فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الباء في بسم الله حرف التضمين؛ أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغيرٍ من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل- إلا بالحق وجوده، والحق مَلِكُه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وَجَدَ من وَحَّد، وبه جحد من الحد، وبه عرف من اعترف، وبه تخلَّف من اقترف‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ ولم يقل بالله على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم، وللفَرْقِ بين هذا وبين القَسَم عند الآخرين، ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء، ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان، ليكون ورود قوله ‏{‏الله‏}‏ على قلبٍ مُنقَّىً وسرٍ مُصَفَّىً‏.‏ وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكرون من الباء ‏(‏بره‏)‏ بأوليائه ومن السين سره مع أصفيائه ومن الميم منته على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببره عرفوا سرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره‏.‏ وقوم عند سماع بسم الله تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعز وصفه، وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه، فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية أعني بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر في كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة، وإشارات غير معادة، فلذلك نستقصي القول ها هنا وبه الثقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏الحَمْدُ للهِ‏}‏‏.‏

حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام ها هنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمَّا وصفاً وإمَّا خلقاً، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه‏.‏ والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحَوْله، وحمد الخَلْق له على إنعامه وطوْلِه، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود ‏(‏قدرة‏)‏ القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدي، والكون الصمدي، والبقاء الأزلي، والبهاء الأبدي، والثناء الديمومي، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطوْل، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد في ملكوته‏.‏ تبارك الله سبحانه‏!‏‏!‏ فسبحانه ما أعظم شأنه‏!‏

فصل‏:‏

عَلمَ الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزَهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حَمِد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ فانتعشوا بعد الذِّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم لكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال‏.‏ وقالوا‏:‏

ولوجهها من وجهها قمر *** ولعينها من عينها كحل

هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمَّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقِّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به في هذه الحالة فقال‏:‏ «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»

داود لو سمعت أذناه قالتَها *** لما ترنّم بالألحان داود

غنت سعاد بصوتها فتخاذلت *** ألحان داود من الخجل

فصل‏:‏

وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم في أحوالهم؛ فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعي صفة نفعِه ودفعِه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 18‏]‏، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفي غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده‏.‏ وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القِسَم، و‏(‏فرق بين‏)‏ من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم‏:‏

وما الفقر عن أرض العشيرة ساقنا *** ولكننا جئنا بلقياك نسعد

وقوم حمدوه مُسْتَهْلَكِين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبِّرون، ومنه إليه يشيرون، يُجري عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذه بحكم جمع الجمع، كما قالوا‏:‏

بيان بيان الحق أنت بيانه *** وكل معاني الغيب أنت لسانه

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏رَبِّ العَلَمِينَ‏}‏‏.‏

الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومُنشيها، ومُوجِد الرسوم والديار بما فيها‏.‏

ويدل اسم الرب أيضاً على تربية الخلق، فهو مُربٍ نفوس العابدين بالتأييد ومربٍ قلوب الطالبين بالتسديد، ومربٍ أرواح العارفين بالتوحيد، وهو مربٍ الأشباح بوجود النِّعم، ومربٍ الأرواح بشهود الكرم‏.‏

ويدل اسم الرب أيضاً على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه؛ فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته، ومصلح أمور الواجدين بقديم عنايته، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه، قال قائلهم‏:‏

ما دام عزُّك مسعوداً طوالعه *** فلا أبالي أعاش الناس أم فقدوا

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهي إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق‏.‏

وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم في الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هي عند قوم فالنعم في أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هي نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هي نعمة الأرواح والسرائر‏.‏

وعلى طريقة من فرَّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى؛ فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روَّح، والرحيم بما لوَّح؛ فالترويح بالمَبَارِّ، والتلويح بالأنوار‏:‏ والرحمن بكشف تَجَلِّيه والرحيم بلطف تولِّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولَّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يَمُنُّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم؛ فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

المالك من له المُلك، ومُلك الحق سبحانه وتعالى قدرته على الإبداع، فالملك مبالغة من المالك وهو سبحانه الملك المالك، وله المُلك‏.‏ وكما لا إله إلا هو فلا قادر على الإبداع إلا هو، فهو بإلهيته متوحد، وبملكه متفرد، ملك نفوس العابدين فصرفها في خدمته، وملك قلوب العارفين فشرِّفها بمعرفته، وملك نفوس القاصدين فتيَّمها، وملك قلوب الواجدين فهيَّمها‏.‏ ملك أشباح منْ عبَدَه فلاطفها بنواله وأفضاله، وملك أرواح مَنْ أحبهم ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فكاشفها بنعت جلاله، ووصف جماله‏.‏ ملك زمام أرباب التوحيد فصرفهم حيث شاء على ما شاء ووفَّقهم حيث شاء على ما شاء كما شاء، ولم يَكِلْهم إليهم لحظة، ولا مَلَّكَهم من أمرهم سِنَّةٌ ولا خطرة، وكان لهم عنهم، وأفناؤهم له منهم‏.‏

فصل‏:‏

مَلَكَ قلوبَ العابدين إحسانُه فطمعوا في عطائه، وملك قلوب الموحدين سلطانُه فقنعوا ببقائه‏.‏ عرَّف أربابَ التوحيد أنه مالكهم فسقط عنهم اختيارهم، علموا أن العبد لا ملك له، ومن لا ملك له لا حكم له، ومن لا حكم له لا اختيار له، فلا لهم عن طاعته إعراض ولا على حكمه اعتراض، ولا في اختياره معارضة، ولا لمخالفته تعرّض، ‏{‏ويوم الدين‏}‏‏.‏ يومُ الجزاء والنشر، ويوم الحساب والحشر- الحق سبحانه وتعالى يجزي كلاً بما يريد، فَمِنْ بين مقبولٍ يوم الحشر بفضله سبحانه وتعالى لا بفعلهم، ومن بين مردودٍ بحكمه سبحانه وتعالى لا بِجُرْمِهم‏.‏ فأمَّا الأعداء فيحاسبهم ثم يعذبهم وأمَّا الأولياء فيعاتبهم ثم يقربهم‏:‏

قومٌ إذا ظفروا بنا *** جادوا بعتق رقابنا

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

معناه نعبدك وتستعين بك‏.‏ والابتداء بذكر المعبود أتمُّ من الابتداء بذكر صفته- التي هي عبادته واستعانته، وهذه الصيغة أجزل في اللفظ، وأعذب في السمع‏.‏ والعبادة الإتيان بغاية ما في ‏(‏بابها‏)‏ من الخضوع، ويكون ذلك بموافقة الأمر، والوقوف حيثما وقف الشرع‏.‏

والاستعانة طلب الإعانة من الحق‏.‏

والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمُنَّة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمِنَّة، فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد‏.‏ في العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه‏.‏ والعبادة ظاهرها تذلل، وحقيقتها تعزز وتجمُّل‏:‏

وإذا تذللت الرقاب تقرباً *** مِنَّا إليك، فعزُّها في ذُلِّها

وفي معناه‏:‏

حين أسلَمْتَني لذالٍ ولام *** ألقيتني في عينِ وزاي

فصل‏:‏

العبادة نزهة القاصدين، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين‏.‏ بها قُرَّةُ أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم‏.‏ وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أرِحنا بها يا بلال» ولقد قال مخلوق في مخلوق‏:‏

يا قوم ثاري عند أسمائي *** يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أصدق أسمائي

والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه، ونزلك بساحة جوده، وتسليمك إلى يد حكمه، فتقصده بأمل فسيح، وتخطو إليه بخطو وسيع، وتأمل فيه برجاء قوي، وتثق بكرم أزلي، وتنكل على اختيار سابق، وتعتصم بسبب جوده ‏(‏غير ضعف‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الهداية الإرشاد، وأصلها الإمالة، والمهديُّ من عرف الحق سبحانه، وآثر رضاه، وآمن به‏.‏ والأمر في هذه الآية مضمر؛ فمعناه اهدنا بنا- والمؤمنون على الهداية في الحال- فمعنى السؤال الاستدامة والاستزادة‏.‏ والصراط المستقيم الطريق الحق وهو ما عليه أهل التوحيد‏.‏ ومعنى اهدنا أي مِلْ بنا إليك، وخُذْنا لك، وكن علينا دليلنا، ويَسِّرْ إليك سبيلنا، وأقم لنا هممنا، واجمع بك همومنا‏.‏

فصل‏:‏

اقطعْ أسرارنا عن شهود الأغيار، ولوِّح في قلوبنا طوالع الأنوار، وأفْرِدْ قصودنا إليك عن دَنَس الآثار، ورقِّنا عن منازل الطلب والاستدلال إلى جَمْع ساحات القُرب والوصال‏.‏

فصل‏:‏

حُلْ بيننا وبين مساكنة الأمثال والأشكال، بما تلاطفنا به من وجود الوصال، وتكاشفنا به من شهود الجلال والجمال‏.‏

فصل‏:‏

أرْشِدْنَا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، ويقع على وجه التوحيد غبار الظنون وحسبان الإعلال‏.‏

اهدنا الصراط المستقيم أي أزِلْ عنَّا ظلمَاتِ أحوالنا لنستضيء بأنوار قُدْسِك عن التفيؤ بظلال طلبنا، وارفع عنا ظل جهدنا لنستبصر بنجوم جودك، فنجدك بك‏.‏

فصل‏:‏

اهدنا الصراط المستقيم حتى لا يصحبنا قرين من نزغات الشيطان ووساوسه، ورفيق من خطرات النفوس وهواجسها، أو يصدنا عن الوصول تعريج في أوطان التقليد، أو يحول بيننا وبين الاستبصار ركون لي معتاد من التلقين، وتستهوينا آفة من نشو أو هوادة، وظن أو عادة، وكلل أو ضعف إرادة، وطمع مالٍ أو استزادة‏.‏

فصل‏:‏

الصراط المستقيم ما عليه من الكتاب والسنة دليل، وليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل‏.‏ الصراط المستقيم ما شهدت بصحته دلائل التوحيد، ونبهت عليه شواهد التحقيق، الصراط المستقيم ما دَرَجَ عليه سَلَفُ الأمة، ونطقت بصوابه دلائل العبرة‏.‏ الصراط المستقيم ما باين الحظوظَ سالكُه، وفارق الحقوقَ قاصدُه‏.‏ الصراط المستقيم ما يُفْضِي بسالكه إلى ساحة التوحيد، ويُشْهِدُ صاحبَه أثرَ العناية والجود، لئلا يظنَّه موجَبٌ ‏(‏ببدل‏)‏ المجهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يعني طريق من أنعمتَ عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهم الأولياء والأصفياء‏.‏ ويقال طريق من ‏(‏أفنيتهم‏)‏ عنهم، وأقمتهم بك لك، حتى لم يقفوا في الطريق، ولم تصدهم عنك خفايا المكر‏.‏ ويقال صراط من أنعمت عليهم بالقيام بحقوقك دون التعريج على استجلاب حظوظهم‏.‏

ويقال صراط من ‏(‏طهرتهم‏)‏ عن آثارهم حتى وصلوا إليك بك‏.‏

ويقال صراط من أنعمت عليهم حتى تحرروا من مكائد الشيطان، ومغاليط النفوس ومخاييل الظنون، وحسبانات الوصول قبل خمود آثار البشر ‏(‏ية‏)‏‏.‏

ويقال صراط من أنعمت عليهم بالنظر والاستعانة بك، والتبري من الحول والقوة، وشهود ما سبق لهم من السعادة في سابق الاختيار، والعلم بتوحيدك فيما تُمضيه من المَسَار والمضار‏.‏

ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بحفظ الأدب في أوقات الخدمة، واستشعار نعت الهيبة‏.‏

ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بأن حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها عند غلبات ‏(‏بواده‏)‏ الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم، ولم يُخِلُّوا بشيء من أحكام الشريعة‏.‏ ويقال صراط الذين أنعمت عليهم حتى لم تطفئ شموسُ معارفهم أنوارَ ورعهم ولم يُضيِّعُوا شيئاً من أحكام الشرع‏.‏

ويقال صراط الذين أنعمتَ عليهم بالعبودية عند ظهور سلطان الحقيقة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏‏.‏

المغضوب عليهم الذين صدمتهم هواجم الخذلان، وأدركتهم مصائب الحرمان، وركبتهم سطوة الرد، وغلبتهم بَوَاده الصد والطرد‏.‏

ويقال هم الذين لحقهم ذل الهوان، وأصابهم سوء الخسران، فشغلوا في الحال باجتلاب الحظوظ- وهو في التحقيق ‏(‏شقاء‏)‏؛ إذ يحسبون أنهم على شيء، وللحق في شقائهم سر‏.‏

ويقال هم الذين أنِسُوا بنفحات التقريب زماناً ثم أظهر الحق سبحانه في بابهم شانا؛ بُدِّلوا بالوصول بعاداً، وطمعوا في القرب فلم يجدوا مراداً، أولئك الذين ضلّ سعيُهم، وخاب ظنهم‏.‏

ويقال غير المغضوب عليهم بنسيان التوفيق، والتعامي عن رؤية التأييد‏.‏ ولا الضالين عن شهود سابق الاختيار، وجريان التصاريف والأقدار‏.‏

ويقال غير المغضوب عليهم بتضييعهم آداب الخدمة، وتقصيرهم في أداء شروط الطاعة‏.‏

ويقال غير المغضوب عليهم هم الذين تقطعوا في مفاوز الغيبة، وتفرّقت بهم الهموم في أودية وجوه الحسبان‏.‏

فصل‏:‏

ويقول العبد عند قراءة هذه السورة آمين، والتأمين سُنَّة، ومعناه يا رب افعل واستجب، وكأنه يستدعي بهذه القالة التوفيق للأعمال، والتحقيق للآمال، وتحط رِجْلُه بساحات الافتقار، ويناجي حضرة الكرم بلسان الابتهال، ويتوسل ‏(‏بتبريه‏)‏ عن الحول والطاقة والمُنَّة والاستطاعة إلى حضرة الجود‏.‏ وإن أقوى وسيلة للفقير تعلقه بدوام الاستعانة لتحققه بصدق الاستغاثة‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

هذه الحروف المقطعة في أوائل السورة من المتشابِه الذي لا يعلم تأويله إلا الله- عند قوم، ويقولون لكل كتاب سر، وسر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة‏.‏ وعند قوم إنها مفاتح أسمائه، فالألف من اسم ‏(‏الله‏)‏، واللام يدل على اسمه «اللطيف»، والميم يدل على اسمه «المجيد» و«الملك»‏.‏

وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه‏.‏

وقيل إنها أسماء السور‏.‏

وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام تدل على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلى الله عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والألِف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع‏.‏

ويقال يتذكر العبد المخلص مِنْ حالة الألف تَقَدُّسَ الحق سبحانه وتعالى عن التخصص بالمكان؛ فإن سائر الحروف لها محل من الحَلقْ أو الشفة أو اللسان إلى غيره من المدارج غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل‏.‏

ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه‏.‏

ويقال يطالب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه في ‏(‏مَراعاة‏)‏ حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه‏.‏

ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرَّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حَظِي بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركبة، على سنة الأحباب في ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبي من القصة- قال شاعرهم‏:‏

قلت لها قفي قالت قاف *** لا تحسبي أَنَّا نسبنا لا يخاف

ولم يقل وقفت ستراً على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل‏:‏ «قالت قاف»‏.‏

ويقال تكثر العبارات للعموم والرموز والإشارات للخصوص، أَسْمَعَ موسى كلامَه في ألف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَلِفْ وقال عليه السلام‏:‏ «أوتيتُ جوامْع الكلِم فاختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً» وقال بعضهم‏:‏ قال لي مولاي‏:‏ ما هذا الدنَف‏؟‏ قلت‏:‏ تهواني‏؟‏ قال‏:‏ لام ألف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏‏.‏

قيل ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وقيل إشارة إلى ما تقدم إنزاله من الخطاب، وقيل ذلك الكتاب الذي وعدْتُك إنزاله عليك يوم الميثاق‏.‏

لا ريب فيه، فهذا وقت إنزاله‏.‏ وقيل ذلك الكتاب الذي كتبتُ فيه الرحمةَ على نفسي لأمتك- لا شك فيه، فتحقق بقولي‏.‏

وقيل الكتاب الذي هو سابق حكمي، وقديم قضائي لمن حكمت له بالسعادة، أو ختمت عليه بالشقاوة لا شك فيه‏.‏

وقيل ‏(‏حكمي الذي أخبرت أن رحمتي سبقت على غضبي لا شك فيه‏)‏‏.‏

وقيل إشارة إلى ما كتب في قلوب أوليائه من الإيمان والعرفان، والمحبة والإحسان، وإن كتاب الأحباب عزيز على الأحباب، لا سيما عند فقد اللقاء، وبكتاب الأحباب سلوتهم وأنسهم، وفيه شفاؤهم ورَوْحهم، وفي معناه أنشدوا‏:‏

وكتْبُكَ حولي لا تفارق مضجعي *** وفيها شفاء للذي أنا كاتم

وأنشدوا‏:‏

ورد الكتاب بما أقَرَّ عيوننا *** وشفى القلوب فَنِلْن غايات المنى

وتقاسم الناسُ المسرةَ بينهم *** قِسَماً وكان أجلهم حَظّاً أنا

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَدىً لِلمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

أي بياناً وحجة، وضياء ومحجة، لمن وقاه الحق سبحانه وتعالى من ظلمات الجهل، وبصَّره بأنوار العقل، واستخلصه بحقائق الوصل‏.‏ وهذا الكتاب للأولياء شفاء، وعلى الأعداء عمًى وبلاء‏.‏ المُتَّقي من اتقى رؤية تقاه، ولم يستند إلى تقواه، ولم يَرَ نجاته إلا بفضل مولاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ‏}‏‏.‏

حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق، وموجب الأمرين التوفيق‏.‏ والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد، في حفظ العهد، ومراعاة الحد‏.‏ فالمؤمنون هم الذين صدَّقوا باعتقادهم ثم الذين صَدَقُوا في اجتهادهم‏.‏

وأمَّا الغيب فما يعلمه العبد مما خرج عن حد الاضطرار؛ فكل أمر ديني أدركه العبد بضرب استدلال، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غَيْبِيٌّ‏.‏ فالرب سبحانه وتعالى غيب‏.‏ وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر، والثواب والمآب، والحساب والعذاب- غيب‏.‏

وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم وإشارة اليقين، فأوْرَدَهم صدقُ الاستدلال ساحاتِ الاستبصار، وأوصلهم صائبُ الاستشهاد إلى مراتب السكون؛ فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعي الريب‏.‏ ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية، وطلب بخواطر ذكية، وردِّ وردع لدواعٍ ردية، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم، وفي معناه أنشدوا‏:‏

لَيْلِي من وجهك شمس الضحا *** وظلامه في الناس ساري

والناس في سدف الظلا *** م ونحن في ضوء النهار

وأنشدوا‏:‏

طلعت شمس من أحبَّك ليلاً *** فاستضاءت وما لها من غروب

إن شمس النهار تغرب بالليل *** وشمس القلوب ليست تغيب

ومن آمن بالغيب بشهود الغيب غاب في شهود الغيب فصار غيباً يغيب‏.‏

وأمَّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة عن شهودها برؤية مَنْ يُصَلَّى له فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجري عليه منه، وهو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم مستقبلة القِبْلة، وقلوبهم مستغرقة في حقائق الوصلة‏:‏

أراني إذا صَلَّيْت يَمَّمْت نحوها *** بوجهي وإنْ كان المُصَلَّى ورائيا

أصلي فلا أدري إذا ما قضيتها *** اثنتين صليت الضحا أم ثمانيا‏؟‏

وإن أصحاب العموم يجتهدون عند افتتاح الصلاة ليردوا قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون من الفرض، ولكن عن أودية الغفلة ما يرجعون‏.‏ أما أهل الخصوص فيردون قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون ولكن عن حقائق الوصلة ما يرجعون؛ فشتَّان بين غائبٍ يحضر أحكام الشرع ولكن عند أوطان الغفلة، وبين غائبٍ يرجع إلى أحكام الشرع ولكن عند حقائق الوصلة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏‏.‏

الرزق ما تمكَّن الإنسان من الانتفاع به، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمَّا نَفْلاً وإما فرضاً على موجب تفصيل العلم‏.‏ وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئاً من ميسورهم؛ فينفقون نفوسهم في آداب العبودية، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية‏.‏ فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال، فهؤلاء يكتفي منهم عِشْرين بنصفٍ ومن المائتين بِخَمس، وعلى هذا السَّنَن جميع الأموال يعتبر فيه النِّصاب‏.‏

وأمَّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم- لأنفسهم ولحظوظهم- لحظةً قامت عليهم القيامة‏.‏

فصل‏:‏

الزاهدون أنفقوا في طريقة متابعة هواهم، فآثروا رضاء الله على مناهم، والعابدون أنفقوا في سبيل الله وسعهم وقواهم، فلازموا سراً وعلناً نفوسهم‏.‏ والمريدون أنفقوا في سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شيء من دنياهم وعقباهم‏.‏ والعارفون أنفقوا في سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرَّبهم الحق سبحانه وأجزاهم، ويحكم الإفراد به لقَّاهم‏.‏

فصل‏:‏

الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم‏.‏ والفقراء أنفقوا من هممهم على مَنَابَتِهمْ‏.‏ ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لِحَقِّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن، ولكنه أعاد ذكر الإيمان ها هنا على جهة التخصيص والتأكيد، وتصديق الواسطة صلى الله عليه وسلم في بعض ما أخبر يوجب تصديقه في جميع ما أخبر، فإن دلالة صِدْقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كيف أصبحت‏؟‏» قال‏:‏ أصبحت مؤمناً بالله حقاً، وكأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني بعرش ربي بارزاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أصبْتَ فالْزَمْ»

وهذا عامر بن عبد القيس يقول‏:‏ «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً»‏.‏ وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يعني على بيان من ربهم ويقين وكشف وتحقيق، وذلك أنه تجلَّى لقلوبهم أولاً بآياته ثم تجلَّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته‏.‏

وقوم ‏{‏على هدىً ربهم‏}‏ بدلائل العقول؛ وضعوها في موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار‏.‏

‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ الفلاح الظفر بالبُغية، والفوز الطِلبة، ولقد نال القوم البقاء في مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهي غاغة النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

من كان في غطاء وصفه محجوباً عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلَّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعي الغفلة أميل، وفي الإصغاء إليها أرغب‏.‏ كيف لا‏؟‏ وهو بِكَيِّ الفرقة موسوم، وفي سجن الغيبة محبوس، وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس لهم من الحق أمان؛ فلمَّا لم يؤمنوا لم يؤمِنوا‏.‏ حكم سبق من الله حتم، وقول له فصل، وإن القدرة لا تُعارَض، ومن زاحم الحق في القضية كبسته سطوات العزة، وقَصَمتهْ بواده الحكم‏.‏

ويقال إن الكافر لا يرعوي عن ضلالتهِ لِمَا سَبَق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده‏.‏ ويقال إن الذي بقي في ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المُبْطِلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركاتِ الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يُصغي إلى داعي الرشاد، كما قيل‏:‏

وعلى النصوح نصيحتي *** وعليَّ عصيان النصوح

ويقال من ضلَّ عن شهود المِنَّةِ عليه في سابق القسمة تَوَهَّمَ أن الأمر من حركاته وسَكَنَاته فاتَّكَلَ على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الختم على الشيء يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه، وكذلك حَكَمَ الحقُّ سبحانه بألا يُفارقَ قلوبَ أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شيء من البصيرة والهداية‏.‏ على أسماع قلوبهم غطاء الخذلان، سُدَّت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان، فوساوس الشيطان وهواجس النفوس شغلتها عن استماع خواطر الحق‏.‏ وأمَّا الخواص فخواطر العلوم وجولان تحقيقات المسائل في قلوبهم شغلت قلوبهم عن ورود أسرار الحق عليهم بلا واسطة، وإنما ذلك لخاص الخاص، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد كان في الأمم مُحَدَّثُون فإن يكن في أمتي فعمر» فهذا المحدَّث مخصوص من الخواص كما أن صاحب العلوم مخصوص من بين العوام‏.‏ وعلى بصائر الأجانب غشاوة فلا يشهدون لا ببصر العلوم ولا ببصيرة الحقائق، ولهم عذاب عظيم لحسبانهم أنهم على شيء، وغفلتهم عما مُنُوا من المحنة ‏(‏و‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في الحال والمال، في العاجل فُرقَته، وفي الآجل حُرقته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ثبتوا على نفاقهم، ودأبوا على أن يلبِّسوا على المسلمين، فهتَكَ الله أستارهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما هم بمؤمنين‏}‏ كذا قيل‏:‏

من تحلى بغير ما هو فيه *** فضح الامتحان ما يَدَّعِيه

ولما تجردت أقوالهم عن المعاني كان وبال ما حصلوه منها أكثر من النفع الذي توهموه فيها، لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏ ولولا نفاقهم لم يزدد عذابهم‏.‏

ويقال لما عَدِموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏واللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق في الحال، وقيل‏:‏

أيها المدعي سليمى هواها *** لستَ منها ولا قلامة ظفر

إنما أنت في هواها كواوٍ *** أُلْصِقت في الهجاء ظلماً بعمرو

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه إلى أنفسهم فصاروا في التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما اسْتَخَفُّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبالَ فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينَهم‏.‏ ومن كان عالماً بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه‏.‏

والإشارة في هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لي وبي ومني وأنا يقع في وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات لأنه يرى سراباً فيظنه شراباً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

في قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضاً بتوهمهم أنهم نجوا بما لبَّسوا على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يَخْلُص وجعه إليهم في المآل‏.‏ ‏(‏وفي‏)‏ الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظِّه، وشاب إرادته بهواه ‏(‏أن‏)‏ يتقدم في الإرادة بِقَدَم، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النَفْس بأخرى، فهو لا مريدٌ صادقٌ ولا عاقلٌ متثبت‏.‏ ولو أن المنافقين أخلصوا في عقائدهم لأَمِنوا في الآخرة من العقوبة كما أَمِنوا في الدنيا من نحو بذلك الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة، كذلك لو صدق المريد في إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبُغية، ولكن حاله كما قيل‏:‏

فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف *** ولو خلصنا تخلصنا من المحن

وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القُرْبِ والمناجاة‏.‏ وأمَّا من ركن إلى الدنيا واتَّبع الهوى فسكونُهم إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة في علتهم تكون بزيادة حرصهم؛ كلما وجدوا منها شيئاً- عَجَّلَ لهم العقوبة عليه- يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه‏.‏

ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتتُ همومهم ثم تَبَغض عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفي معناه قيل‏:‏

تبدلت فتبدلنا واحسرتا *** لمن ابتغى عوضاً ليسلو فلم يجد

والإشارة في العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هي الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأَوْا أنفسهم كيف خسروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

الإشارة منها‏:‏ أنه إذا دعاهم واعظ في قلوبهم من خفي خواطرهم إلى ما فيه رشدهم تتبعوا رخص التأويل، ولبَّسوا على أنفسهم ما يشهد بقساوة قلوبهم، وحين جحدوا برهان الحق من خواطر قلوبهم نزع الله البركة من أحوالهم، وأبدلهم تصامُماً عن الحق، وابتلاهم بالاعتراض على الطريقة وسلبهم الإِيمان بها‏.‏

وكما أن المرتد أشد على المسلمين عداوة كذلك من رجع عن الإرادة إلى الدنيا والعادة فهو أشد الناس إنكاراً لهذه الطريقة، وأبعد من أهلها، وفي المَثَل‏:‏ من اخترق كُدسه تمنى أن يقع بجميع الناس ما أصابه‏.‏

وإرفاق المرتدين عن طريق الإرادة- عند الصادقين منهم- غير مقبول كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل زكاة ثعلبة‏.‏

ويقال كفى لصاحب الكذب فضيحة بأن يقال له في وجهه كذبتَ، فهم لمَّا قالوا إنما نحن مصلحون، أكذبهم الحق سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون‏}‏‏:‏ إنَّا نَعْلَمُهم فَنَفْضَحُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

الإشارة منها أن المنافقين لما دُعُوا إلى الحق وصفوا المسلمين بالسَّفَه، وكذلك أصحاب الغنى إذا أُمِروا بِتَرْكِ الدنيا وصفوا أهل الرشْد بالكسل والعجز، ويقولون إن الفقراء ليسوا على شيء، لأنه لا مال لهم ولا جاه ولا راحة ولا عيش، وفي الحقيقة هم الفقراء وهم أصحاب المحنة؛ وقعوا في الذل مخافة الذل، ومارسوا الهوان خشية الهوان، شيَّدوا القصور ولكن سكنوا القبور، زيَّنوا المهد ولكن أُدرجوا اللحد، ركضوا في ميدان الغفلة ولكن عثروا في أودية الحسرة، وعن قريب سيعلمون، ولكن حين لا ينفعهم علمهم، ولا يغني عنهم شيء‏.‏

سوف ترى إذا انجلى الغبارُ *** أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أم حمارُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أراد المنافقون أن يجمعوا بين عِشْرة الكفار وصحبة المسلمين، فإِذا برزوا للمسلمين قالوا نحن معكم، وإذا خَلَوْا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمْرَيْن فَنُفُوا عنهما‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏ وكذلك من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم ذلك، فالضدان لا يجتمعان، و«المُكَاتَبُ عَبدٌ ما بَقِيَ عليه درهم»، وإذا ادلهم الليل من ها هنا أدبر النهار من ها هنا، ومن كان له في كل ناحية خليط، وفي زاوية من قلبه ربيط كان نهباً للطوارق، ينتابه كل قوم، وينزل في قلبه كل ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، فقلبه أبداً خراب، لا يهنأ بعيش، ولا له في التحقيق رزق من قلبه، قال قائلهم‏:‏

أراك بقية من قوم موسى *** فهم لا يصبرون على طعام

ولما قال المنافقون‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزِمَّتهم في أيدي الشهوات استهوتهم في أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا في متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين في طغيانهم يعمهون يطيل مدة هؤلاء في مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملاً، وأسوأ ما كانوا عملاً، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا‏.‏ وتحسين أعمالهم القبيحة في أعينهم من أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة أَجَلُّ مصيبة لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء في أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم، وما ربحت تجارتهم‏.‏ والذي رضي بالدنيا عن العقبى لفي خسران ظاهر‏.‏

ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا‏.‏

وإذا كان المصاب بفوات النعيم مغبونا فالذي مُنِيَ بالبعاد عن المناجاة وانحاز بقلبه عن مولاه، وبقي في أسْرِ الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا في سرّه شهود- فهذا هو الْمُصَابُ والْمُمْتَحَن‏.‏

وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خَلَفَ عنها ولا بَدَلَ منها، ولقد قال بعضهم‏:‏

كنتَ السوادَ لمقلتي *** فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

هذا مثل ضربه الله سبحانه للمنافقين بمن استوقد ناراً في ابتداء ليلته ثم أطفئت النيران فبقي صاحبها في الظلمة، كذلك المنافق ظهر عليه شيء من العوافي في الدنيا بظاهره ثم امْتُحِنُوا في الآخرة بأليم العقوبة، أو لاح شيء من إقرارهم ثم بقوا في ظلمة إنكارهم‏.‏

والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة؛ يسلك طريق الإرادة، ويتعنَّى مدة، ويقاسي بعد الشدّة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية‏.‏ أورق عُودُه ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجَّل كسوف الفترة على أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل‏:‏

حين قرّ الهوى وقلنا سُرِرْنا *** وَحِسْبناً من الفراق أمِنَّا

بعث البَيْن رُسْل في خفاءٍ *** فأبادوا من شملنا ما جمعنا

وكذلك تحصل الإشارة في هذه الآية لمن له أدنى شيء من المعاني فيظهر الدعاوى فوق ما هو به، فإِذا انقطع عنه ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ماله من أحواله بقي في ظلمة دعاواه‏.‏

وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإِذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد- برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكُل ويحمل الكَلَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

صم عن سماع دواعي الحق بآذان قلوبهم، بكم عن مناجاة الحق بألسنة أسرارهم، عمي عن شهود جريان المقادير بعيون بصائرهم، فهم لا يرجعون عن تماديهم في تهتكم، ولا يرتدعون عن انهماكهم في ضلالتهم‏.‏

ويقال صم عن السماع بالحق، بكم عن النطق بالحق، وعمي عن مطالعة الخلق بالحق‏.‏ لم يسبق لهم الحكم بالإقلاع، ولم تساعدهم القسمة بالارتداع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

معنى قوله أو لإباحته ضرب مثلهم إمَّا بهذا وإما بذلك شبَّه القرآن بمطرٍ ينزل من السماء، وشبَّه ما في القرآن من الوعد والوعيد بما في المطر من الرعد والبرق، وشبه التجاءهم إلى الفرار عند سماع أصوات الرعد‏.‏ كذلك الإشارة لأصحاب الغفلات إذا طرق أسماعَهم وعظُ الواعظين، أو لاحت لقلوبهم أنوار السعادة؛ ولو أقلعوا عمَّا هم فيه من الغفلة لَسَعِدُوا، لكنهم ركنوا إلى التشاغل بآمالهم الكاذبة، وأصروا على طريقتهم الفاسدة، وتعللوا بأعذار واهية، ويحلِفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، ويسعون في الخطرِ بأيْمانهم‏:‏

إن الكريم إذا حباك بوُدِّه *** سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا

وكذا الملول إذا أراد قطيعةً *** ملّ الوِصال وقال كان وكانا

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

من تمام مثل المنافقين- كذلك أصحاب الغفلات- إذا حضروا مشاهد الوعظ، أو جنحت قلوبهم إلى الرقة، أو داخلهم شيء من الوهلة تَقْرُبُ أحوالهم من التوبة، وتقوى رغبتهم في الإنابة حتى إذا رجعوا إلى تدبرهم، وشاوروا إلى قرنائهم، أشار الأهل والولد عليهم بالعَوْدِ إلى دنياهم، وبسطوا فيهم لسان النصح، وهَدَّدُوهم بالضعف والعجز، فيضعف قصودُهم، وتسقط إرادتهم، وصاروا كما قيل‏:‏

إذا ارعوى، عاد إلى جهله *** كَذِي الضنى عاد إلى نكسه

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ‏}‏ يعني سمع المنافقين الظاهر وأبصارهم الظاهرة، كما أصمهم وأعماهم بالسر، فكذلك أرباب الغفلة، والقانعون من الإسلام بالظواهر- فالله تعالى قادر على سلبهم التوفيق فيما يستعملونه من ظاهر الطاعات، كما سلبهم التحقيق فيما يستبطنونه من صفاء الحالات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

العبادة موافقة الأمر، وهي استفراغ الطاقة في مطالبات تحقيق الغيب، ويدخل فيه التوحيد بالقلب، والتجريد بالسر، والتفريد بالقصد، والخضوع بالنفس، والاستسلام للحكم‏.‏

ويقال اعبدوه بالتجرد عن المحظورات، والتجلد في أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات بالخشوع والاستكانة، والتجافي عن التعريج في منازل الكسل والاستهانة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏‏:‏ تقريب الأمر عليهم وتسهيله، ولقد وقفهم بهذه الكلمة- أعني لعلَّ- على حد الخوف والرجاء‏.‏

وحقيقة التقوى التحرز والوفاء ‏(‏بالطاعة‏)‏ عن متوعدات العقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

تعرَّف إليهم بذكر ما مَنَّ به عليهم من خَلْقِ السماء لهم سقفاً مرفوعاً، وإنشاء الأرض لهم فرشاً موضوعاً، وإخراج النبات لهم بالمطر رزقاً مجموعاً‏.‏ ويقال أعتقهم عن مِنَّة الأمثال بما أزاح لهم من العلة فيما لا بُدَّ منه، فكافيهم السماء لهم غطاءً، والأرض وطاءً، والمباحات رزقاً، والطاعة حرفةً، والعبادة شغلاً، والذكر مؤنساً، والرب وكيلاً- فلا تجعلوا لله أنداداً، ولا تُعلِّقوا قلوبكم بالأغيار في طلب ما تحتاجون إليه؛ فإن الحق سبحانه وتعالى مُتَوَحدِّ بالإبداع، لا مُحْدِثَ سواه، فإذا توهمتم أن شيئاً من الحادثات من نفع أو ضرر، أو خيرٍ أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك- في التحقيق شِرْكاً‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن من له حاجة في نفسه لا يَصْلُحُ أن تَرفَع حاجتك إليه‏.‏ وتعلُّقُ المحتاج بالمحتاج، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد في الفقر، ولا يزيل هو أجم الضُر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لبَّس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه صلوات الله عليه، فتاهوا في أدوية الظنون لما فقدوا نور العناية، فلم يزدد الرسول عليهم إتياناً بالآيات، وإظهاراً من المعجزات إلا ازدادوا ريباً على ريب وشَكًّا على شك، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمًى عن الحقيقة؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏، وليبلغ عليهم في إلزام الحجة عرّفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم، وقدَّر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم، واعتضدوا بأشكالهم، واستفرغوا كُنْه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا‏}‏ وأخبر أنهم قطعاً لا يقدرون على ذلك ولا يفعلون فقال‏:‏ ‏{‏وَلَن تَفْعَلُوا‏}‏ فكان كما قال- فانظروا لأنفسكم، واحذروا الشِّرْكَ الذي يوجب لكم عقوبة النار التي من سطوتها بحيث وقودها الناس والحجارة، فإذا كانت تلك النار التي لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها ‏(‏‏)‏ فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم، وحين أشرفت قلوب المؤمنين على غاية الإشفاق من سماع ذكر النار تداركها بحكم التثبيت فقال‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ‏}‏ ففي ذلك بشارة للمؤمنين‏.‏ وهذه سُنَّةٌ من الحق سبحانه‏:‏ إذا خوَّف أعداءه بَشَّر مع ذلك أولياءه‏.‏

وكما أنَّ كيد الكافرين يضمحل في مقابلة معجزات الرسل عليهم السلام فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين، وأمارةُ المُبْطِل في دعواه رجوعٌ الزجر منه إلى القلوب، وعلامة الصادق في معناه وقوع القهر منه على القلوب‏.‏ وعزيزٌ من فصّل وميَّز بين رجوع الزجر وبين وقوع القهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏‏.‏

هذه البشارة بالجنان تتضمن تعريفاً بِنعِم مؤجلة لعموم المؤمِنين على الوصف الذي يُشْرَح بلسان التفسير‏.‏ ويشير إلى البشارة للخواص بنعم مُعَجَّلة مضافة إلى تلك النعم يتيح ‏(‏ها‏)‏ الله لهم على التخصيص، فتلك المؤجلة جنان المثوبة وهذه جنان القُربَة، وتلك رياض النزهة وهذه رياض الزُّلفة، بل تلك حدائق الأفضال وهذه حقائق الوِصال، وتلك رفع الدرجات وهذه رَوْح المناجاة، وتلك قضية جوده، هذه الاشتعال بوجوده، وتلك راحة الأبشار وهذه نزهة الأسرار، وتلك لطف العَطاء للظواهر وهذه كشف الغِطاء عن السرائر، وتلك لطف نواله وأفضاله وهذه كشف جماله وجلاله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

كما أن أهل الجنة تتجدد عليهم النعم في كل وقت، فالثاني عندهم- على ما يظنون- كالأول، فإِذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم- فكذلك أهل الحقائق‏:‏ أحوالهم في السرائر أبداً في الترقي، فإِذا رُقيِّ أحدهم عن محلِّه توهَّم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفَس مثل ما تقدم فإِذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم‏:‏

ما زلت أنزل من ودادك منزلاً *** تتحيَّرُ الألباب دون نزوله

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِى أن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏‏.‏

الاستحياء من الله تعالى بمعنى التَرْك، فإِذا وصف نفسه بأنه يستحي من شيء فمعناه أنه لا يفعل ذلك وإذا قيل لا يستحي فمعناه لا يبالي بفعل ذلك‏.‏

والخَلْقُ في التحقيق- بالإضافة إلى وجود الحق- أقلُّ من ذرةٍ من الهباء في الهواء، لأن هذا استهلاك محدود في محدود، فسِيَّان- في قدرته- العرش والبعوضة، فلا خَلْقٌ العرش أشق وأعسر، ولا خَلْق البعوضة أخف عليه وأيسر، فإِنه سبحانه مُتَقَدِّسٌ عن لحوق العُسْر واليُسْر‏.‏

فإذا كان الأمر بذلك الوصف، فلا يستحي أن يضرب بالبعوضة مثلاً كما لا يستحي أن يضرب بالعرش- فما دونه- مثلاً‏.‏

وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فَرَّتْ وطارت، وإذا شبعت تشققت فَتَلِفَتْ- كذلك ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقيل ما فوقها يعني الذباب، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته، حتى أنه ليعود عند البلاغ في الذب، ولو كان ذلك في الأسد لم ينجُ منه أحد من الخَلْق، ولكنه لمَّا خَلَق القوة في الأسد خلق فيه تنافراً من الناس، ولما خلق الوقاحة في الذباب خلق فيه الضعف، تنبيهاً منه سبحانه على كمال حكمته، ونفاذ قدرته‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً‏}‏‏.‏

فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار، وأمَّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضربُ الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

هذا الكتاب لقومٍ شفاءٌ ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة‏.‏ فمن تعرَّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ تذكَّروا عند ورود الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- قديم عهده، وسابقَ وُدِّه فازدادوا بصيرة على بصيرة، ومَنْ رَسَمَهُ بِذُلِّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة النبوية إلا جُحداً على جُحد، وما خفي عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لِمَا تقدم لهم سابقُ الضلالة‏.‏ لذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

الإشارة فيه إلى حال من سلك طريق الإرادة، ثم رجع إلى ما هو عليه أهل العادة، قال بتَرْكِ نفسه ثم لم يَصْدُق حين عزم الأمر، ونزل من إشارة الحقيقة إلى رخص الشريعة، وكما أنَّ من سلك الطريق بنفسه- ما دام يبقى درهم في كيسه- فغيرُ محمودٍ رجوعُه فكذلك من قصد بقلبه- ما دام يبقى نَفَسٌ من روحه- فغير مَرْضيِّ رجوعهُ‏:‏

إن الأُلى ماتوا على دين الهدى *** وجدوا المنية منهلاً معلولا

ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصَل‏:‏ وصل أسباب الحق بقطع أسباب الخَلْق، ولا يتم وصل مَا لَهُ إلا بقطع ما لَكَ، فإذا كان الأمر بالعكس كان الحال بالضد‏.‏

ومما أُمِرَ العبد بوصله‏:‏ حفظه دِمام أهل هذه الطريقة، والإنفاق على تحصيل ذلك بصدق الهمم لا يبذل النِّعَم، فهممهم على اتصال أسباب هذه الطريقة وانتظام أحوالها موقوفة، وقلوبهم إلى توقع الحراسة من الله تعالى لأهلها مصروفة‏.‏ وفساد هذه الطريقة في الأرض‏:‏ أما مَنْ لهم حواشي أحوالهم، وإطراق أمورهم فيتشاغلون عن إرشادِ مريدٍ بكلامهم، وإشحاذِ قاصدٍ بهممهم؛ وذلك مما لا يرضى به الحق سبحانه منهم‏.‏

ومِنْ نَقْضِ العهد أيضاً أن يحيد سِرُّك لحظةً عن شهوده، ومِنْ قَطْع ما أُمِرْتَ بِوَصْلِه أن يتخلل أوقاتك نَفَسٌ لحظِّك دون القيام بحقه، ومِنْ فسادِكَ في الأرض ساعة تجري عليك ولم تَرَهُ فيها‏.‏ أَلاَ إن ذلك هو الخسران المبين، والمحنة العظمة، والرزية الكبرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

هذه كلمة تعجيب وتعظيم لما فيه العبد، أي لا ينبغي مع ظهور الآيات أن يجنح إلى الكفر قلبُه‏.‏

ويقال تعرَّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً‏}‏ يعني نطفة، أجزاؤها متساوية، ‏{‏فَأَحْيَاكُمْ‏}‏‏:‏ بَشَراً اختصَّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظماً، وبعضها بكونه لحماً، وبعضها بكونه شَعْراً، وبعضها بكونه جِلداً‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ بأن يجعلكم عظاماً ورفاتاً، ‏{‏ثُمَّ يُحْييكُمْ‏}‏ بأن يحشركم بعدما صرتم أمواتاً، ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ أمْوَاتاً‏}‏ بجهلكم عنّا، ثم ‏{‏فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ بمعرفتكم بنا، «ثم يميتكم» عن- شواهدكم، «ثم يحييكم» به بأن يأخذكم عنكم، ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق‏.‏

ويقال ‏{‏وكُنتُمْ أمْواتاً‏}‏ لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم في قبضته سبحانه وتعالى‏.‏

ويقال يحبس عليهم الأحوال؛ فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة- وبيناهم كذلك- إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أنبتهم وأبقاهم، فهم أبداً بين نفي وإثبات، وبين بقاء وفناءَ، وبين صحو ومحو‏.‏‏.‏ كذلك جرت سنته سبحانه معهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً‏}‏‏.‏

سخر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شيء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون، لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون‏.‏

ويقال مَهَّدَ لهم سبيل العرفان، ونبَّهَهُم إلى ما خصَّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوَّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلاَ لِلقَمَرِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته- على مخلوق- استوى، وأَنَّى بذلك‏!‏ والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكانٍ بذاته استوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

هذا ابتداء إظهار سِرِّه في آدم وذريته‏.‏ أَمَرَ حتى سلَّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحاً، وكل واحد من الملائكة يفضي العَجَبَ‏:‏ ما حكم هذه الطينة‏؟‏ فلمَّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها في بديع الصنعة وعجيب الحكمة، فحين قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ‏}‏ تَرَجَّمَتْ الظنون، وتقسَّمت القلوب، وتجنَّت الأقاويل، وكان كما قيل‏:‏

وكم أبصرتُ من حسن ولكن *** عليك من الورى وقع اختياري

ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يَقُلْ في شأن شيء منه ما قال في حديث آدم حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة لو كان من المخلوقين‏.‏ والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إني خالق عرشاً أو جنة أو مَلَكاً، وإنما قال تشريفاً وتخصيصاً لآدم إني جاعل في الأرض خليفة‏.‏

فصل‏:‏

ولم يكن قول الملائكة‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حَمْلَ الخطاب على ما يُوجِب تنزيه الملائكة أَوْلى لأنهم معصومون‏.‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنَّ في قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب؛ فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏‏.‏ ثم إن الحق سبحانه عرَّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمُّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلاً وأقدمه، وآدم كان أكثر علماً وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته‏.‏

ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏، مِنْ غفراني لهم‏.‏

ويقال‏:‏ في تسبيحهم إظهارُ فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم، ومن غفرانه لمعاصي بني آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غني عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه‏.‏

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا، وذكاء سرائرهم في حفظ عهودنا وإن تدنَّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل‏:‏

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ *** جاءت محاسنُه بأَلْفِ شفيع

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم، وفي معناه أنشدوا‏:‏

ما حطَّك الواشون عن رتبة *** عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثْنَوْا- ولم يعلموا- *** عليك عندي بالذي عابوا

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولةَ قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم، وفي تجميل تسبيحكم، وهم مُنْكَرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماماً قوياً‏.‏

ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلي، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي‏؟‏ ويقال لبَّسْتُكم طاعتكم ولبستهم رحمتي، فأنتم في صدار طاعتكم وفي حُلَّةِ تقديسكم وتسبيحكم، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كَرَمي، وجللتهم رداء عفوي‏.‏

ويقال إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي‏.‏

وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلُّق رحمتي بهم في أزلي‏.‏

ويقال‏:‏ لئن كان مُحسِنْكم عتيق العصمة فإن مجرمَهُم غريق الرحمة‏.‏

ويقال‏:‏ اتكالهم عليَّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

عموم قوله الأسماء يقتضي الاستغراق، واقتران قوله سبحانه بكُلها يوجب الشمول والتحقيق، وكما علّمه أسماء المخلوقات كلها- على ما نطق به تفسير ابن عباس وغيره- علَّمه أسماء الحق سبحانه، ولكن إنما أظهر لهم محل تخصصه في علمه أسماءالمخلوقات وبذلك المقدار بأن رجحانه عليهم، فأما انفراده بمعرفة أسمائه- سبحانه- فذلك سِرٌّ لم يَطَّلِع عليه مَلَكٌ مُقَرَّب‏.‏ ومن ليس له رتبة مساواة آدم في معرفة أسماء المخلوقات فأي طمعٍ في مداناته في أسماء الحق، ووقوفه على أسرار الغيب‏؟‏

وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يتقضى أن يصحَّ ‏(‏به سجود‏)‏ الملائكة فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه‏؟‏ ما الذي يُوجَبُ لِمَنْ أُكْرِمَ به‏؟‏

ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين؛ فإنَّ الطاعةَ سِمَةُ العبيد ولا تتعداهم، والعلم في الجملة صفة مدح يجب في نعت الحق سبحانه واجباً لا يصحُّ لغيره، فالذي يُكْرِمهُ بما يتصف هو سبحانه ‏(‏بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقاً على جنس المخلوقات‏)‏‏.‏

ويقال أكرمه في السر بما علَّمه ثم بيَّن تخصيصه يوم الجهر وقدَّمه‏.‏ ويقال قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏ ثم‏:‏ حرف تراخٍ ومهلة‏.‏‏.‏ إمّا على آدم؛ فإنه أمهله من الوقت ما تقررذلك في قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذٍ استخبره عما تحقَّق به واستيقنه‏.‏ وإمّا على الملائكة؛ فقال لهم على وجه الوهلة‏:‏ «أنبئوني» فلمَّا لم يتقدم لهم تعريف تحيَّروا، ولمَّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهاراً لعنايته السابقة- سبحانه- بشأنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فيه إشارة إلى أنهم تَعَرَّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرَّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه في قديم تخصيصه‏.‏ ولمَّا عَلِمَ الحقُّ سبحانه تَقَاصُرَ علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلَّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنَّ الأمر أمرهُ، والحكمَ حُكمُه، فَلَهُ تكليف المستطيع، ردَّاً على من تَوَهَّمَ أن أحكام الحق سبحانه مُعَلَّلَة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحَسَنُ ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قدَّموا الثناء على ذكر ما اعتذروا به، ونزَّهوا حقيقة حُكْمِه عن أن يكون يَعرِض وهم المعترضون، يعني لا علم لنا بما سألتنا عنه، ولا يتوجَّه عليكَ لوم في تكليف العاجز بما علمتَ أنه غير مستطيع له، إنك أنت العليم الحكيم أي ما تفعله فهو حقٌّ صِدْقٌ ليس لأحد عليكَ حكمٌ، ولا منك سَفَهٌ وقبح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

من آثار العناية بآدم عليه السلام أنَّه لمَّا قال للملائكة‏:‏ «أنبئوني» دَاخَلَهُم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم، لا سيما حين طالَبَهم بإنبائهم إياه ما لم تُحِطْ به علومهم‏.‏ ولما كان حديث آدم عليه السلام ردَّه في الإنباء إليهم فقال‏:‏ ‏{‏أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏ ومخاطبة آدم عليه السلام الملائكة لم يوجب له الاستغراق في الهيبة‏.‏ فلما أخبرهم آدم عليه السلام بأسماء ما تقاصرت عنها علومهم ظهرت فضيلته عليهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ‏}‏ يعني ما تقاصرت عنه علوم الخَلْق، وأعلم ما تبدون من الطاعات، وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم عليه السلام والصلاة‏.‏

فصل‏:‏

ولمَّا أراد الحق سبحانه أن يُنَجِيَ آدمَ عصمهِ، وعلَّمه، وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نَسِيَ في الحضرة عهده، وجاوز حدَّه، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏ فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإِحسان، والوقت الذي أمضى عليه الحكم ردَّه إلى حال النسيان والعصيان، كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجري وتمضي، ذلَّ بحكمه العبيد، وهو فعَّال لما يريد‏.‏

فصل‏:‏

ولمَّا توهموا حصول تفضيلهم بتسبيحهم وتقديسهم عرَّفهم أن بِساط العز مقدس عن التجمل بطاعة مطيع أو التدنس بزلة جاحد عنيد، فَرَدُّهم إلى السجود لآدم أَظهرَ الغَنَاء عن كل وفاق وخلاف‏.‏