فصل: تفسير الآية رقم (5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة المجادلة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏

لمَّا صَدَقَت في شكواها إلى الله وأيِسَتْ من استكشاف ضُرِّها من غير الله- أنزل الله في شأنها‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ‏}‏‏.‏

تَضَرَّعَتْ إلى الله، ورَفَعَتْ قِصَّتَها إلى الله، ونَشَرت غُصَّتَها بين يدي الله- فنَظرَ إليها الله، وقال‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِع اللَّهُ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ صارت فرجةً ورخصةً للمسلمين إلى القيامة في مسألة الظِّهار، وليعلم العالِمون أنَّ أحداً لا يخسر عَلَى الله‏.‏

وفي الخبر‏:‏ أنها قالت‏:‏ «يا رسول الله، إنَّ أوساً تزوَّجني شابَّةً غنيةً ذات أهلٍ، ومالٍ كثير، فلما كبرت سِنِّي، وذَهَبَ مالي، وتَفَرَّق أهلي جعلني عليه كظَهْرِ أُمِّه، وقد ندِم وندمِت، وإنَّ لي منه صبيةً صِغَاراً إن ضَمَمْتُهم إليه ضاعوا، وإن ضممتُهم إليّ جاعوا»‏.‏

فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم- في رواية-‏:‏ «ما أُمِرْتُ بشيءٍ في شأنك»‏.‏

وفي رواية أخرى انه قال لها‏:‏ «بنْتِ عنه» ‏(‏أي حرمت عليه‏)‏‏.‏

فترددت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وشكت‏.‏‏.‏ إلى أن أنزل الله حُكْم الظِّهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌ غَفُورٌ‏}‏‏.‏

قَوْلُ الذين يقولون لنسائهم- جرياً على عادة أهل الشِرْكِ- أنتِ عليَّ كظهر أمي‏.‏‏.‏ هذا شيءٌ لم يَحْكُمْ الله به؛ ولا هذا الكلامُ في نَفْسِه صِدْقٌ، ولم يثبت فيه شَرْعٌ، وإنما هو زورٌ مَحْضٌ وكَذِبٌ صِرْفٌ‏.‏

فَعَلِمَ الكافةُ أن الحقائق بالتلبيسِ لا تتعزّز؛ والسَّبَبُ إذا لم يكن صحيحاً فبالمعاودةِ لا يثبت؛ فالمرأةُ لمَّا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَه «بِنْتِ عنه»- كان واجباً عليها السكونُ والصبرُ؛ ولكنَّ الضرورةَ أنطقتها وحَمَلتْهَا على المعاودة، وحصلت من ذلك مسألة‏:‏ وهي أن كثيراً من الأشياء يحكم فيها ظاهرُ العلمِ بشيء؛ ثم تُغَيِّر الضرورة ذلك الحُكْمَ لصاحبها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

الظَّهار- وإن لم يكن له في الحقيقة أصل، ولا بتصحيحه نطق او دلالة شرع، فإنه بعد ما رُفعَ أمرُه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولوّح بشيء ما، وقال فيه حُكمه، لم يُخِلْ الله ذلك من بيانٍ ساق به شَرعه؛ فقضى فيه بما انتظم جوانب الأمر كلِّه‏.‏

فارتفاعُ الأمر حتى وصوله إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والتحاكُم لديه حَمَّل المتعدِّي عناء فعلته، وأعاد للمرأة حقَّها، وكان سَبيلاً لتحديد المسألة برُمَّتها *** وهكذا فإنَّ كلَّ صعبٍ إلى زوالٍ *** وكلُّ ليلة- وإنْ طالَتْ- فإلى إسفار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَات بَّيِّنَاتِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

الذين يخالفون أمر الله ويتركون طاعةَ رسولِ الله أُذِلُّوا وخُذِلوا، كما أُذِلَّ الذين من قَبْلهم من الكفَّار والعُصاة‏.‏

وقد أجرى اللَّهُ سُنَّتَه بالانتقام من أهل الإجرام؛ فَمَنْ ضيَّعَ للرسولِ سُنَّةً، وأحْدَثَ في دينه بدعة انخرط في هذا السلك، ووقع في هذا الذُّلِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

يقال‏:‏ إذا حُوسِبَ أحدٌ في القيامة على عمله تصور له ما فعله وتذكَّره، حتى كأنه قائمٌ في تلك الحاله عن بِسَاط الزَّلَّةِ، فيقع عليه من الخجل والنَّدَم ما يَنْسى في جَنْبِه كُلَّ عقوبة‏.‏

فسبيلُ المسلم ألا يحومَ حول مخالفة أمر مولاه، فإنْ جَرَى المقدورُ ووقَعَ في هجنة التقصير فلتكن زَلَّتُه على بال، وليتضرع إلى الله بحُسْن الابتهال‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى وَمَا السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَخَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثمَّ ُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

مَعَيَّةُ الحقِّ- سبحانه- وإن كانت على العموم بالعلم والرواية، وعلى الخصوص بالفضل والنصرة- فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثرٌ عظيمٌ، ولهم إلى أنْ ينتهيَ الأمرُ بهم إلى التولُّه فالوَلَهِ فالهيمان في غمار سماع هذا عيش راغد‏.‏

ويقال‏:‏ أصحابُ الكهف- وإن جَلَّتْ رتبتُهم واختصت من بين الناس مرتبتهم- فالحقُّ سبحانه يقول‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ ولمَّا انتهى إلى هذه الآية قال‏:‏ ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة‏}‏ فشتَّان بين مَنْ رابِعُهُ كَلْبُه وبين من رابِعُه ربُّه‏!‏‏!‏

ويقال‏:‏ أهلُ التوحيد، وأصحابُ العقولِ من أهل الأصولِ يقولون‏:‏ اللَّهُ واحدٌ لا من طريق العدد، والحقُّ يقول‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ ويقال حيثما كنتَ فأنا معك؛ إن كنت في المسجد فأنا معك، وإن كنت في المصطبة فأنا معك، إن طَلَبَ العلماء التأويلَ وشوَّشوا قلوبَ أُولي المواجيد فلا بأس- فأنا معهم‏.‏

إن حضرْتَ المسجد فأنا معك بإسباغ النعمة ولكن وَعْداً، وإن أتيتَ المصطبة فأنا معك بالرحمة وإسبالِ ستر المغفرة ولكن نَقْداً‏:‏

هَبْكَ تباعَدْتَ وخالَفْتَني *** تقدِرُ أن تخرجَ عن لُطْفي

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ آذَوْا قلوبَ المسلمين بما كانوا يتناجون به فيما بينهم، ولم تكن في تناجيهم فائدةٌ إلا قصدهم بذلك شَغْلَ قلوبِ المؤمنين، ولم ينتهواعنه لمَّا نهُوا عنه، وأصَرُّوا على ذلك ولم يَنْزَجِروا، فتَوَعَّدهم اللَّهُ على ذلك، وتكون عقوبتُهم بأن تتغامز الملائكة في باب فيما بينهم، وحين يشهدون ذلك تتَرَجَّمُ ظنونُهم، ويتعذَّبون بتَقَسُّم قلوبهم، ثم لا ينكشف الحالُ لهم إلاَّ بما يزدهم حزناً على حزنٍ، وأسفاً على أسف‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجْواْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقوُاْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏‏.‏

إنما قَبُحَ ذلك منهم وعَظُمَ الخطرُ لأنه تضمَّن إفسادَ ذات البَيْن، وخيرُ الأمورِ ما عاد بإصلاح ذات البَيْن، وبعكسه إذا كان الأمر بضدِّه‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

النجوى من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا‏.‏ وإذا كانت المشاهدةُ غالبةً، والقلوبُ حاضرةً، والتوكلُ صحيحاً؛ والنظرُ من موضعه صائباً فلا تاثيرَ لمثل هذه الحالات، وإنما هذا للضعفاء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ‏}‏‏.‏

لكمال رحمته بهم وتمام رأفته عليهم، علَّمَهم مراعاة حُسِن الأدب بينهم فيما كان من أمور العادة دون أحكام العبادة في التفسُّح في المجالس والنظام في حال الزَّحمة والكثرة *** وأعْزِزْ بَأقومٍ أمَرَهم بدقائق الأشياء بعد قيامهم بأصول الدين وتحقُّقِهم بأركانه‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

لمَّا كان الإذنُ في النجوى مقروناً ببذْلِ المالِ امتنعوا وتركوا، وبذلك ظَهَرَت جواهر الأخلاق ونقاوةُ الرجال- ولقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 37‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

مَنْ وافقَ مغضوباً عليه أشْرَكَ نَفْسَه في استحقاقِ غضبِ مَنْ هو الغضبان؛ فَمَنْ تَوَلَّ مغضوباً عليه مِنْ قِبَلِ لله استوجبَ غَضبَ الله وكفى بذلك هواناً وخسراناً‏.‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

هذا وصفٌّ للمنافقين‏.‏

‏{‏اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً‏}‏ أي وقايةً وستراً؛ ومَنْ استتر بجُنَّةِ طاعته لتَسْلَم له دنياه فإنَّ سهامَ التقدير من وراءه تكشفه من حيث لا يشعر‏.‏‏.‏ فلا دِينُه يبقى، ولا دنياه تَسْلَم، ولقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِنَ اللَّهِ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فِيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَئ ألآَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

عقوبتُهم الكبرى ظَنُّهم أنَّ ماعَمِلوا مع الخَلْقِ يتمشَّى أيضاً في مُعَاملةِ الحقِّ، ففَرْطُ الأجنبية وغايةُ الجهلِ أكَبَّتهم على مناخرهم في وَهْدَةِ نَدَمِهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلآ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏

إذا استحوذ الشيطانُ على عَبْدِ أنْسَاه ذِكُرَ الله‏.‏

والنَّفْسُ إذا استولَتْ على إنسان انْسَتْهُ الله‏.‏

ولقد خَسِرَ حزبُ الشيطان، وأخْسَرُ منه مَنْ أعان نَفْسَه- التي هي أعدى عدوَّه، إلاَّ بأن يسعى في قَهْرِها لعلَّه ينجو مِنْ شَرَّها‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأَذَلِّينَ‏}‏‏.‏

مَنْ أرَمْتْهُ شِقْوَتُه لم تُنْعِشْهُ قُوَّتُه، ومَنْ قَصَمَه التقديرُ لم يَعْصِمه التدبير‏.‏ ومَنْ استهانَ بالدِّين انخرطَ في سِِلْكِ الأذَلِّين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏

الذي ليس له إلا التدبير *** كيف تكون له مقومة مع التقدير‏؟‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏‏.‏

مَنْ جَنَحَ إلى منحرفٍ عن دينه، أو داهَنَ مُبْتَدِعاً في عهده نزَعَ اللَّهُ نورَ التوحيدِ من قلبه فهو في خيانته جائرٌ على عقيدته، وسيذوق قريباً وَبَالَ أمره‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيِمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏‏.‏

خلق الله الإيمان في قلوب أوليائه وأثبته، ويقال‏:‏ جعل قلوبهم مُطَرَّزَةً باسمه‏.‏ وأعْزِز بِحُلَّةٍ لأسرار قومٍ طرازُها اسمُ «الله»‏!‏

سورة الحشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏‏.‏

قدَّس الله ونزَّهَهُ كُلُّ شيءٍ خَلَقه؛ فكلُّ ما خَلَقَه جَعَلَه على وحدانيته دليلاً، ولِمَنْ أراد أن يَعْرِفَ إليهتَه طريقاً وسبيلاً‏.‏

أتقن كلَّ شيءٍ وذلك دليلُ عِلْمِه وحكمته، ورَتَّبَ كُلَّ شيءٍ، وذلك شاهِدٌ على مشيئته و‏(‏إرادته‏)‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ فلا شبيه يساويه، ولا شريكِ له في المُلْكِ ينازِعُه ويُضاهيه‏.‏

‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ الحاكم الذي لا يُوجَدُ في حُكْمِه عَيْبٌ، ولا يتوجَّه عليه عَتْبٌ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ‏}‏‏.‏

هم أهل النضير، وكانوا قد عاهدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ يكونوا عليه، ثم بعد أُحُد نقضوا العَهْدَ، وبايعوا أبا سفيان وأهل مكة، فأخبر اللَّهُ تعالى رسولَه بذلك، فبعثَ صلوات الله عليه إليهم محمد بن مسلمة، فأوهم أنه يشكو من الرسول في أخذ الصَّدَقَة‏.‏ وكان رئيسهم كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة ‏(‏غيلةً‏)‏، وغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عن حصونهم المنيعة وأخرجهم إلى الشام، وما كان المسلمون يََتَوَقَّعون الظَّفرَ عليهم لكثرتهم، ولِمَنَعَةِ حصونهم‏.‏

وظلُّوا يهدمون دورَهم بأيديهم ينقبون ليخرجوا، ويقطعون اشجارهم ليسدوا النقب، فسُّمُّوا أولَ الحشر، لأنهم أول من أُخْرِجَ من جزيزة العرب وحُشِرَ إلى الشام‏.‏

قال جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِى الأَبْصَارِ‏}‏‏.‏

كيف نَصَرَ المسلمين- مع قِلَّتهم- عليهم- مع كثرتهم‏.‏ وكيف لم تمنعهم حصونُهم إذا كانت الدائرةُ عليهم‏.‏ وإذا أراد اللَّهُ قَهْرَ عدوِّ استنوق أسَدُه‏.‏

ومن مواضع العِبْرةِ في ذلك ما قاله‏:‏ ‏{‏مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ‏}‏ بحيث داخلتكم الرِّيبةُ في ذلك لِفَرْطِ قُوَّتِهم- فصَانَهُم بذلك عن الإعجاب‏.‏

ومن مواضع العبرة في ذلك أيضاً ما قاله‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ‏}‏ فلم يكن كما ظنُّوه- ومَنْ تَقَوَّ بمخلوقٍ أسْلَمَه ذلك إلى صَغَارِه ومذَلّتِه‏.‏

ومن الدلائلة الناطقة ما أُلْقِي في قلوبهم من الخوفِ والرُّعب، ثم تخريبُهم بيوتهم بأيديهم علامةُ ضَعْف أحوالهم، وبأيدي المؤمنين لقوة أحالهم، فتمت لهم الغلبةُ عليهم والاستيلاء على ديارهم وإجلاؤهم‏.‏

هذا كلُّ لا بُدَّ أن يحصل به الاعتبارُ- والاعتبارُ أحَدُ قوانين الشَّرْع‏.‏

ومَنْ لم يَعْتَبِرْ بغيره اعتَبَرَ به غيرُه‏.‏

ويقال‏:‏ يُخَرّبون بيوتهم بأيديهم، وقولوبهم باتِّباع شهواتِ نفوسِهم، ودِينهم بما يمزجونه به من البِدَع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْلآ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلآَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدَّنْيَا وَلَهُمْ فِى الأَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ‏}‏‏.‏

لولا أن قضى اللَّهُ عليهم أن يخرجوا لعذَّبهم اللَّهُ بالقتل والاستئصال، ثم في الآخرة لهم عذابُ النار‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بَِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

ذلك بأنهم خالفوا أمرَ الله‏.‏ والمشاقّة أن يتحول المرء إلى شِقٍّ آخر‏.‏

فالعاصي إذا انتقل من المطيعين إلى العاصين فقد شاقَّ الله، ولِمَنْ شاقَّ الله عذابُ النار‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَركْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

اللِّينة‏:‏ كلُّ نوعٍ من النخيل ما عدا العجوة والبَرْنِيّ‏.‏

لمَّا أمر سولُ الله صلى الله عليه وسلم بقَطْعِ بعض نخيل بني النضير قالت اليهود‏:‏ ما فائدة هذا‏؟‏‏!‏

فبقي المسلمون عن الجواب، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليوضِّح أن ذلك بإذن الله *** فانقطعَ الكلامُ‏.‏

وفي هذا دليلٌ على أن الشريعةً غيرُ مُعَلّلةٍ، وأنَّ الأمرَ الشرعيَّ إذا جاء بَطَلَ التعليلُ، وسَكَتَتْ الألسنةُ عن المطالبة ب «لِمَ‏؟‏» وخُطُورُ الاعتراضِ أو الاستقباحِ خروجٌ عن حَدِّ العرفان‏.‏ والشيوخُ‏.‏

قالوا‏:‏ مَنْ قال لأستاذِه وشيخه‏:‏ «لِمَ‏؟‏» لا يفلح‏.‏ وكلُّ مريدٍ يكون لأمثالِ هذه الخواطر في قلبِه جَوَلان لا يجيءُ منه شيءٌ‏.‏ ومَنْ لم يتجرَّدْ قلبُه من طَلَبِ التعليل، ولم يباشِرْ حُسْنَ الرضا بكلِّ ما يجري واستحسانَ ما يبدوا من الغيب لِسٍرِّه وقلبِه- فليس من الله في شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عِلِيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

يريد بذلك أموالَ بني النضير، فقد كانت من جملة الفَيْء لا من الغنيمة؛ فالفيءُ ما صار إلى المسلمين من أموالِ الكفَّارِ من غيرِ قتالٍ ولا إيجافِ خَيْلٍ ورِكابٍ، وتدخل في جملته أموالُهم إذا ماتوا وصاروا إلى بيت المال‏.‏ والغنيمة ما كانت بقتالٍ وإيجاف خيلٍ وركابٍ‏.‏ وقد خَصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموالِ هؤلاء فقراء المهاجرين، وستأثر لنفسه بما شاء، فطابت نفوسُ الأنصارِ بذلك، وشَكَرَ الله لهم‏.‏ ذلك لأن تحرُّرَ القلب من الأعواضِ والأملاكِ صِفَةُ السادة والأكابر، ومَنْ أَسَرَتُهُ الأخطارُ وبقي في شُحِّ نَفْسِه فهو في تضييقه وتدنيقه، وهو في مصادقته ومعاملته ومطالبته مع الناس دائماً يبحث في استيفاء حظوظه- وهذا ليس له من مذاقات هذه الطريقة شيءٌ‏.‏

وأهلُ الصفاء لم تَبْقَ عليهم من هذه الأشياء بقيةٌ، وأمَّا مَنْ بَقِيَ عليه منها شيءٌ فمُتَرسِّمٌ سُوقِيٌّ *** لا مُتَحَقَّقٌ صوفيٌّ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

هذا أصل من أصولِ وجوبِ متابعتِه، ولزومِ طريقته وسيرته- وفي العِلْم تفصيلُه‏.‏

والواجبُ على العبدِ عَرْضُ ما وقع له من الخواطر وما يُكاشَفُ به من الأحوالِ على العلم- فما لا يقبله الكتابُ والسُّنَّة فهو في ضلال‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏.‏

يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدارَ مائةِ رجلٍ‏.‏

‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ‏}‏ وهو الرزق ‏{‏وَرِضْوَاناً‏}‏ بالثواب في الآخرة‏.‏

وينصرون دين الله، ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏:‏ والفقيرُ الصادقُ هو الذي يترك كلَّ سببٍ وعلاقة، ويفرغ أوقاته لعبادة الله، ولا يعطف بقلبه على شيء سوى الله، ويَقِفُ مع الحقِّ راضياً بِجَرَيَانِ حُكْمه فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏‏.‏

نزلت هذه الآية في الأنصار‏.‏ ‏{‏تَبَوَّءُو الدَّارَ‏}‏ أي سكنوا المدينة قبل المهاجرين‏.‏‏.‏ ‏{‏يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏}‏ من أهل مكة‏.‏

‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً‏}‏ مما خُصِّصَ به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يَعْترِضون بقلوبهم على حُكْمِ الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجةٌ أو اختلالُ أحوالٍ‏.‏

‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قيل نزلت الآية في رجلٍ منهم أُهْدِيَتْ له رأسُ شاةٍ فطاف على سبعة أبيات حتى انتهى إلى الأول‏.‏

وقيل نزلت في رجلٍ منهم نزل به ضيفٌ فقرَّب منه الطعامَ وأطفأ السراجَ ليُوهِمَ ضيفَه أنه يأكل، حتى يؤثِرَ به الضيفَ عَلَى نفسه وعَلَى عياله، فأنزل الله الآية في شأنه‏.‏

ويقال‏:‏ الكريمُ مَنْ بنى الدار لضيفانه وإخوانه ‏(‏واللئيمُ من بناها لنفسه‏)‏‏.‏

وقيل‏:‏ لم يقل اللهُ‏:‏ ومَنْ يَتَّقِ شحَّ نفسه بل قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ صاحبُ الإيثارِ يُؤْثر الشبعانَ على نفسه- وهو جائع‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ مَيَّزَ بين شخصٍ وشخصٍ فليس بصاحبِ إيثارٍ حتى يؤثِرَ الجميع دون تمييز‏.‏

ويقال‏:‏ الإيثار أنْ تَرَى أنَّ ما بأيدي الناسِ لهم، وأن ما يحصل في يدك ليس إلا كالوديعة والأمانة عندك تنتظر الإذنَ فيها‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ رَاى لنفسه مِلْكاً فليس من أهل الإيثار‏.‏

ويقال‏:‏ العابدُ يؤثِر بدنياه غيرَه، والعارفُ يؤثِر بالجنة غيرَه‏.‏

وعزيزٌ مَنْ لا يطلبُ مِنَ الحقِّ لنَفْسِه شيئاً‏:‏ لا في الدنيا من جاهٍ أو مالٍ، ولا في الجنَّة من الأفضال، ولا منه أيضاً ذَرَّةً من الإقبال والوصال وغير ذلك من الأحوال‏.‏

وهكذا وصفُ الفقير؛ يكون بسقوطِ كلِّ أرَبٍ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ اغْفِر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

أي والذين هاجروا من بعدهم، ثم أجيالُ المؤمنين من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة‏.‏ كلهُم يَتَرَحَّمون على السلف من المؤمنين الذين سبقوهم، ويسلكون طريقَ الشفقة على جميع المسلمين، ويستغفرون لهم، ويستجيرون من الله أن يجعلَ لأحدٍ من المسلمين في قلوبهم غِلاًّ أي حِقْداً‏.‏ ومَنْ لا شفقةَ له على جيمع المسلمين فليس له نصيبٌ من الدَّين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

يريد بهم منافقي المدينة؛ ظاهروا بني النضير وقريظة، وعاهَدوهم على الموافقة بكلِّ وَجْهٍ، فأخبر اللَّهُ- سبحانه- أنهم ليسوا كما قالوا وعاهدوا عليه، وأخبرَ أَنَّهم لا يتناصرون، وأنَّهم يتخاذلون، ولئنْ ساعدوهم في بعضِ الحروب فإنهم يتخاذلون إن رأوهم ينهزمون أمام مَنْ يجاهدونهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُرِهِمِ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

أخبر- سبحانه- أن المسلمين أشدُّ رهبةً في صدورهم من الله، وذلك لِقلَّةِ يقينهم، وإعراضِ قلوبِهم عن الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرِ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏

أخبر أنهم لا يجسرون على مقاتلة المسلمين إلاَّ مُخاتلةً، أو من وراء جدرانٍ‏.‏ وإنما يشتدُّ بأسُهم فيما بينهم، أي إذا حارب بعضهم بعضاً، فأمَّا معكم‏.‏‏.‏ فلا‏.‏

‏{‏تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بَِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

اجتماعُ النفوس- مع تنافرُ القلوب واختلافها- أصلُ كلَّ فساد، وموجِبُ كُلِّ تخاذُل، ومقتضى تجاسُرِ العدوِّ‏.‏

واتفاقُ القلوبِ؛ والاشتراكُ في الهِمَّةِ؛ والتساوي في القَصْدِ يُوجِبُ كُلَّ ظَفَرٍ وكلَّ سعادة *** ولا يكون ذلك للأعداء قطّ؛ فليس فيهم إلا اختلالُ كلِّ حالٍ، وانتقاضُ كلِّ شَمْلٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

مَثَلُ بني قُرَظة كمثل بني النضير؛ ذاق النضير وَبال أَمرِهم قبل قريضة بِسَنَةٍ؛ وذاق قريظة بعْدَهم وبال أمرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أي مَثَلُ هؤلاء النافقين مع النضير- في وَعْدِهم بعضهم لبعض بالتناصر ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانٍ‏}‏‏.‏

وكذلك أربابُ الفترة وأصحاب الزَّلَّة وأصحاب الدعاوى‏.‏‏.‏ هؤلاء كلُّهم في درجة واحدة في هذا الباب- وإن كان بينهم تفاوت- لا تنفع صُحْبَتُهم في الله؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ وكلُّ أحدٍ- اليومَ- يألَفُ شَكْلُه؛ فصاحبُ الدعوى إلى صاحب الدعوى، وصاحبُ المعنى إلى صاحب المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏

التقوى الأولى على ذكر العقوبات في الحال والفِكرِ في العملِ خَيْرِه وشَرِّه‏.‏

والتقوى الثانية تقوى المراقبة والمحاسبة، ومَنْ لا محاسبة له في أعماله ولا مراقبة له في أحواله‏.‏‏.‏ فعَنْ قريب سيفتضح‏.‏

وعلامةُ مَنْ نَظَرَ لِغدِه أن يُحْسِنَ مراعاة َ يومِه؛ ولا يكون كذلك إلاَّ إذا فَكَّرَ فيما عَمِلَه في أمْسِه والناس في هذا على أقسام‏:‏ مُفَكِّرٌ في أمْسِه‏:‏ ما الذي قُسِمَ له في الأزل‏؟‏ وآخر مفكِّر في غده‏:‏ ما الذي يلقاه‏؟‏‏؟‏ وثالثٌ مُسْتَقِلٌّ بوقته فيما يلزمه في هذا الوقت فهو مُصطََلَمٌ عن مشاهده موصولٌ بربِّه، مُنْدَرَجٌ في مذكوره؛ لا يتطلَّعْ لماضيه ولا لمستقبله، فتوقيتُ الوقتِ يشغله عن وقته‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ‏}‏ تركوا طاعتَه فَتَرَكُهم في العذاب؛ وهو الخذلان حتى لم يتوبوا ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَآئِزُونَ‏}‏‏.‏

لا يستوي أهلُ الغفلةِ مع أهل الوصلة‏.‏

وأصلُ كلِّ آفةٍ نسيانُ الربِّ، ولولا النسيان لما حَصَلَ العصيان، والذي نسِيَ أمرَ نَفْسِه فهو الذي لا يجتهد في تحصيل توبته، ويُسَوِّفُ يُلْزِمَهُ به الوقتُ من طاعته‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَّصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

أي لو كان للجبلِ عقلٌ وصلاحُ فِكْرٍ وسِرٍّ، وأنزلنا عليه هذا القرآن لخَضَعَ وخَشَعَ‏.‏ ويجوز أن يكون على جهة ضرب المثل كما قال‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏ ويدل عليه أيضاً قوله‏.‏

‏{‏وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ‏}‏‏:‏ ليعقلوا ويهتدوا، أي بذلك أمَرْناهم، والمقصود بيان قسوة قلوبهم عند سماع القرآن‏.‏

ويقال‏:‏ ليس هذا الخطابُ على وَجْهِ العتابِ معهم، بل هو سبيل المدح وبيان تخصيصه إيَّاهم بالقوة؛ فقال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ‏}‏ لم يُطِقْ ولخَشَع- وهؤلاء خَصَصْتُهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابي‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏الْغَيْبِ‏}‏‏:‏ ما لا يُعْرَفُ بالضرورة، ولا يُعْرَف بالقياس من المعلومات‏.‏ ويقال‏:‏ هو ما استأثر الحقُّ بعِلْمِه، ولم يجعل لأحدٍ سبيلاً إليه‏.‏

‏{‏وَالشَّهَادَةِ‏}‏‏:‏ ما يَعْرفُه الخَلْقُ‏.‏

وفي الجملة‏.‏ لا يَعْزُبُ عن عِلْمِه معلومٌ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏الْمَلِكُ‏}‏‏:‏ ذو القدرة على الإيجاد‏.‏

‏{‏الْقُدُوسُ‏}‏‏:‏ المُنَزَّهُ عن الآفة والنقص‏.‏

‏{‏السَّلاَمُ‏}‏‏:‏ ذو السلامة من النقائص، والذي يُسَلِّمُ على أوليائه، والذي سَلِمَ المؤمنون من عذابه‏.‏

‏{‏الْمُؤْمِنُ‏}‏‏:‏ الذي يُصَدق عَبْدُه في توحيده فيقول له‏:‏ صَدَقْتَ يا عبدي‏.‏

والذي يًصَدِّق نفسه في إخباره أي يعلم أنه صادق‏.‏

ويكون بمعنى المصدق لوعده‏.‏ ويكون بمعنىلمخبر لعباده بأنه يُؤمِّنهم من عقوبته‏.‏

‏{‏الْمُهَيْمِنُ‏}‏‏:‏ الشاهد، وبمعنى الامين، ويقال مؤيمن ‏(‏مُفَيْعِل‏)‏ من الأمن قلبت همزته هاءً وهو من الأمان، ويقال بمعنى المؤمِن‏.‏

‏{‏الْعَزِيزُ‏}‏‏:‏ الغالبُ الذي لا يُغْلَب، والذي لا مثيلَ له، والمستحق لأوصاف الجلال، وبمعنى‏:‏ المُعِزّ لعباده‏.‏ والمَنِيعَ الذي لا يَقْدِرُ عليه أحد‏.‏

‏{‏الْجَبَّارُ‏}‏‏:‏ الذي لا تصل إليه الأيدي‏.‏ أو بمعنى المُصْلِح لأمورهم من‏:‏ جَبَرَ الكَسْرَ‏.‏ أو بمعنى القادر على تحصيل مراده مِنْ خَلْقِه على الوجه الذي يريده من‏:‏ جَبَرْتُه على الأمر وأجبرته‏.‏

‏{‏الْمُتَكَبِّرُ‏}‏‏:‏ المتقدِّس عن الآفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

هو المنشئ للأعيان والآثار‏.‏

‏{‏لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى‏}‏ المُسَمِّيات الحِسَان‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏:‏ مضى معناهما، وقد استقصينا الكلام في معاني هذه الأسماء ‏(‏في كتابنا المسمَّى‏:‏ «البيان والأدلة في معاني أسماء الله تعالى»‏)‏‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً قِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى‏}‏‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعدى عدوِّك نَفْسُك التي بين جنبيك» وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام‏:‏ «عادِ نَفْسَك فليس لي في المملكة مُناَزعٌ غيرها» فَمَنْ عادَى نَفسَه فقد قام بحقِّ الله، ومَنْ لم يعادِ نفسه لَحِقَتْه هذ الوصمة‏.‏ وأصلُ الإيمانِ الموالاةُ والمعاداةُ في الله ومَنْ جَنَحَ إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَنَ يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ‏}‏‏.‏

أنا أعلم ‏{‏بِمَآ أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من دقائقِ التصنُّع وخَفِيَّات الرياء‏.‏

‏{‏وَمَآ أَعْلَنتُمْ‏}‏ من التزيُّن للناس‏.‏

‏{‏بِمَآ أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من الاستسرار بالزَّلة، ‏{‏وَمَآ أَعْلَنتُمْ‏}‏، من الطاعة والبِرِّ‏.‏

‏{‏بِمَآ أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من الخيانة ‏{‏وَمَآ أَعْلَنتُمْ‏}‏ من الأمانة‏.‏

‏{‏بِمَآ أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من الغِلِّ والغِشِّ للناس، ‏{‏وَمَآ أَعْلَنتُمْ‏}‏ من الفضيحةِ للناس‏.‏

‏{‏بِمَآ أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من ارتكاب المحظورات، ‏{‏وَمَآ أَعْلَنتُمْ‏}‏ من الأمر بالمعروف‏.‏

‏{‏بِمَآ أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من تَرْكِ الحشمة مني وقلة المبالاة باطِّلاعي، وما أعلنتم من تعليم الناسِ ووَعْظِهمْ‏.‏

‏{‏وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ‏}‏ فقد حاد عن طريق الدين، ووَقَعَ في الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالْسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلآَ أَوْلاَدُكُمْ‏}‏‏.‏

إنْ يَظْفَروا بكم وصادَفوكم يكونوا لكم أعداء، ولن تَسْلَموا من أيديهم بالسوءِ ولا من ألسنتهم بالذمِّ وذكْرِ والقبيح‏.‏

‏{‏وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ‏}‏‏:‏ ولن يَنْفَعَكم تَوَدُّدُكُم إليهم، ولا ما بينكم وبينهم من الأرحام‏.‏ ثم عقوبة الآخرةَ تُدْرِكُكُم‏.‏

وكذلك صفة المخالِف، ولا ينبغي للمرء أن يتعطَّش إلى عشيرته- وإن داهَنَتْه في قالَةٍ، ولا أن ينخدعَ بتغريرها- وإنْ لا يَنْتَه في حالة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ والْبغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَئ‏}‏‏.‏

أي لكم قُدْوَةٌ حسنة بإبراهيم ومَنْ قبله من الأنبياء حيث تبرَّؤوا من الكفار من أقوامهم؛ فاقْتَدُوا بهم‏.‏‏.‏ إلاَّ استغفار إِبراهيم لأبيه- وهو كافر- فلا تقتدوا به‏.‏

ولاَ تَسْتَغْفِروا للكفار‏.‏ وكان إبراهيمُ قد وعده أبوه أنه يُؤمِن فلذلك كان يستغفر له، فَلَمَّا تَبَيَّّنَ له أنه لن يُؤمِنَ تَبرَّأ منه‏.‏

ويقال‏:‏ كان منافقاً‏.‏‏.‏ ولم يَعْلَمْ إبراهيم ذلك وقتَ استغفاره له‏.‏

ويقال‏:‏ يجوز أنه لم يعلم في ذلك الوقت أنَّ الله لا يغفر للكفار‏.‏

والفائدةُ في هذه الآيه تخفيفُ الأمر على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتعريفهم أنَّ مَنْ كانوا قبلهم حين كَذَّبوا بأنبيائهم اهلكهم الله، وأنهم صبروا، وأنه ينبغى لذلك أن يكونَ بالصبرِ أمرُهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

أخبر أنهم قالوا ذلك‏.‏

ويصحُّ أن يكون معناه‏:‏ قولوا‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا‏}‏‏.‏

وقد مضى القولُ في معنى التوكل والإنابةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

ربَّنا لا تُظْفِرهم بنا، ولا تُقَوِّهم علينا‏.‏

والإشارة في الآية‏:‏ إلى الأمرِ بِسُنَّةِ إبراهيم في السخاء وحُسْنِ الخُلُقِ والإخلاصِ والصدقِ والصبرِ وكلِّ خصلةٍ له ذَكَرَها لنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَّدةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وقفهم في مقتضى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ‏}‏ عند حدِّ التجويز‏.‏‏.‏ لا حُكْماً بالقَطْعِ، ولا دَفْعَ قلبٍ باليأس‏.‏‏.‏ ثم أمَرَهم بالاقتصاد في العداوة والولاية معهم بقلوبهم، وعرَّفهم بوقوع الأمر حسب تقديره وقدرته، وَجَرَيانِ كلِّ شيءٍ على ما يريد لهم، وصَدَّق هذه الترجية بإيمان مَنْ آمَنَ منهم عند فتح مكة، وكيف أسلم كثيرون، وحصل بينهم وبين المسلمين مودةٌ أكيدة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عِنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏

أمَرَهُم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه، وأمّا من كان فيهم ذا خُلُقٍ حَسَنٍ، أو كان منه للمسلمين وجهُ نَفْع أو رِفْقٍ- فقد أمَرَهم بالملاينة معه‏.‏ والمُؤلَّفَةُ قلوبهم شاهدٌ لهذه الجملة، «فِإِنَّ الله يحب الرِّفق في جميع الأمور»

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ‏}‏‏.‏

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يمتحنهن باليمين، فَيَحْلِفَنَّ إنَّهن لم يخرجن إلاَّ لله، ولم يخرجن مغايظةً لأزواجهن، ولم يخرجن طمعاً في مالٍ‏.‏

وفي الجملة‏:‏ الامتحانُ طريقٌ إلى المعرفة، وجواهرُ الناس تتبيَّن بالتجربة‏.‏ ومَنْ أقْدَمَ على شيءٍ من غير تجربة تَحَسَّى كأسَ الندم‏.‏

‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏‏.‏

لا توافِقوا مَنْ خالَفَ الحقَّ في قليل أو كثير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيَهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فَى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

إذا جاءك النساء يبايعنك على الإسلام فطالِبْهُنَّ وشارِطْهُنَّ بهذه الأشياء‏:‏

تَرْك الشِّرك، وترك السرقة والزنا وقتل الاولاد والافتراء في إلحاق النَّسبِ، وألا يعصينك في معروفٍ؛ فلا يخالفنك فيما تأمرهن به، ويدخل في ذلك تَرْكُ النياحةِ وشقُّ الجيوب ونَتْفُ الشَّعْرِ عند المصيبة وتخميش الوجوه والتبرُّجُ وإظهارُ الزينه‏.‏‏.‏ وغير ذلك مما هو من شعائر الدِّين في الجملة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏‏.‏

الذين غضب الله عليهم هم الكفار‏.‏ يئسوا من الآخرة كما يئِسَ أصحاب القبور أن يعودوا إلى الدنيا ويُبْعثوا ‏(‏بعد ما تبينوا سوء منقلبهم‏)‏‏.‏

ويقال‏:‏ كما يئس الكفار حين اعتقدوا أن الخَلْقَ لا يُبْعَثُون في القيامة‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏‏.‏

مَنْ أراد أنْ يصفوَ له تسبيحُه فَلْيَصَفِّ قلبَه من آثار نَفْسِه، ومَنْ أراد أن يَصْفُوَا له في الجنَّةِ عَيشُه فَلْيُصَفِّ من أوضارِ ذَنْبِهِ نَفْسَه‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

جاء في التفاسير أنهم قالوا‏:‏ لو عَلِمْنا ما فيه رضا الله لَفَعَلْنا ولو فيه كل جهد‏.‏‏.‏ ثم لمَّا كان يومُ ُأحُد لم يثبوا، فنزلت هذه الآية في العتاب‏.‏

وفي الجملة‏:‏ خلفُ الوعدِ مع كلِّ أحَدٍ قبيحٌ، ومع الله أقبح‏.‏

ويقال إظهارُ التجلُّدِ من غير شهود مواضِع الفقر إلى الحقِّ في كلِّ نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء عمَّا حصل بالدعوى‏.‏‏.‏ والله يحب التبرِّي من الحوْلِ والقوة‏.‏

ويقال‏:‏ لم يتوعَّد- سبحانه- زَلَّةٍ بِمثْلِ ما على هذا حين قال‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إٍنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ‏}‏‏.‏

المحبةُ توجِبُ الإثارَ‏.‏ وتقديم مُرَادِ حبيبك عَلَى مُرَادِ نَفْسِك، وتقديم محبوب حبيبك على محبوبِ نَفْسِك‏.‏ فإذا كان الحقُّ تعالى يحبُّ من العبدِ أن يُقاتِلَ على الوجه الذي ذكره فَمَنْ لم يُؤثِرْ محبوبَ الله على محبوب نَفْسِه- أي على سلامته- انسلخ من محبته لربِّه، ومَنْ خلا من محبةِ الله وَقَعَ في الشِّق الآخر، في خسرانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

لمَّا زاغوا بِتْركِ الحدِّ أزاغ اللَّهُ قلوبهم بنقض العهد‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا زاغوا عن طريق الرُّشْدِ أزاغ الله قلوبَهم بالصدِّ والردِّ والبُعْدِ عن الوُدِّ‏.‏

ويقال‏:‏ لما زاغوا بظواهرهم أزاغ الله سرائرَهم‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا زاغوا عن خدمة الباب أزاغ اللَّهُ قلوبهم عن التشوُّق إلى البساط‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا زاغواعن العبادة أزاغ اللَّهُ قلوبَهم عن الإرادة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِى إِسْرَائِلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْبَيِنَّاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

بَشَّرَ كلُّ نبيٍّ قومَه بنَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم، وأفرد الله- سبحانه- عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه آخِرُ نبيٍّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم‏:‏ فبيَّن بذلك أن البشارة به عَمّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت بعيسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِّمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

فَمَنْ احتال لوَهنه، أورامَ وهْيَه انعكس عليه كَيْدُه، وانتقض عليه تدبيرُه‏.‏

‏{‏وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أن يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏‏:‏ كما قالوا‏:‏

ولله سِرٌّ في عُلاهُ وإنما *** كلامُ العِدَى ضَرْبٌ من الهَذَيانِ

كأنه قال‏:‏ مَنْ تمنَّى أن يُطْفِئ نورَ الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاعِ الشمس بنَفْثه ونَفْخِه فيه- وذلك من المُحال‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

لمَّا تقاعد قومُه عن نصرته، وانبرى أعداؤه لتكذيبه، وجحدوا ما شاهدوه من صِدْقِه قَيَّض الله له أنصاراً من أمته هم‏:‏ نُزَّاعُ القبائل، والآحاد الأفاضل، والساداتُ الأماثل، وأفرادُ المناقب-فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مُهَجَهم، ولم يُؤثِروا عليه شيئاً من كرائمهم، ووقوه بأرواحهم، وأمََدَّهم اللَّهُ سبحانه بتوفيقه كي ينصروا دينه، أولئك أقوامٌ عَجَنَ الله بماء السعادة طِينَتَهم، وخَلَقَ من نور التوحيد أرواحهم وأهَلَّهم يومَ القيامة للسيادة على أضرابهم‏.‏

ولقد أرسل الله نبيَّه لدينه مُوَضِّحاً، وبالحقِّ مُفْصِحاً، ولتوحيده مُعْلِناً، ولجهده في الدعاء إليه مستفرِغاً‏.‏‏.‏ فأقْرَعَ بنُصْحِه قلوباً نُكْراً، وبصَّرَ بنور تبليغه عيوناً عُمْياً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّن عَذَابٍ أَلِيم تُؤْمِنُونَ يِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

سمَّى الإيمانَ والجهادَ تجارةً لِمَا في التجارة من الرِّبح والخسران ونوعٍ تَكسُّب من التاجر- وكذلك‏:‏ في الإيمان والجهاد رِبْحُ الجنَّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الامرُ بالضِّدِّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‏}‏ أي في ذلك جهادُكم وإيمانُكم واجتادُكم، وهو خيرٌ لكم‏.‏

ثم بَيَّن الربحَ على تلك التجارة ما هو فقال‏:‏

‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ وَمََساكِنَ طَيِّبةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

قدَّم ذِكْرَ أهمِّ الأشياء-وهو المغفرة‏.‏ ثم إذا فرغَتْ القلوبُ عن العقوبة قال‏:‏

‏{‏وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ‏}‏ فبعد ما ذَكَرَ الجنَّةَ ونعيمَهَا قال‏:‏ ‏{‏وَمَسَاكِنَ طَيِبَّةً‏}‏، وبماذا تطيب تلك المساكن‏؟‏ لا تطيب إلاَّ برؤية الحقِّ سبحانه، ولذلك قالوا‏:‏

أجيرانَنَا ما اوحشَ الدارَ بعدكم *** إذا غِبْتُموا عنها ونحن حضورُ

نحن في أكمل السرورِ ولكنْ *** ليس إلا بكم يتمُّ السرورُ

عيبُ ما نحن فيه يا أهلَ ودَّي *** أنكم غُيَّبٌ ونحن حضورُ

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

أي ولكم نعمة أخرى تحبونها‏:‏ نصرٌ من الله؛ اليومَ حِفْظُ الإيمان وتثبيتُ الأقدام على صراط الاستقامة، وغداً على صراط القيامة‏.‏

‏{‏وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏‏:‏ الرؤية والزلفة‏.‏ ويقال الشهود‏.‏ ويقال‏:‏ الوجود أبدَ الأبَد‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ‏}‏‏:‏ بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

أي كونوا أنصاراً لدينه ورسوله كما أنَّ عيسى لمَّا استعانَ واستنصرَ الحواريين نصروه‏.‏ فانصروا محمداً إذا استنصركم‏.‏

ثم أخبر انَّ طائفةً من بني إسرائيل آمنوا بعيسى فأُكْرِموا، وطائفةً كفروا فأُذِلُّوا، وأظفرَ أولياءَه على أعدائه‏.‏‏.‏ لكي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الله سبحانه يُظْفِرُ أولياءَه على أعدائه‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يُسَّبِحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ‏}‏‏.‏

تَسْبَحُ في بحارِ توحيد الحقِّ أسرارُ أهلِ التحقيق، وبَحْرُهم بلا شاطئ؛ فبعد ما حصلوا فيها فلا خروجَ ولا براحَ، فحازت أيديهم جواهرَ التفريد فرصَّعوها في تاج العرفان كي يَلْبَسُوه يومَ اللِّقاء‏.‏

‏{‏الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعِزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏‏.‏

‏{‏الْمَلِكِ‏}‏‏:‏ الملك المتفرِّد باستحقاق الجبروت‏.‏

‏{‏الْقُدُّوسِ‏}‏‏:‏ المُنزَّهُ عن الدرك والوصول‏:‏ فليس بيد الخَلْقِ إلاَّ عرفان الحقائق بنعت التعالي، والتأمل في شهود أفعاله، فأمَّا الوقوف على حقيقة أنِّيته- فقد جَلَّتْ الصمديةُ عن إشرافٍ عليه، أو طمعِ إدراكٍ في حالٍ رؤيته، أو جواز إحاطةٍ في العِلْم به‏.‏‏.‏ فليس إلا قالة بلسانٍ مُسْتَنْطقٍ، وحالة بشهودِ حقِّ مستغرق‏.‏

وقُلْنَ بنا‏:‏ نحن الأهِلَّة إنما *** نُضيءُ لِمَنْ يَسْرِي بليلٍ ولا نَقْرِي

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّنَ رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيِهمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكَتَابَ وَالْحِِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

جرَّده كلِّ تكلُّفٍ لِتَعَلُّمٍ، وعن الاتصافِ بتطَلُّبٍ‏.‏ ثم بَعَثَه فيهم وأظْهَرَ عليه من الأوصاف ما فاق الجميع‏.‏

فكما أيْتَمَهُ في الابتداء عن أبيه وامِّه، ثم آواه بلُطْفِه- وكان ذلك أبلغَ وأتمَّ- فإنه كذلك أفرده عن تكلُّفِه العلم- ولكن قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكَتَابُ وَلاَ الإِيَمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ ألبسه لباسَ العِزَّة، وتوجَّه بتاج الكرامة، وخَلَعَ عليه حُسْنَ التولِّي‏.‏ لتكونَ آثارُ البشرية عنه مندرجة، وأنوارُ الحقائقِ عليه لائحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏‏.‏

أي بَعَثَه في الأميين، وفي آخرين منهم وهم العجم، ومن يأتي‏.‏‏.‏ إلى يوم القيامة؛ فهو صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى لناس كافَّة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

يقصد به هنا النبوة، يؤتيها ‏{‏مَن يَشَآءُ‏}‏؛ وفي ذلك ردٌّ على مَنْ قال‏:‏ إنها تُُسْتَحَقُّ لكثرة طاعة الرسول- وردٌّ على من قال‏:‏ إنها لتخصيصهم بطينتهم؛ فالفضل ما لا يكون مُسْتَحَقّاً، والاستحقاق فَرضٌ لا فضل‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏فَضْلُ اللَّهِ‏}‏ هنا هو التوفيق حتى يؤمِنوا به‏.‏

ويقال‏:‏ هو الأُنْسُ بالله، والعبدُ يَنْسَى كلَّ شيء إذا وَجَدَ الأُنْسَ‏.‏

ويقال‏:‏ قَطَعَ الأسباب،- بالجملة- في استحقاق الفضل، إذا أحاله على المشيئة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏‏:‏ ثم لم يعملوا بها‏.‏

ويلْحَقُ بهؤلاء في الوعيد- من حيث الإشارة- الموسومون بالتقليد في أي معنى شِئتَ‏:‏ في علم الأصول، وممَّا طريقُه أدلةُ العقول، وفي هذه الطريقة ممَّا طريقُه المنازلات‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُّمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنُّواْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيم بالظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

هذا من جلمة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فَصَرْفُ قلوبِهم عن تمنِّي الموتِ إلى هذه المدة دَلَّ على صِدْقِه صلوات الله عليه‏.‏

ويقال‏:‏ من علامات المحبة الاشتياقُ إلى المحبوب؛ فإذا كان لا يَصِلُ إلى لقائه إلا بالموتِ فتمنِّيه- لا محالة- شرطٌ، فأخبر أنهم لا يتمنونه أبداً‏.‏‏.‏ وكان كما اخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

الموتُ حَتْمٌ مَقْضِيٌّ‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «مَنْ كَرَهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه» والموتُ جِسْرٌ والمقصدُ عند الله *** ومَنْ لم يَعِشْ عفيفاً فَلْيَمُتْ ظريفاً‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُهَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمَِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَواْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

أوْجَبَ السَّعْيَ يومَ الجمعة إذا نودِيَ لها، وأمَرَ بِتَركِ البيع‏.‏

ومنهم من يحمله على الظاهر؛ أي تَرْك المعاملة مع الخَلْقِ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنىً آخر‏:‏ هو تَرْكُ الاشتغال بملاحظة الأعراض، والتناسي عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر؛ فمنهم مَنْ يسعى إلى ذِكْرِ الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذِكْرِ الله جَهْراً بِجَهْرٍ، ويسعون إلى الله تعالى سِرًّا بسِرٍّ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

إنما ينصرف مَنْ كان له جَمْعٌ يرجع إليه، أو شغْلٌ يقصده ويشتغل به- ولكن *** مَنْ لا شُغْلَ له ولا مأوى‏.‏‏.‏ فإلى أين يرجع‏؟‏ وإنما يقال‏:‏ ‏{‏وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ إذا كان له أرَبٌ‏.‏‏.‏ فأمَّا مَنْ سَكَنَ عن المطالبات، وكُفِيَ داءَ الطَّلَبِ‏.‏‏.‏ فما لَه وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رِقِّه‏؟‏‏!‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةٍ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏‏.‏

مَنْ أسَرَتْهُ أخطارُ الأشياء استجاب لكلِّ داعٍ جَرَّه إليه لَهْوٌ أو حَمَلَه عليه سهوٌ ومَنْ مَلَكَه سلطانُ الحقيقة لم ينحرف عن الحضور، ولم يلتفت في حال الشهود‏.‏ ‏{‏قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ‏}‏ وما عند الله للعُبَّاد والزُّهَّاد- غداً- خيرٌ مما نالوه في الدنيا نقداً‏.‏ وما عند الله للعارفين- نقداً- من واردات القلوب وبواده الحقيقية خيرٌ مما يُؤمَّل المستأنفِ في الدنيا والعُقْبى‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

كذَّبهم فيما قالوا وأظهروا، ولكنهم لم يشهدوا عن بصيرة ولم يعتقدوا تصديقك، فهم لم يكذبوا في الشهادة ولكنَّ كِذْبَهم في قولهم‏:‏ إنَّهم مخلصون لك، مُصَدِّقون لك‏.‏ فصِدْقُ القالة لا ينفع مع قُبْح الحالة‏.‏

ويقال‏:‏ الإيمان ما يوجِبُ الأمان؛ فالإيمانُ يوجِبُ للمؤمن إذا كان عاصياً خلاصَه من العذاب أكثره وأقّله‏.‏‏.‏ إلاَّ ما ينقله من أعلى جهنم إلى أسفلها‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ تَسَتَّرُوا بإقرارهم، وتكَشَّفوا بنفاقهم عن أسْتارِهم فافتضحوا، وذاقوا وبالَ أحوالهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

استضاؤوا بنورِ الإجابة فلم يَنْبَسِطْ عليهم شعاعُ السعادة، فانطفأ نورُهم بقَهرِ الحرمان، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحُكْم الشقاوة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتُهمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيِْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللًّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

أي هم أشباحٌ وقوالبٌ وليس وراءهم ألبابٌ وحقائق- فالجوزُ الفارغُ مُزَيَّنٌ ظاهِرُه ولكنه للعب الصبيان‏.‏

‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ وذلك لِجُبْنِهم؛ إذ ليس لهم انتعاشٌ بربِّهم، ولا استقلالٌ بغيرهم‏.‏

‏{‏هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ‏}‏ هم عدوٌّ لك- يا محمد- فاحْذَرْهم، ولا يَغُرَّنْكَ تَبَسُّطُهم في الكلام على وجهِ التودُّدِ والتقرُّب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِر لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏‏.‏

سمعوا إلى ما يقال لهم على وجه التكبُّر، وإظهار الاستغناء عن استغفارك لهم‏.‏‏.‏ فخَلِّ سبيلهم؛ فليس للنُّصح فيهم مساغٌ، ولن يُصْحِيَهم من سَكْرَتهم إلاَّ حَرُّ ما سيلقونه من العقوبة، فما دام الإصرارُ من جانبهم فإنهم‏:‏

‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

فقد سبق العِلْمُ بذلك‏:‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنٍَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

كأنهم مربوطون بالأسباب، محجوبون عن شهود التقدير، غيرُ متحقِّقين بتصريف الأيام، فأنْطَقَهُم بما خَامَرَ قلوبَهم مِنْ تَمَنِّي انطفاء نورِ رسول الله، وانتكاث شَمْلِهم، فتواصَوْا فيما بينهم بقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تُنفِقُواْ عَلى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ‏}‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ‏}‏‏.‏

وليس استقلالُك- يا محمد- ولا استقلالُ أصحابِك بالمرزوقين‏.‏‏.‏ بل بالرازق؛ فهو الذي يمسككم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنََّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

إنما وقع لهم الغَلَطُ في تعيين الأعزِّ والأذَلِّ؛ فتوَهَّموا أنَّ الأعزَّ هم المنافقون، والأذلَّ هم المسلمون، ولكن الأمر بالعكس، فلا جَرَمَ غَلَبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأُذِلَّ المنافقون بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏:‏ لله عِزُّ الإلهية، وللرسول عِزُّ النبوَّة، وللمؤمنين عِزُّ الولاية‏.‏ وجيمعُ ذلك لله؛ فعِزُّه القديم صِفَتُه، وعِزُّ الرسولِ وعِزُّ المؤمنين له فِعْلاً ومِنَّةً وفَضْلاً، فإذاً لله العِزَّةُ جميعاً‏.‏

ويقال‏:‏ كما انَّ عِزَّةَ الله- سبحانه- لا زوالَ لها فعِزَّة الأنبياء بأن لا عَزْلَ لهم، وعِزَّةُ المؤمنين بألا يَبْقَى منهم مُخَلَّدٌ في النار‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ كان إيمانُهم حقيقياً فلا زوالَ له‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ تعزَّزَ بالله لم يلحقه تَغَيُّرٌ عن حاله بغير الله‏.‏

ويقال‏:‏ لا عِزَّ إلاَّ في طاعةِ الله، ولا ذُلَّ إلاَّ في معصية الله *** وما سوى هذا فلا أصلَ له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلآَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏

لا تُضَيِّعوا أمورَ دينكم بسبب اموالكم وأولادكم بل آثروا حقَّ الله، واشْتَغِلوا به يَكْفِكُم أمور دنياكم وأولادكم؛ فإذا كُنْتَ لله كان اللَّهُ لك‏.‏

ويقال‏:‏ حقُّ الله مما ألزمكَ القيامَ به، وحقُّك ضمن لك القيام به؛ فاشتغِلْ بما كُلِّفْتَ لا بما كُفِيت‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْناكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرتَنِى إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

لا تَغْتَرُّوا بسلامةِ أوقاتِكم، وتَرَقَّبوا بَغَتاتِ آجالِكم، وتأهَّبوا لما بين أيديكم من الرحيل، ولاتُعَرِّجوا في أوطان التسويف‏.‏