فصل: تفسير الآية رقم (68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

أنزل من السماء ماءَ المطر الذي هو سببُ حياةِ الأرضين، وذلك بقدرٍ معلوم‏.‏ ثم *** البلادُ مختلفةٌ في السَّقْي‏:‏ فبعضها خِصْبٌ، وبعضها جَذْبٌ، وسَنةً يزيد وسنةً ينقص، سنةً يفيض وسنةً يغيض‏.‏

كذلك أنزلنا من السماء ماءَ الرحمة فيحيي القلوب، وهي مختلفة في الشُّرْب‏:‏ فمِنْ موسَّع عليه رزقه منه، ومِنْ مُضَِيِّقٍ مُقَتَّرٍ عليه‏.‏ ومِن وقتٍ هو وقت سحٍّ، ومنْ وقتٍ هو وقت حَبْسٍ‏.‏

ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به دَرنَ العُصَاةِ وآثارَ زلّتِهم وأوضارَ عثرتِهم‏.‏ وماء هو سقي قلوبهم يزيل به عطَشَ تحيهم، ويحيي به موات أحوالهم؛ فَتَنْبُت في رياض قلوبهم فنونُ أزهار البسط، وَصنوف أنوار الروح‏.‏ وماءٌ هو شراب المحبة فيخص به قلوباً بساحات القرب، فيزيل عنها به حشمة الوصف، وَيسكن به قلوباً فيعطلها عن التمييز، وَيحملها على التجاسرِ ببذل الرُّوح؛ فإذا شربوا طَرِبوا، وإذا طَرِبوا لم يُبالوا بما وَهَبوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

كما يحيي بماءِ السماءِ الغياضَ والرياض، ويصنِّف فيها الأزهارَ والأنوارَ، وتثمر

الأشجارُ وتجري الأنهار *** فكذلك يَسْقِي القلوبَ بماءِ العرفان فتورق وتثمر بعدما

تزهر، ويؤتى أُكلَها‏:‏ من طيب عيش، وكمالِ بسطٍ، ثم وفورِ هيبة ثم رَوْحِ أُنسٍ،

ونتائجِ تَجَلِّ، وعوائد قُرْبٍ *** إلى ما تتقاصر العباراتُ عن شرحه، ولاَ تطمع

الإشارات في حَصْره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

الإشارات منه أنَّ الكدوراتِ الهاجمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة؛ فإنَّ اللَّبنَ الخالصَ السائغَ يخرجُ من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوي حواياها عليه من الوحشة، لكنه صافٍ لم يؤثر فيه منها بحُكم الجِوار، وكذلك الصفاءُ يوجد أكثره من عين الكدورة؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقٌّ ولا باطل‏.‏ ومَنْ أشرفَ على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير، فتسقط عنه كلفة التمييز، فالأسرار عند ذلك تصفو، والوقت لصاحبه لا يجفو‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‏}‏‏:‏ لازمةٌ لكم، ومتعدية منكم كلِّ متصلٍ بكم‏:‏

إنِّي- على جَفَواتِها- بربِّها *** وبكلِّ متَّصِل بها مُتَوَسِّلُ

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يحفظهم في الفينة في بجار القطْرة، ويحفظهم في سفينة السلامة والعصمة في بحار القُدْرة، وإنَّ بحارَ القدرة تتلاطم أمواجها، والناسُ فيها غَرْقَى إلا مَنْ يحفظه الحقُّ- سبحانه- في سفينةُ العناية‏.‏

وصفةُ أهل الفُلكِ إذا مستْهم شِدَّة خوفِ الغَرَقِ ما ذكَر الله في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ كذلك مَنْ شاهدَ نفسه على شَفَا الهلاكِ والغرقِ، والتجأ إلى صِدْق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقُّ- سبحانه- من مخلوقات التقدير‏.‏ ويقال إنَّ وَجهَ الأرضِ بحارُ الغفلة، وما عليه الناسُ من أسباب التفرقة بحارٌ مهلكةٌ والناس فيها غرقى‏.‏ وكما قال بعضهم‏:‏

الناسُ بحرٌ عميقٌ *** والبعدُ عنهم سفينة

وقد نصحتُك فانظر *** لِنْفسِكَ المسكينهْ

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

كَرَّرَ قصةَ نوح لِمَا فيها من عظيم الآيات من طولِ مقامه في قومه، وشدةِ مقاساة البلاء منهم، وتمام صبره على ما استقبله في طول عمره، ثم إهلاك الله جميع مَنْ أَصَرَّ على كفرانه، ثم إهلاك الله جميع مَنْ أَصَرّ على كفرانه، ثم لم يغادِرْ منهم أحداً، ولم يبال- سبحانه- بأنْ أهلك جملتهم‏.‏ ولقد ذكر في القصص أن امرأةً من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولودٌ، فَحَمَلَتْه وقامت حالمةً له ترفعه عن الطوفان، فلمَّا بلغ الماءُ إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها- قدْرَ ما أمكنها- إبقاءً على وَلَدِها، وإشفاقاً عليه من الهلاك، إلى أن غَلَبَها الماءُ وتَلِفَتْ وولدها‏.‏ فأوحى الله إلى نوح- عليه السلام- لو أني كنتُ أَرْحَمُ واحداً منهم لَرَحِمْتُ تلك المرأة وولدها‏.‏

وفي الخبر أن نوحاً كان اسمه يشكر، ولكثرة ما كان يبكي أوحى الله إليه‏:‏ يا نوح *** إلى كم تنوح‏؟‏ فسمَّاه نوحاً‏.‏ ويقال إن ذنبَه أنه مرّ يوماً بكلبٍ فقال‏:‏ ما أوحشه‏!‏

فأوحى الله إليه‏:‏ اخلق أنت أَحْسَنَ من هذا‏!‏ فكان يبكي معتذراً عن قالته تلك‏.‏ وكان قومُه يلاحظونه بعين الجنون، وما زاد لهم دعوةً إلا ازدادوا على إجابته نبوةً، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوةً على قسوة‏.‏

ولما عمل السفينة ظهر الطوفان، وأدخل في السفينة أَهْلَه، تعرْض له إبليسُ- كما جاء في القصة- وقال‏:‏ احْمِلْني معك في السفينة، فأبى نوح وقال‏:‏ يا شقيُّ‏.‏‏.‏ تطمع في حملي إياك وأنت رأسُ الكفَرَةِ‏؟‏‏!‏

فقال إبليسُ‏:‏ أَمَا عَلِمْتُ- يا نوحُ- أَنَّ الله أنْظَرني إلى يوم القيامة، وليس ينجو اليومَ أحدٌ إلاّ في هذه السفينة‏؟‏

فأوحى الله إلى نوح أَن احمله فكان إبليسُ مع نوح في السفينة، ولم يكن لابنه معه مكانٌ في السفينة‏.‏ وفي هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول لأنه إن كان المعنى في أن ابنه لم يكن معه له مكان لكُفْرِه فبإبليس يُشكل *** ولكنها أحكامٌ غيرُ معلولة، وجاز له- سبحانه- أن يفعل ما يريد‏:‏ يَصِلُ مَنْ شاء وَيَرُدُّ مَنْ شاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

الإنزالُ المباركُ أن يكون بالله ولله، وعلى شهودِ الله من غير غفلة عن الله، ولا مخالفاً لأمر الله‏.‏

ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القُرْب عليك، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلِّي حتى لا تبقى عين ولا أثر فإذا تَمَّ هذا ودام هذا فهو نزولٌ بساحات الحقيقة مبارك؛ لأنك بلا أنت *** بكليتك من غير بقيةٍ أو أَثرٍ عنك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

تتابعت القرونُ على طريقةٍ واحدةٍ في التكذيب، وغرّهم طولُ الامهالِ، وما مكنَّهم من رَفَه العيش وخَفْض الدّعَةِ، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم، ولم يَسْمُ لهم طَرَفٌ إلى مَنْ فوقهم في الحال والمنزلة، فقالوا‏:‏ أنؤمن بمن يتردد في الأسواق، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق‏؟‏ ولئن أطعنا بشراً مثلنا لَسَلَكنا سبيلَ الغَيِّ، وتَنَكَبْنا سُنَّةَ الرُّشْدِ‏.‏ فأجراهم اللُّه في الإهانةِ وإحلال العقوبة بهم مجرًى واحداً وأذاقهم عذابَ الخزْي‏.‏ وأعظمُ ما دَاخَلَهم من الشُّبهةِ والاستبعادِ أمرْ الحشْرِ والنشر، ولم يرتقوا للعلم بأنَّ الإعادة كالابتداء في الجواز وعدم الاستحالة، والله يهدي مَنْ يشاء ويُغْوِي مَنْ يريد‏.‏

ثم إن الله في هذه السورة ذَكَرَ قصةَ موسى عليه السلام، ثم بعده قصةَ عيسى عليه السلام، وخَصَّ كُلَّ واحدٍ منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

كلوا من الطيبات مما أَحلَ لكم وأباح، وما هو محكوم بأنَّه طيب، على شريطة مطابقة رُخصَهِ الشريعة- مما كان حلالاً في وقتهم، مطلقاً مأذوناً لهم فيه‏.‏ وكذلك أعمالهم الصالحة ما كان موافقة لأمر الله في زمانهم بفنون طاعاتهم في أفعالهم وعقائدهم وأحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

معبودكم واحدٌ ونبيُّكم واحد، وشرعكم واحد؛ فأنتم في الأصول شرعٌ سواءٌ، فلا تسلكوا ثِنْيَاتِ الطرق فتطيحوا في أودية الضلالة‏.‏ وعليكم باتباع سَلَفِكم، واحذروا موافقة ابتداع خَلَفكم‏.‏

‏{‏وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ خافوا مخافة أمري، وأعرفوا عظيمَ قَدْرِي، واحفظوا في جريان التقدير سِرِّي، واستديموا بقلوبكم ذكري، تجدوا في مآلكم غفري، وتَحْظَوْا بجميلِ بِرِّي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

فمستقيم على حَقِّه، وتائه في غَيِّه، ومُصِرُّ على عصيانه وفِسْقِه، ومقيمٌ على إحسانه وصِدْقه، كُلٌّ مربوطٌ بحدِّه، موقوفٌ بما قُسِمَ له في البداية من شأنه كلٌّ ينتحل طريقَته ويَدَّعى بحسن طريقته حقيقةً، وعد صحوِ سماءِ قلوبِ أربابِ التوحيد لا غُبارَ في الطريق؛ وهم على يقين معارفهم؛ فلا رَيْبَ يتخالجهم ولا شُبْهة‏.‏

وأهل الباطل في عَمَى جَهْلِهم، وغبارِ جُحْدِهم، وظلمة تقليدهم، ومحنة شكهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

إنَّ مدةَ أَخْذِهم لقريبةٌ، والعقوبة عليهم- إذا أُخِذُوا- لشديدة، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

هذا في شأن أصحاب الاستدراج من مَكْرِ الحقِّ بهم بتلبيس المنهاج؛ رَأَوا سَرَاباً فَظَنْوه شراباً، ودَس لهم في شهْدِهم صاباً فتوهموه عِذَاباً، وحين لقوا عَذَاباً عَلِموا أنهم لم يفعلوا صواباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

أمارةُ الإشفاق من الخشيةِ إطراقُ السريرة في حال الوقوف بين يدي الله بشواهد الأدب، ومحاذرةُ بَغَتَاتِ الطَّرْد، لا يستقر بهم قرارٌ لِمَا داخَلَهم من الرُّعْبِ، واستولى عليهم من سلطانِ الهيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

تلك الآياتُ مختلفةٌ؛ فمنها ما يُكاشَفون في الأأقطار من اختلاف الأدوار، وما فيه الناس من فنون الهِممَ وصنوفِ المُنى والإرادات، فإذا آمن من العبدُ بها، واعتبر بها اقتنع بما يرى نَفْسَه مطالَباً به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يَذَرون جَليَّ الشِّرْكِ وخَفِيَّة، والشِّرْكُ الخفيُّ ملاحظةُ الخَلْق في أوان الطاعات، والاستبشارُ بمَدْحِ الخَلْقِ وقبولهم، والانكسارُ والذبولُ عند انقطاع رؤية الخلْق‏.‏

ويقال الشِّرْكُ الخفيُّ إحالةُ النادر من الحالات- في المَسَارِّ والمَضَارِّ- على الأسباب كقول القائل‏:‏ «لولا دعاءُ أبيك لهلكت» و«لولا هِمَّةُ فلان لما أفلحت» *** وأمثال هذا؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنَُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وكذلك تَوَهُّمْ حصولِ الشِّفَاءِ من شُرْبِ الدواء‏.‏

فإذا أيقن العبدُ بِسرِّه ألا شيء من الحدثان، ولم يتوهم ذلك، وأيقن ألاَّ شيء إلا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشِّرْكِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يُخْلِصُو في الطاعات من غير إلمام بتقصيرٍ، أو تعريحٍ في أوطانِ الكسل، أو جنوحٍ إلى الاسترواح بالرُّخَص‏.‏ ثم يخافون كأنّهم أَلمُّوا بالفواحش، ويلاحظون أحوالَهم بعين الاستصغار والاستحقار، ويخافون بغتاتِ التقدير، وقضايا السخط، وكما قيل‏:‏

يتجنَّبُ الآثامَ ثم يخافها *** فكأنَّما حَسَنَاتُه آثامُ

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

مُسارعٌ بِقَدَمِه من حيث الطاعات، ومُسارعٌ بِهِمَمِه من حيث المواصلات، ومُسارعٌ بِنَدَمِه من حيث تجرُّع الحسرات، والكلُّ مصيبٌ، وللكلِّ من إقباله- على ما يليق بحاله- نصيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

المطالباتُ في الشريعةِ مَضْمَّنَةٌ بالسهولة، وأمَّا مطالباتُ الحقيقة فكما قالوا‏:‏ ليس إلاَّ بَذْل الروح، ولهذا فهم لا تشغلهم التُّرَّهَات‏.‏ قال لأهل الرخص والمستضعفين في الحال‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، وأمَّا أربابُ الحقائق؛ فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 15‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏‏:‏ ولولا غفلتُهم عن مواضع الحقيقة لما خوَّفهم بكتابة المَلَكِ، ولكن غفلوا عن شهود الحق فخوَّفهم باطلاعِ الملائكة، وكتابَتِهم عليهم أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

لا يَصْلُحُ لهذا الشأن إلا من كان فارغاً من جميع الأعمال، ولا شغلَ له في الدنيا والآخرة، فأمَّا مَنْ له شُغْلٌ بدنياه، أو على قلبِه حديثُ عقباه، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه، وفي الخبر «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»‏.‏

ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم، وأرباب العُقبى مشغولون بعُقباهم، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم؛ وإن الذي له في الدنيا والآخرة غير مولاه- حين الفراغ- عزيز؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 55‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

إنه- سبحانه- يُمْهِلُ ولكنَّه لا يُهْمِلُ؛ فإذا أَخَذَ فَبَطْشُه شديدٌ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطَشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ *** فإذا أَخَذَ أصجابُ الكبائرِ- حين يحلْ بهم الانتقامُ- في الجوابِ رُدُّا في الهوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

فإذا انفصل من الغيبِ حُكْمٌ فلا مَرَدَّ لتقديره‏.‏

ويقال للجناية سراية؛ فإذا أمسك الجاني عن الجناية فلا ينفعه ذلك ما لم يمض حكم السراية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ذَكَرَ هذا من باب إملاءِ العُذْرِ، وإلزام الحجة، والقطع بألا ينفعَ- الآنَ- الجزعُ ولا يُسْمَعُ العُذْرُ، والملوكُ إذا أبرموا حُكْماً، فالاستغاثةُ غيرُ مُؤَثِّرَةٍ في الحاصل منهم، قال قائلهم‏:‏

إذا انصرفَتْ نفسي عن الشيء لم تكد *** إليه بوجهٍ- آخِرَ الدهرِ- تُقْبِلُ

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

يعني أنهم لو أنعموا النظر، وسلطوا على أحوالهم صائبَ الفِكْر لاستبصروا في الحال، ولانتفى عن قلوبهم الاستعجامُ والإشكال، ولكنهم استوطنوا مركبَ الكسل، وعرَّجُوا في أوطان التغافل، فتعودوا الجهل، وأيِسوا من الاستبصار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

ذُهِلُوا عن التحقيق فَتَطَوَّحُوا في أودية المغاليط، وتَرجَّمَتْ بهم الظنونُ الخاطئةُ، ومَلَكَتْهُم كواذبُ التقديرات، فأخبر اللَّهُ ‏(‏الرسول‏)‏ عن أحوالهم؛ فمرةً قابلوه بالتكذيب، ومرةً رَمَوْه بالسِّحرِ، ومرةً عابوه بتعاطيه أفعالَ العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب، ومرةً قَدَحُوا فيه بما هو فيه من الفقر وقِلَّةِ ذات اليد *** فأخبر اللَّهُ عن تَشَتُّتِ أحوالِهِم، وتَقَسُّم أفكارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

وذلك لتضادِّ مُنَاهم وأهوائِهم؛ إذ هم متشاكسون في السؤال والمراد، وتحصيلُ ذلك مُحَالٌ تقديرُه في الوجود‏.‏ فَبَيَّنَ الله- سبحانه- أنه لو أجرى حُكْمَه على وفق مرادِهم لاختلَّ أمرُ السمواتِ والأرض، ولَخَرَجَ عن حَدِّ الإحكام والإتقان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

أي إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرِ، ولا بإعطاءِ عِوَضٍ حتى تكونَ بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة‏.‏ أم لعلَّكَ تريد أن يَعْقِدُوا لك الرياسة‏.‏ ثم قال‏:‏ والذي لَكَ من الله سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يُغْنيك عن التصدِّي لنَيْل ما يكون في حصوله منهم مطمع‏.‏ وهذا كان سُنَّة الأنبياء والمرسلين؛ عملوا لله ولم يطلبوا أجراً من غير الله‏.‏ والعلماءُ وَرَثَةُ الأنبياء فسبيلُهم التوقِّي عن التَّدَنُّسِ بالأطماع، والأكل بالدِّين فإنه رِياءٌ مُضِرٌّ بالإيمان؛ فإذا كان العملُ لله فالأجرُ مُنْتَظَرٌ من الله، وهو موعودٌ من قِبَل الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏‏}‏

الصراطُ المستقيم شُهودُ الربِّ بنعت الانفراد في جميع الأشياء، وفي الإيجاد والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراهِ الحُكْم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

زاغوا عن الحجة المُثْلى بقلوبهم فوقعوا في جحيم الفرقة، وستميل وتزل أقدامُهم غداً عن الصراط، فيقعون في نار الحرقة، فهم ناكبون في دنياهم، وعقباهم

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

أخبر عن صادق علمه بهم، وذلك صادر عن سابق حُكْمِه فيهم، فقال‏:‏ لو كشفنا عنهم في الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان في المآل، ولقد عَلِمَ أنهم سيكفرون، وحَكَمَ عليهم بأنهم يكفرون؛ إذ لا يجوز أن يكون حُكْمُه فيهم بخلافِ عِلْمه بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

أذقناهم مقدماتِ العذابِ دونَ شدائِده *** تنبيهاً لهم، فما انتبهوا وما انزجروا ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرعِ والابتهالِ لأسرع اللَّهُ زواله عنهم، ولكنهم أصرُّوا على باطلهم، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمراً كان مفعولاَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

لما أحللنا بهم أشدَّ العقوبات ضَعُفُوا عن تَحمُّلِها، وأُخِذُوا بغتةً، ولم ينفعهم ما قدَّموا من الابتهال، فَيَئِسُوا عن الإجابة، وعرَّجوا في أوطان القنوط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

ذكر عظيمَ مِنَّتِهِ عليهم بأن خَلَقَ لهم هذه الأعضاء، واطالَبَهم بالشكر عليها‏.‏

وشُكْرُهُمْ عليها استعمالُها في طاعته؛ فَشُكْرُ السَّمْعِ ألا تسمعَ إلا بالله ولله، وشُكْرُ البَصَر ألا تنظرَ إلا بالله ولله، وشكرُ القلب ألاَّ تشهدَ غيرَ الله، وألاَّ تحبَّ به غيرَ الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الابتداءُ للحادثاتِ من الله بدءاً، والانتهاءُ إليه عوداً، والتوحيد ينتظم هذه المعاني؛ فتعرف أنَّ الحادثات بالله ظهوراً، ولله مِلْكاً، ومن الله ابتداءً، وإلى الله انتهاءً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

يُحْيي لنفوسَ ويُميتُهَا والمعنى في ذلك معلومٌ، وكذلك يحيي القلوبَ ويميتها؛ فموتُ القلب بالكُفْرِ والجُحد، وحياةُ القلبِ بالإيمان والتوحيد، وكما أنَّ للقلوبِ حياةً وموتاً فكذلك للأوقات موتٌ وحياةٌ، فحياةُ الأوقاتِ بيُمْنِ إقباله، وموتُ الأوقاتِ بمحنة إعراضه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

أموت إذا ذكرتك ثم أحيا *** فكم أحيا عليك وكم أموت

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ اخْتِلاَفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏؛ فليس كلُّ اختلافها في ضيائها وظلمتها، وطولها وقِصَرِها، بل ليالي المحبين تختلف في الطول والقِصَر، وفي الروح والنوح؛ فَمِنَ الليالي ما هو أضوأ من اللآلي، ومن النهار ما هو أشدُّ من الحنادس، يقول قائلهم‏:‏ لياليَّ بعد الظاعنين شُكُولُ‏.‏

ويقول قائلهم‏:‏

وكَمْ لظلامِ الليلِ عِنْدِيَ من يدٍ *** تُخَبِّرُ أَنَّ المانويةَ تَكْذِبُ

وقريب من هذا المعنى قالوا‏:‏

ليالي وصالٍ قد مَضَيْن كأنَّها *** لآلي عقودٍ في نحور الكواعبِ

وأيامُ هَجْرٍ أعقبتها كأنَّها *** بياضُ مشيبٍ في سواد الذوائبِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

سلكوا في التكذيب مَسْلَكَ سَلَفهم، وأسرفوا في العناد مثل سَرَفِهم، فأصابهم ما أصاب الأولين من هلاكهم وَتَلَفِهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا‏}‏ لمَّا طال عليهم وقتُ الحشر، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنَّشْر زَادَ ذلك في ارتيابهم، وجعلوا ذلك حُجَّةً في لَبْسِهم واضطرابهم، فقالوا‏:‏ لقد وُعِدْنا مثل هذا نحن وآباؤنا، ثم لم يكن لذلك تحقيق؛ فما نحن إلاَّ أمثالُهم‏.‏ فاحتجَّ اللَّهُ عليهم في جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخَلْق‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 89‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

أمَرَه- عليه السلام- أَنْ يُلَوِّنَ عليهم الأسئلة، وعَقَّبَ كُلُّ واحدٍ من ذلك- مُخْبِراً عنهم- أنهم سيقولون‏:‏ لله، ثم لم يَكْتَفِ منهم بقالتهم تلك، بل عاتَبَهم على تجرُّدِ قولهم عن التَّذَكُّر والفَهْمِ والعلم، تنبيهاً على أن القول- وإن كان في نفسه صدقاً- فلم تكن فيه غنية؛ إذ لم يصدر عن علمٍ ويقينٍ‏.‏

ثم نَبَّهَهُمْ على كمالِ قدرته، وأنَّ القدرة القديمة إذا تعلَّقت بمقدورٍ له ضدٌّ تعلَّقَت بضدِّه، ويتعلق بمثل متعلقه‏.‏

والعَجَبُ من اعترافهم بكمال أوصاف جلاله، ثم تجويزهم عبادَة الأصنامِ التي هي جماداتٌ لا تحيا، ولا تضرُّ ولا تنفع‏.‏

ويقال أولاً قال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ثم قال بعده‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ فَقَدَّمَ التذكُرَ على التقوى؛ لأنهم بتذكرهم يَصلُون إلى المغفرة، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاءُ مخالفته‏.‏ ثم بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏؛ أي بعد وضوح الحجة فأيُّ شَكِّ بَقِيَ حتى تنسبوه إلى السِّحْرِ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

بَيَّنَ أنهم أصرُّوا على جحودهم، وأقاموا على عُتُوِّهم ونُبُوِّهم، وبعد أن أُزيحت العِللُ فلات حين عذر، وليس لتجويز المُسَاهَلَةِ موجِبٌ بَتّاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏‏.‏

اتخاذ الأولاد لا يصحُّ كاتخاذ الشريك، والأمران جميعاً داخلان في حدِّ الاستحالة، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة في القَدْرِ، والصمدية تتقدَّسُ عن جواز أن يكون له مِثْلٌ أو جنس‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

كُلُّ أمرٍ نِيطَ باثنين فقد انتفى عنه النظامُ وصحةُ الترتيب، وأدلة التمانع مذكورة في مسائل الأصول‏.‏

‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ‏}‏ تقديساً له، وتنزيهاً عماوصفوه به ‏{‏عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ تَنَزَّهَ عن أوهامِ مَنْ أشرك، وظنونِ مَنْ أفِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

يقول إن عجلت لهم ما تتوعدهم به فلا تجعلني في جملتهم، ولا توصل إليَّ سوءاً مثلما توصل إليهم من عقوبتهم‏.‏ وفي هذا دليلٌ على أنَّ للحقِّ أن يفعلَ ما يريد، ولو عذَّبَ البريء لم يكن ذلك منه ظلماً ولا قبيحاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

تدل على صحة قدرته على خلاف ما عَلِمَ؛ فإنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك، فَصَحَّتْ القدرةُ على خلاف المعلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

الهمزة في ‏{‏أحسن‏}‏ يجوز ألا تكون للمبالغة؛ ويكون المعنى ادفع بالحسن السيئة‏.‏ أو أن تكون للمبالغة؛ فتكون المكافأة جائزةً والعفوُ عنها- في الحُسْنِ- أشدَّ مبالغةً‏.‏

ويقال ادفع الجفاءَ بالوفاء، وجُرْمَ أهل العصيانِ بحكم الإحسان‏.‏

ويقال ادفع ما هو حظك إذا حصل ما هو حق له‏.‏

ويقال اسلك مسلكَ الكَرَم ولا تجنح إلى طريقة المكافأة‏.‏

ويقال الأحسنُ ما أشار إليه القَلبُ، والسيئةُ ما تدعو إليه النَّفْسُ‏.‏

ويقال الأحسنُ ما كان بإشارة الحقيقة، والسيئةُ ما كان بوساوس الشيطان‏.‏

ويقال الأحسنُ نورُ الحقائقِ، والسيئةُ ظلمةُ الخلائق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

الاستعاذة- على الحقيقة- تكون بالله من الله كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعوذ بك منك» ولكنه- سبحانه- أراد أن نَعْبُدَه بالاستعاذة به من الشيطان، بل مِنْ كلِّ ما هو مُسَلَّطٌ علينا، والحقُّ عندئذٍ يوصل إلينا مضرتنا بجري العادة‏.‏ وإلاَّ *** فلو كان بالشيطان من إغواء الخَلْقِ شيءٌ لكان يُمْسِكُ على الهدايةِ نَفْسَه‏!‏ فَمَنْ عَجَزَ عن أنْ يحفَظَ نَفْسَه كان عن إغواءِ غيرِه أشَدَّ عجزاًَ، وأنشدوا‏:‏

جحودي فيه تلبيس *** وعقلي فيك تهويس

فمَنْ آدم إلاَّكَ *** ومن في ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إبليس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

إذ أخذ البلاءُ بخناقهم، واستمكن الضُّرُّ من أحوالهم، وعلموا ألا محيصَ ولا محيدَ أخذوا في التضرُّع والاستكانة، ودون ما يرومون خرطُ القتادِ‏!‏ ويقال لهم هلاّ كان عُشْرُ عشرِ هذا قبلَ هذا‏؟‏ ولقد قيل‏:‏

قلتُ للنفس‏:‏ إنْ أرَدتِ رجوعاً *** فارجعي قبل أنْ يُسدَّ الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

يومئذٍ لا تنفع الأنسابُ وتنقطعُ الأسبابُ، ولا ينفع النّدم، وسيلقى كلٌّ غِبَّ ما اجترم؛ فَمَنْ ثَقُلتْ بالخيرات موازينُه لاحَ عليه تزيينُه‏.‏ ومن ظهرَ ما يشينه فله من البلاء فنونه؛ تلفح وجوههم النار، وتلمح من شواهدهم الآثار، ويتوجه عليهم الحِجاج، فلا جواب لهم يُسْمَع، ولا عُذْر منهم يُقْبل، ولا عذاب عنهم يُرْفَع ولا عقابُ عنهم يُقطَع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

نطقوا بالحقِّ‏.‏ *** ولكن في يومٍ لا ينفع فيه الإقرار، ولا يُقْبَلُ الاعتذار، ثم يقولون‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

والحقُّ يقول‏:‏ لو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه‏.‏ عِلمَ أنّ ردَّهم إلى الدنيا لا يكون، ولكنه عِلم أنّه لو كان فكيف كان يكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

عند ذلك يتمُّ عليهم البلاء، وشتدُّ عليهم العناء، لأنهم ما داموا يذكرون الله لم يحصل الفراق بالكلية، فإذا حِيلَ بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة، وهو أحدُ ما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «أنهم ينصرفون بعد ذلك فإذا لهم عواءٌ كعواء الذئب»‏.‏ وبعض الناس تغار من أحوالهم؛ لأن الحق يقول لهم‏:‏ ‏{‏اخْسَئُوا فِيهَا‏}‏، فيقولون‏:‏ يا ليتنا يقول لنا‏!‏ أليس هو يخاطبنا بذلك‏؟‏‏!‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ قَدْحُ الأحباب ألذُّ من مَدْح الأجانب، وينشدون في هذا المعنى‏:‏

أتاني عنكِ سَبُّكِ لي‏.‏‏.‏ فسُبِّي *** أليس جرى بِفِيكِ اسمي‏؟‏ فَحسْبِي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

الحقُّ- سبحانه- ينتقم من أعدائه بما يطيِّبُ به قلوبَ أوليائه، وتلك خصومةُ الحق، فيقول‏:‏ قد كان قومٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وثناي، ويتصفون بمدحي وإطرائي، فاتخذتموهم سخرياً *** فأنا اليوم أُجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 114‏]‏

‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

عددُ سنين الأشياء- وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفي ويُرْبِي عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض؛ إن كانوا في الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه‏.‏ ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

العبثُ اللهو، واللَّعِبُ والاشتغالُ بما يُلْهِي عن الحقِّ، والله لم يأمر العبادَ بذلك، ولم يَدْعهُم إلى ذلك، ولم يندبهم إليه‏.‏

والعابثُ في فِعْلِهِ مَنْ فِعْلُه على غير حدِّ الاستقامة، ويكون هازلاً مُسْتَجْلِباً بفعله أحكامَ اللهوِ إلى نَفْسه، متمادياً في سهوه، مستلِذَّ التفرقةِ في قصده، وكلُّ هذا من صفات ذوي البشرية، والحقُّ- سبحانه مُنَزّهُ النّعَت عن هذه الجملة، فلا هو يفعل شيءٍ عابث، ولا بشيء منَ العَبَثَ آمِرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

الحقُّ- بنعوت جلاله- متوحِّدٌ، وفي عِزِّ آزاله وعلوِّ أوصافه متفرِّدٌ، فذاتُه حقٌّ، وصفاته حقٌّ، وقولُه صِدْقٌ، ولا يتوجَّه لمخلوق عليه حقٌ، وما يفعلهم من إحسان بعباده فليس شيء منها بمستحق‏.‏

‏{‏لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الْكَرِيمِ‏}‏‏:‏ ما تَجَمَّلَ بالعرشِ، ولكن تَعَزَّزَ العرشُ بأنَّهُ أضافه إلى نَفْسِه إضافة خصوصية‏.‏

والكريمُ الحَسْنُ، والكرمُ نَفْيُ الدناءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

حسبابهُ على الله في آجِلِه‏.‏ وعذابُه من الله له في عاجله، وهو الجهل الذي أودعَ قلبَه حتى رَضِيَ بأن يَعْبُدَ معه غيرَه‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ كلامٌ حاصلٌ من غير دليل عقل، ولا شهادة خبرٍ أو نقل، فما هو إلا إفك وبهتان، وقولٌ ليس يساعده برهان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

اغفرْ الذنوبَ، واسترْ العيوبَ، وأجْزِلْ الموهوب‏.‏ وارحمْ حتى لا تستولي علينا هواجمُ التفرقة ونوازل الخطوب‏.‏ والرحمةُ بالدعاء من صنوف النعمة، ويسمى الحاصل بالرحمة باسم الرحمة على وجه التوسع وحكم المجاز‏.‏

سورة النور

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا‏}‏‏.‏

سورة هي شَرَفٌ لك- يا محمد- أنزلناها لأن أقلَّ ما ورد به التحدي سورة؛ فكلُّ سورةٍ شَرَفٌ له عليه السلام لأنها له معجزة، بيَّناها وشرعنا فيها من الحلال والحرام، وبيَّنا فيها من الأحكام لكم به اهتداء، وللقلوب من غمرة الاستعجام شفاء‏.‏

أنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ ودلائلَ واضحاتٍ، وحُجَجاً لائحات؛ لتتذكروا تلك الآيات، وتعتبروا بما فيها من البراهين والبينات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ‏}‏‏.‏

والعقوبة على الزنا شديدة أكيدة، ولكن جعل إثباتَ أمره وتقريرَ حُكْمِه والقطعَ بكونه على أكثر الناسِ خصلةً عسيرةً بعيدةً؛ إذ لا تُقْبَلُ الشهادةُ عليه حتى يقولُ‏:‏ رأيتُ ذلك منه في ذلك منها‏!‏ وذلك أمرٌ ليس بالهيِّن، فسبحان مَنْ أَعْظَمَ لاعقوبةَ على تلك الفَعْلَةِ الفحشاء، ثم جعل الأمر في إثباتها بغاية الكدِّ والعناء‏!‏ وحين اعترف واحدٌ له بذلك قال له صلى الله عليه السلام‏:‏ «لعلَّك قَبَّلْتَ *** لعلَّك لامَسْتَ» وقال لبعض أصحابه‏.‏ «استنكهوه» وكلُّ ذلك رَوْماً لِدَرْءِ لاحدِّ عنه، إلى أن ألحَّ وأصرَّ على الاعتراف‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذُكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ‏}‏‏.‏

ما يأمر به الحقُّ فالواجب مقابلته بالسمع والطوع‏.‏

والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود، فأمّا ما يقتضيه الطَّبعُ والعادة والسوء فمذمومٌ غيرُ محمود‏.‏ ونهى عن الرحمة على من خَرَقَ الشرعَ، وتَرَكَ الأمرَ، وأساءَ الأدبَ، وانتصبَ في مواطنِ المخالفة‏.‏

ويقال نهانا عن الرحمة بهم، وهو يرحمهم بحيث لا يمحو عنهم- بتلك الفَعْلة الفحشاء- رقم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ولولا رحمته لما استبقى عليه حُلّة إيمانه مع قبيح جُرْمِهِ وعصيانه‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابهُما طَآئِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنينَ‏}‏‏.‏

أي ليَكُونَ عليهم أشَدَّ، وليكون تخويفاً لمتعاطي ذلك الفعل، ثم من حقِّ الذين يشهدون ذلك الموضعَ أن يتذكروا عظيمَ نعمةِ الله عليهم أنهم لم يفعلوا مِثْله، وكيف عَصَمَهم من ذلك‏.‏ وإن جرى منهم شيءٌ من ذلك يذكروا عظيمَ نعَمةِ الله عليهم؛ كيف سَتَرَ عليهم ولم يفضحهم، ولم يُقِمْهم في الموضع الذي أقام فيه هذا المُبْتَلَى به وسبيلُ من يشهد ذلك الموضعَ ألا يُعَيِّرَ صاحبَه بذلك، وألا ينسى حُكْمَ الله تعالى في إقدامه على جُرْمِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الناسُ أشكالٌ؛ فكلُّ نظيرٍ مع شكله، وكلُّ يُساكِنُ شكله، وأنشدوا‏:‏

عن المرء لا تسأل وَسلْ عن قرينه *** فكلُّ قرينٍ بالمُقَارَنِ يقتدي

أهلُ الفسادِ افسادُ يجمعهم- وإنْ تَبَاعَدَ مزارُهم وأهل السدادِ السدادُ يجمعهم- وإن تناءت ديارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

لئلا يستبيحوا أعراضَ المسلمين، ولئلا يهتكوا أستارَ الناس أمَرَ بتأديبِهم، وإقامةِ الحدِّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء‏.‏

ثم بالَغَ في عدد الشهود، وألاَّ تُقْبَلَ تلك الشهادةُ إلاَّ بالتضرع التام، ثم أكمله بقوله ‏{‏وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً‏}‏‏.‏ وفي الخبر المسند قوله عليه السلام‏:‏ «مَنْ أتى منكم بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنَّ مَنْ أبدى لنا صفحته، أقمنا عليه حدَّ الله»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

جَعَلَ من شرطِ قبولِ شهادِتِهِ صِحَّةَ توبته، وجعل علامةَ صحةِ توبته إصلاحَه، فقال ‏{‏وَأَصْلَحُوا‏}‏، وهو أن تأتي على توبته مدةٌ تنتشر فيها بالصلاح صفتُه، كما اشتَهَرَتْ بِهَتْكِ أعراضِ المسلمين قالتهُ‏.‏ *** كلُّ هذا تشديداً لمن يحفظ على المسلمين ظاهر صلاحه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

لمّا ضاق الأمرُ على من رأى أهلَه على فاحشة، إذ أن في ذلك قبول نسبِ غير صحيح- فقد نهى الشرعُ عن استلحاقه ولداً مِنْ غيره‏.‏ وكان أمراً محظوراً هتكُ عِرْضِ المرأة والشهادة وعليها بالفحشاء، غذ يجوز أن يكون الأمر في المُعيب؛ أي بخلاف ما يدَّعيه الزوجُ‏.‏ ولأن أمرٌ ذو خَطَرٍ شَرَعَ اللَّهُ حُكْمَ اللعان ليكون للخصومة قاطعاً، وللمُقْدِم على الفاحشة زاجراً، ففي مثل هذه الأحوال عنها خَرْجَةٌ‏.‏ ولولا أنَّ الله على كل شيءٍ قدير وإلا ففي عادة الناس‏.‏‏.‏ مَنِ الي يهتدي لِمِثْلِ هذا الحكم لولا تعريفٌ سماوي وأمر نبوي، من الوحي مُتَلَقَّاهُ، ومنِ اللَّهِ مُبْتَداهُ وإليه منتهاهُ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

لبقيتم في هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذه قصة عائشة رضي الله عنها، وما كان من حديث الإفك‏.‏

بَيَّنَ اللَّهُ- سبحانه- أنه لا يُخْلِي أحداً من المحنة والبلاء، في المحبة والولاء؛ فالامتحان من أقوى أركانه وأعظم برهانه وأصدق بيانه، كذلك قال صلى الله عليه وسلم «يُمْتَحَنُ الرجلُ على قَدْرِ دينه»، وقال‏:‏ «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»‏.‏

ويقال إن الله- سبحانه- غيورٌ على قلوب خواصِّ عباده، فإذا حصلت ماسكنةُ بعض إلى بعضٍ يُجْرِي الله ما يَرُدُّ كُلَّ واحدٍ منهم عن صاحبه، ويردُّه إلى نفسه، وأنشدوا‏:‏

إذا عَلِقَت روحي بشيءٍ، تعلَّقَتْ *** به غِيَرُ الأيام كي تسْلُبَنِّيَا

وإن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمَّا قيل له‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ «عائشة» فساكنها‏.‏

وفي بعض الأخبار أن عائشة قالت‏:‏ «يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك» *** فأجرى اللهُ حديثَ الإفك حتى ردَّ قلبَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها إلى الله، وردَّ قلب عائشة عنه إلى الله؛ حيث قال- لما ظَهَرَتْ براءةُ ساحتها‏:‏ بحمد الله لا بحمدك كشف الله عنها به تلك المحنة، وأزال الشكَّ، وأظهر صِدْقَها وبراءة ساحتها‏.‏

ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اتقوا فراسةَ المؤمن فإنَّ المؤمن ينظر بنور الله» فإذا كانت الفراسةُ صفة المؤمن فأوْلى الناس بالفراسةِ كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تظهر له بحكم الفراسة براءةُ ساحتها، حتى كان يقول‏:‏ «إنْ فَعَلْتِ فتوبي»‏.‏

والسبب فيه أنه في أوقات البلاء يَسُدُّ اللَّهُ على أوليائه عيونَ الفراسةِ إكمالاً للبلاء‏.‏ وكذلك إبراهيم- عليه السلام- لم يميِّز ولم يعرف الملائكة حيث قَدَّمَ إليها العِجْلَ الحنيذ، وتوهمهم أضيافاً‏.‏ ولوط عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة إلى أن أخبروه أنهم ملائكة‏.‏

ويقال إنه كان- صلى الله عليه وسلم- يقول لعائشة‏:‏ «يا حُمَيرَاء»

فلما كان زمان الإفك، وأرسلها إلى بيت أبويها، واستوحش الأبوان معها، ومَرِضَتْ عائشةُ- رضي الله عنها- من الحزن والوجد، كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى واحداً من دار أبي بكر يقول‏:‏

«كيف بيتكم‏؟‏ لا عائشة ولا حميراء فما كان يطيب بالتغافل عنها، فتعبيره- إن لم يُفهَمْ بالتصريح- فيُفْقَهُ بالتلويح‏.‏

ثم إنه- سبحانه- قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ‏}‏‏:‏ فبمقدار جُرْمِهم احتمل كلُّ واحدٍ ما يخصُّه من الوِزْر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وبَسْطِ ألسنتهم بالسوء عنها، وتَرْكِهم الإعراض عن حُرَم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ وهلاَّ جاءوا على ما قالوا بالشهداء‏؟‏ وإذا لم يجدوا ذلك مَهَلاَّ سكتُوا عن بَسْطِ اللسان‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لأنه أخبر أن جُرْمَهم- وإنْ كان عظيماً- فإنه في عِلْم اللَّهِ عنهم غير مُؤَثِّر، ولولا أن الله- سبحانه- ينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه فلعلَّه لم يذكُرْ هذه المبالغة في أمرهم؛ فإنَّ الذي يقوله الأجانبُ والكفارُ في وصف الحق- سبحانه- بما يستحيل وجوده وكونه يوفي ويُرْبي على كل سوء- ثم لا يقطع عنهم أرزاقهم، ولا يمنع عنهم أرفاقهم، ولكن ما تتعلَّق به حقوقُ أوليائه- لا سيما حق الرسول صلى الله عليه وسلم- فذاك عظيمٌ عند الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

بالَغَ في الشكاية منهم لِمَا أقدموا عليه بما تأذَّى به قلبُ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم- وقلوبُ جميع المخلصين من المسلمين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَنِيَّاً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏‏:‏ وسبيلُ المؤمنِ ألآ يستصغرَ في الوفاق طاعةً، ولا يستصغرَ في الخلافِ زَلَّةً، فإنَّ تعظيمَ الأمْرِ تعظيمٌ للآمِرِ‏.‏ وأهل التحقيق لا ينظرون ما ذلك الفعل ولكن ينظرون مَنْ الآمرُ به‏.‏

ويقال‏:‏ يَسيرُ الزَّلَّةِ- يلاحِظُها العبدُ بعين الاستحقار- فتُحْبِط كثيراً من الأحوال، وتكدِّر كثيراً من صافي المشارب‏.‏

واليسير من الطاعة- ربما يَسْتَقِلُّها العبدُ- ثم فيها نجاتُه ونجاةُ عالَمٍ معه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

استماعُ الغيبةِ نوعٌ من الغيبة، بل مستمِعُ الغيبة شَرُّ المغتابين؛ إذ بسماعه يَتِمُّ قَصْدُ صاحِبه‏.‏ وإذا سمِع المؤمنُ ما هو سوءُ قالةٍ في المسلمين- مما لا صِحَّةَ له في التحقيق- فالواجبُ الردُّ على قائله، ولا يكفي في ذلك السكوتُ دون النكير، ويجب ردُّ قائله بأحسنِ نصيحةٍ، وأدقِّ موعظةٍ، ونوع تَشَاغُلٍ عن إظهار المشاركة له فيما يستطيب من نَشْرِه من اخجالٍ لقائله موحشٍ، فإن أبى إلا انهماكاً فيما يقول فيرد عليه بما أمكن؛ لأنه إن لم يسْتَحِ قائلهُ من قوله فلا ينبغي أن يستحيَ المستمعُ من الرَّدِّ عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يتعلَّق هذا بأنَّ مَنْ بَسَطَ لسانَه في عائشة- رضي الله عنها- بعد ذلك لم يكن مؤمناً لظاهر هذه الآية، ولعمري قائلُ ذلك مرتكبُ كبيرةٍ ولكن لا يخرج عن الإيمان بذلك؛ أي ينبغي للمؤمن ألا يتكلم في هذا، وهذا كما يقول القائل‏:‏ «إذا كُنْتَ أخي فواسِني عند شِدَّتي؛ فإنْ لم تواسِني لم تخرج عن الأُخوَّةِ بذلك» *** ومعنى هذا القول أنَّه ينبغي للأخ أن يواسِيَ أخاه في حال عَثْرَتِه، وتَرْكُ ذلك لا يُبْطِلُ النّسبَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

هؤلاء في استحقاق الذمِّ أقبحُ منزلةً، وأشدّ وِزْراً حيث أحبوا افتضاح المسلمين، ومن أركان الدين مظاهرةُ المسلمين، وإعانةُ أولي الِّدين، وإرادةُ الخير لكافة المؤمنين‏.‏ والذي يودُّ فتنةً للمسلمين فهو شرُّ الخَلْق، واللَّهُ لا يرضى منه بحاله، ولا يؤهله لمنالِ خلاصة التوحيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

كرَّر قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ لِيُبَيِّنَ للجميع أنَّ حُسْنَ الدفعِ عنهم كان بفضله ورحمته وجميل المنح لهم، وكلٌّ يشهد حُسنَ المَنْحِ ويشكر عليه، وعزيزٌ عبدٌ يشهد حُسْنَ الدفع عنه فيحمده على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أّيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَآءِ وَالمُنْكَرِ‏}‏‏.‏

إذا تَنَقَى القلبُ عن الوساوس، وصفا عن الهواجس بَدَتْ فيه أنوارُ الخواطر، فإذا سما وقتُ العبدِ عن ذلك سَقَطَتْ الخواطر، وبدت فيه أحاديث الحق- سبحانه- كما قال في الخبر‏:‏ «لقد كان في الأمم محدَّثون فإن يكن في أمتي فَعُمَر» وإذا كان الحديث منه فذلك يكون تعريفاً يبقى مع العبد، ولا يكون فيه احتمالٌ ولا إشكال ولا إزعاج، وصاحبُه يجب أن يكون أميناً، غيرَ مُظْهِر لِسِرِّ ما كوشِفَ به‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزْكِّى مَن يَشَآءُ وَاللَهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ردَّهم في جميع أحوالهم إلى مشاهدة ما منَّ الحقُّ في قسمي النفع والدفع، وحالتي العسر واليسر، والزَّكى من الله، والنُّعمى من الله، والآلاءُ من الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِى القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُواْ‏}‏‏.‏

تحرَّك في أبي بكر عِرْقٌ من البشرية في وصف الانتقام من مسطح حين شرع وخَاضَ في ذلك الحديث، وكان في رفق أبي بكر فقطع عنه ذلك، وأخبر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- وانتظر الأمرَ من الله في ذلك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ‏}‏ فلم يرضَ من الصديق رضي الله عنه أن يتحرك فيه عِرْقٌ من الأحكام النفسية والمطالبات البشرية، فأعاد أبو بكر له ما كان يفعله في ماضي أيامه‏.‏ والإحسان إلى المحسن مكافأة، وإلى مَنْ لا يسيء ولا يحسن فضل، وإلى الجاني فُتُوَّةٌ وكَرَمٌ، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وما رضوا بالعفو عن كلِّ زَلةٍ *** حتى أنالوا كَفّه وأفادوا

قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا‏}‏‏:‏ العفو والصفح بمعنىّ، فكررهما تأكيداً‏.‏

ويقال العفو في الأفعال، والصفح في جنايات القلوب‏.‏

قوله جل ذكرْ‏:‏ ‏{‏أَلاَ تُّحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

هذا من كمال تلطفه- سبحانه‏.‏ وفي الخبر‏:‏ أن الله لما أنزل هذه الآية قال أبو بكر- رضي الله عنه‏:‏ «لي، أُحِبُّ يا رب» وعفا عن مسطح‏.‏ وإن الله يغادر في قلوب أوليائه كراهة من غيرهم، وأنَّى بالكراهة مِنَ الخَلْق والمتفرِّدُ بالإيجاد اللَّهُ‏؟‏‏!‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

رُبَّ رامٍ لي بأحجار الأذى *** لم أجِدْ بُدّاً من العطف عليه

فعسى أن يَطْلعَ اللَّهُ على *** قَدْحِ القومِ فيدْنيني إليه

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

بالغ في توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة في شأنهم‏.‏

ووَصَفَ المحصنات بالغفلة‏:‏ أي بالغفلة عما يُنْسَبْنَ إليه؛ فليس الوصف على جهة الذمِّ، ولكن لبيان تباعدهن عمَّا قيل فيهن‏.‏

واستحقاقُ القّذَفَةِ لِلْعَنةِ- في الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا من غير اختيار منهم، ثم كما تشهد بعض أعضائهم عليهم تشهد بعض أعضائهم لهم، فالعين كما تشهد‏:‏ أنه نَظَر بي، تشهد بأنه بكى بي *** وكذلك سائر الأعضاء‏.‏

ويقال شهادةُ الأعضاء في القيامة مُؤجَّلَةٌ، وشهادتها في المحبة اليومَ مُعَجَّلة؛ من صُفْرَةِ الوجهِ إذا بدا المحبوب، وشحوبِ اللون، ونحافةِ الجسم، وانسكابِ الدموع، وخفقان القلب، وغير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يجازيهم على قَدْر استحقاقهم؛ للعابدين بالجِنان والمثوبة على توفيةِ أعمالِهم، وللعارفين بالوصلة والقربة على تصفيةِ أحوالِهم؛ فهؤلاء لهم عُلوُّ الدرجات وهؤلاء لهم الأُنس بعزيز المشاهدات ودوام المناجاة‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ الْمُبِينُ‏}‏‏:‏ فتصيرُ المعرفةُ ضروريةً؛ فيجدون المُعافَاةَ من النَّظَر وتَذَكُّرهِ، ويستريح القلبُ من وَصْفِيْ تَرَدُّدِهِ وتَغَيُّرِه‏:‏ لاستغنائه ببصائره عن تَبَصُّرِهِ‏.‏

ويقال لا يشهدون غداً إلا الحقَّ؛ فهم قائمونَ بالحق للحق مع الحق، يبيِّن لهم أسرار التوحيد وحقائقه، ويكون القائم عنهم، والآخذَ لهم منهم من غير أَنْ يُرَدَّهم إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏الخَبِثَاتُ لِلْخَبِيِثِنَ وَالخَبِيْثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ‏}‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ‏}‏‏:‏ من الأعمال وهي المحظورات ‏{‏لِلْخَبِيثينَ‏}‏‏:‏ من الرجال المُؤْثِرين لها طوعاً، والذين يجنحون إلى مثل تلك الأعمال فهم لها، كلٌّ مربوطٌ بما يليق به؛ فالفِعْلُ لائقٌ بفاعله، والفاعلُ بِفِعْلِهِ في الطهارة والقذارة، والنفاسة والخساسة، والشرفِ والسِّرَفِ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الخَبِيثَاتُ‏}‏‏:‏ من الأحوال؛ وهي الحظوظُ والمُنَى والشهواتُ لأصحابها والساعين لها‏.‏ والسارعون لمثلها لها، غيرَ ممنوعٍ أحَدُهما من صاحبه، فالصفةُ للموصوف مُلازِمة، والموصوفُ لِصِفَتِهِ ملازِمٌ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الخَبِيثَاتُ‏}‏ من الأشياء للخبيثين من الأشخاص وهم الراضون بالمنازل السحيقة *** وإنَّ طعامَ الكلابِ الجِيَفُ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الخَبِيثَاتُ‏}‏‏:‏ من الأموال- وهي التي ليست بحلال- لمن بها رتبته، وعليها تعتكف هِمَّتُه؛ فالخبيثون من الرجال لا يميلون إلاَّ لمثل تلك الأموال، وتلك الأموال لا تساعد إلا مثلَ أولئك الرجال‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَالطَّيِبَاتُ لِلطَّيِبِنَ وَالطَّيِبُونَ لِلطَّيِبَاتِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالطَّيِّبَاتُ‏}‏‏:‏ من الأعمال هي الطاعات والقُرَبُ للطيبين والطيبون هم المُؤْثِرُون لها والساعون في تحصيلها‏.‏

‏{‏وَالطّيِّبَاتُ‏}‏‏:‏ من الأحوال- وهي تحقيق المواصلات بما هو حقُّ الحق، مُجَرَّداً عن الحظوظ ‏{‏لِلطَّيِبِينَ‏}‏ من الرجال، وهم الذين سَمَتْ هِمَّتهم عن كلِّ مُبْتَذَلٍ خسيس، ولهم نفوسٌ تسموا إلى المعالي، وهي التجمُّلُ بالتذلل لِمَنْ له العِزَّةُ‏.‏

ويقال الطيبات من الأموال- وهي التي لا نكيرَ للشرع عليها، ولا مِنَّةَ لمخلوقٍ فيها- للطيبين من الرجال، وهم الأحرار الذين تخلَّصوا من رِقِّ الكون‏.‏

ويقال ‏{‏وَالطَّيِبَاتُ‏}‏ من الأشخاص وهن المُبَرَّاتُ من وهج الخطر، والمتنقيات عن سفساف أخلاق البشرية، وعن التعريج في أوطان الشهوات- ‏{‏لِلطَّيِبِّينَ‏}‏ من الرجال الذين هم قائمون بحقِّ الحقِّ؛ لا يصحبون الخلْقَ إلا للتعفُّفِ، دون استجلابِ الشهوات‏.‏

‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

لهم مغفرةٌ في المآل، ورزقٌ كريم في الحال وهو ما ينالون من غير استشرافٍ، ولا تطلب طمعٍ، ولا ذلِّ مِنِّةِ ولا تقديم تعَبٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

الخواصُ لا يَرَونَ لأنفسِهم مِلْكاً يتفردون به؛ لا مِنَ الأموال المنقولة ولا من المساكنن التي تصلح لأن تكون مدخولة، فَمَنْ فاتحهم بشيءٍ منها فلا يكون منهم مَنْعٌ ولا زَجْرٌ، ولا حَجْبٌ لأحدٍ ولا حْظرٌ‏.‏‏.‏ هذا فيما نيط بهم‏.‏ أمَّا فيما ارتبط بغيرهم فلا يتعرَّضون لمن هي في أيديهم؛ لا باستشرافِ طَمَعِ، ولا بطريقِ سؤالٍ، ولا على وجهِ انبساطٍ‏.‏ فإن كان حكمُ الوقت يقتضي شيئاً من ذلك فالحقُّ يُلجِئ مَنْ في يده الشئ ليحمِلَه إليه بحكم التواضع والتقرُّب، والوليُّ يأخذ ذلك بنعتِ التعزُّزِ، ولا يليق معنى ذلك إلا بأحوال تلك القصة، وأنشد بعضهم في هذا المعنى‏:‏

وإني لأستحي مِنَ الله أنْ أُرَى *** أسيرَ بخيلٍ ليس منه بعيرُ

وأنْ أسألَ المرءَ اللئيمَ بعيره *** وبعران ربِّي في البلادِ كثيرُ

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏‏.‏

في هذا حِفْظُ أَمْرِ الله وحِفْظُ حُرْمةِ صاحب الدارِ؛ لأنَّ مَنْ دَخَلَها بغيرِ إذنِ صاحبِها ربما تكون فيها عورةُ منكشفة، وربما يكون لصاحب الدار أمرٌ لا يريد أن يطَّلِعَ عليه غيرُه، فلا ينبغي أن يدخل عليه من غير استئذان‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

إن قيل لكم‏:‏ ارجعوا *** فارجعوا؛ فقد تكون الأعذارُ قائمةً، وصاحبُ الملكِ بِملْكِه أوْلَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

رَفَعَ اللَّهُ الجُناحَ والحَرَجَ في الانتفاعِ بما لا يُسْتَضَرُّ به صاحبُه بغير إذْنِهِ كدخولِ أرضٍ للداخلِ فيها أغراضٌ لقضاءِ حاجته- ولا يجد طريقاً غير ذلك- إذا لم يكن في دخوله ضَرَرٌ على صاحبها، وجرى هذا مجرى الاستظلال بظِلَّ حائطٍ إذا لم يكن قاعداً في مِلْكِه، وكالنظر في المرآة المنصوبة في جدار غيره *** وكل هذا إنما يُستباح بالشرع دون قضية العقل- على ما توهمَّه قومٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏يَغُضُّوا‏}‏‏:‏ من أبصار الظواهر عن المُحَرَّمات، ومن أبصار القلوب عن الفِكَرِ الرَّدِيّة، ومن تصورُّ الغائبات عن المعاينة، ولقد قالوا‏:‏ إنَّ العينَ سببُ الحَيْن، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وأنتَ إذا أرسلتَ طَرْفَك رائداً *** لقلبِك- يوماً- أتْعَبَتْكَ المناظرُ‏.‏

وقالوا‏:‏ مَنْ أرسل طَرْفَه اقتضى حَتْفَه‏.‏

وإن النظرَ إلى الأشياء بالبَصَرِ يوجِبُ تَفْرِقَةَ القلوب‏.‏

ويقال إن العدوَّ إبليسَ يقول‏:‏ قومي القديمُ وسهمي الذي لا يخطئ النظرُ‏.‏ وأرباب المجاهدات إذا أرادوا صَوْنَ قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المحَسَّات- وهذا أصلٌ كبيرٌ لهم في المجاهدة في أحوال الرياضة‏.‏

ويقال قَرَنَ اللَّهُ النهي عن النظر إلى المحارم بذكر حفظ الفَرْجِ فقال‏:‏ ‏{‏وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏}‏ تنبيهاً على عِظَمِ خَطَرِ النظر؛ فإنه يدعو إلى الإقدام على الفعل‏.‏

ويقال قومٌ لا ينظرون إلى الدنيا وهم الزُّهَّاد، وقومٌ لا ينظرون إلى الكون وهم أهل العرفان، وقومٌ أهل الحفاظ والهيبة كما لا ينظرون بقلوبهم إلى الأغيار لا يرون نفوسهم أهلاً للشهود، ثم الحق- سبحانه- يكاشفهم من غير اختيارٍ منهم أو تعرُّضٍ أو تكلف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏‏.‏

المطالبةُ عليهن كالمطالبة على الرجال لشمولِ التكليف للجنسين، فالواجبُ عليهن تركُ المحظوراتِ، والندبُ والنَّفْلُ لهن صونُ القلب عن الشواغل والخواطر الردية، ثم إنِ ارتّقَيْنَ عن هذه الحالة فالتعامي بقلوبهن عن غيرِ المعبود، والله يختص برحمته من يشاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِيْنَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏‏:‏ ما أباح الله- سبحانه- على بيان مسائل الفقه فمُستثنى من الحظرِ، وما وراء ذلك فالواجبُ عليهن حفظُ أنفسهن عن العقوبات في الآجل، والتصاون عن أن يكون سبباً لفتنة قلوب عباده‏.‏ والله سبحانه يتصل منهم نفعٌ بالخَلْقِ فلا تصيبُ أحداً بهم فتنةٌ‏.‏

وفي الجملةِ ما فيه زينة العبد لا يجوز إظهاره؛ فكما أنَّ لِلنساءِ عورةً ولا يجوز لهن إبداء زينتهن فكذلك مَنْ ظهر للخَلْق ما هو زينة سرائره من صفاء أحواله وزكاء أعماله انقلب زَيْنُه شَيْئاً إلا ظهر على أحدٍ شيءٌ- لا بتعمله ولا بتكلُّفه- فذلك مستثنىً لأنه غير مُؤاخذٍ بما لم يكن بتصرفه وتكلفه، فذوات المحارم على تفصيل بيان الشريعة يُسْتَثْنَى حُكْمُهن عن الحَظُر‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَوِ التَّابِعِينَ غِيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَأتِ النِّسَاءِ‏}‏‏.‏

تُراعى في جميع ذلك آدابُ الشرع في الإباحة والحظر‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلّى اللَّهِ جميعاً أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

التوبةُ الرجوعُ عن المذموماتِ من الأفعال إلى أضدادها المحمودة، وجميع المؤمنين مأمورون بالتوبة، فتوبةٌ عن الزَّلَّةِ وهي توبة العوام، وتوبة عن الغفلة وهي توبة الخواص *** وتوبةٌ على محاذرة العقوبة، وتوبةٌ على ملاحظة الأمر‏.‏

ويقال أمَر الكافة بالتوبةِ؛ العاصين بالرجوع إلى الطاعة من المعصية، والمطيعين من رؤية الطاعة إلى رؤية لاتوفيق، وخاصَّ الخاصِّ من رؤية التوفيق إلى مشاهدة الموفِّق‏.‏

ويقال مساعدة الأقوياء مع الضعفاء- رِفْقاً بهم- من أمارات الكَرَمِ‏.‏

ويقال في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ يتبين أنَّه أمَرَهم بالتوبة لينتفعوا هم بذلك، لا ليكون للحقِّ- سبحانه- بتوبتهم وطاعتهم تجمُّلٌ‏.‏

ويقال أحوجُ الناس إلى التوبة مَنْ تَوَهَّمَ أنَّه ليس يحتاج إلى التوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏‏}‏

إذا كان القصدُ في المناكحة التأدب بآداب الشرع يكفي الله ببركاته مطالبات النفس والطبع، وإنما يجب أن يكون القصدُ إلى التعفُّفِ ثم رجاءِ نسْلٍ يقوم بحقِّ الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏ يُغْنِيهمُ اللَّهُ في الحال، أولاً بالنفس ثم غِنَى القلب؛ وغنيُّ القلبِ غَنِي عن الشيء، فالغَنِيَ عن الدنيا أتَمُّ من الغني بالدنيا‏.‏ ويقال إن يكونوا فقراء في الحال يُغْنِهم الله في المستأنف والمآل‏.‏