فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

أي راجعين إلى الله بالكلية من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفاته، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه، مُتَّقين صغيرَ الإثم وكبيره، قليلَه وكثيره، مُؤثرين يسيرَ وفاقه وعسيره، مقيمين الصلاة بأركَانها وسننها وآدابها جهراً، متحققين بمراعاة فضائلها سِراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أقاموا فى دنياهم فى خمار الغفلة، وعناد الجهل والفترة؛ فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وتموَّلوا منْ كيس غيرهم، وظنوا أنهم على شيء‏.‏ فإذا انكشف ضبابُ وقتهم، وانقشع سحابُ جحدهم‏.‏‏.‏ انقلب فرحُهم تراحاً، واستيقنوا أنهم كانوا فى ضلالة، ولم يعرِّجوا إلاَّ في أوطان الجهالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

إذا أظلتهم المحنةُ ونَالتهم الفتنةُ؛ وَمَسَّتْهُم البليَّةُ رجعوا إلى الله بأجْمعهم مستعينين، وبلطفه مستجيرين، وعن محنتهم مستكشفين‏.‏

فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم‏:‏ ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم‏}‏ لا كلُّهم- بل فريقٌ منهم بربهم يشركون؛ يعودون إلى عاداتهم المذمومة فى الكفران، ويقابلون إحسانه بالنسيان، هؤلاء ليس لهم عهدٌ ولا وفاء‏.‏ ولا فى مودتهم صفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

أي عن قريبٍ سيحدث بهم مثلما أصابهم، ثم إنهم يعودون إلى التضرع‏.‏ ويأخذون فيما كانوا عليه بداءاً من التخشع، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

بَين أنهم بَنوا على غير أصلٍ طريقَهم، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم، وعلى غير شَرعٍ من الله أو حجةٍ أو بيانٍ أَسَّسُوا مذاهبَهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

تستميلهم طوارقُ أحوالهم؛ وإن كانت نعمة فإلى فرح، وإن كانت شدة فإلى قنوطِ وَتَرح‏.‏‏.‏ وليس وصفُ الأكابر كذلك؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 23‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

الإشارة فيها إلى أن العبدَ لا يُعلِّقُ قلبه إلا بالله؛ لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إِلا بالله، وما يسرَّهم ليس وجودُه إِلا من الله، فالبسطُ الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذى يسوءهم ويوحشهم منه حصولُه، فالواجبُ لزوم عَقْوَةِ الأسرار، وقطعُ الأفكار عن الأغيار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

القرابةُ على قسمين‏:‏ قرابةُ النسب وقرابة الدِّين، وقرابةُ الدين أَمسُّ، وبالمواساة أحقُّ وإذا كان الرجلُ مشتغلاً بالعبادة، غيرَ متفرِّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمانٌ بحاله، وإشرافٌ على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقَدر ما يمكنهم، مما يكون له عونٌ على الطاعة وفراغ القلب من كل علة؛ فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقَّه آكدَ، وتَفَقُّدَه أوْجَبَ‏.‏

‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ‏}‏‏:‏ المريدُ هو الذى يُؤْثِرُ حقَّ الله على حظِّ نَفْسِه؛ فإيثارُ المريد وَجه اللَّهِ أتمُّ من مراعاته حال نفسه، فهِمَّتُه في الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين تتقدم على نَظَرِه لِنَفْسِه وعياله وما يهمه من خاصته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجهَ الله، وألا تستخدم الفقير لما تَبَرُّه به من رافقه، بل أفضل الصدقة على ذي رَحمٍ كاشح حتى يكون إعطاؤُه لله مجرداً عن كل نصيبٍ لَكَ فيه، فهؤلاء هم الذين يضاعِفُ أَجْرَهم‏:‏ قَهرُهم لأنفسهم حيث يخالفونها، وفوزهُم بالعِوَض مِنْ قَبَلَ الله‏.‏

ثم الزكاة هي التطهير، وتطهيرُ المالِ معلومٌ ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة، وأصناف المال وأوصافه‏.‏

وزكاة البَدَنِ وزكاةُ القلبِ وزكاتُ السِّرِّ‏.‏‏.‏ كلُّ ذلك يجب القيام به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ‏}‏ حرقٌ يقتضى التراخي؛ وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خَلْقِه إياك أن يرزقك؛ كنتَ فى ضعف أحوالك ابتداءَ ما خَلَقَكَ، فأثبتك وأحياك من غير حاجةٍ لك إلى رزقٍ؛ فإلى أن خرجتَ من بَطْنِ أُمّك‏:‏ إمَّا أن كان يُغْنِيكَ عن الرزق وأنت جنينٌ في بطن الأم ولم يكن لك أكلٌ ولا شُرْبٌ، وإمَّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق- إنْ حَقَّ ما قالوا‏:‏ إن الجنينَ يتَغَذَّى بدم الطمث‏.‏ وإذا أخرجك من بطن أمك رَزَقَكَ على الوجه المعهود فى الوقت المعلوم، فَيَسَّرَ لكَ أسبابَ الأكل والشرب من لَبنِ الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق للسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَمِيتُكُمْ‏}‏ بسقوط شهواتكم، ويميتكم عن شواهدكم‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ بحياة قلوبكم ثم يحييكم بربِّكم‏.‏

ويقال‏:‏ من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ومنها ما هو شهود الرزاق‏.‏

ويقال‏:‏ لا مُكْنَةُ لك فى تبديل خَلْقِكَ، وكذلك لا قدرةَ لَكَ على تَعَسُّر رزقِك، فالمُوَسَّعُ عليه رزقُه-بِفَضْلِه سبحانه‏.‏‏.‏ لا بمناقِب نَفْسه، والمُقَتّرُ عليه رزقُه بحُكْمِه سبحانه‏.‏‏.‏ لا بمعايب نَفْسِه‏.‏

‏{‏هَلْ مِن شُرِكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَئ‏}‏؛ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أي من الأصنام أو توهمتموهمٌّ من جملة الأنام‏.‏‏.‏ مَنْ يفعل شيئاً من ذلك‏؟‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏}‏ تنزيهاُ له وتقديساً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

الإشارة من البرّ إلى النَّفْسِ، ومن البحر إلى القلب‏.‏

وفسادُ البرّ بأَكْلْ الحرام وارتكاب المحظورات، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشَّر والفِسْقِ‏.‏‏.‏ وغير ذلك‏.‏ وعَقْدُ الإصرارِ على المخالفاتِ من أعظمِ فسادِ القلب، كما أَنَّ العَزْمَ على الخيرات قبل فِعْلها من أعظم الخيرات‏.‏

ومن جملة الفساد التأويلاتُ بغير حقِّ، والانحطاطُ إلى الرُّخَصِ فى غير قيامٍ بِجَدٍ، والإغراق في الدعاوَى من غير استحياءٍ من الله تعالى‏.‏

‏{‏لِيُذِقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلَّواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏‏:‏ بعض الذى عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب، وعدم التأسُّف على ما فاته من الحقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏يَسِيُرواْ‏}‏ بالاعتبار، واطلبوا الحقَّ بنعت الأفكار‏.‏

‏{‏فَانظُرواْ‏}‏ كيف كانت حال مَنْ تقدَّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حُكْمَكُم فى جميع الأحوال‏.‏ ‏{‏كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ‏}‏ كانوا أكثرَهم عدداً، ولكن كانوا في التحقيق أَقلَّهم وزناً وقَدْراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

أَخْلِص قَصْدَك وصِدْقَ عَزْمَكَ للدين القيِّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع‏.‏ فَمنْ لم يتأدب بِمَنْ هو إمامُ وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خُسْرَانُه أَتَمَّ من رِبْحِه، ونقصانُه أَعَمُ من نَفْعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

يرسل رياحَ الرجاءِ على قلوب العِباد فتكنس عن قلوبهم غبارَ الخوف وغُثَاء اليأس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بِساط الجُهْدِ، وتكرمهم بقوى النشاط‏.‏ ويرسل رياحَ البسطِ على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض، وينشر فيها إرادة الوصال‏.‏ ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء، ويبشرها بدوام الوصال، فذلك ارتياحٌ به ولكن بعد اجتياحٍ عنك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

أرسلنا من قبلك رسلاً إلى عبادنا، فَمَنْ قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومَنْ عارضَهم بالجحود أذقناهم عذابَ الخلود، فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشَوَّشْنا عليهم ما أَمَّلوا، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتَنَعَّموا، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا‏.‏

‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ‏}‏ بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم، ولم يلبثوا إلا يسيراً حتى رقيناهم فوق رقابهم، وخرَّبنا أوطانَ أعدائهم، وهدَّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانَهم، وعَطَّلْنا عنهم ديارهم، ومَحَوْنا بقَهْرِ التدمير آثارَهم، فظَلَّتْ شموسهُم كاسفة، ومكيدةُ قَهْرِنا لهم بأجمعهم خاسفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه مبشراتٍ بوَصْلِه وجوده، ثم يُمطِر جودَ غيبِه على أسرارهم بلُطْفِه، ويطوي بساطَ الحشمة عن ساحات قُرْبِه، ويضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه، وينشر عليهم أزهارَ أُنْسِه، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه، ويسقيهم بيده شرابَ حُبِّه، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم-لا بهِم- ولكنْ بِنَفْسه، فالعبارات عن ذلك خُرْسٌ، والإشارات دونها طُمْسٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يحيي الأرضَ بأزهارها وأنوارها عند مجئ الأمطار لِيُخْرِجَ زَرْعَها وثمارَها، ويحيي النفوس بعد نَفْرَتِها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطانُ الرِّفاق بصادق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، ويحيي القلوبَ بعد غفلتها بأنوار المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة، ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العسر من أصحاب الإرادات، ويحيي الأرواح بعد حَجْبَتِها- بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسُها عن بُرْجِ السعادة، ويتصل بمشامٌ أسرار الكافة نسيمُ ما يفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحبَ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب، ويُحْيي الأسرارَ، وقد تكون لها وَقْفَةٌ فى بعض الحالات- فتنتفي بالكلية آثارُ الغيرية، ولا يَبْقى فى الدار ديَّار ولا من سكانها آثار؛ فسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق، هنالك الولاية لله‏.‏‏.‏ سقط الماء والقطرة، وطاحت الرسوم والجملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

إذا انسدَّت البصيرةُ عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات‏.‏‏.‏ كذلك مَنْ حَقَّتْ عليهم الشقاوةُ جَرَّته إلى نفسها- وإنْ تَبَوَّأَ الجنةَ منزلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماع الحقيقة فَسَمْعُ الظاهر لا يفيده آكَدُ الحُجَّة‏.‏ وكما لا يُسْمَعُ الصُّمَّ الدعاءَ فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْىَ عن ضلالتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم‏:‏

آخر الأمر ما ترى *** القبر واللحد والثرى

كذلك فى ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية فى نعت التردد والحيرة فى الطلب، ثم بعد قوة الوصل فى ضعف التوحيد‏.‏

ويقال أولاً ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله، ثم قوة البيان في حال العرفان، لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود، لأنه الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر‏.‏

ويقال ‏{‏خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ‏}‏‏:‏ أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني فى زمرة المساكين»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

إنما كان ذلك لأحد أمرين‏:‏ إمَّا لأنهم كانوا أمواتاً‏.‏‏.‏ والميت لا إحساسَ له، أو لأنهم عَدُّواً ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يَرَوْن ذلك اليوم يسيراً‏.‏ وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لُبْثِهم تحت الأرض‏.‏ وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جَحْدهم على موجب جهلهم، ثم لا يُسْمَعُ عَذْرُهم، ولا يُدْفَعُ ضُرَّهم‏.‏

وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهماكهم في غيِّهم، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم‏.‏

ثم خَتَمَ السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ‏}‏

سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الألف تشير إلىآلائه، واللام تشير إلا لطفه وعطائه، والميم تشير إلى مجده وسنائه؛ فبآلائه يرفع الجَحْدَ عن قلوبِ أوليائه؛ وبلطفه وعطائه يثبت المحْبةَ فى أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه‏.‏

‏{‏تِلْكَ ءَاياتُ الْكِتَابُ الْحَكيمِ‏}‏‏:‏ المحروس عن التغيير والتبديل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هو هدّى وبيان، ورحمة وبرهان للمحسنين العارفين بالله، والمقيمين عبادةَ اللَّهِ كأنهم ينظرون إلى الله‏.‏ وشَرْطُ المُحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عبادِ الله‏:‏ دانيهم وقاصيهم، ومطيعِهم وعاصيهم‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يُقيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏‏:‏ يأتون بشرائطها في الظاهر من ستر العورة، وتقديم الطهارة، واستقبال القِبْلة، والعلم بدخول الوقت، والوقوف في مكانٍ طاهر‏.‏

وفي الباطن يأتون بشارئطها من طهارة السِّرِّ عن العلائق، وسَتْرِ عورةَ الباطنِ بتنقيته عن العيوب، لأنها مهما تكن فاللَّهُ يراها؛ فإذا أَرَدْتَ ألا يرى اللَّهُ عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون‏.‏ والوقوف في مكان طاهر، وهو وقوف القلبِ على الحدِّ الذي أُذِنْتَ في الوقوف فيه مما لا يكون دعوى بلا تحقيق، وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ وقف عند حدِّه‏.‏ والمعرفة بدخول الوقت فتعلم وقت التذلُّل والاستكانة‏.‏ وتميز بينه وبين وقت السرور والبسط، وتستقبل القبلةَ بنَفْسِك، وتعلِّق قلبَكَ بالله من غير تخصيص بقَطْرٍ أو مكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

الذين يقومون بشرط صلاتهم وحقِّ آداب عبادتهم هم الذين اهتدوا في الدنيا والعُقبى فسلِموا ونَجَوْا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏لَهْوَ الْحَدِيثِ‏}‏‏:‏ ما يشغل عن ذكر الله، ويَحْجُبُ عن اللَّهِ سماعُه‏.‏ ويقال‏:‏ هو لَغْوُ الظاهر الموجِبُ سَهْوَ الضمائر، وهو ما يكون خَوضاً فى الباطل، وأخذاً بما لا يعنيك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

المُفْتَرِقُ بِهَمِّه، والمُتَشتِّتُ بقلبه لا تزيده كثرةُ الوعظِ إلا نفوراً ونُبُوَّاً؛ فسماعُه كَلاَ سماع، ووعظه هباءٌ وضياع، كما قيل‏:‏

إذا أنا عاتَبْتُ الملولَ فإنما *** أُخُطُّ بأقلامي على الماءِ أحرُفا

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ صَدَّقوا ‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏‏:‏ تَحَقَّقُوا؛ فاتصافُ تحقيقِهم راجعٌ إلى تصديقهم، فَنَجَوْا وسَلِمُوا؛ فهم في راحاتهم مقيمون، دائمون لا يَبْرَحُون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أمسك السمواتِ بقدرته بغير عِماد، وحفَظَهَا لا إلى سِناد أو مشدودةً إلى أوتاد، بل بحُكْم الله وبتقديره، ومشيئته وتدبيره‏.‏

‏{‏وََألْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ في الظاهر الجبال، وفي الحقيقة الأَبدال والأوتاد الذين هم غياث الخلق، بهم يقيهم، وبهم يَصرِف البَلاءَ عن قريبهم وقاصيهم‏.‏

‏{‏وََأنَزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَة؛ ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذا خَلْقُ الله العزيز في كبريائه، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبدْتم من دونه في أرضه وسمائه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ الإصابة في العقل والعقد والنطق‏.‏ ويقال ‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث هِمةَ النفس‏.‏ ويقال ‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ ألا تكون تحت سلطان الهوى‏.‏ ويقال ‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ الكوْن بحكم من له الحكم‏.‏ ويقال ‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ معرفة قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رِجليك خارجاً عن كسائك‏.‏ ويقال ‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ ألا تستعصي عَلَى مَنْ تعلم أَنك لا تقاومه‏.‏

‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ‏}‏‏:‏ حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرَّبِّ‏.‏ فهو مقلوب قولهم‏:‏ كَشَرَتْ عن أنيابها الدايةُ؛ فيقال شكر وكشر مثل جذَب وَجبذَ‏.‏

ويقال الشكرُ تحققكَ بعجزك عن شكره‏.‏ ويقال الشكر ما به يحصل كمالُ استلذاذ النعمة‏.‏ ويقال الشكر فضلةٌ تظهر عَلَى اللسان من امتلاء القلب بالسرور؛ فينطلق بمدح المشكور‏.‏ ويقال الشكر نعتُ كلّ غنيِّ كما أن الكفرانَ وَصفُ كلِّ لَئيم‏.‏ ويقال الشكر قرُع باب الزيادة‏.‏ ويقال الشكر قيد الإنعام‏.‏ ويقال الشكر قصة يمليها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال‏.‏ ‏{‏وَمَن شَكَرَ فإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

الشِّرْكُ عَلَى ضربين‏:‏ جَليّ وخفيّ؛ فالجليُّ عبادة الأَصنام، والخفيّ حسبان شيء من الحدثان من الأنام‏.‏ ويقال الشِّرْكُ إثباتُ غَيْرٍ مع شهود الغيب‏.‏ ويقال الشرك ظلمَ عَلَى القلب، والمعاصي ظلم عَلَى النفس، وظلم النفوس مُعَرَّضٌ للغفران، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

أوجب الله شُكرَ نفسه وشكر الوالدين‏.‏ ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما، وألا يُكْتَفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما عُلِم أنَّ شُكْرَ الحقِّ لا يكْفي فيه مجرَّدُ القول ما لم تكن فيه موافقهُ العقل؛ وذلك بالتزام الطاعة، واستعمال النعمة فى وجه الطاعة دون صَرفِها فى الزَّلَّة؛ فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإنفاق والتوفير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

إنْ جاهداك على أن تشرك بالله، أو تسعى بما هو زلة فى امر الله- فلا تطعهما، ولكن عاشرهما بالجميل؛ تخشين في تليين، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرَجٌ، وانفرد بسرِّك لله، ‏{‏وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ‏}‏‏:‏ وهو المنيبُ إليه حقاً من غير أن تبقى بقية فى النفْس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

إذا كانت ذرة أو أقل من ذلك وسبقت بها القسمةُ فلا محالةَ تصل إلى المقسوم له بغير مرية‏.‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏‏:‏ عالم بدقائق الأمور وخفاياها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغه أن يكون بامتناعك بنفسك عما تُنهى عنه، واشتغالك واتصافك بنفسك بما تأمر به غيرك، ومنْ لا حُكْمَ له عَلَى نَفسه لا ينفذ حكمه على غيره‏.‏

والمعروف الذي يجب الأمرُ به وما يُوَصِّلُ العبدَ إلى الله، والمنكرُ الذي يجب النهي عنه هو ما يشغل العبدَ عن الله‏.‏

‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ‏}‏ تنبيهٌ عَلَى أنَّ منْ قام بحق امْتُحِنَ في الله؛ فسبيله أنْ يصبرَ لله- فإنْ منْ صبرَ لله لا يَخسر عَلَى الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يعني لا تتكبرْ عَلَى الناسِ، وطالِعْهم من حيث النسبة والتحقق بأنكَ بمشهدٍ منْ مولاك‏.‏ ومَنْ عَلِمَ أنّ مولاه ينظر إليه لا يتكبرُ ولا يتطاول بل يتخاضع ويتضاءل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

كُنْ فانياً عن شواهدك، مُصطَلَماً عن صَوْلَتِك، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتِك، مُنْتَشِقاً مما استولى عليك من كشوفات سِرِّك‏.‏

وانظر مَنْ الذي يسمع صوتَكَ حتى تستفيق من خمار غفلتك؛ ‏{‏إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ‏}‏‏:‏ في الإشارة هو الذي يتكلم فى لسان المعرفة من غير إذنٍ من الحقِّ‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه الصوفيُّ يتكلم قبل أوانه‏.‏

ويقال إنما ينهق الحمارُ عند رؤية الشيطان فلذلك كان صوته أنكرَ الأصوات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أثبت في كل شيءٍ منها نَفْعاً لكم، فالسماء لتكونَ لكم سقفاً، والأرض لتكون لكم فِراشاً، والشمس لتكون لكم سراجاً، والقمر لتعلموا به عدد السنين والحساب، والنجوم لتهتدوا بها‏.‏

‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً‏}‏‏:‏ الإسباغُ ما يُفْضُلُ عن قدرة الحاجة ولا تحتاج معه إلى الزيادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً‏}‏‏:‏ تكلموا فيه فأكثروا‏.‏ فالظاهرةُ وجودُ النعمة، والباطنةُ شهودُ المنعِم‏.‏ والظاهرةُ الدنيويةُ، والباطنةُ الدينية‏.‏ والظاهرة حُسْنُ الخَلْق، والباطنة حُسْنُ الخُلُق‏.‏ الظاهرةُ نَفْس بلا زَلّة، والباطنةُ قلبٌ بلا غفلة‏.‏ الظاهرةُ العطاء، والباطنة الرضاء‏.‏ الظاهرة في الأموال ونمائها، والباطنة في الأحوال وصفائها‏.‏ الظاهرةُ النعمةُ، والباطنةُ العصمةُ‏.‏ الظاهرةُ توفيقُ الطاعات، والباطنةُ قبولُها‏.‏ الظاهرة تسوية الخَلْقِ، والباطنة تصفية الخُلُق‏.‏ الظاهرة صحبة الصالحين، والباطن حِفْظُ حُرْمَتِهم‏.‏ الظاهرةُ الزهدُ في الدنيا، والباطنةُ الاكتفاء بالمولى من الدنيا والعقبى‏.‏ الظهارة الزهد، والباطنةُ الوَجْدُ‏.‏ الظاهرة توفيق المجاهدة والباطنة تحقيقْ المشاهدة‏.‏ الظاهرة وظائف النَّفْس، والباطنة لطائف القلب‏.‏ الظاهرةُ اشتغالُكَ بنَفْسِك عن الخَلْق، والباطنةُ اشتغالُك بربِّك عن نَفْسِك‏.‏ الظاهرة طَلَبَهُ، الباطنةُ وجوده‏.‏ الظاهرةُ أَنْ تَصِلٍ إليه، الباطنة أن تبقى معه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لم يتخطوا منهم ولا من أمثالهم، ولم يهتدوا إلى مُحَوِّل أحوالهم، فأَمَّا منْ سَمَتْ نَفْسُه، وخلص في الله قَصْدُه فقد استمسك بالعروة الوثقى، وسَلَكَ المحجَّةَ المُثْلَى‏:‏-

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ‏}‏‏.‏

وعلى العكس‏:‏-

‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏‏.‏

إلينا إيابُهم، ومِنَّا عذابُهم، وعلينا حسابُهم‏.‏ ولئن سألتَهم عن خالقهم لأَقِرُّوا، ولكن إذا عادوا إلى غيِّهم نقضوا وأصروا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

لله ما في السموات والأرضِ مِلْكاً، ويُجْرِي فيهم حُكْمَه حَقَّا، وإليه مَرْجِعُهم حتماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

لو أنَّ ما في الأرض من الأشجار أقلامٌ والبحارُ كانت مداداً، وبمقدار ما يقابله تُنْفَقُ القراطيسُ، ويتكلَّفُ الكُتَّابُ حتى تتكسر الأقلامُ، وتفنى البحارُ، وتستوفي القراطيسُ، وتفنى أعمارُ الكُتَّاب‏.‏‏.‏ مانَفِدَت معاني ما لنا مَعَكَ من الكلام، والذي نُسْمِعُك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبَدَ الأبد، والأبديُّ من الوصف لا يتناهى‏.‏

ويقال إن كان لك معكم كلامٌ كثير فما عندكم ينفذ وما عند الله باقٍ‏:‏

صحائفُ عندي للعتابِ طَوَيْتُها *** ستُنْشَرُ يوماً والعتابُ يطول

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

إيجادُ القليل أو الكثير عليه وعنده سيَّان؛ فلا من الكثير مشقة وعُسْر، ولا من القليل راحةٌ ويُسْر، إنما أَمْرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له‏:‏ ‏{‏كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته، لا بمزاولة جهد، ولا باستفراغ وُسْعٍ، ولا بدعاءِ خاطرٍ، ولا بطُرُوءِ غَرَضٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ‏}‏‏:‏ الكائنُ الموجودُ، مُحِقُّ الحقِّ، و‏{‏مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ‏}‏‏:‏ من العَدَمِ ظَهَرَ ومعه جوازُ العَدَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

في الظاهر سلامتُهم في السفينة، وفي الباطن سلامتُهم من حدثان الكون، ونجاتهم فى سفائن العصمة في بحار القدرة‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتِ لِّكُلِّ صَبَّارٍ‏}‏ وَقُوفٍ لا ينهزم من البلايا، شَكُورٍ على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسي البلايا والعطايا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحار التقدير تمنوا أن تلفظَهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاد الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم‏:‏

وكم قد جهلتم ثم عُدْنَا بِحِلْمنا *** أحباءَنا‏:‏ كم تجهلون ونَحْلُمُ‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏‏}‏

يخوِّفهم مرةً بأفعاله فيقول‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ يَوْماً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏، ومرةً بصفاته فيقول‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 14‏]‏ ومرةً بذاته فيقول‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ‏}‏‏.‏

يتفرّد بِعلم القيامة، ويعلم ما في الأرحام ذكورَهَا وإناثها، شقيها وسعيدها، حسنها وقبيحها ويعلم متى يُنزِّل الغيث، وكم قطرة يُنزله، وبأي بقعة يُمطرها‏.‏

‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسُ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرُ‏}‏‏.‏

ما تدري نفسُ ماذا تكسب غداً من خير وشر، ووفاق وشقاق، وما تدري نفس بأي أرض تموت؛ أتدرك مرادَها أم يفوت‏؟‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الإشارة من الألف إلى أنه أَلِفَ المحبون قربتي فلا يصبرون عني، وأَلِفَ العارفون تمجيدي فلا يستأنسون بغيري‏.‏

والإشار في اللام إلى لقائي المدَّخرِ لأحبَّائي، فلا أبالي أقاموا على ولائي أم قصَّروا في وفائي‏.‏

والإشارة في الميم‏:‏ أي تَرَكَ أوليائي مرادَهم لمرادي‏.‏‏.‏ فلذلك آثرتُهم على جميع عبادي‏.‏

‏{‏تَنزٍيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 2‏]‏‏:‏ إذا تَعَذَّرَ لقاءُ الأحباب فأَعَزُّ شيءٍ على الأحباب كتابُ؛ أَنْزَلْتُ على أحبابي كتابي، وحمَلَتْ إليهم الرسالةُ خطابي، ولا عليهم إِنْ قَرَعَ أسماعَهم عتابي، فَهُمْ في أمانٍ من عذابي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الذي لكم منا حقيقة، وإنْ التبس على الأعداء فليس يضيركم، ولا عليكم، فإنَّ صحبةَ الحبيب مع الحبيب أَلَذُّها ما كان مقروناً بفقد الرقيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

وتلك الأيام خَلَقَها مِنْ خَلْقٍ غير الأيام، فليس من شرط المخلوق ولا من ضرورته أن يخلقه في وقتٍ؛ إذ الوقتُ مخلوقٌ في غير الوقت وكما يستغنى في كونه مخلوقاً عن الوقت استغنى الوقتُ عن الوقت‏.‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏‏:‏ ليس للعرش من هذا الحديث إلا هذا الخبر، ‏{‏اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ولكن القديم ليس له حدٌّ، استوى على العرش لكن لا يجوز عليه القرب بالذات ولا البُعْد، استوىعلى العرش ولكنه أشدُّ الأشياء تَعَطُّشاً إلى شظية من الوصال لو كان للعرش حياة‏؟‏، ولكنَّ العرشَ جمادٌ‏.‏‏.‏ وأَنَّى يكون للجماد مراد‏؟‏‏!‏ استوىعلى العرش لكنه صَمَدٌ بلا نِدٍّ، أَحَدٌ بلا حَدٍّ‏.‏

‏{‏مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيعٍ‏}‏‏:‏ إذا لم يُردْ بكم خيراً فلا سماءَ عنه تُظِلُّكم، ولا أرضَ بغير رضاه تُقِلُّكم، ولا بالجواهرأحدٌ يناصركم، ولا أحدَ-إذا لم يُعْنَ بشأنكم في الدنيا والاخرة- ينظر إليكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

خَاطَبَ الخَلْقَ-على مقدار أفهامهم ويجوز لهم- عن الحقائق التي اعتادوا في تخاطبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏الْعَزِيزُ‏}‏ مع المطيعين ‏{‏الرَّحيمُ‏}‏ على العاصين‏.‏

‏{‏الْعَزِيزُ‏}‏ للمطيعين ليكْسِرَ صولتَهم ‏{‏الرَّحِيمُ‏}‏ للعاصين ليرفعَ زَلَّتَهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أَحْسَنَ صورةَ كلَّ أحدٍ؛ فالعرشُ ياقوتةٌ حمراءُ، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثُلاثَ ورُبَاع، وجبريلُ طاووس الملائكة، والحور العين-كما في الخبر- «في جمالها وأشكالها، والجِنانُ»-كما في الأخبار ونص القرآن‏.‏ فإذا انتهى إلى الإنسان قال‏:‏ و‏{‏خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7، 8‏]‏ *** كل هذا ولكن‏:‏

وكم أبصرتُ من حُسْنٍ ولكن *** عليك من الورى وقع اختياري

خَلَقَ الإنسانَ من طين ولكن ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏، وخلق الإنسان من طين ولكن‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏، وخلق الإنسان من طين ولكن ‏{‏رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ ‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

لو كانت لهم ذَرَّةٌ من العرفان، وشَمَّة من الاشتياق، ونَسْمَةٌ من المحبة لَما تَعَصَّبُوا كُلَّ هذا التعصب في إنكار جوازِ الرجوعِ إلى الله ولكن قال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لولا غفلةُ قلوبهم وإلا لَما أحال قَبْضَ أرواحهم على مَلَكِ الموت؛ فإنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثرَ منه في أحدٍ، ولا له تصرفات في نَفَسِه، وما يحصل من التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق‏.‏ ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ فخاطبَهم على مقدار فهمهم، وعَلَّقَ بالأغيار قلوبَهم، وكلٌّ يُخاطَبُ بما يَحْتَمِلُ على قَدْرِ قُوَّتِه وضعفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

مَلَكَتْهُم الدهشةُ وغَلَبتهم الخَجْلَةُ، فاعتذروا حينَ لا عذْرَ، واعترفوا ولا حينَ اعتراف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

لو شئنا لَسَهَّلنا سبيلَ الاستدلال، وأدَمْنا التوفيقَ لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعَلَّقَتْ المشيئةُ بإغواءِ قومٍ، كما تعلَّقت بإدناءِ قوم، وأردنا أن يكونَ للنار قُطَّان، كما أردنا أن يكون للجَنَّةِ سُكان، ولأَنَّا عَلِمْنا يومَ خَلَقْنا الجنَّةَ أنه يسكنها قوم، ويوم خلقنا النارَ أنه ينزلها قومٌ، فَمِنَ المُحَالِ أن نُرِيدَ ألأ يقعَ معلومُنا، ولو لم يحصل لم يكن عِلْماً، ولو لم يكن ذلك عِلْماً لم يكن إلهاً‏.‏‏.‏ ومن المحال أن نريد ألا نكونَ إلهاً‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ يتسلَّطْ عليه من يحبه لم يجْرِ في مُلْكِه ما يكرهه‏.‏

ويقال‏:‏ يا مسكين أفنيتَ عُمْرَكَ في الكَدِّ والعناء، وأمضيتَ أيامَك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك‏.‏‏.‏ فما تفعل في قضائي كيف تُبَدلِّه‏؟‏ وما تصنع في مشيئتي بأيِّ وسعٍ ترُدُّها‏؟‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

شكا إليك ما وَجَدَ *** من خَانَهُ فيك الجَلَدْ

حيرانُ لو شئتَ اهتدى *** ظمآنُ لو شئتَ وَرَدْ

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قاسِ من الهوانِ ما استوجبتَه بعصيانك، واخْلُدْ في دار الخِزْي لما أسلفتَه من كفرانك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

التصديقُ والتكذيبُ ضدان- والضدان لا يجتمعان؛ التكذيب هو جحودٌ واستكبار، والتصديقُ هو سجودٌ وتحقيق، فَمَنْ اتَّصَفَ بأحد، القسمين امَّحى عنه الثاني‏.‏

‏{‏خَرُّواْ سُجَّداً‏}‏‏:‏ سجدوا بظواهرهم في المحراب، وفي سرائرهم على ترابِ الخضوع وبِساطِ الخشوع بنعت الذبول وحُكْمِ الخمود‏.‏

ويقال‏:‏ كيف يستكبر مَنْ لا يَجِدُ كمالَ راحتِه ولا حقيقةَ أُنْسِه إلأ في تَذَلُّلِه بين يدي معبوده، ولا يؤثِرُ آجلَ جحيمه على نعيمه، ولا شقاءَه على شفائة‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

فى الظاهر‏:‏ عن الفِراش قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتهجد‏.‏ وفي الباطن‏:‏ تتباعد قلوبُهم عن مضاجعات الأحوال، ورُؤية قَدّرِ النفس، وتوَّهُمِ المقَام- فإن ذلك بجملته حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمِّ قاتل- فلا يساكَنون أعمالَهم ولا يلاحظون أحوالَهم‏.‏ ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجرون في الله معَارفَهم‏.‏

والليل زمان الأحباب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏‏:‏ يعني عن كلّ شُغل وحديثِ سوء حديث محبوبكم‏.‏ والنهارُ زمانُ أهل الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 11‏]‏، أولئك قال لهم‏:‏ ‏{‏فإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم، واشتغلوا بحرفتكم‏.‏

وأما الأحبابُ فالليلُ لهم إِمَّا في طرَب التلاقي وإما في حَرَب الفراقِ، فإن كانوا في أُنْسِ القرابة فَلَيْلَهُم أقصرُ من لحظة، كما قالوا‏:‏

زارني مَنْ هَوَيْتُ بعد بعادٍ *** بوصال مُجَدَّدٍ وودادِ

ليلة كاد يلتقي طرفاها *** قِصَراً وهي ليلة الميعادِ

وكما قالوا‏:‏

وليلةٍ زَيْنُ ليالي الدهر *** قابلتُ فيها بدرها ببدر

لم تَسْتَبِن عنْ شققٍ وفجرِ *** حتى تولَّت وهي بِكْرُ الدهر

وأمَّا إن كان الوقتُ وقتَ مقاساةِ فُرقة وانفرادٍ بكُرْبة فَلَيْلُهم طويل، كما قالوا‏:‏

كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها *** أفْنَيْتُها قابضاً على كبدي

قد غُصَّت العينُ بالدموع وقد *** وضعتُ خدي على بنان يدي

قوله‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏‏:‏ قومٌ خوفاً من العذاب وطمعاً في الثواب، وآخرون خوفاً من الفراقِ وطمعاً في التلاقي، وآخرون خوفاً من المكر وطمعاً في الوَصْلِ‏.‏

‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏‏:‏ يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به؛ فإنْ طَهَّرْنا أحوالَهم عن الكدورات حضروا بأحوالٍ مُقَدَّسة، وإِنْ دَنَّسَّا أوقاتهم بالآفاتِ شهدوا بحالاتٍ مُدّنَّسَة، ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏؛ فالعبدُ إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سَيِّدُه‏:‏

يفديكَ بالروح صَبٌّ لو يكون له *** أعزّ من روحه شيء فداك به

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

إنما تَقَرُّ عينُكَ برؤية مَنْ تحبه، أو ما تحبه؛ فطالبْ قلبكَ وراع حالك، فيحصل اليومَ سرورُك، وكذلك غداً‏.‏‏.‏ وعلى ذلك تحشر؛ ففي الخبر‏:‏

«مَنْ كان بحالة لقي الله بها»‏.‏

ثم إنّ وصفَ ما قال الله سبحانه إنه لا يعلمه أحدٌ- مُحَالٌ، اللهم أن يُقال‏:‏ إنها حال عزيزة، وصفةٌ جَليلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

أفمن كان في حال الوصال يَجِرّ أذيالَه كنتْ هو في مَذلةِ الفراق يقاسي وبالَهَ‏؟‏

أفمن كان في رَوْحِ القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هوْل العقوبة يعاني مشقة الكلفة‏؟‏

أفمن هو في رَوْح إقبالنا عليه كمن هو محنة إعراضنا عنه‏؟‏

أفمن بقي معنا كمنْ بقي عَنَّا‏؟‏

أفمنْ هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان‏؟‏

أَفمن أُيِّدَ بنور البرهان وطلعت عليه شموسُ العرفان كمن ربطَ بالخذلان ووُسم بالحرمان‏؟‏ لا يستويان ولا يلتقيان‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ صَدَّقوا، و‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏‏:‏ يما حَققوا-فلهم حُسْنُ الحال، وحيمدُ المآلُ وجزيلُ المنال، وأَما الذين كدّوا وجحدوا، وفي معاملاتهم أساءوا وأفسدوا، فقصاراهم الخزيُ والهوان، وفنونٌ من المحن وألوان‏.‏‏.‏ كلما راموا من محنتهم خلاصاً ازدادوا فيها انتكاساً، ولكما أَمَّلوا نجاةً جُرّعوا وزيدوا ياساً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قومٌ عذابهم الأدنى مِحَنُ الدينا، والعذابُ الأكبر لهم عقوبة العنبي‏.‏

وقوْمٌ العذاب الأدنى لهم فترةٌ تتداخلهم في عبادتهم، والعذاب الأكبر لهم قسوةٌ في قلوبهم تصيبهم‏.‏

وقومٌ العذاب الأدنى لهم وقفة في سلوكهم تُنِيبهم، والعذابُ الأكبرُ لهم حجةٌ عن مشاهدهم تنَالهم، قال قائلهم‏:‏

أَدّبتني بانصرافِ قلبك عنّي *** فانظرْ إليّ فقد أحسنت تأديبي

ويقال العذاب الأدنى الخذلان في الزلة، والأكبر الهجران في الوصلة‏.‏

ويقال العذاب الأدنى تكدّر مشاربهم بعد صفوها، كما قالوا‏:‏

لقد كان ما بيني زماناً وبينه *** كما بين ريح المسك والعنبر الورد

ويقال العذاب الأكبر لهم تطاولُ أيامِ الغياب من غير تبين آخِرٍ لها، كما قيل‏:‏

تطاول نأينا يا نور حتى *** كأن نسجتْ عليه العنكبوتُ

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

إذا نُبِّهَ العبدُ بأنواع الزَّجر، وحُرِّكَ-لتَرْكِهِ حدودَ الرقاق- بصنوفٍ من التأديب ثم لم يرتدع عن فعله، واغترّ بطول سلامته، وأمِنَ من هواجم مَكره، وخفايا سِرِّه‏.‏‏.‏ أَخَذَه بغتةً بحيث لا يجد خرجةً مَنْ أخذته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 65‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

فلا تكن في مرية من لقائه غداً لنا ورؤيته لنا‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُ هُدًًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ‏}‏‏:‏

وهذا محمد صلى الله عليه وسلم جُعِلَ رحمةً للعالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لمّا صبروا على طلبنا سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى مُتبعيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِهم؛ فهم للخلْق هُداةٌ، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يحكم بينهم، وعند ذلك يتبين المردودُ من المقبول، والمهجور من الموصول، والرضيّ من الغوّي، والعدو من الوليّ‏.‏‏.‏ فكم من بهجةٍ دامت هنالك‏!‏ وكم من مهجةِ ذابت عند ذلك‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

أو لم يعتبروا بمنازلِ أقوام كانوا في حَبرَةٍ، كانوا في سرورٍ فآلوا إلى ثبور؛ فجميع ديارهم ومزارِهم صارت لأغيارهم، وصنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا في ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وكما قيل‏:‏

نعمةٌ كانت على قو *** مٍ زماناً ثم بانت

هكذا النعمةُ والإح *** سانُ مذ كان وكانت

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

الإشارة فيه‏:‏ تُسْقى حدائقُ وَصْلِهم بعد جفاف عودِها، وزوال المأنوسِ من معهودِ، فيعود عودها مورِقاً بعد ذبوله، حاكياً بحاله حال حصوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

استبعدوا يومَ التلاقي وجحدوه، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

أعْرِض عنهم باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا‏.‏

‏{‏وَانتَظِرْ‏}‏ زوائدَ وَصْلِنا، وعوائدَ لطفنا‏.‏

‏{‏إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ‏}‏ هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا‏.‏‏.‏ وعن قريب يجد كلُّ منتظرَه محتضراً‏.‏