فصل: تفسير الآية رقم (7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يجمع بين الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله، فتقول الأصنام‏:‏ ما أمرناكم بعبادتنا‏.‏ فيدعون على الشياطين التي أطاعوها، وعلى الأصنام التي أمرتهم أن يعبدوها، وتقول الأصنام‏:‏ كفى بالله شهيداً، على أنَّا لم نأمركم بذلك؛ إذ كُنَّا جماداً‏.‏ وذلك لأنَّ اللَّهِ يُحْيِيها يوم القيامة ويُنْطِقها‏.‏

وفي الجملة‏.‏‏.‏ يتبرأ بعضُهم مِنْ بعض، ويذوقُ كلُّ وبالَ فِعْلِه‏.‏

وفائدةُ هذا التعريف أنه ما ليس لله فهو وبالٌ عليهم؛ فاشتغالُهم- اليوم- بذلك مُحَالٌ، ولهم في المآلِ- مِنْ ذلك- وبالُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

إنما يقفون على خسرانهم إذا ذاقوا طَعْمَ هوانِهم؛ فإذا رُدُّوا إلى الله لم يجدوا إلا البعدَ عن الله، والطرْدَ من قِبَل الله، وذلك جزاءُ مَنْ آثَرَ على اللَّهِ غيرَ الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

كما تَوَحَّد الحقُّ- سبحانه- بكونه خالقاً تَفَرَّدَ بكونه رازقاً، وكما لا خالِقَ سواه فلا رازقَ سواه‏.‏

ثم الرزق على أقسام‏:‏ فللأشباح رزق‏:‏ وهو لقوم توفيق الطاعات، ولآخرين خذلان الزَّلات‏.‏ وللأرواح رزق‏:‏ وهو لقومٍ حقائق الوصلة، ولآخرين- في الدنيا- الغفلة وفي الآخرة العذاب والمهلة‏.‏

‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ الْسَّمَعَ وَالأَبْصَارَ‏}‏‏:‏ فيكمل بعض الأبصار بالتوحيد، وبعضها يعميها عن التحقيق‏.‏

‏{‏وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ‏}‏‏:‏ يخرج المؤمنَ من الكافر، والكافرَ من المؤمن‏.‏

‏{‏فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ‏}‏‏:‏ ولكنْ ظَنَّا *** لا عن بصيرة، ونَطْقاً‏.‏‏.‏ لا عن تصديق سريرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ما يكون من موضوعات الحق، ومتعلقاتِ الإرادة، ومتناولاتِ المشيئة، ومُجنَّساتِ التقدير، ومُصَرِّفاتِ القدرة- فهي أشباحٌ خاوية، وأحكامُ التقديرِ عليها جارية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

سَبَق لهم الحُكْمُ، وصَدَقَ فيهم القولُ؛ فلا لِحُكْمِه تحويل ولا لقوله تبديل، فإنَّ العلَلَ لا تُغَيِّر الأزل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

كَشف قبيحَ ما انطوت عليه عقائدُهم من عبادتهم ما لا يصحُّ منه الخْلقُ والإعادة، وأثبت أن المعبودَ مَنْ منه الخَلْقُ والإعادة‏.‏

قومٌ جعلوا له في الإيجاد شركاءَ بدعوى القَدَرِ، وقوم منعوا جواز قدرته على الإعادة‏.‏ وكل هذا جنوحٌ إلى الْكفْرِ وذهابٌ عن الدِّين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الحقُّ اسمٌ من أسمائه سبحانه، ومعناه أنه موجود، وأنه ذو الحق، وأنه مُحِقُ الحقِّ‏.‏

والحقُّ من أوصاف الخَلْق ما حَسُنَ فعله وصحُّ اعتقاده وجاز النطق به‏.‏

و ‏{‏اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ‏}‏‏:‏ أي إلى الحق هدايته‏.‏ وهداه له وهداه إليه بمعنىً؛ فَمَنْ هداه الحقُّ للحقِّ وَقَفَه على الحقِّ، وعزيزٌ منْ هداه الحقُّ إلى الحقِّ للحقِّ، فماله نصيبٌ وماله حَظٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

الظَّنُّ يُنافي اليقين، فإنه ترجيح أحد طَرَفَيْ الحكم على الآخر من غر قَطْعِ‏.‏

وأربابُ الحقائق على بصيرة وقطع؛ فالظنُّ في أوصاف الحقِّ معلولٌ، والقطع- في أوصاف النَّفُس- لكل أحدٍ معلول‏.‏ والعَبْدُ يجب أن يكون في الحال خالياً عن الظن إذّ لا يَعْرفُ أحدٌ غيْبَ نَفْسه في مآلِه‏.‏

وفي صفة الحقِّ يجب أن يكونَ العبدُ على قطع وبصيرة؛ فالظنُّ في الله معلول، والظن فيما مِنَ الله غير محمود‏.‏ ولا يجوز بوجهٍ من الوجوه أن يكون أهلُ المعرفةِ به سبحانه- فيما يعود إلى صفته- على الظن، كيف وقد قال الله تعالى فيما أمر نبيِّه- عليه السلام- أَنْ يقول‏:‏ ‏{‏أَدْعُوا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَبَعَنِى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏؟‏ وكما قلنا‏:‏

طَلَعَ الصباحُ فلات حين سراج *** وأتى اليقين فلات حين حجاج

حصل الذي كُنَّا نؤمِّل نَيْلَه *** من عَقْد ألويةٍ وحلِّ رتاج

والبعد قَوْضَ بالدَّنو خيامه *** والوصلُ وَكَّدَ سَجْلَه بِعاج

قَدْ حَانَ عَهْدٌ للسرور فحيهلا *** لهواجم الأحزان بالإزعاج

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

انسدَّتْ بصائرهم فلا يزدادون بكثرة سماع القرآن إلا عمى على عمى، كما أن أهل الحقيقة ما ازدادوا إلا هُدىً على هدى، فسبحان مَنْ جعل سماعَ خطابه لقومٍ سببَ تحَيُّرهم، ولآخرين موجِبَ تَبصُّرِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

كلَّتْ القرائح، وخَمَدَتْ نيرانُ الفصاحة، واعترف كلُّ خطيب مصقْعٍ بالعجز عن معارضة هذا الكتاب، فلم يتعرَّض لمعارضته إلا مَنْ افتضخ في قالته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قابلوا الحقَّ بالتكذيب لِتَقاصُر علومهم عن التحقيق، فالتحقيقُ من شرط التصديق، وإنما يؤمن بالغيب مَنْ لوَّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان، وصَرَفَ عنه دواعي الرِّيَب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

فأمَّا الذين آمنوا فهم الذين كَحَلَ الحقُّ أبصارَ قلوبهم بنور اليقين، والذين لم يؤمنوا فهم الذين وَسَمَ قلوبَهم بالعمي فزلُّوا- بالضلالة- عن الهُدَى‏.‏‏.‏ تلك سُنَّةُ الله في الطائفتين، ولن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

بَرِحَ الخفاءُ، واستبانت الحقائق، وامتاز الطريقان، فلا المحسنُ بِجُرْمِ المسئِ مُعَاقَبٌ، ولا المسئُ بِجُرْمِ المحسن مُعاتَب، كُلُّ على حِدَةٍ بما يعملون وعلى ما يفعله مُحَاسَب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

من استمع بتكلفه ازداد في تَخَلُّفِه بزيادة تصرفه، ومَنْ استمع الحقَّ بتَفَضُّلِه- سبحانه- استغنى في إدراكه عن تَعَمُّلِه‏.‏ والحقُّ- سبحانه- يُسْمِعُ أولياءَه ما يناجيهم به في أسرارهم، فإذا سمعوا دعاء الواسطة قابلوه بالقبول لِمَا سَبَقَ لهم من استماع الحقِّ‏.‏ ومَنْ عَدِمَ استماعَ الحقِّ إياه من حيث التفهيم لم يَزِدْه سماعُ الخَلْقِ إلا جحَداً على جحد، ولم يحْظَ به إلا بُعْداً على بُعْد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

مَنْ سُدَّتْ بصيرتُه بالغفلة والغيبة لم يَزدْه إدراكُ البَصَرِ إلا حجبةً على حجية، ومَنْ لم ينظر إلى الله بالله، ولم يسمع من الله بالله، فقصاراه العمى والصمم، ‏{‏فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ وقال عليه السلام فيما أخبر عن الله‏:‏ «فبي يسمع وبي يبصر»

وأنشد قائلهم‏:‏

تأمَّلْ بعين الحقِّ إنْ كنتَ ناظراً *** إلى منظرٍ منه إليه يعود

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

نَفَى عن نَفْسِه ما يستحيل تقديره في نعته، وكيف يوصَفُ بالظلم وكلُّ ما يُتَوهَّمُ أَنْ لو فَعَلَه كان له ذلك‏؟‏ إذ الحقُّ حقُّه والمُلْكُ مُلْكَه‏.‏ وَمَنْ لا يَصِحُّ تقديرُ قبيحٍ منه- أَنَّى يوصف بالظلم جوازاً أو وجوباً‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

الأيامُ والشهور، والأعوام والدهور بعد مُضيها في حُكْمِ اللحظة لمن تفكَّرَ فيها، ومتى يكون لها أثر بعد تقضيها‏؟‏ والآتي من الوقت قريب، وكَأنَّ قَدْرَ الماضي من الدهر لم يُعْهَدْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

معناه أن خبره صدق، ووعده ووعيده حق، وبعد النَّشْرِ حَشْرٌ، وفي ذلك الوقت مُطَالَبَةٌ وحسابٌ، ثم على الأعمال ثواب وعقاب، وما أسرع ما يكون المعلومُ مُشَاهَداً موجوداً‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

لم يُخْلِ زماناَ مِنْ شَرِعٍ، ولم يُخْلِ شرعاً مِنْ حُكْم، ولم يُخْلِ حُكْماً مما يُعْقُبُه من ثواب وعقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

الاستعجال بهجوم الموعود من أمارات أصحاب التكذيب، فأمَّا أهل التحقيق فليس لهم لواردٍ يرَدُ عليهم اشتغالٌ قبل وجوده، أو استعجالٌ على حين كَوْنِه، ولا إذا وَرَدَ استقالٌ لما تضمنه حُكْمُه؛ فهم مطروحون في أسْرِ الحُكْم، لا يتحرك منهم- باختيارهم- عِرْقٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

المملوكُ متى يكون له مِلْك‏؟‏‏!‏

وإذا كان سيِّدُ البرايا- عليه الصلاة والسلام- لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً‏.‏‏.‏ فَمَنْ نَزَلَتْ رُتْبَتُه، وتقاصرَتْ حالتُه متى يملك ذرةُ أو تكون باختياره وإيثاره شمةٌ‏؟‏

طاح الذي لم يكن- في التحقيق، وتفرَّدَ الجبارُ بنعت الملكوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

مَنْ عَرَفَ كمالَ القدرة لم يأمَنْ فجأةَ الأخذِ بالشدة، ومن خاف البيات لم يستلذ السُّبات‏.‏

ويقال مَنْ توسَّدَ الغفلة أيقظْته فجاءةُ العقوبة، ومَنْ استوطن مركب الزَّلَّة عَثَرَ في وَهْدَةِ المحنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

بعد انتهاك سِتْرِ الغيب لا يُقْبَلُ تضرعُ المعاذير‏.‏

ويقال لا حُجَّة بعد إزاحة العلة، ولا عذْرَ بعد وضوح الحجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

لا تُكَلَفُ نَفْسٌ إلا تجرع ما منه سَقَتْ، ولا يحصد زارعٌ غَلَّةً ما منه زرع، وفي معناه قالوا‏:‏

سَنَنْتِ فينا سَنَناً *** قَذَفَ البلايا عقبه

يصبر على أهوالها *** مَنْ برَّ يوماً رَبَّه

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

صرِّحْ بالإخبار عند استخبارهم، وأَعْلِمْ بما يزيل الشُّبْهَةَ عمَّا التَبس على جُهَّالِهم، وأَكِّدْ إخبارَكَ بما تذكره مِنَ القَسَم واليمين، مضافاً ذلك إلى ما تُسْلِفُه من التَّبيين‏.‏ على أنه لا ينفَعهم نُصحُك، ولا يُؤثّر فيهم وعظُكَ‏.‏‏.‏ كيف لا‏؟‏ وقد جُرِّعوا شرابَ الحُجبة، وَوِسُمُوا بَكِيَّ الفُرقة؛ فلا بصيرة لهم ولا ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ولا فهمَ ولا حصافة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

لا يُقْبَلُ منهم عَدْلٌ ولا سَرَفٌ، ولا يحصل فيما سَبَقَ لهم من الوعيد خَلَفَ‏.‏ ولا ندامة تنفعهم وإنْ صَدَقوها، ولا كرامة تنالهم وإنْ طلبوهَا، ولا ظُلْمَ يجري عليهم ولا حيف، كلا *** بل هو اللَّهُ العَدْلُ في قضائه، الفَرْدُ في علائه بنعت كبريائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

الحادثات بأسْرِها له مِلْكاً، وبه ظهوراً، ومنه ابتداءً، وإليه انتهاء؛ فقولُه حقٌّ، ووعدهُ صِدْقُ، وأمره حَتْمٌ وقضاؤه باتٌ‏.‏ وهو العَلِيُّ، وعلى ما يشاء قويٌّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يحيي القلوبَ بأنوار المشاهدة، ويميت النفوسَ بأنواع المجاهدة فنفوسُ العابدين تَلَفُها فنون المجاهدات، وقلوب العارفين شَرفُها عيون المشاهدات‏.‏

ويقال يحيي مَنْ أقبل عليه، ويميتَ مَنْ أعرض عنه‏.‏

ويقال يحيي قلوب قوم بجميل الرجاء، ويميت قلوبَ قوم بِوَسْم القنوط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

الموعظة للكافة *** ولكنها لا تنجع في أقوام، وتنفع في آخرين؛ فَمَنْ أصغى إليها بَسْمعِ سِرَّه اتضح نورُ التحقيق في قلبه، ومَنْ استمع إليها بنعت غَيْبَته ما اتصف إلا بدوام حجبته‏.‏

ويقال الموعظة لأربابِ الغيبة لِيَؤوبُوا، والشِّفاء لأصحاب الحضور ليطيبوا‏.‏

ويقال «الموعظة»‏:‏ للعوام، «والشفاء»‏:‏ للخواص، «والهُدى» لخاص الخاص، «الرحمة» لجميعهم، وبرحمته وصَلوا إلى ذلك‏.‏

ويقال شفاءُ كلِّ أحدٍ على حَسَبِ دائه، فشفاءُ المذنبين بوجود الرحمة، وشفاء المطيعين بوجود النعمة، وشفاء العارفين بوجود القربة، وشفاء الواجدين بشهود الحقيقة‏.‏

ويقال شفاء العاصين بوجود النجاة، وشفاء المطيعين بوجود الدرجات، وشفاءُ العارفين بالقرب والمناجاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

«الفضل»‏:‏ الإحسانُ الذي ليس بواجبٍ على فاعله «والرحمة» إرادة النعمة وقيل هي النعمة‏.‏

والإحسان على أقسام كذلك النعمة، ونِعَمُ اللَّهِ أكثر من أَنْ تحْصَى‏.‏

ويقال الفضل ما أتاح لهم من الخيرات، والرحمة ما أزاحَ عنهم من الآفات‏.‏

ويقال فضل الله ما أكرمهم من إجراء الطاعات، ورحمته ما عَصَمَهم به من ارتكاب الزَّلات‏.‏

ويقال فضل الله دوام التوفيق ورحمته تمام التحقيق‏.‏

ويقال فضل الله ما يًُخصُّ به أهل الطاعات من صنوف إحسانه، ورحمته يخصُّ به أهلَ الزلاَّت من وجوه غفرانه‏.‏

ويقال فضل الله الرؤية، ورحمته إبقاؤهم في حالة الرؤية‏.‏

ويقال فضل الله المعرفة في البداية، ورحمته المغفرةُ في النهاية‏.‏

ويقال فضل الله أَنْ أَقَامَكَ بشهود الطلب، ورحمته أن أشهدك حقَّه بحكم البيان إلى أنْ تراه غداً بكشف العيان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا‏}‏ أي بما أهَّلَهم له، لا بما يتكلَّفون من حَرَكاتهم وسَكَنَاتهم، أو يَصِلُونَ إليه بنوعٍ من تكلفهم وتعملهم‏.‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏‏:‏ أي ما تُتْحَفُونَ به من الأحوال الزاكية خيرٌ مِمَّا تجمعون من الأموال الوافية‏.‏

ويقال الذي لَكَ منه- في سابق القسمة- خيرٌ مما تتكلَّفُه من صنوف الطاعة والخدمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يعَنِّفُهم ويُقَرِّعهُم على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم، ويُظْهِر كذبهم فيما تقوَّلُوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

هذا على جهة التهويل والتعظيم لما أسلفوه من الكذب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ‏}‏ في إمهال مَنْ أجْرَم، والعصْمِة لَمِنْ لم يُجْرِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏

خوَّفَهم بما عرفَّهم من اطلاعه عليهم في جميع أحوالهم، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم‏.‏ والعلْمَ بأنه يراهم يوجِبُ استحياءَهم منه، وهذه الحال المراقبة، والعبد إذا عَلمَ أن مولاه يراه استحي منه، وتَركَ متابعة هواه، ولا يحُوِّم حَوْلَ ما نهاه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

كأنَّ رقيباً منك حَالُّ بمهجتي *** إذا رُمتُ تسهيلاً عليَّ تَصعَّبَا

وأنشدوا‏:‏

أُعاتِبُ عَنْكَ النَّفُسَ في كلِّ خَصْلَةٍ *** تعاتبني فيها وأنت مقيم

‏{‏وما يعزُبُ عن ربك من مثقال ذرة‏}‏‏:‏ وكيف يخفى ذلك عليه، أو يتقاصر علمه عنه، وهو منشئُه وموجِدُه‏؟‏ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة، وإنما قال‏:‏ ‏{‏إلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏‏:‏ ردَّهم إلى كتابته ذلك عليهم- لعدم اكتفائهم في الامتناع عمَّا نُهُوا عنه- برؤيته وعلمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ألاَ إنًّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِم‏}‏ الوليُّ على وزن فعيل مبالغة من الفاعل، وهو مَنْ تَوَالَت طاعاته، من غير أن يتخللها عصيان‏.‏

ويجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول؛ فيكون الوليُّ مَنْ يتوالى عليه إحسانُ الله وأفضاله، ويكون بمعنى كونه محفوظاً في عامة أحواله من المحن‏.‏

وأشدُّ المحن ارتكابُ المعاصي فيعصمه الحقُّ- سبحانه- على دوام أوقاته من الزلاَّت‏.‏

وكما أن النبيَّ لا يكون إلا معصوماً فالوليُّ لا يكون إلا محفوظاً‏.‏

والفَرْقُ بين المحفوظ والمعصوم أن المعصوم لا يُلِمُّ بِذَنْبٍ ألْبَتَّةَ، والمحفوظُ قد تحصُل منه هَنَات، وقد يكون له- في الندرة- زَلاَّتٌ، ولكن لا يكون له إصرار‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يتوبون من قريب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلاَ إنَّ أوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

حسنٌ ما قيل إنه ‏{‏لا خوف عليهم‏}‏‏:‏ في الدنيا، ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏‏:‏ في العاقبة‏.‏ ولكن الأوْلى أَنْ يقال إن الخواص منهم لا خوفٌ عليهم في الحال- لأنَّ حقيقةَ الخوفِ توقُّع محذورٍ في المستقبل، أو ترقُّب محبوب يزول في المستأنف‏.‏‏.‏ وهم بِحُكْمِ الوقت؛ ليس لهم تطلّعُ إلى المستقبل‏.‏ والحزن هو أن تنالهم حُزُونة في الحال، وهم في رَوْحِ الرضا بكلِّ ما يجري فلا تكون لهم حزونة الوقت‏.‏ فالولىُّ لا خوفٌ عليه في الوقت، ولا له حزن بحال، فهو بحكم الوقت‏.‏

ولا يكون وليَّاً إلا إذا كان موفَّقاً لجميع ما يلزمه من الطاعات، معصوماً بكل وجه عن جميع الزلات‏.‏ وكلُّ خصْلَةٍ حميدة يمكن أن يُعْتَبَرَ بها فيقال هي صفة الأولياء‏.‏

ويقال الوليُّ مَنْ فيه هذه الخصلة‏.‏

ويقال الوليُّ من يُقَصِّر في حقِّ الحق، ولا يؤخِّر القيام بحق الخَلق؛ يطيع لا لخوف عقاب، ولا على ملاحظةِ حسن مآب، أو تطلع لعاجلٍ اقتراب، ويقضي لكلِّ أحدٍ حقاً يراه واجباً، ولا يقتضي من أحدٍ حقاً له، ولا ينتقم، ولا ينتصف ولا يشمت ولا يحقد، ولا يقلد أحداً مِنّةً، ولا يرى لنفسه ولا لما يعمله قَدْرَاً ولا قيمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

هذه صفة الأولياء؛ آمنوا في الحال، واتقوا الشّرْكَ في المآل‏.‏ ويقال ‏{‏ءَامَنُوا‏}‏ أي قاموا بقلوبهم من حيث المعارف‏.‏ ‏{‏وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏‏:‏ استقاموا بنفوسهم بأداء الوظائف‏.‏

ويقال «آمنوا» بتلقي التعريف‏.‏ «واتقوا»‏:‏ بالتقوى عن المحرمات بالتكليف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

القيام بالأمر يدل على الصحة؛ فإذا قاموا بما أُمِروا به، واستقاموا بِتَرْكِ ما زُجروا عنه بَشَّرَتْهُم الشريعة بالخروج عن عهدة الإلزام، وبشَّرتهم الحقيقة باستجياب الإكرام، بما كوشِفوا به من الإعلام *** وهذه هي البشرى في عاجلهم‏.‏ وأما البُشرى في آجلِهم‏:‏ فالحقُّ- سبحانه- يتولَّى ذلك التعريف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ويقال البشارة العُظْمَى ما يجدون في قلوبهم مِنْ ظَفَرِهم بنفوسهم بسقوط مآربهم، وأيُّ مُلْكٍ أتمُّ من سقوط المآرب، والرضا بالكائن‏؟‏ هذه هي النعمة العظمى، ووجدانُ هذه الحالة هو البشرى الكبرى‏.‏

ويقال الفرق بين هذه البشارة التي لهم وبين البشارة التي للخلْق أنَّ للخلْق عِدَةٌ بالجميل، والذي له نَقْدٌ ومحصول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏‏}‏

العبدُ ما دام متفرقاً يضيقُ صدرُه ويستوحش قلبُه بما يسمع ويشهد من الأغيار والكفارِ ما تَتَقدَّسُ عنه صفةُ الحقّ، فإنْ صار عارفاً زالَتْ عنه تلك الصفة لتحققه بأنَّ الحقَّ سبحانه وراء كلّ طاعةٍ وزَلَّةٍ، فلا له- سبحانه- من هذا استيحاش، ولا بذلك استئناس‏.‏

ثم يتحقق العارفُ بأنَّ المُجَرِيَ لطاعةِ أربابِ الوفاق- اللَّهُ، والمُنشِئُ لأحوال أهل الشِّقاقِ- اللَّهُ‏.‏ لا يبالي الحقُّ بما يجري ولا يبالي العبد بشهود ما يجري، كما قيل‏:‏

بنو حقٍّ قضوا بالحقٍّ صِرْفا *** فَنَعْتُ الخَلْقِ فيهم مستعار

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

لله مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض مِلْكاً، ويبدي عليهم ما يريد، حكما جَزْماً؛ فلا لقبوله عِلَّة، ولا موجِبَ لردِّه زَلَّة، كلا *** إنها أحكامٌ سابقة، لم تُوجِبْها أجرامٌ لاحقة، ولا طاعاتً وعباداتٌ صادقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

الليل لأهل الغفلة بُعْدٌ وغيبة، ولأهل الندم توبة وأوبة، وللمحبين زُلفَةٌ وقربة؛ فالليل بصورته غير مُؤْنِسٍ، لكنه وقت القربة لأهل الوصلة كما قيل‏:‏

وكم لظلام الليل عندي من يَدٍ *** تُخَبِّر أن المانوية تكذب

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِىُّ لَهُ مَا فِى الْسّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانِ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

الوَلَدُ بعض الوالد، والصمدية تَجِلُّ عن البغيضة، فَنَزَّهَ الله نَفْسَه عن ذلك بقوله ‏{‏سبحانه‏}‏‏.‏

ثم إنه لم يعجِّلْ لهم العقوبة- مع قبيح قالتهم ومع قدرته على ذلك- تنبيهاً على طريق الحكمة لعبادة‏.‏

ولا تجوز في وصفه الولادة لِتَوَحُّده، فلا قسيمَ له، ولا يجوز في نعته التبني أيضاً لِتَفَردِه وأنه لا شبيهَ له‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هٌوَ الْغَنِىُّ‏}‏‏:‏ الغِنَى نَفْيُ الحاجة، وشهوةُ المباشرةِ حاجة، ويتعالى عنها سبحانه‏.‏

قوله جل ّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكّذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

ليس لهم بما هم فيه استمتاع، إنما هو أيامٌ قليلة ثم تتبعها آلامٌ طويلة، فلا قَدَمٌ لهم بعد ذلك تُرْفَع، ولا نَدَمٌ ينفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

أنزل الله هذه الآية على وجه التسلية لنبيِّه- صلى الله عليه وسلم- لِمَا كان يمسُّه من مقاساة الشِّدَّة من قومه، فإنَّ أيامَ نوحٍ- وأنْ طالَت- فما لَبِثَتْ كثيراً إلا وقد زالت، كما قيل‏:‏

وأحْسَن شيءٍ في النوائب أنها *** إذا هي نابت لم تكن خلدا

ثم بيَّنَ أنه كان يتوكل على ربِّه مهما فعلوا‏.‏ ولم يحتشم عبدٌ- ما وَثِقَ بربِّه- منْ كلِّ ما نَزَلَ به‏.‏ ثم إن نوحاً- عليه السلام- قال‏:‏ «إني توكلت على الله» وهذا عين التفرقة، وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ وهذا عين الجمع فبانت المزية وظهرت الخصوصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

إذا كان عملِه لله لم يَطْلُبْ الأجْرَ عليه من غير الله، وهكذا سنَّته في جميع أولياء الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

أغرق قومَه بأمواج القَطْرة، وفي الحقيقة أغرقهم بأمواج الأجكام والقدرة، وحفظ نوحاً- عليه السلام- وقومه في السفينة، وفي الحقيقة نَجَّاهم في سفينة السلامة‏.‏ وكان نوحٌ في سابق حكمه من المحروسين، وكان قومُه في قديم قضائه من جملة المُغْرِقين، فَجرَتْ الأحوال على ما جرَتْ به القسمةُ في الأزل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قصَّ عليه- صلوات الله عليه وسلامه- أنباءَ الأولين، وشرح له جميع أحوال الغابرين، ثم فضَّلَه على كافتهم أجمعين، فكانوا نجوماً وهو البدر، وكانوا أنهاراً وهو البحر، ثم به انتظم عِقْدُهم، وبنورِه أَشْرَقَ نهارُهم، وبظهوره خُتِم عددُهم، كما قيل‏:‏

يومٌ وحَسْبُ الدهرِ من أَجْلِه *** حيَّا غدٌ والتفت الأمسُ

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ما زَادَهم الحقُّ سبحانه بياناً إلا ازدادوا طغياناً، وذلك أنه تعالى أجرى سُنَتَّه في المردودين عن معرفته أنه لا يزيد في الحجج هدًى إلا ويزيد في قلوبهم عَمَىً، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏

‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 35‏]‏‏:‏ نظروا من حيث كانوا لم يعرفوا طعماً غير ما ذاقوا، وكذا صفةُ مَنْ أَقصتْه السوابقُ، وردَّته المشيئة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا، واستحبُّوا استدامة ما عليه كانوا *** فلحقهم شؤمُ العقيدةِ وسوءُ الطريقة حتى توهموا أن الأنبياءَ عليهم السلام إنما دَعَوْهم إلى الله لتكونَ لهم الكبرياءُ على عباد الله، ولم يعلموا أنهم إنما دَعَوْهم إلى الله بأمر الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

لما استعان في استدفاع ما استقبله بغير الله لم يلبث إلا يسيراً حتى تَبَرَّأَ منهم وتَوَعدَّهم بقوله‏:‏ لأفعلنَّ ولأصنعنَّ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت في غير الله فإنها تؤول إلى العداوة والبغضة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

أمَرَهُم أمراً يُظْهِرُ به بُطْلاَنَهم ليُدخل الحقَّ على ما أتوا به من التموية، فلذلك قال موسى عليه السلام‏:‏ «إن الله سيبطله»؛ فلمَّا التقمت عصا موسى- جميع ما جاءوا به من حِبَالِهم وعِصِيَّهِم- حين قَلَبَها اللَّهُ حيَّةً‏.‏‏.‏ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ أبطل تلك الأعيان وأفناها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله جلَّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ‏}‏‏.‏

من جملة ما أَحقَّه أن السَّحَرَةَ كان عندهم أنهم يَنْصُرون فرعون ويجيبونه فكانوا يُقْسِمون بِعِزَّته حيث قالوا «بِعِزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون» وقال الحقُّ- سبحانه‏:‏ بعزتي إنكم لمغلوبون، فكان على ما قال تعالى‏:‏ دون ما قالوه، وفي معناه قالوا‏:‏

كم رَمَتْني بِأَسْهُم صائباتٍ *** وتَعَمَّدْتُها بِسَهْمٍ فطاشا

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

أهل الحقيقة في كل وقتٍ قليلٌ عَدَدُهم، كبيرٌ عند الله خَطَرُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

بيَّن أن الإيمان ليس من حيث الأقوال‏.‏‏.‏ بل لا بد فيه صدق الأحوال قصداً‏.‏

وحقيقةُ التوكل تَوَسُّلٌ تقديمُه مُتَّصِلٌ، ثم يعلم أنه بفضله- سبحانه- تَحْصُلُ نجاتُه، لا بما يأتي به من التكلُّف- هذه هي حقيقة التوكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

تبرأنا مما مِنَّا ِنَ الحوْل والمُنَّة، وتحققنا بما منك من الطوْل والمِنَّة‏.‏

فلا تجعلنا عرضةً لسهام أحكامك في عقوبتك بانتقامك، وارحمنا بلطفك وإكرامك، ونجِّنا مِمَّنْ غَضِبْتَ عليهم فَأَذْللْتَهم، وبِكَيَّ فراقك وسَمْتَهُم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

مَهِّدْ إليهم لعبادتنا مَحَالَّ وهي نفوسهم، ولمعارفنا منازلَ وهي قلوبهم، ولمحبتنا مواضعَ وهي أرواحهم، ولمشاهدتنا معاهِدَ وهي أسرارهم؛ فنفوس العابدين بيوت الخدمة، وقلوب العارفين أوطان الحشمة، وأرواح المهيمين مشاهد المحبة، وأسار الموحدين منازل الهيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

لما يَئِس من إجابتهم حين دعاهم إلى الله دعا عليهم بإنزال السُّخْطَة وإذاقة الفرقة‏.‏ ومن المعلوم أنّ الأنبياء- عليهم السلام- مِنْ حقهم العصمة، فإذا دعا موسى عليهم بمثل هذه الجملة لم يكن ذلك إلا بإذن من قِبَل الله تعالى في الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الاستقامةُ في الدعاء تَرْكُ الاستعجال في حصول المقصود، ولا يَسْقُطُ الاستعجالُ من القلب إلا بوجدان السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بِحُسْن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب‏.‏

ويقال ينبغي للعبد أن يستقلَّ بالله ما أمكنه فعند هذا يقلُّ دعاؤه‏.‏ ثم إذا دعاه بإشارة من الغيب- في جوازه- فالواجب ألا يستعجل، وأن يكون ساكِنَ الجأشِ‏.‏

ويقال من شرط الدعاء صِدْقُ الافتقار في الابتداء، ثم حُسْنُ الانتظار في الانتهاء، وكمال هذا الرضا بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار‏.‏

ويقال الاستقامة في الدعاء سقوط التقاضي على الغيب والخمود عن الاستعجال بحسن الثقة وجميل الظن‏.‏

ويقال في الآية تنبيهٌ على أنَّ للأمورِ آجالاً معلومة، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم في الوقت المعلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

حَمَلَتْ العِزَّةُ فِرعونَ على تَقَحُّمِ البحر على إثرهم، فلمَّا تحقَّقَ الهلاكُ حَمَلَتْه ضرورةُ الحِيلةِ على الاستعاذة، فلم ينفَعه ذلك لفوات وقت الاختيار‏.‏

ويقال لما شهد صوْلَةَ التقدير أفاق من سُكْرِ الغلطة، لكن‏:‏ «بعد شهود البَاسْ لا ينفع التخاشعُ والابتئاسْ»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

أَبْعَدَ طولِ الإمهال، والاصرار على ذميم الأفعال، والرَّكْضِ في ميدان الاغترار، وانقضاء وقت الاعتذار‏؟‏‏!‏ هيهات‏!‏ لقد استوجَبْتَ أن تُرَدَّ في وجهك، فلا لِعُذْرِك قَبُولٌ، ولا لَكَ إلى ما ترومه وصولٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

لَنُشْهِرَنَّ تعذيبَكَ، ونُظْهِرَنَّ- لَمِنْ استبصر- تأديبَك، لِتكونَ لِمَنْ خَلْفَكَ عِبْرة، وتزدادَ حين أَفَقْتَ أَسَفَاً وحسرةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

أذْلَلْنَا لهم الأيام، وأكثرنا لديهم الإنعامَ، وأكرمنا لهم المقامَ، وأتَحْنَا لهم فنونَ الحسناتِ، وأدَمْنَا لهم جميع الخيراتِ *** فلمَّا قابلوا النعمة بالكفران، وأصَرُّوا على البَغْيِ والعدوان أذقناهم سوءَ العذاب، وسَدَدْنا عليهم أبوابَ ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب، وذلك جزاءُ مَنْ حَادَ عن طريق الوفاق، وجَنَحَ إلى جانب الشَّقِاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

ما شكَّ- صلى الله عليه وسلم- فيما عليه أُنْزِل، ولا عن أحدٍ منهم ساءَل، وإنما هذا الخطابُ على جهة التهويل، والمقصود منه تنبيهُ القوم على ملازمة نهج السبيل‏.‏

ويقال صفة أهل الخصوص ملاحظة أنفسهم وأحوالهم بعين الاستصغار‏.‏

ويقال فإنْ تَنَزَّلْتَ منزلةَ أهلِ الأدب في تَرْكِ الملاحظات فَسَلْ عَمَّن أرسلنَا قَبْلَكَ فهل بَلَّغْنَا أحداً من منزلتك‏؟‏ وهل خَصَصْنَا أحداً بمثل تخصيصك‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

ما كان منهياً عنه، وكان قبيحاً فبالشرع كان قبيحاً، فلا بدّ من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة‏.‏ وإنما لم يَجُزْ في صفته- صلى الله عليه وسلم- التكذيبُ بآياتِ الله؛ لأنه نُهِيَ لا لكونه قبيحاً بالعقل حتى يقال كيف نُهِيَ عنه وكان ذلك بعيداً منه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

فالأعداء حقَّتْ عليهم كلمةٌ بالعقاب، والأولياء حقت عليهم كلمةٌ بالثوابِ؛ فالكلمة أزليَّة، والأحكام سابقة، والأفعال في المستأنف على ممر الأوقات على موجب القضية لاحقة، فالذين نصيبهم من القسمة الشِقْوةُ لا يؤمِنون وإن شاهدوا كل دلالة، وعاينوا كل معجزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قومُ يونس تداركتْهم الرحمةُ أزليةُ فيما أجرى من توفيقِ التضرع، فَكَشَفَ عنهم العذابَ، وصَرَفَ عنهم ما أظلَّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب؛ فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

كيف يعتصي عليه سبحانه مرادٌ- والذي يبقي شيءٌ عن مراده ساهٍ أو مغلوبٌ‏؟‏ والذي يستحق جلالَ العِزَّةِ لا يفوته مطلوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

لا يمكن حَمْل الإذن في هذه الآية إلا على معنى المشيئة؛ لأنه للكافة بالإيمان، والذي هو مأمورٌ بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه‏.‏ ولا يجوز حملُ هذه الآية على معنى أنه لا يُؤْمِنُ أحدٌ إلا إذا ألجأه الحقُّ إلى الإيمان واضطره- لأنَّ موجِبَ ذلك ألا يكون أحدٌ في العَالَم مؤمناً بالاختيار، وذلك خطأ، فدلَّ على أنه أراد به إلا أنْ يشاءَ اللَّهُ أنْ يُؤمِنَ هو طوَعاً‏.‏ ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحدٍ أن يؤمِن طوعاً ثم لا يؤمِن؛ لأنه يُبْطِلُ فائدةَ الآية، فَصَحَّ قولُ أهل السُّنَّة بأنَّ ما شاءَ اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

الأدلة- وإنْ كانت ظاهرة- فما تغْنِي إذا كانت البصائر مسدودةً، كما أن الشموسَ- وإن كانت طالعة- فما تُغْنِي إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة، كما قيل‏:‏

وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته *** إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُلَمُ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

تَمَنِّي الطاف أنوارِ الحقيقةِ تَعَنِّ في تسويل، واستنادٌ إلى غير تحصيل، وتمادٍ في تضليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْنَا‏}‏ ها هنا معناها «منَّا» فلا شيء يجب على الله لكونه إلهاً مَلِكاً، فيجب الشيءُ من الله-لصدقه- ولا يجب عليه- لِعِزَّتِه‏.‏

وكما لا يجوز أن يَدْخُلَ نبيٌّ من الأنبياء- عليهم السلام- في النار لا يجوز أن يُخلَّدَ واحدٌ من المؤمنين في النار لأنه أخبر أنه يُنَجِّي الرسلَ والمؤمنين جميعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

إن كنتم غطاء الرَّيْبِ فأنا في ضياءِ مِنَ الغيبِ، إِنْ كنتم في ظلمة الجهل فأنا في شموس الوَصْلِ، إن كنتم في سدفة الضَّلالة فأنا في خلعة الرسالة وعلى أنوار الدلالة‏.‏

ويقال قد تميزنا على مفرق الطريق‏:‏ فأنتم وقعتم في وهدة العِوَجِ، وأنَا ثابِتٌ على سَوَاء النَّهَجْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

أي أَخْلِصْ قلبَك للدّين، وجَرِّدْ قلبَكَ عن إثبات كلِّ ما لَحِقَه قهرُ التكوين، وكنْ مائلاً عن الزيغ والبدع، وداخِلاً في جُمْلَةٍ مَنْ أخلص في الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

لا تعبدْ ما لا تنفعكَ عِبَادتُه ولا تَضُرُّك عبادتُه، وتلك صفة كل ما يعبْد من دون الله‏.‏ واستعانة الخْلق بالخَلْق تمحيقٌ للوقتِ بلا طائلٍ؛ فَمَنْ لا يَمْلكُ لِنَفْسِه ضَرَّاً ولا نَفْعَاً كيف يستعين به مَنْ هو في مثل حاله‏؟‏ وإذا انضاف الضعيفُ إلى الضعيف ازدادَ الضعفُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

كما تفرَّد بإبداع الضُرِّ واختراعه فلا شريكَ يُعْضِّدُه *** كذلك توحَّدَ بكشف الضُرِّ وصَرْفِه فَلا نصيرَ يُنْجِدُه‏.‏

ويقال هوَّنَ على المؤمِن الضرِّ إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسسْكَ اللّهُ بِضُرٍ‏}‏ حيث أضافه إلى نفسه، والحنظلُ يُسْتَلذُّ مِنْ كفَّ مَنْ تحبه‏.‏

وفَرَّقَ بين الضُرِّ والخير بإضافة الضرِّ إليه فقال‏:‏ ‏{‏وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍ‏}‏ ولم يقل‏:‏ وإنْ يُرِدْكَ بضرٍ- وإنْ كان ذلك الضرُّ صادراً عن إرادته- وفي ذلك من حيث اللفظ دِقّة‏.‏

ويقال‏:‏ عَذُبَ الضرّ حيث كان نفعه؛ فلمَّا أوجب مقاساة الضُّرِّ من الحرَبَ أبدل مكانَه السرورَ والطَّرَب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

مَنْ استبصر رَبحَ رُشْدَ نفسِه، ومَنْ ضلَّ فقد زاغ عن قَصْدِه؛ فهذا بلاءٌ اكتسب، وذلك ضياء وشِفاء اجتلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قِفْ عند جريان أحكامنا، وانسلِخْ عن مرادِك بالكلية، ليُجْرِيَ عليك ما يريد، والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة هود

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الألف إشارة إلى انفراده بالربوبية‏.‏

واللام إشارة إلى لُطْفِه بأهل التوحيد‏.‏

والراء إشارة إلى رحمته بكافة البَرِيَّةِ‏.‏

وهي في معنى القَسَم‏:‏ أي أقسم بانفرادي بالربوبية ولطفي بمن عَرَفَني بالأحدية، ورحمتي على كافة البرية- إنَّ هذا الكتابَ أُحْكِمَتْ آياتُه‏.‏

ومعنى ‏{‏أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ‏}‏ أي حُفِظَتْ عن التبديل والتغيير، ثم فُصِّلتْ ببيان نعوتِ الحقِّ فيما يتصف به من جلال الصمدية، وتعبَّد به الخْلقُ من أحكام العبودية، ثم ما لاح لقلوب الموحِّدين والمحبين من لطائف القربة، في عاجِلهم البُشْرى بما وَعَدَهم به من عزيز لقائه في آجِلهم، وخصائصهم التي امتازوا بها عَمَّنْ سواهَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

أي فصلَتْ آياتُه بألا تعبدوا إلا الله‏.‏

ويقال معناه في هذا الكتاب ألا تعبدوا إلا الله، إني لكم «نذيرٌ» مبينٌ بالفرقة، «وبشيرٌ» بدوام الوصلة، ‏(‏فالفرقة بل في عاجله واحداً‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ‏}‏‏.‏

استغفروا ربَّكم أولاً ثم توبوا إليه بعده‏.‏

والاستغفار طلب المغفرة، يعني قبل أن تتوبوا اطلبوا منه المغفرة بحسن النَّظرة، وحَمْل الرجاء والثقة بأنه لا يُخَلِّد العاصِيَ في النار، فلا محالةَ يُخْرِجُه منها *** فابْتَدِثوا باستغفاركمْ، ثم توبوا بِتَرْكِ أوزاركم، والتَنَقِّي عن إصراركم‏.‏

ويقال استغفروا في الحال مما سلف، ثم إنْ ألْمَمْتُم بزِلَّةٍ أخرى فتوبوا‏.‏

ويقال استغفروا في الحال ثم لا تعودوا إلى ارتكاب الزلة فاستديموا التوبة- إلى مآلِكم- مما أسلفتم من قبيح أعمالكم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏اسْتَغْفِرُوا‏}‏‏:‏ الاستغفار هو التوبة، والتنقي من جميع الذنوب، ثم «توبوا» منْ تَوَهُّم أنكم تُجابُون بتوبتكم، بل اعلموا أنه يُجِيبكم بِكَرَمِه لا بأعمالكم‏.‏

ويقال «الاستغفار»‏:‏ طَلبُ حظوظكم مِنْ عَفونا‏.‏‏.‏ فإذا فعلْتُم هذا فتوبوا عن طلب كل حظ ونصيب، وارجعوا إلينا، واكتفوا بنا، راضين بما تحوزونه من التجاوز عنكم أو غير ذلك مما يخرجكم به‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعَاً حَسَنَاً إلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً‏}‏‏.‏

أي نُعَيِّشكم عيشاً طيباً حسناً مباركاً‏.‏

ويقال هو إعطاء الكفاية مع زوال الحرص‏.‏

ويقال هو القناعة بالموجود‏.‏

ويقال هو ألا يخرجَه إلى مخلوق، ولا يجعل لأحد عليه مِنَّةً لا سيما للئيم‏.‏

ويقال هو أن يوفقه لاصطناع المعروف إلى المستحقين‏.‏

ويقال هو أن تُقْضَى على يديه حوائج الناس‏.‏

ويقال هو ألا يُلِمَّ في حال شبابه بِزَلَّةٍ، وألا يتصفَ بأنه عن الله في غفلة‏.‏

ويقال هو أن يكون راضياً بما يجري عليه من نَوْعَي العسر واليسر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضَلٍ فَضْلَهُ وَإن تَوَلَّوْا فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏‏.‏

مَنْ زادتْ حسناتُه على سيئاتِه أعطاه جزاءَ ما فَضَلَ له من الطاعات، ومن زادت سيئاته على حسناته كافأه بما يستوجبه من زيادة السيئات *** هذا بيان التفسير‏.‏

ويقال مَنْ فَضَّلَه بحسن توفيقه أوصله إلى ما يستوجبه من لطفه ويزيده‏.‏‏.‏

ويقال هو أن يستر عليه فضلَه حتى لا يلاحظ حالَه ومقامه، بل ينظر إلى نفسه، وما منه ومَا لَه *** بِعَيْن الاستحقار والاستصغار‏.‏

ويقال هو أن يرقيه عن التعريج في أوطان البشرية إلى طاعات شهود الأحدية، ويُنقيِّه عن ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ البشرية، والتكدر بما يبدو من مفاجآت التقدير‏.‏

ويقال هو ألا يُوحِشَه شيء بما يجري في الوقت‏.‏

ويقال هو أن يُحَقِّقَ له ما تسمو إليه هِمَّتُه، ويُبَلِّغَه فوق ما يستوجبه محلَّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

تنقطع الدعاوى عند الرجوع إلى الله، وتنتفي الظنونُ، ويحصل اليأسُ مِنْ غير الله بكل وجه، ويبقى العبدُ بنعتِ الاضطرار، والحقُّ يُجْرِي عليه ما سَبَقَتْ به القسمة من أنواع الأقدار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أي يسترون ما تنطوي عليه عقائدهم، ويُضْمِرون للرسول- عليه السلام- وللمؤمنين خِلاَفَ ما يُظْهِرون، والحقُّ- سبحانه- مُطَّلِعٌ على قلوبهم، ويعلم خفايا صدورهم، فتلبيسُهم لا يُغْنِي عنهم من الله شيئاً، وكان الله- سبحانه- يُطْلِعُ رسولَه- عليه السلام- على ما أخْفَوْه إمَّا بتعريفِ الوحي، أو بإشهادٍ لِقُوَّةِ نورٍ، وكذلك المؤمنون كانوا مخصوصين بالفراسة، فكل مؤمن له بِقَدْرِ حاله من الله هداية، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتقوا فراسةَ المؤمن ينظر بنور الله» ولقد قال قائلهم‏.‏

أَبِعَيْنِي أَرَاكَ أَمْ بفؤادي‏؟‏ *** كلُّ ما في الفؤاد للعين بادِ

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ زِزْقُهَا‏}‏‏.‏

أراح القلوبَ من حيرة التقسيم، والأفكارَ من نَصَبِ التفكير في باب الرزق حيث قال‏:‏ ‏{‏إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ فَسكَنَتْ القلوبُ لمَّا تَحَقَّقَتْ أنَّ الرزقَ على الله‏.‏

ويقال إذا كان الرزق على الله فصاحبُ الحانوتِ في غَلَطٍ من حسبانه‏.‏ ثم إن اللَّهَ سبحانه بيَّنَ أَنَّ الرزقَ الذي «عليه» ما حالُه فقال‏:‏ ‏{‏وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏، وما كان في السماءِ لا يوجد في السوق، ولا في التَّطواف في الغرب والشرق‏.‏

ويقال الأرزاق مختلفة فَرِزْقُ كل حيوانٍ على ما يليق بصفته‏.‏

ويقال للنفوسِ رزقٌ هو غذاءُ طريقُه الخْلقُ، وللقلوب رزق وهو ضياءٌ مُوجِدُهُ الحق‏.‏

ويقال لم يقل ما يستهيه أو مقدار ما يكفيه بل هو موكولٌ إلى مشيئته؛ فَمِنْ مُوَسَّعٍ عليه ومِنْ مُقَتَّرِ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

قيل أراد به أصلابَ الآباءِ وأرحامً الأمهات، أو الدنيا والآخرة‏.‏ ويقال مُسْتَقرُّ المريد بباب شيخِه كمستقرُّ الصبي بباب والديه، ويقال مستقر العابدين المساجد، ومستقر العارفين المشاهد، فالمساجد مستقر نفوسِ العابدين، والمشاهِدُ مُسْتَقَرُّ قلوب العارفين‏.‏

ويقال مستقرُّ المحب رأسُ سِكَّةِ محبوبِه لعلَّه يشهده عند عبوره‏.‏

ويقال المساجِدُ للعابدين مستقرُّ القَدَم، والمشاهِدُ للعارفين مستقرُّ الهِمَم، والفقراء مستقرهم سُدَّةُ الكَرَم‏.‏

ويقال الكلُّ له مثوىً ومستقر، أما الموحِّد فإنه مأوى له ولا مستقر ولا مثوى ولا منزل‏.‏

ويقال النفوس مستودَعُ التوفيق من الله، والقلوبُ مستودعُ التحقيق من قِبَلِ الله‏.‏

ويقال القلوبُ مستودعُ المعرفة؛ فالمعرفة وديعة فيها، والأرواح مستودع المحبة فالمحابُ ودائع فيها‏.‏ والأسرار مستودع المشاهدات فالمشاهدات ودائع فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الَمآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏‏.‏

وأَحْسَنُ الأعمالِ موافقةُ الأمرِ، ولم يَقُلْ أكثر عملاً‏.‏

ويقال أحسن الأعمال ما كان صاحبُه أشدَّ إخلاصاً فيه‏.‏

ويقال أحسنهم عملاً أبعدُهم عن ملاحظة أعماله‏.‏

ويقال أحسن الأعمال ما ينظر إليه صاحبه بعين الاستصغار‏.‏

ويقال أحسن الأعمال ما لا يطلبُ صاحبُه عليه عِوَضَاً‏.‏

ويقال أحسن الأعمال ما غابَ عنه صاحبه لاستغراقه في شهود المعبود‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ‏}‏ الابتلاءُ مِنْ قِبَلِه تعريفُ الملائكة حالَ من يبتليه في الشكر عند اليُسْر والصبر عند العُسر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوتِ لِيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

استبعدوالنَّشْرَ لِتَقاصُرِ علومهم عن التحقُّق بكمال قدرة الحق، ولو عرفوا ذلك لأيقنوا أن البث ليس بمعتاص في الإيجاد ولا يمستحيلٍ في التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول‏:‏ إنْ أَمْهَلْنَا، وأخَّرْنا عليهم العذابَ لا يَرْعَوُون، بل يستعجلون العقوبة‏.‏ ولئن عَجَّلْنا لهم العقوبةَ لا يتوبون ولا يستغفرون *** استولى عليهم الجهلُ في الحاليْن، وعَمِيَتْ بصائرُهم عن شهودِ التقدير والإيمان بالغيب في النوعين‏.‏ ويوم يأتيهم العذابُ فلا مناصً ولا منجاةَ ولا مراحَ لهم منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

تَكَدُّرُ ما صفا من النِّعم، وتَغيُّرُ ما أُتيح من الإحسان والمِنَن حالٌ معهودةٌ وخُطَّة عامة، فلا أحدَ إلا وله منها خِطَّه فَمْنْ لم يرجع بالتأسُّفِ قلبه، ولم يتضاعفْ في كل نَفَسٍ تَلَهفُّهُ وكَرْبُه ففي ديوان النسيان، وأثبت اسمه في جملة أهل الهجران‏.‏ ومن استمسك بعروة التضرع، واعتكف بعقوة التذلل، احتسى كاساتِ الحسرة عُلَلاً بعد نهل طاعته للحق بنعت الرحمة، وجَدَّدَ له ما اندرس من أحوال القربة، وأطْلَعَ عليه شمسَ الإقبال بعد الأفول والغيبة، كما قيل‏.‏

تَقَشَعَ غَيمُ الهجرِ عن قمر الحبِّ *** وأشرق نورُ الصبح في ظلمة الغيب

وليس للأحوال الدنيوية خَطَرٌ في التحقيق، ولا يُعدُّ زوالها وتكدُرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل، لكنَّ المحنة الكبرى والرزيةَ العظمى ذبولُ غصنِ الوصال؛ وتكدرُ مشرب القرب، وأفولُ شوارق الأُنْسِ، ورَمَدُ بصائر أرباب الشهود *** فعند ذلك تقوم قيامتُهم، وهناك تُسْكَبُ العَبَراتُ‏.‏ ويقال إذا نَعَقَ في ساحاتِ هؤلاء غرابُ البيْن ارتفع إلى السماء نُوَاحُ أسرارهم بالويل، ومن جملة ما يبثون نحيبهم ما قلتُ‏:‏

قولاً لَمِنْ سَلَبَ الفؤادَ فراقُه *** ولقد عَهِدنا أن يُبَاحَ عِتَاقُه

بَعُدَ الفراق *** فبالذي هو بيننا *** هَلاَّ رحمتم مَنْ دنا إزهاقُه‏؟‏

عهدي بمن جحد الهوى أزمان كُ *** نَّا بالصبابةِ- لا يَضيق نِطاقُه

والآن مُذْ بَخلَ الزمانُ بوصلنا *** ضاق البسيطة حين دام فراقُه

هل تُرتَجى من وصل عِزَّك رجعةٌ *** تحنو على قمرٍ يدوم محاقُه‏؟‏

إن كان ذاك كما تروم فأخْبِروا *** أنَّى له أن يعودَ شروقَه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

إذا كشفنا الضُرَّ عنهم رحمةً مِنَّا عادوا إلى تهتكهم بدلاً من أن يتقربوا إلينا، وأساءوا بخلع عذارهم بدل أن يقوموا بشكرنا، وكلما أتَحْنَا لهم من إمهالنا أَمِنوا بمكرنا ولم يخافوا أنْ نأخذَهم فجأة بقهرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الإنسان في الآية السابقة اسم جنس‏.‏

وإلا للاستثناء منه، وقيل بمعنى «لكن»، يريد إذا أذقناهم نعمة بعد الشدة بطروا، إلا المؤمنين فإنهم بخلاف ذلك، أي لكنَّ الذين آمنوا بخلاف ذلك، فإنهم لصبرهم على ما به أُمِروا، وعما عنه زُجِروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزَّلات *** فلهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجرٌ على إحسانهم‏.‏ والفريقان لا يستويان، قال قائلهم‏.‏

أَحْبَابُنا شَتَّان وافٍ وناقِصٌ *** ولا يستوي قطٌُّ مُحبٌّ وباغض

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

اقترحوا عليه أن يأتي بكتاب ليس فيه سَبُّ آلهتهم، وبيَّن الله- سبحانه- له ألا يتركَ تبليغ ما أُنزِل عليه لأجْلِ كراهتهم، ولا يُبدِّلَ ما يُوحَى إليه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَضَآئِقٌ بهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلٍ شَئٍ وَكِيلٌ‏}‏‏.‏

وهذا على وجه الاستبعاد؛ أي لا يكون منك تركُ ما أُوحِيَ إليك، ولا يضيق صَدرُك بما يبدو من الغيب *** ومَنْ شرح الله بالتوحيد صدرَه، ونوَّر بشهود التقدير سِرَّه-متى يلحقه ضيق صدْرٍ أو استكراهُ أَمْرٍ‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ‏}‏‏:‏ أي أنت بِالإرسال منصوبٌ، وأحكامُ التقدير عليكَ مُجْرَاةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

في الآية بيانٌ أنَّ المكلَّفَ مُزَاحُ العِلَّةِ لِمَا أُقِيمَ له من البرهانِ وأُهِّلَ له من التحقيق‏.‏ وأَنَّ الإيمانَ بالواسطة- صلى الله عليه وسلم وآله- واجِبٌ لِما خُصَّ به من المعجزات التي أوضحها الكتابُ المُنَزَّلُ والقرآنُ المُفَصَّلُ الذي عجز الكفار عن معارضته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يعني فإن لم يستجيبوا لكم يعني إلى الإتيان بمثله- وهم أهل بلاغة- فتحققوا أنه من قِبَلِ الله، وليس على سنة التحقيق ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إنما العمى في بصائر من ضلُّوا عن الحقِّ، وتاهوا في سدفة الحيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

مَنْ قَنَع منهم بدنيا الدناءةُ صِفَتُها وَسَّعْنَا عليه في الاستمتاع بأيام فيها، ولكن عَقِبَ اكتمالِها سيرى زوالَها، ويذوق بعد عسلِها حَنْظَلَها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أولئك الذين خَابَتْ آمالُهُم، وظهرت لهم- بخلاف ما احتسبوا- ألامُهم، حَبِطَتْ أعمالُهم- وحاق بهم سوء حالهم‏.‏