فصل: فَصْلٌ: (الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَهِيَ تُوقِظُ لِاسْتِهَانَةِ الْمُجَاهَدَاتِ. وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ. وَتُفِيدُ مُطَالَعَةَ الْبِدَايَاتِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ: أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا- مُطَالَعَةُ كَشْفِ الْأَنْوَارِ- تُشِيرُ إِلَى نَوْعِ كَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ. وَهَذِهِ مُطَالَعَةٌ تَجْذِبُ الْقَلْبَ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ، وَشِعَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، إِلَى مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْنِ الْجَمْعِ، النَّاظِرِ إِلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنِ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. سَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ. وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ.
فَالنَّظَرُ بِهَذِهِ الْعَيْنِ: يُوقِظُ قَلْبَهُ لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لَهُ شِرَّةٌ، وَفِي طَلَبِهِ حِدَّةٌ، تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَتَرْمِيهِ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ طَلَبِهِ. فَفُتُورُهُ نَائِمٌ، وَاجْتِهَادُهُ يَقْظَانُ.
فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: اسْتَهَانَ بِالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ. وَاسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّهَا. فَإِنَّ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ: أَنْفَعُ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَمَعَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ كُلَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَزَالَ كُلُّ مُفَرِّقٍ وَمُشَتِّتٍ: كَانَتْ هَذِهِ هِيَ سَاعَاتُ عُمْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَتَعَوَّضَ بِهَا عَمَّا كَانَ يُقَاسِيهِ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَعَبِهَا.
وَهَذَا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ.
إِحْدَاهُمَا: غَلَتْ فِيهِ، حَتَّى قَدَّمَتْهُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. وَرَأَتْ نُزُولَهَا عَنْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ انْحِطَاطًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى. حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ذَاقَ ذَلِكَ: قُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ:
يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ** فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ

وَقَالَ آخَرُ: لَا تُسَيِّبْ وَارِدَكَ لِوِرْدِكَ.
وَهَؤُلَاءِ بَيْنَ كَافِرٍ وَنَاقِصٍ.
فَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَامَ بِالْفَرَائِضِ- إِذَا حَصَلَتْ لَهُ الْجَمْعِيَّةُ- فَهُوَ كَافِرٌ، مُنْسَلِخٌ مِنَ الدِّينِ. وَمِنْ عَطَّلَ لَهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً- كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَدِّي- فَهُوَ نَاقِصٌ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَعْبَأُ بِالْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تَعْمَلُ عَلَيْهَا. وَلَعَلَّهَا لَا تَدْرِي مَا مُسَمَّاهَا وَلَا حَقِيقَتُهَا.
وَطَرِيقَةُ الْأَقْوِيَاءِ، أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: الْقِيَامُ بِالْجَمْعِيَّةِ فِي التَّفْرِقَةِ مَا أَمْكَنَ. فَيَقُومُ أَحَدُهُمْ بِالْعِبَادَاتِ، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، مَعَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَإِنْ ضَعُفَ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَضَاقَ عَنْ ذَلِكَ: قَامَ بِالْفَرَائِضِ. وَنَزَلَ عَنِ الْجَمْعِيَّةِ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا إِلَّا بِتَعْطِيلِ الْفَرْضِ. فَإِنَّ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ مِنْهُ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ. وَنَفْسَهُ تُرِيدُ الْجَمْعِيَّةَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَلَمِ التَّفْرِقَةِ وَشَعْثِهَا. فَالْفَرَائِضُ حَقُّ رَبِّهِ. وَالْجَمْعِيَّةُ حَظُّهُ هُوَ.
فَالْعُبُودِيَّةُ الصَّحِيحَةُ: تُوجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا جَاءَ إِلَى النَّوَافِلِ، وَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ الْجَمْعِيَّةَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ النَّوَافِلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ.
وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ تِلْكَ النَّوَافِلَ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهَا أَرْجَحَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تُعَوِّضُهُ الْجَمْعِيَّةُ عَنْهَا: اشْتَغَلَ بِهَا، وَلَوْ فَاتَتِ الْجَمْعِيَّةُ، كَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَقِيَامِ وَسَطِ اللَّيْلِ، وَالذِّكْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ. وَنَفْلِ الْجِهَادِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُضْطَرِّ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ دُونَ الْجَمْعِيَّةِ- كَصَلَاةِ الضُّحَى، وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْغُسْلِ لِحُضُورِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَزِيَارَةِ الْقُدْسِ، وَضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ.
فَإِنْ قَوِيَتْ جَمْعِيَّتُهُ فَظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِيهِ: فَهِيَ أَوْلَى لَهُ، وَأَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ ضَعُفَتِ الْجَمْعِيَّةُ، وَقَوِيَ إِخْلَاصُهُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ: فَهِيَ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَفْضَلُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ.
وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: إِيثَارُ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى.
وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِنَفْعِ الْعَمَلِ وَثَمَرَتِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرَتُّبِ الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ مُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَإِخْبَارِهِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فَاعِلَهُ. وَيُبَاهِي بِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ وَحَرْفُهَا: أَنَّ الصَّادِقَ فِي طَلَبِهِ يُؤْثِرُ مَرْضَاةَ رَبِّهِ عَلَى حَظِّهِ. فَإِنْ كَانَ رِضَا اللَّهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَظُّهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ: خَلَّى الْجَمْعِيَّةَ تَذْهَبُ. وَقَامَ بِمَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ.
وَمَتَّى عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ: أَنَّ تَرَدُّدَهُ وَتَوَقُّفَهُ- لِيَعْلَمَ: أَيَّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ- أَنْشَأَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفِ وَالتَّرَدُّدِ حَالَةً شَرِيفَةً فَاضِلَةً، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْمَفْضُولَ- لِظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ-: رَدَّتْ تِلْكَ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ وَفَاتَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْآخَرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَفِي كَلَامِهِ مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُجَاهَدَاتِ مُسَافِرٌ بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى اللَّهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ- الَّتِي شُهُودُ عَيْنِهَا: هُوَ انْكِشَافُ حَقِيقَتِهَا لِلْقَلْبِ- كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ جَادٍّ فِي سَيْرِهِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ. وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْوُصُولِ. وَسَكَنَتْ نَفْسُهُ، كَمَا قِيلَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ** كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ

وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ: مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ الْمُوَحِّدِ. وَالزِّنْدِيقِ الْمُلْحِدِ.
فَالزِّنْدِيقُ يَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِالسَّيْرِ بَعْدَ الْوُصُولِ عَيْبٌ. لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوُصُولُ عِنْدَهُ: هُوَ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَفَنِيَ بِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ: ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْغَايَةُ. فَرَأَى قِيَامَهُ بِهَا أَوْلَى بِهِ. وَأَنْفَعَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ. فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ عِنْدَهُ: وَسِيلَةٌ لِغَايَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ. فَإِذَا اشْتَغَلْتَ بِالْغَايَةِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الْوَسِيلَةِ.
وَقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ- مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الشُّيُوخِ- عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ. وَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ وَأَصْحَابَ الشَّهَوَاتِ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَرْجَى عَاقِبَةً.
وَأَمَّا الصِّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ: فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هُنَاكَ، صَارَتْ أَعْمَالُهُ الْقَلْبِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ أَعْظَمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يُسْقِطْ مِنْ أَعْمَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ بِمُلَاحَظَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ.
وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ طَلَبَ مَلِكًا عَظِيمًا رَحِيمًا جَوَادًا، فَجَدَّ فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَقْتَطِعَ دُونَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ: بَقِيَ لَهُ سَيْرٌ آخَرُ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَالْأَوَّلُ: كَانَ سَيْرًا إِلَيْهِ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ.
وَبَعْدُ، فَالْعَبْدُ- وَإِنْ لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا- فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مَا دَامَ حَيًّا إِلَى اللَّهِ وُصُولًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السَّيْرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ.
بَلْ يَشْتَدُّ سَيْرُهُ إِلَى اللَّهِ كُلَّمَا زَادَتْ مُلَاحَظَتُهُ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمَ الْخَلْقِ اجْتِهَادًا، وَقِيَامًا بِالْأَعْمَالِ، وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ. وَهُوَ أَعْظَمُ مَا كَانَ اجْتِهَادًا وَقِيَامًا بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْمَالِ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ حَقِيقَةُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ بَعْدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ.
وَتَقْسِيمُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ: إِلَى طَالِبٍ، وَسَائِرٍ، وَوَاصِلٍ. أَوْ إِلَى مُرِيدٍ، وَمُرَادٍ: تَقْسِيمٌ فِيهِ مُسَاهَلَةٌ لَا تَقْسِيمٌ حَقِيقِيٌّ، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالسُّلُوكَ وَالْإِرَادَةَ لَوْ فَارَقَ الْعَبْدَ: لَانْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ تَنَقُّلِ الْعَبْدِ فِي أَحْوَالِ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِرَادَةُ الْعَبْدِ الْمُرَادَ، وَطَلَبُهُ وَسَيْرُهُ: أَشَدُّ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَطَلَبِهِ وَسَيْرِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُرَادٌ أَوَّلًا، حَيْثُ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الطَّلَبِ، وَجُذِبَ إِلَى السَّيْرِ. فَكُلِّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. وَكُلٌّ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ وَطَالِبٌ لَا يُفَارِقُهُ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ السَّيْرِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْعَبْدِ.
فَمِنَ السَّالِكِينَ: مَنْ يَكُونُ سَيْرُهُ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ سَيْرِهِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ سَيْرُهُ بِقَلْبِهِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ، أَعْنِي قُوَّةَ سَيْرِهِ وَحِدَّتَهُ.
وَمِنْهُمْ- وَهُمُ الْكُمَّلُ الْأَقْوِيَاءُ- مَنْ يُعْطِي كُلَّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا. فَيَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ صَفْوَةِ أَوْلِيَائِهِ بِأَنَّهُمْ دَائِمًا فِي مَقَامِ الْإِرَادَةِ لَهُ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فَالْعَبْدُ أَخَصُّ أَوْصَافِهِ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِهِ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا صَادِقَ الْإِرَادَةِ، عَبْدًا فِي إِرَادَتِهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ مُرَادُهُ تَبَعًا لِمُرَادِ رَبِّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ. لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ فِي سِوَاهُ.
وَقَدْ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُوقِظُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْمُجَاهَدَاتِ أَنَّهُ يُوقِظُهُ مِنْ نَوْمِ الِاسْتِهَانَةِ بِالْمُجَاهَدَاتِ، وَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. أَيْ يُوقِظُهُ مِنْ سِنَةِ التَّقْصِيرِ. لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ إِلَى اللَّهِ أَقْرَبَ كَانَ جِهَادُهُ فِي اللَّهِ أَعْظَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}.
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا تَرَقَّوْا مِنَ الْقُرْبِ فِي مَقَامٍ: عَظُمَ جِهَادُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ: لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطَّرِيقِ، حَيْثُ قَالَ: الْقُرْبُ الْحَقِيقِيُّ تَنَقُّلُ الْعَبْدِ مِنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَيُرِيحُ الْجَسَدَ وَالْجَوَارِحَ مِنْ كَدِّ الْعَمَلِ.
وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا وَإِلْحَادًا. حَيْثُ عَطَّلُوا الْعُبُودِيَّةَ. وَظَنُّوا أَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَخِدَعِ الشَّيْطَانِ. وَكَأَنَّ قَائِلَهُمْ إِنَّمَا عَنَى نَفْسَهُ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ:
رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ وَابْتَلُوا بِحُظُوظِهِمْ ** وَخَاضُوا بِحَارَ الْحُبِّ دَعْوَى فَمَا ابْتَلُّوا

فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ** وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا

وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَئِمَّةُ الطَّرِيقِ: بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ. فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَالُوا: لَوْ وَصَلَ الْعَبْدُ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى أَعْلَى مَقَامٍ يَنَالُهُ الْعَبْدُ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. أَيْ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ.
وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ: أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا شَرِيعَةٌ فَهِيَ كُفْرٌ.
قَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: مَنِ ادَّعَى بَاطِنَ الْحَقِيقَةِ يَنْقُضُهَا ظَاهِرُ حُكْمٍ: فَهُوَ غَالِطٌ. وَقَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنَا هَذَا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَادِيُّ: أَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَئِمَّةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْآخِرُونَ، وَالْمُقَامُ عَلَى مَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ..
وَسُئِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: مُلَازَمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى السُّنَّةِ، وَدَوَامُ الْمُرَاقَبَةِ. وَسُئِلَ: مَا التَّصَوُّفُ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ..
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: مَنْ عَمِلَ بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ يَوْمًا- وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى ثَوْبِهِ- لَوْلَا أَنَّهُ عَارِيَةٌ لَمَزَّقْتُهُ. فَقِيلَ لَهُ: رُؤْيَتُكَ فِي تِلْكَ الْغَلَبَةِ ثِيَابَكَ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَرْبَابُ الْحَقَائِقِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيعَةُ..
وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتَّى تَنْظُرُوا: كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَالشَّرِيعَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْخَيَّاطُ: النَّاسُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا مَعَ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ. فَجَاءَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرَدَّهُمْ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ الْوَفَاةُ: مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصَهُ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ رِيَاءِ الْبَاطِنِ فِي الْقَلْبِ.
وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ عُثْمَانَ هَذَا: أَسْلَمُ الطُّرُقِ مِنَ الِاغْتِرَارِ: طَرِيقُ السَّلَفِ، وَلُزُومُ الشَّرِيعَةِ..
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَارَكٍ: لَا يَظْهَرُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَرَى فِيهِ اجْتِهَادًا ظَاهِرًا بِلَا نُورٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَّ بِدْعَةً خَفِيَّةً.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْزَمِ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ- حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا- إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْلَحَ.
وَلَقَدْ كَانَ سَادَاتُ الطَّائِفَةِ أَشَدَّ مَا كَانُوا اجْتِهَادًا فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يَقُولُ: رُئِيَ فِي يَدِ الْجُنَيْدِ سُبْحَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَأْخُذُ بِيَدِكَ سُبْحَةً؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا..
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: كَانَ الْجُنَيْدُ يَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَفْتَحُ بَابَ حَانُوتِهِ. فَيَدْخُلُهُ وَيُسْبِلُ السِّتْرَ، وَيُصَلِّي أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطَاءٍ- وَهُوَ فِي النَّزْعِ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ. فَقَالَ: اعْذِرْنِي. فَإِنِّي كُنْتُ فِي وِرْدِي. ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَكَبَّرَ، وَمَاتَ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ يَقُولُ:حَضَرْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ- أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا- فَكَانَ قَاعِدًا يُصَلِّي، وَيَثْنِي رِجْلَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ رِجْلَيْهِ. فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَرَكَتُهَا، وَكَانَتَا قَدْ تَوَرَّمَتَا.
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا هَذَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ نِعَمُ اللَّهِ. اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَوِ اضْطَجَعْتَ. فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَذَا وَقْتٌ يُؤْخَذُ فِيهِ؟ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ حَتَّى مَاتَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ- وَهُوَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. وَقَدْ تَوَرَّمَ وَجْهُهُ. وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِخَدَّةٌ يُصَلِّي إِلَيْهَا- فَقَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ؟ فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَاهُ، وَقَالَ: شَيْءٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا أَدَعُهُ. وَمَاتَ بَعْدَ سَاعَةٍ. رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْجُنَيْدِ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ. وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَيَوْمَ نَيْرُوزٍ. وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ أَحَدًا أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنِّي، فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ ذَا تُطْوَى صَحِيفَتِي؟.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطَوِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِينَ مَاتَ. فَخَتَمَ الْقُرْآنَ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فِي خَتْمَةٍ أُخْرَى. فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ سَبْعِينَ آيَةً. ثُمَّ مَاتَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي النَّوْمِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَغَابَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ، وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ، وَنَفِدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رَكَعَاتٌ كُنَّا نَرْكَعُهَا فِي الْأَسْحَارِ.
وَتَذَاكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ، وَمَا اسْتَهَانُوا بِهِ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ بَعْدَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ؟فَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَارِفِينَ أَحْسَنُ مِنَ التِّيجَانِ عَلَى رُءُوسِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ:الطُّرقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ. فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ:مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ يَقُولُ:سَأَلْتُ الْجُنَيْدَ، مَا عَلَامَةُ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ طَاعَةُ مَنْ آمَنَتْ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَرْكُ التَّشَاغُلِ عَنْهُ بِمَا يَنْقَضِي وَيَزُولُ.
فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَا أَتْبَعُهُ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَمَا أَقْفَاهُ لِطَرِيقَةِ أَصْحَابِهِ.
وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ جِدًّا. يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ فِي نِهَايَاتِهِمْ: أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ فِي بِدَايَاتِهِمْ، بَلْ كَانَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْبِدَايَةِ فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. فَصَارَ اجْتِهَادُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ. وَصَارَتْ إِرَادَتُهُمْ دَائِرَةً مَعَهَا. فَتُضْعِفُ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ. لِأَنَّهُ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَلَا تَضَعُ إِلَى قَوْلِ مُلْحِدٍ قَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ فِي قَالَبِ عَارِفٍ، يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ تَنْقِلُ الْعَبْدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَتَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَتُرِيحُهُ مِنْ كَدِّ الْقِيَامِ بِهَا.

.فَصْلٌ: قَوْلُهُ: وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ:

يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ رُعُونَةِ مُعَارَضَةِ حُكْمِ اللَّهِ الدِّينِيِّ وَالْكَوْنِيِّ، الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِمُعَارَضَتِهِ. فَيَسْتَسْلِمُ لِلْحُكْمَيْنِ. فَإِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُشْهِدُهُ: أَنَّ الْحُكْمَيْنِ صَدَرَا عَنْ عَزِيزٍ حَكِيمٍ. فَلَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ بِرَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا ذَوْقٍ وَلَا خَاطِرٍ.
وَأَيْضًا فَتُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى لِلْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ يُعَارَضُ بِالشَّهْوَةِ. وَالْخَبَرَ يُعَارَضُ بِالشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. فَمُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُعَارَضَتَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِهِ. هَذَا تَفْسِيرُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْإِلْحَادِ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَاتِ هَاهُنَا: الْإِنْكَارُ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا يَبْدُو مِنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ. لِأَنَّ الْمُشَاهِدَ لِعَيْنِ الْجَمْعِ يَعْلَمُ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الشُّهُودِ: كَانَتِ الْمُعَارَضَاتُ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ رَعُونَاتِ الْأَنْفُسِ الْمَحْجُوبَةِ.
وَقَالَ قُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ.
وَهَذَا عَيْنُ الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْمُلْحِدُ يُحَمِّلُ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. فَمَا الظَّنُّ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؟
فَيُقَالُ: إِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا. فَبِهَذَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَانْقَسَمَتِ الدَّارُ إِلَى دَارِ سَعَادَةٍ لِلْمُنْكِرِينَ، وَدَارِ شَقَاوَةٍ لِلْمُنْكَرِ عَلَيْهِمْ. فَالطَّعْنُ فِي ذَلِكَ: طَعْنٌ فِي الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ: انْحِلَالٌ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ: وَجَدَهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْقِيَامِ. حَتَّى لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَوْصَوْا مَنْ آمَنَ بِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّ الْمُتَخَلِّصَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.
وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَشَدَّ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى قَالَ إِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوهُ: أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ.
وَأَخْبَرَ أَنَّ تَرْكَهُ: يُوقِعُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْوُجُوهِ. وَيُحِلُّ لَعْنَةَ اللَّهِ. كَمَا لَعَنَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَرْكِهِ.
فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ مِنْ رَعُونَاتِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الشَّرِيعَةِ؟
وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عَلَى أَنْوَاعِ الْإِنْكَارِ. وَهُوَ جِهَادٌ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْكَارٌ بِاللِّسَانِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُشَاهِدَ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلَائِقِ: مَا هُمْ عَلَيْهِ.
فَيُقَالُ لَهُ: الرَّبُّ تَعَالَى لَهُ مَرَادَانِ: كَوْنِيٌّ، وَدِينِيٌّ. فَهَبْ أَنَّ مُرَادَهُ الْكَوْنِيَّ مِنْهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَمُرَادُهُ الدِّينِيُّ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى أَصْحَابِ الْمُرَادِ الْكَوْنِيِّ. فَإِذَا عَطَّلْتَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ: لَمْ تَكُنْ وَاقِفًا مَعَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَلَا يَنْفَعُكَ وُقُوفُكَ مَعَ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. إِذْ لَوْ نَفَعَكَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرَائِعِ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ. وَلَا لِلْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ، وَلَا لِلْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا لِلْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ وَالْفُجَّارِ، وَكَفِّ عُدْوَانِهِمْ وَفُجُورِهِمْ. فَإِنَّ الْعَارِفَ عِنْدَكَ: يَشْهَدُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ: هُوَ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا فَسَادُ الدُّنْيَا قَبْلَ الْأَدْيَانِ.
فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْخَبِيثُ لَا يُصْلُحُ عَلَيْهِ دُنْيَا وَلَا دِينٌ، وَلَكِنَّهُ رُعُونَةُ نَفْسٍ قَدْ أَخْلَدَتْ إِلَى الْإِلْحَادِ، وَكَفَرَتْ بِدِينِ رَبِّ الْعِبَادِ. وَاتَّخَذَتْ تَعْطِيلَ الشَّرَائِعِ دِينًا وَمَقَامًا، وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ مُسَامَرَةً وَإِلْهَامًا. وَجَعَلَتْ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى مُبْطِلَةً لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ. وَمُعَطِّلَةً لِمَا أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَجَعَلُوا هَذَا الْإِلْحَادَ غَايَةَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَفَ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ. وَدَعَوْا إِلَى ذَلِكَ النُّفُوسَ الْمُبَطِلَةِ الْجَاهِلَةِ بِاللَّهِ وَدِينِهِ. فَلَبَّوْا دَعْوَتَهُمْ مُسْرِعِينَ، وَاسْتَخَفَّ الدَّاعِي مِنْهُمْ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ. إِنَّهُمْ كَانُوا قُوْمًا فَاسِقِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْكَارَ: مِنْ مُعَارَضَاتِ النُّفُوسِ الْمَحْجُوبَةِ.
فَلَعَمْرُ اللَّهِ: إِنَّهُمْ لَفِي حِجَابٍ مَنِيعٍ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِفُونَ عَلَى أَهْلِهِ وَهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ يُحَارِبُونَ، وَإِلَى خِلَافِ طَرِيقِهِمْ يَدْعُونَ. وَبِغَيْرِ هُدَاهُمْ يَهْتَدُونَ. وَعَنْ صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ نَاكِبُونَ. وَلِمَا جَاءَا بِهِ يُعَارِضُونَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.