فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة الزمر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

أي هذا كتابٌ عزيزٌ نَزَلَ من ربِّ عزيز على عبدٍ عزيز بلسان مَلَكٍ عزيز في شأنِ أَمةٍ عزيزة بأمرٍ عزيز‏.‏ وفي ورود الرسولِ به من الحبيب الأول نزهةٌ لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، وارتياحٌ عند قراءة فصولها‏.‏

وكتابُ موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى، وكتابُ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلبِ المصطفى صلوات الله عليه *** وفَصْلٌ بين من يكون كتابُ ربِّه مكتوباُ في ألواحه، وبين من يكون خطابُ ربِّه محفوظاً في قلبه، وكذلك أمته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ ءَايَاتُ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

أي أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق، وأنا مُحِقٌّ في إنزاله‏.‏

والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع، وتكون بالنَّفْس والقلب والروح؛ فالتى بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقِّي عن طلب الاختصاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقْرِبُونَا ِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏‏.‏

الدين الخالص ماتكون جملته لله؛ فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد، اللهم أن يكون بأمره؛ إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لَمَا صحَّ أَنْ يكونَ في العَالَم مُخْلِصٌ‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي الذين عبدوا الاصنام قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏، ولم يقولوا هذا من قِبَلِ الله ولا بأمره ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فَرَدَّ اللَّهُ عليهم‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القُرَبِ بنشاطِ نَفْسِه من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت، وما يعقد بينه وبين الله مِنْ عقودٍ ثم لا يَفِي بها‏.‏‏.‏ فكل ذلك اتباعُ هوًى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كّاذِبٌ كَفَّارٌ‏}‏‏.‏

لا تَهديهم اليومَ لدينه، ولا في الآخرة إلى ثوابه‏.‏ والإشارة فيه إلى تهديد مَنْ يتعرَّض لغير مقامه، ويدَّعي شيئاً ليس بصادقٍ فيه، فاللَّهُ لا يهديه قط إلا ما فيه سَدادُه ورُشْدُه‏.‏ وعقوبتُه أَنْ يَحْرِمَه ذلك الشيءَ الذي تصدَّى له بدعواه قبل تَحققِه بوجوده وذَوْقِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم حيث قالوا‏:‏ المسيحُ ابن اللَّهِ، وعُزَيْرُ وَلَدُ اللَّهِ؛ فقال‏:‏ لو أراد أن يتَّخِذَ وَلَداً للتبنِّى والكرامة لاخْتَارَ من الملائكة الذين هم مُنْزَّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخَلْقِ‏.‏

ثم أخبر عن تَقَدُّسِه عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ تنزيهاً له على اتخاذ الأولاد *** لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نَعْتِه، ولا بالتبنِّي لِتَقَدُّسِه عن الجنسية والمحالات، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد،؛ إذا لو كان ذلك فيكف كان يكون حُكْمُه‏؟‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ‏}‏‏.‏

أي خَلَقَهما وهو مُحِقٌّ في خلقهما‏.‏

‏{‏يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكّوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏.‏

يُدْخِلُ الليلَ على النهارِ، ويدخل النهارَ على الليل في الزيادة والنقصان، وسَخَّرَ الشمسَ والقمرَ‏.‏ وقد مضى فيما تقدم اختلافُ أحوالِ العبد في القبض والبسط، والجَمْع والفَرْق، والأخذ والرد، والصحو والسُّكْرِ، ونجوم العقل وأقمار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالي الشَّكِّ والجَحْدِ ونهار الوصل، وليالي الهجر والفراق وكيفية اختلافها، وزيادتها ونقصانها‏.‏

‏{‏أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ‏}‏‏.‏

«العزيز» المتعزِّز على المحبين، «الغفار» للمذنبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ يعني آدم وحواء‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ‏}‏ أي خلق لكم، ‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏ فمن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المواشي اثنين‏.‏

‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏‏:‏ أي يصورِّكم، ويُرَكِّب أحوالكم‏.‏

‏{‏فِى ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ‏}‏‏:‏ ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة‏.‏ ذَكَّرَهم نسبتهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم‏.‏

ويقال بَيَّنَ آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خِلْقَتِك- من قطرتين- أمشاجاً متشاكلةَ الأجزاء، مختلفة الصُّوَرِ في الأعضاء، سَخَّرَ بعضَها مَحَالَّ للصفات الحميدة كالعلم والقدرة والحياة *** وغير ذلك من أحوال القلوب، وسَخَّرَ بعضها مَحَالَّ للحواش كالسمع والبصر والشَّمِّ وغيرها‏.‏

ويقال هذه كلها نِعَمٌ أنعم اللهُ بها علينا فَذَكَّرَنا بها- والنفوسُ مجبولةٌ، وكذلك القلوبُ على حُبِّ مَنْ أحسن إليها- استجلاباً لمحبتنا له‏.‏

‏{‏ذَالِكُمْ اللَّهُ رَبِّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو

ربُّكم‏.‏ أي‏:‏ أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صَوَّرتُكم فأحسنت صُورَرَكم، وأنا الذين أسبَغْتُ عليكم إنعامي، وخصصتكم بجميل إكرامي، وأغرقتكم في بحار أفضالي، وعرفتكم استحقاق جمالي وجلالي، وهديتكم إلى توحيدي، وألزمتكم رعايةَ حدودي *** فما لكم لا تَنْقَطِعون بالكلية إليَّ‏؟‏ ولا ترجون ما وَعَدْتُكم لديَّ‏؟‏ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليَّ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

إنْ أعرضتم وأَبَيْتُم، وفي جحودكم تماديتم *** فَمَا نَفْتَقِرُ إليكم؛ إذا نحن أغنياء عنكم، ولكنّي لا أرضى لكم أن تبقوا عني‏!‏

يا مسكين *** أنت إنْ لم تكن لي فأنا عنكَ غنيٌّ، وأنا إن لم أكنْ لك فمن تكون أنت‏؟‏ ومَنْ يكون لك‏؟‏ مَنْ الذي يُحْسِنُ إليك‏؟‏ مَنْ الذي ينظر إليك‏؟‏ من الذي يرحمك‏؟‏ من الذي ينثر الترابَ على جراحِك‏؟‏

من الذي يهتم بشأنك‏؟‏ بمن تسلو إذا بَقِيتَ عنِّي‏؟‏ مَنْ الذي يبيعك رغيفاً بمثاقيل ذهب‏؟‏‏!‏‏.‏

عَبْدي *** أنا لا أرضى ألا تكونَ لي وأنت ترضى بألا تكون لي‏!‏ يا قليلَ الوفاء، يا كثيرَ التجنِّي‏!‏

إن أطَعْتَنِي شَكَرْتُك، وإن ذكَرْتَنِي ذكرتُك، وإن خَطَوتَ لأَجْلي خطوةً ملأتُ السمواتِ والأرضين من شكرك‏:‏

لو عَلِمْنا أنَّ الزيارةَ حقٌّ *** لَفَرَشْنَا الخدودَ أرضاً لترضى

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً‏}‏‏.‏

إذا مَسَّه ضُرٌّ خَشَعَ وخَضَع، وإلى قُرْبه فزع، وتملَّق بين يديه وتضرع‏.‏ فإذا أزال عنه ضُرَه، وكفاه أمرَه، وأصلح شغْلَه نَسِيَ ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أنداداً، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويُشْرِكَ بمعبوده‏.‏ هذه صِفَتُه *** فَسُحْقاً له وبُعْداً، ولِسَوف يَلْقى عذاباً وخِزْياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الأَخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

«قانتاً»‏:‏ القنوتُ هو القيامُ، وقيل طول القيام‏.‏ والمراد هو الذي يقوم بحقوق الطاعةِ أوقاتَ الليل والنهار؛ أي في جيمع الأوقات‏.‏

والهمزة للاستفهام أي أمن هو قانت كمن ليس بقانت‏؟‏ أمن هو قانت كالكافر الذي جرى ذِكْرُه‏؟‏ أي ليس كذلك‏.‏

ويقال القنوتَ القيامُ بآداب الخدمة ظاهراً وباطناً من غير فتور ولا تقصير‏.‏

«يَحْذَرُ» العذابَ الموعودَ في الآخرة، «ويرجو» الثوابَ الموعودَ‏.‏ وأراد بالحَذَرِ الخوف‏.‏

‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتّذَكَّرُ أُوْلُواْ الألْبَابِ‏}‏‏.‏

أي هل يستويان‏؟‏ هذا في أعلى الفضائل وهذا في سوء الرذائل‏!‏ ‏{‏الَّذِينَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ العِلْمُ في وصف المخلوق على ضربين‏:‏ مجلوبٌ مُكْتَسَبٌ للعبد، وموهوبٌ مِنْ قِبَل الربِّ‏.‏ ويقال مصنوع وموضوع‏.‏ ويقال علمُ برهانٍ وعلمُ بيان؛ فالعلومُ الدينية كلُّهَا برهانية إلاَّ ما يحصل بشرط الإلهام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أطيعوه واحذروا مخالفةَ أمره‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا‏}‏ بأداء الطاعات، ‏(‏والإحسان هو الإتيان بجيمع وجوه الإمكان‏)‏‏.‏

‏{‏وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ‏}‏‏:‏ أي لا تَتَعَلَّلوا بأذى الأعداء؛ إِنْ نَبَأ بِكُم منزلٌ فَتَعَلُّلُكم بمعاداة قوم ومَنْعِهِم إياكم-لا يُسْمَع، فأرضُ اللَّهِ واسعةٌ، فاخْرُجُوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتُكم‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بَغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏ والصبر حَبْسُ النَّفْس على ما تكرهه‏.‏ ويقال هو تجرُّعُ كاسات التقدير من غير استكراهٍ ولا تعبيس‏.‏

ويقال هو التهدُّفُ لسهام البلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ‏}‏‏.‏

مضى القولُ في معنى الإخلاص‏.‏ وفي الخبر‏:‏ إن الله يقول‏:‏ «الإخلاص سِرٌّ بين الله وعَبْدِه»‏.‏

ويقال الإخلاصُ لا يُفْسِدُه الشيطان ولا يطَّلِعُ عليه المَلَكَان‏.‏

‏{‏أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ‏}‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ في وقتي وفي شرعي‏.‏ والإسلامُ الانقيادُ لله بكل وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

أخاف أصنافَ العذابِ التي تحصل في ذلك اليوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

هذا غاية الزجر والتهديد، ثم بيَّنَ أن ذلك غاية الخسران، وهو الخزي والهوان‏.‏ والخاسِرُ- علىلحقيقة- مَنْ خَسِرَ دنياه بمتابعة الهوى، وخَسِرَ عُقُباه بارتكابه ما الربُّ عنه نَهَى، وخَسِرَ مولاه فلم يستح منه فيما رأى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أحاط بهم سُرَادقُها؛ فهم لا يخرجون منها، ولا يَفْتُرُون عنها‏.‏ كما أنهم اليومَ في جهنم عقائدِهم؛ يستديم حجابُهم، ولا ينقطع عنهم عقابهم‏.‏

‏{‏ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِنْ خِفْتَ اليومَ كُفِيتَ خوفَ ذلك اليوم وإِلاَّ فبين يديك عقبة كَؤُود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى‏}‏‏.‏

طاغوت كلّ إنسانٍ نَفْسُه؛ وإنما يجتنبُ الطاغوتَ مَنْ خالف هواه، وعانَقَ رضا مولاه‏.‏ وعبادةُ النَّفْس بموافقة الهوى-وقليلٌ مَنْ لا يعبد هواه، ويجتنب حديث النَّفْسِ‏.‏

‏{‏وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ‏}‏‏:‏ أي رجعوا إليه في كل شيء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ ألَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ‏}‏ يقتضي أن يكون الاستماع لكل شيء، ولكن الاتباع يكون للأحسن‏.‏ «أحسنه»‏:‏ وفيه قولان؛ أحدهما أن يكون بمعنى الحَسَن ولا تكون الهمزة للمبالغة، كما يقال مَلِكٌ أَعِزُّ أي عزيز‏.‏ والثاني‏:‏ الأحسن على المبالغة، والحَسَنُ ما كان مأذوناً فيه في صفة الخَلْقُ ويعْلَمُ ذلك بشهادة العلم، والأحسن هو الأَوْلَى والأصوب‏.‏ ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصاً له‏.‏ ويقال مَنْ عَرَفَ الله لا يسمع إلا بالله‏.‏

ويقيال إن للعبد دواعيَ من باطنه هي هواجسُ النفس ووساوسُ الشيطانِ وخوَاطرُ المَلَكِ وخطابُ الحقِّ يُلْقَى في الرَّوْعِ؛ فوساوسُ الشيطان تدعوا إلى المعاصي، وهواجسُ النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النَّفْس وأَنَّ لها في شيءٍ نصيباً، وخواطرُ المَلَكِ تدعو إلى الطاعاتِ والقُرَبِ، وخطابُ الحقِّ في حقائق التوحيد‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الِّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأُوْلَئِك هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏}‏‏:‏-

أولئك الذين هداهم الله لتوحيده، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الذين حَقَّتْ عليهم كلمةُ العذابِ فريقان‏:‏ فريقٌ حقت عليهم كلمةٌ بعذابهم في النار، وفريقٌ حقت عليهم كلمةُ العذابِ بالحجاب اليومَ، فهم اليومَ لا يخرجون عن حجاب قلوبهم، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان- وإن كانوا من أهل الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

وَعَدَ المطيعين بالجنَّةِ- ولا محالةَ لا يُخْلِف، وَوَعَدَ التائبين بالمغفرة- ولا محالةَ يغفر لهم، وَوَعَدَ المريدين بالوجود والوصول- وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالةَ مُصْدِقٌ وَعْدَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

أخبر أنه يُنْزِلُ من السماءِ المطرَ فيُخْرِجُ به الزرعَ فيخضرّ، ثم يأخذ في الجفاف، ثم يصير هشيماً *** والإشاراةُ من هذا إلى الإنسان، يكون طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم‏.‏

ويقال إن الزَّرْعَ ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤْخَذُ منه الحَبُّ، فالحبُّ هو المقصود منه‏.‏ كذلك الإنسان ما لم يحصلْ من نَفْسه وصولٌ لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ‏.‏

ويقال إن كَوْنَ المؤمنِ بقوة عقله يوجِبُ استفادةً له بعلمه إلى أَنْ يبدوَ منه كمالٌ يُمكِّنُ من أنوار بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة‏.‏ فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة، قالوا‏:‏

فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه *** بأَنواره أنوارَ تلك الكواكب

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

جوابُ هذا الخطابِ محذوفٌ *** أي أَفمن شرح اللَّهُ صَدْرَه للإسلام كمن ليس كذلك‏؟‏

لمَّا نزلت هذه الآيةُ سُئِلَ الرسولُ- صلى الله عيله وسلم- عن الشرح المذكور فيها، فقال‏:‏ «ذلك نورٌ يُقْذَفُ في القلب» فقيل‏:‏ وهل لذلك أَمارة‏؟‏

قال‏:‏ «نعم؛ التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله»

والنورُ الذي مِنْ قِبَلِهِ- سبحانه- نورُ اللّوائح بنجوم العلم، ثم نورُ اللوامع ببيان الفَهْم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نورُ المكاشفة بتَجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد *** وعند ذلك فلا وَجْدَ ولا فقد، ولا قُرْب ولا بُعْدَ *** كلاّ بل هو الله الواحد القهار‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكِّرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏‏:‏ اي الصلبة قلوبهم، لم تقرعها خواطرُ التعريف فبقيت عَلَى نَكْرَةِ الجَحْد *** أُولئك في الضلالة الباقية، والجهالة الدائمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ لأنه غير مخلوق‏.‏

‏{‏كِتَاباً مُّتَشَابِهاً‏}‏ في الإعجاز والبلاغة‏.‏

‏{‏مَّثَانِىَ‏}‏‏:‏ يثني فيها الحكم ولا يُمَلُّ بتكرار القراءة، وَيشتمل عَلَى نوعين‏:‏ الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد‏.‏

‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ إذا سمعوا آيات الوعيد‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَلٍينَ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ إذا سمعوا آيات الوعد‏.‏

ويقال‏:‏ تقشعر وتلين بالخوف والرجاء، ويقال بالقبض والبسط، ويقال بالهيبة والأُنْس، ويقال بالتجلَّي والاستتار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

أي فَمنْ يتقي بوجهه سوءَ العذاب كَمَنْ ليس كذلك‏؟‏ وقيل إنَّ الكافرَ يَلْقَى النارَ أَوَّلَ ما يلقاها بوجهه؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً‏.‏ فأمَّا المؤمِن فيُوقَى ذلك؛ وإنما يُلَقَّى النضرة والسرور والكرامة؛ فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشِرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

أَشدُّ العذابِ ما يكون بغتةً، كما أَنَّ أتمَّ السرور ما يكون فلتةً‏.‏

ومن الهجران والفراق ما يكون بغتةً غير متوقع، وهو أنكى للفؤاد وأشدُّ وأوجعُ تأثيراً في القلب، وفى معناه قلنا‏:‏

فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ *** وأَصبحتَ يوماً والزمانُ تَقَلَّبَا

وأتمُّ السرورِ وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة، قال قائلهم‏:‏

بينما خاطر المُنى بالتلاقي *** سابح في فؤاده وفؤادي

جَمَع اللَّهُ بيننا فالتقينا *** هكذا صُدْفةً بلا ميعادِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أي أوضحنا لهم الآيات، ووقفناهم على حقائق الأشياء‏.‏

‏{‏غَيْرَ ذِى عِوَجٍ‏}‏‏:‏ فلا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

مَثَّلَ الكافرَ ومعبوديه بعبدٍ اشترك فيه متنازعون‏.‏

‏{‏فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏‏:‏ فالصنم يدعي فيه قومٌ وقومٌ آخرون؛ فهذا يقول‏:‏ أنا صَنَعْتُه، وذلك يقولك أنا استعملْتُه، وثلاث يقول‏:‏ أنا عَبَدْتُه‏.‏

أمّا المؤمن فهو خالِصٌ لله عزَّ وجل، يشبه «عبداً سَلَماً لرجل» أي ذا سلامة من التنازع والاختلاف‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏رَّجُلاً فِيهَ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏ تتجاذبه أشغال الدُّنيا، شُغْلُ الوَلدِ وشغل العيال، وغيرُ ذلك من الأشغالِ المختفلةِ والخواطرِ المُشَتِّتَةِ‏.‏

أمَّا المؤمِن فها خالصٌ لله ليس لأحدٍ فيه نصيب؛ ولا للدنيا معه سبب إذ ليس منها شيء، ولا للرضوان معه شُغْل، إذْ ليس له طاعات يُدِلُّ بها، وعَلَى الجملة فهو خالص لله، قال تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 41‏]‏ أي أبقيتُكَ لي حتى لا تصلح لغيره‏.‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ الثناءُ له، وهو مُسْتَحِقٌّ لصفات الجلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

نَعَاه- موسى عليه السلام- ونَعَى المسلمين إليهم فَفزِعُوا بأجمعهم من مآثمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث‏.‏ ومَنْ لم يَتفرَّغْ من مآثمِ نفسه وأنواع همومه، فلس له من هذا الحديث شمّة، فإذا فرغ قلْبُه من حديث نَفْسِه، وعن الكون بجملته فحينئذٍ يجد الخيرَ من ربِّه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم‏:‏

كتابي إليكم بعد موتي بليلةٍ *** ولم أدرِ أني بعد موتي أكتب

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

الإشارة فيه إلى من أشار إلى أشياء لم يَبْلُغْها، وادَّعى وجودَ أشياء لم يَذُقْ شيئاً منها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 60‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ لا بل هؤلاء هم الكفار، وأمَّا المُدَّعِي الذي لم يَبْلُغْ ما يَدَّعِيه فليس يكذب على ربِّه إنما يكذب على نَفْسه؛ حيث ادَّعى لها أحولاً لم يَذُقُّها ولم يَجِدْها، فأمَّا غيرُ المتحقق الذي يكذب على الله فهو الجاحد والمبتدع الذي يقول في صفة الحقِّ- سبحانه- ما يتقدَّسُ ويتعالى عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

الذي جاء بالصدق في أفعاله من حيث الإخلاص، وفي احواله من حيث الصدق، وفي أسراره من حيث الحقيقة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَآءُ الْمحْسِنِينَ‏}‏‏:‏ «الإحسانُ- كما جاء في الخبر- أن تعبد الله كأنك تراه» فَمَنْ كانت-اليومَ- مشاهدتُه على الدوام كانت رؤيته غداً على الدوام، ومَنْ لا فلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

منْ لا يكون مؤمنَاً فليس من أهل هذه الجملة‏.‏ ومَنْ كان معه إيمان‏:‏ فإذا كُفِّرَ عنه اسوأَ ما عَمِلَه فأسوَأُ أعمالِه كبائرُه؛ فإنْ غُفِرَتْ يَجْزِهِم بأحسن اعمالهم‏.‏ واحْسَنُ أعمالِ المؤمنِ الإيمانُ والمعرفة، فإن كان الإيمانُ مؤقتاَ كان ثوابُها مؤقتاً، وإن كان الإيمان على الدوام فثوابُه على الدوام‏.‏ ثم احسنُ الأعمال عيها أحسنُ الثوابِ، واحسنُ الثوابِ الرؤيةُ فيجب أن تكون على الدوام-وهذا استدلالٌ قوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏‏.‏

استفهام والمراد منه التقرير؛ فاللَّهُ كافٍ عَبْدَه اليومَ في عرفانه بتصحيح إيمانه ومَنْع الشِّرْكِ عنه، وغداً في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايتهُ تامة وسلاَمته عامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قَرَّرَ عليهم عُلُوَّ صفاته، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرُّوا بذلك، ثم طالَبَهم بِذكْرِ صفاتِ الأصنام التي عبدوها من دونه، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية، والبُعَدِ عن الحياة والعِلْم والقدرةِ والتمكُّنِ من الخَلْقِ، فيقول‏:‏ كيف أشركتم به هذه الأشياء‏؟‏ وهلاَّ استحيَيْتُم من إطلاق أمثال ذلك في صفته‏؟‏

قُلْ-يا محمد- حَسْبِيَ الله، عليه يتوكل المتوكلون؛ كافِيَّ اللَّهُ المتفرِّدُ بالجلالِ، القادرُ على ما يشاء، المتَفَضِّلُ عليَّ بما يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

سوف ينكشف رِبْحُنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جوابَ لكم، ونُعَذِّبُكُم فلا شفيعَ لكم، ونُدَمِّرُ عليكم فلا صريخَ لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

مَنْ أحسن فإحسانهُ إلى نَفْسه اكتَسبَه ومَنْ أساء فبلاؤه على نفسه جَلَبَه- والحقُّ غنيٌّ عن التجمُّلِ بطاعةِ مَنْ أقبل والتنقُّصِ بِزَلَّةِ مَنْ أعرض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يقبض الأرواح حين موتها، والتي لم تَمُتْ من النفوس في حال نومها، فإذا نامت فيقبض أوراحها‏.‏ وقبضُ الأرواح في حال الموت بإخراج اللطيفة التي في البدن وهي الروح، ويخلق بَدَلَ الاستشعارِ والعِلْمِ الغفلَة والغيبةَ في مَحَالِّ الإِحساس والإدراك‏.‏ ثم إذا قَبضَ الأرواحَ عند الموت خَلَقَ في الأجزاء الموتَ بَدَلَ الحياة، والموتُ ينافي الإحساسَ والعلمَ‏.‏ وإذا ردَّ الأرواح بعد النوم إلى الأجسادِ خَلَقَ الإدراكَ في محل الاستشعار فيصير الإنسان متيقظاً، وقَبْضُ اللَّهِ الأرواحَ في حال النوم وردت به الاخبار، وذلك على مراتب؛ فإنَّ روحاً تُقْبَضُ على الطهارة تُرْفَعُ إلى العرش وتسجد لله تعالى، وتكون لها تعريفات، ومعها مخاطبات «والله أعلم»

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

أي أنهم- وإن اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاءَ بِحُكْمِهِمْ لا بتعريفٍ من قِبَلِ الله أو إخبار- فإِنَّ اللَّهَ تعالى لا يقبل الشفاعةَ من أحدٍ إِلاَّ إذا أَذِنَ بها، وإِنَّ الذي يقولونهْ إنما هو افتراءٌ على الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

اشمأزَّت قلوبُ الذين جحدوا ولم تسكن نفوسُهم إلى التوحيد، وإذا ذُكِرَ الذين مِنْ دونه استأنسوا إلى سماعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

عَلَّمَه- صلى الله عليه وسلم- سبحانه‏.‏

وتشتمل الآيةُ على الإشارة إلى بيان ما ينبغي من التنَصُّل والتذلُّلِ، وابتغاءِ العَفْو والتفضُّلِ، وتحقيق الألتجاء بِحُسْنِ التوكل‏.‏ ثم أخبر عن أحولهم في الآخرة فقال‏:‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏

لافتدوا به‏.‏‏.‏ ولكن لا يُقْبَلُ منهم، واليومَ لو تصدَّقوا بمثقال ذرة لَقُبْلَ منهم‏.‏

كما أنهم لو بَكَوْا في الآخرة بالدماء لا يُرْحَمُ بكاؤهم، ولكنهم بدمعة واحدةٍ-اليومَ- يُمْحَى الكثيرُ من دواوينهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لِمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏‏.‏

في سماع هذه الآية حَسَراتٌ لأصحاب الانتباه‏.‏

وفي بعض الاخبار أن قوماً من المسلمين من اصحاب الذنوب يُؤْمَرُ بهم إلى النار فإذا وافوها يقول لهم مالِكٌ‏:‏ مَنْ أنتم‏؟‏ إن الذين جاؤوا قَبْلَكُمْ من أهل النار وجوهُهم كانت مُسْوَدَّةً، وعيونُهم كانت مُزْرَقَّة *** وأنتم لستم بتلك الصفة، فيقولون‏:‏ ونحن لم نتوقع أن نلقاك، وإنما انتظرنا شيئاً آخر‏!‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

حاق بهم وبالُ استهزائهم وجزاءُ مَكْرِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

في حال الضُّرِّ يتبرَّؤون من الاستحقاق والحوْلِ والقوة، فإذا كَشَفَ عنهم البلاَءَ وقعوا في مغاليطهم، وقالوا‏:‏ إنما أوتينا هذا باستحقاقٍ مِنَّا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هِىَ قِتْنَةٌ‏}‏ ولكنهم لم يعلموا، ثم اخبر أن الذين مِنْ قَبْلِهم مثلَ هذا قالوا وحسبوا، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم، فأصابهم شؤمُ ما قالوا، وهؤلاء سيصيبهم أيضاً مِثْلُ ما أصاب أولئك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

أو لم يَرَوْ كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق‏:‏ فَمِنْ مُوَسَّعِ عليه رِزقُه‏.‏ ومِنْ مُضَيَّقٍ عليه، وليس لواحدٍ منهم شيءٌ مِمَّا خُصَّ به من التقليل أو التكثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

التسمية «بيا عبادي» مَدْحٌ، والوصفُ بأنهم «أسرفوا» ذَمٌ‏.‏ فلمَّا قال‏:‏ ‏{‏يَاعِبَادِىَ‏}‏ طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية، فرفعوا رؤوسَهم، ونكَّسَ العُصَاةُ رؤوسَهم وقالوا‏:‏ مَنْ نحن *** حتى يقول لنا هذا‏؟‏‏!‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ أَسْرَفُواْ‏}‏ فانقلب الحالُ؛ فهؤلاء الذين نكَّسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذِلَّتُههُم، والذين رفعوا رؤوسَهم أطرقوا وزالت صَوْلَتُهم‏.‏

ثم أزال الأُعجوبةَ عن القسمة بما قَوي رجاءَهم بقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ يعني إنْ أَسْرَفْتَ فعلى نَفْسِكَ أسرفت‏.‏

‏{‏لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ‏}‏‏:‏ بعد ما قطعْتَ اختلافَك إلى بابنا فلا ترفَعْ قلبك عَنَّا‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً‏}‏ الألف واللام في «الذنوب» للاستغراق والعموم، والذنوب جمع ذنب، وجاءت «جميعاً» للتأكيد؛ فكأنه قال‏:‏ أَغْفِرُ ولا أترك، أعفوا ولا أُبْقِي‏.‏

ويقال إنْ كانت لكم جِناية كثيرة عميمة فلي بشأنكم عناية قديمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

الإنابة الرجوع بالكلية‏.‏ وقيل الرق بين الإنابة وبين التوبة أن التائبَ يرجع من خوف العقوبة، وصاحْبُ الإنابة يرجع استحياءً لِكَرَمِه‏.‏

‏{‏وَأَسْلِمُواْ لَهُ‏}‏‏:‏ وأخلِصوا في طاعتكم، والإسلامُ- الذي هو بعد الإنابة- أَنْ يعلمَ أَنّ نجاتَه بفَضْلِه لا بإنابته؛ فبفضله يصل إلى إنابته *** لا بإنابته يصل إلى فضله‏.‏

‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ‏}‏ قبل الفراق‏.‏ ويقال هو أن يفوتَه وقتُ الرجوعِ بشهود الناس ثم لا يَنْصَرِفُ عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقال هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم تقدموا عليهم في أحوالهم، فيتذكرون ما سَلَفَ من تقصيرهم، ويَرَوْن ما وُفِّقَ إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة‏.‏

أو يقول‏:‏ لو أنَّ الله هداني لكُنْتُ كذا، ويقول آخر‏:‏ لو أنَّ لي كَرَّةً فأكون كذا، فيقول الحقُّ-سبحانه‏:‏

‏{‏بَلىَ قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرينَ‏}‏‏.‏

فَذُقْ من العذب ما على جُرْمِك استوجَبْتَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

هؤلاء الذين ادَّعوا احوالاً ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله ولم يتحققوا بها، وكفاهم افتضاحاً بذلك‏!‏ وأنشدوا‏:‏

ولمَّا ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت كَذَبْتَني *** فما لي أرى الأعضاءَ منك كواسيا‏؟‏‏!‏

فما الحُبُّ حتى تنزف العين بالبكا *** وتخرس حتى لا تجيب المناديا

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

كما وَقَاهم-اليومَ- عن المخالفات، حماهم-غداً- من العقوبات، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين؛ اليومَ عصمة، وغداً نعمة‏.‏ اليومَ عناية وغداً حماية وكفاية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَئ‏}‏‏.‏

تدخل أكسابُ العباد في هذه الجملة، ولا يَدْخُل كلامُه فيه؛ لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت الخطاب ولا صفاته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏مَقَالِيدُ‏}‏ أي مفاتيح، والمرادُ منه أنه قادر على جيمع المقدورات، فما يريد أَنْ يُوجِدَه أَوْجَدَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

أي متى يكون لكم طَمَعٌ في أن أعبدَ غيره *** وبتوحيده ربَّني، وبتفريده غَذَاني، وبِشَرَابِ حُبِّه سَقَاني‏؟‏‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

لَئِنْ لاحظْتَ غيري، وأثْبَتَّ معي في الإبداع سِوَايَ أحْبَطْتَ عَمَلكَ، وأبطلْتَ سعَيكَ، بل اللَّهُ- يا محمد- فاعْبُدْ، وكُنْ من جملة عبادي الشاكرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ما عرفوه حَقَّ معرفته، وما وصفوه حقَّ وصفه، وما عظّموه حَقَّ تعظيمه؛ فَمَن اتصف بتمثيل، أو جَنَحَ إلى تعطيل حَادَ عن السُّنَّةِ المُثْلَى وانحرف عن الطريقة الحسنى‏.‏ وصفوا الحقَّ بالأعضاء، وتَوَهَّموا في نَعْتِه الاجزاء، فما قدروه حَقَّ قَدْرِه؛ فالَخَلْقُ في قبضة قدرته، والمسوات مطويات بيمينه، ويمينهُ قُدْرَتُه‏.‏ ولأنه أقسم ان يُفْنِيَ السمواتِ ويطويَها فها قادر على ذلك‏.‏

‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏}‏ تنزيهاً له عما أشركوا في وصفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

في النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تُحْشَرُون، والنفختان متجانستان؛ ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح؛ وفي الأخرى حياة النفوس، لِيُعْلَمَ أن النفخةَ لا تعمل شيئاً لعينها، وإنما الجبَّارُ بقدرته يخلق ما يشاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

نور يخلقه في القيامة فتشرق القيامةُ به، وذلك عند تكوير الشمس وانكدار النجوم، ويستضيء بذلك النور والإشراق قومٌ دون قوم‏.‏ الكُفَّارُ يَبْقَوْن في الظلمات، والمؤمنون نورُهم يسعى بين أيديهم‏.‏

ويقال اليومَ إِشراق، وغداً إشراق، اليومَ إشراقُ القلبِ بحضوره، وغداً إشراقُ الأرض بنور ربها‏.‏ ويقال غداً أنوار التولِّي للمؤمنين، واليومَ أنوار التجلِّي للعارفين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

إن كان خيراً فَخَيرٌ، وإن كان غير خَيْر فغيرُ خير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

الكفار يُسَاقُون إلى النارعنفاً، والمؤمنون يُسَاقون إلى الجنة لُطْفاً؛ فالسَّوَقُ يجمع الجنسين *** ولكن شتان بين سَوْقٍ وسَوْق‏!‏

فإذا جاء الكفارُ قابلهم خَزَنَةُ النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب؛ فلا تكريمَ ولا تعظيم، ولا سؤال ولا استقبال *** بل خِزْيٌ وهونٌ، ومن كل جنسٍ من العذاب ألوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

سَوّقٌ ولكن بغيرتعبٍ ولانَصَبٍ، سَوْقٌ ولكن برَوْحٍ وطَرَبٍ‏.‏

«زمراً» جماعاتٍ، وهؤلاء هم عوامُّ أهل الجنة، وفوق هؤلاء‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلى الرَّحْمَنِ وَفْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85‏]‏ وفوقهم مَنْ قال فيهم‏:‏ ‏{‏وَاُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 31‏]‏ وفَرْقٌ بين مَنْ يُسَاقُ إلى الجنة، وبين مَنْ تُقَرَّبُ منه الجنة *** هؤلاء الظالمون، والآخرون المقتصدون، والآخرون السابقون‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وإذا وافوا الجنة تكون الأبوابُ مُفَتَّحَةً لئلا يصيبهم نَصَبُ الانتظار‏.‏

ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج ان يُسَاق، ولعلَّ هؤلاء لا رغبةَ لهم في الجنة بكثير؛ فَلهُم معه في الطريق قُولُ ‏{‏طِبْتُمْ‏}‏؛ أي أنهم يُساقون إلى الجنة بلطف دون عنف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

صَدَقَنا وعده بإدخالنا الجنة، وإكمال المِنَّة‏.‏

‏{‏وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ‏}‏ أي أرضَ الجنة؛ نتبوأ منها حيث نشاء‏.‏ وهؤلاء قوم مخصوصون، والذين هم قومُ «الغُرَف» أقوام آخرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

يُسَبِّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات *** هذا هو عملُ الملائكة الذين من حول العرش‏.‏

وقُضِيَ بين أهل الجنة وأهل النار بالحقِّ، لهؤلاء دَرَكات ولأولئك درجات *** إلى غير ذلك من فنون الحالات‏.‏ وُضِيَى بين الملائكة أيضاً في مقاماتهم على ما أراده الحقُّ في عباداتهم‏.‏

سورة غافر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

أي حُمَّ أمرٌ كائن‏.‏ ويقال «الحاء» إشارة إلى حِلْمِه «والميم» إشارة إلى مجده أي‏:‏ بحِلْمي ومجدي لا أُخَلِّدُ في النار مَنْ آمنَ بي‏.‏

ويقال هذه الحروف مفاتح أسمائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

«العزيز»‏:‏ المُعزِّ لأوليائه، «العليم» بما كان ويكون منهم، فلا يمنعه عِلمُه لما سَلَفَ منهم عن قضائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

كتابٌ مُعَنْوَنٌ بقبول توبته لِعِبادَه؛ عَلِمَ أنّ العاصيَ مُنكَسِرُ القلبِ فأزال عنه الانكسارَ بأن قدَّمَ نصيبه، فقدَّم اسمَه على قبول التوبة‏.‏ فَسَكَّنَ نفوسَهم وقلوبَهم باسْمِيْنِ يُوجِبَان الرجاء؛ وهما قولُه‏:‏ ‏{‏غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ‏}‏‏.‏

ثم عقبها بقوله‏:‏ ‏{‏شَدِيدِ الْعِقَابِ‏}‏ ثم لم يرض حتى قال بعدئذٍ ‏{‏ذِى الطَّولِ‏}‏‏.‏

فيُقَابِلَ قوْلَه‏:‏ ‏{‏شَدِيدِ الْعِقَابِ‏}‏ قَوْلُه‏:‏ ‏{‏ذِى الطَّوْلِ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ غافرُ الذنبِ لِمَنْ اصَرَّ واجْتَرَمَ، وقابلُ التوبِ لمن أقَرَّ ونَدِمَ، شديد العقاب لِمَنْ جَحَدَ وَعَنَدَ، ذِي الطول لمن عَرَفَ ووَحَد‏.‏

ويقال غافر الذنب للظالمين، وقابل التوب للمقتصدين، شديد العقاب للمشركين، ذي الطول للسابقين‏.‏

ويقال‏:‏ سُنَّةُ الله انه إذا خَوَّفَ العبادَ باسمٍ أو لفظٍ تدَاركَ قلوبهم بأن يُبشِّرَهم باسْمَيْن أو بوَصْفين‏.‏

‏{‏إلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏‏:‏ وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

إذا ظَهر البرهانُ واتَّضحَ البيانُ استسلمَتْ الألبابُ الصاحيةُ للاستجابة والإيمان‏.‏

فأمَّا أهلُ الكفرِ فلهم عَلَى الجمود إصرارٌ، وشُؤْمُ شرْكِهم يحولُ بينهم وبين الإنصاف‏.‏‏.‏ وكذلك من لا يحترمون اولياء الله، ويُصِرُّونَ على إنكارهم، ويعترضون عليهم بقلوبهم، ويجادلون في جَحْدِ الكرامات، وما يخصُّ اللَّهُ به عباده من الآيات‏.‏‏.‏ فهؤلاء يميزون بين رجحانهم ونقصانهم، وسيفتضحون كثيراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

كذلك مَنْ انقرض مِنَ الكفار كان تكذيبُ الرُّسُلِ دَأبَهم، ولكنَّ الله-سبحانه- انتقم منهم، وعلى كُفْرِهم احترمهم‏.‏

والمُنْكِرُ لهذا الطريق يدين بإنكاره، ويتقرّبُ إلى الله به، ويعد وقيعته في أولياء الله من جملة إحسانه وخيراته، ولكن الله- سبحانه- يعذبهم في العاجل بتخليتهم فيما هم فيه، وصَدِّ قلوبهم عن هذه المعاني، وحرمانهم منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

إذا انختم على عبدٍ حُكْمُ الله بشقاوته فلا تنفعه كَثْرَةُ ما يورَدُ عليه من النُّصح‏.‏ والله على أمره غالبٌ‏.‏ ومَنْ أَسَرَتْه يَدُ الشقاوة فلا يُخَلِّصُه مِنْ مخالبها جُهْدٌ ولا سعاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

حَملَةُ العرش من حَوْلَ العرش من خواص الملائكة، مأمورون بالتسبيح لله، ثم بالاستغفار للعاصين- لأنَّ الاستغفار للذنبِ والتوبةُ إنما تحصل من الذنب- ويجتهدون في الدعاء لهم على نحو ما في هذه الآية وما بعدها؛ فيدعون لهم بالنجاة، ثم بِرفع الدرجات، ويحيلون الأمر في كل ذلك على رحمة الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ‏}‏‏:‏ فلئن سلَّطَ عليك أراذل من خَلْقه- وهُم الشياطين- فلقد قيَّض بالشفاعة أفاضلَ من خَلْقِه ومن الملائكة المقرَّبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أشَدُّ العقوباتِ التي يُوصلها الحقُّ إليهم آثارُ سُخْطِه وغَضَبِه، وأجَلُّ النِّعم التي يغروهم بها آثارُ رضاه عنهم‏.‏ فإذا عَرَفَ الكافرُ في الآخرة أنَّ ربَّه عليه غضبانُ فلا شيء أصعبُ على قلبه من ذلك؛ لأنه عَلِمَ أنه لا بُكاء ينفعه، ولا عناءَ يزيل عنه ما هو فيه ويدفعه، ولا يُسْمَعُ له تضرُّعٌ، ولا تُرْجَى له حيله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

الإماتةُ الأولى إماتَتُهم في الدنيا ثم في القبر يحييهم، ثم يميتهم فهي الإماتةُ الثانية‏.‏ والإحياء الأول في القبر والثاني عند النشر‏.‏

‏{‏فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا‏}‏‏:‏ أقروا بذنوبهم-ولكن في وقتٍ لا ينفعهم الإقرار‏.‏

‏{‏فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ‏}‏ مما نحن فيه من العقوبة، وإنما يقولون ذلك حين لا ينفعهم الندمُ والإقرارُ‏.‏ فيُقال لهم‏:‏-

‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ‏}‏

أي تُصَدِّقوا المشركين لكفرهم‏.‏ وهؤلاء إماتَتُهم محصورة، فأمَّا أهلُ المحبةِ فلهم في كلِّ وقتِ حياةٌ وموتٌ، قال قائلُهم‏:‏

أموت إذا فَقَدْتُكَ ثم أحيا *** فكم أحيا عليك وكم أموت‏!‏

فإنَّ الحقَّ- سبحانه- يُرَدِّدُ أبداً الخواصَّ من عباده بين الفناء والبقاء، والحياة والموت، والمحو والإثبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يُريهم آياتِ فَضْلِه فيما يُلاطِفُهم، ويريهم آياتِ قَهْرِه فيما يكاشفهم، ويريهم آياتِ عَفْوِه إذا تَنَصَّلُوا، وآياتِ جوده إذا توسَّلُوا، وآياتِ جلالِه إذا هابوا فغابوا، وآياتِ جمالِه إذا آبوا واستجابوا‏.‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً‏}‏ لأبدانكم وهو توفيق المجاهدات، ولقلوبكم وهو تحقيق المشاهدات، ولأسراركم وهو فنون المواصلات والزيادات‏.‏

‏{‏وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ‏}‏‏:‏ يرجع من العادة إلى العبادة، ومن الشَّكِّ إلى اليقين، ومن الخَلْقِ إلى الحقِّ، من الجهل إلى العِلْم، ومن النَّكرة إلى العرفان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

شَرْطُ الدعاء تقديم المعرفة لتعرفَ من الذي تدعوه، ثم تدعو بما تحتاج إليه مِمَّا لا بُدَّ لك منه، ثم تنظر هل أعطاكَ ما تطلب وأنت لا تدري‏؟‏ والواجبُ ألا تطلب شيئاً تكون فيه مخالفةٌ لأمره، وأن تتباعد عن سؤالك الأشيئاء الدَّنِيَّة والدنيوية، وأن ترضى بما يختاره لك مولاك‏.‏ ومن لإخلاص في الدعاء ألا ترى الإجابة إلاّ منه، وألا ترى لنفسك استحقاقاً إلا بفضله، وأن تعلم أنه إن بقيت سؤالك عن مطلوبك-الذي هو حَظُّكَ- لا تَبْق عن عبادة ربِّك- التي هي حَقُّه «فإنَّ الدعاء مُخُّ العبادة» ومن الإخلاص في الدعاء أن تكون في حال الاضطرار لما لا يكون ابتداؤه جُرْماً لك، وتكون ضرورتُك لسراية جنايتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

رافعُ الدرجات للعُصاةِ بالنجاة، وللمطيعين بالمثوبات، ولأصفياء والأولياء بالكرامات، ولذوي الحاجات بالكفايات، وللعارفين بتنقيبهم عن جميع أنواع الإرادات‏.‏

ويقال درجاتُ المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجاتُ العارفين بقلوبهم في الدنيا؛ فيرفع درجاتهم عن النظر إلى الكَونيْن دون المساكنه إليهما‏.‏ وأمَّا المحبون فيرفع درجاتِهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعُقبى شيئاً غيرَ رضاءِ محبوبهم‏.‏

‏{‏ذُو الْعَرْشِ‏}‏‏:‏ ذو المُلْكِ الرفيع‏.‏ ويقال العرش الذي هو قِبْلَةُ الدعاء، خَلَقَه أرفعَ المخلوقاتِ وأعظمَها جُثة‏.‏

‏{‏يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ روحٌ بها ضياءُ أبدانهم- وهو سلطانُ عقولهم، وروحٌ بهاء ضياء قلوبهم- وهو شفاءُ علومهم، وروحٌ بها ضياء أرواحهم- والذي هو للرُّوح رَوْحٌ- بقاؤهم بالله‏.‏

ويقال‏:‏ روحٌ هو روح إلهام، وورح هو روح إعلام، وروح هو روح إكرام‏.‏

ويقال‏:‏ روح النبوة، وروح الرسالة‏.‏ وروح الولاية، وروح المعرفة‏.‏

ويقال‏:‏ روح بها بقاءُ الخلق، وروح بها ضياء الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكر‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَئ‏}‏‏.‏

يعلم الحاصل الموجود، ويعلم المعدوم المفقود؛ والذي كان والذي يكون، والذي لا يكون مما عَلِمَ أنه لا يجوز أن يكون، والذي جاز أن يكون أن لو كان كيف كان يكون‏.‏

‏{‏لِّمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏‏.‏

لا يتقيد مُْلْكُه بيومٍ، ولا يختصُّ مُلْكُه بوقتٍ، ولكنَّ دَعَاوَى الخَلْقِ- اليومَ- لا أصلَ لها؛ إذ غداً تنقطع تلك الدعاوى وترتفع تلك الأوهام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يجازيهم على أعمالهم بالجنان، وعلى أحوالهم بالرضوان، وعلى أنفاسهم بالقربة، وعلى محبتهم بالرؤية‏.‏

ويجازي المذنبين على توبتهم بالغفران، وعلى بكائهم بالضياء والشفاء‏.‏

‏{‏لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ‏}‏‏:‏ أي أنه يستحيل تقديرُ الظلم منه، وكل ما يفعل فله أن يفعله‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ مع عباده؛ لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال؛ يطالبهم بالصغير والكبير، والنقير والقطمير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قيامةُ الكُلِّ مؤجَّلة، وقامةُ المحبين مُعَجَّلة؛ فَلَهم في كلِّ نَفَسٍ قيامةٌ من العقاب والعذاب والثواب، والبُعَاد والأقتراب، ولما لم يكن لهم في حساب، وتشهد عليهم الأعضاء؛ فالدمعُ يشهد، وخَفَقَانُ القلبِ ينطق، والنحولُ يُخْبِر، واللونُ يُفْصِح *** والعبدُ يَسْتُرُ ولكن البلاء يَظْهَرُ‏:‏

يا مَنْ تَغَيَّرُ صورتي لمَّا بَدَا *** لجميع ما ظَنُّوا بنا تصديقا

وأنشدوا‏:‏

لي في محبته شهودٌ أربعٌ *** وشهودُ كلِّ قضية اثنان

ذوبانُ جسمي وارتعادُ مفاصلي *** وخفوقُ قلبي واعتقالُ لساني

وقلوبُهم-إذا أزِفَ الرحيلُ بَلَغت الحناجر، وعيونهم شَرِقَتْ بدموعها إذا نودي بالرحيل وشُدَّت الرواحل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

فخائنةُ أعين المحبين استحسانهم شيئاً، ولهذا قالوا‏:‏

يا قُرَّة العينِ‏:‏ سَلْ عيني هل اكتحلت *** بمنظرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عن بَصَرِى

ولذلك قالوا‏:‏

فعيني إذا استحسنَتْ غيرَكم *** أمَرْتُ السُّهادَ بتعذيبها

ومن خائنة أعينهم أن تأخذهم السِّنَةُ والسُّبات في أوقات المناجاة؛ وقد جاء في قصة داود عليه السلامة‏:‏ كَذَبَ مَنْ أدَّعَى محبتي، فإذا جَنَّهُ الليلُ نام عَنِّي‏!‏

ومن خائنة أعين العارفين أن يكون لهم خبرٌ بقلوبهم عمَّا تقع عليه عيونُهم‏.‏

ومن خائنة أعين الموحِّدين أن تخرج منها قطرةُ دمعٍ تأسُّفاً على مخلوقٍ يفوت في الدنيا والآخرة، ولا على أنفسهم‏.‏

ومن خائنة أعين المحبين النظرُ إلى غير المحبوب بأي وجهٍ كان، ففي الخبر‏:‏ «حُبُّكَ الشيء يعمي ويصم»‏.‏

‏{‏وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ‏}‏‏:‏ فالحقُّ به خبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقضي للأجانب بالبعاد، ولأهل الوصال بالوداد، ويقضي يومَ القدوم بعَزْلِ عمال الصدود، وإذا ذُبحَ الموتُ غداً بين الجنة والنار على صورة كَبْشٍ أملح فلا غرابة أن يُذْبَح الفراقُ على رأسِ سكة الأحبابِ في صورة شخصٍ منكر ويصلب على جذوع العِبرة لينظرَ إلى أهلُ الحَضْرَة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

أولم يسروا في أقطار الأرض بنفوسهم، ويطوفوا مشارقها ومغاربها ليعتبروا بها فيزهدوا فيها‏؟‏ أولم يسيروا بقلوبهم في الملكوت بجولان الفكر ليشهدوا أنوارَ التجلِّي فيستبصروا بها‏؟‏ أولم يسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ليستهلكوا في سلطان الحقائق، وليتخلَّصُوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

إن بغى من أهل السلوك قاصدٌ لم يصل إلى مقصوده فَلْيَعْلَمْ أنَّ مُوجِبَ حَجْبِه اعتراضٌ خَامَرَ قلبَه على بعض شيوخه في بعض أوقاته؛ فإنَّ الشيوخَ بمحلِّ السفراء للمريدين‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «الشيخُ في قومه كالنبيِّ في أمته»‏.‏