ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏؟‏ يعني إنَّ مَنْ عَامَل يوسفَ وأخاه بمثل معاملتكم فلا ينبغي له أن يتجاسَرَ في الخطاب كتجاسركم‏.‏

ويقال إن يوسف عليه السلام قال لهم‏:‏ أنهيتم كلامكم، وأكثرتم خطابكم، فما كان في حديثكم إلا ذكر ضرورتكم‏.‏‏.‏ أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف‏؟‏‏!‏ وذلك في باب العتابِ أعظم من كلِّ عقوبة‏.‏

ولمَّا أخجلهم حديث العتاب لم يَرْضَ يوسفُ حتى بسط عندهم فقال‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنتًمْ جَاهِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

في الابتداء حين جهلوه كانوا يقولون له في الخطاب‏:‏ «يا أيها العزيز» فلمّا عرفوه قالوا‏:‏ ‏{‏أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ‏}‏؛ لأنه لمَّا ارتفعت الأجنبيةُ سقط التكلُّف في المخاطبة، وفي معناه أنشدوا‏:‏

إذا صَفَتْ المودَّةُ بين قومٍ *** ودام ودادُهم قَبُحَ الثناءُ

ويقال إنَّ التفاصُلَ والتفارُقَ بين يوسف وإخوته سَبَقا التواصلَ بينه وبين يعقوب عليهما السلام؛ فالإخوةُ خَبَره عرفوه قبلَ أنْ عَرَفَه أبوه ليعلَم أن الحديث بلا شكٍ‏.‏

ويقال لم يتقدموا على أبيهم في استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم- وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضُهم حديثَ الميرة والطعام فقط، فقال‏:‏ ‏{‏أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى‏}‏‏:‏ يعني إني لأَخٌ لِمِثْلِ هذا لمثلكم؛ ولذا قال‏:‏ ‏{‏أَنَّا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى‏}‏، ولم يقل وأنتم إخوتي، كأنَّه أشار إلى طرفٍ من العتاب، يعني ليس ما عاملتموني به فِعْلَ الإخوة‏.‏

ويقال هَوَّنَ عليهم حالَ بَدَاهَةِ الخجلة حيث قال ‏{‏أَنَا يُوسُفُ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وَهَذَا أَخِى‏}‏ وكأنه شَغَلَهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَهَذَا أَخِى‏}‏ كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ إنه سبحانه شَغَلَ موسى عليه السلام باستماع‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ بمطالعة العصا في عين ما كوشِف به من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر في مقاساة الجهد والعناء فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

وسمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله- يقول لما قال يوسف‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ‏}‏ أحَالَ في استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر *** فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا‏}‏ يعني ليس بِصْبرِك يا يوسفُ ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار اللَّهِ إياك علينا؛ فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك‏.‏ فقال يوسف- على جهة الانقياد للحقِّ-‏:‏ ‏{‏لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ‏}‏، فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمَّا لم يَرَ تقواه من نفسه حيث نبَّهوه عليه نَطَقَ عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

اعترفوا بالفضل ليوسف- عليه السلام- حيث قالوا‏:‏ لقد آثرك الله علينا، وأكَّدوا إقرارَهم بالقَسَم بقوله‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ‏}‏ وذلك بعد ما جحدوا فَضْلَه بقولهم‏:‏ ‏{‏لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد‏.‏

ويقال لمَّا اعترفوا بفضله وأقرُّوا بما اتصفوا به من جُرْمِهم بقولهم‏:‏ ‏{‏وإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ‏}‏ وجدوا التجاوزَ عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

أسرع يوسفُ في التجاوز عنهم، وَوَعَد يعقوبُ لهم بالاستغفار بقوله‏:‏ ‏{‏سَوْفَ أَستَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى‏}‏ لأنه كان أشدَّ حباَ لهم فعاتبهم، وأما يوسف فلم يرهم أهلاً للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة، وفي معناه أنشدوا‏:‏

تركُ العتابِ إذا استحق أخ *** مِنك العتابَ ذريعةُ الهَجْرِ

ويقال أصابهم- في الحال- مِنَ الخجلة مقام كلِّ عقوبة، ولهذا قيل‏:‏

كفى للمقصِّر الحياءُ يوم اللقاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

البلاءُ إذا هَجَمَ هَجَمَ مَرَّةً، وإذا زال بالتدريج؛ حلَّ البَلاءُ بيعقوب مرةً واحدةً حيث قالوا‏:‏ ‏{‏فَأَكَلَهُ الذَئْبُ‏}‏ ولما زال البلاءُ‏.‏‏.‏ فأولاً وَجَدَ ريحَ يوسفَ عليه السلام، ثم قميص يوسف، ثم يوم الوصول بين يدي يوسف، ثم رؤية يوسف‏.‏

ويقال لمَّا كان سببُ البلاءِ والعمى قميصَ يوسف أراد اللَّهُ أن يكونَ به سَبَبُ الخلاص من البلاء‏.‏

ويقال علم أن يعقوب عليه السلام- لِمَا يلحقه من فَرْطِ السرور- لا يطيقه عند أخذ القميص فقال‏:‏ ‏{‏فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجِهِ أَبِى‏}‏‏.‏

ويقال القميص لا يصلح إلا للباس إلا قميص الأحباب فإنه لا يصلح إلا لوجدان ريح الأحباب‏.‏

ويقال كان العمى في العين فأمر بإلقاء القميص على الوجه ليجدَ الشفاءَ من العمى‏.‏

ويقال لمَّا كان البكاء بالعين التي في الوجه كان الشفاء في الإلقاء على العين‏.‏ التي في الوجه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وما بات مطوياً على أريحية *** عُقَيب النَّوى إلا فتىً ظلَّ مغرما

وقوله ‏{‏وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏:‏ لما عَلِمَ حزنَ جميعَ الأهلِ عليه أراد أن يشترك في الفرح جميعُ من أصابهم الحزن‏.‏

ويقال عَلِمَ يوسفُ أن يعقوبَ لن يطيق على القيام بكفاية أمور يوسف فاستحضَرَه، إبقاءً على حالِه لا إخلالاً لِقَدْرِه وما وَجَبَ عليه من إجلاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏‏.‏

ما دام البلاءُ مُقْبِلاً كان أمرُ يوسفَ وحديثُه- على يعقوب- مُشْكِلاً، فلما زالت المحنة بعثرت بكل وجهٍ حاله‏.‏

ويقال لم يكن يوسف بعيداً عن يعقوب حين ألقوه في الجُبِّ ولكن اشتبه عنيه وخَبَرُه وحالُه، فلما زال البلاءُ وَجَدَ ريحَه وبينهما مسافة ثمانين فرسخاً- من مصر إلى إلى كنعان‏.‏

ويقال إنما انفرد يعقوبُ عليه السلام بوجدان ريح يوسف لانفرادِه بالأسف عند فقدان يوسف‏.‏ وإنما يجد ريح يوسف مَنْ وَجَدَ على فراق يوسف؛ فلا يعرف ريحَ الأحباب إلا الأحبابُ، وأَمَّا على الأجانب فهذا حديثٌ مُشْكِل‏.‏‏.‏ إذ أنَّى يكون للإنسان ريح‏!‏‏؟‏‏.‏

ويقال لفظ الريح ها هنا توسع، فيقال هبَّتْ رياحُ فلانٍ، ويقال إني لأَجِدُ ريح الفتنة‏.‏‏.‏ وغير ذلك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَوْلآ أَن تُفَنِّدُونِ‏}‏‏.‏

تَفَرَّسَ فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة فلم ينجع فيهم قولُه، فزادوا في الملامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قرنوا كلامهم بالشتم، ولم يحتشموا أباهم، ولم يُراعوا حقَّه في المخاطبة، فوصفوه بالضلال في المحبة‏.‏

ويقال إن يعقوب عليه السلام قد تعرَّف من الريح نسيمَ يوسف عليه السلام، وخبر يوسف كثير حتى جاء الإذن للرياح، وهذه سُنَّةُ الأحباب‏:‏ مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال وفي معناه أنشدوا‏:‏

وإنِّي لأستهدي الرياح نسيمكم *** إذا هي أقبَلْت نحوكم بهُبُوب

واسألها حَمْلَ السلام إليكمُ *** فإن هي يوماً بلَغَتْ فأَجِيبُوا

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

لو أُلقِيَ قميص يوسف على وجه مَنْ في الأرض مِنَ العميان لم يرتد بصرهم، وإنما رجع بصرُ يعقوب بقميص يوسف على الخصوص؛ فإنَّ بَصَرَ يعقوبَ ذهب لفراق يوسف، ولمّا جاءوا بقميصه أَنْطَقَ لسانَه، وأَوْضحَ برهانهَ، فقال لهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُل لَكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْمَلُونَ‏}‏ عن حياة يوسف، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وَجْهُك المأمولُ حُجَّتُنا *** يومَ يأتي النَّاسُ بالحجج

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

كلُّ إنسانٍ وهمُّه؛ وَقَعَ يعقوبُ ويوسفُ عليهما السلام في السرور والاستبشار، وأَخَذَ إخوةُ يوسف في الاعتذار وطَلَبَ الاستغفار‏.‏

ويقال إخوة يوسف- وإنْ سَلَفَتْ منهم الجفوة- كلَّموا أباهم بلسان الانبساط لتقديم شفقةِ الأبوةِ على ما سَبَقَ منهم من الخطيئة‏.‏

ويقال يومٌ بيومٍ، اليوم الذي كان يعقوب محزوناً بغيبة يوسف فلا جَرَمَ اليوم كان يعقوب مسروراً بقميص يوسف، وكان الأخوة في الخَجلة مما عملوا بيوسف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

وَعدَهُم الاستغفارَ لأنه لم يَفْرَغْ من استبشاره إلى الاستغفار‏.‏

ويقال لم يُجِبْهُم على الوهلة ليدلَّهم على ما قَدَّمُوا من سوء الفَعْلةِ، لأن يوسفَ كان غائباً وقتئذٍ، فوعدهم الاستغفار في المستأنف- إذا رضِي عنهم يوسف حيث كان الحقُّ أكثرُه له، لو كان كله ليعقوب لوهبهم على الفور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

اشتركوا في الدخول ولكن تباينوا في الإيواء فانفرد الأَبَوَان به لِبُعْدِهما عن الجفاء، كذلك غداً، إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون في وجود الجنان، ولكنهم يتباينون في بساط القربة فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالاستواء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ‏}‏‏.‏

أوقف كُلاًّ بمحلِّة؛ فَرَفَعَ أبويه على السرير، وتَرَك الإخوةَ نازلين بأماكنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً‏}‏‏:‏ كان ذلك سجودَ تحيةٍ، فكذلك كانت عادتهم‏.‏ ودَخَلَ الأَبَوان في السجود- في حقِّ الظاهر- لأنَّ قوله ‏{‏وَخَرُّوا‏}‏ إخبارٌ عن الجميع، ولأنه كان عن رؤياه قد قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَاً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏ وقال ها هنا‏:‏ ‏{‏هَذَا تَأْوِيلُ رُءيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقَاً‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ ِبِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجِنْ وَجَاءَ بكُم مِّن البَدوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْن إِخْوَتِى إِنَّ رَبِىّ لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ‏}‏‏.‏

شهد حسانه فَشَكَرَه‏.‏‏.‏ كذلك مَنْ شهد النعمة شَكَرَ، ومَنْ شهد المُنْعِمَ حمده‏.‏

وذَكَرَ حديثَ السجن- دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر‏.‏

وقيل لأن فيه تذكيراً بِجُرْمِ الإخوة وكانوا يخجلون‏.‏ وقيل لأن ‏{‏السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ‏}‏ وقيل لأن كان في البئر مرفوقاً به والمبتدئ يُرفَقُ به وفي السجن فَقَدَ ذلك الرِّفق لقوة حاله؛ فالضعيف مرفوقٌ به والقويُّ مُشَدَّدٌ عليه في الحال، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وأسررتني حتى إذا ماسَبَبْتَني *** بقولٍ يحل العُصْم سهل الأباطح

تجافيتَ عنِّي حين لا لي حيلة *** وغادرت ما غادرت بين الجوانح

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَجَآءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ‏}‏ إشارة إلى أنه كما سُرَّ برؤية أبويه سُرَّ بإخوته- وإنْ كانوا أهل الجفاء، لأنَّ الأُخُوَّةَ سَبَقتْ الجفوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىْ‏}‏ أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر، فقال كان الذي جرى منهم من نزعات الشيطان، ثم لم يرض بهذا حتى قال ‏{‏بينى وبني إخوتى‏}‏ يعني إن وَجَدَ الشيطان سبيلاً إليهم، فقد وجد أيضاً إليَّ حيث قال‏:‏ ‏{‏بَيْنِى وَبَيْنَ إْخْوَتِى‏}‏‏.‏

ثم نطق عن عين التوحيد فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ‏}‏ فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلوني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏}‏‏.‏

في حرف تبعيض؛ لأن المُلك- بالكمال- لله وحده‏.‏

ويقال المُلْكُ الذي أشار إليه قسمان‏:‏ مُلْكُه في الظاهر من حيث الولاية، ومُلْكٌ على نفسه حتى لم يعمل ما همَّ به الزَّلَّة‏.‏

ويقال ليس كلُّ مُلْكِ المخلوقين الاستيلاَءَ على الخْلق، إنما المُلْْكُ- على الحقيقة- صفاءُ الخُلُق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْويِلِ الأَحَادِيثِ‏}‏‏:‏ التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام‏.‏ قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِّىِ فِى الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحَقْنِى بِالصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَاطرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ‏}‏- هذا ثناء، وقوله‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِى‏}‏- هذا دعاء‏.‏

فَقَدَّمَ الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنتَ وَلِىِّ في الدنيا والأخرة‏}‏ هذا إقرارٌ بِقَطْع الأسرار عن الأغيار‏.‏

ويقال معناه‏:‏ الذي يتولَّى في الدنيا والآخرة بعرفانه أنتَ، فليس لي غيرك في الدارين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِى مُسْلِماً‏}‏‏:‏ قيل عَلِمَ أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فَسأَلَ الوفاة‏.‏

وقيل من أمارات الاشتياق تمنِّي الموت على بساط العوافي مثل يوسف عليه السلام أُلقِيَ في الجُبِّ فلم يقل توفني مسلماً، وأقيم فيمن يزيد فلم يقل توفني مسلماً، وحُبِسَ في السجن سنين فلم يقل توفني مسلماً، ثم لماتمَّ له المُلْكُ، واستقام الأمر، ولَقِيَ الإخوةَ سُجَّداً، وأَلْفَى أبويه معه على العرش قال‏:‏

‏{‏تَوَفَّنِى مُسْلِماً‏}‏ فعُلِمَ أنه كان يشتاق للقائه ‏(‏سبحانه‏)‏‏.‏

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله يقول‏.‏ قال يوسف ليعقوب‏:‏ عَلِمْتَ أنَّا نلتقي فيما بعد الموت‏.‏‏.‏ فلِمَ بَكيْتَ كلَّ هذا البكاء‏؟‏

فقال يعقوب، يا بُنَيّ إنَّ هناك طرُقاً، خِفْتُ أن أسلكَ طريقاً وأنت تسلك طريقاً، فقال يوسف عند ذلك‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِى مُسْلِماً‏}‏‏.‏

ويقال إن يوسف- عليه السلام- لما قال‏:‏ توفني مسلماً، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال‏:‏ يا بني دَعْني أشتفي بلقائك من الذي مُنِيتُ به في طول فراقك، فلا تُسْمِعْني- بهذه السرعة- قولَكَ‏:‏ توفَّنِي مسلماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

تبيّن للكافة أن مثل هذا البيان لهذه القصة على لسان رجلٍ أميٍّ لا يكون إلا بتعريف سماويّ‏.‏

ويقال كونُ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم- أُميَّا في أول أحواله علامةُ شَرَفِه وعلوِّ قدْرِه في آخر أحواله، لأنَّ صِدْقَهُ في أن هذا من قِبَل اللَّهِ إنما عُرِفَ بكونه أميا، ثم أتى بمثل هذه القصة من غير مدارسة كتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

أخبر عن سابق علمه بهم، وصادق حُكْمِه حكمته فيهم‏.‏

ويقال معناه‏:‏ أَقَمْتُكَ شاهداً لإرادة إيمانهم، وشِدَّةِ الحِرْصِ على تحقُّقهِم بالدِّين، وإيقانهم‏.‏ ثم إنِّي أعلم أنهم لا يؤمن أكثرُهم، وأخبرتك بذلك، وفُرِضَ عليكَ تصديقي بذلك، وفرضتُ عليك إرادتي كونَ ما عَلِمْتُ أنه لا يكون من إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

هذه سُنَّةُ الله- سبحانه- مع أنبيائه حيث أَمَرَهُم بألا يأخذوا على تبليغ الرسالة عِوَضَاً ولا أجراً، وكذلك أمره للعلماءِ- الذين هم وَرثَةُ الأنبياء عليهم السلام- بأَلاّ يأخذوا مِنَ الخْلقِ عِوَضاً على دعائهم إلى الله‏.‏ فَمنْ أخذ منهم حَظا من الناس لم يُبَارَكْ للمستمِع فيما يسمع منه؛ فلا له أيضاً بركة فيما يأخذ منهم فتنقطع به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

الآياتُ ظاهرة، والبراهين باهرة، وكلُّ جُزْءٍ من المخلوقات شاهِدٌ على أنَّه واحد، ولكن كما أَنَّ مَنْ أغْمَضَ عينه لم يستمتع بضوء نهاره فكذلك مَن قَصَّرَ في نَظَرِه واعتباره لم يحظَ بعرفانه واستبصاره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

الشّرْكُ الجَليُّ أن يتَّخِذَ من دونه- سبحانه- معبوداً، والشِّرْكُ الخفِيُّ أن يتخذ بقلبه عند حوائجه من دونه- سبحانه- مقصوداً‏.‏

ويقال شِرْكُ العارفين أن يتخذوا من دونه مشهوداً، أو يطالعوا سواه موجوداً‏.‏

ويقال مِنَ الشِّركِ الخفيِّ الإحالةُ على الأشكال في تجنيس الأحوال، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال عند تزاحم الأشغال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

أَفَأَمِنَ الذي اغتَرَّ بطول الإمهال ألا يُبْتلى بالاستئصال، أَفَأَمِنَ مَنْ اغترَّ بطول السلامة ألا يقوم بالبلاءُ عليه يومَ القيامة‏.‏

ويقال الغاشيةُ حجابٌ من القسوة يحصل في القلب، لا يزول بالتضرع ولا ينقشِع بالتخشع‏.‏

ويقال الغاشيةُ من العذاب أن تزولَ من القلب سرعةُ الانقلاب إلى الله تعالى، حتى إذا تمادى صاحب الغفلة استقبله في الطريق ما يوجب قنوطه من زواله، وفي معناه أنشدوا‏:‏

قلتُ للنَّفْسِ إنْ أردتِ رجوعاً *** فارجعي قَبْلَ أَنْ يُسَدَّ الطريقُ

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

«البصيرة»‏:‏ اليقين الذي لا مِرْيَةَ فيه، والبيان الذي لا شكَّ فيه‏.‏ البصيرةْ يكون صاحبُها مُلاَطَفاً بالتوفيق جَهْراً، ومكاشَفاً بالتحقيق سِرَّا‏.‏

ويقال البصيرة أن تطلع شموسُ العرفاِن فتندرِجُ فيها أنوارُ نجوم العقل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى‏}‏ أي ذلك سبيلي مَنْ اقتدى بهديي فهو أيضاً على بصيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

تعجبوا أن يبعثَ اللَّهُ إلى الخْلق بشراً رسولاً، فبيَّن أنه أجرى سُنَّتَه- فيمن تقدَّمَ من الأمم- ألا يكونَ الرسولُ إليهم بَشَراً، فإما أن جحدوا جوازَ بعثةِ الرسولِ أصلاً، أو أنهم استنكروا أن يبعث بشرّاً رسولاً‏.‏

ثم أَمَرهُم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنَّظَر فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْض‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

حتى إذا استيأس الرسلُ مِنْ إيمانِ قومهم، وتَيَقَّنُوا أنهم كذبوهم- والظن ها هنا بمعنى اليقين- فعند ذلك جاءهم نصرُنا؛ للرسل بالنجاةِ ولأقوامهم بالهلاك، ولا مَرَدَّ لبأسنا‏.‏

ويقال حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين شيئاً من الأحوال إلا بعد يأسهم منها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُنّزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏، فكما أنّه يُنَزِّلُ المَطر بعد اليأسِ فكذلك يفتح الأحوالَ بعد اليأس منها والرضا بالإفلاس عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

عِبْرةٌ منها للملوك في بَسْطِ العدل كما بسط يوسفُ عليه السلام، وتأمينهم أحوال الرعية كما فعل يوسف حين أَحسن إليهم، وأعتقهم حين مَلَكَهم‏.‏

وعبرة في قصصهم لأرباب التقوى؛ فإن يوسفَ لمَّا ترك هواه رقَّاه الله إلى ما رقَّاه‏.‏

وعبرةٌ لأهل الهوى فيما في اتباع الهى من شدة البلاء، كامرأة العزيز لمَّا تبعت هواها لقيت الضرَّ والفقر‏.‏

وعبرةُ للمماليك في حضرة السادة، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا مَلَكَ مُلْكَ العزيز، وصارت زليخا امرأته حلالاً‏.‏

وعبرةٌ في العفو عند المقدرة، كيوسف عليه السلام حين تجاوز عن إخوته‏.‏

وعبرةٌ في ثمرة الصبر، فيقعوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوماً بلقاء يوسف عليه السلام‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق‏}‏‏.‏

أقسم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إِنَّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرتُ أَنِّي أُنَزِّلُ عليك‏.‏

فالألف تشير إلى اسم «الله»، واللام تشير إلى اسم «اللطيف»، والميم تشير إلى «المجيد»، والراء تشير إلى اسم «الرحيم» قال بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آياتُ الكتاب الذي أخبرتُ إني أنزله على محمد- صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم عَطَفَ عليه بالواو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِى أُنِزلَ إلَيك مِن رَّبِّكَ الحَقُّ‏}‏ هو حق وصدق، لأنه أنزله على نَبيِّه- صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

أي ولكن الأكثر من الناس من أصناف الكفار لا يؤمنون به، فَهُمْ الأكثرون عدداً، والأقلون قَدْراً وخَطَراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ‏}‏‏.‏

دلَّ على صفاته وذاته بما أخبر به من آياته، ومن جملتها رفعُ السمواتِ وليس تحتها عمادٌ يَشُدُّها، ولا أوتادٌ تُمْسِكها‏.‏ وأخبر في غير هذه المواضع أنه زَيَّنَ السماءَ بكواكبها، وخصَّ الأرض بجوانبها ومناكبها‏.‏

و ‏{‏اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏‏:‏ أي أحتوى على مُلْكِه احتواءَ قُدْرَةٍ وتدبير‏.‏ والعرشُ هو المُلْكُ حيث يقال‏:‏ أندكَّ عرشُ فلان إذا زال مُلْكُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌ يَجْرِى لأَِجَلٍ مُّسَمّىً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

كلٌّ يجري في فَلَكٍ‏.‏ ويدلُّ كل جزء من ذلك على أنه فِعلُ في مُلْكِه غير مشترك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

بَسَطَ الأرْضَ ودحاها، الجبالَ أرساها، وفَجَّرَ عيونها، وأجرى أنهارها، وجَنَّسَ بِحارها، ونَوَّعَ من الحيوانات ما جعل البحرَ قرارها، وأنبت أشجارها، وصَنَّفَ أزهارَها وثمارَها، وكوَّر عليها ليلَها ونهارَها‏.‏‏.‏ ذلك تقديرُ العزيز العليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

فَمِنْ سبخٍ ومن حَجَرٍ ومن رمل‏.‏‏.‏ أنواع مختلفة، وأزواج متفقة‏.‏ وزروع ونبات وأشجار أشتات، وأصل الكل واحد، فأجزاؤها متماثلة، وأبعاضها متشاكلة، ولكن جعل بعضها غدقاً، وبعضاه قشراً، وبعضها غُصْناً، وبعضها جذعاً، وبعضها أزهاراً، وبعضها أوراقاً‏.‏‏.‏ ثم الكلُّ واحد، وإن كان لكلِّ واحدٍ طبعٌ مخصوص وشكلٌ مخصوص، ولون مخصوص وقشر مخصوص مع أنها تُسْقَى بماءٍ واحدٍ؛ إذ يصل إلى كل جزء من الشجر من الماء مقدارُ ما يحتاج إليه، ‏{‏وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضِ فِى الأُكُلِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وإن تعجبُ- يا محمد- لقولهم فهذا موضعٌ يَتَعَجَّبُ منه الخَلْق، فالعَجَبُ لا يجوز في صفة الحقِّ، إذ إن التعجبَ الاستبعادُ والحقُّ لا يَسْتَبْعِدُ شيئاً، وإنما أثبت موضعَ التعجب للخَلْق، وحَسَنٌ ما قالوا‏:‏ «إنما تعجب من حجب» لأنَّ مَنْ يَنَلْ عيونَ البصيرةِ لا يتعجَّبُ مِنْ شيء‏.‏

وقومٌ أطلقوا اللفظ بأن هذا من باب الموافقة أي إنك إن تعجب فهذا عجب موافقتك له‏.‏

وإطلاق هذا- وإن كان فيه إشارة إلى حالة لطيفة- لا يجوز، والأدبُ السكوتُ عن أمثال هذا‏.‏ والقوم عبّروا عن ذلك فقالوا‏:‏ أعجبُ العجبِ قول ما لا يجوز في وصفه العجب‏.‏‏.‏ وإنْ تعجَّب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَءِذَا كُنَّا تُرَاَباً أءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏‏:‏ استبعادُهم النشأةَ الثانيةَ- مع إقرارهم بالخَلْقِ الأولِ وهما في معنىً واحد- موضعُ التعجب، إذ هو صريح في المناقضة، وكان القومُ أَصحابَ تمييز وتحصيل، فقياسٌ مثل هذا يدعو إلى العجب‏.‏ ولكن لولا أن الله- سبحانه- لَبَّسَ عليهم كما قال‏:‏ ‏{‏فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 9‏]‏- وإلا ما كان ينبغي أَنْ يخفي عليهم جواز هذا مع وضوحه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَهُ مَعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

الكناية في‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ‏}‏ راجعةٌ إلى العبد، أي أن ألله وَكَلَ بكلِّ واحدٍ منهم معقباتٍ وهم الملائكة الذين يعقب بعضهم بعضاً بالليل والنهار يحفظون هذا المكلَّف وذَاكَ من أمر الله، أي من البلاء الذي بقدرة الله‏.‏ يحفظونهم بأمر الله من أمر الله، وذلك أن الله- سبحانه- وَكَلَ لكلِّ واحدٍ من الخَلقْ ملائكةً يدفعون عنهم البلاَءَ إذا ناموا وغفلوا، أو إذا انتبهوا وقاموا ومشوا *** وفي جميع أحوالهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بقومٍ حتى يغيروا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏‏.‏

وإذا غيَّروا ما بهم إلى الطاعات غيَّر الله مابهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا في نعمة فغيَّروا مابهم من الشكر لله تغيَّر عليهم ما مَنَّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا في شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا في التضرع، وأظهروا العجز غيَّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل‏.‏

ويقال إذا غيَّروا ما بألسنتهم من الذِّكْرِ غيَّر الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيانَ والغفلة، فإذا كان العبد في بسطةٍ وتقريب، وكشفٍ بالقلب وترقب‏.‏‏.‏ فاللَّهُ لا يُغَيِّر ما بأنفسهم بترك أدبٍ، أو إخلال بحقٍ، أو إلمام بذنبٍ‏.‏

ويقال لا يَكُفُّ ما أتَاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يتركَ ويُغَيِّر ما هو به من الشكر والحمد‏.‏ فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور القلب بالنسيان وما يُطيح به من العصيان‏.‏‏.‏ أبدل اللَّهُ تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسَلَبَه ما كان يعطيه من الإحسان‏.‏

ويقال إذا توالت المحنُ وأراد العبدُ زوالَها فلا يصل إليه النَّفْضُ منها إلاَّ بأَنْ يغير ما هو به؛ فيأخذ في السؤال بعد السكوت، وفي إظهار الجَزَع بعد السكون، فإذا أخذ في التضرع غيَّر ما به من الصبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بَقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ‏}‏‏:‏ يقال إذا أراد اللَّهِ بقومٍ بلاءً وفتنة فما تعلَّقَتْ به المشيئة لا محالة يجري‏.‏

ويقال إذا أراد الله بقوم سوءاً ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، ويسعون- في الحقيقة- في دَمِهِم كما قال قائلهم‏:‏

إلى حَتْفِي مَشَى قدمي *** إذا قَدَمِي أراق دمي

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

كما يريهم البرقَ- في الظاهر- فيكونون بين خوفٍ وطمعٍ؛ خوفٍ من إحباس المطر وطمع في مجيئه‏.‏ أو خوفٍ للمسافر من ضرر مجيء المطر، وطمع للمقيم في نفعه‏.‏‏.‏ كذلك يُريهم البرقَ في أسرارهم بما يبدو فيها من اللوائح ثم اللوامع ثم كالبرق في الصفاء، وهذه أنوار المحاضرة ثم أنوار المكاشفة‏.‏

‏{‏خَوْفَاً‏}‏‏:‏ من أن ينقطع ولا يبقى، ‏{‏وَطَمَعاً‏}‏‏:‏ في أن يدومَ فيه نقلُ صاحبه من المحاضرة إلى المكاشفة، ثم من المكاشفة إلى المشاهدة، ثم إلى الوجود ثم دوام الوجود ثم إلى كمال الخمود‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يَرِيكُمُ الْبَرْقَ‏}‏‏:‏ من حيث البرهان، ثم يزيد فيصير كأقمار البيان، ثم يصير إلى نهار العرفان‏.‏ فإذا طلعت شموسُ التوحيدِ فلا خفاءَ بعدها ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس، كما قيل‏:‏

هي الشمسُ إلا أَنَّ للشمس غيبة *** وهذا الذي نَعْنيه ليس يغيب

ويقال تبدو لهم أنوار الوصال فيخافون أن تجنَّ عليهم ليالي الفرقة، فَقَلَّمَا تخلو فرحةُ الوصال من أن تعقبها موجة الفراق، كما قيل‏:‏

أي يوم سررتني بوصالٍ *** لم تَدَعْني ثلاثةً بصدود‏؟‏‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ‏}‏‏.‏

إذا انتاب السحابةَ في السماء ظلامٌ في وقتٍ فإنه يعقبه بعد ذلك ضحكُ الرياض، فَمَا لَمْ تَبْكِ السماءُ لا يضحكُ الروضُ، كما قيل‏:‏

ومأتمٌ فيه السماءُ تبكي *** والأرضُ من تحتها عَرُوسُ

كذلك تنشأ في القلب سحابة الطلب، فيحصل للقلب ترددُ الخاطر، ثم يلوح وجهُ الحقيقة، فتضحكُ الروح لفنونِ راحاتِ الأُنْس وصنوفِ ازهارِ القُرْب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏‏.‏

أي الملائكة أيضاً تسبح من خوفه تعالى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ‏}‏‏.‏

قد يكون في القلب حنين وأنين، وزفير وشهيق‏.‏ والملائكة إذا حصل لهم على قلوب المريدين- خصوصاً- اطلاعٌ يبكون دَمَاً لأَجْلهم، لا سيّما إذا وقعت لواحدٍ منهم فترةُ، والفترةُ في هذه الطريقة الصواعقُ التي يصيب بها من يشاء، وكما قيل‏:‏

ما كان ما أَوْلَيْتَ مِن وَصْلنا *** إلا سراجاً لاح ثم انْطَفا

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ وذكره‏:‏ ‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعَونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَلاغِهِ‏}‏‏.‏

دواعي الحق تصير لائحةً في القلوب من حيث البرهان فمن استمع إليها بسمع الفهم، استجاب لبيان العلم‏.‏ وفي مقابلتها دواعي الشيطان التي تهتف بالعبد بتزيين المعاصي، فمن أصغى إليها بسمع الغفلة استجاب لصوت الغَيّ، ومعها دواعي النّفْس وهي قائدةٌ للعبد بزمام الحظوظ، فمن رَكَنَ إليها ولاحَظَها وقع في هوانِ الحِجاب‏.‏

ودواعي الحقِّ تكون بلا واسطة مَلَكٍ، ولا بدلالة عقل، ولا بإشارة علم، فمن أسمعه الحقُّ ذلك استجاب لا محالَة لله بالله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِى ضَلاَلٍ‏}‏‏.‏

هواجس النَّفسِ ودواعيها تدعو- في الطريقة- إلى الشّركِ، وذلك بشهود شيءٍ منكَ، وحسبان أمرٍ لَكَ، وتعريجٍ في أوطان الفرْق، والعَمَى عن حقائق الجَمْع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

المؤمن يسجد لله طوعاً، وإذا نزل به ضر ألجأه إلى أَنْ يتواضع ويسجد، وذلك معنى سجوده كرهاً- وهذا قول أهل التفسير‏.‏ والكافر يسجد طائعاً مختاراً، ولكن لمَّا كان سجودُه لطلبِ كَشْفِ الضُّرِّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه يسجد كرهاً‏}‏ على مقتضى هذا كلُّ مَنْ يَسْجُدُ لابتغاءِ عِوَضٍ أو لكشفِ محنة‏.‏

ويقال السجود على قسمين‏:‏ ساجدٌ بِنَفْسِه وساجدٌ بقلبه؛ فسجودُ النَّفْسِ معهود، وسجودُ القلب من حيث الوجود‏.‏‏.‏ وفَرْقٌ بين من يكون بنفسه، وواجد بقلبه‏.‏

ويقال الكلُّ يسجدون لله؛ إِمَّا من حيث الأفعال بالاختيار، أو من حيث الأحوال بنعت الافتقار والاستبشار‏:‏ سجودٌ من حيث الدلالة على الوحدانية؛ فكلُّ جزءٍ من عين أو أثر فَعَلَى الوحدانية شاهدٌ، وعلى هذا المعنى للَّهِ ساجدٌ‏.‏ وسجود من حيث الشهادة على قدرة الصانع واستحقاقه لصفات الجلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُل مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لآ يَمْلِكُونَ لأِنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً‏}‏‏.‏

سَلْهُمْ- يا محمد- مَنْ موجِدُ السموات والأرض ومُقَدِّرُها، ومُخْتَرعُ ما يحدث فيها ومدبِّرها‏؟‏ فإِنْ أَسْكَتهُمْ عن الجواب ما استكَنَّ في قلوبهم مِنَ الجهلِ فقُلْ الله منشيها ومجريها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}‏‏:‏ يعني الأصنام، وهي جمادات لا تملك لنفسها نَفْعَاً ولاَ ضَرَّاً، ويلتحق في المعنى بها كلُّ مَنْ هو موسومٌ برقم الحدوث، فَمَنْ علَّقَ قلبَه بالحدثان ساوَى- مِنْ وجهٍ- مَنْ عَبَدَ الأصنام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَأ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَلْ تََسْتَوِى الظُّلُمَاتُ والنُّورُ‏}‏‏.‏

الأعمى مَنْ على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصيرُ مَنْ كَحَّلَ الحقُّ بصيرة سِرِّه بنور التوحيد‏.‏‏.‏ لا يستويان‏!‏

ثم هل تستوي ظلماتُ الشِّرك وأنوارُ التوحيد‏؟‏ ومن جملة النور الخروجُ إلى ضياء شهود التقدير‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَئٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ‏}‏‏.‏

أي لو كان له شريك لَوَجَبَ أن يكون له نِدٌّ مُضاهٍ وفي جميع الأحكام له موازٍ ولم يجدِ حينئذٍ التمييزُ بين فِعْلَيْهِما‏.‏

وكذلك لو كان له ندٌّ‏.‏‏.‏ فإنَّ إثباتَهما شيئين اثنين يوجِب اشتراكَهما في استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضاً مستحقاً له، وهذا يؤدي إلى ألا يُعْرَفَ المَحَلُّ *** وذلك محال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَئٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَكُلُّ شَئٍ‏}‏ تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطِبُ لا يدخل في الخطاب‏.‏

‏{‏وَهُوَ الوَاحِدُ‏}‏‏:‏ الذي لا خَلَفَ عنه ولا بَدَل، الواحد الذي في فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلِّ أحد، ويستعين به كل أحد‏.‏

و ‏{‏الْقَهَّارُ‏}‏‏:‏ الذي لا يجري بخلاف حُكْمِه- في مُلْكِه- نَفَسٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

هذه الآية تشتمل على أمثالٍ ضربها أللَّهُ لتشبيه القرآنِِ المُنَزَّلِ بالماءِ المُنَزَّلِ من السماء، وشبَّه القلوب بالأودية، وشبَّه وساوسَ الشيطان وهواجسَ النَّفْس بالزَّبِّدِ الذي يعلو الماء، وشبَّه الخُلُق بالجواهر الصافية من الخَبَثِ كالذهب والفضة والنحاس وغيرها‏.‏ وشبَّه الباطلَ بِخَبَثِ هذه الجواهر‏.‏ وكما أن الأودية مختلفة في صغرها وكبرها وأن بقدرها تحتمل الماء في القلة والكثرة- كذلك القلوبُ تختلف في الاحتمال على حسب الضعف والقوة‏.‏ وكما أَن السيلَ إذا حَصَلَ في الوادي يُطَهِّرُ الوادي فكذلك القرآن إذا حصل حِفْظُه في القلوب نَفَى الوساوسَ والهوى في الوادي عنها، وكما أَنَّ الماءَ قد يصحبه ما يكدره، يخلص بعضه مما يشوبه- فكذلك الإيمان وفَهُمْ القرآن في القلوب المؤمنين حين تخلص من نَزَعْاتِ الشيطان ومن الخواطر الرَّدِيَّة، فالقلوب بين صافٍ وكَدِرٍ‏.‏

وكما أنَّ الجواهَر التي تتخذ منها الأواني إذا أذيبت خَلَصتْ من الخَبَثِ كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقُّ ويضمحل الباطل‏.‏

ويقال إن الأنوار إذا تلألأت في القلوب نَفَت آثار الكفلة، ونور اليقين ينفي ظلمة الشك، والعلم ينفي تهمة الجهل، ونور المعرفة ينفي أثر النكرة، ونور المشاهدة ينفي آثار البشرية، وأنوار الجمع تنفي آثار التفرقة‏.‏ وعند أنوار الحقائق تتلاشى آثار الحظوظ، وأنوار طلوعِ الشمس من حيث العرفان تنفي سَدَفَةَ الليل من حيث حسبان أثر الأغيار‏.‏

ثم الجواهر التي تتخذ منها الأواني مختلفة فَمِنْ إناءٍ يتخذ من الذهب وآخر من الرصاص، إلى غيره، كذلك القلوب تختلف، وفي الخبر‏:‏ «إن لله تعالى أوانيَ وهي القلوب» فزاهد قاصدٌ ومحب واجِدٌ، وعابدٌ خائفٌ ومُوحِّدٌ عارفٌ، ومتعبِّدٌ متعفِّفٌ ومتهجِّدٌ متصوف، وأنشدوا‏:‏

ألوانُها شتَّى الفنونِ وإنما *** تُسْقى بماءٍ واحدٍ من مَنْهَلِ

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏الحُسْنَى‏}‏‏:‏ الوعد بقبول استجابتهم، وذلك مِنْ أََجَلِّ الأشياءِ عندهم؛ فلا شيء أعزُّ على المحبِّ مِنْ قبولِ محبوبه منه شيئاً‏.‏

أما الذين لم يستجيبوا له فلو أَنّ لهم جميع ما في الأرض وأنفقوه عَمْداً لا يُقْبَلُ منهم، ولهم سوءُ الحساب، وهو المناقشة في الحساب، ثم مأواهم جهنم ودوام العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

استفَهام في معنى النفي، أي لا يستوي البصير والضرير، ولا المقبول بالمردود بالحجبة، ولا المُؤَمَّل بالتقريب بالمُعَرَّض للتعذيب، ولا الذي أقصيناه عن شهودنا بالذي هديناه بوجودنا‏.‏ إنما يتَّعِظُ مَنْ عقله له تشريف، دونَ مَنْ عقله له سببُ إقصاءً وتعنيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

الوفاء بالعهد باستدامة العرفان، والوفاء بشرط الإحسان، والتوقيِّ من ارتكاب العصيان- بذلك أُبْرِمَ العقدُ يوم الميثاق والضمان‏.‏

وميثاقُ قومٍ ألا يعبدوا شيئاً، وميثاق قومٍ ألا يسألوا سواه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

الذين يَصِلون الإيمان به بالإيمان بالأنبياء والرسل‏.‏

ويقال الذين يصلون أنفاسَهم بعضاً ببعض؛ فلا يتخلَّلُها نَفَسٌ لغير الله، ولا بغير الله، ولا في شهود غير الله‏.‏

ويقال يَصِلُون سَيْرَهم بِسُرَاهم في إقامة العبودية، والتبرِّي من الحول والقوة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏‏:‏ الخشية لجامٌ يُوقفُ المؤمنَ عن الرَّكْضِ في ميادين الهوى، وزِمامٌ يَجُرُّ إلى استدامة حكم التُّقَى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ‏}‏ هو أن يبدو من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ‏}‏‏.‏

الصبر يختلف باختلاف الأغراض التي لأَجْلِها يصبر الصابر، فالعُبَّاد يصبرون لخوف العقوبة، والزهاد يصبرون طمعاً في المثوبة، وأصحاب الإرادة هم الذين صبروا ابتغاء وجهِ ربهم؛ وشرطُ هذا النوع من الصبر رَفْضُ ما يمنع من الوصول، واستدامةُ التوقي منه، فيدخل فيه ترك الشهوات، والتجردُ عن جميع الشواغل والعلاقات، فيصبر عن العِلَّةِ والزَّلةِ، وعن كل شيءٍ يشغل عن الله‏.‏

ومما يجب عليه الصبر الوقوفُ على حكم تَعزُّزٍ الحق، فإنَّه- سبحانه- يتفضِّل على الكافة من المجتهدين، ويتعزز- خصوصاً- على المريدين، فيمنحهم الصبر في أيام إرادتهم، فإذا صَدَقُوا في صبرهم جَادَ عليهم بتحقيق ما طلبوا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً‏}‏‏.‏

الأغنياء ينفقون أموالَهم‏.‏ والعُبَّاد ينفقون نفوسَهم ويتحملون صنوف الاجتهاد، ويصبرون على أداء الفرائض والأوراد‏.‏ والمريدون ينفقون قلوبهم فيسرعون إلى أداء الفرائض والأوراد ويصبرون إلى أن يبوحَ علم من الإقبال عليهم‏.‏ وأمَّا المحبون فينفقون أرواحَهم‏.‏‏.‏ وهي كما قيل‏:‏

ألستَ لي خَلَفاً‏؟‏ كفى شَرَفَاً *** فما وراءًكَ لي قَصْدٌ ومطلوبُ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيْئَةَ أُوَْلئِكَ لَهُمُ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏‏.‏

يعاشرون الناس بِحُسْنِ الخلُق؛ فيبدأون بالإنصاف ولا يطلبون الانتصاف، وإِنْ عَامَلَهم أحدٌ بالجفاء قابلوه بالوفاء، وإِنْ أذنب إليهم قومٌ اعتذروا عنهم، وإن مرضوا عادوهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يتم النعمة عليهم بأن يجمع بينهم وبين مَن يُحبون صحبتهم مِنْ أقاربهم وأزواجهم، وقد ورد في الخبر‏:‏ «المرءُ مع مَنْ أَحَب» فَمَنْ كان محبوبُه أمثالَه وأقاربَه حُشِرَ معهم، ومَنْ كان اليومَ بقلبه مع الله، فهو غداً مع الله، وفي الخبر‏:‏ «أنا جليسُ مَنْ ذكرني» وهذا في العاجل، وأمَّا في الآجل، ففي الخبر‏:‏ «الفقراء الصابرون جُلَسَاءُ الله يومَ القيامةِ»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

مَنْ كفر بعد إيمانه نَقَضَ عهدَ الإسلام في الظاهر، ومن رجع إلى أحكام العادة بعد سلوكه طريق الإرادة، فقد نقض عَهْدَه في السَّرَّاء *** فهذا مُرْتَدٌّ جهراً، وهذا مرتَدٌّ سِرَّاً، والمرتد جهراً عقوبته قطعُ رأسِه، والمرتد سِرَّاً عقوبته قَطْعُ سِرِّه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏، هو نقض قوله‏:‏ ‏{‏يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ويقال نقض العهد هو الاستعانة بالأغيار، وتَرْكُ الاكتفاء بالله الجبّار‏.‏

ويقال نَقْضُ العهد الرجوع إلى الاختيار والتدبير بعد شهودِ الأقدار، وملاحظة التقدير‏.‏

ويقال نقض العهد بِتَرْكِ نَفْسِه، ثم يعود إلى ما قال بتركه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ‏}‏‏.‏

يبسط الرزق للأغنياء ويُطَالِبُهم بالشكر؛ ويُضَيِّقُ على الفقراء ويطالبهم بالصبر‏.‏ وَعَدَ الزيادةَ للشاكرين، ووعد المَعِيَّة للصابرين‏.‏ للأغنياء الأموال بمزيدها، وللفقراء التجرد في الدارين عن طريفها وتليدها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ فِى الأَخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ‏}‏‏.‏

فَرِحَ الأغنياءُ بزكاء أموالهم، وفَرِحَ الفقراء بصفاء أحوالهم‏.‏

‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ فِى الأَخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ‏}‏ قليلٌ بالإضافة إلى ما وعدهم الله، فأموالُ الأغنياء- وإنْ كَثُرَت- قليلةٌ بالإضافة إلى ما وعَدَهم من وجود أفضاله، وأحوال الفقراء- وإنْ صَفَتْ- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من شهود جماله وجلاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏يُضِلُّ مَن يَشآءُ‏}‏‏:‏ وهم الذين لم يشهدوا ما أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الشواهد والبرهان حتى ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الزيادة‏.‏

‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 46‏]‏‏:‏ وهم الذين أبصروا بعيون أسرارهم ما خُصَّ به من الأنوار فسكنوا بنور استبصارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قومٌ اطمأنت قلوبُهم بذكرهم الله، وفي الذكر وَجَدُوا سَلْوَتَهم، وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم‏.‏ وقومٌ اطمأنت قلوبُهم بذكر الله فَذَكَرَهُمْ الله- سبحانه- بلطفه، وأَثْبَت الطمأنينةَ في قلوبهم على وجه التخصيص لهم‏.‏

ويقال إذا ذكروا أَنَّ الله ذَكَرَهم استروحت قلوبُهم، واستبشرت أرواحُهم، واستأنست أسرارُهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ‏}‏ لِمَا نالت بِذِكْرِهِ من الحياة، وإذا كان العبدُ لا يطمئن قلبُه بذكر الله، فذلك لِخَللٍ في قلبه، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

طابت أوقاتُهم وطابت نفوسُهم‏.‏

ويقال طوبى لمن قال له الحقُّ‏:‏ طوبى‏.‏

طوبى لهم في الحال، وحُسْنُ المآب في المآل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

لئن أرسلناك بالنبوة إليهم فلقد أرسلنا قبلك كثيراً من الرسل، ولئن أصابك منهم بلاءٌ فلقد أصاب مَنْ قَبْلَكَ كثيرٌ من البلاء، فاصْبِرْ كما صَبَرُوا تُؤْجَرْ كما أُجِرُوا‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لآَ إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏‏.‏

لئن كفروا بنا فآمِنْ أنت، وإذا آمنتَ فلا تبالِ بِمَنْ جَحَد، فإِنَّك أنت المقصودُ من البَرِيَّة، والمخصوصُ بالرسالة والمحبة‏.‏

لو كان يجوز في وصفنا أن يكون لنا غرضٌ في أفعالنا‏.‏

ولو كان الغرض في الخِلْقَة فأنت سيد البَشَر، وأنت المخصوص من بين البشرية بحسن الإقبال، فهذا مخلوق يقول في مخلوق‏:‏

وكنتُ أَخَّرْتُ أوطاري لوقت *** فكان الوقت وقتك والسلام

وكنت أطالِبُ الدنيا بِحُبِّ *** فكنتَ الحُبَّ‏.‏‏.‏ وانقطع الكلام

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْءَاناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَلِ لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً‏}‏‏.‏

لو كان شيء من المخلوقات يظهر يغيرنا في الإيجاد لكان يحصل بهذا القرآن، ولكن المنشئ الله، والخير والشر جملةً من الله، والأمر كله لله‏.‏ فإذا لم يكن شيء من الحدثان بالقرآن- والقرآن كلام الله العزيز- فلا تكون ذرة من النفي والإثبات لمخلوق‏.‏‏.‏ فإن ذلك محال‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏أَفَلَمْ يَايْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏‏.‏

معناه أفلم يعلم الذين آمنوا، ويقال أفلم ييأسوا من إيمانهم وقد علموا أنه من يهديه الحق فهو المهتدي‏؟‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةُ أَوْ تَحُلَّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ‏}‏‏.‏

يعني شؤمُ كُفْرِهم لا يزال واصلاً إليهم، ومقتصُّ فعلهم لاحِقٌ بهم أبداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أنزل هذه الآية على جهة التسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم- عما كان يلاقيه منهم‏.‏ وكما أن هؤلاء في التكذيب جَرَوْا على نهجهم فنحن أَدَمْنَا سُنَّتَنَا في التعذيب معهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ‏}‏‏.‏

الجواب فيه مضمر؛ أي أفمن هو مُجْرِي ومنشئ الخَلْقِ والمُطَّلِعُ عليهم، لا يَخْفَى عليه منهم شيءٌ كَمَنْ ليس كذلك‏؟‏ لا يستويان غداَ أبداً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِئُّونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْلِ‏}‏‏.‏

قُل لهم أروني أي تأثير منهم، وأي نفع لكم فيهم، وأي ضرر لكم منهم‏؟‏ أتقولون ما يعلم الله بخلافه‏؟‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا لاَ يَعْلَمُ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضِلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

أي قد تبين لكم أن ذلك من كيد الشيطان، وزين للذين كفروا مكرهم، وصاروا مصدودين عن الحق، مسدودة عليهم الطُّرُقُ، فإنَّ مَنْ أَضَلَّه حُكْمُه- سبحانه- لا يهديه أحدٌ قطعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

المَثَلُ أي الصفة، فصفة الجنة التي وعد المتقون هي أنها جنة تجري من تحتها الأنهار، وأُكُلُها دائم وظلها دائم، أي أن اللذاتِ فيها متصلةٌ‏.‏ وإنما لهم جنات معجلة ومؤجلة، فالمؤجَّلَةُ ما ذكره الله- سبحانه- في نص القرآن، والمعجلة جنة الوقت‏.‏‏.‏ والدرجات- من حيث البسط- فيها متصلة، ونفحاتُ الأُنْسِ لأربابها لا مقطوعة ولا ممنوعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

يريد بهم مؤمني أهل الكتاب الذين كانوا يفرحون بما ينزل من القرآن لصدق يقينهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأَحَزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏‏.‏

أي الأحزاب الذين قالوا كان محمد يدعو إلى إله واحد، فالآن هو ذا يدعو إلى إلهين لمَّا نزل‏:‏ ‏{‏قَلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادعُوا الرَّحَمْنَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَئَابِ‏}‏‏.‏

قل يا محمد‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ‏}‏‏.‏ والعبوديةُ المبادرة إلى ما أُمِرْتُ به، والمحاذرة مما زجُرْتُ عنه، ثم التبرِّي عن الحَوْل والمُنَة، والعتراف بالطوْل والمِنَّة‏.‏

وأصل العبودية القيام بالوظائف، ثم الاستقامة عند رَوْح اللطائف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أي حُكْماً ببيان العرب؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أرسل الرسلَ في كلِّ وقتٍ كُلاً بلسان قومه ليهتدوا إليه‏.‏

ويقال مِنْ صفات العرب الشجاعة والسخاء ومراعاة الذِّمام وهذه الأشياء مندوبٌ إليها في الشريعة‏.‏

‏{‏وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوآءَهُم‏}‏‏:‏ أي ولئن وافقتهم، ولم تعتصم بالله، ووَقَعَتْ على قلبك حشمةٌ من غير الله- فَمَا لَكَ من واقٍ من الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِآيَةٍ إلا بِإِذِنِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

أي أرسلنا رسلاً من قبلك إلى قومهم، فلم يكونا إِلا من جنسك، وكما لكم أزواج وذرية كانت لهم أزواج وذرية، ولم يكن ذلك قادحاً في صحة رسالتهم، ولا تلك العلاقات كانت شاغلة لهم‏.‏

ويقال إن من اشتغل بالله فكثرة العيال وتراكم الأشغال لا تؤثر في حاله؛ ولا يضره ذلك‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏لِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ‏}‏‏.‏

أي لكل شيء أجل مثبت في كتاب الله وهو المحفوظ، وله وقت قُسِمَ له، وأنه لا اطلاعَ لأحدٍ على علمه، ولا اعتراضَ لأحدٍ على حُكْمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

المشيئة لا تتعلق بالحدوث، والمحو والإثبات متصلان بالحدوث‏.‏

فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، وقوْلِه وحُكْمِه لا تدخل تحت المحو والإثبات، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله؛ المحوُ يرجع إلى العَدَم، والإثباتُ إلى الإحداثِ، فهو يمحو من قلوب الزُّهاد حُبَّ الدنيا ويُثْبِتُ بَدَلَه الزهدَ فيها، كما في خبر حارثَةَ‏:‏ «عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حَجَرُها وذَهبُها»‏.‏

ويمحو عن قلوب العارفين الحظوظَ، ويُثْبِتُ بدلها حقوقَه تعالى، ويمحو عن قلوب المُوحِّدين شهودَ غير الحق ويثبت بَدَلَه شهود الحق، ويمحو آثار البشرية ويثبت أنوار شهود الأحدية‏.‏

ويقال يمحو العارفين عن شواهدهم، ويثبتهم بشاهد الحق‏.‏

ويقال يمحو العبد عن أوصافه ويثبته بالحقِّ فيكون محواً عن الخْلق مثبتاً بالحق للحق‏.‏

ويقال يمحو العبد فلا يجري عليه حكم التدبير، ويكون محواً بحسب جريان أحكام التقدير، ويثبت سلطانَ التصديق والتقليب بإدخال ما لا يكون فيه اختيار عليه على ما يشاء‏.‏

ويقال يمحو عن قلوب الأجانب ذِكْرَ الحق ويثبت بَدَلَه غلبات الغفلةِ وهواجِمَ النسيان‏.‏

ويقال يمحو عن قلوب أهل الفترة ما كان يلوح فيها من لوامع الإرادة، ويثبت بدلها الرجوعَ إلى ما خرجوا عنه من أحكام العادة‏.‏

ويقال يمحو أوضارَ الزَّلَّة عن نفوس العاصين، وآثار العصيان عن ديوان المذنبين ‏(‏ويثبت‏)‏ يدل ذلك لَوْعَةَ النَّدم، وإنكسار الحَسْرَةِ، والخمودَ عن متابعة الشهوة‏.‏

ويقال يمحو عن ذنوبهم السئيةَ، ويثبت بدلها الحسنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏

ويقال يمحو الله نضارةَ الشباب ويثبت ضعفَ المشيب‏.‏

ويقال يمحو عن قلوب الراغبين في مودة أهل الدنيا ما كان يحملهم على إيثار صحبتهم، ويثبت بدلاً مه الزهد في صحبتهم والاشتغال بعِشْرَتِهِم‏.‏

ويقال يمحو الله ما يشاء من أيام صَفَتْ من الغيب، وليالٍ كانت مُضاءةً بالزلفة والقربة ويثبت بدلاً منه ذلك أياماً في أشدُّ ظلاماً من الليالي الحنادس، وزمانا يجعل سَعَةَ الدنيا عليهم محابِس‏.‏

ويقال يمحو العارفين بكشف جلاله، ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله‏.‏

ويقال يمحوهم إذا تجلَّى لهم، ويثبتهم إذا تعزَّز عليهم‏.‏

ويقال يمحوهم إذا ردّهم إلى أسباب التفرقة لأنهم يبصرون بنعت الافتقار والانكسار، ويثبتهم إذا تجلَّى لقلوبهم فيبصرون بنعت الاستبشار، ويشهدون بحكم الافتخار‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ‏}‏‏.‏

قيل اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما سبق به عِلْمُه وحُكْمُه مما لا تبديلَ ولا تغييرَ فيه‏.‏

ويقال إنه إشارة إلى علمه الشامل لكل معلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

نفي عنه الاستعجال أمراً، و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في قلوبهم أنه يوشك أن يجعل الموعود جهراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

في التفاسير‏:‏ بموت العَلماء، وفي كلام أهل المعرفة بموت الأولياء، الذين إذا أصاب الناسَ بلاءٌ ومحنةٌ فزعوا إليهم فيدعون الله ليكشف البلاَءَ عنهم‏.‏

ويقال هو ذهاب أهل المعرفة حتى إذا جاء مسترشِدٌ في طريق الله لم يجد مَنْ يهديه إلى الله‏.‏

ويقال‏:‏ في كل زمان لسانٌ ينطق عن الحقِّ سبحانه فإذا وَقَعتْ فترةٌ سكنَ ذلك اللسانُ- وهذا هو النقصان في الأطراف الذي تشير إليه الآية وأنشد بعضهم‏:‏

طوى العصران ما نشراه مني *** وأبلى جدتي نشرٌ وطيُّ

أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ *** ولا يبقى مع النقصان شيءُ

ويقال ينقصها مِنْ أطرافها أي بفتح المدائن وأطراف ديار الكفار، وانتشار الإسلام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ويقال ينقصها من أطرافها بخرابِ البلدان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏ فموعودُ الحقِّ خرابُ العَالَمِ وفناءُ أهلِه، ووعدُه حقٌّ لأن كلامَه صِدْقٌ، واللَّهُ يحكم لا مُعَقِّبَ لِحُكمِه، ولا ناقِضَ لما أبرمه، ولا مُبْرِمَ لِمَا نَقَضَه، ولا قابل لِمَنْ رَدَّه، ولا رادَّ لِمَنْ قَبِلَه ولا مُعِزَّ لِمَنْ أهانه، ولا مُذِلَّ لمن أعَزَّه‏.‏

‏{‏وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏:‏ لأن ما هو آتٍ فقريب‏.‏

ويقال ‏{‏سَرِيعُ الحِسَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ في الدنيا؛ لأَنَّ الأولياءَ إذا ألموا بشيءٍ، أو هَمُّوا لمزجورٍ عُوتِبُوا في الوقت، وطولِبوا بِحُسْنِ الرُّجعي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

مكرُهم إظهارُ الموافقة مع إسرارهم الكُفْرَ، ومكرُ الله بهم تَوَهُّمُهُم أنهم مُحْسِنون في اعمالهم، وحسبانهم أنهم سَنأْمَنُ أحوالُهم، وظَنُّهم أنه لا يحيق بهم مكرُهم، وتخليتُه إياهم- مع مَكِرهم- مِنْ أَعْظَم مَكْرِه بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

وَبالَ تكذيبهِم عائدُ إليهم، فإنَّ اللَّهَ شهيدٌ لَكَ بِصَدْقِك‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ‏}‏ هو الله سبحانه وتعالى عنده عِلْمُ جميع المؤمنين‏.‏ فالمعنى كفى بالله شهيداً فعنده علم الكتاب وكفى بالمؤمنين شهيداً؛ إذا المؤمنون يعلمون ذلك‏.‏