فصل: (الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ:

وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
بَابُ اللَّحْظِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}.
قُلْتُ: يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- بِالِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَثْبُتُ لِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا. لِصَيْرُورَةِ الْجَبَلِ دَكًّا عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ أَدْنَى تَجَلٍّ.
كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ حَمَّادٌ: هَكَذَا- وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَىمَفْصِلِ الْخِنْصَرِ الْأَيْمَنِ- فَقَالَ حُمَيْدٌ لِثَابِتٍ: أَتُحَدِّثُبِمِثْلِي هَذَا؟ فَضَرَبَ ثَابِتٌ صَدْرَ حُمَيْدٍ ضَرْبَةً بِيَدِهِ. وَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ بِهِ، وَأَنَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ؟ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: هُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الشَّيْخَ اسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ اللَّحْظِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ. فَرَأَى أَثَرَ التَّجَلِّي فِي الْجَبَلِ دَكًّا. فَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا.
قَالَ الشَّيْخُ: اللَّحْظُ: لَمْحٌ مُسْتَرِقٌ الصَّوَابُ قِرَاءَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِالتَّخْفِيفِ. فَوَصَفَ اللَّمْحَ بِأَنَّهُمُسْتَرِقٌ كَمَا يُقَالُ: سَارَقْتُهُ النَّظَرَ. وَهُوَ لَمْحٌ بِخُفْيَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَلْمُوحُ.
وَلِهَذَاالِاسْتِرَاقِ أَسْبَابٌ. مِنْهَا: تَعْظِيمُ الْمَلْمُوحِ وَإِجْلَالُهُ. فَالنَّاظِرُيُسَارِقُهُ النَّظَرَ. وَلَا يُحِدُّ نَظَرَهُ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ. وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ لَمَا قَدَرْتُ. لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: خَوْفُ اللَّامِحِ سَطْوَتَهُ. وَمِنْهَا مَحَبَّتُهُ. وَمِنْهَا الْحَيَاءُ مِنْهُ. وَمِنْهَا ضَعْفُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ عَنِ التَّحْدِيقِ فِيهِ. وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُقْرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. أَيْ نَظَرًا يَسْتَرِقُّ صَاحِبَهُ. أَيْ يَأْسِرُ قَلْبَهُ وَيَجْعَلُهُ رَقِيقًا- أَيْ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ- لِمَا شَاهَدَ مِنْ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، فَاسْتَرَقَّ قَلْبَهُ. فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِقِّهِ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ وُقُوعِ لَحْظِهِ عَلَيْهِ.
فَهَكَذَا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا لَاحَظَ بِقَلْبِهِ جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالَ نُعُوتِهِ، وَمَوَاقِعَ لُطْفِهِ وَفَضْلِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ: اسْتَرَقَّ قَلْبَهُ لَهُ وَصَارَتْ لَهُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ.

.[دَرَجَاتُ اللَّحْظِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا]:

قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا. وَهِيَ تَقْطَعُ طَرِيقَ السُّؤَالِ، إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا. وَتُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ. وَتَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ.
الشَّيْخُ عَادَتُهُ فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَقُولَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. وَقَالَ هَاهُنَا: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ فَعَيَّنَ هَذَا الْبَابَ هُنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْوَابِ. لِأَنَّ اللَّحْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ لِحَظِّ الْبَصَرِ، وَلَحْظِ الْبَصِيرَةِ. وَالشَّيْخُ إِنَّمَا أَرَادَ هَاهُنَا هَذَا الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيهِ خَاصَّةً.
وَهُوَ لَمَّا صَدَّرَ بِالْآيَةِ وَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِيهَا: إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْأَمْرِ بِنَظَرِ الْعَيْنِ، اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ.
وَقَالَ: اللَّحْظُ الَّذِي نُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ لَحْظُ الْعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا الْفَضْلُ: هُوَ الْعَطَاءُ الْإِلَهِيُّ. وَالسَّبْقُ هُوَ مَا سَبَقَ لَهُ بِالتَّقْدِيرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وَهَذَا الْكَلَامُ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ قَدْ سَبَقَ بِهِ تَقْدِيرُهُ- فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ- سَكَنَ جَأْشُهُ. وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ. وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وَأَنَّهُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ وَلِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا. {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}. فَإِذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ، وَذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ بِهِ: قَطَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ مِنْ رَبِّهِ. لِأَنَّ مَا سَبَقَ لَهُ بِهِ الْقَدَرُ كَائِنٌ وَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الشَّيْخُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سُؤَالِ رَبِّهِ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ. فَقَالَ: إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا أَيْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ سُؤَالَهُ وَطَلَبَهُ يَجْلِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ. وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَحْذَرُهُ. فَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِوُصُولِ الْمَقْدُورِ إِلَيْهِ، سَأَلَهُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ. وَلَكِنْ يَكُونُ سُؤَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ، وَإِظْهَارِ فَقْرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَذُلِّهَا بَيْنَ يَدَيْ عِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَرْغَبَ إِلَيْهِ. لِأَنَّ وُصُولَ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى سُؤَالِهِ. بَلْ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا تَوَسُّطِ سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ.
بَلْ قَدَّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِسُؤَالِهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ، إِظْهَارًا لِمَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَاعْتِرَافًا بِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالِ غِنَى الرَّبِّ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا غِنَى لَهُ عَنْ فَضْلِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَيَأْتِي بِالطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ إِتْيَانَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِطَلَبِهِ وَسُؤَالِهِ شَيْئًا.
وَلَكِنَّ رَبَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ، وَيُطْلَبَ مِنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
وَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، وَقَالَ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}، وَقَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وَقَالَ: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ. وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ».
وَقَالَ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ. فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِهِ. وَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ».
وَقَالَ مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ بِهَا أَحَدَ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ حَاجَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَاللَّهُ أَكْثَرُ. وَقَالَ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى- فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ. فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مِنْ كَسَوْتُهُ. فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ. فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي. فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.
وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا السُّجُودُ: فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ. وَلَكِنْ أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ. فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ.
وَفِي هَذَا يَقُولُ الْقَائِلُ:
لَوْ لَمْ تُرِدْ بَذْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ ** مِنْ جُودِ كَفِّكَ مَا عَوَّدْتَنِي الطَّلَبَا

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ تَذَلُّلَ عَبِيدِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُؤَالَهُمْ إِيَّاهُ، وَطَلَبَهُمْ حَوَائِجَهُمْ مِنْهُ، وَشَكْوَاهُمْ إِلَيْهِ، وَعِيَاذَهُمْ بِهِ مِنْهُ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِ. كَمَا قِيلَ:
قَالُوا أَتَشْكُو إِلَيْهِ ** مَا لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ

فَقُلْتُ رَبِّي يَرْضَى ** ذُلَّ الْعَبِيدِ لَدَيْهِ

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَذَاكَرْتُ: مَا جِمَاعُ الْخَيْرِ؟ فَإِذَا الْخَيْرُ كَثِيرٌ: الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ. وَإِذَا هُوَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تَسْأَلَهُ، فَيُعْطِيَكَ. فَإِذَا جِمَاعُ الْخَيْرِ: الدُّعَاءُ.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ:
طَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ.
قَالُوا: فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِ، دَعَا الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِهِ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ.
وَلَمَّا رَأَوُا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْآثَارَ قَدْ تَظَاهَرَتْ بِالدُّعَاءِ وَفَضْلِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: هُوَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ اللَّهُ. وَلَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: ظَنَّتْ أَنَّ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ يُنَالُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحُصُولِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ. وَرُبَّمَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شُهُودُهُمْ: أَنَّ هَذَا السَّبَبَ مِنْهُمْ وَبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَعَلُوهُ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ الَّتِي فَعَلَتْهُ وَأَحْدَثَتْهُ.
وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَرُبَّمَا غَابَ عَنْهُمْ شُهُودُ كَوْنِ ذَلِكَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ، لَا بِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَهُمْ لِلدُّعَاءِ. وَقَذَفَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ.
فَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ غَالِطَتَانِ أَقْبَحَ غَلَطٍ. وَهُمَا مَحْجُوبَتَانِ عَنِ اللَّهِ.
فَالْأُولَى: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَنَصْبِهَا لِإِقَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ بِهَا. فَحِجَابُهَا كَثِيفٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَنِهِ وَفَضْلِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ- بَلْ وَلَا لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ- إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ. وَأَنَّهُ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى: إِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ قُدِّرَ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ.
جَوَابُهُ، أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ أَنَّهُ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ. فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ لَمْ يُوجَدْ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الْمَطْلُوبِ: الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ اللَّذَيْنِ إِذَا وُجِدَا وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِمَا. كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوَلَدِ: الْجِمَاعُ. وَمِنْ أَسْبَابِ الزَّرْعِ: الْبَذْرُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ.
وَيُقَالُ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: لَا مُوجِبَ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ هَاهُنَا سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُهَا. فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ السَّبَبَ سَبَبًا. وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ عَلَى السَّبَبِ حُصُولِ الْمُسَبَّبِ. وَلَوْ شَاءَ لِأَوْجَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَإِذَا شَاءَ مَنْعَ سَبَبِيَّةِ السَّبَبِ، وَقَطَعَ عَنْهُ اقْتِضَاءَ أَثَرِهِ. وَإِذَا شَاءَ أَقَامَ لَهُ مَانِعًا يَمْنَعُهُ عَنِ اقْتِضَاءِ أَثَرِهِ، مَعَ بَقَاءِ قُوَّتِهِ فِيهِ. وَإِذَا شَاءَ رَتَّبَ عَلَيْهِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ.
فَالْأَسْبَابُ طَوْعُ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَقُدْرَتِهِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ. يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَاحَظَ بِعَيْنِ قَلْبِهِ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ جَزِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا سَبَبَ مِنَ الْعَبْدِ أَصْلًا. فَإِنَّهُ سَبَقَتْ لَهُ تِلْكَ السَّابِقَةُ وَهُوَ فِي الْعَدَمِ. لَمْ يَكُنْ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ- شَغَلَتْهُ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ بِطَلَبِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَنِ الطَّلَبِ مِنْهُ. وَقَطَعَتْ عَلَيْهِ طَرِيقَ السُّؤَالِ، اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. لَا لِأَنَّ مَسْأَلَتَهُ وَالطَّلَبَ مِنْهُ نَقْصٌ. بَلْ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَمْرَيْنِ، بَلِ اسْتِغْرَاقُهُ فِي شُهُودِ الْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْفَضْلِ قَطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ مَقَامًا لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ هَذَا حُكْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: قَوْلُهُ: وَيُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ:

يَعْنِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ مِنَ الْعَبْدِ يُنْبِتُ لَهُ السُّرُورَ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فَضْلَ رَبِّهِ قَدْ سَبَقَ لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ وَتَقْصِيرِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ. وَلَمْ يَمْنَعْهُ عِلْمُهُ بِهِ: أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ. فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ إِذْ أَنْشَأَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ هُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَّرَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْجُودِ مَا قَدَّرَهُ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْهُ. بَلْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَقْتَضِي قَطْعَ ذَلِكَ وَمَنْعَهُ عَنْهُ.
فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ: اشْتَدَّ سُرُورُهُ بِرَبِّهِ، وَبِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَهَذَا فَرَحٌ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
فَفَضْلُهُ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْعِلْمُ وَالْقُرْآنُ. وَهُوَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِذَلِكَ وَيُسَرَّ بِهِ. بَلْ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِالْحَسَنَةِ إِذَا عَمِلَهَا وَأَنَّ يُسَرَّ بِهَا. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرَحٌ بِفَضْلِ اللَّهِ، حَيْثُ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهَا، وَأَعَانَهُ عَلَيْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُ. فَفِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا يَفْرَحُ الْعَبْدُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ. فَيَفْرَحُ بِهِ إِذْ هُوَ عَبْدُهُ وَمُحِبُّهُ. وَيَفْرَحُ بِهِ سُبْحَانَهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَمُنْعِمًا وَمُرَبِّيًا، أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِسَيِّدِهِ الْمَخْلُوقِ الْمُشْفِقِ عَلَيْهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيَطْلُبُهُ مِنْهُ. الْمُتَنَوِّعُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالذَّبِّ عَنْهُ.
وَسَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- تَمَامُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ السُّرُورِ.
قَوْلُهُ إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ أَيْ يُمَازِجُهُ. فَإِنَّ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيُنَمِّيهَا. وَيُنْسِيهَا عُيُوبَهَا وَآفَاتِهَا وَنَقَائِصَهَا. إِذْ لَوْ شَهِدَتْ ذَلِكَ وَأَبْصَرَتْهُ لَشَغَلَهَا ذَلِكَ عَنِ الْفَرَحِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ قَدْ يُنْسِيهِ الْمُنْعِمَ. فَيَشْتَغِلُ بِالْخِلْعَةِ الَّتِي خَلَعَهَا عَلَيْهِ عَنْهُ. فَيَطْفَحُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتَّى يَغِيبَ بِنِعْمَتِهِ عَنْهُ. وَهُنَا يَكُونُ الْمَكْرُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ.
وَلِلَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ مُسْتَرِدٍّ مِنْهُ مَا وَهَبَ لَهُ عَزَّةً وَحِكْمَةً! وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ. إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ لَخِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فَإِذَا كَانَ هَذَا غِنًى بِالْحُطَامِ الْفَانِي، فَكَيْفَ بِالْغِنَى بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ؟ فَصَاحِبُ هَذَا إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَذَرُ الْمَكْرِ: خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَهُ وَيَنْحَطَّ عَنْهُ.
وَالْمَكْرُ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ: أَنْ يُغَيِّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ شُهُودَ أَوَّلِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْهُ وَحْدَهُ. فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَيُغَيِّبُهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ. وَيُحِيلُهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَطَلَبِهِ. فَيُحِيلُهُ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي لَهَا الْفَقْرُ بِالذَّاتِ، وَيَحْجُبُهُ عَنِ الْحِوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ الْوَفِيِّ الَّذِي لَهُ الْغِنَى التَّامُّ كُلُّهُ بِالذَّاتِ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَكْرِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مِنَ الطَّاعَةِ مَا بَلَغَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ هَذَا الْحَذَرُ. وَقَدْ خَافَهُ خِيَارُ خَلْقِهِ، وَصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ شُعَيْبٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ قَالَ لَهُ قومه: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}- إِلَى قوله: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةً بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وُوُقُوفًا مَعَ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْمِهِ- وَقَدْ خَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ- فَقَالَ: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ؟
فَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يَدْعُو بِذَلِكَ. وَمُرَادُهُ: لَا تَخْذُلْنِي، حَتَّى آمَنَ مَكْرَكَ وَلَا أَخَافَهُ، وَكَرِهَهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَلَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ. وَلَكِنْ أَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ آمَنَ مَكْرَكَ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تُؤَمِّنُنِي.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ أُحِيلَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَدْ مُكِرَ بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ- مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ طَرِيفٍ الْمِعْوَلِيِّ حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: وَجَدْتُ هَذَا الْإِنْسَانَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ. فَإِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ خَيْرًا: جَبَذَهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا: وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ. وَمَنْ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ هَلَكَ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: لَوْ أُخْرِجَ قَلْبِي فَجُعِلَ فِي يَدِي هَذِهِ فِي الْيَسَارِ. وَجِيءَ بِالْخَيْرِ فَجُعِلَ فِي هَذِهِ الْيُمْنَى. ثُمَّ قُرِّبْتُ مِنَ الْأُخْرَى مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُولِجَ فِي قَلْبِي شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَضَعُهُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَكْرِ، مَا لَمْ يُقَارِنْهُ خَوْفٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.
وَقَالَ قَوْمُ قَارُونَ لَهُ {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فَالْفَرَحُ مَتَى كَانَ بِاللَّهِ، وَبِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ، مُقَارِنًا لِلْخَوْفِ وَالْحَذَرِ: لَمْ يَضُرَّ صَاحِبَهُ، وَمَتَى خَلَا عَنْ ذَلِكَ: ضَرَّهُ وَلَا بُدَّ.
قَوْلُهُ: وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ.
هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تَبْعَثُهُ عَلَى الشُّكْرِ لِلَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي كُلِّ حِينٍ، إِلَّا مَا عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ شُكْرِهِ. فَإِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ لِنَفْسِهِ بِحَقِّ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ. فَتِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ تَبْسُطُ لِلْعَبْدِ الشُّكْرَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِهِ.
فَإِنَّ شُكْرَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ. فَهِيَ تَسْتَدْعِي شُكْرًا آخَرَ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ الشُّكْرُ نِعْمَةٌ أَيْضًا. فَيَسْتَدْعِي شُكْرًا ثَالِثًا. وَهَلُمَّ جَرًّا. فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ الرَّبِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَلَا يَشْكُرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ. فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ وَبِشُكْرِهَا. فَهُوَ الشَّكُورُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَمَّى عَبْدَهُ شَكُورًا. فَمِدْحَةُ الشُّكْرِ فِي الْحَقِيقَةِ: رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَمَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ. فَهُوَ الشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ. فَمَا شَكَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، مَعَ كَوْنِ الْعَبْدِ عَبْدًا وَالرَّبِّ رَبًّا. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ.
الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ يَبْسُطُهُ لِلشُّكْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَفِعْلُهُ. لَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَفِعْلُهُ. فَإِنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ بِالشَّكُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} وقال أَهْلُ الْجَنَّةِ {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فَهَذَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَلَا يَبْعَثُ الْعَبْدَ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنَّهُ: إِذَا لَاحَظَ سَبْقَ الْفَضْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لِلشُّكْرِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ. كَمَا قَالَ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَبِّ، هَلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ.
وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الشُّكْرَ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، قَوِيٌّ، وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. فَكَذَلِكَ هُوَ شَكُورٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. فَمُلَاحَظَةُ الْعَبْدِ سَبْقَ الْفَضْلِ تُشْهِدُهُ صِفَةَ الشُّكْرِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ. وَهِيَ تُسْبِلُ لِبَاسَ التَّوَلِّي وَتُذِيقُ طَعْمَ التَّجَلِّي. وَتَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ: أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ: مُلَاحَظَةُ مَا سَبَقَ بِنُورِ الْعِلْمِ. وَهَذِهِ مُلَاحَظَةُ كَشْفٍ بِحَالٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى شَغَلَهُ عَنِ الْخَلْقِ. فَأَسْبَلَ عَلَيْهِ لِبَاسَ تَوَلِّيهِ اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَوَلِّيهِ عَمَّا سِوَاهُ.
وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ. وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ. فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ. وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ.
وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا. وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ. فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّي حَقِيقَةَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ. وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ.
وَيُنَظِّرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ. وَلَمْ تُعْدَمِ الْكَوَاكِبُ. وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ. فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ. وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا. وَهَكَذَا نُورُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ، قَوِيَ سُلْطَانُهَا، وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبِ عَنِ الْقَلْبِ.
وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ: بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ- كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ- إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.
فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ: يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ. فَيَظُنُّهُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ! ثُمَّ هَيْهَاتَ! نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ، كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.
فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ. وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ. وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ. لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَإِنَّ صِفَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِيهِ. فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَا اتِّحَادَ، وَلَا حُلُولَ، وَلَا مُمَازَجَةَ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ وَيَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي الْعُوَارُ: الْعَيْبُ. وَالتَّسَلِّي السَّلْوَةُ عَنِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِحُبِّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ سُلُوَّ الْقَلْبِ وَغَفْلَتَهُ عَنْ ذِكْرِهِ: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ. فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ إِذَا صَدَقَتْ عَصَمَتْ صَاحِبَهَا عَنْ عَيْبِ سَلْوَتِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْإِيمَانِ بِهَا وَمَعْرِفَتُهَا، وَدَوَامُ ذِكْرِهَا. وَمَعَ هَذَا: فَبَابُ السَّلْوَةِ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ، وَطَرِيقُهَا عَلَيْهِ مَقْطُوعٌ. وَالْمُحِبُّ يُمْكِنُهُ التَّسَلِّي قَبْلَ أَنْ يُشَاهِدَ جَمَالَ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي شُهُودِ كَمَالِهِ، وَيَغِيبَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَمَا قِيلَ:
مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفُهُ ** فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ