فصل: تفسير الآية رقم (8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة يوسف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

التخاطُب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سُنَّةُ الأحباب في سَتْر المحابِّ؛ فالقرآنُ- وإنْ كان المقصودُ منه الإيضاحَ والبيانَ- ففيه تلويح وتصريح، ومُفَصَّلٌ ومُجْمَلٌ، قال قائلهم‏:‏

أبكي إلى الشرق إنْ كانت منازْلُكم *** مما يلي الغربَ خوفَ القيل والقالِ

ويقال وقفت فهُومُ الخَلْق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه- صلى الله عليه وسلم-، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة أفرد الحبيبَ بفهمه، فهو سِرُّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب، يقول قائلهم‏:‏

بين المحيين سِرُّ ليس يُفْشيه *** قولٌ، ولا قلم للخْلق يحكيه

وفي إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة‏:‏ وهي أنَّ منْ كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيراً من المعاني، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير؛ ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وَصْلِه؛ فأنزل اللَّهُ هذه الحروف التي لا سبيلَ إلى الوقوف على معانيها، ليكون للأحباب فُرْجَةٌ حينما لا يقفون على معانيها بِعَدَم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مُطَالَبةٌ بالفهم، وكان ذلك لائقاً بأحوالهم إذا كانوا مستغرِقين في عين الجَمْع، ولذا قيل‏:‏ استراح من العقل له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خَبَرُ الوعد الذي وعدناك‏.‏

وقيل هذا تعريفنا‏:‏ إليك بالتخصيص، وأفرادُنا لك بالتقريب- قد حقَّقْناه لكَ؛ فهذه الحروف بيانٌ للإنجاز ولتحقيق الموعود‏.‏

والإشارة من ‏{‏الْكِتَابِ الْمُبِينِ‏}‏ ها هنا إلى حُكْمِه السابق له بأَنْ يُرَقِّيَه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيرُه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏ أي حين كلَّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوِّ قَدْرِك، ولم تكن حاضراً، وأخبرناه بأننا نُبَلِّغُك هذا المقامَ الذي أنت فيه الآن‏.‏ وكذلك كلُّ مَنْ أوحينا إليه ذَكَرْنَا له قِصَتَكَ، وشَرَحْنَا له خِلقَتك، فالآنَ وقتُ تحقيق ما أخبرنا به، وفي معناه أنشدوا‏:‏

سُقْياً لمعهدِكَ الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهدا

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الْزَّبُورِ مِن بَعْدِ الْذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ يعني بعد التوراة ‏{‏أَنَّ اَلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبادِىَ الْصَّالِحُونَ‏}‏ يعني أمة محمد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

في إنزال الكتاب عليه، وإرسالِ الرسول إليه- تحقيقٌ لأحكام المحبة، وتأكيدٌ لأسباب الوصلة؛ فإنَّ مَنْ عَدِمَ حقيقة الوصول استأنس بالرسول، وَمنْ بَقِيَ عن شهود الأحباب تَسَلّى بوجود الكتاب، قال قائلهم‏:‏

وكتُبكَ حَوْلي لا تُفارقُ مضجعي *** ففيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُّصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏:‏ لخلوِّه عن الأمر والنهي الذي سماعه يوجب اشتغال القلب بما هو يعرِّض لوقوع التقصير‏.‏

‏{‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏:‏ ففيه ذكر الأحباب‏.‏

‏{‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏:‏ لأن فيه عفوَ يوسف عن جناياتِ إخوته‏.‏

‏{‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏:‏ لما فيه من ذِكْرِ تَرْكِ يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عندما راودته عن نفسه‏.‏

‏{‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏:‏ بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس‏.‏

‏{‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏:‏ لأنه غير مخلوق‏.‏

ويقال لمَّا أخبره الله- سبحانه- أن هذه القصةَ أحسنُ القصص وجد رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه؛ فَعَلِمَ أن الله تعالى لم يُرَقِّ أحداً إلى مثل ما رقاه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ‏}‏‏.‏

أي الذاهبين عن فهم هذه القصة‏.‏ أي ما كنتَ إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها، إي إنك لم تَصِلْ إلى معرفتها بكدَّك وجهدك، ولا بطلبك وجِدِّك‏.‏‏.‏ بل هذه مواهبُ لا مكاسب؛ فبعطائِنا وَجَدْتَها لا بعنائك، وبِتَفَضُّلِنَا لا بتعلُّمِكَ، وبِتَلَطُّفِنا لا بتكلٌّفِك، وبنا لا بك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

لما ذكر يوسف- عليه السلام- رؤياه لأبيه عَلِمَ يعقوبُ- عليه السلام- صِدْقَ تعبيرها، ولذلك كان دائم التذكُّر ليوسف مدةَ غيبته، وحين تطاولتْ كان يَذْكُرُه حتى قالوا‏:‏ ‏{‏تَاْللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 85‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنِى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 96‏]‏ فهو كان على ثقةٍ من صِدْقِ رؤياه‏.‏

فإنْ قيل‏:‏ فإذا كان الصبيُّ لا حُكْم لِفْعلِه فكيف يكون حكم لرؤياه‏؟‏ وما الفرق‏؟‏ فيقال‏:‏ إن الفعل بتَعَمُّدٍ يحصل فيكون مُعْرَّضاً لتقصير فاعله، أمَّا الرؤيا فلا تكون بتعمد منه فتنسب إلى نقصان‏.‏

ويقال إنَّ حقَّ السِّرِّ ولو كان على مَنْ هو قريب منك؛ فإن يوسف لما أظهر سِرَّ رؤياه على أبيه اتصل به البلاءُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

إذا جاء القضاءُ لا ينفع الوعظ والحذر؛ فإن النصيحة والحذر لا يزيدان على ما نصح يعقوب ليوسف عليهما السلام، ولكن لمَّا سبق التقديرُ في أمر يوسف- عليه السلام- حصل ما حصل‏.‏

ويقال إن يوسف خَالَفَ وصية أبيه في إظهارِ رؤياه إذ لو لم يُظْهِرْها لما كادوا له، فلا جَرَم بسبب مخالفته لأبيه- وإن كان صبياً صغيراً- لم يَعْرَ مِنَ البلايا‏.‏

ويقال لما رأى يوسف في منامه ما كان تأويلُه سجودَ الأخوة له رأى ما تعبيره‏:‏ وسجود أبيه وخالته حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ‏}‏؛ فدخل الإخوة الحَسَدَ أما الأب فلم يدخله إلا بنفسه لِفَرْطِ شفقة الأبوة‏.‏

ويقال صَدَقَ تعبيره في الإخوة فسجدوا له حيث قال‏:‏ ‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ ولم يسجد الأبُ ولا خالته حيث قال‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ فإن يوسفَ صانَهما عن ذلك مراعاةً لحشمة الأبوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏}‏‏.‏

أي كما أمرك بهذه الرؤيا التي أَرَاكَها يجتبيك ويُحْسِنُ إليك بتحقيق هذه الرؤيا، وكما أكرمك بوعد النعمة أكرمك بتحقيقها‏.‏

ويقال الاجتباء ما ليس للمخلوق فيه أثر، فما يحصل للعبد من الخيرات- لا بتكلفه ولا بتعمده- فهو قضية الاجتباء‏.‏

ويقال من الاجتباء المذكور أَنْ عَصَمَه عن ارتكاب ما راودته امرأة العزيز عن نفسه‏.‏

ويقال من قضية الاجتباء إسباله الستر على فعل إخوته حيث قال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أْحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ الْسِّجْنِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏، ولم يذكر خلاصَه من البئر ومن قضية الاجتباء توفيفه لسرعة العفو عن إخوته حيث قال‏:‏ ‏{‏لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏}‏‏.‏

أي لتعرفَ قَدْرَ كلَّ احد، وتقفَ على مقدار كلِّ قائلٍ بما تسمع من حديثه‏.‏‏.‏ لا مِنْ قوله بل لِحدَّةِ كياستك وفَرْطِ فراستك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أتَمَّهَا عَلَى أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَق إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

مِنْ إتمامِ النعمة توفيقُ الشكر على النعمة، ومن إتمام النعمة صَوْنُها عن السَّلبِ والتغيير، ومن إتمام النعمة التَّحرز منها حتى تَسْهُلَ عليكَ السماحةُ بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يعني لكلِّ ذي مِحنة حتى يعلم كيف يصبر، ولكلَّ ذي نعمة حتى يعلم كيف يشكر‏.‏

ويقال في قصتهم كيفية العفو عن الزَلَّة، وكيفية الخَجْلَةِ لأهل الجفاءِ عند اللقاء‏.‏

ويقال في قصتهم دلالاتُ لطفِ الله سبحانه بأوليائه بالعصمة، وآياتٌ على أنَّ المحبة ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ من المحنة‏.‏

ويقال فيها آياتٌ على أَنَّ من صَدَقَ في رجائه يُخْتَصُّ- يوماً- ببلائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

عُرِّفُوا على ما سَتَرُوه من الحَسَدِ، ولم يحتالوا في إخراج ذلك من قلوبهم بالوقيعة في أبيهم حتى قالوا‏:‏ ‏{‏إنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

ويقال لما اعترضوا بقلوبهم على أبيهم في تقديم يوسف في المحبة عاقبهم بأن أمهلهم حتى بسطوا في أبيهم لسانَ الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال، وإن كان المرادُ منه الذهابَ في حديث يوسف عليه السلام، ولمَّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يَرْضَ- سبحانه- حتى أَقَامَهم بين يدي يوسف عليه السلام، وخرُّوا له سُجَّداً ليْعلَموا أَنَّ الحسودَ لا يسود‏.‏

ويقال أطولُ الناسِ حُزْنا مَنْ لاَقى الناسَ عن مرارةٍ، وأراد تأخيرَ مَنْ قَدَّمه اللَّهُ أو تقديمَ مَنْ أَخَّرَه اللَّهُ؛ فإخوةُ يوسف- عليه السلام- أرادوا أن يجعلوه في أسفل الجُبِّ فرفعه الله فوقَ السرير‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ‏}‏‏.‏

أي يخْلُصْ لكم إقبالُ أبيكم عليكم، وقديماً قيل‏:‏ مَنْ طَلَبَ الكُلَّ فَاتَه الكلُّ؛ فلمَّا أرادوا أن يكون إقبالُ يعقوب- عليه السلام- بالكليَّةِ- عليهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 93‏]‏‏.‏

ويقال كان قَصْدُهم ألا يكونَ يوسف عليه السلام أمامَ عينه فقالوا‏:‏ إمَّا القتلُ وإمَّا النَّفيُ، ولا بأسَ بما يكونُ بعد ألا يكونَ يوسف عليه السلام‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ‏}‏‏.‏

عَجَّلوا بالحرام، وَعلَّقُوا التوبةَ بالتسويف والعزم، فلم يمحُ ما أَجَّلُوا من التوبة ما عجَّلوا من الحَوْبة‏.‏

ويقال لم تَطِبْ نفوسُهم بأن يذهبوا عن بابِ اللَّهِ بالكليَّة فدبَّروا لُحسْنِ الرجوع قبل ارتكاب ما دعته إليه نُفُوسُهم، وهذه صفة أهل العرفان بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

إخوةُ يوسف- وإنْ قابلوه بالجقاء- مَنَعَتْهُم شفقةُ النَّسَبِ وحُرْمةُ القرابةِ من الإقدام على قتله؛ فقالوا لا تقتلوه وغَيِّبُوا شَخْصَه‏.‏

ويقال إنما حَمَلَهم على إلقائه مرادُهم أن يخلوَ لهم وجهُ أبيهم، فلمَّا أرادوا حصولَ مرادهم في تغييبه لم يبالغوا في تعذيبه‏.‏

ويقال لمَّا كان المعلومً له- سبحانه- في أمر يوسف تتليغَه إياه تلك القربة ألقى الله في قلبِ قائلهم حتى قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ‏}‏‏.‏

ثم إنه- وإن أبلاه في الحال- سَهَّلَ عليه ذلك في جَنْبِ ما رقَّاه إليه في المآل، قال قائلهم‏:‏

كم مرةٍ حَفَّت بِكَ المكارِه *** خَارَ لَكَ اللَّهُ- وأنت كاره

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

كلامُ الحسودِ لا يُسْمَع، ووعدُه لا يُقْبل- وإنْ كانا في مَعْرِضِ النُّصحِ؛ فإِنَّهُ يُطْعِمُ الشَهْدَ ويَسْقِي الصَّابَ‏.‏

ويقال العَجَبُ من قبول يعقوب- عليه السلام- ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه السلام وقد تفرَّسَ فيهم قلبه فقال ليوسف‏:‏ ‏{‏فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدْاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 5‏]‏ ويكن إذا جاء القضاءُ فالبصيرةُ تصير مسدودةً‏.‏

ويقال من قِبَلَ على محبوبه حديثَ أعدائه لَقِيَ ما لَقِي يعقوبُ في يوسف- عليهما السلامُ- من بلائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

يقال أطمعوا يعقوبَ عليه السلام في تمكينهم من يوسف بما فيه راحةُ نَفْسٍ في اللعب، فطابَتْ نَفْسُ يعقوب لإذهابهم إياه من بين يديه- وإنْ كان يشَقُّ عليه فراقُه، ولكنَّ المحبَّ يؤثِرُ راحةَ محبوبه على محبةِ نَفْسِه‏.‏

ويقال ما رَكَنَ إلى قولهم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏- أي مِنْ قِبَلهِمِ- حتى قالوا‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏؛ فَمَنْ أسَلم حبيبَه إلى أعدائه غُصَّ بتحسِّي بلائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يَحْزُنني أن تذهبوا به لأني لا أصْبِر عن رؤيته، ولا أطيق على فُرقتِه *** هذا إذا كان الحالُ سلامته *** فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب‏؟‏‏!‏

ويقال‏:‏ لما خاف عليه من الذئب امتُحِنَ بحديث الذئب، ففي الخبر ما معناه‏:‏ «إنما يُسََلِطُ على ابن آدم ما يخافه» وكان في حقه أن يقول أخافُ الله لا الذئب، وإنْ كانت مَحَالُّ الأنبياء- عليهم السلام- محروسةً من الاعتراض عليها‏.‏

ويقال لمَّا جرى على لسان يعقوب- عليه السلام- من حديث الذئب صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهْتَدَوْا إلى الذئب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لَحقَ إخوة يوسف عليه السلام ما وصفوا به أنفسهم من الخسران حيث قالوا‏:‏

‏{‏إِنَّآ إِذاً لَّخَاسِرُونَ‏}‏‏:‏ لأنَّ مَنْ باع أخاً مثل يوسف بمثل ذلك الثمن حقيقٌ بأن يقال قد خسرت صفقتُه‏.‏

ويقال لمَّا عدُّوا القوة في أنفسهم حين قالوا‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ خُذِلُوا حتى فعلوا‏.‏

ويقال لمَّا رَكَنَ يعقوبُ- عليه السلام- إلى قولهم‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ لَقِيَ ما لَقِيَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

الجوابُ فيه مُقَدَّر؛ ومعناه فلما ذهبوا بيوسف وعزموا على أن يلقوه في البئر فعلوا ما عزموا عليه‏.‏ أو فلمَّا ذهبوا به وألقوه في غيابة الجُبِّ أوحينا إليه؛ فتكون الواو صلة‏.‏ والإشارة فيه أنه لمَّ حَلَّتْ به البلوى عجَّلنا له التعريفَ بما ذكرنا من البُشرَى؛ ليكون محمولاً بالتعريف فيما هو محتمِّلٌ له من البلاء العنيف‏.‏

ويقال حين انقطعت على يوسف عليه السلام مراعاةٌ أبيه حَصَلَ له الوحيُ مَنْ قِبَل مولاه، وكذا سُنَّتُه تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه باباً من البلاءِ إلا فَتَحَ على قلوبهم أبوابَ الصفاء، وفنون لطائف الولاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ‏}‏‏.‏

تمكينُ الكذَّاب من البكاء سِمَةُ خذلان الله تعالى إياه، وفي الخبر‏:‏ «إذا كَمُلَ نفاقُ المرء مَلَكَ عَيْنَه حتى يبكي ما شاء»‏.‏

ويقال‏:‏ لا يَبْعُدُ أَنْ يقال إنهم وإنْ جَنَوْا على يوسف عليه السلام فقد ندموا على ما فعلوا، فَعَلاَهُمْ البكاءُ لنَدمهم- وإن لم يُظْهروا لأبيهم- وتَقَوَّلُوا على الذِّئبِ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وجآءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏‏.‏

لم يُؤثِّرْ تزويرُ قَالَبِهم في إيجاب تصديق يعقوب- عليه السلام- لكذبهم بل أخبره قلبُه أَنَّ الأمرَ بخلاف ما يقولونه فقال‏:‏

‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرَاً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏}‏‏.‏

فَعلم على الجملة وإنْ لم يعلمْ على التفضيل *** وهكذا تقرع قلوبَ الصديقين عواقبُ الأمور على وجه الإجمال، إلى أنْ تَتَّضحَ لهم تفاصيلُها في المستأنف‏.‏

ويقال عوقبوا على ما فعلوه بأن أُغفلوا عن تمزيق قميصه حتى عَلم يعقوب تَقَوُّلَهم فيما وصفوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ليس كلُّ من طلب شيئاً يُعطى مرادَه فقط بل ربما يُعْطَى فوق مأموله؛ كالسيارة كانوا يقنعون بوجود الماء فوجدوا يوسفَ عليه السلام‏.‏

ويقال ليس كل مَنْ وَجَدَ شيئاً كان كما وجده السيارة؛ توهموا أنهم وجدوا عبداً مملوكاً وكان يوسف- في الحقيقة- حُرَّاً‏.‏

ويقال لمَّا أراد اللَّهُ تعالى خلاصَ يوسف- عليه السلام- من الجُبِّ أزعج خواطر السِّيارة في قصد السفر، وأعدمهم الماءَ حتى احتاجوا إلى الاستقاء لِيَصِلَ يوسف عليه السلام إلى الخلاص، ولهذا قيل‏:‏ ألا رّبَّ تشويشٍ يقع في العَالَم، والمقصودُ منه سكونُ واحدٍ‏.‏ كما قيل‏:‏ رُبَّ ساع له قاعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لم يعرفوا خسرانهم في الحال ولكنهم وقفوا عليه في المآل‏.‏

ويقال قد يُبَاعُ مثل يوسف عليه السلام بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجةُ إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغَبْن‏.‏

ويقال‏:‏ لم يحتشموا من يوسف- عليه السلام- يوم باعوه ثمنٍ بَخْسٍ، ولكن لمَّا قال لهم‏:‏ أنا يوسف وقع عليهم الخجل، ولهذا قيل‏:‏ كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء‏.‏

ويقال لمَّا خَرُّوا له سُجَّداً علموا أنَّ ذلك جزاءُ مَنْ باع أخاه بثمنٍ بخسٍ‏.‏

ويقال لمَّا وصل الناسُ إلى رفق يوسف عاشوا في نعمته، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه في مقام الذُّلِّ قائلين ‏{‏مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 88‏]‏، وفي معناه أنشدوا‏:‏

ستسمع بي وتذكرني *** وتطلبني فلا تجدِ

ويقال ليس العَجَبُ ممن يبيع مثلَ يوسف- عليه السلام- بثمنٍ نَجْسٍ إنما العَجَبُ ممن ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، لا سيَّما ‏{‏وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ‏}‏ الخرق لا غاية له، وكذا العجب لا نباته له‏.‏

ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف- عليه السلام- بثمنٍ بخسٍ، إنما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزُّ من الكبريت الأحمر بعَرَضٍ حقيرٍ من أعراض الدنيا‏.‏

ويقال إنَّ السيارة لم يعرفوا قيمته فزهدوا في شرائه بدراهم، والذين وقفوا على جماله وشيءٍ من أحواله غالوا- بمصر- في ثمنه حتى اشتروه بزنته دراهم ودنانير مراتٍ كما في القصة، وفي معناه أنشدوا‏:‏

إنْ كنتُ عندكَ يا مولاي مُطَّرَحاً *** فعند غيرِك محمولٌ على الحَدَقِ

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِى اشْتَراهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً‏}‏‏.‏

لمَّا نودي على يوسف في مصر بالبيع لم يَرْضَ الحقُّ- سبحانه- حتى أصابتهم الضرورةُ ومَسَّتْهُمْ الفاقة حتى باعوا من يوسف- عليه السلام- جميعَ أملاكهم، ثم باعوا كلُّهم منه أنْفُسَهم- كما في القصة- وفي آخر أمرهم طلبوا الطعام، فصاروا بأجمعهم عبيدَه، ثم إنه عليه السلام لما مَلَكَهم مَنَّ عليهم فأعتقهم؛ فَلَئنْ مَرَّ عليه بمصرَ يومٌ نودي فيه عليه بالبيع؛ فقد أصبح بمصر يوماً آخر وقد ملَكَ جميعَ أملاكهم، ومَلَكَ رقابَ جميعهم؛ فيومٌ بيومٍ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5‏]‏ يومان شَتَّان بينهما‏!‏

ثم إنه أعتقهم جميعاً *** وكذا الكريمُ إذا قدر غفر‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏}‏‏.‏

أراد مَنْ حَسَدَه أَلا تكونَ له فضيلةٌ على إخوته وذويه، وأراد اللهُ أن يكونَ له مُلْكُ الأرضِ، وكان ما أراد اللهُ لا ما أراد أعداؤه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ‏}‏‏.‏

أرادوا أن يكونَ يوسفُ عليه السلام في الجُبِّ، وأراد اللَّهُ- سبحانه- أن يكون يوسف على سرير المُلْكِ؛ فكان ما أراد الله، والله غالبٌ على أمره‏.‏ وأرادوا أن يكون يوسفُ عبداً لمن ابتاعوه من السيارة، وأراد اللهُ أن يكونَ عزيزَ مصر- وكان ما أراد اللَّهُ‏.‏

ويقال العِبْرَةُ لا ترى من الحقِّ في الحال، وإنما الاعتبارُ بما يظهر في سِرِّ تقديره في المآل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

من جملة الحُكمْ الذي آتاه اللَّهُ نفوذُ حُكْمِه على نَفْسِه حتى غَلَبَ شهوته، وامتنع عما رَاوَدَتْه تلك المرأةُ عن نَفْسِه؛ ومن لا حكم له على نفسه فلا حكْمَ له على غيره‏.‏

ويقال إنما قال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ أي حين استوى شبابُه واكتملت قُوْته، وكان وقت استيلاء الشهوة، وتوفر دواعي مطالبات البشرية آتاه الله الحِكْمَ الذي حبسه على الحقِّ وصَرَفَه عن الباطل، وعَلِمَ أنَّ ما يعقب اتباع اللذاتِ من هواجم النَّدم أشدُّ مقاساةً من كلفة الصبر في حال الامتناع عن دواعي الشهوة *** فآثَرَ مَشَقَّةَ الامتناع على لَذَّةِ الاتباع‏.‏ وذلك الذي أشار إليه الحقُّ- سبحانه- من جميل الجزاء الذي اعطاه هو إمدادُه بالتوفيق حتى استقام في التقوى والورع على سَوَاءِ الطريق، قالَ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏ أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سُبَلَ الصبرِ على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائقُ المواصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لما غَلَّقَتْ عليه أبوابَ المسكنِ فَتَحَ الله عليه باب العصمة، فلم يُضِرْه ما أُغْلِقَ بعد إكرامه بما فُتِحَ‏.‏

وفي التفسير أنه حفظ حُرْمةَ الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز‏.‏

وفي الحقيقة أشار بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِى‏}‏ إلى ربِّه الحقِّ تعالى‏:‏ هو مولاي الحق تعالى، وهو الذي خلَّصني من الجُبِّ، وهو الذي جعل في قلب العزيز لي محلاً كبيراً فأكرم مثواي فلا ينبغي أَنْ أُقْدِمَ على عصيانه- سبحانه- وقد غمرني بجميل إحسانه‏.‏

ويقال إن يوسف عليه السلام قال لها‏:‏ إن العزيز أمرني أَنْ أنفعَه‏.‏ ‏{‏عَسَى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ فلا أَخُونُه في حُرْمَتِه بظهر الغيب‏.‏

ويقال لمَّا حفظ حُرْمة المخلوقِ بظهر الغيب أكرمه الحقُّ سبحانه بالإمداد بالعصمة في الحال ومَكَّنَه من مواصلتها في المآل على وجه الحَلاَل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ما ليس بفعل الإنسان مما يعتريه- بغير اختياره ولا بِكَسْبِه- كان مرفوعاً لأنه لا يدخل تحت التكليف، فلم يكن «الهمُّ» منه ولا منها زَلَّةً، وإنما الزًّلَّةُ من المرأة كانت من حيث عَزَمَتْ على ما هَمَّتْ، فأمّا نفسُ الهمّ فليس مما يَكْسِبُه العبد‏.‏

ويقال اشتركا في الهمِّ وأُفْرِد- يوسف عليه السلام- بإشهاده البرهان‏.‏

وفي تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان‏؟‏- تكلُّفٌ غيرُ محمودٍ إذا لا سبيل إليه إلا بالخَبَرِ المقطوع به‏.‏

وفي الجملة كان البرهانُ تعريفاً من الحقِّ إياه بآية من آيات صُنْعِه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الأَفَاقِ وفِى أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ‏}‏ صَرَفَ عنه السُّوءَ حتى لم يوجَد منه العزمُ على ذلك الفعل- وإنْ كان منه همٌ- إلا أن ذلك لم يكن جُرْماً كما ذكرنا‏.‏

والصَّرْفُ عن الطريق بعد حصول الهمِّ- كشفٌ، والسوءُ المصروفُ عنه هو العزمُ على الزنا والفحشاء أو نفْسُ الزنا، وقد صرفها الله تعالى عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ‏}‏‏:‏ لم تكن نجاتُه في خلاصه، ولكن في صرفِ السوء عنه واستخلاصه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاسْتَبَقَا البَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ‏}‏‏.‏

استبقا، هذا ليَهْرَبَ، وهذه للفعلة التي كانت تطلب‏.‏

ولم يضر يوسفَ- عليه السلام- أَنْ قَدَّتْ قميصه وهو لِبَاسُ دنياه بعد ما صحَّ عليه قميصُ تقواه‏.‏

ويقال لم تَقْصِدْ قَدَّ القميصِ وإنما تَعَلَّقَتْ به لتَحْبِسَه على نفسها، وكان قصدُها بقاءَ يوسف- عليه السلام- معها، ولكن صار فعلُها وَبالاً على نَفْسِها، فكان بلاؤها من حيث طَلَبَتْ راحتهَا وشفاءَها‏.‏

ويقال تولَّد انخراقُ القميصِ من قبضها عليه وكان في ذلك افتضاح أمرها؛ لأن قَبْضَها على قميصه كان مزجوراً عنه‏.‏‏.‏ ليُعْلَمَ أنَّ الفاسِدَ شَجُّه فاسدٌ‏.‏

ويقال لشدة استيلاء الهوى عليها لم تعلم في الحالِ أنها تقدُّ قميصه من ورائه أو من قُدَّامِه‏.‏‏.‏ كذلك صاحبُ البلاءِ في الهوى مسلوبُ التمييز‏.‏

ويقال لمّا لم تَصِلْ ولم تتمكن من مرادها من يوسف خَرَقَتْ قميصَه ليكونَ لها في إلقائها الذَّنْبَ على يوسف- عليه السلام- حُجَّةٌ، فَقَلَبَ اللَّهُ الأمرَ حتى صار ذلك عليها حجة، وليوسف دلالة صدق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيئ إلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ‏}‏‏:‏ لمَّا فَتَحَا البابَ وجدا سيدها لدى الباب، والإشارة فيه إلى أن ربك بالمرصاد؛ إذا خَرَجَ العبدُ عن الذي هو عليه من التكليف في الحال وقع في ضِيق السؤال‏.‏

ويقال قال‏:‏ ‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا‏}‏ ولم يقل سيدهما لأن يوسف في الحقيقة كان حراً ولم يكن العزيزُ له سيداً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

شَغَلَتْهُ بإغرائها إياه بيوسف عن نَفْسِها بأن سَبَقَتْ إلى هذا الكلام‏.‏

ويقال لقنته حديث السجن أو العذاب الأليم لئلا يقصد قتلَه؛ ففي عين ما سَعَتْ به نظرت له وأَبْقتْ عليه‏.‏

ويقال قالت ما جزاء من فعل هذا إلا السجن فإن لم ترضَ بذلك، وستزيد؛ فالعذاب الأليم يعني الضّرب المُبَرِّح‏.‏‏.‏ كأنما ذكرت حديث العقوبة بالتدريج‏.‏

ويقال أوقعت السجن الذي يبقى مؤجَّلاً في مقابلة الضرب الأليم المعجل ليُعْلَم أَنّ السجنَ الطويل- وإنْ لم يكن فيه في الظاهر ألم- فهو في مقابلة الضرب الشديد الموجِع؛ لأنه- وإنْ اشتدّ فلا يقابله‏.‏

ويقال قالت‏:‏ ‏{‏مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً‏}‏ فذِكْرُ الأهل ها هنا غايةُ تهييج الحميّة وتذكيرُ بالأَنَفَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أفصح يوسف عليه السلام بِجُرْمِها إذ ليس للفاسق حُرْمَة يجب حِفْظُهُا، فلم يُبَالِ أَنْ هَتَك سترها فقال‏:‏ ‏{‏هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى‏}‏ فلمَّا كان يوسفُ صادقاً في قوله؛ ولم يكن له شاهدٌ أنطق اللَّهُ الصبيَ الصغير الذي لم يبلغ أوانَ النطق‏.‏ ولهذا قيل إذا كان العبد صادقاً في نفسه لم يبالِ اللَّهُ أن يُنْطِقَ الحجرَ لأجله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لما اتضح الأمرُ واستبان الحالُ وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز‏:‏ ‏{‏إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ‏}‏‏:‏ دلَّت الآية على أَنَّ الزنا كان مُحرَّماً في شرعهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

لم يُردْ أن يهتك ستر امرأته فقال ليوسف‏:‏ أَعرِضْ عن هذا الحديث، ثم قال لها‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرِى لِذَنْبِكِ‏}‏‏:‏ دلَّ على أنه لم يكن في شرعهم على الزنا حدٌّ- وإن كان مُحَرَّماً- حيث عَدَّه ذنباً‏.‏

ويقال ليس كلُّ أحد أهلاً للبلاء؛ لأن البلاء من صفة أرباب الولاء، فأمَّا الأجانب فَيُتَجَاوَزُ عنهم ويُخْلَى سبيلُهم- لا لكرامةِ مَحَلِّهم- ولكن لحقارة قدرهم، فهذا يوسف عليه السلام كان بريءَ السَّاحةِ، وظهرت للكلِّ سلامةُ جانبه وابُتِليَ بالسجن‏.‏ وامرأة العزيز في سوء فِعْلها حيث قال‏:‏ ‏{‏إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ‏}‏، وقال لها‏:‏ ‏{‏وَاسَتَغْفِرِى لِذَنبِكَ‏}‏ *** ثم لم تنزل بها شظيةٌ من البلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

إنَّ الهوى لا ينكتم، ولا تكون المحبة إلا وأبيح لها لسان عذول، فلما تحققت محبتها ليوسف بسطت النِّسوةُ فيها لسانَ الملامة‏.‏

ولما كانت أحسن منهن قيمةً- فقد كُنَّ من جملة خَدَمِها- كانت أسرعَ إلى الملامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أرادتْ أن يغلب عليهن استحقاقُ الملامة، وتَنْفِيَ عن نفسها أن تكون لها أهلاً، ففعلت بهن ما عَمِلَتْ، فلمَّا رأينه تَغَيَّرْنَ وتحيَّرْنَ ونطقن بخلاف التمييز، فقلن‏:‏ ‏{‏مَا هَذَا بَشَرَاً‏}‏‏:‏ وقد كان بشراً، وقلن‏:‏ ‏{‏إنْ هَذَا إلاَّ مَلِكٌ كَرِيمٌ‏}‏‏:‏ ولم يكن مَلَكاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ‏}‏‏:‏ أثَّرَتْ رويتُهن له فيهن فَقَطَّعْنَ أيديَهن بدل الثمار، ولم يشعرن، وضعفن بذلك عندها فقالت‏:‏ ألم أقل لكن‏؟‏ أنتن لم تتمالكن حتى قطّعْتنَّ أيديَكُنَّ‏!‏ فكيف أصبر وهو في منزلي‏؟‏‏!‏ وفي معناه أنشدوا‏:‏

‏(‏أنت عند الخصام عدوي‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

ويقال إن امرأة العزيز كانت أَتَم في حديث يوسف- عليه السلام- من النسوة فَأَثَّرَتْ رؤيتُه فيهن ولم تُؤَثِّرْ فيها، والتَّغَيُّرُ صفة أهل الابتداء في الأمر، فإذا دام المعنى زال التغيُّر؛ قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- لمن رآه يبكي وهو قريب العهد في الإسلام‏:‏ هكذا كُنَّا حتى قَسَتْ القلوبَ‏.‏ أي وقَرَتْ وصَلُبَتْ‏.‏ وكذا الحريق أول ما يطرح فيها الماء يُسْمَعُ له صوتٌ فإذا تَعَوَّدَ شُرْبَ الماء سَكَنَ فلا يُسْمعُ له صوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

الاختبار مقرونٌ بالاختيار؛ ولو تمنَّى العافية بدل ما كان يُدْعى إليه لعلَّه كان يُعَافَى، ولكنه لما قال‏:‏ ‏{‏الِسّجْنُ أَحَبُّ إلَّى مِمَّا يَدْعُونَنِى إلَيْهِ‏}‏ طُولِبَ بِصِدْق ما قال‏.‏

ويقال إن يوسف عليه السلام نَطَقَ من عين التوحيد حيث قال‏:‏ ‏{‏وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ‏}‏ فقد عَلمَ أن نجاته في أن يَصْرِفَ- سبحانه- البلاَءَ عنه لا بتكلُّفِه ولا بتَجنبِه‏.‏

ويقال لمَّا آثر يوسفُ- عليه السلام- لحوقَ المشقة في اللَّهِ على لِّّذة نفسه آثره عَصْرُه حتى قيل له‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 91‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏‏}‏

لمَّا رجع إلى الله بصدق الاستغاثة تداركه الله سبحانه بوشيكِ الإغاثة *** كذلك ما اغبرَّ لأحدٍ- في الله تعالى- قَدَمٌ إلاَّ روَّحه بِكَرَمِه وتولاَّه بِنِعَمِه- إنه هو ‏{‏السَّمِيعُ‏}‏ لأقوال السائلين، ‏{‏العَلِيمُ‏}‏ بأحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لمَّا سجَنَ يوسفَ- عليه السلام- مع ظهور براءة ساحته اتقاءً على امرأته أن يُهتَكَ سترُها حوَّل اللَّهُ مُلْكه إليه، ثم في آخر الأمر حَكَمَ اللَّهُ بأن صارت امرأتَه بعد مقاساتها الضُّر *** وهذا جزاء مَنْ صَبَرَ‏.‏

ويقال لمَّا ظُلِمَ يوسفُ عليه السلام بما نُسِبَ إليه أنطق الله تلك المرأة حتى قالت في آخر أمرها بما كان فيه هنك سترها، فقالت‏:‏ ‏{‏الآن حَصْحصَ الحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُهُ عَن نَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

لصحبة السجن أثرٌ يظهر ولو بعد حين؛ فإنَّ يوسف عليه السلام لمَّا قال لصاحبه اذكرني عند ربك فأنساه الشيطانُ ذكر ربِّه فبقي يوسف في السجن زماناً، ثم إن خلاصه كان على لسانه حيث قال‏:‏ فأَرْسِلوا إلى يوسف وقيل له‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفِتْنَا‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 46‏]‏ فالصحبة تُعْطى بَرَكاتِها وإن كانت تُبْطِي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ‏}‏‏:‏ الشهادة بالإحسان ذريعةٌ، بها يَتَوسُّلُ إلى استجلاب إحسانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

التَّثَبُّتُ في الجواب دون التسرع من أمارات أهل المكارم، كيوسف عليه السلام وعدهما أن يجيبهَما ولم يُسْرعْ الإجابةَ في الوقت‏.‏

ويقال لمَّا أَخَّرَ الإجابة عَلَّقَ قلوبهمَا بالوعد؛ وإذا لم يكن نَقْدٌ فليكن وَعْدٌ‏.‏

ويقال لمَّا فاتحوه بسؤالهم قدَّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال‏:‏ ‏{‏ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما فرغَ من تفسير التوحيد، والدعاء إلى الحق سبحانه أجابهما فقال‏:‏

‏{‏ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكتَ حين أخذ في شرح التوحيد وذكر المعبود، وفي الخبر‏:‏ «مَنْ أحبَّ شيئاً أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

اشتركا في السؤال واشتركا في الحكم وفي دخول السجن، ولكن تباينا في المآلِ؛ واحدٌ صُلبَ، وواحِدٌ قُرِّبَ ووُهِبَ *** وكذا قضايا التوحيد واختيار الحق؛ فَمِنْ مرفوعٍ‏:‏ فوق السَّماكِ مَطْلَعُه، ومن مدفونٍ‏:‏ تحت التراب مضجعُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يتبيَّن أنَّ تعبير الرؤيا- وإنْ كان حقاً- فهو بطريق غَلبَةِ الظَّنّ دون القطع‏.‏

ثم إنه عاتب يوسفَ عليه السلام لأنه نَسِيَ في حديثه مَنْ يستعين به حين قال‏:‏ ‏{‏ادْكُرْنىِ عِندَ رَبِّكَ‏}‏‏.‏

ويقال إنه طَلَبَ من بَشَرٍ عِوَضاً على ما عَلَّمَه، وفي بعض الكتب المنزلة‏:‏ يا ابن آدم، عَلِّمْ مجانا كما عَلِّمْتَ مجاناً‏.‏

ولما استعان بالمخلوقِ طال مُكْثُه في السجن، كذلك يجازي الحقُّ- سبحانه- مَنْ يُعَلِّقُ قلبَه بمخلوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

كان ابتداءُ بلاءِ يوسف- عليه السلام- بسبب رؤيا رآها فَنَشَرَها وأظهرها، وكان سببُ نجاتِه أيضاً رؤيا رآها المِلكُ فأظهرها، ليُعْلَم أَنَّ اللَّهَ يفعل ما يريد؛ فكما جعل بَلاءَه في إظهار رؤيا جعل نجاته في إظهار رؤيا؛ لِيَعْلَم الكافةُ إن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

حال الرؤيا لا يختلف بالخطأ في التعبير؛ فإنَّ القوم حكموا بأن رؤياه أضغاثُ أحلام فلم يُضِرْه ذلك، ولم يؤثِّرْ في صحة تأويلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ‏}‏‏:‏ مَنْ طلَبَ الشيءَ مِنْ غيرِ موضِعه لم يَنَلْ مطلوبه، ولم يَسْعَد بمقصوده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

لمَّا كان المعلوم لله والمحكومُ أن يوسفَ عليه السلام يكون في ذلك الوقت هو مَنْ يُعَبِّر الرؤيا قَبَضَ القلوبَ حتى خَفِيَ عليها تعبيرُ تلك الرؤيا، ولم يحصل للمَلِكِ ثَلَجُ الصَّدْرِ إلا بتعبير يوسف، ليُعْلَم أنَّ اللَّهَ- سبحانه- إذا أراد أمراً سَهلَّ أسبابَه‏.‏

ويقال‏:‏ إن الله تعالى أفْرَد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين‏:‏ بحُسْن الخِلْقة وبزيادة العلم؛ فكان جمالُه سببَ بلائه، وصار علمُه سببَ نجاته، لتُعْلَمَ مزيَّةُ العلمِ على غيره، لهذا قيل‏:‏ العلم يُعْطِي وإن كان يُبْطِي‏.‏

ويقال إذا كان العلم بالرؤيا يوجب الدنيا فالعلمُ بالمولى أَوْلَى أن يوجِبَ العقبى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكَاً كَبِيرَاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

لم يقدِّم الدعاءَ إلى الله تعالى على تعبير هذه الرؤيا كما فعل في المرة الأولى، لأن هذا السائل هو الذي دعاه في المرة الأولى‏.‏ فإمَّا أنه قد قَبِلَ في المرة الثانية، وإمَّا أنه لم يقبل فَيَئِسَ منه فأهمله‏.‏

وصاحبُ الرؤيا الثانية كانت المَلِكَ وكان غائباً، والوعظ والدعاء لا يكونا إلا في المشاهدة دون المغايبة‏.‏

ويقال يحتمل أن يكون قد تفرَّس في الفَتَيان قبولَ التوحيد فإنَّ الشباب ألينُ قلباً، أمَّا في هذا الموضع فقد كان المَلِكُ أصلبَ قلباَ وأفظَّ جانِباً؛ فلذلك لم يَدْعُه إلى التوحيد لِمَا تفرَّسَ فيه من الغِلظة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

أراد عليه السلام ألا يلاحظه المِلكُ بعين الخيانة فيُسْقِطَه عيبُه من قلبه؛ فلا يؤثِّر فيه قوله، فلذلك توقَّفَ حتى يَظْهَرَ أمرُه للمَلِكِ وتنكشفَ براءةُ ساحته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٌٍ‏}‏‏.‏

الحقائق لا تنكتِم أصلاً ولا بُدَّ من أن تَبينَ *** ولو بعد حين‏.‏

نَسِبَ يوسفُ إلى ما كان منه بَريئاً، وأُنِّبَ على ذلك مدةً، وكان أمرهُ في ذلك خَفِيَّا‏.‏ ثم إن الله تعالى دَفَعَ عنه التهمة ورفع عنه المّظَنّة، وأنطق عِذّالَه، وأظهر حالَه، عما فرق به سرباله؛ فَقُلْنَ‏:‏ ‏{‏حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَتِ امرأة العزيز الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏‏.‏

لمّا كانت امرأةُ العزيز غيرَ تامّةٍ في محبة يوسف تركَتْ ذنبَهَا عليه وقالت لزوجها‏:‏ ‏{‏مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ولم يكن ليوسف عليه السلام ذنب‏.‏ ثمَّ لمّا تناهَتُ في محبته أقَرَّت بالذنبِ على نفسها فقالت‏:‏ ‏{‏الآَنَ حَصْحصَ الْحَقُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فالتناهي في الحبِّ يوجب هتكَ الستر، وقلة المبالاة بظهور الأمر والسِّر، وقيل‏:‏

لِيُقلْ مَنْ شاءَ ما *** شاء فإني لا أُبالي

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

إنما أراد اللَّهُ أن يُظْهِرَ براءةَ ساحةِ يوسف، لأنه علم أنهم يستحقون العقوبة على ما يبسطون فيه من لسان الملامة وذكر القبيح، ولم يُرِدْ يوسف أن يصيبَهم بسببه- من قِبلِ اللَّهِ- عذابٌ شَفَقَةً منه عليهم، وهذه صفة الأولياء‏:‏ أن يكونوا خَصْمَ أَنفسِهم، ولهذا قيل‏:‏ الصوفي دمه هَدرٌ ومِلْكُه مُبَاحُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

لمَّا تمدَّح بقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّىِ لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ كأنه نودي في سِرِّه‏:‏ ولا حين همَمْتَ‏؟‏ فقال‏:‏‏:‏ ‏{‏وًمَآ أُبْرِّئ نَفْسِى‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَنّىِ لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ بيانُ الشكر على ما عصمه الله، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبََرِّى نَفْسِى‏}‏ بيانُ العُذْرِ لما قصَّر في أمر الله، فاستوجب شكرُه زيادةَ الإحسان، واستحقَّ بعذره العفوَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

لما اتضحت للمِلك طهارةُ فِعْلِه ونزاهةُ حالِه استحضره لاستصفائه لنفسه، فلمَّا كَلَّمَه وسَمِعَ بيانَه رَفَعَ مَحلَّه ومكانه، وضمنه بِرَّه وإحسانَه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏‏}‏

إنما سأل ذلك ليضعَ الحقَّ مَوْضِعَه، ليصلَ نصيبُ الفقراءِ إليهم، فَطَلَبَ حقَّ الله تعالى في ذلك، ولم يطلب نصيباً لنفسه‏.‏

ويقال لم يقل إني حَسَنٌ جميلٌ بل قال‏:‏ ‏{‏إِنّىِ حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي كاتِبٌ حاسِبٌ، ليُعْلَمَ أَنَّ الفضلَ في المعاني لا في الصورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

لمَّا لم تكن له دواعي الشهوات من نَفْسِه مَكّنَه اللَّهُ من مُلْكِه- قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الشورة‏:‏ 63‏]‏- فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ نُضِيعُ أَجرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ثم أخبر عن حقيقة التوحيد، وبيَّن أنه إِنما يوفِّي عبيادَه من ألطافه بفضله لا بفعلهم، وبرحمته لا بِخُدْمِتهم؛ فقال‏:‏ ‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ‏}‏‏.‏ ثم يرقى هممهم عما أولاهم من النَّعم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

ليُعْلَمَ أَنَّهُ لا بُدّ من التقوى ومخالفة الهوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

عَرَفَ يوسفُ- عليه السلام- إخوتَه وأنكروه، لأنهم اعتقدوا أنّه في رِقِّ العبودية لمّا باعوه، بينما يوسف- في ذلك الوقت- كان قاعداً بمكانِ المَلِكِ‏.‏ فَمَنْ طلب الملِكَ في صفة العبيد متى يعرفه‏؟‏

وكذلك مًنْ يعتقد في صفات المعبودِ ما هو مِنْ صفات الخَلْق *** متى يكون عارفاً‏؟‏ هيهات هيهات لما يحسبون‏!‏

ويقال لمَّا أَخْفَوْه صار خفاؤه حجَاباً بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي‏.‏‏.‏ بخطاياه وزلاتِه تقع غَبَرَةٌ على وجه معرفته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

المحِبُّ غيورٌ؛ فلمَّا كان يعقوبُ عليه السلام قد تَسَلَّى عن يوسف برؤية ابنه بنيامين غار يوسف أن ينظر إليه يعقوب‏.‏

ويقال تَلَطَّفَ يوسف في استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففي مالِه الذي أوصله إليهم وهو يقول‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَرَوْنَ أَنّىِ أُوفِى الْكَيْلَ‏}‏ وفي إقباله عليهم وفي إكرامه لهم وهو يقول‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ‏}‏‏.‏

وأمّا الترهيب فبمنع المال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

أي فإن لم تؤامِنوني عليه فلا كيل لكم عندي، وأمنع الإكرام والإقبال عنكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

لما عَلِمَ يوسفُ من حالهم أنهم باعوه بثمنٍ بَخْسٍ عَلِمَ أنهم يأتونه بأخيهم طمعاً في إيفاء الكيل، فلن يَصْعُبَ عليهم الإتيان به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

جَعْلُ بضاعتهم في رحالهم- في باب الكَرَم- أتمُّ مِنْ أنْ وَهَبَها لهم جَهْرَاً؛ لأنه يكون حينئذٍ فيه تقليد منه بالمواجَهَةِ، وفي تمليكها لهم بإشارةٍ تجَرُّدٌّ مِنْ تكلُّفِ تقليد منه بالمحاضرة‏.‏

ويقال عَلِمَ أنهم لا يَسْتحلُّون مالَ الغَيْر قَدَسَّ بضاعتَهم في رحالِهم، لكن إذا رأَوْها قالوا‏:‏ هذا وقع في رحالنا منهم بِغَلَطٍ، فالواجبُ علينا ردُّها عليهم‏.‏ وكانوا يرجعون بسبب ذلك شاءوا أم أَبَوْا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

لم يمنع يوسفُ منهم الكيْلَ، وكيف مَنَعَ وقد قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَرَوْنَ أَنِى أُوفِى الْكَيْلَ‏}‏‏؟‏

ولكنهم تجوزوا في ذلك تفخيماً للأمر حتى تسمح نَفْسُ يعقوب عليه السلام بإرسال بنيامين معهم‏.‏

ويقال أرادوا بقولهم‏:‏ ‏{‏مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ‏}‏ وفي المستقبل إذا لم تَجْمِلْه إليه‏.‏

ويقال إنهم تَلَطَّفُوا في القول ليعقوبَ- عليه السلام- حيث قالوا‏:‏ ‏{‏أَخَانَا‏}‏ إظهاراً لشفقتهم عليه، ثم أكَّدوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عِلِى أَخِيهِ مِن قَبْلُ‏}‏‏.‏

مَنْ عَرَفَ الخيانة لا يلاحظ الأمانة، ولذا لم تَسْكنْ نَفْسُ يعقوب بضمانهم لِمَأ سَبَقَ إليه شأنهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فاللَّهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين‏}‏‏.‏

‏{‏فاللّهُ خيرُ حافظاً‏}‏‏:‏ يحفظ بنيامين فلا يصيبه شيءٌ من قِبَلِهم‏.‏

ولم يقل يعقوب فاللّه خيرُ مَنْ يَرُدُّه إليَّ، ولو قال ذلك لعلَّه كان يرده إليه سريعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

بيّن يوسفُ- عليه السلام- أنه حين عاملهم لم يَحْتَجْ إلى عِوَضٌ يأخذه منهم، فلمَّا باعهم وجَمَعَ لهم الكيلَ ما أخذ منهم ثمناً، والإشارة من هذا إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وكلُّ مَنْ خطا للدِّين خطوةً كافأه اللَّهُ تعالى وجازاه، فَجَمَع به بين رَوْحِ الطاعةِ ولذَّةِ العيش من حيث الخدمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

إنَّ الحَذَرَ لا يُغْنى من القَدَر‏.‏ وقد عَمِل يعقوب- عليه السلام- معهم في باب بنيامين ما أمكنه من الاحتياط، وأخذ الميثاق ولكن لم يُغْنِ عنه اجتهادُه، وحَصَلَ ما حكم به الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

يحتمل أن يكون أراد تفريقهم في لدخول لعلَّ واحداً منهم يقع بَصَرُه على يوسف، فإن لم يره أحدهم قد يراه الآخر‏.‏

ويقال ظنَّ يعقوب أنهم في أمر يوسف كانوا في شدة العناية بشأنِه، ولم يعلم أنهم كارهون لمكانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

إن لم يحصل مقصودُ يعقوب عليه السلام في المآل حصل مراده في الحال، وفي ذلك القَدْرِ لأرباب القلوب استقلال‏.‏

ويقال على الأصاغر حفظُ إشاراتِ الأكابر، والقولُ فيما يأمرون به هل فيه فائدةٌ أم لا- تَرْكٌ للأدب‏.‏

ويقال إذا كان مثل يعقوب عليه السلام يشير على أولاده ويتمنَّى به حصولَ مرادِه‏.‏‏.‏

ثم لا يحصل مرادُه عُلِمَ أنه لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ في الشيوخ أنَّ جميع ما يريدون يتَّفِقُ كونُه على ما أرادوا؛ لأَنَّ الذي لا يكونُ إلا ما يريده واجباً وما أراده فهو كائن‏.‏‏.‏ هو اللَّهُ الواحدُ القهارُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

حديثُ المحبةِ وأَحكامها أقسام‏:‏ اشْتَاقَ يعقوبُ إلى لقاء يوسف عليهما السلام فَبَقِيَ سنين كثيرة، واشتاقَ يوسف إلى بنيامين فَرُزِقَ رؤيته في أَوْجِزِ مدةٍ‏.‏

وهَكَذَا الأمر؛ فمنهم موقوفٌ به، ومنهم صاحب بلاء‏.‏

ويقال لئن سَخِنَت عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قَرَّتْ عيْنُ يوسفَ بلقائه‏.‏ كذا الأمر‏:‏ لا تَغْرُبُ الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

احتمل بنيامينُ ما قيل فيه من السرقة بعدما التقى مع يوسف‏.‏

ويقال‏:‏ ما نُسِبَ إليه من سوء الفعال هان عليه من جَنْبِ ما وجد من الوصال‏.‏

ويقال لئن نُسَبَ أخاه للسرقة تعرَّف إليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّى أََنَا أَخُوكَ‏}‏- سِرَّاً، فكان مُتَحَمِّلاً لأعباء الملامة في ظاهره، محمولاً بوجدان الكرامة في سِرِّهِ، وفي معناه أنشدوا‏:‏

أَجِدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً *** حُبّاً لذكرك فَلْيَلُمْني اللُّومُ

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

يعني حُسْنُ سيرتنا في سير المعاملة يدلكم على حسن سريرتنا في الحالة‏.‏ ويقال لو كُنَّا نسرق متاعكم لما رددناه عليكم ولَمَا وجدتموه في رحالنا بعد أَن غِبْنَا عنكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

تَجَاسَرَ إخوةُ يوسف بجريان جزاءٍ السَّرِقةِ عليهم ثقةً بأنفسهم أنهم لم يُباشِروا الزَّلَّة، وكان بنيامينُ شريكَهم في براءة السَّاحةِ، فلما استُخْرِجَ الصَّاعُ مِنْ وعائه بَسَطَ الإخوةُ فيه لسانَ الملامةِ، وبقي بنيامين فلم يكن له جوابٌ كأنَّه أقَرَّ بالسرقة، ولم يكن ذلك صدقاً إذ أنه لم يَسْرِقْ، ولو قال‏:‏ لم أَفْعَلْ لأفشى سِرّ يوسف عليه السلام الذي احتال معهم ذلك لأجْلِه حتى يُبْقِيه معه، فَسَكَتَ لسان بينامين، وتحقَّق بالحالِ قَلْبُه‏.‏

ويقال لم يستصعب الملامة- وإنْ كان بريئاً- مما قُرِنَ به، ولا يَضُرُّ سوءُ المقالةِ بالمكاشفين بعد حَسْنِ الحالةِ مع الأحباب‏.‏

ويقال سيئ بما أَظْهَرَتْ عليه المقالة، ولكن حَصَلَ له بذلك صفاءُ الحالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

كان بنيامينُ بريئاً مما رُميَ به من السرقة، فأنطقهم الله تعالى حتى رَمَوْا يوسف عليه السلام بالسرقة، واحدٌ بواحد ليَعْلَم العالمون أَنَّ الجزاءَ واجبٌ‏.‏

ويقال كان القُرْحُ بالقَدح أوجعَ ما سَمِعَه يوسف منهم حيث قالوا‏:‏

‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ‏}‏ فقد كان ذلك أشدَّ تأثيراً في قلبه من الجفاءِ الأول‏.‏

ويقال إذا حَنِقَ عليك المِلكُ فلا تأمَنْ غِبَّه- وإنْ طالت المدة- فإن يوسف عليه السلام حَنِق عليهم فلقوا في المستأنف منه ما ساءَهم مِنْ حَبْسِ أخيه، وما صاحبهَم من الخَجل من أبيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

لم تنفعهم كثرةُ التَّنَصُّل، وما راموا بهمن ذكر أبيهم ابتغاءَ التوسُّل، ولم ينفعهم ما قيل منهم حين عَرَضُوا عليه أن يأخذَ أحدَهم في البَدَل‏.‏‏.‏ كذلك فكلٌّ مُطَالَبٌ بفعل نفسه‏:‏ ‏{‏لا تزِرُ وازرةٌ وزِرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 64‏]‏؛ فلا الأبُ يُؤْخَذُ بَدَلَ الولد، ولا القريب يُرضَى به عوضاً عن أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

توهموا أن الحديث معهم من حيث معاملة الأموال، فعَرَضُوا أنفسهم كي يؤخذ واحدٌ منهم بَدَلَ أخيهم، ولم يعلموا أن يوسف عليه السلام كادَهم في ذلك، وأنَّ مقصودَه من ذلك ما استكَنَّ في قلبه مِنْ حُبِّ لأخيه، وكلاَّ‏.‏‏.‏ أَنْ يكونَ عن المحبوبِ بَدَلٌ أو لقوم مقامُ أحدٍ *** وفي معناه أنشدوا‏:‏

إذا أَوْصَلْتَنا الخُلْدَ كيما تُذِيقنا *** أَبَيْنا وقُلْنا‏:‏ أنتَ أَوْلَى إلى القلب

وقيل‏:‏

أُحِبُّ لَيْلَى وبُغِّضَتْ إليَّ *** نساءٌ ما لَهُنَّ ذُنُوبُ

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

لما عَلِموا أن يوسف عليه السلام ليس يبرح عن أخيه خلا بعضُهم ببعضٍ فعملت فيهم الخجْلة، وعلموا أن يعقوب في هذه الكرَّةِ يتجدد له مثلما أسلفوه من تلك الفَعْلة، فلم يرجع، أكبرهم إلى أبيهم، وتناهى إلى يعقوبَ خَبَرُهم، فاتهمهم وما صدّقهم، واستخونهم وما استوثقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

كان لهم في هذه الكَرَّةِ حجة على ما قالوه، ولكن لم يسكن قلبُ يعقوب عليه السلام إليها، فإنَّ تعيُّنَ الجُرْمِ في المرة الأولى أَوْجَبَ التُّهمةَ في الكرَّةِ الأخرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

ما ازدادوا إقامةَ حُجَّةٍ إلا ازداد يعقوبُ- عليه السلام- في قولهم شُبْهةً‏.‏

ويقال‏:‏ في مُساءلة الأطلال أَخْذٌ لقلوب الأحباب، وسَلْوةٌ لأسرارهم‏.‏‏.‏ وهذا البابُ مما للشرح فيه مجال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ َجَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعاً‏}‏‏.‏

لجأ إلى قُرْبِ خلاصه من الضُرِّ بالصبر‏.‏

ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يُمْسِ حتى قال‏:‏ ‏{‏ياأسفى عَلَى يُوسُفَ‏}‏ ليُعْلَمَ أنَّ عَزْمَ الأحبابِ على الصبر منقوضٌ غيرُ محفوظ‏.‏